الكتاب : الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المؤلف : أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى : 468هـ)
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير ]
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
{ كلا } ليس الأمر على ما ظنُّوا { سيكفرون بعبادتهم } لأنَّهم كانوا جماداً لم يعرفوا أنَّهم يُعبدون { ويكونون عليهم ضداً } أعواناً ، وذلك أنَّ الله تعالى يحشر آلهتهم فينطقهم ، ويركِّب فيهم العقول فتقول : يا ربِّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا من دونك .
{ الم تر } يا محمَّد { إنَّا أرسلنا الشياطين على الكافرين } سلَّطناهم عليهم بالإِغواء { تؤزهم أزَّاً } تُزعجهم من الطَّاعة إلى المعصية .
{ فلا تعجل عليهم } بالعذاب { إنما نعدُّ لهم } الأيَّام واللَّيالي والأنفاس { عدَّاً } إلى انتهاء أجل العذاب .
{ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً } ركباناً مُكرمين .
{ ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً } عطاشاً .
{ لا يملكون الشفاعة إلاَّ من اتَّخذ } لكم { عند الرحمن عهداً } اعتقد التَّوحيد وقال : لا إله إلاَّ الله؛ فإنه يملك الشَّفاعة ، والمعنى : لا يشفع إلاَّ مَنْ شهد أن لا إله إلاَّ الله .
{ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } يعني : اليهود والنَّصارى ، ومَنْ زعم أنَّ الملائكة بنات الله .
{ لقد جئتم شيئاً إدَّاً } عظيماً فظيعاً .
(1/497)

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{ تكاد السموات } تقرب من أن { يتفطرن } يتشقَّقْن { منه } من هذا القول { وتخرُّ } وتسقط { الجبال هدَّاً } سقوطاً .
{ أن دعوا } لأنْ دعوا { للرحمن ولداً } .
{ وما ينبغي للرحمن أن يتَّخذ ولداً } لأنَّه لا يليق به الولد ، ولا مجانسة بينه وبين أحد .
{ إن كلُّ } ما كلُّ { من في السموات والأض إلاَّ } وهو يأتي الله سبحانه يوم القيامة مُقرَّاً له بالعبوديَّة .
{ لقد أحصاهم وعدَّهم عدَّاً } أَيْ : علمهم كلَّهم ، فلا يخفى عليه أحدٌ ولا يفوته .
{ وكلهم آتيْهِ يوم القيامة فرداً } من ماله وولده ليس معه أحدٌ .
{ إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } محبَّةً في قلوب المؤمنين ، قيل : نزلت في عليّ بن أبي طالب . وقيل : في عبد الرَّحمن بن عوف .
{ فإنما يسرناه } سهَّلنا القرآن { بلسانك } بلغتك { لتبشر به المتقين } الذين صدَّقوا وتركوا الشِّرك { وننذر به قوماً لداً } شداد الخصومة .
{ وكم أهلكنا من قبلهم } قبل قومك { من قرن } جماعةٍ { هل تحس } تجد { منهم من أحدٍ أو تسمع لهم رِكْزاً } صوتاً .
(1/498)

طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
{ طه } يا رجل .
{ وما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } لتتعب بكثرة الجهد ، وذلك أنَّه كان يُصلِّي اللَّيل كلَّه بمكَّة حتى تورَّمت قدماه ، وقال له الكفَّار : إنَّك لتشقى بترك ديننا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
{ إلاَّ تذكرة } أي : ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً ، موعظةً { لمن يخشى } يخاف الله عزَّ وجلَّ .
{ تنزيلاَ ممَّن خلق الأرض والسموات العلى } جمع العليا .
{ الرحمن على العرش } مع أنَّه أعظم المخلوقات { استوى } [ أي : أقبل على خلقه ، كقوله : { ثم استوى إلى السماء } مع أنه أعظم المخلوقات ] ، أي : استولى .
(1/499)

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
{ وما تحت الثرى } ما تحت الأرض ، والثَّرى : التُّراب النَّدي .
{ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر } وهو ما أسررت لفي نفسك { وأخفى } وهو ما ستحدِّث به نفسك ممَّا لم يكن بعد ، والمعنى : إنَّه يعلم هذا ، فكيف ما جُهِرَ به؟
(1/500)

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
{ وهل أتاك } يا محمَّد . { حديث موسى } خبره وقصَّته .
{ إذ رأى ناراً } في طريقه إلى مصر لمَّا أخذ امرأته الطَّلْقُ { فقال لأهله } لامرأته : { امكثوا } أقيموا مكانكم { إني آنست } أبصرت { ناراً لعلي آتيكم منها بقبس } شعلة نارٍ { أو أجد على النار هدى } مَنْ يهديني ويدلُّني على الطَّريق ، وكان قد ضلَّ عن الطَّريق .
{ فلما أتاها } أي : النَّار .
{ نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك } وكانتا من جلد حمارٍ ميِّتٍ غيرِ مدبوغٍ ، لذلك أُمر بخلعها { إنك بالواد المقدس } المُطهَّر { طوى } اسم ذلك الوادي .
{ وأنا اخترتك } اصطفيتك للنُّبوَّة { فاستمع لما يوحى } إليك مني .
{ وأقم الصلاة لذكري } لتذكرني فيها .
(1/501)

إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
{ إنَّ الساعة } القيامة { آتية أكاد أخفيها } أسترها للتَّهويل والتَّعظيم ، و " أكادُ " صلةٌ { لتجزى } في ذلك اليوم { كل نفس بما تسعى } تعمل .
{ فلا يصدنك } يمنعنَّك { عنها } عن الإِيمان بالسَّاعة { مَنْ لا يؤمن بها واتبع هواه } مراده { فتردى } فتهلك .
{ وما تلك } وما التي { بيمينك } في يدك اليمنى؟ { قال هي عصاي أتوكأ عليها } أتحامل عليها عند المشي والإِعياء { وأهش } أخبط الورق عن الشَّجر { بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى } حاجاتٌ أخرى سوى التَّوَكُّؤِ والهشِّ .
(1/502)

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
{ سنعيدها سيرتها الأولى } أَيْ : نردُّها عصاً كما كانت .
{ واضمم يدك إلى جناحك } جناح الإِنسان : عضده إلى أصل إبطه ، يريد : أدخلها تحت جناحك { تخرج بيضاء من غير سوء } برصٍ أو داءٍ { آية أخرى } لك سوى العصا .
{ لنريك من آياتنا الكبرى } وكانت يده أكبر آياته .
{ اذهب إلى فرعون إنه طغى } كفر بأنعمي ، وتكبَّر عن عبادتي ، فعند ذلك .
{ قال } موسى : { رب اشرح لي صدري } وسِّعْ ولَيِّنْ لي قلبي بالإِيمان والنُّبوَّة .
{ ويسِّر لي أمري } وسهِّلْ عليَّ ما أمرتني به من تبليغ الرِّسالة .
(1/503)

وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
{ واحلل } افتح { عقدة من لساني } وكانت في لسانه رُتَّة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه .
{ يفقهوا قولي } كي يفهموا كلامي .
{ واجعل لي وزيراً } معيناً { من أهلي } وهو ،
{ هارون } .
{ اشدد به أزري } قوِّ به ظهري .
{ وأشركه في أمري } اجعل ما أمرتني به من النُّبوَّة بيني وبينه .
{ كي نسبحك } نصلِّي لك { كثيراً } .
{ ونذكرك كثيراً } باللسان على كلِّ حالٍ .
{ إنك كنت بنا بصيراً } عالماً ، فاستجاب الله له ، وقال تعالى :
{ قد أوتيت سؤلك يا موسى } أُعطيت مرادك ، ثمَّ ذكر منَّته السالفة عليه بقوله تعالى :
{ ولقد مننا عليك مرَّة أخرى } قبل هذه ، وهي : { إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى } أَيْ : ألهمناها ما يلهم الإِنسان من الصَّواب ، وهو إلهام الله تعالى إيَّاها :
{ أن اقذفيه } اجعليه { في التابوت فاقذفيه } فاطرحيه { في اليم } يعني : نهر النِّيل .
{ فليلقه اليمُّ بالساحل } فيردُّه الماء إلى الشَّطِّ { يأخذه عدوٌّ لي وعدوٌّ له } وهو فرعون { وألقيت عليك محبة مني } حتى لم يقتلك عدوُّك الذي أخذك من الماء ، وهو أنَّه حبَّبه إلى الخلق كلِّهم ، فلا يراه مؤمنٌ ولا كافرٌ إلاَّ أحبَّه . { ولتصنع } ولتربى وتغذَّى { على عيني } على محبَّتي ومرادي . يعني : إذ ردَّه إلى أُمِّه حتى غذته ، وهو قوله :
{ إذ تمشي أختك } مُتعرِّفةً خبرك وما يكون من أمرك بعد الطَّرح في الماء { فتقول } لكم : { هل أدلُّكم على مَنْ يكفله } يرضعه ويضمُّه إليه ، وذلك حين أبى موسى عليه السَّلام أن يقبل ثدي امرأةٍ ، فلمَّا قالت لهم ذلك قالوا : نعم ، فجاءت بالأُمِّ ، فَدُفع إليها ، فذلك قوله : { فرجعناك إلى أمك كي تقرَّ عينها } بلقائك وبقائك { ولا تحزن } على فقدك { وقتلت نفساً } يعني : القبطي الذي قتله { فنجيناك من الغم } من غمِّ أن تُقتل به { وفتناك فتوناً } اختبرناك اختباراً بأشياء قبل النَّبوَّة { فلبثت } مكثت { سنين في أهل مدين } عشر سنين في منزل شعيب { ثم جئت على قدر } على رأس أربعين سنة . وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السَّلام .
{ واصطنعتك لنفسي } اخترتك بالرِّسالة لكي تحبَّني وتقوم بأمري .
{ اذهب أنت وأخوك بآياتي } يعني : بما أعطاهما من المعجزة { ولا تنيا } لا تَفتُرا .
{ اذهبا إلى فرعون إنَّه طغى } علا وتكبَّر .
(1/504)

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
{ فقولا له قولاً ليّناً } كنِّياه وعِداه على الإِيمان نعيماً وعمراً طويلاً في صحَّة ، ومصيراً إلى الجنَّة { لعله يتذكر } يتَّعظ { أو يخشى } يخاف الله تعالى ، ومعنى " لعلَّ " ها هنا يعود إلى حال موسى وهارون . أَي : اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما ، وقد علم الله تعالى ما يكون منه .
{ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا } [ يعجل علينا ] بالقتل والعقوبة { أو أن يطغى } يتكبَّر ويستعصي .
{ قال لا تخافا إنني معكما } بالعون والنُّصرة { أسمع } ما يقول { وأرى } ما يفعل . وقوله :
{ فأرسل معنا بني إسرائيل } أَيْ : خلِّ عنهم ولا تستسخرهم { ولا تعذبهم } ولا تتعبهم في العمل { قد جئناك بآية من ربك } يعني : اليد البيضاء [ والعصا ] { والسلام على من اتبع الهدى } سَلِمَ مَنْ أسلم .
{ إنا قد أوحي إلينا أنَّ العذاب على مَنْ كذَّب } أنبياء الله { وتولى } أعرض عن الإِيمان .
(1/505)

قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{ ربنا الذي أعطى كلَّ شيء خلقه } أَيْ : أتقن كلَّ شيءٍ ممَّا خلق ، وخلقه على الهيئة التي بها يُنتفع ، والتي هي أصلح وأحكم لما يُراد منه { ثم هدى } أي : هداه لمعيشته ، ثمَّ سأله فرعون عن أعمال الأمم الماضية .
(1/506)

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
{ فما بال القرون الأولى } الماضية؟ فأجابه موسى عليه السَّلام بأنَّ أعمالهم محفوظةٌ عند الله يُجازون بها ، وهو قوله :
{ علمها عند ربي في كتاب } وهو اللَّوح المحفوظ { لا يضل ربي } لا يخطىء ، ومعناه : لا يترك مَنْ كفر به حتى ينتقم منه { ولا ينسى } مَنْ وحَّده حتى يجازيه .
{ الذي جعل لكم الأرض مهاداً } فراشاً { وسلك لكم فيها سبلاً } وسهَّل لكم فيها طُرُقاً { وأنزل من السماء ماء } يريد : المطر ، وتمَّ ها هنا جواب موسى ، ثمَّ تلوَّن الخطاب ، وقال الله تعالى : { فأخرجنا به أزواجاً } أصنافاً { من نبات شتى } مختلفة الألوان والطُّعوم .
{ كلوا } منها { وارعوا أنعامكم } فيها ، أَيْ : أسيموها واسرحوها في نبات الأرض { إنَّ في ذلك } الذي ذكرت { لآيات } لعبرة { لأولي النهي } لذوي العقول .
{ منها خلقناكم } يعني : آدم عليه السَّلام { وفيها نعيدكم } عند الموت { ومنها نخرجكم } عند البعث { تارة } مرَّةً { أخرى } .
{ ولقد أريناه } يعني : فرعون { آياتنا كلَّها } الآيات التِّسع { فكذَّب } بها ، وزعم أنَّها سحرٌ { وأبى } أن يُسلم .
{ قال } لموسى : { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا } من أرض مصر .
(1/507)

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
{ بسحرك يا موسى فلنأتينَّك بسحر مثله } فلنعارضنَّ سحرك بسحرٍ مثله { فاجعل بيننا وبينك موعداً } لمعارضتنا إيَّاك ، لا نُخلف ذلك الموعد { نحن ولا أنت } وأراد بالموعد ها هنا موضعاً يتواعدون للاجتماع هناك ، وهو قوله : { مكاناً سوى } أَيْ : يكون النَّصف فيما بيننا وبينك .
{ قال موعدكم يوم الزينة } أَيْ : وقتُ موعدكم يوم الزِّينة ، وهو يوم عيدٍ كان لهم { وأن يحشر الناس ضحى } يريد : يجمع أهل مصر في ذلك اليوم نهاراً ، أراد موسى صلوات الله عليه أن يكون أبلغ في الحجَّة ، وأشهر ذكراً في الجمع .
{ فتولى } فأدبر { فرعون فجمع كيده } حِيَله وسحرته { ثم أتى } الميعاد .
{ قال لهم موسى } للسَّحرة : { لا تفتروا على الله كذباً } لا تشركوا مع الله أحداً { فيسحتكم } فيستأصلكم { بعذاب وقد خاب من افترى } خسر مَن ادَّعى مع الله تعالى إلهاً آخر .
{ فتنازعوا أمرهم بينهم } فتشاوروا بينهم ، يعني : السَّحرة { وأسروا النجوى } تكلَّموا فيما بينهم سرَّاً من فرعون ، فقالوا : إنْ غلَبَنا موسى اتَّبعناه .
{ قالوا إنَّ هذين لساحران } يعنون : موسى وهارون عليهما السَّلام { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } من مصر ويغلبا عليها { بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } بجماعتكم الأشراف ، أَيْ : يصرفا وجوههم إليهما .
(1/508)

فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{ فأجمعوا كيدكم } أي : اعزموا على الكيد من غير اختلافٍ بينكم فيه { ثم ائتوا صفاً } مُجتمعين مصطفِّين؛ ليكون أشدَّ لهيبتكم { وقد أفلح اليوم من استعلى } أَيْ : قد سعد اليوم مَنْ غلب .
{ قالوا يا موسى إمَّا أن تلقي } عصاك من يدك إلى الأرض { وإمَّا أن نكون أوَّل من ألقى } .
{ قال بل ألقوا } أنتم ، فألقوا { فإذا حبالهم وعصيهم } جمع العصا { يخيل إليه } يُشبَّه لموسى { أنها تسعى } وذلك أنَّها تحرَّكت بنوع حيلةٍ وتمويهٍ ، وظن موسى أنَّها تسعى نحوه .
{ فأوجس } فأضمر { في نفسه خيفة } خوفاً ، خاف أن لا يفوز ولا يغلب فلا يُصدَّق ، حتى قال الله تعالى له :
{ لا تخف إنك أنت الأعلى } الغالب .
{ وألق ما في يمينك تلقف } تبتلع { ما صنعوا إنّ ما صنعوا } أي : الذي صنعوه { كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى } ولا يسعد السَّاحر حيث ما كان . فألقى موسى عصاه فتلقَّفت كلَّ الذي صنعوه ، وعند ذلك أُلقي .
{ السحرة سجداً } خرُّوا ساجدين لله تعالى { قالوا آمنا برب هارون وموسى }
(1/509)

قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
{ قال آمنتم له } صدّقتموه { قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم } معلّمكم { الذي علمكم السحر فلأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من خلاف } اليد اليمنى والرِّجل اليسرى { ولأصلبنكم في جذوع النخل } على رؤوس النَّخل { ولتعلمن أينا أشد عذاباً } أنا أو ربُّ موسى { وأبقى } وأدوم .
{ قالوا لن نؤثرك } لن نختار دينك { على ما جاءنا من البينات } اليقين والهدى { والذي فطرنا } ولا نختارك على الذي خلقنا { فاقض ما أنت قاض } فاصنع ما أنت صانعٌ من القطع والصَّلب { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } إنَّما سلطانك وملكك في هذه الحياة الدُّنيا .
{ إنَّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا } الشِّرك الذين كنَّا فيه { وما أكرهتنا عليه من السحر } وإكراهك إيانا على تعلُّم السِّحر { والله خير } لنا منك { وأبقى } لأنَّك فانٍ هالكٌ .
{ إنَّه مَنْ يأت ربَّه مجرماً } مات على الشِّرك { فإنَّ له جهنم لا يموت فيها } فيستريح بالموت { ولا يحيا } حياةً تنفعه .
{ ومَنْ يأته مؤمناً } مات على الإيمان { قد عمل الصالحات } قد أدَّى الفرائض { فأولئك لهم الدرجات العلى } في الجنَّة . وقوله :
{ جزاء من تزكى } تطهَّر من الشِّرك بقول : لا إله إلاَّ الله .
(1/510)

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } سِرْ بهم ليلاً من أرض مصر { فاضرب لهم } بعصاك { طريقاً في البحر يبساً } يابساً { لا تخاف دركاً } من فرعون خلفك { ولا تخشى } غرقاً في البحر .
{ فأتبعهم } فلحقهم { فرعون بجنوده فغشيهم من اليم } فعلاهم من البحر { ما غشيهم } ما غرَّقَهم .
{ وأضل فرعون قومه وما هدى } ردَّ عليه حيث قال : { وما أهديكم إلاَّ سبيل الرشاد } ثمَّ ذكر مِننه على بني إسرائيل فقال :
{ قد أنجيناكم من عدوكم } فرعون { وواعدناكم } لإِيتاء الكتاب { جانب الطور الأيمن } وذلك أنَّ الله سبحانه وعد موسى أن يأتي هذا المكان ، فيؤتيه كتاباً فيه الحلال والحرام والأحكام ، ووعدهم موسى أن يأتي هذا المكان عند ذهابه عنهم { ونزلنا عليكم المنَّ والسلوى } يعني : في التِّيه .
{ كلوا } أيْ : وقلنا لهم : كلوا { من طيبات } حلالات { ما رزقناكم ولا تطغوا } ولا تكفروا النِّعمة { فيه فيحلَّ } فيجب { عليكم غضبي ومن يحلل } [ يجب ] { عليه غضبي فقد هوى } هلك وصار إلى الهاوية .
{ وإني لغفار لمن تاب } من الشِّرك { وآمن } وصدَّق بالله { وعمل صالحاً } بطاعة الله { ثمَّ اهتدى } أقام على ذلك حتى مات عليه .
(1/511)

وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
{ وما أعجلك عن قومك } يعني : السَّبعين الذين اختارهم ، وذلك أنَّه سبقهم شوقاً إلى ميعاد الله ، وأمرهم أن يتَّبعوه ، فذلك قوله :
{ قال : هم أولاء على أثري } يجيئون بعدي { وعجلت إليك } بسبقي إيَّاهم { لترضى } لتزداد عني رضىً .
{ قال فإنا فد فتنا قومك } أَيْ : ألقيناهم في الفتنة واختبرناهم { من بعدك } من بعد خروجك من بينهم { وأضلهم السامريُّ } بدعائهم إلى عبادة العجل .
{ فرجع موسى إلى قومه غضان أسفاً } شديد الحزن . { قال : يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً } أنَّه يعطيكم التَّوراة [ صدقاً ] لذلك الموعد . { أفطال عليكم العهد } مدَّة مفارقتي إيَّاكم { أم أردتم أن يحل } أن يجب { عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي } باتِّخاذ العجل ولم تنظروا رجوعي إليكم .
{ قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا } [ باختيارنا ] ونحن نملك من أمرنا شيئاً ، ولكنَّ السَّامريَّ استغوانا وهو معنى قوله : { ولكنا حملنا أوزاراً } أثقالاَ { من زينة القوم } من حُلي آل فرعون { فقذفناها } ألقيناها في النَّار بأمر السَّامِرِيَّ ، وذلك أنَّه قال : اجمعوها وألقوها في النَّار ليرجع موسى ، فيرى فيها رأيه { فكذلك ألقى السامري } ما معه من الحُلِّي في النَّار ، وهو قوله : { فكذلك ألقى السامري } ثمَّ صاغ لهم عجلاً .
(1/512)

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{ فأخرج لهم عجلاً جسداً } لحماً ودماً { له خوار } صوت ، فسجدوا له ، وافتتنوا به ، وقالوا : { هذا إلهكم وإله موسى فنسي } فتركه ها هنا وخرج يطلبه . قال الله تعالى احتجاجاً عليهم :
{ أفلا يرون ألا يرجع } أنَّه لا يرجع { إليهم قولاً } لا يُكلِّمهم العجل ولا يجيبهم { ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً } .
{ ولقد قال لهم هارون من قبل } من قبل رجوع موسى : { يا قوم إنما فتنتم به } ابتليتم بالعجل { وإنَّ ربكم الرحمن } لا العجل { فاتبعوني } على ديني { وأطيعوا أمري } .
{ قالوا لن نبرح عليه عاكفين } على عبادته مقيمين { حتى يرجع إلينا موسى } فلمَّا رجع موسى .
{ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا } أخطأوا الطَّريق بعبادة العجل { أن لا تتبعني } أن تتبعني وتلحق بي وتخبرني؟ { أفعصيت أمري } حيث أقمتَ فيما بينهم وهم يعبدون غير الله!؟ ثمَّ أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضباً وإنكاراً عليه ، فقال :
{ يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرَّقت بين بني إسرائيل } خشيت إن فارقتهم واتَّبعتك أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً ، فتقول : أوقعتَ الفرقة فيما بينهم { ولم ترقب قولي } لم تحفظ وصيتي في حسن الخلافة عليهم .
(1/513)

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
ثمَّ أقبل موسى على السَّامري فقال :
{ فما خطبك } فما قصَّتك وما الذي تخاطب به فيما صنعت؟
{ وقال : بصرت بما لم يبصروا به } علمت ما لم يعلمه بنو إسرائيل . قال موسى : وما ذلك؟ قال : رأيت جبريل عليه السَّلام على فرس الحياة ، فأُلقي في نفسي أن أقبض من أثرها ، فما ألقيته على شيءٍ إلاَّ صار له روحٌ ولحمٌ ودمٌ ، فحين رأيتُ قومك سألوك أن تجعل لهم إلهاً زيَّنت لي نفسي ذلك ، فذلك قوله : { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } طرحتها في العجل { وكذلك سوَّلت لي نفسي } حدَّثتني نفسي .
{ قال } له موسى صلوات الله عليه : { فاذهب فإنَّ لك في الحياة } يعني : ما دمت حيَّاً { أن تقول لا مساس } لا تخالط أحداً ولا يخالطك ، وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه ، وصار السَّامريُّ بحيث لو مسَّه أحدٌ أو مسَّ هو أحداً حُمَّ كلاهما { وإن لك موعداً } لعذابك { لن تخلفه } لن يُخلفكه الله { وانظر إلى إلهك } معبودك { الذي ظلت عليه عاكفاً } دمتَ عليه مقيماً تعبده { لنحرقنَّه } بالنَّار { ثمَّ لننسفنَّه } لنذرينَّه في البحر .
{ إنما إلهكم الله الذي لا إله إلاَّ هو } لا العجل { وسع كلَّ شيء علماً } علم كلَّ شيء علماً .
(1/514)

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
{ كذلك } كما قصصنا عليك هذه القصَّة { نقص عليك من أنباءِ ما قد سبق } من الأمور { وقد آتيناك من لدنا ذكراً } يعني : القرآن .
{ من أعرض عنه } فلم يؤمن به { فإنه يحمل يوم القيامة وزراً } حملاً ثقيلاً من الكفر .
{ خالدين فيه } لا يغفر ربك لهم ذلك ، ولا يكفِّر عنهم شيء { وساء لهم يوم القيامة حملاً } بئس ما حملوا على أنفسهم من المآثم كفراً بالقرآن .
{ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين } الذين اتَّخذوا مع الله إلهاً آخر { يؤمئذ زرقاً } زرق العيون سود الوجوه .
{ يتخافتون } يتساررون { بينهم إن لبثهم } ما لبثتم في قبوركم إلاَّ عشر ليالٍ يريدون : ما بين النَّفختين ، وهو أربعون سنة يُرفع العذاب في تلك المدَّة عن الكفَّار ، فيستقصرون تلك المدَّة إذا عاينوا هول القيامة ، قال الله تعالى :
{ نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة } أعدلهم قولاً { إن لبثتم إلاَّ يوماً } .
{ ويسألونك عن الجبال } سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ { فقل ينسفها ربي نسفاً } يصيِّرها كالهباء المنثور حتى تستوي مع الأرض ، وهو قوله :
{ فيذرها قاعاً صفصفاً } مكاناً مستوياً .
{ لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً } انخفاضاً وراتفاعاً .
(1/515)

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
{ يومئذ يتبعون الداعي } الذي يدعوهم إلى موقف القيامة ، ولا يقدرون ألا يتَّبعوا { وخشعت } سكنت { الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاَّ همساً } وَطْءَ الأقدام في نقلها إلى المحشر .
{ يومئذ } يوم القيامة { لا تنفع الشفاعة } أحداً { إلاَّ مَنْ أذن له الرحمن } في أن يُشفَع له ، وهم المسلمون الذين رضي الله قولهم؛ لأنَّهم قالوا : لا إله إلاَّ الله ، وهذا معنى قوله : { ورضي له قولاً } .
{ يعلم ما بين أيديهم } من أمر الآخرة { وما خلفهم } في أمر الدُّنيا . وقيل : ما قدَّموا وما خلَّفوا من خيرٍ وشرٍّ { ولا يحيطون به علماً } وهم لا يعلمون ذلك .
{ وعنت الوجوه } خضعت وذلَّت { للحيّ القيوم وقد خاب مَنْ حمل ظلماً } خسر مَنْ أشرك بالله .
{ ومَنْ يعمل من الصالحات } الطَّاعات لله { وهو مؤمن } مصدِّق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم { فلا يخاف ظلماً ولا هضماً } لا يخاف أن يزاد في سيئاته ، ولا ينقص من حسناته .
{ وكذلك } وهكذا { أنزلناه قرآناً عربياً وصرَّفنا } بيَّنا { فيه من الوعيد لعلَّهم يتقون أو يحدث لهم } القرآن { ذكراً } وموعظة .
(1/516)

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
{ ولا تعجل بالقرآن } كان إذا نزل جبريل عليه السَّلام بالوحي يقرؤه مع جبريل عليه السَّلام مخافة النِّسيان ، فأنزل الله سبحانه : { ولا تعجل بالقرآن } أَيْ : بقراءته { من قبل أن يقضى إليك وحيه } من قبل أن يفرغ جبريل ممَّا يريد من التَّلاوة { وقل رب زدني علماً } بالقرآن ، وكان كلمة نزل عليه شيء من القرآن ازداد به علماً .
{ ولقد عهدنا إلى آدم } أمرنا وأوصينا إليه { من قبل } هؤلاء الذين تركوا أمري ، ونقضوا عهدي في تكذيبك { فنسي } فترك ما أمر به { ولم نجد له عزماً } حفظاً لما أُمر به .
(1/517)

وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
{ ولا تضحى } أَيْ : لا يؤذيك حرُّ الشَّمس . وقوله :
{ شجرة الخلد } يعني : مَنْ أكل منها لم يمت . وقوله :
{ فغوى } فأخطأ ولم ينل مراده ممَّا أكل . ويقال : لم يرشد .
{ ثم اجتباه } اختاره { ربه فتاب عليه } عاد عليه بالرَّحمة والمغفرة { وهدى } أي : هداه إلى التَّوبة .
(1/518)

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
{ من أعرض عن ذكري } موعظتي ، وهي القرآن { فإنَّ له معيشة ضنكاً } ضيقى .
يعني : في جهنَّم وقيل : يعني عذاب القبر . { ونحشره يوم القيامة أعمى } البصر . { قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً } .
(1/519)

قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{ قال كذلك أتتك آياتنا } يقول : كما أتتك آياتي { فنسيتها } فتركتها ولم تؤمن بها { وكذلك اليوم تنسى } تُترك في جهنَّم .
{ وكذلك } وكما نجزي مَنْ أعرض عن القرآن { نجزي مَنْ أسرف } أشرك .
{ ولعذاب الآخرة أشدُّ } ممَّا يُعذِّبهم به في الدُّنيا والقبر { وأبقى } وأدوم .
{ أفلم يهد لهم } أفلم يتبيَّن لهم بياناً يهتدون به { وكم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون } هؤلاء إذا سافروا في مساكن أولئك الذين أهلكناهم بتكذيب الأنبياء { إنَّ في ذلك لآيات } لعبراً { لأولي النهى } لذوي العقول .
{ ولولا كلمة سبقت من ربك } في تأخير العذاب عنهم { لكان لزاماً } لكان العذاب لازماً لهم في الدُّنيا { وأجل مسمى } وهو القيامة . وقوله :
{ وسبح بحمد ربك } صلِّ لربِّك { قبل طلوع الشمس } صلاة الفجر { وقبل غروبها } صلاة العصر { ومن آناء الليل فسبح } فصلِّ المغرب والعشاء الآخرة { وأطراف النهار } صلِّ صلاة الظُّهر في طرف النِّصف الثاني ، وسمَّى الواحد باسم الجمع { لعلك ترضى } لكي ترضى من الثَّواب في المعاد .
{ ولا تمدنَّ عينيك } مُفسَّر في سورة الحجر . وقوله : { زهرة الحياة الدنيا } أَي : زينتها وبهجتها { لنفتنهم فيه } لتجعل ذلك فتنةً لهم { ورزق ربك } لك في المعاد { خير وأبقى } أكثر وأدوم .
(1/520)

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{ وأمر أهلك بالصلاة } يعني : قريشاً . وقيل : أهل بيته { لا نسألك رزقاً } لخلقنا ولا لنفسك { نحن نرزقك والعاقبة } الجنَّة { للتقوى } لأهل التَّقوى . يعني : لك ولمن صدَّقك ، ونزلت هذه الآيات لمَّا استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهوديٍّ وأبى أن يعطيه إلاَّ برهنٍ ، وحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ وقالوا } يعني : المشركين { لولا } هلاَّ { يأتينا } محمَّد عليه السَّلام { بآية من ربه } ممَّا كانوا يقترحون من الآيات . قال الله : { أَوَلَمْ تأتهم بيِّنة } بيان { ما في الصحف الأولى } يعني : في القرآن بيان ما في التَّوراة والإِنجيل والزَّبور .
{ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله } من قبل نزول القرآن . وقوله : { من قبل أن نذل } بالعذاب { ونخزى } في جهنَّم .
{ قل } يا محمَّد لهم : { كلٌّ متربص } منتظرٌ دوائر الزَّمان ، ولمَنْ يكون النَّصر { فتربصوا فستعلمون } في القيامة { من أصحاب الصراط السويّ } المسقيم { ومن اهتدى } من الضَّلالة نحن أم أنتم .
(1/521)

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
{ اقترب للناس } يعني : أهل مكَّة { حسابهم } وقت محاسبة الله إيَّاهم على أعمالهم . يعني : القيامة { وهم في غفلة } عن التَّأهُّب لذلك { معرضون } عن الإِيمان .
{ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } يعني : ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيءٍ من القرآن يُذكِّرهم ويعظهم به { إلاَّ استمعوه وهم يلعبون } يستهزئون به .
{ لاهية } غافلةً { قلوبهم وأسروا النجوى } قالوا سرّاً فيما بينهم { الذين ظلموا } أشركوا ، وهم أنَّهم قالوا : { هل هذا } يعنون محمَّداً { إلاَّ بشرٌ مثلكم } لحمٌ ودمٌ { أفتأتون السحر } يريدون : إنَّ القرآن سحرٌ { وأنتم تبصرون } أنَّه سحر ، فلمَّا أطلع الله سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم على هذا السِّرِّ الذي قالوه ، أخبر أنَّه يعلم القول في السَّماء والأرض .
(1/522)

قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
{ قل ربي يعلم القول } أَيْ : ما يقال { في السماء والأرض وهو السميع } للأقوال { العليم } بالأفعال ، ثمَّ أخبر انَّ المشركين اقتسموا القول في القرآن ، وأخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض ، فيقولون مرَّةً :
{ أضغاث أحلام } أَيْ : أباطيلها . يعنون أنَّه يرى ما يأتي به في النَّوم رؤيا باطلة ، ومرَّةً هو مفترىً ، ومرَّةً هو شعرٌ ، ومحمَّد شاعرٌ { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } بالآيات ، مثل : النَّاقة ، والعصا ، واليد ، فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهالٌ إذا كُذِّب بها ، فقال الله تعالى :
{ ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها } بالآيات التي اقترحوها { أفهم يؤمنون } يريد : إنَّ اقتراح الآيات كان سبباً للعذاب والاستئصال للقرون الماضية ، وكذلك يكون لهؤلاء .
{ وما أرسلنا قبلك إلاَّ رجالاً نوحي إليهم } ردّاً لقولهم { هل هذا إلاَّ بشر مثلكم } . { فاسألوا } يا أهل مكَّة { أهل الذكر } مَنْ آمن من أهل الكتاب { إن كنتم لا تعلمون } أنَّ الرُّسل بشر .
{ وما جعلناهم } أي : الرُّسل { جسداً } أَيْ : أجساداً { لا يأكلون الطعام } وهذا ردٌّ لقولهم : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } فأُعلموا أنَّ الرُّسل جميعاً كانوا يأكلون الطَّعام ، وأنَّهم يموتون ، وهو قوله : { وما كانوا خالدين } .
(1/523)

ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{ ثم صدقناهم الوعد } ما وعدناهم من عذاب مَنْ كفر بهم ، وإنجائهم مع مَنْ تابعهم ، وهو قوله : { فأنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين } المشركين .
{ لقد أنزلنا إليكم } يا معشر قريش { كتاباً فيه ذكركم } شرفكم { أفلا تعقلون } ما فضَّلكم به على غيركم؟!
{ وكم قصمنا } أهلكنا { من قرية كانت ظالمة } يعني : إنَّ أهلها كانوا كفَّاراً { وأنشأنا } أحدثنا { بعدها } بعد إهلاك أهلها { قوماً آخرين } نزلت في أهل قرىً باليمن كذَّبوا نبيَّهم وقتلوه ، فسلَّط الله سبحانه عليهم بختنصَّر حتى أهلكهم بالسَّيف ، فذلك قوله :
{ فلما أحسوا بأسنا } رأوا عذابنا { إذا هم منها } من قريتهم { يركضون } يسرعون هاربين . وتقول لهم الملائكة .
{ لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } نَعِمْتُم فيه { لعلكم تسألون } من دنياكم شيئاً . قالت الملائكة لهم هذا على سبيل الاستهزاء بهم ، كأنَّهم قيل لهم : ارجعوا إلى ما كنتم فيه من المال والنِّعمة لعلكم تُسألون ، فإنَّكم أغنياء تملكون المال ، فلمَّا رأَوا ذلك أقرُّوا على أنفسهم حيث لم ينفعهم ، فقالوا :
{ يا ويلنا إنا كنا ظالمين } لأنفسنا بتكذيب الرُّسل .
{ فما زالت } هذه المقالة { دعواهم } يدعون بها ، ويقولون : يا ويلنا { حتى جعلناهم حصيداً } بالسُّيوف كما يحصد الزَّرع { خامدين } ميِّتين .
(1/524)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين } عبثاً وباطلاً ، أَيْ : ما خلقتهما إلاَّ لأُجازي أوليائي ، وأُعذِّب أعدائي .
{ لو أردنا أن نتخذ لهواً } امرأةً . وقيل : ولداً { لاتخذناه من لدنا } بحيث لا يظهر لكم ، ولا تطَّلعون عليه { إن كنا فاعلين } ما كنَّا فاعلين ، ولسنا ممَّن يفعله .
{ بل نقذف بالحق على الباطل } نُلقي القرآن على باطلهم { فيدمغه } فيذهبه ويكسره { فإذا هو زاهقٌ } ذاهبٌ { ولكم الويل } يا معشر الكفَّار { مما تصفون } الله تعالى بما لا يليق به .
{ وله من في السموات والأرض } عبيداً وملكاً { ومَنْ عنده } يعني : الملائكة { لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } لا يملُّون ولا يعيون .
{ يسبحون الليل والنهار لا يفترون } لا يضعفون .
{ أم اتخذوا آلهةً من الأرض } يعني : الأصنام { هم ينشرون } يحيون الأموات ، والمعنى : أَتنشر آلهتهم التي اتَّخذوها؟
{ لو كان فيهما } في السَّماء والأرض { آلهةٌ إلاَّ اللَّهُ } غير الله { لفسدتا } لخربتا وهلك مَنْ فيهما بوقوع التَّنازع بين الآلهة .
{ لا يُسأل عما يفعل } عن حكمه في عباده { وهم يُسألون } عمَّا عملوا سؤال توبيخ .
(1/525)

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
{ أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم } حجَّتكم على أن مع الله تعالى معبوداً غيره . { هذا ذكر مَنْ معي } يعني : القرآن { وذكر مَنْ قبلي } يعني : التَّوراة والإِنجيل ، فهل في واحدٍ من هذه الكتب إلاَّ توحيد الله سبحانه وتعالى؟ { بل أكثرهم لا يعلمون الحق } فلا يتأمَّلون حجَّة التَّوحيد ، وهو قوله : { فهم معرضون } .
{ وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ . . . } الآية . يريد : لم يُبعثْ رسولٌ إلاَّ بتوحيد الله سبحانه ، ولم يأتِ رسولٌ أُمّته بأنَّ لهم إلهاً غير الله .
{ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } يعني : الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والمعنى وقالوا : اتَّخذ الرحمن ولداً من الملائكة { سبحانه } ثمَّ نزَّه نفسه عمَّا يقولون { بل } هم { عباد مكرمون } يعني : الملائكة مكرمون بإكرام الله إيَّاهم .
{ لا يسبقونه بالقول } لا يتكلَّمون إلاَّ بما يأمرهم به { وهم بأمره يعملون } .
{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ما عملوا ، وما هم عاملون { ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى } لمن قال : لا إله إلاَّ الله { وهم من خشيته مشفقون } خائفون؛ لأنَّهم لا يأمنون مكر الله .
{ ومَنْ يقل منهم } من الملائكة { إني إلهٌ من دونه } من دون الله تعالى { فذلك نجزيه جهنم } يعني : إبليس حيث ادَّعى الشِّركة في العبادة ، ودعا إلى عبادة نفسه { كذلك نجزي الظالمين } المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى .
{ أَوَلَمْ يَر } أولم يعلم { الذين كفروا أنَّ السموات والأرض كانتا رتقاً } مسدودةً { ففتقناهما } بالماء والنَّبات ، كانت السَّماء لا تُمطر ، والأرض لا تُنبت ، ففتحهما الله سبحانه بالمطر والنَّبات { وجعلنا من الماء } وخلقنا من الماء { كلَّ شيء حي } يعني : إنَّ جميع الحيوانات مخلوقةٌ من الماء ، كقوله تعالى : { والله خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ } ثمَّ بكَّتهم على ترك الإيمان ، فقال : { أفلا يؤمنون } . وقوله :
{ وجعلنا فيها } في الرَّواسي { فجاجاً سبلاً } طرقاً مسلوكةً حتى يهتدوا .
{ وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } بالنُّجوم من الشَّياطين { وهم عن آياتها } شمسها وقمرها ونجومها { معرضون } لا يتفكَّرون فيها . وقوله :
{ كلٌّ في فلك يسبحون } يجرون ويسيرون ، والفَلَكُ : مدار النُّجوم .
{ وما جَعَلْنا لبشر من قبلك الخلد } دوام البقاء { أفإن مت فهم الخالدون } نزل حين قالوا : { نتربَّصُ به ريَب المنون } وقوله :
{ ونبلوكم } نختبركم { بالشر } بالبلايا والفقر { والخير } المال والصِّحة { فتنة } ابتلاءً لننظر كيف شكركم وصبركم .
(1/526)

وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
{ وإذا رآك الذين كفروا } يعني : المستهزئين { إن يتخذونك } ما يتَّخذونك { إلاَّ هزواً } مهزوءاً به ، قالوا : { أهذا الذي يذكر آلهتكم } يعيب أصنامكم { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } جاحدون إلهيَّته ، يريد أنَّهم يعيبون مَنْ جحد إلهيَّة أصنامهم وهم جاحدون إلهية الرَّحمن ، وهذا غاية الجهل .
{ خلق الإنسانُ من عجل } يريد : إنَّ خلقته على العجلة ، وعليها طُبع { سَأُرِيكم آياتي } يعني : ما توعدون به من العذاب { فلا تستعجلون } .
{ ويقولون متى هذا الوعد } وعد القيامة .
{ لو يعلم الذين كفروا . . . } الآية . وجواب " لو " محذوف ، على تقدير : لآمنوا ولما أقاموا على الكفر .
{ بل تأتيهم } القيامة { بغتة } فجأةً { فتبهتهم } تُحيِّرهم .
(1/527)

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{ قل مَنْ يَكْلَؤُكُمْ } يحفظكم { بالليل والنهار من الرحمن } إن أنزل بكم عذابه { بل هم عن ذكر ربهم } كتاب ربِّهم { معرضون } .
{ أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطعيون نصر أنفسهم } فيكف تنصرتهم وتمنعهم؟! { ولا هم منا يصحبون } لا يُجارون من عذابنا .
(1/528)

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
{ بل متَّعنا هؤلاء } الكفَّار { وآباءهم حتى طال عليهم العمر } أَيْ : متَّعناهم بما أعطيناهم من الدُّنيا زماناً طويلاً ، فقست قلوبهم { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرفاها } بالفتح على محمد صلى الله عليه وسلم { أفهم الغالبون } أم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ .
{ قل إنما أنذركم } أُخوِّفكم { بالوحي } بالقرآن الذي أوحي إليَّ ، وأُمرت فيه بإنذاركم { ولا يسمع الصم الدُّعاء إذا ما ينذرون } كذلك أنتم يا معشر المشركين . { ولئن مستهم } أصابتهم { نفحة من عذاب ربك } قليلٌ وأدنى شيءٍ لأقرّوا على أنفسهم بسوء صنيعهم ، وهو قوله : { ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين } .
{ ونضع الموازين القسط } ذوات القسط ، أي : العدل { فلا تظلم نفسٌ شيئاً } لا يزاد على سيئاته ولا ينقص من ثواب حسناته { وإن كان } ذلك الشَّيء { مثقال حبة } وزن حبَّةٍ { من خردل أتينا بها } جئنا بها { وكفر بنا حاسبين } مُجازين ، وفي هذا تهديد .
{ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } البرهان الذي فرَّق به [ بين ] حقّه وباطل فرعون . { وضياء } يعني : التَّوراة الذي كان ضياءً ، يُضيء هدى ونوراً { وذكراً } وعِظَةً { للمتقين } من قومه .
{ الذين يخشون ربهم بالغيب } يخافونه ولم يروه .
{ وهذا ذكر مبارك } يعني : القرآن { أفأنتم له منكرون } جاحدون .
(1/529)

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
{ ولقد آتينا إبراهيم رشده } هُداه وتوفيقه { من قبل } من قبل موسى وهارون { وكنا به عالمين } أنَّه أهلٌ لما آتيناه .
{ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل } الأصنام { التي أنتم لها عاكفون } على عبادتها مقيمون! .
{ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } فاقتدينا بهم .
(1/530)

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
{ قالوا أجئتنا بالحق } يعنون : أَجادٌّ أنت فيما تقول أم لاعبٌ؟
{ قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهنَّ وأنا على ذلكم من الشاهدين } أي : أشهد على أنَّه خالقها .
{ وتالله لأكيدنَّ أصنامكم } لأمكرنَّ بها { بعد أن تولوا مدبرين } قال ذلك في يوم عيدٍ لهم ، وهم يذهبون إلى الموضع الذي يجتمعون فيه .
{ فجعلهم جذاذاً } حطاماً ودقاقاً { إلاَّ كبيراً لهم } عظيم الآلهة فإنَّه لم يكسره { لعلهم إليه } إلى إبراهيم ودينه { يرجعون } إذا قامت الحُجَّة عليهم ، فلمَّا انصرفوا
{ قالوا من فعل هذا بآلهتنا . . . } الآية . قال الذين سمعوا قوله : { لأكيدن أصنامكم } :
{ سمعنا فتى يذكرهم } يعيبهم { يقال له إبراهيم } .
(1/531)

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
{ قالوا فأتوا به على أعين الناس } على رؤوس النَّاس بمرأىً منهم { لعلَّهم يشهدون } عليه أنَّه الذي فعل ذلك ، وكرهوا أن يأخذوه بغير بيِّنةٍ ، فلمَّا أتوا به ، { قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } ؟
{ قال بل فعله كبيرهم هذا } غضب من أن يعبدوا معه الصِّغار ، وأراد إقامه الحجَّة عليهم { فاسألوهم } مَنْ فعل بهم هذا { إن كانوا ينطقون } إن قدروا على النُّطق .
{ فرجعوا إلى أنفسهم } تفكَّروا ورجعوا إلى عقولهم { فقالوا إنكم أنتم الظالمون } هذا الرجل بسؤالكم إيَّاه ، وهذه آلهتكم حاضرةٌ فاسألوها .
{ ثم نكسوا على رؤوسهم } أطرقوا لما لحقهم من الخجل ، وأقرُّوا بالحجَّة عليهم فقالوا : { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } فلمَّا اتَّجهت الحجَّة عليهم قال إبراهيم :
{ أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم } .
{ أفٍ لكم } أَيْ : نتناً لكم ، فلمَّا عجزوا عن الجواب .
{ قالوا حرّقوه } بالنَّار { وانصروا آلهتكم } بإهلاك مَنْ يعيبها { إن كنتم فاعلين } أمراً في أهلاكه ، فلمَّا ألقوه في النَّار .
{ قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } ذات بردٍ وسلامةٍ ، لا يكون فيها بردٌ مضرٌّ ، ولا حرٌّ مُؤذٍ .
(1/532)

وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
{ وأرادوا به } بإبراهيم { كيداً } مكراً في إهلاكه { فجعلناهم الأخسرين } حين لم يرتفع مرادهم في الدُّنيا ، ووقعوا في العذاب في الآخرة .
{ ونجيناه } من نمروذ وقومِه { ولوطاً } ابن أخيه { إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } وهي الشَّام ، وذلك أنَّه خرج مهاجراً من أرض العراق إلى الشَّام .
{ ووهبنا له إسحاقَ } ولداً لصلبه { ويعقوب نافلة } ولد الولد { وكلاً جعلنا صالحين } يعني : هؤلاء الثَّلاثة .
{ وجعلناهم أئمة } يُقتدى بهم في الخير { يهدون } يدعون النَّاس إلى ديننا { بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات } أن يفعلوا الطَّاعات ، ويقيموا الصَّلاة ، ويؤتوا الزَّكاة .
{ ولوطاً آتيناه حكماً } فصلاً بين الخصوم بالحقِّ { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } يعني : أهلها ، كانوا يأتون الذُّكران في أدبارهم .
(1/533)

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
{ ونوحاً إذ نادى من قبل } من قبل إبراهيم { فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } الغمِّ الذي كان فيه من أذى قومه .
{ ونصرناه } منعناه من أن يصلوا إليه بسوءٍ .
(1/534)

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{ إذ يحكمان في الحرث } قيل : كان ذلك زرعاً . وقيل : كان كرماً { إذ نفشت } رعت ليلاً { فيه غنم القوم } [ بلا راعٍ ] { وكنا لحكمهم شاهدين } لم يغبْ عن علمنا .
{ ففهمناها سليمان } ففهمنا القضيَّة سليمان دون داود عليهما السَّلام ، وذلك أنَّ داود حكم لأهل الحرث برقاب الغنم ، وحكم سليمان بمنافعها إلى أن يعود الحرث كما كان . { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } يجاوبنه بالتَّسبيح { و } كذلك { الطير وكنا فاعلين } ذلك .
{ وعلمناه صنعة لبوس لكم } عمل ما يلبسونه من الدُّروع { لتحصنكم } لتحرزكم { من بأسكم } من حربكم { فهل أنتم شاكرون } نعمتنا عليكم؟ .
{ ولسليمان الريح } وسخَّرنا له الرِّيح { عاصفة } شديدة الهبوب { تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } يعني : الشَّام ، وكان منزل سليمان عليه السَّلام بها .
{ ومن الشياطين } وسخَّرنا له من الشَّياطين { من يغوصون له } يدخلون تحت الماء لاستخراج جواهر البحر { ويعملون عملاً دون ذلك } سوى الغوص { وكنا لهم حافظين } من أن يُفسدوا ما عملوا ، وليصيروا تحت أمره .
(1/535)

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{ وأيوب إذ نادى ربه } دعا ربَّه { أني مسني الضرُّ } أصابني الجهد . وقوله :
{ وآتيناه أهله ومثلهم معهم } وهو أنَّ الله تعالى أحيا مَنْ أمات من بنيه وبناته ، ورزقه مثلهم من الولد { رحمة } نعمةً { من عندنا وذكرى للعابدين } عظةً لهم ليعلموا بذلك كمال قدرتنا . وقوله :
{ وذا الكفل } هو رجلٌ من بني إسرائيل تكفَّل بخلافه نبيٍّ في أُمَّته ، فقام بذلك .
(1/536)

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
{ وذا النون } واذكر صاحب الحوت ، وهو يونس عليه السَّلام { إذ ذهب } من بين قومه { مغاضباً } لهم قبل أمرنا له بذلك { فظن أن لن نقدر عليه } أن لن نقضي عليه ما قضينا من حبسه في بطن الحوت { فنادى في الظلمات } ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة اللَّيل { أن لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } حيث غاضبت قومي وخرجت من بينهم قبل الإذن .
{ وكذلك } وكما نجيناه { ننجي المؤمنين } من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا . وقوله :
{ لا تذرني فرداً } أَيْ : وحيداً لا ولد لي ولا عقب ، { وأنت خير الوارثين } خير من يبقى بعد مَنْ يموت .
(1/537)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
{ وأصلحنا له زوجه } بأن جعلناها ولوداً بعد أن صارت عقيماً { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } يُبادرون في عمل الطَّاعات { ويدعوننا رغباً } في رحمتنا { ورهباً } من عذابنا { وكانوا لنا خاشعين } عابدين في تواضع .
{ والتي أحصنت } واذكر التي منعت { فرجها } من الحرام { فنفخنا فيها من روحنا } أمرنا جبريل عليه السَّلام حتى نفخ في جيب درعها ، والمعنى : أجرينا فيها روح المسيح المخلوقة لنا { وجعلناها وابنها آية للعالمين } دلالةً لهم على كمال قدرتنا ، وكانت الآيةُ فيهما جميعاً واحدةً ، لذلك وُحِّدت .
{ إنَّ هذه أمتكم } دينكم وملَّتكم { أمة واحدة } ملَّة واحدة وهي الإِسلام .
{ وتقطعوا أمرهم بينهم } اختلفوا في الدّين فصاروا فرقاً { كلٌّ إلينا راجعون } فنجزيهم بأعمالهم .
{ فمن يعمل من الصالحات } الطَّاعات { وهو مؤمنٌ } مصدِّق بمحمَّدٍ عليه السَّلام { فلا كفران لسعيه } لا نُبطل عمله بل نُثيبه { وإنا له كاتبون } ما عمل حتى نجازيه .
{ وحرام على قرية } يعني : قريةً كافرةً { أهلكناها } أهلكناها بعذاب الاستئصال أن يرجعوا إلى الدُّنيا ، و " لا " زائدةٌ في الآية ، ومعنى " حرامٌ " عليهم أنَّهم ممنوعون من ذلك؛ لأنَّ الله تعالى قضى على مَنْ أُهلك أن يبقى في البرزخ إلى يوم القيامة .
{ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } من سدِّها { وهم من كلِّ حدب } نَشَز وتلٍّ { ينسلون } ينزلون مسرعين .
(1/538)

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
{ واقترب الوعد الحق } يعني : القيامة ، والواو زائدة؛ لأنَّ " اقترب " جواب " حتى " . { فإذا هي شاخصة } ذاهبةٌ لا تكاد تطرف من هول ذلك اليوم . يقولون : { يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا } في الدُّنيا عن هذا اليوم { بل كنا ظالمين } بالشِّرك وتكذيب الرُّسل .
{ إنكم } أيُّها المشركون { وما تعبدون من دون الله } يعني : الأصنام { حصب جهنم } وقودها { أنتم لها واردون } فيها داخلون .
{ لو كان هؤلاء } الأصنام { آلهة } على الحقيقة ما دخلوا النَّار { وكلٌّ } من العابدين والمعبودين في النَّار { خالدون } .
(1/539)

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{ إنَّ الذين سبقت لهم منا الحسنى } السَّعادة والرَّحمة { أولئك عنها } عن النَّار { مبعدون } .
{ لا يسمعون حسيسها } صوتها .
{ لا يحزنهم الفزع الأكبر } يعني : الإِطباق على النَّار . وقيل : ذبح الموت بمرأىً من الفريقين { وتتلقاهم الملائكة } تستقبلهم ، فيقولون لهم : { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } للثَّواب ودخول الجنَّة .
(1/540)

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } وهو مَلَكٌ يطوي كتب بني آدم . وقيل : السِّجلُّ : الصَّحيفة ، والمعنى : كطيِّ السِّجل على ما فيه من المكتوب . { كما بدأنا أوَّل خلق نعيده } كما خلقناكم ابتداءً حُفاةً عُراةً غُرلاً ، كذلك نُعيدكم يوم القيامة { وعداً علينا } أَيْ : وعدناه وعداً { إنا كنَّا فاعلين } يعني : الإِعادة والبعث .
{ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } قيل : في الكتب المنزلة بعد التَّوراة . وقيل : أراد بالذِّكر اللَّوح المحفوظ { أنَّ الأرض } يعني : أرض الجنَّة { يرثها عبادي الصالحون } وقيل : أرض الدُّنيا تصير للمؤمنين من أُمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم .
{ إنَّ في هذا } القرآن { لبلاغاً } لوصولاً إلى البغية { لقوم عابدين } مُطيعين لله تعالى .
{ وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين } للبَرِّ والفاجر ، فمن أطاعه عُجِّلت له الرَّحمة ، ومَنْ عصاه وكذَّبه لم يلحقه العذاب في الدُّنيا ، كما لحق الأمم المكذِّبة .
(1/541)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
{ فإن تولوا } عن الإسلام { فقل آذنتكم على سواءٍ } أعلمتكم بما يوحى إليَّ على سواءٍ لتستووا في ذلك ، يريد : لم أُظهر لبعضكم شيئاً كتمته عن غيره . { وإن أدري } ما أعلم { أقريب أم بعيد ما توعدون } يعني : القيامة .
(1/542)

وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{ وإن أدري لعله } لعلَّ تأخير العذاب عنكم { فتنة } اختبارٌ لكم { ومتاعٌ إلى حين } إلى حين الموت .
{ قال رب احكم بالحق } اقض بيني وبين أهل مكَّة بالحقِّ ، أُمر أن يقول كما قالت الرُّسل قبله من قولهم : { ربَّنا افتحْ بيننا وبينَ قومِنا بالحقِّ } . { وربنا } أَيْ : وقل ربُّنا { الرحمن المستعان على ما تصفون } من كذبكم وباطلكم .
(1/543)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{ يا أيها الناس } يا أهل مكَّة { اتقوا ربَّكم } أطيعوه { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } وهي زلزلةٌ يكون بعدها طلوع الشَّمس من مغربها .
{ يوم ترونها } يعني : الزَّلزلة { تذهل كلُّ مرضعة عمَّأ أرضعت } تترك كلُّ امرأةٍ تُرضع ولدها الرَّضيع اشتغالاً بنفسها وخوفاً { وتَضَعُ كلُّ ذات حملٍ حملها } تُسقط ولدها من هول ذلك اليوم { وترى الناس سكارى } من شدَّة الخوف { وما هم بسكارى } من الشَّراب { ولكنَّ عذاب الله شديد } فهم يخافونه .
{ ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم } نزلت في النَّضر بن الحارث وجماعةٍ من قريش كانوا يُنكرون البعث ، ويقولون : القرآن أساطير القرآن أساطير الأولين ، ويجادلون النبيَّ صلى الله عليه وسلم { ويتبع } في جداله ذلك { كلَّ شيطان مريد } متمرِّدٍ عاتٍ .
(1/544)

كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
{ كُتب عليه } قُضي على الشَّيطان { أنَّه مَنْ تولاَّه } اتَّبعه { فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } يدعوه إلى النَّار بما يُزيِّن له من الباطل .
{ يا أيها الناس } يعني : كفار مكَّة { إن كنتم في ريب من البعث } شكٍّ من الإِعادة { فإنا خلقناكم } خلقنا أباكم الذي أصل البشر { من تراب ثمَّ } خلقنا ذريَّته { من نطفة ثمَّ من علقة } وهي الدَّم الجامد { ثمَّ من مضغة } وهي لحمةٌ قليلةٌ قدر ما يُمضغ { مُخَلَّقَةٍ } مصوَّرةٍ تامَّة الخلق { وغير مخلقة } وهي ما تمجُّه الأرحام دماً ، يعني : السِّقط { لنبيِّن لكم } كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم { ونقرُّ في الأرحام ما نشاء } ننزل فيها ما لا يكون سقطاً { إلى أجل مسمى } إلى وقت خروجه { ثم نخرجكم } من بطون الأمهات { طفلاً } صغاراً { ثمَّ لتبلغوا أَشدكم } عقولكم ونهاية قوَّتكم { ومنكم من يُتوفَّى } يموت قبل بلوغ الأشدِّ { ومنكم مَنْ يردُّ إلى أرذل العمر } وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل شيئاً ، وهو قوله : { لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً } ثمَّ ذكر دلالةً أخرى على البعث فقال : { وترى الأرض هامدة } جافَّةً ذات ترابٍ { فإذا أنزلنا عليها الماء } المطر { اهتزت } تحرَّكت بالنَّبات { وربت } زادت { وأنبتت من كلِّ زوج بهيج } من كلِّ صنفٍ حسنٍ من النَّبات .
{ ذلك } الذي تقدَّم ذكره من اختلاف أحوال خلق الإِنسان ، وإحياء الأرض بالمطر { بأنَّ الله هو الحق } الدَّائم الثَّابت الموجود { وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شَىْء قَدِير } .
(1/545)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
{ ومنَ الناس من يجادل في الله بغير علم } نزلت في أبي جهلٍ { ولا هدىً } ليس معه من ربِّه رشادٌ ولا بيانٌ { ولا كتابٍ } له نورٌ .
{ ثاني عطفه } لاوي عنقه تكبُّراً { ليضل } الناس عن طاعة الله سبحانه باتِّباع محمَّد عليه السَّلام { له في الدنيا خزي } يعني : القتل ببدرٍ .
{ ذلك بما قدَّمت يداك } هذا العذاب بما كسبْتَ { وإنَّ الله ليس بظلام للعبيد } لا يعاقب بغير جرمٍ .
{ ومن الناس مَن يعبد الله على حرف } على جانبٍ لا يدخل فيه دخول مُتمكِّنٍ { فإن أصابه خير } خِصبٌ وكثرةُ مالٍ { اطمأنَّ به } في الدِّين بذلك الخصب { وإن أصابته فتنة } اختبارٌ بجدبٍ وقلَّة مالٍ { انقلب على وجهه } رجع عن دينه إلى الكفر .
{ يدعو من دون الله ما لا يضرُّه } إن عصاه { ولا ينفعه } إن أطاعه { ذلك هو الضلال البعيد } الذَّهاب عن الحقِّ .
(1/546)

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
{ يدعو لمَنْ ضرُّه أقرب من نفعه } ضرره بعبادته أقرب من نفعه ، ولا نفع عنده ، والعرب تقول لما لا يكون : هو بعيدٌ ، والمعنى في هذا أنَّه يضرُّ ولا ينفع { لبئس المولى } الناصر { ولبئس العشير } الصَّاحب والخليط .
(1/547)

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{ مَنْ كان يظن أن لن ينصره الله } لن ينصر الله محمَّداً صلى الله عليه وسلم حتى يُظهره على الدِّين كلِّه فليمت غيظاً ، وهو تفسير قوله : { فليمدد بسبب إلى السماء } أَيْ : فليشدد حبلاً في سقفه { ثمَّ ليقطع } أَيْ : ليَمُدَّ الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً { فلينظر هل يُذْهِبَنَّ كيده ما يغيظ } غيظه .
(1/548)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{ إنَّ الله يفصل بينهم يوم القيامة } أَيْ : يحكم ويقضي ، بأن يدخل المؤمنين الجنَّة ، وغيرهم من هؤلاء الفرق النَّار . { إنَّ الله على كلِّ شيء شهيد } يريد : إنَّ اللَّهَ عالمٌ بما في قلوبهم .
{ ألم تر أنَّ الله يسجد له } يذلُّ له ، وينقاد له { من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حقَّ عليه العذاب } وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ منقادٌ لله عزَّ وجلَّ على ما خلقه ، وعلى ما رزقه ، وعلى ما أصحَّه وعلى ما أسقمه ، فالبَرُّ والفاجر ، والمؤمن و الكافر في هذا سواءٌ { ومَنْ يهن الله } يذلَّه بالكفر { فما له من مكرم } أحدٌ يكرمه { إنَّ الله يفعل ما يشاء } يُهين من يشاء بالكفر ، ويكرم مَنْ يشاء بالإِيمان .
(1/549)

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{ هذا خصمان } يعني : المؤمنين والكافرين { اختصموا في ربهم } في دينه { فالذين كفروا قطعت لهم ثيابٌ من نار } يلبسون مقطَّعات النِّيران { ويصبُّ من فوق رؤوسهم الحميم } ماءٌ حارٌّ ، لو سقطت منه نقطٌ على جبال الدُّنيا أذابتها .
{ يصهر } يُذاب { به } بذلك الماء { ما في بطونهم } من الأمعاء { والجلود } وتنشوي جلودهم فتسَّاقط .
{ ولهم مقامع } سياطٌ { من حديد } .
{ كلما أرادوا أن يخرجوا منها } من جهنَّم { من غمّ } يصيبهم { أعيدوا فيها } ردُّوا إليها بالمقامع ، { و } تقول لهم الخزنة : { ذوقوا عذاب الحريق } النَّار ، وقال في الخصم الذين هم المؤمنون :
{ إنَّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات . . . } الآية ، وهي مفسَّرةٌ في سورة الكهف .
{ وهدوا } أُرشدوا في الدُّنيا { إلى الطيب من القول } وهو شهادة أن لا إله إلا الله { وهدوا إلى صراط الحميد } دين اللَّهِ المحمود في أفعاله .
(1/550)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{ إنَّ الذين كفروا ويصدُّون عن سبيل الله } يمنعون عن طاعة الله تعالى . { والمسجد الحرام } يمنعون المؤمنين عنه { الذي جعلناه للناس } خلقناه وبنيناه للنَّاس كلِّهم لن نخصَّ به بعضاً دون بعض { سواءً العاكف فيه والباد } سواءٌ في تعظيم حرمته وقضاء النُّسك به الحاضر ، والذي يأتيه من البلاد ، فليس أهل مكَّة بأحقَّ به من النَّازع إليه { ومَن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ } أَيْ : إلحاداً بظلمٍ ، وهو أن يميل إلى الظُّلم ، ومعناه : صيد حمامة وقطع شجرة ، ودخوله غير مُحرمٍ ، وجميع المعاصي؛ لأنَّ السَّيئات تُضاعف بمكَّة كما تُضاعف الحسنات .
{ وإذْ بؤَّأنا لإبراهيم مكان البيت } بيَّنا له أين يُبنى { أن لا تشرك } يعني : وأمرناه أن لا تشرك { بي شيئاً وطهر بيتي } مفسَّرٌ في سورة البقرة .
{ وأذن في الناس } نادِ فيهم { بالحج يأتوك رجالاً } مُشاةً على أرجلهم ، { و } ركباناً { على كلّ ضامر } وهو البعير المهزول { يأتين من كلِّ فج عميق } طريق بعيدٍ .
{ ليشهدوا } ليحضروا { منافع لهم } من أمر الدُّنيا والآخرة { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني : التَّسمية على ما ينحر في يوم النَّحر وأيَّامِ التَّشريق { فكلوا منها } أمر إباحةٍ ، وكان أهل الجاهليَّة لا يأكلون من نَسائكم ، فأمر المسلمون أن يأكلوا { وأطعموا البائس الفقير } الشَّديد الفقر .
{ ثم ليقضوا تفثهم } يعني : ما يخرجون به من الإحرام ، وهو أخذ الشَّارب ، وتقليم الظُّفر ، وحلق العانة ، ولبس الثَّوب { وليوفوا نذورهم } يعني : ما نذروه من برٍّ وهدي في أيَّام الحجِّ { وليطوفوا بالبيت العتيق } القديم . وقيل : المُعتق من أن يتسلَّط عليه جبَّار . يعني : الكعبة .
{ ذلك } أَيْ : الأمر ذلك الذي ذكرت { ومن يعظم حرمات الله } فرائض الله وسننه . { وأحلت لكم الأنعام } أن تأكلوها { إلاَّ ما يتلى عليكم } في قوله : { حُرِّمت عليكم الميتة . . . } الآية . ومعنى هذا النَّهي تحريمُ ما حرَّمه أهل الجاهليَّة من البحيرة والسَّائبة وغير ذلك { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } يعني : عبادتها { واجتنبوا قول الزور } يعني : الشِّرك بالله .
{ حنفاء لله } مسلمين عادلين عن كلِّ دينٍ سواه . { ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ } سقط { من السماء } فاختطفته الطَّير من الهواء ، أو ألقته الرِّيح في { مكان سحيق } بعيدٍ . يعني : إنَّ مَنْ أشرك فقد هلك وبَعُدَ عن الحقِّ .
{ ذلك ومن يعظم شعائر الله } يستسمن البُدن { فإنَّ ذلك من } علامات التَّقوى .
(1/551)

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
{ لكم فيها منافع } الرُّكوب والدَّرُّ والنَّسل { إلى أجل مسمى } وهو أن يُسمِّيها هدياً { ثمَّ محلها } حيث يحلُّ نحرها عند { البيت العتيق } يعني : الحرم كلَّه .
{ ولكلِّ أمة } جماعةٍ سلفت قبلكم { جعلنا منسكاً } ذبحاً للقرابين { ليذكروا اسم الله } عند الذَّبح { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني : الأنعام { فإلهكم إله واحد } أَيْ : لا تذكروا على ذبائحكم إلاَّ الله وحده { فله أسلموا } أخلصوا العبادة { وبشر المخبتين } المتواضعين .
(1/552)

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
{ والبدن } الإبل والبقر { جعلناها لكم من شعائر الله } أعلام دينه { لكم فيها خيرٌ } النَّفع في الدُّنيا ، والأجر في العقبى { فاذكروا اسم الله } وهو أن يقول عند نحرها : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر { صواف } قائمةً معقولة اليد اليسرى { فإذا وجبت جنوبها } سقطت على الأرض { فكلوا منها وأطعموا القانع } الذي يسألك { والمعتر } الذي يتعرَّض لك ولا يسألك . { كذلك } الذي وصفنا { سخرناها لكم } يعني : البدن { لعلَّكم تشكرون } لكي تطيعوني .
{ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } كان المشركون يُلطِّخون جدار الكعبة بدماء القرابين ، فقال الله تعالى : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } أَيْ : لن يصل إلى الله لحومها ولا دماؤها { ولكن يناله التقوى منكم } أَيْ : النِّيَّةُ والإِخلاص وما أريد به وجه الله تعالى . { لتكبروا الله على ما هداكم } إلى معالم دينه { وبشر المحسنين } المُوحِّدين .
{ إن الله يدفع } غائلة المشركين عن المؤمنين { إنَّ الله لا يحب كل خوَّانٍ } في أمانته { كفور } لنعمته ، وهم الذين تقرَّبوا إلى الأصنام بذبائحهم .
{ أُذِنَ للذين يقاتلون } يعني : المؤمنين ، وهذه أوَّلُ آيةٍ نزلت في الجهاد والمعنى : أُذن لهم أن يُقاتلوا { بأنهم ظلموا } بظلم الكافرين إيَّاهم { وإنَّ الله على نصرهم لقدير } وعدٌ من الله تعالى بالنَّصر .
{ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } يعني : المهاجرين { إلاَّ أن يقولوا ربنا الله } أَيْ : لم يُخرجوا إلاَّ بأن وحَّدوا الله تعالى { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } لولا أن دفع الله بعض النَّاس ببعض { لهدِّمت صوامع وبيعٌ } في زمان عيسى عليه السَّلام { وصلوات } في أيَّام شريعة موسى عليه السَّلام ، يعني : كنائسهم وهي بالعبرانيَّة صلوتا { ومساجد } في أيام شريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم { ولينصرنَّ الله من ينصره } يعني : مَنْ نصر دين الله نصره الله على ذلك { إن الله لقوي } على خلقه { عزيز } منيعٌ في سلطانه .
(1/553)

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
{ الذين إن مكناهم في الأرض } يعني : هذه الأمَّة إذا فتح الله عليهم الأرض { أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } أَيْ : آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ، ثمَّ عزَّى نبيَّه فقال :
{ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعادٌ وثمود } .
{ وقوم إبراهيم وقوم لوط } .
{ وأصحاب مدين وكُذِّب موسى فأمليت للكافرين } أَيْ : أمهلتهم { ثم أخذتهم } عاقبتهم { فكيف كان نكير } إنكاري عليهم ما فعلوا بالعذاب .
{ فكأين من قرية } وكم من قريةٍ { أهلكناها وهي ظالمة } بالكفر { فهي خاوية } ساقطةٌ { على عروشها } سقوفها { وبئر مُعَطَّلَةٍ } متروكةٍ بموت أهلها { وقصر مشيد } رفيعٍ طويلٍ .
{ أفلم يسيروا في الأرض } يعني : كفَّار مكَّة { فينظروا } إلى مصارع الأمم المكذبة ، وهو قوله : { فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } فيتفكَّروا ويعتبروا ، ثم ذكر أن الأبصار لا تعمى عن رؤية الآيات ، ولكن القلوب تعمى ، فلا يتفكروا ولا يعتبروا .
(1/554)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
{ ويستعجلونك بالعذاب } كانوا يقولون له : { فَأْتِنا بما وعدتنا إن كنت من الصَّادقين } فقال الله تعالى : { ولن يخلف الله وعده } الذي وعدك من نصرك وإهلاكهم ، ثمَّ ذكر أنَّ لهم مع عذاب الدُّنيا في الآخرة عذاباً طويلاً ، وهو قوله تعالى : { وإنَّ يوماً عند ربك } أَيْ : من أيَّام عذابهم { كألف سنة مما تعدون } وذلك أن يوماً من أيَّام الآخرة كألفِ سنةٍ في الدُّنيا ، ثمَّ ذكر سبحانه أنَّه قد أخذ قوماً بعد الإِمهال فقال :
{ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمةٌ ثمَّ أخذتها وإليَّ المصير } .
(1/555)

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
{ والذين سعوا في آياتنا } عملوا في إبطالها { معاجزين } مُقدِّرين أنَّهم يُعجزوننا ويفوتوننا .
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول } وهو الذي يأتيه جبريل عليه السًّلام بالوحي عياناً { ولا نبيّ } وهو الذي تكون نبوَّته إلهاماً ومناماً { إلاَّ إذا تمنى } قرأ { ألقى الشيطان } في قراءته ما ليس ممَّا يقرأ ، يعني : ما جرى على لسان النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين قرأ سورة " والنجم " في مجلس من قريش ، فلما بلغ قوله تعالى : { ومناة الثَّالثة الأخرى } جرى على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجى ثمَّ نبَّهه جبريل عليه السَّلام على ذلك ، فرجع وأخبرهم أنَّ ذلك كان من جهة الشَّيطان ، فذلك قوله : { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثمَّ يحكم الله آياته } يُبيِّنها حتى لا يجد أحدٌ سبيلاً إلى إبطالها { والله عليم } بما أوحى إلى نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم { حكيم } في خلقه ، ثمَّ ذكر أنَّ ذلك ليفتن الله به قوماً ، فقال :
{ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة } ضلالةً { للذين في قلوبهم مرض } وهم أهل النِّفاق { والقاسية قلوبهم } المشركين { وإنَّ الظالمين } الكافرين { لفي شقاق بعيد } خلافٍ طويلٍ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
{ وليعلم الذين أوتوا العلم } التَّوحيد والقرآن { أنه الحق } أَيْ : الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن ، وهو الحقُّ { فتخبت له قلوبهم } فتخشع .
{ ولا يزال الذين كفروا في مرية } في شكٍّ { منه } ممَّا أُلقي على لسان الرَّسول صلى الله عليه وسلم { حتى تأتيهم الساعة } القيامة { بغتة } فجأة { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } يعين : يوم بدرٍ ، وكان عقيماً عن أني كون للكافرين فيه فرحٌ أو راحةٌ ، والعقيم معناه : التي لا تلد .
(1/556)

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{ الملك يومئذ } يعني : يوم القيامة { لله } وحده من غير مُنازعٍ ولا مُدَّعٍ { يحكم بينهم } ثمَّ بيَّن حكمه فقال : { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم } .
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين } .
{ والذين هاجروا } فارقوا أوطانهم وعشائرهم { في سبيل الله } في طاعة الله { ثمَّ قتلوا أو ماتوا لَيَرْزُقّنَّهُمُ الله رزقاً حسناً } في الجنَّة .
{ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مدخلاً } أَيْ : إدخالاً وموضعاً { يرضونه } وهو الجنة .
{ ذلك } أَيْ : الأمر ذلك قصصنا عليك { ومَنْ عاقب بمثل ما عوقب به } أَيْ : جازى العقوبة بمثلها { ثم بغي عليه } ظُلم { لينصرنَّه الله } يعني : المظلوم .
{ ذلك } أَيْ : ذلك النَّصر للمظلوم بأنَّه القادر على ما يشاء ، فمن قدرته أنَّه { يولج الليل في النهار } يزيد من هذا في ذلك ، ومن ذلك في هذا ، والباقي ظاهرٌ إلى قوله :
{ إنَّ الإنسان لكفور } يعني : إنَّ الكافر لجاحدٌ لآيات الله تعالى الدَّالة على توحيده .
(1/557)

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
{ لكلّ أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه } شريعةً هم عاملون بها { فلا يُنازِعُنَّكَ } يُجادِلُنَّكَ { في الأمر } نزلت في الذين جادلوا المؤمنين فقالوا : ما لكم تأكلون ما تقتلون ، ولا تأكلون ممَّا قتله الله؟
{ وإن جادلوك } بباطلهم مِراءً وتعنُّتاً فادفعهم بقولك : { الله أعلم بما تعملون } من التَّكذيب والكفر .
(1/558)

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
{ ألم تعلم أنَّ الله يعلم ما في السماء والأرض إنَّ ذلك } كلَّه { في كتاب } يعني : اللَّوح المحفوظ { إن ذلك } يعني : علمه بجميع ذلك { على الله يسير } .
{ ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به } بعبادته { سلطاناً } حجَّةً وبرهاناً { وما ليس لهم من به علم } لم يأتهم به كتابٌ ولا نبيٌّ { وما للظالمين } المشركين { من نصير } مانعٍ من عذاب الله تعالى .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يعني : القرآن { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } الإِنكار بالعبوس والكراهة { يكادون يسطون } يقعون ويبطشون { بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم } بِشَرٍ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون { النار } أَيْ : هي النَّار .
{ يا أيها الناس } يعني : يا أهل مكَّة { ضرب مثل } بُيِّن لكم ولمعبودكم شَبَهٌ { فاستمعوا له إنَّ الذين تدعون من دون الله } من الأصنام { لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا } كلُّهم لخلقه { وإن يسلبهم الذباب شيئاً } ممَّا عليهم من الطَّيب { لا يستنقذوه منه } لا يستردُّوه منه لعجزهم { ضعف الطالبُ والمطلوب } يعني : العابد والمعبود ، والطَّالب : الذُّباب يطلب من الصَّنم ما لطِّخ به من الزَّعفران والطِّيب ، وهو مَثَلٌ لعابده يطلب منه الشَّفاعة والنُّصرة ، والمطلوب : الصنم .
{ ما قدروا الله حق قدره } ما عظَّموه حقَّ تعظيمه إذ أشركوا به ما لا يمتنع من الذُّباب ولا ينتصر منه .
{ الله يصطفي من الملائكة رسلاً } مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السَّلام { ومن الناس } يعني : النبيِّين عليهم السَّلام { إنَّ الله سميع } لقول عباده { بصير } بمَنْ يختاره .
{ يعلم ما بين أيديهم } ما عملوه { وما خلفهم } وما هم عاملون ممَّا لم يعلموه .
(1/559)

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{ وجاهدوا في الله } في سبيل الله { حق جهاده } بنيَّةٍ صادقةٍ { هو اجبتاكم } اختاركم لدينه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ضيقٍ؛ لأنَّه سهَّل الشَّريعة بالتَّرخيص { ملَّة أبيكم } اتبعوا ملَّة أبيكم { إبراهيم } كان هو في الحرمة كالأب صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جُعل أبا المسلمين { هو سماكم } أَيْ : الله تعالى سمَّاكم { المسلمين من قبل } [ أي : من قبل القرآن ] في سائر الكتب { وفي هذا } يعني : القرآن { ليكون الرسول شهيداً عليكم } وذلك أنَّه يشهد لمَنْ صدَّقه ، وعلى مَنْ كذَّبه { وتكونوا شهداء على الناس } تشهدون عليهم أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم ، وقوله : { واعتصموا بالله } أَيْ : تمسَّكوا بدينه { هو مولاكم } ناصركم ومتولي أموركم { فنعم المولى ونعم النصير } .
(1/560)

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{ قد أفلح المؤمنون } سعد المصدِّقون ، ونالوا البقاء في الجنَّة .
{ الذين هم في صلاتهم خاشعون } ساكنون لا يرفعون ابصارهم عن مواضع سجودهم .
{ والذين هم عن اللغو معرضون } عن كلِّ ما لا يجمل في الشَّرع من قولٍ وفعلٍ .
{ والذين هم للزكاة فاعلون } للصَّدقة الواجبة مُؤَدُّون .
{ والذين هم لفروجهم حافظون } يحفظونها عن المعاصي .
{ إلاَّ على أزواجهم } من زوجاتهم { أو ما ملكت أيمانهم } من الإماء { فإنهم غير ملومين } لا يلامون في وطئهنَّ .
{ فمن ابتغى } طلب ما { وراء ذلك } بما بعد الزَّوجة والأَمَة { فأولئك هم العادون } المتعدُّون عن الحلال إلى الحرام .
(1/561)

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{ والذين هم لأماناتهم } ما ائتمنوا عليه من أمر الدِّين والدُّنيا { وعهدهم راعون } وحلفهم الذي يُوجد عليهم راعون ، يرعون ذلك ويقومون بإتمامه .
{ والذين هم على صلواتهم يحافظون } بإدائها في مواقيتها .
{ أولئك هم الوارثون } ثمَّ ذكر ما يرثون فقال :
{ الذين يرثون الفردوس } وذلك أنَّ الله تعالى جعل لكلِّ امرىءٍ بيتاً في الجنَّة ، فمَنْ عمل عمل أهل الجنَّة ورث بيته في الجنَّة ، والفردوس خير الجنان .
{ ولقد خلقنا الإنسان } ابن آدم { من سلالة } من ماءٍ سُلَّ واستُخرِجَ من ظهر آدم ، وكان آدم عليه السَّلام خُلق من طينٍ .
{ ثمَّ جعلناه } جعلنا الإنسان { نطفة } في أوَّل بُدوِّ خلقه { في قرار مكين } يعني : الرَّحم . وقوله :
{ ثم أنشأنا خلقاً آخر } قيل : يريد الذُّكورية والأُنوثيَّة . وقيل : يعني : نفخ الرُّوح . وقيل : نبات الشَّعر والأسنان { فتبارك الله } استحقَّ التَّعظيم والثَّناء بدوام بقائه { أحسن الخالقين } المُصوِّرين والمُقدِّرين .
(1/562)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
{ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } سبع سمواتٍ ، كلٌّ سماءٍ طريقةٌ { وما كنَّا عن الخلق غافلين } عمَّن خلقنا من الخلق كلِّهم .
(1/563)

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{ وأنزلنا من السماء ماء بقدر } بمقدارٍ معلومٍ عند الله تعالى { فأسكناه } أثبتناه { في الأرض } قيل : هو النِّيل ودجلة ، والفرات ، وسيحان وجيحان . وقيل : هو جميع المياه في الأرض { وإنا على ذهابٍ به لقادرون } حتى تهلكوا أنتم ومواشيكم عطشاً .
(1/564)

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
{ وشجرة تخرج } يعني : الزَّيتون { من طور سيناء } يعني : جبلاً معروفاُ ، أوَّل ما ينبت الزَّيتون ينبت هناك { تنبت بالدهن } لأنَّه يتَّخذ الدُّهن من الزَّيتون { وصبغ } إدامٍ { للآكلين } .
(1/565)

فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
{ يريد أن يتفضل عليكم } يتشَّرف عليكم ، فيكون أفضل منكم بأن يكون متبوعاً ، وتكونوا له تبعاً { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } تُبلِّغنا عنه { ما سمعنا بهذا } الذي يدعوا إليه نوحٌ { في آبائنا الأولين } .
{ إن هو } ما هو { إلاَّ رجلٌ به جنة } جنونٌ { فتربصوا به حتى حين } انتظروا موته حتى يموت .
{ قال رب انصرني } بإهلاكهم { بما كذَّبون } بتكذيبهم إيّاي .
(1/566)

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
{ فأوحينا إليه . . . } الآية . مُفسَّرة في سورة هود . { فاسلك فيها } أَيْ : اُدخل في السَّفينة ، والباقي مفسَّر في سورة هود .
{ فإذا استويت } اعتدلت في السَّفينة راكباً . الآية .
{ وقل رب أنزلني } منها { منزلاً } إنزالاً { مباركاً } فاستجاب الله تعالى دعاءَه حيث قال : { اهبط بسلام منا وبركات عليك } وبارك فيهم بعد إنزالهم من السَّفينة ، حتى كان جميع الخلق من نسل نوحٍ [ ومَنْ كان معه في السَّفينة ] .
{ إنَّ في ذلك } الذي ذكرت { لآيات } لدلالاتٍ على قدرتنا { وإن كنا لمبتلين } مُختبرين طاعتهم بإرسال نوحٍ إليهم .
{ ثم أنشأنا من بعدهم } أحدثنا { قرناً آخرين } يعني : عاداً .
{ فأرسلنا فيهم رسولاً منهم } وهو هود . وقوله :
{ وأترفناهم } أَيْ : نعَّمناهم ووسَّعنا عليهم .
(1/567)

أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
{ أنكم مخرجون } أَيْ : من قبوركم أحياء .
{ هيهات هيهات } بُعْداً { لما توعدون } من البعث .
{ إن هي } ما هي { إلاَّ حياتنا الدنيا } يعني : الحياة الدَّانية في هذه الدَّار { نموت ونحيا } يموت الآباء ، ويحيا الأولاد .
(1/568)

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{ قال رب انصرني } عليهم { بما كذبون } بتكذيبهم إيَّاي .
{ قال عمَّا قليل } عن قريبٍ { ليصبحنَّ نادمين } يندمون إذا نزل بهم العذاب على التَّكذيب .
{ فأخذتهم الصيحة } صيحة العذاب { بالحق } بالأمر من الله تعالى { فجعلناهم غثاء } هلكى هامدين كغثاء السَّيل ، وهو ما يحمله من بالي الشَّجر { فبعداً } فهلاكاً { للقوم الظالمين } المشركين .
(1/569)

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{ ما تسبق من أمة أجلها } لا تموت قبل أجلها { وما يستأخرون } بعد الأجل طرفة عين . وقوله :
{ تترا } أَيْ : متتابعةً { وجعلناهم أحاديث } أَيْ : لمَنْ بعدهم يتحدَّثون بهم . وقوله :
{ وكانوا قوماً عالين } مستكبرين قاهرين غيرهم بالظُّلم .
(1/570)

فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
{ وقومهما لنا عابدون } أَيْ : مُطيعون مُتذلِّلون .
(1/571)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{ ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون } لكي يهتدي به قومه .
{ وجعلنا ابن مريم وأُمَّه آية } دلالةً على قدرتنا { وآويناهما إلى ربوة } يعني : بيت المقدس ، وهو أقرب الأرض إلى السَّماء { ذات قرار } أرضٍ مستويةٍ ، وساحةٍ واسعةٍ { ومعين } ماءٍ ظاهرٍ . وقيل : هي دمشق .
{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمراد به أنَّ الله تبارك وتعالى كأنه أخبر أنَّه قد قال لجميع الرُّسل قبله هذا القول ، وأمرهم بهذا ، والمعنى : كلوا من الحلال .
{ وإنَّ هذه أمتكم أمة واحدة } أَيْ : ملَّتكم أيُّها الرُّسل ملَّةٌ واحدةٌ ، وهي الإِسلام { وأنا ربكم } شرعتها لكم [ وبيَّنتها لكم ] { فاتقون } فخافون .
{ فتقطعوا أمرهم بينهم } يعني : المشركين واليهود والنَّصارى { زبراً } فرقاً { كلُّ حزب } جماعةٍ { بما لديهم } بما عندهم من الدِّين { فرحون } مُعجبون مسرورون .
(1/572)

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
{ فذرهم في غمرتهم } حيرتهم وضلالتهم { حتى حين } [ يريد : حتى حينِ ] الهلاكِ بالسَّيف أو الموت .
{ أيحسبون أنما نمدُّهم به } ما نبسط عليهم { من مال وبنين } من المال والأولاد في هذه الدُّنيا .
{ نسارع لهم في الخيرات } نُعطيهم ذلك ثواباً لهم { بل لا يشعرون } أنَّ ذلك استدراجٌ ، ثمَّ رجع إلى ذكر أوليائه فقال :
{ إنَّ الذين هم من خشية ربهم مشفقون } خائفون عذابه ومكره .
(1/573)

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
{ والذين يؤتون ما آتوا } يُعطون ما يُعطون { وقلوبهم وجلة } خائفةٌ أنَّ ذلك لا يُقبل منهم ، وقد أيقنوا أنَّهم إلى ربِّهم صائرون بالموت . وقوله :
{ وهم لها سابقون } أَيْ : إليها ، ثمَّ ذكر أنَّه لم يُكلِّف العبد إلاَّ ما يسعه ، فقال :
{ ولا نكلف نفساً إلاَّ وسعها } فمَنْ لم يستطع أن يصلي قائماً فليصلِّ جالساً { ولدينا كتاب } يعني : اللَّوح المحفوظ { ينطق بالحق } يُبيِّن بالصِّدق { وهم لا يظلمون } لا يُنقصون من ثواب أعمالهم .
(1/574)

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
ثمَّ عاد إلى ذكر المشركين فقال : { بل قلوبهم في غمرة } في جهالةٍ وغفلةٍ { من هذا } الكتاب الذي ينطق بالحقِّ { ولهم أعمال من دون ذلك } وللمشركين أعمالٌ خبيثةٌ دون أعمال المؤمنين الذين ذكرهم { هم لها عاملون } .
{ حتى إذا أخذنا مترفيهم } رؤساءَهم وأغنياءَهم { بالعذاب } بالقحط والجوع سبع سنين { إذا هم يجأرون } يضجُّون ويجزعون ، ونقول لهم :
{ لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون } لا تُمنعون ، ولا ينفعكم جزعكم .
{ قد كانت آياتي تتلى عليكم } يعني : القرآن { فكنتم على أعقابكم } على أدباركم { تنكصون } ترجعون القهقرى مُكذِّبين به .
{ مستكبرين به } أي : بالحرم ، تقولون : لا يظهر علينا أحدٌ؛ لأنَّا أهل الحرم { سامراً } سُمَّاراً باللَّيل { تُهْجِرُون } تهذون وتقولون الهُجر من سبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
{ أفلم يدبروا القول } يتدبَّروا القرآن ، فيقفوا على صدقك { أم جاءهم } بل أَجاءهم { ما لم يأت آباءهم الأولين } يريد : إنَّ إنزال الكتاب قد كان قبل هذا ، فليس إنزال الكتاب عليك ببديعٍ ينكرونه .
{ أم لم يعرفوا رسولهم } الذي نشأ فيما بينهم وعرفوه بالصِّدق .
{ أم يقولون } بل أيقولون { به جنة } جنونٌ { بل جاءهم } ليس الأمر كما يقولون ، بل جاءهم الرَّسول { بالحق } بالقرآن من عند الله .
(1/575)

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
{ ولو اتبع الحق } القرآن الذي يدعو إلى المحاسن { أهواءَهم } التي تدعو إلى المقابح ، أي : لو كان التَّنزيل بما يُحبُّون { لفسدت السموات والأرض } وذلك أنَّها خُلقت دلالةً على توحيد الله ، فلو كان القرآن على مرادهم كان يدعو إلى الشِّرك ، وذلك يُؤدِّي إلى إفساد أدلة التَّوحيد ، وقوله : { ومَنْ فيهنَّ } لأنَّهم حينئذٍ يُشركون بالله تعالى { بل أتيناهم بذكرهم } بشرفهم في الدُّنيا والآخرة .
{ أم تسألهم } أنت يا محمَّد على ما جئت به { خرجاً } جُعلاً وأجراً { فخراجُ ربك } فعطاء ربِّك وثوابه { خير } .
(1/576)

وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
{ لناكبون } أَيْ : عادلون مائلون .
{ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضرّ } جدبٍ وقحطٍ { للجوا } لتمادوا { في طغيانهم يعمهون } نزلت هذه الآية حين شكوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقالوا : قتلْتَ الآباء بالسَّيف ، والأبناء بالجوع .
{ ولقد أخذناهم بالعذاب } بالجوع { فما استكانوا لربهم } ما تواضعوا .
{ حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد } يوم بدرٍ . وقيل : عذاب الآخرة { إذا هم فيه مبلسون } آيسون من كلِّ خيرٍ .
(1/577)

وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{ وله اختلاف الليل والنهار } أَي : هو الذي جعلهما مختلفين .
(1/578)

قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
{ ملكوت كل شيء } أَيْ : ملكه . يعني : مَنْ يملك كلَّ شيء؟ { وهو يجير } يُؤمن من يشاء { ولا يجار عليه } لا يُؤمَنُ مَنْ أخافه . وقوله :
{ فأنى تسحرون } تُخدعون وتُصرفون عن توحيده وطاعته .
{ بل أتيناهم بالحق } يعني : القرآن { وإنهم لكاذبون } أنَّ الملائكة بنات الله .
{ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق } ينفرد بمخلوقاته فيمنع الإله الآخر عن الاستيلاء عليها { ولعلا بعضهم على بعض } بالقهر والمزاحمة كالعادة بين الملوك { سبحان الله } تنزيهاً له { عما يصفون } من الكذب .
(1/579)

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{ قل رب إما تريني ما يوعدون } ما يُوعَدُ المشركون من العذاب .
{ فلا تجعلني } معهم أَيْ : إنْ أنزلت بهم النِّقمة فاجعلني خارجاً منهم .
(1/580)

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{ ادفع بالتي هي أحسن } من الحلم والصَّفح { السيئة } التي تأتيك منهم من الأذى والمكروه { نحن أعلم بما يصفون } فنجازيهم به ، وهذا كان قبل الأمر بالقتال .
{ وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } نزغاتها ووساوسها .
{ وأعوذ بك رب أن يحضرون } في شيءٍ من أموري . وقوله :
{ رب ارجعون } أي : ارددني إلى الدُّنيا .
{ لعلي أعمل صالحاً } أَيْ : أشهد بالتَّوحيد { فيما تركت } حين كنت في الدُّنيا { كلا } لا يرجع إلى الدُّنيا { إنها كلمة هو قائلها } عند الموت ، ولا يُجاب إلى ذلك ، { ومن ورائهم } أمامهم { برزخ } حاجزٌ بينهم وبين الرُّجوع إلى الدُّنيا .
{ فإذا نفخ في الصور } النَّفخة الأخيرة { فلا أنساب بينهم يومئذ } لا يفتخرون بالأنساب { ولا يتساءلون } كما يتساءلون في الدُّنيا من أيِّ قبيلةٍ ونَسبٍ أنت .
(1/581)

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
{ تلفح } تحرق . { وهم فيها كالحون } عابسون لتقلُّص شفاههم بالانشواء ، فيقال لهم :
{ ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } .
{ قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا } التي قضيتَ علينا { وكنا قوماً ضالين } أقرُّوا على أنفسهم بالضَّلال .
(1/582)

قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{ اخسؤوا } أي : تباعدوا تباعد سخطٍ عليكم .
(1/583)

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{ فاتخذتموهم سخرياً } أَيْ : سخرتم منهم ، واستهزأتم { حتى أنسوكم ذكري } لاشتغالكم بالاستهزاء منهم .
{ إني جزيتهم اليوم } قابلتُ عملهم بما يستحقُّون من الثَّواب { بما صبروا } على أذاكم { أنهم هم الفائزون } النَّاجون من العذاب والنَّار .
{ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين } قال الله تعالى لمنكري البعث إذا بعثهم من قبورهم : كم لبثتم في قبوركم؟ وهذا سؤال توبيخٍ لهم؛ لأنَّهم كانوا يُنكرون أن يُبعثوا من قبورهم .
{ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } وذلك أنَّ العذاب رُفع عنهم فيما بين النَّفختين ، ونسوا ما كانوا من العذاب ، فاستقصروا مدَّة لبثهم ، فلذلك قالوا : { لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين } أي : فاسأل الملائكة الذين يحفظون عدد ما لبثنا .
{ قال إن لبثتم } ما لبثتم { إلاَّ قليلاً } وإن طال لبثكم؛ في طول لبثكم في النَّار { لو أنكم كنتم تعلمون } مقدار لبثكم في القبر ، وذلك أنَّهم لم يعلموا ذلك حيث قالوا : { لبثنا يوماً أو بعض يوم } فقيل لهم : لو كنتم تعلمون ذلك كان قليلاً عند طول لبثكم في النَّار .
{ أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثاً } أَيْ : للعبث لا لحكمة من ثوابٍ للمطيع ، وعقابٍ للعاصي . وقيل : عبثاً للعبث ، حتى تعبثوا وتغفلوا وتلهوا .
{ رب العرش الكريم } أي : السَّرير الحسن .
{ ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به } لا حجَّة له بما يفعل من عبادته غير الله { فإنما حسابه عند ربه } جزاؤه عند الله تعالى ، فهو يجازيه بما يستحقُّه { إنه لا يفلح الكافرون } لا يسعد المُكذِّبون ، ثمَّ أمره رسوله أن يستغفر للمؤمنين ، ويسأل لهم الرَّحمة فقال :
{ وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } .
(1/584)

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{ سورة أنزلناها } أَيْ : هذه سُورةٌ أنزلناها { وفرضناها } ألزمنا العمل بما فُرض فيها .
{ الزانية والزاني } إذا كانا حُرَّين بالغين غير محصنين { فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة } رقَّةٌ ورحمةٌ فَتُعطِّلوا الحدود ، وتخفِّفوا الضَّرب حتَّى لا يُؤلم ، وقوله : { في دين الله } أَيْ : في حكم الله . { وليشهد } وليحضر { عذابهما } جلدهما { طائفة } نفرٌ { من المؤمنين } .
{ الزاني لا ينكح إلاَّ زانية . . . } الآية . نزلت في قومٍ من فقراء المهاجرين همُّوا أن يتزوَّجوا بغايا كنَّ بالمدينة لِعَيْلَتِهم ، فأنزل الله تعالى تحريم ذلك؛ لأنهنَّ كنَّ زانياتٍ مشركاتٍ ، وبيَّن أنَّه لا يتزوَّج بهنَّ إلاَّ زانٍ أو مشركٌ ، وأنَّ ذلك حرامٌ على المؤمنين .
(1/585)

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
{ والذين يرمون } بالزِّنا { المحصنات } الحرائر العفائف { ثمَّ لم يأتوا } على ما رموهنَّ به { بأربعة شهداء } أَيْ : يشهدون عليهنَّ بذلك { فاجلدوهم } أَي : الرَّامين { ثمانين جلدة } يعني : كلَّ واحدٍ منهم { ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً } لا تُقبل شهادتهم إذا شهدوا؛ لأنَّهم فسقوا برمي المحصنات إلاَّ أن يرجعوا ويُكذِّبوا أنفسهم ويتركوا القذف ، فحينئذٍ تُقبل شهادتهم لقوله تعالى :
{ إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك } .
{ والذين يرمون أزواجهم } يقذفونهنَّ بالزِّنا { ولم يكن لهم شهداء إلاَّ أنفسهم } يشهدون على صحَّة ما قالوا [ إلاَّ هم ] { فشهادة أحدهم أربع شَهاداتٍ بالله } أربع مرات أنَّه صادقٌ فيما قذفها به ، يُسقط عنه الحدَّ ، ثم يقول في الخامسة : لعنةُ الله عليه إنْ كان من الكاذبين ، فإذا فعل الزَّوج هذا وجب الحدُّ على المرأة ، ويسقط ذلك عنها بأن تقول : أشهد بالله إنَّه لمن الكاذبين فيما قذفني به ، أربع مرات ، وذلك قوله تعالى :
{ ويدرأ عنها العذاب } أَيْ : يدفع عنها عقوبة الحدِّ ، والخامسة تقول : عليَّ غضب الله إنْ كان من الصَّادقين .
(1/586)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } جواب " لولا " محذوفٌ ، على تقدير : لفضحكم بارتكاب الفاحشة ، ولعاجلكم بالعقوبة ، ولكنَّه { توابٌ } يقبل التَّوبة ، ويرحم مَنْ رجع عن السَّيئة [ { حكيم } فيما فرض من الحدود ] .
{ إنَّ الذين جاؤوا بالإِفك } بالكذب على عائشة رضوان الله عليها وصفوان { عصبة } جماعة { منكم } يعني : حسَّان بن ثابت ، ومسطحاً ، وعبد الله ابن أُبيّ المنافق ، وحمنة بنت جحش { لا تحسبوه } لا تحسبوا ذلك الإفك { شرّاً لكم بل هو خيرٌ لكم } لأنَّ الله تعالى يأجركم على ذلك ، ويُظهر براءتكم { لكلِّ امرىء منهم ما اكتسب من الإِثم } جزاء ما اجترح من الذَّنب { والذي تولَّى كبره } تحمَّل معظمه فبدأ بالخوض فيه ، وهو عبد الله ابن أُبيّ .
{ لولا } هلاَّ { إذ سمعتموه } يعني : الإِفك { ظنَّ المؤمنون والمؤمنات } رجع من الخطاب إلى الخبر ، والمعنى : ظننتم أيُّها المؤمنون بالذين هم كأنفسهم { خيراً } والمؤمنون كلُّهم كالنَّفس الواحدة ، وقلتم : { هذا إفك مبين } كذبٌ ظاهرٌ .
(1/587)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسّكم } لأصابكم { فيما أفضتم } خضتم { فيه } من الإفك { عذاب عظيم } .
{ إذ تلقونه بألسنتكم } تأخذونه ويرويه بعضكم عن بعض { وتحسبونه هيناً } وتظنُّونه سهلاً ، وهو كبيرٌ عند الله سبحانه .
{ ولولا } هلاَّ { إذ سمعتموه } سمعتم هذا الكذب { قلتم ما يكون لنا أن نتكلَّم بهذا سبحانك } تعجُّباً من هذا الكذب { هذا بهتان } كذبٌ نتحيَّر من عظمه ، والمعنى : هلا أنكرتموه وصنتم ألسنتكم عن الخوض فيه؟ .
{ يعظكم الله أن تعودوا } كراهة أن تعودوا لمثل هذا الإِفك أبداً .
(1/588)

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
{ إنَّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } يفشوَ الزِّنا { في الذين آمنوا لهم عذاب أليمٌ } وهم المنافقون كانوا يشيعون هذا الكذب ، ويطلبون العيب للمؤمنين ، وأن يكثر فيهم الزِّنا .
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } لعجَّل لكم الذي تستحقُّونه من العقوبة .
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى } ما صلح وطهر من هذا الذَّنب أحد { منكم } يعني : من الذين خاضوا فيه { ولكنَّ الله يزكي مَنْ يشاء } يُطهِّر مَنْ يشاء من الإِثم والذَّنب بالرَّحمة والمغفرة .
{ ولا يأتل } ولا يحلف { أولو الفضل منكم والسعة } يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه { أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } يعني : مسطحاً ، وكان مسكيناً مهاجراً وكان ابن خالة أبي بكر ، وكان قد حلف أن لا ينفق عليه ولا يُؤتيه شيئاً . { وليعفوا وليصفحوا } عنهم لخوضهم في حديث عائشة { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } فلمَّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق : بلى ، أنا أحبُّ أن يغفر الله لي ، ورَجَع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه .
{ إنَّ الذين يرمون المحصنات الغافلات } عن الفواحش ، كغفلة عائشة رضي الله عنها عمَّا قذفت به { لعنوا } عُذِّبوا { في الدنيا } بالجلد { و } في { الآخرة } بالنَّار .
{ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } وقوله :
{ يوفيهم الله دينهم الحق } أي : جزاءهم الواجب { ويعلمون أنَّ الله هو الحق المبين } لأنَّه قد بيَّن لهم حقيقة ما كان يعدهم به في الدُّنيا .
{ الخبيثات } من القول . وقيل : من النِّساء { للخبيثين } من الرِّجال { والخبيثون } من النَّاس { للخبيثات } من القول . وقيل : من النِّساء { والطيبات } من القول .
وقيل : من النِّساء { للطيبين } من النَّاس { والطيبون } من النَّاس { للطيبات } من القول . وقيل : من النَّاس . { أولئك } يعني : عائشة وصفوان { مبرَّؤون مما يقولون } يقوله أهل الخبث والقاذفون .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا } تستأذنوا { وتسلموا على أهلها } وهو أن يقول : السَّلام عليكم ، أَأَدخلُ؟
{ فإن لم تجدوا فيها } في البيوت { أحداً } يأذن لكم في دخولها { فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا } انصرفوا { فارجعوا } ولا تقفوا على أبوابهم { هو } أي : الرُّجوع { أزكى لكم } أطهر لكم وأصلح ، فلمَّا نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، أفرأيت الخانات والمساكن في الطَّريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله سبحانه :
{ ليس علكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة } بغير استئذانٍ { فيها متاع } منفعةٌ { لكم } في قضاء حاجةٍ ، أو نزولٍ وغيره .
{ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } يكفُّوها عن النَّظر إلى ما لا يحلُّ { ويحفظوا فروجهم } عن مَنْ لا يحلُّ . وقيل : يستروها حتى لا تظهر .
(1/589)

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{ ولا يبدين زينتهنَّ } يعني : الخلخالين ، والقُرطين ، والقلائد ، والدَّماليج ، ونحوها ممَّا يخفى { إلاَّ ما ظهر منها } وهو الثِّياب ، والكحل ، والخاتم والخضاب ، والسِّوار ، فلا يجوز للمرأة أن تظهر إلاَّ وجهها ويديها إلى نصف الذِّراع { وليضربن بخمرهنَّ } وليلقين مقانعهنَّ { على جيوبهنَّ } ليسترن بذلك شعورهنَّ وقرطهنَّ وأعناقهنَّ { ولا يبدين زينتهن } يعني : الزِّنية الخفيَّة لا الظَّاهرة { إلاَّ لبعولتهن } أزواجهنَّ . وقوله : { أو نسائهنَّ } يعني : النِّساء المؤمنات ، فلا يحلُّ لامرأةٍ مسلمةٍ أن تتجرَّد بين يدي امرأةٍ مشركةٍ إلاَّ إذا كانت المشركة مملوكةً لها ، وهو قوله : { أو ما ملكت أيمانهن أوالتابعين غير أولي الإربة من الرجال } يعني : الذين يتَّبعون النِّساء يخدمونهنَّ ليصيبوا شيئاً ، ولا حاجة لهم فيهنَّ ، كالخصيِّ والخنثى ، والشَّيخ الهَرِم ، والأحمق العنِّين { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } لم يقووا عليها { ولا يضربن بأرجلهنَّ ليعلم ما يخفين من زينتهنَّ } أَيْ : لا يضربن بإحدى الرِّجلين على الأخرى ليصيب الخلخالُ الخلخالَ فيعلم أنَّ عليها خلخالين ، فإنَّ ذلك يحرِّك من الشَّهوة { وتوبوا إلى الله جميعاً } راجعوا طاعة الله سبحانه فيما أمركم ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السُّورة .
(1/590)

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
{ وأنكحوا الأيامى منكم } الذين لا أزواج لهم من الرِّجال والنِّساء { والصالحين من عبادكم } عبيدكم { وإمائكم } جواريكم { إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله } هذا وعدٌ من الله تعالى بالغنى على النِّكاح ، وإعلامٌ أنَّه سببٌ لنفي الفقر .
{ وليستعفف } وليعفَّ عن الحرام مَنْ لا يقدر على تزوُّج امرأةٍ ، بأن لا يملك المهر والنًّفقة { حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون } يطلبون { الكتاب } المكاتبة { مما ملكت أيمانكم } من عبيدكم ، وهو أن يطلب من مولاه أن يبيعه منه بمالٍ معلومٍ يُؤدِّيه إليه في مدَّةٍ معلومةٍ ، فإذا أدَّى ذلك عتق { فكاتبوهم } فأعطوهم ما يطلبون من الكتابة { إن علمتم فيهم خيراً } اكتساباً للمال ، يقدرون على أداء مال الكتابة { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } يعني : حطُّوا عنهم من المال الذي كاتبتموهم عليه ، ويستحبُّ ذلك للسيِّد ، وهو أن يحطَّ عنه ربع المال . وقيل : المراد بهذا أن يُؤتوا سهمهم من الزَّكاة { ولا تكرهوا فتياتكم } إماءكم { على البغاء } الزِّنا . نزلت في عبد الله ابن أُبيِّ ، وكانت له جوارٍ يكرههنَّ على الزِّنا ، ويأخذ منهنَّ أجراً معلوماً { إن أردن تحصناً } قيل : إنَّ هذا راجعٌ إلى قوله : { وانكحوا الأيامى منكم والصَّالحين من عبادكم وإمائكم } إن أردن تحصُّناً . وقيل : " إنْ " بمعنى : " إذ " ، والمعنى : لا تكرهوهنَّ على الزِّنا إذ أردن التًّعفُّف عنه { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } يعني : ما يؤخذ من أجورهنَّ { ومن يكرههنَّ } على الزِّنا { فإنَّ الله من بعد إكراههنَّ } لهنَّ { غفور رحيم } والوزر على المُكْرِه .
{ ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } يعني : القرآن { ومثلاً } وخبراً وعبرةً { من الذين خَلَوا } مضوا { من قبلكم } يعني : ما ذُكر من قصص القرون الماضية .
{ الله نور السموات والأرض } أَيْ : بنوره وهداه يَهتدي من في السموات والأرض ، ثمَّ ضرب مثلاً لذلك النُّور الذي يقذفه في قلب المؤمن حتى يهتدي به فقال : { مثل نوره كمشكاة } وهي الكوَّة غير النَّافذة ، والمراد بها ها هنا الذي وسط القنديل كالكوَّة يُوضع فيها الذُّبالة ، وهو قوله : { فيها مصباح } يعني : السِّراج { المصباح في زجاجة } لأنَّ النُّور في الزُّجاج ، وضوء النَّار أبين منه في كلِّ شيءٍ . { الزجاجة كأنها كوكب } لبياضه وصفائه { دريّ } منسوبٌ إلى أنَّه كالدُّرِّ { تُوقدُ } أي : الزُّجاجة ، والمعنى للمصباح ، ولكنه حذف المضاف ، مَنْ قرأ بالياء أراد : يُوقد المصباح { من شجرة } أَيْ : من زيت شجرةٍ { مباركة زيتونة لا شرقية } ليست ممَّا يطلع عليها الشَّمس في وقت شروقها فقط { ولا غربية } أو عند الغروب ، والمعنى : ليس يسترها عن الشَّمس في وقتٍ من النَّهار شيءٌ ، فهو أنضر لها ، وأجود لزيتها { يكاد زيتها يضيء } لصفائه دون السِّراج ، وهو قال عزَّ مِنْ قائلٍ : { يهدي الله لنوره مَنْ يشاء .
(1/591)

. . } الآية
{ في بيوت } أَي : المصباح يوقد في بيوتٍ ، يعني : المساجد { أذن الله أن ترفع } تبنى ، وقوله تعالى :
{ تتقلب فيه القلوب } بين الطَّمع في النَّجاة ، والحذر من الهلاك { والأبصار } تتقلَّب في أيِّ ناحيةٍ يُؤخذ بهم ، أذات اليمين أم ذات الشِّمال؟ ومن أيِّ جهةٍ يُؤتون كُتبهم من جهة اليمين أم من جهة الشِّمال؟
{ ليجزيهم الله أحسن } بأحسن { ما عملوا ويزيدهم من فضله } ما لم يستحقُّوه بأعمالهم ، ثمَّ ضرب مثلاً لأعمال الكافرين ، فقال :
{ والذين كفروا أعمالهم كسراب } وهو ما يرى في الفلوات عند شدَّة الحرِّ ، كأنَّه ماءٌ { بقيعة } جمع قاعٍ ، وهو المنبسط من الأرض { يحسبه الظمآن } يظنُّه العطشان { ماءً حتى إذا جاءه } جاء موضعه { لم يجده شيئاً } كذلك الكافر يحسب أنَّ عمله مُغنٍ عنه أو نافعه شيئاً ، فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد علمه أغنى عنه شيئاً { ووجد الله عنده } ووجد الله بالمرصاد عند ذلك { فوفَّاه حسابه } تحمَّل جزاء عمله .
(1/592)

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
{ أو كظلمات } وهذا مثلٌ آخرُ ضربه الله لأعمال الكافر { في بحر لجيٍّ } وهو البعيد القعر الكثير الماء { يغشاه } يعلوه { موجٌ } وهو ما ارتفع من الماء { من فوقه موج } متراكمٌ بعضه على بعض { مِن } فوق الموج { سحاب } وهذه كلُّها { ظلمات بعضها فوق بعض } ظلمة السَّحاب ، وظلمة الموج ، وظلمة البحر . { إذا أخرج } النَّاظر { يده } بين هذه الظُّلمات { لم يكد يراها } لم يرها لشدَّة الظُّلمة ، وأراد بالظُّلمات أعمال الكفار ، وبالبحر اللُّجيِّ قلبه ، وبالموج من فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشَّكِّ والحيرة ، وبالسَّحاب الرِّين والختم على قلبه ، ثمَّ قال : { ومَنْ لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } أَيْ : مَنْ لم يهده الله للإِسلام لم يهتد .
{ ألم تر أنَّ الله يسبح له } يصلّي له { من في السموات والأرض } المطيع يُسبِّح له ، والعاصي يذلُّ أيضاً بخلق الله تعالى إيَّاه على ما يشاء ، على أنَّ الله بريءٌ من السُّوء { والطير صافات } أجنحتهنَّ في الهواء تسبِّح الله . { كلٌّ قد علم صلاته } وهي لبني آدم { وتسبيحه } وهو عامٌّ لغيرهم من الخلق .
(1/593)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
{ ألم تر أنَّ الله يزجي } يسوق { سحاباً } إلى حيث يريد { ثمَّ يؤلف بينه } يجمع بين قطع ذلك السَّحاب { ثم يجعله ركاماً } بعضه فوق بعض { فترى الودق } المطر { يخرج من خلاله } فُرَجِه { وينزل من السماء من جبالٍ } في السَّماء { من بَردٍ فيصيب } بذلك البرد { مَنْ يشاء ويصرفه عَنْ مَنْ يشاء يكاد سنا برقه } ضوء برق السَّحاب { يذهب بالأبصار } من شدَّة توقُّده .
{ يقلب الله الليل والنهار } يُصرِّفهما في اختلافهما وتعاقبهما { إنَّ في ذلك } الذي ذكرت من هذه الأشياء { لعبرة لأولي الأبصار } لذوي العقول .
{ والله خلق كلَّ دابة من ماء } أَيْ : من نطفةٍ { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحيًّات والحيتان { ومنهم من يمشي على رجلين } كالإنس والجنِّ والطَّير { ومنهم مَنْ يمشي على أربع } كالبقر والجمال وغيرهما .
(1/594)

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
{ ويقولون آمنا بالله } يعني : المنافقين { ثمَّ يتولى } يعرض عن قبول حكم الرَّسول صلى الله عليه وسلم { فريق منهم من بعد ذلك } الإقرار { وما أولئك بالمؤمنين } .
{ وإذا دعوا إلى الله } إلى كتاب الله { ورسوله ليحكم بينهم } نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهوديّ ، كان اليهوديُّ يجرُّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما ، وجعل المنافق يجرُّه إلى كعب بن الأشرف ، وهذا إذا كان الحقُّ على المنافقين أعرضوا عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه كان لا يقبل الرُّشا ، وإن كان لهم الحقُّ على غيرهم أسرعوا إلى حكمه ، وهو وقوله تعالى :
{ وإن يكن لهم الحقُّ يأتوا إليه مذعنين } مُطيعين مُنقادين .
(1/595)

أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
{ أفي قلوبهم مرض } فجاء بلفظ التَّوبيخ ليكون أبلغ في ذمِّهم { أم ارتابوا } شكُّوا { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } أي : يظلم { بل أولئك هم الظالمون } لأنفسهم بكفرهم ونفاقهم .
(1/596)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجنَّ } وذلك أنَّ المنافقين حلفوا أنَّهم يخرجون إلى حيث يأمرهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم للغزو والجهاد ، فقال الله تعالى : { قل لا تقسموا طاعة معروفة } خيرٌ وأمثلُ من يمينٍ تحنثون فيها .
{ قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمَّل } من تبليغ الرِّسالة { وعليكم ما حملتم } من طاعته . الآية .
{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض } ليورثنَّهم أرض الكفَّار من العرب والعجم { كما استخلف الذين من قبلهم } يعني : بني إسرائيل { وليمكنَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } حتى يتمكَّنوا منه من غير خوفٍ { وليبدلنَّهم من بعد خوفهم } من العدوِّ { أمناً } لا يخافون معه العدوَّ { ومن كفر } بهذه النِّعمة فعصى الله ورسوله ، وسفك الدِّماء { فأولئك هم الفاسقون } فكان أوَّل [ مَنْ كفر ] بهذه النِّعمة بعد ما أنجز الله وعده الذين قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فعادوا في الخوف ، وظهر الشَّرُّ والخلاف .
(1/597)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
{ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } من العبيد والإماء { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } من الأحرار { ثلاث مرَّات } ثمَّ بيَّنهنَّ فقال : { من قبل صلاة الفجر } وهو حين يخرج الإنسان من ثياب النَّوم { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } للقائلة { ومن بعد صلاة العشاء } الآخرة { ثلاث عورات لكم } يعني : هذه الأوقات؛ لأنَّها أوقات التَّجرُّد وظهور العورة ، { ليس علكم ولا عليهم جناح } ألا يستأذنوا بعد هذه الأوقات { طوافون } أَيْ : هم طوَّافون { عليكم } يريد أنَّهم خدمكم ، فلا بأس عليهم أن يدخلوا في غير هذه الأوقات الثَّلاثة بغير إذنٍ ، وهذه الآية منسوخةٌ عند قومٍ ، وعند قومٍ لم تُنسخ ، ويجب العمل بها .
(1/598)

وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
{ وإذا بلغ الأطفال منكم } من أحراركم { الحلم فليستأذنوا } في كلِّ وقتٍ { كما استأذن الذين من قبلهم } يعني : الكبار من الأحرار .
{ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً } يعني : العجائز اللاتي أيسن من البعولة { فليس عليهم جناح أن يضعن ثيابهن } جلابيبهنَّ { غير متبرجات بزينة } غير مُظهراتٍ زينتهنَّ ، وهو أن لا تريد بوضع الجلباب أن تُري زينتها { وأن يستعففن } فلا يضعن الجلباب { خيرٌ لهن } .
{ ليس على الأعمى حرج . . . } الآية . كان المسلمون يخرجون للغزو ، ويدفعون مفاتيح بيوتهنَّ إلى الزَّمنى الذين لا يخرجون ، ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ممَّا فيها ، فكانوا يتوقَّون ذلك حتى نزلت هذه الآية . وقوله : { ولا على أنفسكم } أراد : ولا عليكم أنفسكم { أن تأكلوا من بيوتكم } أَيْ : بيوت أولادكم ، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم؛ لأنَّ ولد الرَّجل من كسبه ، ومالَه كمالِه ، وقوله : { أو ما ملكتم مفاتحه } يريد : الزَّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة { ليس عليكم جناح أن تأكلوا } من منازل هؤلاءٍ إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ولم يعلموا من غير أن يحملوا ، وهذه رخصةٌ من الله تعالى لطفاً بعباده ، ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النَّظر ، وقوله : { أو صديقكم } يجوز للرَّجل أن يدخل بيت صديقه فيتحرَّم بطعامه من غير استئذانٍ بهذه الآية ، وقوله : { أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً } يقول : لا جناح عليكم إن اجتمعتم في الأكل ، أو أكلتم فرادى ، وإن اختلفتم فكان فيكم الزَّهيد والرغيب ، والعليل والصَّحيح ، وذلك أنَّ المسلمين تركوا مؤاكلة المرضى والزَّمنى بعد نزول قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } فقالوا : إنَّهم لا يستوفون من الأكل ، فلا تحلُّ لنا مؤاكلتهم ، فنزلت الرُّخصة في هذه الآية . { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } فليسلِّم بعضكم على بعض . وقيل : إذا دخلتم بيوتاً خالية فليقل الدَّاخل : السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين .
(1/599)

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{ وإذا كانوا معه على أمر جامع } يجمعهم في حربٍ حضرت ، أو صلاةٍ في جمعةٍ ، أو تشاورٍ في أمرٍ { لم يذهبوا } لم يتفرقوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم { حتى يستأذنوه } نزلت في حفر الخندق ، كان المنافقون ينصرفون بغير امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله :
{ لا تجعلوا دعاءَ الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } أَيْ : لا تقولوا إذا دعوتموه : يا محمد ، كما يقول أحدكم لصاحبه ، ولكن قولوا : يا رسول الله ، يا نبيَّ الله { قد يعلم الله الذين يتسللون } يخرجون في خُفيةٍ من بين النَّاس { لواذاً } يستتر بغيره فيخرج مُختفياً { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } أَيْ : يخالفون أمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وينصرفون بغير إذنه { أن تصيبهم فتنة } بليَّةٌ تُظهر نفاقهم { أو يصيبهم عذاب أليم } عاجلٌ في الدُّنيا .
{ ألا إنَّ لله ما في السموات والأرض } عبيداً وملكاً وخلقاً .
(1/600)

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
{ تبارك } ثبت ودام { الذي نزل الفرقان } القرآن الذي فرق بين الحقِّ والباطل { على عبده } محمَّد صلى الله عليه وسلم { ليكون للعالمين } الجنِّ والإِنس { نذيراً } مخوِّفاً من العذاب .
{ وخلق كلَّ شيء } ممَّا يُطلق في صفة المخلوق { فقدَّره تقديراً } جعله على مقدارٍ . وقوله :
{ نشوراً } أَيْ : حياةً بعد الموت .
{ وقال الذين كفروا إن هذا } ما هذا القرآن { إلاَّ إفك } كذبٌ { افتراه } اختلقه { وأعانه عليه قوم آخرون } يعنون : اليهود { فقد جاؤوا } بهذا القول { ظلماً وزوراً } كذباً .
{ وقالوا أساطير الأولين } أَيْ : هو ما سطره الأوَّلون { اكتتبها } كتبها { فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً } يعنون أنَّه يختلف إلى مَنْ يعلَّمه بالغداة والعشيِّ .
{ قل } يا محمد لهم : { أنزله } أنزل القرآن { الذي يعلم السر في السموات والأرض } يعلم بواطن الأمور ، فقد أنزله على ما يقتضيه علمه .
{ وقالوا ما لهذا الرسول } يعنون محمداً عليه السَّلام { يأكل الطعام } أنكروا أن يكون الرَّسول بصفة البشر { ويمشي في الأسواق } طلباً للمعاش ، يعنون أنَّه ليس بمَلِكٍ ولا مَلَكٍ { لولا } هلاَّ { أنزل إليه ملك } يُصدِّقه { فيكون معه نذيراً } داعياً إلى الله يشاركه في النُّبوَّة .
{ أو يلقى إليه كنز } يستغني به عن طلب المعاش { وقال الظالمون } المشركون : { إن تتبعون } ما تتبعون { إلاَّ رجلاً مسحوراً } مخدوعاً .
{ انظر } يا محمَّد { كيف ضربوا لك الأمثال } إذ مثَّلوك بالمسحور والفقير الذي لا يصلح أن يكون رسولاً ، والناقص عن القيام بالأمور إذ طلبوا أن يكون معك مَلَك { فضلوا } بهذا القول عن الدَّين والإِيمان { فلا يستطيعون سبيلاً } إلى الهدى ومخرجاً من ضلالتهم .
{ تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } الذي قالوه من إلقاء الكنز ، وجعل الجنَّة ، ثمَّ بيَّن ذلك فقال : { جنات تجري من تحتها الأنهار } يعني : في الدُّنيا؛ لأنَّه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة .
(1/601)

إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
{ سمعوا لها تغيظاً } أَيْ : صوتاً بغيظٍ ، وهو التَّغضُّب { وزفيراً } صوتاً شديداً .
{ وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً } وذلك أنَّهم يُدفعون في النَّار كما يُدفع الوتد في الحائط { مقرَّنين } مقرونين مع الشَّياطين { دعوا هنالك ثبوراً } ويلاً وهلاكاً ، فيقال لهم :
{ لا تدعوا اليوم ثُبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً } .
{ قل أذلك } الذي ذكرتُ من موضع أهل النَّار ومصيرهم { خيرٌ أم جنة الخلد . . . } الآية . وقوله :
{ وعداً مسؤولاً } لأنَّ الملائكة سألت ذلك لهم في قوله تعالى : { ربَّنا وأَدْخِلْهم جنَّاتِ عدنٍ التي وَعَدْتَهُم ومَنْ صلَحَ من آبائِهم وأزوَاجِهم وذُرِّيَّاتهم } { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله } الأصنام ، والملائكة ، والمسيح ، وعزيراً { فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } هذا توبيخ للكفَّار ، كقوله لعيسى عليه السَّلام : { أَأنتَ قُلْتَ للنَّاس اتَّخذوني وأُمِّي إلهين من دُونِ الله } { قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتَّخذ من دونك أولياء } أن نوالي أعداءك ، وفي هذا براءةُ معبوديهم منهم { ولكن متعتهم وآباءهم } في الدُّنيا بالصَّحة والنِّعمة { حتى نسوا الذكر } تركوا ما وُعظوا به { وكانوا قوماً بوراً } هلكى بكفرهم .
{ فقد كذبوكم بما تقولون } بقولكم : إنَّهم كانوا آلهة { فما تستطيعون } يعني : الآلهة { صرفاً } للعذاب عنكم { ولا نصراً } لكم { ومن يظلم } أَيْ : يشرك { منكم نذقه عذاباً كبيراً } .
{ وما أرسلنا قبلك . . . } الآية . هذا جوابٌ لقولهم : { ما لهذا الرسول . . . } الآية . أخبر الله سبحانه أنَّ كلَّ مَنْ خلا من الرُّسل كان بهذه الصِّفة { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } الصَّحيح للمريض ، والغنيّ للفقير فيقول الفقير : لو شاء الله لأغناني كما أغنى فلاناً ، ويقول المريض : لو شاء الله لعافاني كما عافى فلاناً ، وكذلك كلُّ النَّاس مبتلى بعضهم ببعض ، فقال الله تعالى : { أتصبرون } على البلاء؟ فقد عرفتم ما وُعد الصَّابرون { وكان ربك بصيراً } بمَنْ يصبر ، وبمَنْ يجزع .
(1/602)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
{ وقال الذين لا يرجون لقاءنا } لا يخافون البعث : { لولا } هلاَّ { أنزل علينا الملائكة } فتخبرنا أنَّ محمداً صادقٌ { أو نرى ربنا } فيخبرنا بذلك { لقد استكبروا في أنفسهم } حين طلبوا من الآيات ما لم يطلبه أُمَّة { وعتوا عتوّاً كبيراً } وغلوا في كفرهم أشدَّ الغلوِّ .
{ يوم يرون الملائكة } يعني : إنَّ ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة ، وإنَّ الله سبحانه حرمهم البشرى في ذلك اليوم ، وتقول لهم الملائكة : { حجراً محجوراً } أَيْ : حراماً محرَّماً عليهم البشرى .
{ وقدمنا } وقصدنا { إلى ما عملوا من عمل } ممَّا كانوا يقصدون به التقرُّب إلى الله سبحانه { فجعلناه هباءً منثوراً } باطلاً لا ثواب له؛ لأنَّهم عملوه للشَّيطان ، والهباء : دقاق التُّراب ، والمنثور : المتفرِّق .
{ أصحاب الجنة يومئذ خيرٌ مستقراً } موضع قرار { وأحسن مقيلاً } موضع قيلولة .
{ ويوم تشقق السماء بالغمام } عن الغمام ، وهو السَّحاب الأبيض الرَّقيق { ونزل الملائكة تنزيلاً } لإكرام المؤمنين .
{ الملك يومئذ الحق } أَيْ : الملك الذي هو الملك حقَّاً ملك الرَّحمن يومئذ .
(1/603)

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
{ ويوم يعض الظالم } الكافر ، يعني : عُقبة بن أبي مُعَيط كان قد آمن ثمَّ ارتدَّ لرضى أُبيّ بن خلف { على يديه } ندماً وتحسُّراً { يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً } طريقاً إلى الجنة بالإِسلام .
{ يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً } يعني : أُبيَّاً { خليلاً } .
{ لقد أضلني عن الذكر } القرآن { بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً } عند البلاء . يعني : إنًّ قبوله قول أُبيِّ بن خلف في الكفر كان من عمل الشيطان .
{ وقال الرسول } في ذلك اليوم : يا { ربِّ إنَّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } متروكاً أعرضوا عنه .
{ وكذلك } وكما جعلنا لك أعداءً من المشركين { جعلنا لكلِّ نبيٍّ عدوَّاً من المجرمين وكفى بربك هادياً } يهديك وينصرك ، فلا تُبالِ بِمَنْ يعاديك .
{ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة } أَيْ : لم نزل عليه متفرِّقاً؟ وهلاَّ كان دفعةً واحدةُ كالتَّوراة والإِنجيل؟ قال الله تعالى : { كذلك } فرَّقنا تنزيله { لنثبت به فؤادك } لِنُقوِّيَ به قلبك ، وذلك أنَّه كلَّما نزل عليه وحيٌ جديدٌ ازداد هو قوَّة قلبٍ { ورتلناه ترتيلاً } بيَّناه تبييناً في تثبُّتٍ ومهلةٍ .
(1/604)

وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
{ ولا يأتونك } يعني : المشركين { بمثل } يضربونه في إبطال أمرك { إلاَّ جئناك بالحق } بما يردُّ ما جاؤوا به المثل { وأحسن تفسيراً } بياناً وتفصيلاً ممَّا ذكروا .
{ الذين } أَيْ : هم الذين { يحشرون على وجوههم } يُمشيهم الله عليها ، فهم يُساقون على وجوههم { إلى جهنم أولئك شرٌّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً } من كلِّ أحدٍ .
{ ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً } أَيْ : مُعيناً وملجأ .
{ فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذَّبوا بآياتنا } وهم القبط ، فكذَّبوهما { فدمَّرناهم تدميراً } أهلكناهم إهلاكاً .
{ وقوم نوحٍ لمَّا كذَّبوا الرسل } مَنْ كذَّب نبيَّاً فقد كذَّب الرُّسل كلَّهم؛ لأنَّهم لا يفرِّقون بينهم في الإيمان بهم . { أغرقناهم وجعلناهم للناس آية } عبرة { وأعتدنا للظالمين } في الآخرة { عذاباً اليماً } سوى ما ينزل بهم من عاجل العذاب . وقوله :
{ وأصحاب الرَّسِّ } كانوا أهل بئرٍ قعودٍ عليها ، وأصحاب مواشٍ يعبدون الأصنام ، فأُهلكوا بتكذيب نبيِّهم { وقروناً } وجماعاتٍ { بين ذلك } الذين ذكرناهم { كثيراً } .
{ وكلاً ضربنا له الأمثال } بيَّنا لهم الأشباه في إقامة الحجَّة عليهم { وكلاًّ تبرنا تتبيراً } أهلكنا إهلاكاً .
(1/605)

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
{ ولقد أتوا } يعني : مشركي مكَّة { على القرية التي أمطرت مطر السوء } يعني : الحجارة ، وهي قرية قوم لوطٍ { أفلم يكونوا يرونها } إذا مرُّوا بها مسافرين فيعتبروا { بل كانوا لا يرجون نشوراً } لا يخافون بعثاً .
{ وإذا رأوك إن يتخذونك إلاَّ هزواً } ما يتَّخذونك إلاَّ مهزوءاً به ، ويقولون : { أهذا الذي بعث الله رسولاً } إلينا؟
{ إن كاد } إنَّه كاد { ليضلنا عن آلهتنا } فيصدُّنا عن عبادتها { لولا أن صبرنا عليها } لصرفنا عنها .
{ أرأيت من اتخذ إلهه هواه } وهو أنَّهم كانوا يعبدون شيئاً حجراً ، أو ما كان ، فإذا رأوا حجراً أحسن طرحوا الأوَّل وعبدوا الأحسن ، فهم يعبدون ما تهواه أنفسهم { أفأنت تكون عليه وكيلاً } حفيظاً حتى تردَّه إلى الإِيمان ، أَيْ : ليس عليك إلاَّ التبليغ . وقيل : إنَّ هذا ممَّا نسخته آية السَّيف .
{ أم تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون } سماع تفهيم { أو يعقلون } بقلوبهم ما تقول لهم : { إن هم } ما هم { إلاَّ كالأنعام } في جهل الآيات وما جعل لهم من الدَّليل { بل هم أضلُّ سبيلاً } لأنَّ النَّعم تنقاد لمن يتعهده ، وهم لا يطيعون مولاهم الذي أنعم عليهم .
{ ألم ترَ } ألم تعلم { إلى ربك كيف مدَّ الظلَّ } وقت الإِسفار إلى وقت طلوع الشَّمس { ولو شاء لجعله } لجعل الظلَّ { ساكناً } ثابتاً دائماً { ثمَّ جعلنا الشمس عليه دليلاً } لأنَّ بالشَّمس يُعرف الظِّلُّ .
{ ثم قبضناه } قبضنا الظِّلَّ إلينا بارتفاع الشَّمس { قبضاً يسيراً } قيل : خفيَّاً . وقيل : سهلاً .
{ وهو الذي جعل لكم الليل لباساً } يستركم { والنوم سباتاً } راحةً لأبدانكم { وجعل النهار نشوراً } حياة تنتشرون فيه من النَّوم . وقوله :
{ طهوراً } هو الطَّاهر المُطهِّر .
{ لنحيي به } بالماء الذي أنزلناه من السَّماء { بلدة ميتاً } بالجدوبة { ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً } جمع إنسيٍّ ، وهم الذين سقيناهم المطر .
{ ولقد صرفناه } أَيْ : المطر { بينهم } بأنواعه وابلاً ، وطشَّاً ، ورُهَاماً ، ورذاذاً { ليذكروا } ليتذكَّروا به نعمة الله تعالى { فأبى أكثر الناس إلاَّ كفوراً } جُحوداً حين قالوا : سُقينا بِنَوء كذا .
{ ولو شِئنا لبعثنا في كلِّ قرية نذيراً } لنخفِّف عليك أعباء النبوَّة ، ولكن لم نفعل ذلك ليعظم أجرك .
{ فلا تطع الكافرين } في هواهم ولا تداهنهم { وجاهدهم به } وجاهد بالقرآن { جهاداً كبيراً } لا يُخالطه فتورٌ .
(1/606)

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
{ وهو الذي مرج البحرين } خلطهما { هذا عذب فرات } شديد العذوبة { وهذا ملحٌ أجاج } شديد الملوحة { وجعل بينهما } بين العذب والمالح { برزخاً } حاجزاً من قدرته حتى لا يختلط أحدهما بالآخر { وحجراً محجوراً } حراماً محرَّماً أن يغلب أحدهما صاحبه .
{ وهو الذي خلق من الماء } النُّطفة { بشراً } آدمياً { فجعله نسباً } لا يحلُّ تزوُّجه { وصهراً } يحلُّ تزوُّجه ، كابنة العمِّ والخال ، وابنهما { وكان ربك قديراً } قادراً على ما يشاء . وقوله :
{ وكان الكافر على ربه ظهيراً } معيناً للشَّيطان على معصية الله سبحانه .
(1/607)

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
{ قل ما أسألكم عليه } على تبليغ الرِّسالة والوحي { من أجر } فيقولون : إنَّه يطلب أموالنا { إلاَّ من شاء } لكن مَنْ شاء { أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } بإنفاق ماله .
(1/608)

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
{ فاسأل به خبيراً } فاسأل أيُّها الإنسان الذي لا تعلم صفته خبيراً يخبرك بصفاته .
{ وإذا قيل لهم } لهؤلاء المشركين : { اسجدوا للرحمن } وهو اسم الله سبحانه ، كانوا لا يعرفونه لذلك قالوا : { وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا } أنت يا محمد { وزادهم } قول القائل لهم : اسجدوا للرَّحمن { نفوراً } عن الإِيمان .
(1/609)

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
{ تبارك الذي جعل في السماء بروجاً } أَيْ : منازل الكواكب السَّبعة { وجعل فيها سراجاً } وهو الشَّمس .
{ وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْقَةً } إذا ذهب هذا أتى هذا ، فأحدهما يخلف الآخر ، فمَنْ فاته عملٌ بالليل فله مُسْتَدْرَكٌ بالنَّهار ، وهو قوله : { لمن أراد أن يذكَّر } يذكر الله بصلاةٍ وتسبيحٍ وقراءةٍ { أو أراد شكوراً } شكراًَ لنعمته وطاعته .
{ وعباد الرحمن } يعني : خواصَّ عباده { الذين يمشون على الأرض هوناً } بالسَّكينة والوقار { وإذا خاطبهم الجاهلون } بما يكرهونه { قالوا سلاماً } سداداً من القول يسلمون فيه من الإِثم .
(1/610)

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
{ غراماً } أيْ : شرَّاً لازماً .
(1/611)

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
{ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا } لم يكن إنفاقهم في معصية الله تعالى { ولم يقتروا } لم يمنعوا حقَّ الله سبحانه { وكان } إنفاقهم بين الإِسراف والإِقتار { قوماً } قائماً ، قوله :
{ يلق أثاماً } أَيْ : عقوبةً . وقيل : جزاء الآثام .
(1/612)

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
{ يبدّل الله سيئاتهم حسنات } يُبدِّلهم الله بقبائح أعمالهم في الشِّرك محاسن الأعمال في الإسلام ، بالشِّرك إيماناً ، وبالزِّنا عفَّة وإحصاناً ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين .
{ ومن تاب } أَيْ : عزم على التَّوبة { فإنه يتوب إلى الله متاباً } فينبغي أن يبادر إليها ويتوجَّه بها إلى الله .
{ والذين لا يشهدون الزور } لا يشهدون بالكذب { وإذا مرُّوا باللغو مروا كراماً } سمعوا من الكفار الشَّتم والأذى صفحوا وأعرضوا ، وهو منسوخ بالقتال على هذا التَّفسير .
{ والذين إذا ذكروا } وُعظوا { بآيات ربهم } بالقرآن { لم يخروا عليها صماً وعمياناً } لم يتغافلوا عنها كأنَّهم صمٌّ لم يسمعوها ، وعميٌّ لم يروها .
{ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } بأَنْ نراهم مطيعين لك صالحين { واجعلنا للمتقين إماماً } أَيْ : اجعلنا ممَّن يهتدي به المُتَّقون ، ويهتدي بالمتَّقين .
(1/613)

أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{ أولئك يجزون } يثابون { الغرفة } الدرجة في الجنة { بما صبروا } على طاعة الله سبحانه { ويلقون } ويُستقبلون { فيها } في الغرقة بالتَّحيَّة والسَّلام .
(1/614)

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{ قل ما يعبأ بكم } أَيْ : ما يفعل ويصنع ، وأيُّ وزنٍ لكم عنده { لولا دعاؤكم } توحيدكم وعبادتكم إياه { فقد كذبتم } يا أهل مكَّة ، فخرجتم عن أن يكون لكم عنده مقدار { فسوف يكون } العذاب لازماً لكم .
(1/615)

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
{ طسم } أقسم الله بطَوله وسنائه وملكه .
{ تلك } هذه { آيات الكتاب المبين } يعني : القرآن .
{ لعلَّك باخعٌ نفسك } قاتلٌ نفسك { ألا يكونوا مؤمنين } لتركهم الإِيمان ، وذلك أنَّه لما كذَّبه أهل مكًّة شقَّ عليه ذلك ، فأعلمه الله سبحانه أنَّه لو شاء لاضطرهم إلى الإِيمان ، فقال :
{ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } يذلُّون بها ، فلا يلوي أحدٌ منهم عنقه إلى معصية الله تعالى .
{ وما يأتيهم من ذكرٍ } من وعظٍ { من الرحمن محدث } في الوحي والتَّنزيل .
{ فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } فسيعلمون نبأ ذلك ، وهو وعيدٌ لهم .
(1/616)

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{ كم أنبتنا فيها من كلِّ زوج كريم } من كلِّ نوع محمودٍ ممَّا يحتاج إليه النَّاس .
{ إنَّ في ذلك لآية } لدلالةً على توحيد الله سبحانه وقدرته { وما كان أكثرهم مؤمنين } لما سبق في علمي وقضائي فيهم .
(1/617)

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
{ و } اذكر يا محمَّدُ { إذ نادى ربك موسى } ليلة رأى الشَّجرة والنَّار { أن ائت القوم الظالمين } لأنفسهم بالكفر .
{ قوم فرعون ألا يتقون } ألا يخافون الله سبحانه فيؤمنوا به .
(1/618)

وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
{ ويضيق صدري } من تكذيبهم إيَّاي { ولا ينطلق لساني } بأداء الرِّسالة للعقدة التي في فيه { فأرسل إلى هارون } ليظاهرني على التَّبليغ .
{ ولهم عليَّ ذنب } بقتل القبطيِّ .
{ قال كلا } لا يقتلونك { إنَّا معكم } بالنُّصرة { مستمعون } نسمع ما تقول ويقال لك .
{ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول } ذوا رسالة { ربّ العالمين } .
{ أن أرسل معنا بني إسرائيل } مفسَّرٌ في سورة طه ، فلمَّا أتاه بالرِّسالة عرفه فرعون .
(1/619)

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
{ ألم نُربِّك فينا وليداً } صبيّاً { ولبثت فينا من عمرك سنين } ثلاثين سنةً .
{ وفعلت فعلتك التي فعلت } يعني : قتل القبطيِّ { وأنت من الكافرين } الجاحدين لنعمتي عليك .
{ قال } موسى : { فعلتها إذاً وأنا من الضالين } الجاهلين ، لم يأتني من الله شيءٌ .
(1/620)

وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
{ وتلك نعمة تمنُّها عليَّ } أقرَّ بإنعامه عليه ، فقال : هي نعمةٌ إذ ربَّيتني ولم تستعبدني كاستعبادك بني إسرائيل . و { عبَّدت } معناه : اتَّخذت عبيداً .
{ قال فرعون وما ربُّ العالمين } أَيُّ شيءٍ ربُّ العالمين الذي تزعم أنَّك رسوله؟
{ قال ربُّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين } أنَّه خالقهما .
{ قال } فرعون { لمن حوله } من أشراف قومه مُعجبِّاً لهم : { ألا تستمعون } إلى ما يقوله : موسى؟! فقال موسى :
{ ربكم وربُّ آبائكم الأولين } .
{ قال } فرعون : { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } يتكلَّم بكلام لا تعرف صحَّته .
{ قال } موسى : { ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } فقال فرعون حين لزمته الحجَّة :
{ لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين } من المحبوسين في السِّجن .
(1/621)

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
{ قال } موسى : { أَوَلَوْ جِئِتُكَ بشيء مبين } يعني : أَوَ تَفْعَلُ ذلك وإن أتيتُك على ما أقول بحجَّةٍ بيِّنةٍ؟
{ قال فأت به } مفسَّر أكثره إلى قوله تعالى :
{ قالوا لا ضير } لا ضرر { إنا إلى ربنا منقلبون } راجعون إلى ثوابٍ .
{ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أنْ كنا } لأن كنَّا { أول المؤمنين } من هذه الأُمَّة .
{ وأوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي إنكم متبعون } يتَّبعكم فرعون وقومه .
(1/622)

{ قال } موسى : { أَوَلَوْ جِئِتُكَ بشيء مبين } يعني : أَوَ تَفْعَلُ ذلك وإن أتيتُك على ما أقول بحجَّةٍ بيِّنةٍ؟
{ قال فأت به } مفسَّر أكثره إلى قوله تعالى :
{ قالوا لا ضير } لا ضرر { إنا إلى ربنا منقلبون } راجعون إلى ثوابٍ .
{ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أنْ كنا } لأن كنَّا { أول المؤمنين } من هذه الأُمَّة .
{ وأوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي إنكم متبعون } يتَّبعكم فرعون وقومه .
(1/623)

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
{ فأرسل فرعون في المدائن حاشرين } يعني : الشُّرَط ليجمعوا له الجيش ، وقال لهم :
{ إنَّ هؤلاء } يعني : بني إسرائيل { لشرذمة } عصبةٌ { قليلون } .
{ وإنهم لنا لغائظون } مُغضبون بمخالفتهم إيَّانا .
{ وإنا لجميع حاذرون } مُستعدّون للحرب بأخذ أداتها و { حذرون } متيقِّظون .
{ فأخرجناهم من جنات } يعني : حين خرجوا من مصر ليلحقوا موسى وقومه .
{ ومقام كريم } مجلسٍ حسنٍ .
{ كذلك } كما وصفنا { وأورثناها } بهلاكهم { بني إسرائيل } .
{ فأتبعوهم } لحقوهم { مشرقين } في وقت شروق الشَّمس .
{ فلما تراءى الجمعان } رأى كلُّ واحدٍ الآخر { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } أيْ : سيدركنا جمع فرعون .
{ قال : كلا } لن يدركونا { إنًّ معي ربي } بالنُّصرة { سيهدين } طريق النَّجاة .
{ فكان كلُّ فرق } قطعةٍ من الماء { كالطود العظيم } كالجبل .
{ وأزلفنا ثمَّ الآخرين } قرَّبنا قوم فرعون إلى الهلاك ، وقدَّمناهم إلى البحر .
(1/624)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
{ وما كان أكثرهم مؤمنين } لم يؤمن من أهل مصر إلاَّ رجلٌ وامرأتان .
(1/625)

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
{ فإنَّهم عدوٌّ لي } أَيْ : هذه الآلهة التي تعبدونها عدوٌّ لي ، أعاديهم أنا ولا أعبدهم { إلاَّ ربَّ العالمين } لكن ربّ العالمين أعبده .
{ الذي خلقني } ظاهرٌ إلى قوله :
{ لسان صدقٍ في الآخرين } أَيْ : ذكراً جميلاً ، وثناءً حسناً في الأمم التي تجيء بعدي .
{ واجعلني } ممَّن يرث الجنَّة بفضلك ورحمتك .
(1/626)

إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
{ إلاَّ مَنْ أتى الله بقلب سليم } سلم من الشِّرك .
{ وأزلفت الجنة } قرِّبت { للمتقين } .
{ وبرزت } وأُظهرت { الجحيم للغاوين } للكافرين .
(1/627)

فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
{ فكبكبوا فيها } طُرح بعضهم على بعض في الجحيم { هم والغاوون } يعني : الشَّياطين .
{ وجنود إبليس } أتباعه من الجنِّ والإِنس .
{ قالوا } للشَّياطين والمعبودين .
{ تالله إن كنا لفي ضلال مبين } .
{ إذ نسويكم } نَعْدِلُكُمْ { بربِّ العالمين } في العبادة .
{ وما أضلّنا } وما دعانا إلى الضَّلال { إلاَّ المجرمون } أوَّلونا الذين اقتدينا بهم .
{ فما لنا من شافعين } .
{ ولا صديق حميم } قريبٍ يشفع .
{ فلو أنَّ لنا كرَّة } رجعةً إلى الدُّنيا ، تمنَّوا أن يرجعوا إلى الدُّنيا فيؤمنوا . وقوله :
{ إني لكم رسول أمين } على الوحي والرِّسالة؛ لأنَّكم عرفتموني قبل هذا بالأمانة .
(1/628)

قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
{ واتبعك الأرذلون } يعني : السَّفلة والحاكة .
(1/629)

قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
{ من المرجومين } أَيْ : من المشتومين . وقيل : من المقتولين .
(1/630)

فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
و { الفلك المشحون } المملوء .
(1/631)

أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
{ أتبنون بكلِّ ريع } أَيْ : شَرَفٍ ومكانٍ مرتفعٍ { آية } علماً { تعبثون } تلعبون : يعني : أبنية الحمام وبروجها .
{ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون } أَيْ : تتخذون مباني وقصوراً للخلود ، لا تُفكِّرون في الموت .
{ وإذا بطشتم بَطَشْتُمْ جبارين } إذا ضربتم بالسَّوط ، و [ إذا عاقبتم ] قتلتم فعل الجبَّارين الذين يقتلون على الغضب بغير حقٍّ .
(1/632)

إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
{ إن هذا } ما هذا الذي تدعونا إليه { إلا خَلْق الأوَّلين } كذبهم وافتراؤهم . ومَنْ قرأ { خُلق الأولين } فمعناه : عادة الأوَّلين ، أَيْ : الذي نحن فيه عادة الأوَّلين يعيشون ما عاشوا ، ثمَّ يموتون ولا بعثٌ ولا حسابٌ .
(1/633)

أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
{ أتتركون في ما هاهنا } أَيْ : في الدُّنيا { آمنين } من الموت والعذاب .
(1/634)

وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
{ ونخل طلعها } أَيْ : ثمرها . { هضيم } أَيْ : [ ليِّنٌ ] نضيجٌ .
{ وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين } حاذقين بنحتها ، و { فرهين } أشرين بطرين ، وكانوا مُعمَّرين لا يبقى البناء مع عمرهم ، فنحتوا في الجبال بيوتاً .
(1/635)

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
{ إنما أنت من المسحرين } أَيْ : من الذين سُحروا مرَّةً بعد أخرى : وقيل : ممَّن له سَحر ، وهو الرِّئة ، أَيْ : إنَّما أنت بشرٌ مثلنا .
(1/636)

قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
{ لها شربٌ } أَيْ : حظٌّ ونصيبٌ من الماء .
{ لا تمسوها بسوء } بعقرٍ .
(1/637)

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
{ أتأتون الذكران من العالمين } يريد : ما كان من فعل قوم لوطٍ مِنْ إتيان الرِّجال في أدبارهم .
{ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } وتدَعون أن تأتوا نسائكم { بل أنتم قوم عادون } ظالمون غاية الظُّلم .
{ قالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين } عن بلدنا .
{ قال : إني لعملكم } يعني : اللِّواط { من القالين } من المُبْغِضين .
(1/638)

إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
{ إلاَّ عجوزاً } يعني : امرأته { في الغابرين } في الباقين في العذاب .
{ ثمَّ دمرنا } أهلكنا .
(1/639)

كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
{ كذَّب أصحاب الأيكة } وهي الغيضة ، وهم قوم شعيب .
(1/640)

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
{ أوفوا الكيل } أتمُّوه { ولا تكونوا من المخسرين } النَّاقصين للكيل والوزن .
(1/641)

وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
{ والجبلَّة الأولين } أَيْ : الخليقة السَّابقين .
(1/642)

فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
{ فأسقط علينا كسفاً من السماء } أَيْ : قطعةً .
{ قال ربي أعلم بما تعملون } فيجازيكم به ، وما عليَّ إلاَّ الدَّعوة .
{ فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة } وذلك أنَّ الحرَّ اخذهم ، فلم ينفعهم ماءٌ ولا كَنٌّ ، فخرجوا إلى البرِّيَّة ، وأظلَّتهم سحابةٌ وجدوا لها برداً ، واجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا به .
(1/643)

وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
{ وإنه } يعني : القرآن { لتنزيل رب العالمين } .
{ نزل به الروح الأمين } جبريل عليه السَّلام .
{ على قلبك } حتى وعيته .
(1/644)

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
{ وإنه } وإنَّ ذكر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { لفي زبر الأولين } لفي كتب الأوَّلين .
{ أو لم تكن لهم } للمشركين { آية } دلالةً على صدقه { أن يعلمه علماء بني إسرائيل } يعلمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالنُّبوَّة والرِّسالة .
(1/645)

وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
{ ولو نزلناه } يعني : القرآن { على بعض الأعجمين } جمع الأعجم ، وهو الذي لا يحسن العربيَّة .
{ فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين } أنفةً من اتَّباعه .
{ كذلك سلكناه } أدخلنا التَّكذيب { في قلوب المجرمين } فذلك الذي منعهم عن الإِيمان .
{ لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم } .
{ فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون } .
{ فيقولوا هل نحن منظرون } فلمَّا نزلت هذه الآيات قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب؟ فأنزل الله سبحانه :
{ أفبعذابنا يستعجلون } .
{ أفرأيت إن متعناهم } بالدُّنيا وأبقيناهم فيها { سنين } .
{ ثمَّ جاءهم } العذاب لم ينفعهم إمتاعهم بالدُّنيا فيما قبل .
(1/646)

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
{ وما أهلكنا من قرية إلاَّ لها منذرون } رسلٌ ينذرونهم .
{ ذكرى } إنذاراً للموعظة { وما كنا ظالمين } في إهلاكهم بعد قيام الحُجَّة عليهم .
{ وما تَنَزَّلَتْ به } بالقرآن { الشياطين } .
{ وما ينبغي لهم } ذلك { وما يستطيعون } ذلك .
{ إنَّهم } عن استراق السَّمع من السَّماء { لمعزولون } بالشُّهب .
(1/647)

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
{ وأنذر } خوِّف { عشيرتك الأقربين } أدنى أهلك وأقاربك .
{ واخفض جناحك } ليِّن جانبك .
(1/648)

الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
{ الذي يراك حين تقوم } أَيْ : إلى صلاتك .
{ وتقلبك } تصرُّفك في أركان الصَّلاة قائماً وقاعداً ، وراكعاَ ، وساجداً { في الساجدين } في المُصلِّين .
(1/649)

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
{ هل أنبئكم } أخبركم { على مَنْ تنزل الشياطين } .
{ تنزَّل على كلِّ أفاك } كذَّاب { أثيم } فاجرٍ ، مثل مسيلمة وغيره من الكهنة .
{ يلقون } إليهم ما سمعوا ويخلطوا بذلك كذباً كثيراً ، وهذا كان قبل أن حجبوا عن السَّماء .
{ والشعراء يتبعهم الغاوون } يعني : شعراء الكفَّار ، كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتَّبعهم الكفَّار .
{ ألم ترَ أنهم في كلِّ وادٍ يهيمون } في كلِّ لغوٍ يخوضون ، يمدحون بباطلٍ ، ويشتمون بباطلٍ ، ثمَّ استثنى شعراء المؤمنين فقال :
{ إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا } ردُّوا على مَنْ هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين { وسيعلم الذين ظلموا أَيَّ منقلب ينقلبون } أَيَّ مرجعٍ يرجعون إليه بعد مماتهم .
(1/650)

طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{ طس تلك آيات القرآن } هذه الآيات التي وُعدتم بها ، وذلك أنَّهم وُعدوا بالقرآن في كتبهم { وكتاب } أَيْ : وآياتِ كتابٍ { مبين } .
{ هدىً } أَيْ : هو هدىً { وبشرى للمؤمنين } .
(1/651)

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{ إنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم } جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زيَّنا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنةً { فهم يعمهون } يتحيَّرون .
{ أولئك الذين لهم سوء العذاب } في الدُّنيا القتل ببدرٍ ، { وهم في الآخرة هم الأخسرون } بحرمان النَّجاة ، والمنع من الجنان .
{ وإنك لتلقى القرآن . . . } الآية . أَيْ : يلقى إليك القرآن وحياً من الله سبحانه .
{ إذ قال موسى } اذكر يا محمَّد قصَّة موسى حين قال { لأهله } في مسيرة من مدين إلى مصر ، وقد ضلَّ الطَّريق ، وأصلد زنده : { إني آنست ناراً } أبصرتها من بعيد { سآتيكم منها بخير } عن الطَّريق أين هو { أو آتيكم بشهاب قبسٍ } شعلة نار أقتبسها لكم { لعلكم تصطلون } تستدفئون من البرد .
{ فلمَّا جاءها نودي أن بورك مَنْ في النار } أَيْ : مَنْ في طلب النَّار وقصدها ، والمعنى : بورك فيك يا موسى . يقال : بورك فلانٌ ، وبورك له ، وبورك فيه { ومَنْ حولها } وفيمن حولها من الملائكة ، وهذا تحيَّةٌ من الله سبحانه لموسى وتكرمةٌ له { وسبحان الله ربِّ العالمين } تنزيهاً لله من السُّوء .
(1/652)

وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{ تهتزُّ } أَيْ : تتحرَّك { كأنَّها جانّ } حيَّةٌ خفيفةٌ { ولى مدبراً ولم يعقب } ولم يرجع ولم يلتفت قلنا : { يا موسى لا تخف } .
{ إلاَّ مَنْ ظلم } لكن مَنْ ظلم نفسه { ثمَّ بدَّل حسناً بعد سوء } أَيْ : تاب { فإني غفورٌ رحيم } . وقوله :
{ في تسع آيات } أَيْ : من تسع آيات أنت مرسلٌ بها . { إلى فرعون وقومه } . وقوله :
{ مبصرة } أَيْ : مضيئةً واضحةً .
{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم . . . } الآية . معناها : وجحدوا بها ظلماً وترفُّعاً عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنَّها من عند الله عزَّ وجلَّ .
(1/653)

وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
{ وورث سليمان داود } نبوَّته وعلمه دون سائر أولاده { وقال : يا أيُّها الناس علِّمنا منطق الطير } فهمنا ما يقوله الطَّير .
{ وحشر } وجُمع { لسليمان جنوده } في مسيرٍ له { فهم يوزعون } يُحبس أوَّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا .
{ حتى إذا أتوا على وادي النمل } كان هذا الوادي بالشَّام ، وكانت نملة كأمثال الذُّباب { لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده } لا يكسرنَّكم بأن يطؤوكم .
{ فتبسَّم } سليمان عليه السلام لمَّا سمع قولها ، وتذكَّر ما أنعم الله به عليه فقال : { ربِّ أوزعني } ألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن عمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } .
{ وتفقد الطير } طلبها وبحث عنها { فقال : ما لي لا أرى الهدهد أم كان } بل أَكان { من الغائبين } لذلك لم يره .
{ لأعذبنه عذاباً شديداً } لأنتفنَّ ريشه وألقينَّه في الشَّمس { أو ليأتيني بسلطان مبين } حجَّةٍ واضحةٍ في غيبته .
{ فمكث غير بعيدٍ } لم يطل الوقت حتى جاء الهدهد ، وقال لسليمان : { أحطتُ بما لم تحط به } علمتُ ما لم تعلمه { وجئتك من سبأ } وهي مدينةٌ باليمن { بنبأ يقين } بخبرٍ لا شكَّ فيه . وقوله :
{ وأوتيت من كلِّ شيء } أَيْ : ممَّا يُعطى الملوك { ولها عرش } سريرٌ { عظيم } .
(1/654)

أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{ ألا يسجدوا } أَيْ : لأنْ لا يسجدوا لله { الذي يخرج الخبء في السموات والأرض } القطر من السَّماء ، والنَّبات من الأرض .
(1/655)

اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
{ ثمَّ تولَّ عنهم } أَيْ : استأخر غير بعيدٍ { فانظر ماذا يرجعون } ما يردُّون من الجواب ، فمضى الهدهد ، وألقى إليها الكتاب ، ف
{ قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليَّ كتاب كريم } حسنٌ ما فيه ، ثمَّ بيَّنت ما فيه فقالت :
{ إنَّه من سليمان وإنَّه بسم الله الرحمن الرحيم } .
{ ألا تعلوعليَّ } أَيْ : لا تترفَّعوا عليَّ وإن كنتم ملوكاً { وأتوني مسلمين } طائعين مُنقادين .
{ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } بيِّنوا لي ما أعمل { ما كنت قاطعة } قاضيةً وفاصلةً { أمر حتى تشهدون } حتى تحضرون ، أَيْ : لا أقطع أمراً دونكم .
{ قالوا } مُجيبين لها : { نحن أولو قوَّة } في القتال { وأولو بأس شديد } عند الحرب { والأمر إليك } أيَّتها الملكة { فانظري ماذا تأمرين } نُطِعْك .
{ قالت : إنَّ الملوك إذا دخلوا قرية } عنوةً وغلبةً { أفسدوها } خرَّبوها { وجعلوا أعزَّة أهلها أذلة } أهانوا أشرافها بها؛ ليستقيم لهم الأمر ، أشارت إلى أنَّها لو جاءت سليمان محاربةً احتاجت إلى التَّخريب والإِفساد ، وصدَّقها الله سبحانه في قولها فقال : { وكذلك يفعلون } .
{ وإني مرسلة إليهم بهدية } أُصانعه بها وأختبره أملكٌ هو أم نبيٌّ؟ فإن كان ملكاً قبلها ، وإن كان نبيّاً لم يقبلها { فناظرة بِمَ } بأيِّ شيءٍ { يرجع المرسلون } من عنده .
{ فلما جاء } البريد أو الرَّسول { سليمان قال أتمدونني بمالٍ فما آتاني الله } من الدِّين والنُّبوَّة والحكمة { خيرٌ مما آتاكم } من الدُّنيا { بل أنتم بهديتكم تفرحون } لأنَّهم أهل مكاثرة بالدُّنيا ، ثمَّ قال للرَّسول :
{ ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم } لا طاقة لهم { بها ولنخرجنَّهم منها } من أرضهم { أذلة } ، فجاءها الرَّسول وأخبرها بما رأى وشاهد ، فتجهَّزت للمسير إلى سليمان ، فلمَّا علم سليمان عليه السَّلام بمسيرها إليه .
{ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } سريرها { قبل أن يأتوني مسلمين } لأنَّه حينئذٍ لا يحلُّ أخذ ما في أيديهم .
(1/656)

قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
{ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } سريرها { قبل أن يأتوني مسلمين } لأنَّه حينئذٍ لا يحلُّ أخذ ما في أيديهم .
{ قال عفريت من الجن } وهو المارد القويُّ : { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } من مجلسك الذي جلستَ فيه للحكم { وإني عليه } على حمله { لقويٌّ أمين } على ما فيه من الجواهر ، فقال سليمان عليه السَّلام : أريد أسرع من هذا ، ف
{ قال الذي عنده علم من الكتاب } وهو آصف بن برخيا ، وكان قد قرأ كتب الله سبحانك { أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك } قبل أن يرجع إليك الشَّخَص من منتهى طرفك { فلما رآه } رأى سليمان عليه السَّلام العرش { مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر } نعمته { أم أكفر } ها { ومَنْ شكر فإنما يشكر لنفسه } لأَنَّ نفع ذلك يعود إليه ، حيث يستوجب المزيد { ومَنْ كفر فإنَّ ربي غنيٌّ } عن شكره { كريم } بالإٍفضال على مَنْ يكفر النِّعمة .
{ قال نكروا } غيِّروا لها { عرشها } بتغيير صورته { ننظر أتهتدي } أتعلم أنَّه عرشها فتعرفه .
{ فلما جاءت قيل : أهكذا عرشك قالت كأنّه هو } شبَّهته به؛ لأنَّه كان مُغيَّراً ، وأراد سليمان أن يختبر عقلها؛ لأنَّه قيل له : إنَّ في عقلها شيئاً ، ثمَّ قالت : { وأوتينا العلم } بصحَّة نبوَّة سليمان { من قبلها } من قبل هذه الآية التي رأيتُها في إحضار العرش { وكنا مسلمين } منقادين له قبل مجيئنا .
(1/657)

وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
{ وصدَّها } ومنها [ عن ] الإيمان { ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين } فنشأت فيهم ، ولم تعرف إلاَّ قوماً يعبدون الشَّمس .
{ قيل لها ادخلي الصرح } وذلك أنَّه قيل لسليمان عليه السَّلام : إنَّ قدميها كحافر الحمار ، فأراد سليمان أن يرى قدميها ، فاتَّخذ له ساحةً من زجاجٍ تحته الماء والسَّمك ، وجلس سليمان في صدر الصَّرح ، وقيل لها : ادخلي الصَّرح { فلما رأته حسبته لجة } ماءً ، وهي معظمه { وكشفت عن ساقيها } لدخول الماء ، فرأى سليمان قدمها وإذا هي أحسن النَّاس ساقاً وقدماً ، و { قال } لها : { إنَّه صرح ممرَّد } أملس { من قوارير } ، ثمَّ إنَّ سليمان عليه السَّلام دعاها إلى الإِسلام فأجابت و { قالت : رب إني ظلمت نفسي } بالكفر { وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين } . وقوله :
{ فإذا هم فريقان } فإذا قوم صالحٍ فريقان مؤمنٌ وكافرٌ { يختصمون } يقول كلُّ فريقٍ : الحقُّ معي ، وطلبت الفرقة الكافرة على تصديق صالح عليه السَّلام العذاب ، فقال :
{ يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة } أَي : لمَ قلتم : إنْ كان ما أتيت به حقاً فأْتنا بالعذاب { لولا } هلاَّ { تستغفرون الله } بالتَّوبة من الكفر { لعلكم ترحمون } لكي ترحموا .
(1/658)

قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
{ قالوا اطيرنا بك } تشاءمنا بك { وبمن معك } وذلك إنَّهم قُحطوا بتكذيبهم ، فقالوا : أصابنا القحط بشؤمك وشؤم أصحابك ، فقال صالح عليه السَّلام : { طائركم عند الله } أَيْ : ما أصابكم من خيرٍ وشرٍّ فمن الله { بل أنتم قوم تفتنون } تختبرون بالخير والشرِّ .
{ وكان في المدينة } مدينة ثمود { تسعة رهط } كانو عتاةَ قومِ صالحٍ .
{ قالوا : تقاسموا } احلفوا { بالله لنبيتنَّه وأهله } لنأتينَّ صالحاً ليلاً ، ولنقتلنَّه وأهله { ثم لنقولنَّ } لوليِّ دمه : { ما شهدنا مهلك أهله } ما حضرنا إهلاكهم { وإنا لصادقون } في قولنا .
{ ومكروا مكراً } لتبييت صالحٍ { ومكرنا مكراً } جازيناهم على ذلك . وقوله :
{ إنَّا دمرناهم } وذلك أنَّهم لمَّا خرجوا ليلاً لإِهلاك صالحٍ دَمَغتهم الملائكة بالحجارة من حيث لا يرونهم فقتلوهم ، وقوله : { وقومهم أجميعن } إهلاك قوم ثمود بالصَّيحة .
{ فتلك بيوتهم } مساكنهم { خاوية } ساقطةً خاليةً { بما ظلموا } بكفرهم بالله سبحانه .
(1/659)

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
{ أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } تعلمون أنَّها فاحشة ، فهو أعظم لذنوبكم .
(1/660)

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
{ إنَّهم أناس يتطهرون } يتنزَّهون عن أدبار الرِّجال ، يقولونه استهزاءً . وقوله :
{ قدرناها من الغابرين } أَيْ : قضينا عليها أنَّها من الباقين في العذاب .
{ وأمطرنا عليهم } على شُذَّاذهم ومَنْ كان منهم في الأسفار { مطراً } وهو الحجارة .
{ قل } لهم يا محمد : { الحمد لله } أَيْ : على إهلاك الكفَّار من الأمم الخالية { وسلامٌ على عباده الذين اصطفى } اصطفاهم لرسالته { آلله خير أم ما يشركون } به من الأصنام ، وقوله :
{ حدائق ذات بهجة } أَيْ : بساتين ذات حسنٍ { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } أَيْ : ما قدرتم عليه { بل هم قومٌ يعدلون } يشركون .
{ أم من جعل الأرض قراراً } لا تتحرَّك { وجعل خلالها أنهاراً } وسطها أنهاراً جاريةً { وجعل لها رواسي } جبالاً ثوابت { وجعل بين البحرين } العذب والمالح { حاجزاً } مانعاً من قدرته حتى لا يختلطا .
{ أم من يجيب المضطر } المجهود ذا الضرورة { ويكشف السوء } الضُّرَّ { ويجعلكم خلفاء الأرض } سكَّانها بإهلاك مَنْ قبلكم .
(1/661)

أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{ ومن يرزقكم من السماء } المطر { و } من { الأرض } النَّبات .
(1/662)

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{ بل أدرك علمهم في الآخرة } أَيْ : لحقهم علمهم بأنَّ السَّاعة والبعث حقٌّ في الآخرة حين لا ينفعهم ذلك ، ومَنْ قرأ : { ادَّارك } فمعناه : تدارك ، أَيْ : تكامل علمهم يوم القيامة؛ لأنَّهم يبعثون ويشاهدون ما وعدوا . { بل هم في شك منها } في الدُّنيا { بل هم منها } من علمها { عمون } جاهلون .
(1/663)

وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
{ ولا تحزن عليهم } أَيْ : على تكذيبهم وإعراضهم عنك { ولا تكن في ضيق مما يمكرون } ولا تضيّق قلبك بمكرهم .
{ ويقولون متى هذا الوعد } أَيْ : وعد العذاب { إن كنتم صادقين } أنَّ العذاب نازلٌ بالمكذِّب .
{ قل عسى أن يكون ردف لكم } أَي : ردفكم ، والمعنى : تبعكم ودنا منكم { بعض الذي تستعجلون } من العذاب ، وكان ذلك يوم بدرٍ .
(1/664)

وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
{ وما من غائبة } أَيْ : جملةٍ غائبةٍ عن الخلق { إلاَّ في كتاب مبين } وهو اللَّوح المحفوظ .
{ إنَّ هذا القرآن يقصُّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون } وذلك أنَّ بني إسرائيل اختلفوا حتى لعن بعضهم بعضاً ، فقال الله سبحانه : إنَّ هذا القرآن ليقصُّ عليهم الهدى ممَّا اختلفوا فيه لو أخذوا به .
(1/665)

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
{ إنَّ ربك يقضي بينهم } بين المختلفين في الدِّين { بحكمه } يوم القيامة { وهو العزيز } القويُّ فلا يردُّ له أمرٌ { العليم } بأحوالهم .
(1/666)

إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
{ إنك لا تسمع الموتى } الكفَّار { ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } يعني : الكفَّار الذين هم بمنزلة الصُّمِّ لا يسمعون النِّداء إذا أعرضوا .
{ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } يريد : إنَّه أعماهم حتى لا يهتدوا ، فكيف يهدي النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ضلالتهم قوماً عمياً . { إن تُسمع } ما تُسمع سماع إفهام { إلاَّ مَنْ يؤمن بآياتنا } بأدلَّتنا { فهم مسلمون } في علم الله سبحانه .
{ وإذا وقع القول عليهم } وجب العذاب والسُّخط عليهم ، وذلك حين لا يقبل الله سبحانه من كافرٍ وإيمانه ، ولم يبق إلاَّ مَنْ يموت كافراً في علم الله سبحانه { أخرجنا لهم دابة من الأرض } وخروجها من أوَّل أشراط القيامة { تكلمهم } تُحدِّثهم بما يسوءهم { أنَّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } تخبر الدَّابَّة مَنْ رآها أنَّ أهل مكَّة كانوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن لا يوقنون ، ومَنْ كسر { إنَّ النَّاس } كان المعنى : تقول لهم : إنَّ الناس .
{ ويوم نحشر } نجمع { من كلِّ أمة فوجاً } جماعةً { ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون } يحبس أوَّلهم على آخرهم ليجتمعوا .
{ حتى إذا جاؤوا قال } الله تعالى لهم : { أكذَّبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً } ولم تعرفوها حقَّ معرفتها ، وهذا توبيخٌ لهم { أم ماذا كنتم تعملون } حين لم تتفكَّروا فيها .
{ ووقع القول } وجبت الحُجَّة { عليهم بما ظلموا } بإشراكهم { فهم لا ينطقون } بحجَّةٍ وعذرٍ ، ثمَّ ذكر الدَّليل على قدرته وإلهيتَّه سبحانه وتعالى ، فقال :
{ ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً إنَّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } .
(1/667)

وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{ إلاَّ مَنْ شاء الله } يعني : الشّهداء { وكلٌّ أتوه } يأتون الله سبحانه { داخرين } صاغرين .
{ وترى الجبال تحسبها جامدة } واقفةً مُستقرَّةً { وهي تمرُّ مرَّ السحاب } وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ عظيمٌ ، وكلَّ جمع كثيرٌ يقصر عنه الطَّرف لكثرته فهو في حسبان النَّاظر واقفٌ وهو يسير { صنع الله } أَيْ : صنع الله ذلك صنعه { الذي أتقن } أحكم { كلَّ شيء } .
{ من جاء بالحسنة } وهي كلمة لا إله إلاَّ الله { فله خيرٌ منها } فمنها يصل إليه الخير { ومَنْ جاء بالسيئة } الشِّرك { فَكُبَّت } أُلقيت وطُرحت { وجوههم في النار } وقيل لهم : { هل تجزون إلاَّ ما كنتم } بما كنتم { تعملون } .
قل يا محمَّد : { إنما أمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة } يعني : مكَّة { الذي حرَّمها } جعلها حرماً آمناً { وله كلُّ شيء } مِلكاً وخلقاً . وقوله :
{ ومن ضلَّ فقل إنما أنا من المنذرين } أَيْ : ليس عليَّ إلاَّ البلاغ .
{ وقل الحمد لله سيريكم آياته } أيُّها المشركون . يعني : يوم بدر { فتعرفونها وما ربك بغافل بما تعملون } .
(1/668)

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
{ طسم } .
{ تلك آيات الكتاب المبين } يعني : القرآن ، وهو مبينٌ للأحكام .
{ تتلو } نقصُّ { عليك من نبأ موسى } خبر موسى { وفرعون بالحق } بالصِّدق الذي لا شكَّ فيه { لقوم يؤمنون } يُصدِّقون أنَّ ما يأتيهم به صدقٌ .
{ إنَّ فرعون علا } استكبر وتعظَّم { في الأرض } أرض مصر { وجعل أهلها شيعاً } فرقاً تتبع بعض تلك الفرق بعضاً في خدمته { يستضعف طائفة منهم } وهم بنو إسرائيل .
{ ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض } ننعم على بني إسرائيل { ونجعلهم أئمّة } قادةً في الخير { ونجعلهم الوارثين } يرثون ملك فرعون وقومه . وقوله :
{ ونمكن لهم في الأرض } أرض مصر والشَّام حتى يغلبوا عليها من غير مُنازعٍ { ونُرِيَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } وذلك أنَّهم كانوا قد أُخبروا أنَّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل ، فكانوا على وجلٍ منهم .
{ وأوحينا إلى أم موسى } قيل : إنَّه وحي إلهام . وقيل : وحي إعلام .
{ فالتقطه } أخذه { آل فرعون } عن الماء { ليكون لهم عدواً وحزناً } أَيْ : ليصير الأمر إلى ذلك { إنَّ فروعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } أَيْ : عاصين آثمين .
{ وقالت امرأة فرعون قرة عين } أَيْ : هو قرَّة عين لي { ولك لا تقتلوه } فإنَّه أتانا به الماء من أرضٍ أخرى ، وليس هو من بني إسرائيل { وهم لا يشعرون } بما هو كائنٌ من أمرهم وأمره .
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } خالياً عن كلِّ شيء إلاَّ عن ذكر موسى وهمِّه { إن كادت لتبدي به } بأنَّه ابنها { لولا أن ربطنا على قلبها } قوَّينا قلبها وألهمناها الصَّبر { لتكون من المؤمنين } المُصدِّقين بوعد الله سبحانه .
(1/669)

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
{ وقالت لأخته } لأخت موسى { قصته } اتَّبعي أثره ، فاتَّبعته { فبصرت به عن جنب } أبصرته من بعيدٍ { وهم لا يشعرون } أنَّها أخته .
{ وحرَّمنا عليه المراضع } منعنا موسى أن يقبل ثدي مرضعةٍ { من قبل } أن نردَّه على أُمَّه { فقالت } أخته حين تعذَّر عليهم رضاعة : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } يضمُّونه إليهم { وهم له ناصحون } مخلصون شفقته .
{ فرددناه إلى أمه } وذلك أنَّها دلَّتهم على أمِّ موسى ، فَدُفِعَ إليها تُربِّيه لهم . وقوله : { ولكن أكثرهم لا يعلمون } آل فرعون كانوا لا يعلمون أنَّ الله وعدها ردَّه عليها .
{ ولما بلغ أشدَّه } منتهى قوَّته ، وهو ما فوق الثَّلاثين { واستوى } وبلغ أربعين سنةً { آتيناه حكماً } عقلاً وفهماً { وعلماً } قبل النُّبوَّة .
{ ودخل المدينة } يعني : مدينةً بأرض مصر { على حين غفلة من أهلها } فيما بين المغرب والعشاء { فوجد فيها رجلين يقتتلان } أحدهما إسرائيليٌّ ، وهو الذي من شيعته ، والآخر قبطيٌّ ، وهو الذي من عدوه { فاستغاثه } الإِسرائيلي على الفرعونيِّ { فوكزه موسى } ضربه بجميع كفِّه { فقضى عليه } فقتله ولم يتعمَّد قتله ، فندم على ذلك لأنَّه لم يُؤمر بقتله ف { قال هذا من عمل الشيطان إنَّه عدوٌّ مضلٌّ مبين } ثمَّ استغفر فقال :
{ ربِّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } .
(1/670)

قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
{ قال رب بما أنعمت عليَّ } بالمغفرة { فلن أكون ظهيراً للمجرمين } لن أُعين بعدها على خطيئة .
{ فأصبح في } تلك { المدينة خائفاً } من قتله القبطيَّ { يترقب } ينتظر الأخبار { فإذا } الإسرائيليُّ { الذي استنصره بالأمس يستصرخه } يستغيثه . { قال له موسى : إنك لغويٌّ مبين } ظاهر الغواية ، قد قتلتُ بك بالأمس رجلاً ، وتدعوني إلى آخر ، وأقبل إليهما ، [ { فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدوٌّ لهما } أَيْ : بالقبطِيِّ ] ، فظنَّ الذي من شيعته أنَّه يريده ، فقال :
{ أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريدإلا أن تكون جباراً في الأرض } تقتل ظلماً ، فلمَّا قال الإِسرائيلي هذا علم القبطيُّ أنَّه قاتل القبطيِّ بالأمس ، فأتى فرعون فأخبره بذلك ، فأمر فرعون بقتل موسى ، فأتاه رجلٌ فأخبره بذلك ، وهو قوله :
{ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } وهو مؤمن آل فرعون { قال يا موسى إنَّ الملأ يأتمرون بك } يأمر بعضهم بعضاً يتشاورون { ليقتلوك فاخرج } من هذه المدينة { إني لك من الناصحين } .
{ فخرج منها خائفاً يترقب } ينتظر الطَّلب { قال : ربّ نجني من القوم الظالمين } قوم فرعون .
(1/671)

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{ ولما توجَّه } قصد بوجهه { تلقاء مدين } نحوها { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } قصد الطَّريق ، وذلك أنَّه لم يكن يعرف الطَّريق .
{ ولما ورد ماء مدين } وهو بئرٌ لهم { وجد عليه أمة } جماعةً { من الناس يسقون } مواشيهم { ووجد من دُونِهمُ امرأتين تذودان } تحسبان غنمهما عن الماء حتى يصدر مواشي النَّاس { قال } موسى لهما : { ما خطبكما } ؟ ما شأنكما لا تسقيان مع النَّاس؟ { قالتا لا نسقي } مواشينا { حتى يصدر الرعاء } عن الماء ، لأنا لا نطيق أن نستقي وأن نُزاحم الرِّجال ، فإذا صدروا سقينا من فضل مواشيهم { وأبونا شيخ كبير } لا يمكنه أن يرد وأن يستقي .
{ فسقى لهما } أغنامهما من بئرٍ أخرى رفع عنها حجراً كان لا يرفعه إلاَّ عشرة أنفس { ثمَّ تولى إلى الظلّ } أَيْ : إلى ظلِّ شجرةٍ { فقال ربِّ إني لما أنزلت إليَّ من خير } طعامٍ { فقير } محتاجٌ ، وكان قد جاع فسأل الله تعالى ما يأكل ، فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بما فعل موسى ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه ، فذلك قوله :
{ فجاءته إحداهما } أخذت { تمشي على استحياء } مُستترةً بكُمِّ درعها { قالت : إنَّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقصَّ عليه القصص } أخبره بأمره والسَّبب الذي أخرجه من أرضه { قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين } يعني : من فرعون وقومه؛ فإنَّه لا سلطان له بأرضنا .
(1/672)

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{ قالت إحداهما يا أبت استأجره } ليرعى أغنامنا { إنَّ خير من استأجرت القويُّ الأمين } وإنَّما قالت ذلك لأنَّها عرفت قوَّته برفع الحجر من رأس البئر ، وأمانته بأنَّ موسى قال لها لمَّا دعته إلى أبيها : امشي خلفي ، فإنَّا بني يعقوب لا ننظر إلى أعجاز النِّساء .
{ قال } عند ذلك الشِّيخ لموسى : { إني أريد أن أنكحك } أزوِّجك { إحدى ابنتيَّ هاتين على أن تأجرني } تكون أجيراً لي { ثماني حجج } سنين { فإن أتممت عشراً فمن عندك } وليس بواجبٍ عليك { وما أريد أن أشقَّ عليك } بأن اشترط العشر { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } الوافين بالعهد .
{ قال } موسى : { ذلك } الذي وصفت { بيني وبينك } أَيْ : لك ما شرطتَ عليَّ ولي ما شرطتُ من تزويج إحداهما . { أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ } لا ظلم عليَّ بأن أُطالب بأكثر منه { والله على ما نقول وكيل } والله شاهدنا على ما عقدنا .
(1/673)

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
{ فلما قضى موسى الأجل } مفسَّر فيما مضى إلى قوله : { أو جذوة من النار } قطعةٍ وشعلةٍ من النَّار .
{ فلما أتاها نودي من شاطىء } جانب { الوادي الأيمن } من يمين موسى { في البقعة } في القطعة من الأرض { المباركة } بتكليم الله سبحانه فيها موسى عليه السَّلام ، وإتيانه النُّبوَّة { من الشجرة } من جانب الشَّجرة { أن يا موسى إني أنا الله ربُّ العالمين } والباقي مفسَّرٌ فيما سبق .
(1/674)

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{ واضمم إليك جناحك } أَيْ : يدك { من الرهب } من الخوف ، والمعنى : سكِّن روعك واخفض عليك جنبيك ، وذلك أنه كان يرتعد خوفاً { فذانك } اليد والعصا { برهانان من ربك . . . } الآية .
(1/675)

وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{ ردءاً } أَيْ : مُعيناً .
{ قال : سنشدُّ عضدك } أَيْ : نُقوِّيك { بأخيك ونجعل لكما سلطاناً } حُجَّةً بيِّنة { فلا يصلون إليكما } بسوءٍ ، { بآياتنا } العصا واليد ، وسائر ما أُعطيا .
(1/676)

وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
{ وقال موسى } لمَّا كُذِّب ونُسب إلى السِّحر : { ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } يعني : نفسه ، أَيْ : ربِّي أعلم بي أنَّ الذي جئتُ به من عنده { ومن تكون له عاقبة الدار } أَيْ : العقبى المحمودة في الدَّار الآخرة ، وقوله :
{ فأوقد لي يا هامان على الطين } أَيْ : اطبخ لي الآجر { فاجعل لي صرحاً } بناء طويلاً مشرفاً { لعلي أطلع إلى إله موسى } أنظر إليه وأقف عليه .
(1/677)

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
{ وجعلناهم أئمة } قادةً ورؤساء { يدعون إلى النار } أَيْ : إلى الضَّلالة التي عاقبتها النَّار .
{ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً } وذلك أنَّهم لمَّا هلكوا لُعنوا ، فهم يُعرضون على النار غدوةً وعشيةً إلى يوم القيامة { ويوم القيامة هم من المقبوحين } الممقوتين المهلكين .
(1/678)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
{ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس } أَيْ : مبيِّناً لهم .
{ وما كنت بجانبي الغربيّ } أَيْ : الجبل الغربيّ الذي هو في جانب الغرب { إذ قضينا إلى موسى الأمر } أحكمناه معه ، وعهدنا إليه بأمرنا ونهينا { وما كنت من الشاهدين } الحاضرين هناك .
{ ولكنا أنشأنا } أحدثنا وخلقنا { قروناً } أمماً { فتطاول عليهم العمر } فنسوا عهد الله وتركوا أمره . { وما كنت ثاوياً } مُقيماً { في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين } أرسلناك رسولاً وأنزلنا عليك هذه الأخبار ، ولولا ذلك ما علمتها .
{ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } موسى { ولكن } أوحينا إليك هذه القصص { رحمة من ربك } .
{ ولولا أن تصيبهم مصيبة } عقوبةٌ ونقمةٌ { بما قدَّمت أيديهم } وجواب " لولا " محذوف ، تقديره : لعاجلناهم بالعقوبة .
{ فلما جاءهم الحق } محمد صلى الله عليه وسلم { من عندنا قالوا : لولا أوتي } محمد { مثل ما أوتي موسى } كتاباً جملةً واحدةً { أَوَلَمْ يكفروا بما أوتي موسى من قبل } أَيْ : فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمَّد صلى الله عليه وسلم و { قالوا ساحران تظاهرا } وذلك حين سألوا اليهود عنه فأخبروهم أنَّهم يجدونه في كتابهم بنعته وصفته ، وقالوا : ساحران تظاهرا . يعنون : موسى ومحمداً عليهما السَّلام تعاونا على السِّحر { وقالوا إنَّا بكلٍّ } من موسى ومحمدٍ عليهما السَّلام { كافرون } .
{ قل } لهم : { فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } من كتابيهما { أتبعه أن كنتم صادقين } أَنَّهما كانا ساحرين .
{ فإن لم يستجيبوا لك } أَيْ : لم يجيبوك إلى الإِتيان بالكتاب { فاعلم أنَّما يتبعون أهواءهم } أَيْ : يُؤثرون هواهم على الدِّين .
{ ولقد وصلنا لهم القول } أنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً { لعلهم يتذكرون } يتَّعظون ويعتبرون .
{ الذين آتيناهم الكتاب من قبله } من قبل محمد صلى الله عليه وسلم { هم به يؤمنون } يعني : مؤمني أهل الكتاب .
{ وإذا يُتلى عليهم } القرآن { قالوا آمنا به } صدَّقنا به { إنَّه الحقُّ من ربنا } وذلك أنَّهم عرفوا بما ذُكر في كتبهم من نعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكتابه { إنَّا كنا من قبله } من قبل القرآن ، أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم { مسلمين } لأنَّا كنَّا نؤمن به وبكتابه .
(1/679)

أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
{ أولئك يؤتون أجرهم مرتين } مرَّةً بإيمانهم بكتابهم ، ومرَّةً بإيمانهم بالقرآن { بما صبروا } بصبرهم على ما أُوذوا { ويدرؤون بالحسنة السيئةَ } ويدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدَّم لهم من السَّيئات { ومما رزقناهم ينفقون } يتصدَّقون .
{ وإذا سمعوا اللغو } القبيح من القول { أعرضوا عنه } لم يلتفتوا إليه . يعني : إذا شتمهم الكفَّار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشَّتم { وقالوا : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } ليس هذا تسليم التحيَّة ، وإنَّما هو تسليم المُتاركة ، أَيْ : بيننا وبينكم المتاركة والتَّسليم ، وهذا قبل أن يُؤمر المسلمون بالقتال { لا نبتغي الجاهلين } لا نصحبهم .
{ إنك لا تهدي مَنْ أحببت } نزلت حين حرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على إيمان عمِّه عند موته ، فلم يؤمن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى : لا تهدي مَنْ أحببت هدايته { ولكنَّ الله يهدي من يشاء } هدايته { وهو أعلم بالمهتدين } بمن يهتدي في معلومه .
{ وقالوا } يعني : مشركي مكَّة : { إن نتبع الهدى معك } بالإِيمان بك { نُتخطف } نُسلب ونُؤخذ { من أرضنا } لإِجماع العرب على خلافنا ، فقال الله تعالى : { أَوَلَمْ نمكن لهم حرماً آمناً } أخبر سبحانه أنَّه آمنهم بحرمة البيت ، ومنع منهم العدوَّ ، فكيف يخافون أن تسحتلَّ العرب قتالهم فيه؟ { يجبى } يُجمع . { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنَّ ذلك ممَّا تفضَّل الله به سبحانه عليهم .
{ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } عاشوا في البطر وكفران النِّعمة { فتلك مساكنهم } خاويةً { لم تسكن من بعدهم إلاَّ قليلاً } لا يسكنها إلاَّ المسافر والمارُّ يوماً أو ساعةً .
{ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها } أعظمها ، الآية .
(1/680)

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{ أفمن وعدناه وعداً حسناً } يعني : الجنَّة { فهو لاقيه } مُدركه ومُصيبه { كمَنْ متعناه متاع الحياة الدنيا ثمَّ هو يوم القيامة من المحضرين } في النَّار . نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل .
{ ويوم يناديهم } أَيْ : المشركين { فيقول : أين شركائي الذين كنتم تزعمون } في الدُّنيا أنَّهم شركائي .
{ قال الذين حقَّ عليهم القول } وجب عليهم العذاب يعني : الشَّياطين { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } كعادة الشَّيطان في التَّبَرُّؤِ ممَّن يطيعه إذا أورده الهلكة .
(1/681)

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
{ وقيل } للكفَّار : { ادعوا شركاءَكم } مَنْ كنتم تعبدون من دون الله { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } لم يجيبوهم بشيءٍ ينفعهم { ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون } لما اتَّبعوهم ولما رأوا العذاب .
{ ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم المرسلين } .
{ فعميت عليهم الأنباء } عميت عليهم الحجج؛ لأنَّ الله تعالى قد أعذر إليهم في الدُّنيا ، فلا تكون لهم حُجَّةٌ يومئذٍ ، فسكتوا فذلك قوله : { فهم لا يتساءلون } أَيْ : لا يسأل بعضهم بعضاً عمَّا يحتجُّون به .
(1/682)

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{ وربك يخلق ما يشاء } كما يشاء { ويختار } ممَّا يشاء ما يشاء ، فاختار من كلِّ ما خلق شيئاً { ما كان لهم الخيرة } ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى ، وليس لهم الاختيار ، والمعنى : لا يرسل الرُّسل إليهم على اختيارهم ، والباقي ظاهرٌ إلى قوله :
{ ونزعنا من كلِّ أمة } أَيْ : أخرجنا { شهيداً } يعني : رسولهم الذي أُرسل إليهم { فقلنا هاتوا برهانكم } أَيْ : ما اعتقدتم به أنّه برهانٌ لكم في أنَّكم كنتم على الحقِّ { فعلموا أنَّ الحق لله } أنَّ الحقَّ ما دعا إليه الله سبحانه ، وأتاهم به الرَّسول صلى الله عليه وسلم { وضلَّ عنهم ماكانوا يفترون } لم ينتفعوا بما عبدوه من دون الله سبحانه .
{ إنَّ قارون كان من قوم موسى } كان ابن عمِّه . { فبغى عليهم } بالكبر والتجبُّر والبذخ وكثرة المال { وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه } جمع المفتح ، وهو ما يُفتح به { لتنوء بالعصبة } تُثقل الجماعة { أولي القوة } { إذ قال له قومه : لا تفرح } بكثرة المال ولا تأشر { إنَّ الله لا يحبُّ الفرحين } الأشرين البطرين .
{ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } أَيْ : اطلبها بإنفاق مالك في رضا الله تعالى { ولا تنس نصيبك من الدنيا } لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك { وأحسن } إلى الناس { كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض } العمل بالمعاصي .
{ قال إنما أوتيته على علمٍ عندي } على فضل علمٍ عندي ، وكنت بذلك العلم مُسحقَّاً لفضل المال ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتَّوراة . قال الله تعالى : { أو لم يعلم أنَّ الله قد أهلك من قبله من القرون مَنْ هو أشدُّ منه قوة وأكثر جمعاً } للمال منه { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } لأنَّهم يدخلون النَّار بغير حسابٍ .
(1/683)

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
{ فخرج على قومه في زينته } في ثيابٍ حمرٍ عليه وعلى دوابِّه ، والرُّكبان الذين معه { قال الذين يردون الحياة الدنيا } ظاهرٌ إلى قوله :
{ ولا يلقاها } أَيْ : ولا يُلقَّن ولا يُوفَّق لهذه الكلمة { إلاَّ الصابرون } عن زينة الدُّنيا .
(1/684)

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } صار الذين كانوا يقولون : " يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون " { يقولون : ويكأنَّ الله } ألم تر ألم تعلم أن { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } يُوسِّع لن يشاء ويُضيِّق { لولا أنْ منَّ الله علينا } عصمنا عن مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي { لخسف بنا } كما خُسف به .
{ تلك الدار الآخرة } يعني : الجنَّة { نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض } تكبُّراً وتجبُّراً فيها { ولا فساداً } عملاً بالمعاصي وأخذاً للمال بغير حقٍّ { والعاقبة } المحمودة { للمتقين } .
(1/685)

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{ إن الذي فرض عليك القرآن } أنزله . وقيل : فرض عليك العمل بما في القرآن { لرادُّك إلى معاد } إلى مكَّة ظاهراً عليها ، وذلك حين اشتاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مولده .
{ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلاَّ رحمة من ربك } لكن رحمك ربُّك ، فاختارك للنُّبوَّة ، وأنزل عليك الوحي .
{ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك } وهذا حين دُعي إلى دين آبائه . وقوله :
{ كل شيء هالك إلاَّ وجهه } أَيْ : إلاَّ إيَّاه { له الحكم } يحكم بما يريد { وإليه ترجعون } .
(1/686)

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
{ الم } .
{ أحسب الناس أن يتركوا . . . } اية . نزلت في الذين جزعوا من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين . معناه : أحسبوا أن يُقنع منهم بأن يقولوا : إنَّا مؤمنون فقط ، ولا يُمتحنون بما يُبيِّن حقيقة إيمانهم .
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم } اختبرنا وابتلينا { فليعلمنَّ الله } صِدقَ { الذين صدقوا } في قولهم : آمنَّا ، بوقوعه منهم ، وهو الصَّبر على البلاء { وليعلمنَّ } كذب { الكاذبين } في قولهم : آمنَّا ، بارتدادهم إلى الكفر عن الدِّين عند البلاء ، ومعنى العلم ها هنا العلم به موجوداً كائناً .
{ أم حسب الذين يعملون السيئات } الشِّرك { أن يسبقونا } يفوتونا { ساء ما يحكمون } بئس حكماً يحكمون لأنفهسم بهذا الظَّنِّ .
{ من كان يرجو لقاء الله } يخشى البعث { فإنَّ أجل الله } وعده بالثَّواب والعقاب { لآتٍ } لكائن .
(1/687)

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
{ ولنجزينَّهم أحسن الذي كانوا يعملون } أَيْ : بأحسن أعمالهم ، وهو الطَّاعة .
{ ووصينا الإِنسان بوالديه حسناً } أمرناه أن يُحسن إليهما { وإن جاهداك } اجتهدا عليك { لتشرك بي ما ليس لك به علم } أنَّه لي شريك { فلا تطعهما } أُنزلت في سعد بن أبي وقَّاص لمَّا أسلم ، حلفت أمُّه أن لا تأكل ولا تشرب ، ولا يظلُّها سقف بيت حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويرجع إلى ما كان عليه ، فأُمر أن يترضَّاها ويُحسن إليها ، ولا يُطيعها في الشِّرك . وقوله :
{ لندخلنَّهم في الصالحين } أَيْ : في زمرتهم وجملتهم ، ومعناه : لنحشرنَّهم معهم . وقوله :
{ جعل فتنة الناس } أَيْ : أذاهم وعذابهم { كعذاب الله } جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ، ولا يصبر على الأذيَّة في الله . { ولئن جاء } المؤمنين { نصرٌ من ربك ليقولنَّ } هؤلاء الذين ارتدُّوا حين أُوذوا : { إنا كنَّا معكم } وهم كاذبون ، فقال الله تعالى : { أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } يعني : إنَّه علامٌ بإيمان المؤمن وكفر الكافر .
{ وليعلمنَّ الله الذين آمنوا وليعلمنَّ المنافقين } هذا إخبارٌ عن الله تعالى أنَّه يعلم إيمان المؤمن ونفاق المنافق .
{ وقال الذين كفروا } من أهل مكَّة { للذين آمنوا : اتبعوا سبيلنا } الطَّريق الذي نسلكه في ديننا { ولنحمل خطاياكم } أَيْ : إن كان فيه إثمٌ فنحن نحمله ، قال الله تعالى : { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } يخفِّف عنهم العذاب { إنهم لكاذبون } في قولهم؛ لأنَّهم في القيامة لا يحملون عنهم خطاياهم ، ثمَّ أعلم الله عزَّ وجلَّ أنَّهم يحملون أوزار أنفسهم ، وأثقالاً أخرى بسبب إضلالهم مع أثقال أنفسهم؛ لأنَّ مَنْ دعا إلى ضلالةٍ فاتُّبع فعليه مثل أوزار الذين اتَّبعوه ، ثمَّ ذكر أنَّه يُوبِّخهم على ما قالوا فقال : { وليسألنَّ يوم القيامة عما كانوا يفترون } أَيْ : سؤال توبيخٍ .
(1/688)

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
{ وتخلقون إفكاً } أَيْ : تقولون كذباً : إنَّ الأوثان شركاء الله .
(1/689)

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{ أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده } كما بدأ ، وليس المعنى : على أو لم يروا كيف يعيده؛ لأنَّهم لم يروا الإِعادة .
{ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } يعني : الأمم الماضية ، كيف قدر الله سبحانه على خلقهم ابتداءً { ثمَّ الله ينشىء النشأة الآخرة } أيْ : يبعثهم ثانيةً بإنشائه إيَّاهم .
(1/690)

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
{ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } لو كنتم فيها ، ثمَّ عاد الكلام إلى قصَّة إبراهيم عليه السَّلام .
(1/691)

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{ فما كان جواب قومه } حين دعاهم إلى الله سبحانه { إلاَّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه . . . } الآية .
{ وقال } لهم إبراهيم : { إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم } أَيْ : ليتوادُّوا بها ، فهي مودَّة بينكم ما دمتم في هذه الدَّنيا ، ثمَّ تنقطع ولا تنفع في الآخرة ، وهو قوله تعالى : { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } تتبرَّأُ الأوثان من عابديها . وقوله تعالى :
{ فآمن له لوط } هو أوَّل مَنْ آمن بإبراهيم عليه السَّلام { وقال إني مهاجر إلى ربي } هاجر من سواد الكوفة إلى الشَّام .
{ وآتيناه أجره في الدنيا } قيل : هو الذِّكر الحسن . وقيل : هو الولد الصَّالح .
(1/692)

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
{ وتقطعون السبيل } أَيْ : سبيل الولد . وقيل : يأخذون النَّاس من الطُّرق لطلب الفاحشة { وتأتون في ناديكم } مجلسكم { المنكر } كان بعضهم يُجامع بعضاً في مجالسهم { فما كان جواب قومه إلاَّ أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصَّادقين } أنًّه نازلٌ بنا .
(1/693)

وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
{ ولقد تركنا منها } من قرية قوم لوط { آية بينة } عبرةً ظاهرةً ، وهي خرابها وآثارها .
(1/694)

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
{ وكانوا مستبصرين } أَيْ : في ضلالتهم معجبين بها . وقيل : حسبوا أنَّهم على الهدى ، وهم علىالباطل . وقيل : أتوا ما أتوه وقد بيِّن لهم أنَّ عاقبته العذاب .
(1/695)

فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{ فكلاً } من الكفَّار { أخذنا } عاقبنا { بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً } وهم قوم لوط { ومنهم من أخذته الصيحة } قوم ثمود { ومنهم مَنْ خسفنا به الأرض } قارون وقومه { ومنهم من أغرقنا } قوم نوح وفرعون { وما كان الله ليظلمهم } لأنَّه قد بيَّن لهم بإرسال الرَّسول { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بكفرهم .
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } يعني : الأصنام في قلَّة غنائها عنهم { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } لا يدفع عنها حراً ولا برداً { وإنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت } وذلك أنَّه لا بيت أضعف منه فيما يتَّخذه الهوامُّ . { لو كانوا يعلمون } موضعَه عند قوله : مثلُ الذين اتخذوا من دونه أولياء لو كانوا يعلمون كمثل العنكبوت ، فهو مؤخَّر معناه التَّقديم .
(1/696)

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
{ إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } يعني : إنَّ في الصَّلاة منهاةً ومزدجراً عن معاصي الله تعالى ، فمن لم تنهه صلاته عن المنكر فليست صلاته بصلاةٍ { ولذكر الله أكبر } من كلِّ شيء في الدُّنيا وأفضل .
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن } وهو الجميل من القول بالدُّعاء إلى الله عزَّ وجلَّ ، والتَّنبيه على الحجج { إلاَّ الذين ظلموا منهم } أَيْ : إلاَّ الذين ظلموكم بالقتال ومنع الجزية .
{ وكذلك } أَيْ : وكما آتيناهم الكتاب { أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به } بمحمد صلى الله عليه وسلم . يعني : مَنْ كانوا قبل عصره كانوا يؤمنون به لما يجدونه من نعته في كتابهم { ومن هؤلاء } الذين هو بين ظهرانيهم { مَنْ يؤمن به } .
{ وما كنت تتلو من قبله } من قبل هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك { من كتابٍ ولا تخطُّه } ولا تكتبه { بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } لشكُّوا فيك واتَّهموك لو كنت تكتب . وأراد بالمبطلين كفَّار قريش ، يعني : لقالوا : إنَّه كتبه وتعلَّمه من كتاب .
{ بل هو } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم والعلم بأنَّه أُمِّيٌّ { آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } من أهل الكتاب ، قرؤوها من التَّوراة وحفظوها .
(1/697)

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
{ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربِّه } كما أُنزل على مَنْ قبله من الأنيباء { قل إنما الآيات عند الله } إذا شاء أرسلها ، وليست بيدي .
{ قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً } يشهد على صديقي وعلى تكذيبكم .
(1/698)

يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
{ ويقول : ذوقوا ما كنتم تعملون } أَيْ : جزاءه من العذاب .
{ يا عبادي الذين آمنوا إنَّ أرضي واسعة } نزلت في حثِّ مَنْ كانوا بمكَّة لا يقدرون على إظهار دينهم على الهجرة .
{ كلُّ نفس ذائقة الموت } أينما كانت ، فلا تُقيموا بدار الشِّرك . وقوله :
{ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ من الجنة غرفاً } أَيْ : ولننزلنَّهم منها قصوراً .
(1/699)

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
{ وكأين } وكم { من دابَّة لا تحمل رزقها } فتخبئه لغدٍ { الله يرزقها } يوماً بيوم { وإياكم } وذلك أنَّ الذين كانوا بمكَّة من المؤمنين إذا قيل لهم اخرجوا إلى المدينة قالوا : فمَنْ يُطعمنا بها ، ولا مال لنا هنالك ، فأنزل الله تعالى : { الله يرزقها وإياكم } .
(1/700)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
{ ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولنَّ الله قل الحمد لله } على إنزاله الماء لإِحياء الأرض { بل أكثرهم لا يعقلون } العقل الذي يعرفون به الحقَّ من الباطل .
{ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب } لنفادها عن قريب { وإنَّ الدار الآخرة لهي الحيوان } الحياة الدَّائمة { لو كانوا يعلمون } أنَّها كذلك ، ولكنَّهم لا يعلمون .
{ فإذا ركبوا في الفلك } وخافوا الغرق { دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } .
{ ليكفروا بما آتيناهم } أَيْ : ليجحدوا بما أنعمنا عليهم من إنجائهم ، والظَّاهر أنَّ هذ لام الأمر ، أمر التَّهديد ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وليتمتعوا فسوف يعلمون } .
{ أَوَلَمْ يروا } يعني : أهل مكَّة { أنا جعلنا حرماً آمناً } ذا أمنٍ لا يُغار على أهله { ويتخطف الناس من حولهم } بالقتل والنَّهب والسَّبي { أفبالباطل يؤمنون } يعني : الأصنام { وبنعمة الله } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن { يكفرون } .
(1/701)

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{ والذين جاهدوا فينا } أعداء الدِّين والكفَّار { لنهدينَّهم سبلنا } سبل الشًّهادة والمغفرة . وقيل : من اجتهد في عملٍ لله زاده الله تعالى هدىً على هدايته { وإنَّ الله لمع المحسنين } بنصره إيَّاهم .
(1/702)

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
{ الم } .
{ غلبت الروم } غلبتها فارس { في أدنى الأرض } أدنى أرض الشَّام من أرض العرب وفارس ، وهي أذرعات وعسكر . { وهم } والرُّوم { من بعد غلبهم } غلبة فارس إيَّاهم { سيغلبون } فارس .
{ في بضع سنين } البضع : ما بين الثّلاث إلى التِّسع . { لله الأمر من قبل } من قبل أن تغلب الرُّوم { ومن بعد } ما غلبت . { ويومئذٍ يفرح المؤمنون } يوم تغلب الرُّومُ فارسَ يفرح المؤمنون { بنصر اللَّهِ } الرُّوم؛ لأنَّهم أهل كتاب ، فهم أقرب إلى المؤمنين ، وفارس مجوس فكانوا أقرب إلى المشركين ، فالمؤمنون يفرحون بنصر الله الرُّوم على فارس ، والمشركون يحزنون لذلك .
(1/703)

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ وعد الله } وعد ذلك وعداً { ولكنَّ أكثر الناس } يعني : مشركي مكَّة { لا يعلمون } ذلك ، ثمَّ بيَّن مقدار ما يعلمون فقال :
{ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } يعني : أمر معاشهم ، وذلك أنَّهم كانوا أهل تجارة تكسُّب بها .
{ أو لم يتفكروا في أنفسهم } فيعلموا { ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق } أَيْ : للحقِّ ، وهو الدّلالة على توحيده وقدرته { وأجل مسمى } ووقتٍ معلومٍ تفنى عنده . يعني : يوم القيامة . وقوله :
{ وأثاروا الأرض } أَيْ : قلبوها للزِّراعة { وعمروها أكثر مما عمروها } يعني : إنَّ الذين أُهلكوا من الأمم الخالية كانوا أكثر حرثاَ وعمارةً من أهل مكَّة .
{ ثم كان عاقبة الذين أساؤوا } أشركوا { السوأى } النَّار { أن كذَّبوا } بأن كذَّبوا .
(1/704)

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
{ يبلس المجرمون } أَيْ : يسكتون لانقطاع حجَّتهم ، وليأسهم من الرَّحمة .
{ ولم يكن لهم من شركائهم } أوثانهم التي عبدوها رجاء الشَّفاعة { شفعاء وكانوا بعبادتهم كافرين } قالوا : ما عبدتمونا ، وقوله :
{ يؤمئذ يتفرَّقون } يعني : المؤمنين والكافرين ، ثمَّ بيَّن كيف ذلك التَّفرُّق فقال :
{ فأمَّا قال آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون } أَي : يسمعون في الجنَّة .
(1/705)

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
{ فسبحان الله } فصلُّوا لله سبحانه { حين تمسون } يعني : صلاة المغرب والعشاء الآخرة { وحين تصبحون } صلاة الفجر { وعشياً } يعني : صلاة العصر { وحين تظهرون } يعني : صلاة الظُّهر .
(1/706)

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
{ ومن آياته أن خلقكم من تراب } يعني : أباكم آدم { ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } يعني : ذريته .
{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم } : من جنسكم { أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } يعني : الأُلفة بين الزَّوجين .
{ ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم } وأنتم بنو رجلٍ واحدٍ ، وامرأةٍ واحدةٍ .
(1/707)

وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
{ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } أَي : اللَّيل لتناموا فيه ، والنَّهار لتبتغوا فيه من فضله .
{ ومن آياته يريكم البرق خوفاً } للمسافر { وطعماً } للحاضر . وقوله :
{ ثمَّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } ثم إذا دعاكم دعوة ، إذا أنتم تخرجون من الأرض ، هكذا تقدير الآية على التَّقديم والتأخير . وقوله :
{ كلٌّ له قانتون } أَيْ : مُطيعون ، لا طاعة العبادة ولكن طاعة الإرادة ، خلقهم على ما أراد فكانوا على ما أراد ، لا يقدر أحدٌ أن يتغيَّر عمَّا خُلق عليه . وقوله :
{ وهو أهون عليه } أَيْ : هيِّنٌ عليه . وقيل : هو أهون عليه عندكم وفيما بينكم؛ لأَنَّ الإِعادة عندنا أيسر من الابتداء { وله المثل الأعلى } الصِّفة العليا ، وهو أنَّه لا إله إلاَّ هو ولا ربَّ غيره .
{ ضرب لكم مثلاً } بيَّن لكم شبهاً في اتِّخاذكم الأصنام شركاء مع الله سبحانه { من أنفسكم } ثمَّ بيَّن ذلك فقال : { هل لكم ممَّا ملكت أيمانكم } من العبيد والإِماء { من شركاء فيما رزقناكم } من المال والولد ، أّيْ : هل يشاركونكم فيما أعطاكم الله سبحانه حتى تكونوا أنتم وهم { فيه سواء تخافونهم } أن يرثوكم ، كما يخاف بعضكم بعضاً أن يرثه ماله ، والمعنى : كما لا يكون هذا فكيف يكون ما هو مخلوقٌ لله تعالى مثلَه حتى يُعبد كعبادته؟ فلمَّا لزمتهم الحجَّة بهذا ذكر أنَّهم يعبدونها باتَّباع الهوى فقال : { بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم } في عبادة الأصنام .
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً } أَيْ : أقبل عليه ولا تُعرض عنه . { فطرة الله } أي : اتَّبع فطرة الله ، أَيْ : خِلقة الله التي خلق النَّاس عليها ، وذلك أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على ما فطره الله عليه من أنَّه لا ربَّ له غيره ، كما أقرَّ له لمَّا أُخرج من ظهر آدم عليه السَّلام { لا تبديل لخلق الله } لم يبدَّلِ الله سبحانه دينه ، فدينُه أنَّه لا ربَّ غيره . { ذلك الدين القيم } المستقيم .
{ منيبين إليه } راجعين إلى ما أمر به ، وهو حالٌ من قوله : { فأقم وجهك } ، والمعنى : فأقيموا وجوهكم؛ لأنَّ أمره أمرٌ لأمته .
(1/708)

مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
{ من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً } مفسَّرٌ في سورة الأنعام { كلُّ حزب } كلُّ جماعةٍ من الذين فارقوا دينهم { بما لديهم فرحون } أَيْ : يظنون أنَّهم على الهدى ، ثمَّ ذكر أنَّهم مع شركهم لا يلتجئون في الشَّدائد إلى الأصنام ، فقال :
{ وإذا مسَّ الناس ضرٌّ دعوا ربهم منيبين إليه . . . } الآية . وقوله :
{ وليكفروا بما آتيناهم } مفسَّرٌ في سورة العنكبوت إلى قوله :
{ أم أنزلنا } أَيْ : أَأنزلنا { عليهم سلطاناً } كتاباً { فهو يتكلَّم بما كانوا به يشركون } ينطق بعذرهم في الإِشراك .
{ وإذا أذقْنا الناس رحمة فرحوا بها . . . } الآية . هذا من صفة الكافر يبطر عند النِّعمة ، ويقنط عند الشِّدَّة ، لا يشكر في الأُولى ، ولا يحتسب في الثَّانية .
(1/709)

وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
{ وما آتيتم من رباَ ليربوَ في أموال الناس } يعني : ما يعطونه من الهدية ليأخذوا أكثر منها ، وهو من الرِّبا الحلال { فلا يربو عند الله } لأنَّكم لم تريدوا بذلك وجه الله ، وقوله : { فأولئك هم المضعفون } أصحاب الإِضعاف ، يُضَاعِفُ لهم بالواحدة عشراً .
(1/710)

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
{ ظهر الفساد } القحط وذهاب البركة { في البر } القفاز { والبحر } القرى والرِّيف { بما كسبت أيدي الناس } بشؤم ذنوبهم { ليذيقهم بعض الذي عملوا } كان ذلك لِيُذَاقوا الشِّدَّة بذنوبهم في العاجل .
(1/711)

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
{ فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يومٌ } القيامةُ ، فلا ينفع نفساً إيمانها { يومئذٍ يصدَّعون } يتفرَّقون؛ فريقٌ في الجنَّة ، وفريقٌ في السَّعير .
{ مَنْ كفر فعليه كفره } أي : وبال كفره وعذابه { ومَنْ عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون } يفرشون ويُسَوُّون المضاجع ، والمعنى : لأنفسهم يبغون الخير .
(1/712)

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
{ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } بالمطر { وليذيقكم من رحمته } نعمته بالمطر يُرسلها { ولتجري الفلك بأمره } وذلك أنَّها تجري بالرِّياح { ولتبتغوا من فضله } بالتِّجارة في البحر ، وقوله :
{ فانتقمنا من الذين أجرموا } أَيْ : عاقبنا الذين اشركوا { وكان حقاً عليناً نصر المؤمنين } في العاقبة ، وكذلك ننصرك في العاقبة على مَنْ عاداك .
{ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً } تُزعجها وتُخرجها من أماكنها { فيبسطه } الله { في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً } قطعاً . يريد أنَّه مرَّةً يبسطه ، ومرَّةً يقطعه { فترى الودق } المطر { يخرج من خلاله } وسطه وشقوقه { فإذا أصاب به } بالودق { من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون } يفرحون .
{ وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم } المطر { من قبله } كرَّر " من قبل " للتَّأكيد { لمبلسين } آيسين .
{ فانظر إلى آثار رحمة الله } يعني : آثار المطر الذي هو رحمة الله تعالى { كيف يحيي الأرض } جعلها تنبت { بعد موتها } [ يُبسها ] { إنَّ ذلك } الذي فعل ذلك ، وهو الله عزَّ وجلَّ { لمحيي الموتى } .
{ ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً } رأوا النَّبت قد اصفرَّ وجفَّ { لظلُّوا من بعده يكفرون } يريد : إنَّ الكفَّار يستبشرون بالغيث ، فإذا جفَّ النَّبت ولم يحتاجوا إلى الغيث ظلُّوا يكفرون بنعمة الله عزَّ وجلَّ فلم يؤمنوا ، ولم يشكروا إنعامه بالمطر .
{ فإنك لا تسمع الموتى } مضت الاية في سورة الأنبياء ، والتي بعدها في سورة النمل .
(1/713)

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{ الله الذي خلقكم من ضعف } من نطفةٍ . الآية .
{ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون } يحلف الكافرون { ما لبثوا } في قبورهم { غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون } أَيْ : كذَّبوا في هذا الوقت كما كانوا يُكذِّبون في الدُّنيا .
{ وقال الذين أوتوا العلم والإِيمان لقد لبثتم في كتاب الله } أَيْ : فيما بيَّن في كتابه ، وهو اللَّوح المحفوظ { إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون } أنَّه يكون . وقوله :
{ ولا هم يستعتبون } أَيْ : لا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يُرضي الله سبحانه .
{ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل } بيَّنا لهم الأمثال للاعتبار { ولئن جئتهم بآية } لهم فيها بيانٌ واعتبارٌ { ليقولنَّ الذين كفروا إن أنتم إلاَّ مبطلون } ما أنتم إلاَّ أصحاب الأباطيل .
{ كذلك } كما طبع الله على قلوبهم حتى لم يفهموا { يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون } أدلَّة التَّوحيد .
{ فاصبر إنَّ وعد الله } في نصرك وتمكينك { حق ولا يستخفنَّك } لا يستفزنَّك عن دينك { الذين لا يوقنون } أي : الضُّلال الشَّاكُّون .
(1/714)

الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
هذه السورة مفسَّرة فيما مضى إلى قوله :
{ ومن الناس من يشتري لهو الحديث } يعني : النَّضر بن الحارث ، كان يخرج تاجراً إلى فارس ، فيشتري أخبار الأعاجم ، ثمَّ يأتي بها فيقرؤها في أندية قريش ، فيستمحلونها ويتركون استماع القرآن ، وقوله : { ويتخذها هزواً } أَيْ : يتَّخذ آيات الكتاب هزواً .
(1/715)

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{ ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله } أَيْ : وقلنا له : أن اشكر لله .
(1/716)

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
{ حملته أمه وهناً على وهن } أَيْ : لزمها بحملها إيَّاه أن تضعف مرَّةً بعد مرَّةً . { وفصاله } وفطامه { في عامين } لأنَّها ترضع الولد عامين { أن اشكر لي ولوالديك } المعنى : وصَّينا الإِنسان أن اشكر لي ولوالديك .
{ وإن جاهداك } مُفسَّرٌ فيما مضى ، وقوله : { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } أَيْ : مُصَاحَباً معروفاً ، وهو المستحسن { واتبع سبيل من أناب } رجع { إليَّ } يعني : اسلك سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد مرَّ .
{ يا بني إنها إن تك مثقال } رُوي أنَّ ابنه قال له : إنْ عملتُ بالخطيئة حيث لا يراني أحدٌ كيف يعلمها الله عزَّ وجلَّ؟ فقال : { إنها } أي : الخطيئة { إن تك مثقال حبة من خردل } أو : السَّيِّئة ، ثمَّ كانت { في صخرة } أَيْ : في أخفى مكان { أو في السموات أو الأرض } أينما كانت أتى الله بها ولن تخفى عليه ، ومعنى { يأت بها الله } أَيْ : للجزاء عليها { إنَّ الله لطيف } باستخراجها { خبير } بمكانها . وقوله :
{ إنَّ ذلك من عزم الأمور } أي : الأمور الواجبة .
{ ولا تصعر خدِّك للناس } لا تُعرض عنهم تكبُّراً { ولا تمش في الأرض مرحاً } مُتَبختراً مختالاً .
{ واقصد في مشيك } ليكن مشيك قصداً ، لا بِخُيلاء ولا بإسراع { واغضض } واخفض { من صوتك إنَّ أنكر الأصوات } أقبحها { لصوت الحمير } .
{ ألم تروا أنَّ الله سخر لكم ما في السموات } من الشَّمس والقمر والنُّجوم لنتنفعوا بها { وما في الأرض } من البحار والأنهار والدَّوابِّ { وأسبغ } وأوسعَ وأتمَّ { عليكم نعمة ظاهرة } وهي حسن الصُّورة وامتداد القامة { وباطنة } وهي المعرفة ، والباقي قد مضى تفسيره . إلى قوله تعالى :
{ أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } أَيْ : موجباته ، فيتَّبعونه .
{ ومن يسلم وجهه إلى الله } يُقبل على طاعته وأوامره { وهو محسن } مؤمنٌ موحِّدٌ { فقد استمسك بالعروة الوثقى } بالطَّرفِ الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه { وإلى الله عاقبة الأمور } مرجعها .
(1/717)

نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
{ نمتعهم قليلاً } بالدُّنيا { ثمَّ نضطرهم } نُلجئهم { إلى عذاب غليظ } .
{ ولئن سالتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله } الذي خلقها { بل أكثرهم لا يعلمون } إذ أشركوا به بعد إقرارهم بأنَّه خالقهما .
(1/718)

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{ ولو أنَّ ما في الأرض من شجرة أقلام . . . } الآية . وذلك أنَّ المشركين قالوا في القرآن : هذا كلامٌ سينفذ وينقطع ، فأعلم الله سبحانه أنَّ كلامَهُ لا ينفد { والبحر يمده } أَيْ : يزيد فيه ، ثمَّ كتبت به كلمات الله { ما نفدت } .
{ ما خلقكم ولا بعثكم إلاَّ كنفس واحدة } أَيْ : كخلق وكبعث نفسٍ واحدةٍ؛ لأنَّ قدرة الله سبحانه على بعث الخلق كقدرته على بعث نفسٍ واحدةٍ ، وقوله :
{ ألم تر أنَّ الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كلٌّ يجري إلى أجل مسمىً وأنَّ الله بما تعملون خبير } .
{ ذلك } أَيْ : فعل الله ذلك لتعلموا { بأن الله هو الحق } الذي لا إله غيره . وقوله :
{ إنَّ في ذلك لآيات لكلّ صبار شكور } أَيْ : لكلِّ مؤمنٍ بهذه الصِّفة .
{ وإذا غشيهم } علاهم { موج كالظلل } كالجبال . وقيل : كالسَّحاب . وقوله : { فمنهم مقتصد } أَيْ : مؤمنٌ مُوفٍ بما عاهد الله في البحر . وقوله : { كلُّ ختار } غدَّارٍ { كفور } جحودٍ . وقوله :
{ لا يجزي والد عن ولده } لا يكفي ولا يُغني عنه شيئاً ، و { الغَرُور } الشَّيطان .
{ إنَّ الله عنده علم الساعة } متى تقوم { وينزل الغيث } المطر { ويعلم ما في الأرحام } ذكراً أوأنثى .
(1/719)

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
قوله :
{ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } يعني : القضاء من السَّماء فينزله إلى الأرض مدَّة أيام الدُّنيا { ثمَّ يعرج إليه } أَيْ : يرجع الأمر والتَّدبير إلى السَّماء ، ويعود إليه بعد انقضاء الدُّنيا وفنائها { في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } وهو يوم القيامة ، وذلك اليوم يطول على قومٍ ويشتدُّ حتى يكون كخمسين ألف سنة ، ويقصر على قوم ، فلا آخر له معلوم .
(1/720)

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
{ الذي أحسن كلَّ شيء خلقه } أَيْ : أتقنه وأحكمه { وبدأ خلق الإنسان من طين } آدم عليه السَّلام .
{ ثم جعل نسله } ذريَّته { من سلالةٍ } نطفةٍ { من ماء مهين } ضعيفٍ حقيرٍ .
(1/721)

وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
{ وقالوا } يعني : منكري البعث { أإذا ضللنا في الأرض } صرنا تراباً وبطلنا { أإنا لفي خلق جديد } نُخلق بعد ذلك خلقاً جديداً .
{ قل يتوفاكم } يقبض أرواحكم .
{ ولو ترى } يا محمد { إذ المجرمون } المشركون { ناكسو رؤوسهم } مُطأطئوها حياءً من ربِّهم عزَّ وجلَّ ، ويقولون : { ربنا أبصرنا } ما كنا به مُكذِّبين { وسمعنا } منك صدق ما أتت به الرُّسل { فارجعنا } فارددنا إلى الدُّنيا { نعمل صالحاً }
{ ولو شئنا لآتينا كلَّ نفس هداها } رشدها . الآية . ويقال لأهل النَّار .
{ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } أَيْ : تركتم الإِيمان به { إنا نسيناكم } تركناكم في النَّار .
(1/722)

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
{ إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها } أي : وُعظوا { خرُّوا سجداً } لله سبحانه خوفاً منه { وسبحوا بحمد ربهم } نزَّهوا الله تعالى بالحمد لله { وهم لا يستكبرون } عن الإيمان به والسُّجود له .
{ تتجافى جنوبهم } ترتفع أضلاعهم { عن المضاجع } الفرش ومواضع النَّوم { يدعون ربهم خوفاً } من النَّار { وطمعاً } في الجنَّة { ومما رزقناهم ينفقون } يصَّدَّقون .
{ فلا تعلم نفس } من هؤلاء { ما أخفي لهم } ما أُعدَّ لهم { من قرة أعين } ممَّا تقرُّ به عينه إذ رآه .
{ أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً } نزلت في أمير المرمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط .
(1/723)

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
{ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } قيل : المصيبات في الدُّنيا ، وقيل : القتل ببدر . وقيل : عذاب القبر . وقيل : الجوع سبع سنين ، والأولى المُصيبات والجوع لقوله : { لعلهم يرجعون } . وقوله :
{ فلا تكن في مرية من لقائه } أَيْ : من لقاء موسى عليه السَّلام ليلة المعراج ، وعده الله تعالى أن يريه موسى عليه السَّلام ليلة الإِسراء به .
{ وجعلنا منهم } من بني إسرائيل { إئمة } قادة { يهدون } يدعون الخلق { بأمرنا لما صبروا } حين صبروا على الحقِّ .
{ إنَّ ربك هو يفصل } يحكم { بينهم يوم القيامة } بين المُكذِّبين بك { فيما كانوا فيه يختلفون } من أمرك .
{ أو لم يهد لهم } يتبيَّن لهم صدقك { كم أهلكنا } إهلاكنا مَنْ كذَّب الرُّسل منهم وهم { يمشون في مساكنهم } إذا سافروا ، فيرون خرابَ منازلهم { إنَّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون } آيات الله وعظاته .
{ أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز } الغليظة التي لا نبأت فيها { فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون } هذا فيعلموا أنَّا نقدر على إعادتهم .
(1/724)

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
{ ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } وذلك أنَّ المؤمنين قالوا للكفَّار : إنَّ لنا يوماً يحكم الله بيننا وبينكم فيه ، يريدون يوم القيامة ، فقالوا : متى هذا الفتح؟ فقال الله تعالى : { قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون } يُمهلون للتَّوبة .
{ فأعرض عنهم } منسوخٌ بآية السَّيف { وانتظر } عذابهم { إنهم منتظرون } هلاكك [ في زعمهم الكاذب ] .
(1/725)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
{ يا أيها النبي اتق الله } اثبت على تقوى الله ، ودُمْ عليه { ولا تطع الكافرين والمنافقين } وذلك أنَّ الكافرين قالوا له : ارفض ذكر آلهتنا ، وقل : إنَّ لها شفاعةً ومنفعةً لمن عبدها ، ووازَرَهم المنافقون على ذلك { إنَّ الله كان عليماً } بما يكون قبل كونه { حكيماً } فيما يخلق .
(1/726)

مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } هذا تكذيبٌ لبعض مَنْ قال من الكافرين : إنَّ لي قلبين أفهم بكلِّ واحدٍ منهما أكثر ممَّا يفهم محمد ، فأكذبه الله تعالى . قيل : إنَّه ابن خطل { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتهم } لم يجعل نساءكم اللائي تقولون : هنَّ علينا كظهور أمهاتنا في الحرام كما تقولون ، وكان هذا من طلاق الجاهليَّة ، فجعل الله في ذلك كفَّارة { وما جعل أدعياءكم } مَنْ تبنَّيتموه { أبناءكم } في الحقيقة كما تقولون { ذلكم قولكم بأفواهكم } قولٌ بالفم لا حقيقة له { والله يقول الحق } وهو أنَّ غير الابن لا يكون ابناً { وهو يهدي السبيل } أَيْ : السَّبيل المستقيم .
{ ادعوهم لآبائهم } أَيْ : انسبوهم إلى الذين ولدوهم { هو أقسط عند الله } أعدل عند الله { فإن لم تعلموا آباءهم } مَنْ هم { فإخوانكم في الدين } أي فهم إخوانكم في الدِّين { ومواليكم } وبنو عمّكم . وقيل : أولياؤكم في الدِّين { وليس عليكم جناج فيما أخطأتم به } وهو ن يقول لغير ابنه : يا بنيَّ من غير تَعَمُّدٍ أن يجريه مجرى الولد في الميراث ، وهو قوله : { ولكن ما تعمَّدت قلوبكم } يعني : ولكنَّ الجُناح في الذي تعمَّدت قلوبكم .
{ النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم } إذا دعاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى شيءٍ ، ودعتهم أنفسهم إلى شيءٍ كانت طاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أولى . { وأزواجه أمهاتهم } في حرمة نكاحهنَّ عليهم { وأولوا الأرحام } والأقارب { بعضهم أولى ببعض } في الميراث { في كتاب الله } في حكمه { من المؤمنين والمهاجرين } وذلك أنَّهم كانوا في ابتداء الإِسلام يرثون بالإِيمان والهجرة { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } لكن إن يوصوا له بشيءٍ من الثُّلث فهو جائزٌ { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } كان هذا الحكم في اللَّوح المحفوظ مكتوباً .
{ وإذا أخذنا } واذكر إذ أخذنا { من النبيّين ميثاقهم } على الوفاء بما حملوا ، وأن يُصدِّق بعضهم بعضاً .
{ ليسأل الصادقين عن صدقهم } المُبلِّغين من الرُّسل عن تبليغهم ، وفي تلك المسألة تبكيتٌ للكفَّار { وأعدَّ للكافرين } بالرُّسل { عذاباً أليماً } .
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود } يعني : الأحزاب ، وهم قريش وغطفان وقُريظة والنَّضير ، حاصروا المسلمين أيَّام الخندق { فأرسلنا عليهم ريحاً } [ وهي الصَّبا ] كفأت قدورهم ، وقلعت فساطيطهم { وجنوداً لم تروها } وهم الملائكة { وكان الله بما يعملون } من حفر الخندق { بصيراً } .
{ إذ جاؤوكم من فوقكم } من قبل المشرق ، يعني : قُريظة والنَّضير ، { ومن أسفل منكم } قريشٌ من ناحية مكَّة { وإذ زاغت الأبصار } مالت وشخصت ، وتحيَّرت لشدَّة الأمر وصعوبته عليكم { وبلغت القلوب الخناجر } ارتفعت إلى الحلوق لشدَّة الخوف { وتظنون به الظنونا } ظنَّ المنافقون أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يُستأصلون ، وأيقن المؤمنون بنصر اللَّهِ .
(1/727)

{ هنالك } في تلك الحال { ابتلي المؤمنون } اختبروا ليتبيَّن المخلص من المنافق { وزلزلوا } وحرِّكوا وخُوِّفوا .
{ وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } شكٌّ ونفاقٌ : { ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غرورا } إذْ وعدنا أنَّ فارس والرُّوم يُفتحان علينا .
{ وإذ قالت طائفة منهم } من المنافقين : { يا أهل يثرب } يعني : المدينة { لا مقام لكم } لا مكان لكم تُقيمون فيه { فارجعوا } إلى منازلكم بالمدينة ، أمروهم بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذلانه ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد خرج من المدينة إلى سلع لقتال القوم { ويستأذن فريقٌ منهم } من المنافقين { النبيَّ } في الرُّجوع إلى منازلهم { يقولون : إنَّ بيوتنا عورة } ليست بحصينةٍ ، نخاف عليها العدوِّ ، قال الله تعالى : { وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً } من القتال .
{ ولو دخلت عليهم } لو دخل عليهم هؤلاء الذين يريدون قتالهم المدينة { من أقطارها } جوانبها { ثمَّ سئلوا الفتنة } سألتهم الشِّرك بالله { لأتوها } لأعطوا مرادهم { وما تلبثوا بها إلاَّ يسيراً } وما احتبسوا عن الشِّرك إلا يسيراً ، أَيْ : لأسرعوا الإجابة إليه .
(1/728)

وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
{ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة الخندق { لا يولون الأدبار } لا ينهزمون عن العدوِّ { وكان عهد الله مسؤولاً } والله تعالى يسألهم عن ذلك العهد يوم القيامة .
{ قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } الذي كُتب عليكم { وإذاً لا تمتعون إلاَّ قليلاً } لا تبقون في الدُّنيا إلاَّ إلى آجالكم .
(1/729)

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ قد يعلم الله المعوقين منكم } الذين يُعوِّقون النَّاس عن نصرة محمَّد عليه السَّلام ، { والقائلين لإِخوانهم هلمَّ إلينا } يقولون لهم : خلُّوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنَّه مغرورٌ وتعالوا إلينا { ولا يأتون البأس إلاَّ قليلاً } لا يحضرون الحرب مع [ أصحاب ] النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاّ تعذيراً وتقصيراً ، [ يرى أنَّ له عذراً ولا عذر له ] ، يوهمونهم أنَّهم معهم .
{ أشحة عليكم } بخلاء عليكم بالخير والنَّفقة { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليكم تدور أعينهم } في رؤوسهم من الخوف كدوران عين الذي { يُغشى عليه من الموت } قَرُبَ أن يموت فانقلبت عيناه { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } آذوكم بالكلام وجادلوكم في الغنيمة { أشحة } بخلاء { على الخير } الغنيمة .
{ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } لجبنهم وشدَّة خوفهم يظنون أنَّهم بعد انهزامهم لم ينصرفوا بعد { وإن يأت الأحزاب } يرجعوا كرَّةً ثانية { يودوا لو أنَّهم بادون في الأعراب } خارجون من المدينة إلى البادية في الأعراب { يسألون عن أنبائكم } أَيْ : يودوا لو أنَّهم غائبون عنكم يسمعون أخباركم بسؤالهم عنها من غير مشاهدة . قال الله تعالى : { ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلاَّ قليلاً } رياءً من غير حِسْبَةٍ ، ولمَّا وصف الله تعالى حال المنافقين في الحرب وصف حال المؤمنين فقال :
{ لقد كان لكم } أيُّها المؤمنون { في رسول الله أسوة حسنة } سنَّةٌ صالحةٌ ، واقتداءٌ حسنٌ حيث لم يخذلوه ولم يتولَّوا عنه ، كما فعل هو صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ شُجَّ حاجبه ، وكُسرت رباعيته ، فوقف صلى الله عليه وسلم ولم ينهزم ، ثمَّ بيَّن لمَنْ كان هذا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } أَيْ : يخافهما .
{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا } تصديقاً لوعد الله تعالى : { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } ووعدُ الله تعالى إيَّاهم في قوله : { أمْ حسبْتُم أن تدخلوا الجنَّة ولمَّا يأتكم مثَلُ الذين خلوا مِنْ قبلِكم مسًّتهم البأساءُ والضَّراء وزُلزلوا حتَّى يقولَ الرَّسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله؟ ألا إِنَّ نصر الله قريبٌ } فعلموا بهذه الآية أنَّهم يُبتلون ، فلمَّا ابتلوا بالأحزاب علموا أنَّ الجنَّة والنَّصر قد وجبا لهم إن سلَّموا وصبروا ، وذلك قوله : { وما زادهم إلاَّ إيماناً } وتصديقاً بالله ورسوله { وتسليماً } لله أمره .
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله } كانوا صادقين في عهودهم بنصرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم { فمنهم من قضى نحبه } فرغٍ من نذره واستُشهد . يعني : الذين قُتلوا بأُحدٍ { ومنهم مَنْ ينتظر } أن يقتل شهيداً { وما بدلوا تبديلاً } عهدهم ، ثمَّ ذكر جزاء الفريقين فقال :
{ ليجزي الله الصادقين بصدقهم . . . } الآية .
{ وردَّ الله الذين كفروا } قريشاً والأحزاب { بغيظهم } على ما فيهم من الغيظ { ولم ينالوا خيراً } لم يظفروا بالمسلمين { وكفى الله المؤمنين القتال } بالرِّيح والملائكة .
(1/730)

{ وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } الذين عاونوا الأحزاب من قريظة { من صياصيهم } حصونهم ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حاصرهم ، واشتدَّ ذلك عليهم حتى نزلوا على حكمه ، وذلك قوله تعالى : { وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون } يعني : الرِّجال { وتأسرون فريقاً } يعني : النِّساء والذُّريَّة . وقوله :
{ وأرضاً لم تطؤوها } يعني : خيبر ، ولم يكونوا نالوها ، فوعدهم الله تعالى إيَّاها .
{ يا أيها النبيُّ قل لأزواجك . . } الآية . نزلت حين سألت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من عرض الدُّنيا ، وآذْينَهُ بزيادة النَّفقة ، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات ، وأمره أن يُخيِّرهنَّ بين الإِقامة معه على طلب ما عند الله ، أو السِّراح إن أردْنَ الدُّنيا ، وهو قوله : { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكنَّ } متعة الطَّلاق ، فقرأ عليهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات ، فاخترن الآخرة على الدُّنيا ، والجنَّة على الزِّينة ، فرفع الله سبحانه درجتهنَّ على سائر النِّساء بقوله :
{ يا نساء النبيّ مَنْ يأت منكنَّ بفاحشة مبيِّنة } بمعصيةٍ ظاهرةٍ { يضاعف لها العذاب ضعفين } ضعفي عذاب غيرها من النِّساء .
(1/731)

وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
{ ومن يقنت } يطع { نؤتها أجرها مرَّتين } مثلي ثواب غيرها من النِّساء { وأَعتدنا لها رزقاً كريماً } يعني : الجنَّة . وقوله :
{ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } أَيْ : لا تقلن قولاَ يجد منافقٌ به سبيلاً إلى أن يطمع في موافقتكنَّ له . وقوله : { وقلن قولاً معروفاً } أَيْ : قلن بما يوجبه الدِّين والإِسلام بغير خضوعٍ فيه بل بتصريحٍ .
(1/732)

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
{ وقرن في بيوتكن } أمرٌ لهنَّ من الوقار والقرار جميعاً { ولا تبرجن } ولا تُظهرن المحاسن كما كان يفعله أهل الجاهليَّة ، وهو ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما . { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } وهو كلُّ مُستَنكرٍ ومُستقذَرٍ من عملٍ { أهل البيت } يعني : نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورجال أهل بيته .
{ واذكرن ما يتلى في بيوتكنَّ من آيات الله } يعني : القرآن { والحكمة } يعني : السُّنَّة .
{ إنَّ المسلمين والمسلمات . . . } الآية . قالت النِّساء : ذكر الله تعالى الرِّجال بخيرٍ في القرآن ، ولم يذكر النِّساء بخيرٍ ، فما فينا خيرٌ يُذكر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة . . . } الآية . نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب ، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة ، وظنَّت أنَّه خطبها لنفسه ، فلمَّا علمت أنًّه يريدها لزيدٍ كرهت ذلك ، فأنزل الله تعالى : { وما كان لمؤمن } يعني : عبد الله بن جحش { ولا مؤمنة } يعني : أخته زينب { إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } أَيْ : الاختيار ، فأعلم أنَّه لا اختيار على ما قضاه الله ورسوله ، وزوَّجها من زيدٍ ، ومكثت عنده حيناً ، ثمَّ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يومٍ لحاجة ، فأبصرها قائمةً في درعٍ وخمارٍ ، فأعجبته وكأنَّها وقعت في نفسه ، وقال : سبحان الله مُقلِّب القلوب ، فلمَّا جاء زيدٌ أخبرته بذلك ، وأُلقي في نفس زيدٍ كراهتها ، فأراد فراقها ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي؛ فإنَّها تؤذيني بلسانها .
(1/733)

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } بالإسلام ، يعني : زيداً { وأنعمت عليه } بالإِعتاق : { أمسك عليك زوجك واتق الله } فيها ، وكان صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يتزوَّج بها ، إلا أنَّه آثر ما يجب من الأمر بالمعروف ، وقوله : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } أن لو فارقَها تزوَّجتها ، وذلك أنَّ الله تعالى كان قد قضى ذلك ، وأعلمه أنَّها ستكون من أزواجه ، وإأنَّ زيداً يُطلِّقها { وتخشى الناس } تكره قالة النَّاس لو قلت : طَلِّقْها ، فيقال أمر رجلاً بطلاق امرأته ، ثمَّ تزوَّجها { والله أحقُّ أن تخشاه } في كلِّ الأحوال ، ليس أنَّه لم يَخْشَ الله في شيءٍ من هذه القضيَّة ، ولكن ذكر الكلام ها هنا على الجملة . وقيل والله أحقُّ أن تستحيي منه ، فلا تأمر زيداً بإمساك زوجته بعد إعلام الله سبحانه إياك أنها ستكون زوجتك ، وأنت تستحيي من النَّاس وتقول : أمسك عليك زوجك . { فلما قضى زيد منها وطراً } حاجته من نكاحها { زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج . . . } الآية . لكيلا يظنَّ ظانٌّ أنَّ امرأة المتبنَّى لا تحلُّ للمتبنِّي ، وكانت العرب تظنُّ ذلك ، وقوله : { وكان أمر الله مفعولاً } كائناً لا محالة ، وكان قد قضى في زينب أن يتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } فيما أحلَّ له من النِّساء { سنة الله في الذين خلوا من قبل } يقول : هذه السُّنَّة قد مضت أيضاً لغيرك . يعني : كثرة أزواج داود وسليمان عليهما السَّلام ، والمعنى : سنَّ الله له سنَّةٌ واسعةً لا حرج عليه فيها { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } قضاءً مقضياً .
(1/734)

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
{ الذين يبلغون رسالات الله } " الذين " نعت قوله : { في الذين خلوا من قبل } . { ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاَّ الله } لا يخشون قالة النَّاس ولائمتهم فيما أحلَّ الله لهم { وكفى بالله حسيباً } حافظاً لأعمال خلقه .
{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } فتقولوا : إنَّه تزوجَّ امرأة ابنه ، يعني : زيداً ليس له بابنٍ وإن كان قد تبنَّاه { ولكن } كان { رسول الله وخاتم النبيين } لا نبيَّ بعده .
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } وهو أن لا يُنسى على حالٍ .
{ وسبحوه } صلُّوا له { بكرة } صلاة الفجر { وأصيلاً } صلاة العصر والعشاءين .
{ هو الي يصلي عليكم } يغفر لكم ويرحمكم { وملائكته } يستغفرون لكم { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } من ظلمات الجهل والكفر إلى نور اليقين والإسلام .
{ تحيتهم } تحيَّةُ الله للمؤمنين { يوم يلقونه } يرونه { سلام } يسلِّم عليهم { وأعدَّ لهم أجراً كريماً } وهو الجنَّة .
{ يا أيها النبيُّ إنا أرسلناك شاهداً } على أُمَّتك بإبلاغ الرِّسالة .
{ وداعياً إلى الله } إلى ما يُقرب منه من الطَّاعة والتَّوحيد { بإذنه } بأمره ، أَيْ : إنَّه أمرك بهذا لا أنَّك تفعله من قبلك { وسراجاً منيراً } يُستضاء به من ظلمات الكفر .
(1/735)

وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{ ودع أذاهم } لا تُجازهم عليه إلى أن تُؤمر فيهم بأمرنا .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات } تزوجتموهنَّ { ثمَّ طلقتموهنَّ من قبل أن تمسوهنَّ } تجامعوهنَّ { فمالكم عليهن من عدَّة تعتدونها } تحصونها عليهنَّ بالأقراء والأشهر؛ لأنَّ المُطلَّقة قبل الجماع لا عدَّة عليها { فمتعوهنَّ } أعطوهنَّ ما يستمتعن به ، وهذا أمر ندب؛ لأنَّ الواجب لها نصف الصَّداق { وسرحوهن سَراحاً جميلاً } بالمعروف كما أمر الله تعالى ، ثمَّ ذكر ما يحلُّ من النِّساء للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال :
{ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } مهورهنَّ { وما ملكت يمينك } من الإِماء { ممَّا أفاء الله عليك } جعلهنَّ غنيمة تُسبى وتُسترقُّ بحكم الشَّرع { وبنات عمك وبنات عماتك } أن يتزوجهنَّ ، يعني : نساء بني عبد المطلب { وبنات خالك وبنات خالاتك } يعني : نساء بني زُهرة { اللاتي هاجرن معك } فمن لم يهاجر منهنَّ لم يحلَّ له نكاحها { وامرأة } وأحللنا لك امرأةً { مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيِّ إن أراد النبيُّ أن يستنكحها } فله ذلك { خالصة لك من دون المؤمنين } فليس لغير النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يستبيح وطء امرأةٍ بلفظ الهبة من غير وليٍّ ، ولامهرٍ ، ولا شاهدٍ ، { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } وهو أن لا نكاح إلاَّ بوليٍّ وشاهدين { وما ملكت أيمانهم } يريد أنَّه لا يحلُّ لغير النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أربع بوليٍّ وشاهدين ، وإلا ملك اليمين ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يحلُّ له ما ذكر في هذه الآية { لكيلا يكون عليك حرج } في النِّكاح .
{ ترجي من تشاء منهن } تُؤخِّر { وتؤوي } وتضمُّ { إليك مَنْ تشاء } أباح الله سبحانه له أن يترك القسمة والتَّسوية بين أزواجه ، حتى إنَّه ليؤخِّر مَنْ شاء منهنَّ عن وقت نوبتها ، ويطأ مَنْ يشاء من غير نوبتها ، ويكون الاختيار في ذلك إليه يفعل فيه ما يشاء ، وهذا من خصائصه { ومن ابتغيت } طلبتَ وأردتَ إصابتها { ممن عزلت } هجرتَ وأخَّرت نوبتها { فلا جناح عليك } في ذلك كلِّه { ذلك أدنى أن تقرَّ أعينهنَّ . . . . } الآية . إذا كانت هذه الرُّخصة مُنزَّلة من الله سبحانه عليك كان أقرب إلى أن { يرضين بما آتيتهن كلهنَّ والله يعلم ما في قلوبكم } من أمر النِّساء والميل إلى بعضهنَّ ، ولمَّا خيَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه ورضين به ، قصره الله سبحانه عليهنَّ ، وحرَّم عليه طلاقهنَّ والتَّزوُّج بسواهنَّ ، وجعلهنَّ أُمَّهات المؤمنين .
(1/736)

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
{ ولا يحلُّ لك النساء من بعد } أَيْ : من بعد هؤلاء التِّسع { ولا أن تبدَّل بهنَّ من أزواجٍ ولو أعجبك حسنهنَّ } ليس لك أن تطلِّق واحدةً من هؤلاء ، ولا تتزوَّج بدلها أخرى أعجبتك بجمالها { إلاَّ ما ملكت يمينك } من الإِماء فإنهنَّ حلالٌ لك .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي . . . } الآية . نزلت في ناسٍ من المؤمنين كانوا يتحيَّنون طعام النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخلون عليه قبل الطَّعام إلى أن يدرك ، ثمَّ يأكلون ولا يخرجون ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذَّى بهم ، وهو قوله : { غير ناظرين إناه } أيْ : منتظرين إدراكه { ولا مُسْتأنِسِين لحديث } طالبين الأنس { والله لا يستحيِ من الحق } لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقِّ { وإذا سألتموهنَّ متاعاً فاسألوهنَّ من وراء حجاب } إذا أردتم أن تخاطبوا أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أمرٍ فخاطبوهنَّ من وراء حجابٍ ، وكانت النِّساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرِّجال ، فلمَّا نزلت هذه الآية ضرب عليهنَّ الحجاب ، فكانت هذه آية الحجاب بينهنَّ وبين الرِّجال { ذلكم } أَيْ : الحجاب { أطهر لقلوبكم وقلوبهن } فإنَّ كلَّ واحدٍ من الرَّجل والمرأة إذا لم ير [ الآخر ] لم يقع في قلبه { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } أَيْ : ما كان لكم أذاه في شيءٍ من الأشياء { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } وذلك أنَّ رجلاً من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : لئن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكحنَّ عائشة رضي الله عنها وعن أبيها ، فأعلم الله سبحانه أنَّ ذلك محرَّمٌ بقوله : { إن ذلك كان عند الله عظيماً } أَيْ : ذنباً عظيماً .
{ إن تبدوا شيئاً أو تخفوه . . . } الآية . نزلت في هذا الرَّجل الذي قال : لأنكحنَّ عائشة ، أخبر الله أنَّه عالمٌ بما يُظهر ويُكتم ، فلمَّا نزلت آية الحجاب قالت الآباء والأبناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ونحن أيضاً نُكلِّمهنَّ من وراء الحجاب؟ فأنزل الله سبحانه : { لا جناح عليهن في آبائهنَّ ولا أبنائهنَّ ولا إخوانهنّ ولا أبناءِ إخوانهنّ ولا أبناءِ أخواتهنّ ولانسائهنّ ولا ما ملكت أيمانهن } أَيْ : في ترك الاحتجاب من هؤلاء .
(1/737)

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
{ إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبيِّ } الله تعالى يثني على النبيِّ ويرحمه ، والملائكة يدعون له { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } قولوا : اللهم صلِّ على محمدٍ وسلِّمْ .
{ إن الذين يؤذون الله ورسوله } يعني : اليهود والنَّصارى والمشركين في قولهم : { يد الله مغلولةٌ } و { إنَّ الله فقيرٌ } و { المسيحُ ابنُ الله } والملائكة بنات الله ، وشجُّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ساحرٌ وشاعرٌ .
{ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } يرمونهم بغير ما عملوا .
{ يا أيها النبي قل لأزواجك . . . } الآية . كان قومٌ من الزُّناة يتَّبعون النِّساء إذا خرجن ليلاً ، ولم يكونوا يطلبون إلاَّ الإِماء ، ولم يكن يؤمئذٍ تُعرفْ الحرَّة من الأمة؛ لأنَّ زِيَّهُنَّ كان واحداً ، إنَّما يخرجن في درعٍ وخمارٍ ، فنهى الله سبحانه الحرائر أن يتشبَّهنَّ بالإماء ، وأنزل قوله تعالى : { يدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ } أَيْ : يرخين أرديتهنَّ وملاحفهنَّ؛ ليعلم أنهنَّ حرائر فلا يتعرض لهنَّ ، وهو قوله : { ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً } لما سلف من ترك السِّتر { رحيماً } بهنَّ إذ يسترهنَّ .
{ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } يعني : الزُّناة { والمرجفون في المدينة } الذين يوقعون أخبار السَّرايا بأنهم هُزموا بالكذب والباطل { لنغرينَّك بهم } لنسلطنَّك عليهم { ثم لا يجاورونك فيها } لا يساكنونك في المدينة { إلاَّ قليلاً } حتى يخرجوا منها .
{ ملعونين } مطرودين { أينما ثقفوا } وُجدوا { أخذوا وقتلوا تقتيلاً } .
{ سنة الله في الذين خلوا من قبل } سنَّ الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يُقتلوا حيث ما ثقفوا .
(1/738)

وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
{ إنا أطعنا سادتنا } أَيْ : قادتنا ورؤساءنا في الشِّرك والضَّلالة .
{ ربنا آتهم ضعفين من العذاب } مثلي عذابنا .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى } لا تؤذوا نبيَّكم كما آذَوا هم موسى عليه السَّلام ، وذلك أنَّهم رموه بالبرص والأدرة حتى برَّأه الله مما رموه به بآيةٍ معجزةٍ { وكان عند الله وجيهاً } ذا جاهٍ ومنزلةٍ . وقوله :
{ وقولوا قولاً سديداً } أَيْ : حقَّاً وصواباً . قيل : هو لا إله إلاَّ الله .
(1/739)

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
{ إنا عرضنا الأمانة } الفرائض التي افترض الله سبحانه علىالعباد ، وشرط عليهم أنَّ مَنْ أدَّاها جُوزي بالإِحسان ، ومَنْ خان فيها عوقب . { على السموات والأرض والجبال } أفهمهنَّ الله سبحانه خطابه وأنطقهنَّ { فأبين أن يحملْنَها } مخافةً وخشيةً لا معصيةً ومخالفةً ، وهو قوله : { وأشفقن منها } أَيْ : خشين منها { وحملها الإِنسان } آدم عليه السَّلام { إنَّه كان ظلوماً } لنفسه { جهولاً } غِرَّاً بأمر الله سبحانه وما احتمل من الأمانة ، ثمَّ بيَّن أنَّ حمل آدم عليه السَّلام هذه الأمانة كان سبباً لتعذيب المنافقين والمشركين في قوله :
{ ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } يعني : إذا خانوا في الأمانة بمعصية أمر الله سبحانه تاب عليهم بفضله { وكان الله غفوراً رحيماً } .
(1/740)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
{ الحمد لله } على جهة التَّعظيم { الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة } لأنَّ أهل الجنَّة يحمدونه .
{ يعلم ما يلج في الأرض } يدخل فيها من الماء والأموات { وما يخرج منها } من النَّبات { وما ينزل من السماء } من الأمطار { وما يعرج } يصعد { فيها } من الملائكة .
{ وقال الذين كفروا } يعني : منكري البعث : { لا تأتينا الساعة } أَيْ : لا نبعث { قل } لهم يا محمَّدُ : { بلى وربي لتأتبينَّكم عالمِ الغيب } بالخفض من نعت قوله : { وربي } وبالرَّفع على معنى : هو عالم الغيب ، وقوله : { لا يعزب } مفسَّرٌ في سورة يونس ، وقوله :
{ ليجزي } يعود إلى قوله : { لتأتينكم } معناه : لتأتينَّكم السَّاعة { ليجزي الذين آمنوا . . . } الآية .
{ والذين سعوا في آياتنا } مفسَّر في سورة الحج .
{ ويرى الذين أوتوا العلم } يعني : مؤمني أهل الكتاب { الذي أنزل إليك من ربك } وهو القرآن { هو الحقَّ ويهدي إلى صراط العزيز } القرآن .
{ وقال الذين كفروا } إنكاراً للبعث وتعجُّباً منه : { هل ندلكم على رجل } وهو محمَّد صلى الله عليه وسلم { ينبئكم إذا مزقتم كلَّ ممزق } أَيْ : فُرِّقتم وصرتم رُفاتاً { إنكم لفي خلق جديد } أَيْ : تُبعثون .
{ أفترى على الله كذباً } فيما يُخبر به من البعث { أم به جنة } حالةُ جنونٍ . قال الله تعالى : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } .
(1/741)

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
{ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } يقول : أما يعلمون أنَّهم حيث ما كانوا فهم يرون ما بين أيديهم من الأرض والسَّماء مثل الذي خلفهم ، وأنَّهم لا يخرجون منها ، فكيف يأمنون؟! { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء } عذاباً { إنَّ في ذلك لآية لكلِّ عبدٍ منيب } لعلامةً تدلُّ على قدرة الله سبحانه على إحياء الموتى لكلِّ مَنْ أناب إلى الله تعالى ، وتأمَّل ما خلق الله سبحانه .
{ ولقد آتينا داود منَّا فضلاً } ثمَّ بيَّن ذلك فقال : { يا جبال } أَيْ : قلنا يا جبال { أوّبي معه } سبِّحي معه { والطير } كان إذا سبَّح جاوبته الجبال بالتَّسبيح ، وعكفت عليه الطَّير من فوقه تسعده على ذلك { وألنا له الحديد } جعلناه ليِّناً في يده ، كالطِّين المبلول والعجين ، وقلنا له :
{ أن اعمل سابغات } دروعاً كوامل { وقدِّر في السرد } لا تجعل مسمار الدِّرع دقيقاً فيفلق ، ولا غليظاً فيفصم الحلق . اجعله على قدر الحاجة ، والسَّرْد : نسج الدُّروع { واعملوا } يعني : داود وآله { صالحاً } عملاً صالحاً من طاعة الله تعالى .
{ ولسليمان الرِّيح } وسخَّرنا له الرِّيح { غدوها شهر } مسيرها إلى انتصاف النَّهار مسيرة شهر ، ومن انتصاف النَّهار إلى اللَّيل مسيرة شهر ، وهو قوله : { ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر } أذبنا له عين النُّحاس ، فسالت له كما يسيل الماء { ومن الجنِّ } أَيْ : سخَّرنا له من الجنِّ { مَنْ يعمل بين يديه بإذن ربه } بأمر ربه { ومَنْ يزغ } يمل ويعدل { منهم عن أمرنا } الذي أمرناه به من طاعة سليمان { نذقه من عذاب السعير } وذلك أنَّ الله تعالى وكَّل بهم ملكاً بيده سوطٌ من نار ، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربةً أحرقته .
{ يعملون له ما يشاء من محاريب } مجالس ومساكن ومساجد { وتماثيل } صور الأنيباء؛ إذ كانت تصوَّر في المساجد ليراها النَّاس ، ويزدادوا عبادة { وجفانٍ } قصاعٍ كبارٍ { كالجوابِ } كالحياض التي تجمع الماء { وقدور راسيات } ثوابت لا تحرَّكن عن مكانها لعظمه ، وقلنا : { اعملوا } بطاعة الله يا { آل داود شكراً } له على نعمه .
(1/742)

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
{ فلما قضينا عليه الموت ما دلَّهم . . . } الآية . كان سليمان عليه السَّلام يقول : اللَّهم عمِّ على الجنِّ موتي؛ ليعلم الإِنس أنَّ الجنَّ لا يعلمون الغيب ، فمات سليمان عليه السَّلام مُتوكِّئاً على عصاه سنةً ، ولم تعلم الجنُّ ذلك حتى أكلت الأرضةُ عصاه ، فسقط ميِّتاً ، وهو قوله : { ما دلَّهم على موته إلاَّ دابَّةُ الأرض تأكل منسأته } عصاه { فلما خرَّ } سقط { تبينت الجن } علمت { أنْ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا } بعد موت سليمان { في العذاب المهين } فيما سخَّرهم فيه سليمان عليه السَّلام واستعملهم .
{ لقد كان لسبأ } وهو اسم قبيلةٍ { في مساكنهم } باليمن { آية } دلالةٌ على قدرتنا { جنتان } أَيْ : هي جنَّتان { عن يمين وشمال } بستانٌ يمنةً ، وبستانٌ يسرةً ، وقيل لهم : { كلوا من رزق ربكم واشكروا له } على ما أنعم عليكم { بلدة طيبة } أَيْ : بلدتكم بلدةٌ طيِّبةٌ ليست بسبخةٍ { و } الله { ربٌّ غفور } والمعنى : تمتَّعوا ببلدتكم الطَّيِّبة واعبدوا ربَّاً يغفر ذنوبكم .
(1/743)

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
{ فأعرضوا } عن أمر الله تعالى بتكذيب الرُّسل { فأرسلنا عليهم سيل العرم } وهو السِّكْر الذي يحبس الماء ، وكان لهم سِكْرٌ يحبس الماء عن جنَّتيهم ، فأرسل الله تعالى فيه جرذاناً ثقبته ، فانبثق الماء عليهم ، فغرق جنَّاتهم { وبدلناهم بجنَّتيهم جنتين ذواتي أكل خمط } أَيْ : ثمرٍ مُرٍّ { وأثل } وهو الطَّرفاء { وشيء من سدر قليل } وذلك أنَّ الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة ، وأنبت بدلها الأراك والطَّرفاء والسِّدر .
{ وذلك جزيناهم بما كفروا } أَيْ : جزيناهم ذلك الجزاء بكفرهم { وهل نجازي إلاَّ الكفور } بسوء عمله ، وذلك أنَّ المؤمن تُكفَّر عنه سيئاته ، والكافر يُجازى بكلِّ سوءٍ يعمله .
{ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } يعني : قرى الشَّام ، { قرى ظاهرة } متواصلةً ، يُرى من هذه القرية القرية الأخرى ، فكانوا يخرجون من سبأ إلى الشَّام ، فيمرُّون على القرى العامرة { وقدرنا فيها السير } جعلنا سيرَهم بمقدارٍ ، إذا غدا أحدهم من قريةٍ قال في أخرى ، وإذا راح من قريةٍ أوى إلى أخرى ، وقلنا لهم : { سيروا فيها } في تلك القرى { ليالي وأياماً } أَيَّ وقت شئتم من ليلٍ أو نهارٍ { آمنين } لا تخافون عدوَّاً ولا جوعاً ولا عطشاً .
{ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } وذلك أنَّهم سئموا الرَّاحة ، وبطروا النِّعمة فتمنَّوا أن تتباعد قراهم ليبعد سفرهم بينها { وظلموا أنفسهم } بالكفر والبطر { فجعلناهم أحاديث } لمَنْ بعدهم يتحدَّثون بقصَّتهم { ومزَّقناهم كلَّ ممزق } وفرَّقناهم في البلاد ، فصاروا يُتمثَّل بهم في الفُرقة ، وذلك أنَّهم ارتحلوا عن أماكنهم وتفرَّقوا في البلاد { إنَّ في ذلك } الذي فعلنا { لآيات لكلّ صبار شكور } أَيْ : لكلِّ مؤمنٍ؛ لأنَّ المؤمن هو الذي إذا ابتُليَ صبر ، وإذا أُعطيَ شكر .
(1/744)

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{ ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه } الذي ظنَّ بهم من إغوائهم { فاتبعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين } أَيْ : وجدهم كما ظنَّ بهم إلاَّ المؤمنين .
{ وما كان لهم عليهم من سلطان } من حجَّةٍ يستتبعهم بها { إلاَّ لنعلم } المعنى : لكن امتحانهم بإبليس لنعلم { مَنْ يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك } عُلِمَ وقوعه منه .
{ قل } يا محمد لمشركي قومك : { ادعوا الذين زعمتهم } أنَّهم آلهةٌ { من دون الله } وهذا أمرُ تهديدٍ ، ثمَّ وصفهم فقال : { لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما } في السَّموات ولا في الأرض { من شرك } شركةٍ { وما له } لله { منهم من ظهير } عونٍ . يريد : لم يُعنِ اللَّهَ على خلق السَّموات والأرض آلهتُهم ، فكيف يكونون شركاء له؟ ثمَّ أبطل قولهم أنَّهم شفعاؤنا عند الله فقال :
{ ولا تنفع الشفاعة عنده إلاَّ لمن أذن له } أَيْ : أذن الله له أن يشفع { حتى إذا فزّع } أذهب الفزع { عن قلوبهم } يعني : كشف الفزع عن قلوب المشركين بعد الموت إقامةً للحجَّة عليهم وتقول لهم الملائكة : { ماذا قال ربكم } ؟ فيما أوحى إلى أنبيائه { قالوا الحق } فأقرُّوا حين لا ينفعهم الإِقرار .
(1/745)

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
{ قل من يرزقكم من السموات } المطر { و } من { الأرض } النَّبات ، ثمَّ أمره أن يخبرهم فقال : { قل الله } أَيْ : الذي يفعل ذلك الله ، وهذا احتجاجٌ عليهم ، ثمَّ أمره بعد إقامة الحجَّة عليهم أن يُعرَّض بكونهم على الضَّلال فقال : { وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين } أَيْ : نحن أو أنتم إمَّا على هدىً أو ضلالٍ ، والمعنى : أنتم الضَّالون حيث أشركتم بالذي يرزقكم من السَّماء والأرض ، وهذا كما تقول لصاحبك إذا كذب : أحدنا كاذبٌ ، وتعنيه ، ثمَّ بيَّن براءته منهم ومن أعمالهم فقال :
{ قل لا تسألون عما أجرمنا . . . } الآية . وهذا كقوله تعالى : { لكم دينكم ولي دين } ثمَّ أخبر أنَّه يجمعهم في القيامة ، ثمَّ يحكم بينهم ، وهو قوله تعالى :
{ قل يجمع بيننا ربنا ثمَّ يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم } .
{ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء } ألحقتموهم بالله تعالى في العبادة ، يعني : الأصنام ، أَيْ : أرونيهم هل خلقوا شيئاً ، وهذه الآية مختصرةٌ ، تفسيرها قوله تعالى : { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دُونِ اللَّهِ أروني ماذا خلقوا من الأرضِ أَمْ لهم شِركٌ في السَّموات } ثمَّ قال : { كلا } أيْ : ليس الأمر على ما يزعمون { بل هو الله العزيز الحكيم } .
{ وما أرسلناك إلاَّ كافَّة للناس } جامعاً لهم كلَّهم بالإِنذار والتَّبشير { ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون } ذلك .
(1/746)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
{ ولا بالذي بين يديه } أَيْ : من الكتب المُتقدِّمة ، وقوله : { يرجع بعضهم إلى بعض القول } أَيْ : في التَّلاوم ، ثمَّ ذكر إيش يرجعون فقال : { يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين } .
{ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين } .
{ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار } أَيْ : مكركم بنا فيهما { إذ تأمروننا أن نكفر بالله } { وأسروا } : وأظهروا .
{ وما أرسلنا من قرية من نذير } نبيٍّ يُنذرهم { إلاَّ قال مترفوها } رؤساؤها وأغنياؤها { إنَّا بما أُرسلتم به كافرون } .
{ وقالوا } للرُّسل : { نحن أكثر أموالاً وأولاداً } منكم . يعنون أنَّ الله سبحانه رضي منَّا حيث أعطانا المال { وما نحن بمعذبين } كما تقولون .
{ قل إنَّ ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } وليس ذلك ممَّا يدلُّ على العواقب { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك .
{ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } أَيْ : قُربى . يعني : تقريباً { إلاَّ من آمن } لكنْ مَنْ آمن { وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف } من الثَّواب بالواحد عشرة { وهم في الغرفات آمنون } قصور الجنَّة .
(1/747)

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
{ وما أنفقتم من شيء } ما تصدَّقتم من صدقةٍ { فهو يخلفه } يعطي خلفه؛ إمَّا عاجلاً في الدُّنيا؛ وإمَّا آجلاً في الآخرة .
{ ويوم نحشرهم جميعاً } العابدين والمعبودين { ثم نقول للملائكة } توبيخاً للكفَّار : { أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } .
{ قالوا سبحانك } تنزيهاً لك { أنت ولينا } الذي نتولاَّه ويتولاَّنا { من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } يُطيعون إبليس وأعوانه { أكثرهم بهم مؤمنون } مُصدِّقون ما يمنُّونهم ويعدونهم .
(1/748)

وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
{ وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } يعني : مشركي مكَّة لم يكونوا أهل كتابٍ ، ولا بُعث إليهم نبيٌّ قبل محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وكذب الذين من قبلهم } من الأمم { وما بلغوا } يعني : مشركي مكَّة { معشار } عشر { ما آتيناهم } من القُوَّة والنِّعمة { فكذبوا رسلي فكيف كان نكيرِ } إنكاري عليهم ما فعلوا بالإِهلاك والعقوبة؟
{ قل إنما أعظكم بواحدة } بخصلةٍ واحدةٍ ، وهي الطَّاعة لله تعالى { أن تقوموا } لأن تقوموا { لله مثنى وفرادى } مُجتمعين ومُنفردين { ثم تتفكروا } فتعلموا { ما بصاحبكم } محمَّد { من جنةٍ } من جنونٍ { إنْ هو إلاَّ نذير لكم } ما هو إلاَّ نذيرٌ لكم { بين يدي عذاب شديد } إنْ عصيتموه .
{ قل ما سألتكم من أجر } على تبليغ الرِّسالة { فهو لكم إن أجري إلاَّ على الله } يعني : إنَّما أطلب الثَّواب من الله لا عَرضاً من الدُّنيا .
{ قل إنَّ ربي يقذف بالحق } يُلقيه إلى أنبيائه .
{ قل جاء الحق } جاء أمر الله الذي هو الحقُّ { وما يبدىء بالباطل وما يعيد } أَيْ : ما يخلق إبليس أحداً ولا يبعثه ، إنَّما يفعل ذلك الله تعالى .
(1/749)

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{ قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي } أَيْ : على نفسي يكون وبال ضلالي ، وهذا إخبارٌ أنَّ مَنْ ضلَّ فإنما يضرُّ نفسه { وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي } يعني : لولا الوحيُ ما كنت أهتدي .
{ ولو ترى } يا مُحمّد { إذ فزعوا } عن البعث { فلا فوت } لهم منَّا { وأخذوا من مكان قريب } على الله وهو القبور .
{ وقالوا } حين عاينوا العذاب { آمنا به } بالله { وأنى لهم التناوش } أَيْ : كيف يتناولون التَّوبة . وقيل : الرَّجعة ، وقد بعدت عنهم ، يريد : إنَّ التَّوبة كانت تُقبل عنهم في الدُّنيا ، وقد ذهبت الدُّنيا وبعدت عن الآخرة .
{ وقد كفروا به } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { من قبل } أَيْ : في الدُّنيا { ويقذفون بالغيب } يرمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالكذب والبهتان ظنَّاً لا يقيناً { من مكان بعيد } وهو أنَّ الله تعالى أبعدهم قبل أن يعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وحيل بينهم } مُنعوا ممَّا يشتهون من التَّوبة والإِيمان والرُّجوع إلى الدنيا { كما فُعل بأشياعهم } ممَّن كانوا على مثل دأبهم من تكذيب الرُّسل قبلهم حين لم يقبل منهم الإِيمان والتَّوبة { إنهم كانوا في شك } من أمر الرُّسل والبعث { مريب } موقعٍ للرِّيبة والتُّهمة .
(1/750)

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
{ الحمد لله فاطر السموات والأرض } خالقهما على ابتداء { جاعل الملائكة رسلاً أولي } أصحاب { أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق } في خلق الملائكة وأجنحتها { ما يشاء } .
{ ما يفتح الله للناس من رحمة } رزقٍ ومطرٍ ، فلا يقدر أحدٌ أن يمسكه ، والذي يمسك لا يرسله أحد .
{ يا أيها الناس } خطاب أهل مكَّة { اذكروا نعمة الله عليكم } بالرِّزق والمطر وسائر ذلك . { هل من خالق غير الله } هل يخلق أحدٌ سواه ، ثُمَّ { يرزقكم من السماء } المطر { و } من { الأرض } النَّبات { لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } من أين يقع لكم الإِفك والكذب بتوحيد الله؟! ثمَّ عزَّى نبيَّه عليه السَّلام بقوله :
{ وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور } .
(1/751)

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
{ أفمن زين له سوء عمله } بإضلال الله تعالى إيَّاه ، فرأى قبيح ما يعمله حسناً { فإنَّ الله يضلُّ مَنْ يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } لا تغتمَّ لكفرهم ولا تتحسَّر على تركهم الإيمان .
(1/752)

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
{ مَنْ كان يريد العزة } أَيْ : عِلْمَ العزَّةِ لمَنْ هي { فللَّه العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب } إليه يصل الكلام الذي هو توحيده ، وهو قول لا إله إلا الله { والعمل الصالح } يرفع ذلك الكلم الطَّيَّب ، والكلم الطَّيَّب : ذكر الله تعالى . والعمل الصَّالح : أداء فرائضه ، فمن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل ، ومعنى الرَّفع رفعه إلى محل القبول { والذين يمكرون السيئات } يعني : الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوة . { ومكر أولئك هو يبور } أي : يفسد ويبطل . وقوله تعالى :
{ وما يعمَّر من معمَّر } أَيْ : ما يُطوَّل عُمر أحدِ { ولا ينقص من عمره } ولا يكون أحدٌ ناقص العمر إلاَّ وهو مُحصىً في الكتاب . يعني : عدد عمر الطَّويل العمر ، وعمر القصير العمر .
{ وما يستوي البحران هذا عَذْبٌ فرات } شديد العذوبة { وهذا ملح أجاج } شديد المرارة { ومن كلٍّ } من الملح والعذب { تأكلون لحماً طرياً } من السَّمك { وتستخرجون } منه من الملح { حلية تلبسونها } يعني : المرجان ، وإنَّما ذكر هذا للدَّلالة على قدرته . وقوله :
{ من قطمير } يعني : لفافة النَّواة .
{ ويوم القيامة يكفرون بشرككم } أَيْ : يقولون : ما كنتم إيَّانا تعبدون { ولا ينبئك مثل خبير } وهو الله عزَّ وجلَّ .
(1/753)

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
{ ولا تزرُ وازِرَةٌ } أَيْ : لا تحمل نفسٌ حاملةٌ { وزِرْ أخرى } حِمل نفسٍ أخرى { وإن تدع مثقلة } نفسٌ مُثقَلةٌ بالذُّنوب { إلى حملها } ذنوبها { لا يحمل منه شيء ولو كان } المدعو { ذا قربى } مثل الأب والابن { إنما تنذر الذين يخشون ربَّهم بالغيب } إنَّما ينفع إنذارك الذين يخافون الله تعالى ، ولم يروه { ومَنْ تزكَّى } عمل خيراً .
{ وما يستوي الأعمى } عن الحقِّ ، وهو الكافر { والبصير } الذي يبصر رشده ، وهو المؤمن .
{ ولا الظلمات ولا النور } يعني : الكفر والإيمان .
{ ولا الظل ولا الحرور } يعني : الجنَّة التي فيها ظلٌّ دائمٌ ، والنَّار التي لها حرارةٌ شديدةً .
{ وما يستوي الأحياء ولا الأموات } يعني : المؤمنين والكفَّار { إنَّ الله يُسمع من يشاء } فينتفع بذلك { وما أنت بمسمع مَنْ في القبور } يعني : الكفَّار ، شبَّههم بالأموات ، أيْ : كما لا يسمع أصحاب القبور كذلك لا يسمع الكفَّار .
(1/754)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
{ ومن الجبال جدد بيض وحمر } أَيْ : طرائق تكون في الجبال كالعروق بيض وحمر ، { وغرابيب سود } وهي الجبال ذات الصُّخور السُّود .
{ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك } أَيْ : كاختلاف الجبال والثَّمرات في اختلاف الألوان . { إنما يخشى الله من عباده العلماء } أَيْ : مَنْ كان عالماً بالله اشتدَّت خشيته . وقوله :
{ يرجون تجارة لن تبور } يعني : لن تكسد ولن تفسد .
{ إنه غفور } لذنوبهم { شكور } لحسناتهم .
{ ثمَّ أورثنا } أعطينا بعد هلاك الأمم { الكتاب } القرآن ل { الذين اصطفينا من عبادنا } وهم أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ ذكر أصنافهم فقال : { فمنهم ظالم لنفسه } وهو الذي زادت سيئاته على حسناته { ومنهم مقتصد } وهو الذي استوت حسناته وسيِّئاته { ومنهم سابق الخيرات } وهو الذي رجحت حسناته { بإذن الله } بقضائه وإرادته . { ذلك هو الفضل الكبير } يعني : إيتاء الكتاب .
(1/755)

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
{ الحمد له الذي أذهب عنا الحَزَنَ } يعني : كلَّ ما يحزن له الإنسان من أمر المعاش والمعاد .
{ الذي أحلنا } أنزلنا { دار المقامة } دار الخلود { من فضله } أَيْ : ذلك بتفضُّله لا بأعمالنا { لا يمسنا فيها نصب } تعبٌ { ولا يمسنا فيها لغوب } إعياءٌ .
{ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا } .
{ وهم يصطرخون } يستغيثون . وقوله : { أولم نعمركم ما يتذكَّر فيه مَنْ تذكَّر } أَيْ : العمر الذي يتَّعظ فيه ، يرجع فيه إلى الله مَنْ يتَّعظ ، وهو ستون سنةً { وجاءكم النذير } يعني : الرَّسول ، وقيل : الشَّيب .
(1/756)

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
{ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } أَيْ : جعلكم أُمَّةً خلقت مَنْ قبلها من الأمم .
{ قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني } أخبروني عنهم { ماذا خلقوا من الأرض } . أَيْ : بأيِّ شيءٍ أوجبتم لهم الشِّركة مع الله ، أَلخلقٍ خلقوه من الأرض { أم لهم شرك في } خلق { السموات أم آتيناهم } أعطينا المشركين { كتاباً } بما يدَّعونه من الشِّرك { فهم على بيَّنةٍ } من ذلك الكتاب { بل إن يعد الظالمون } ما يعد بعض الظالمين بعضاً { إلاَّ غروراً } أباطيل .
{ إنَّ الله يمسك السموات والأرض أن تزولا } لئلا تزولا وتتحرَّكا { ولئن زالتا } ولو زالتا { إن أمسكهما } ما أمسكهما { من أحدٍ من بعده } سوى الله تعالى .
{ وأقسموا بالله جهد إيمانهم } يعني : المشركين ، كانوا يقولون قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم لئن أتانا رسولٌ { ليكونن أهدى من إحدى الأمم } أَيْ : من اليهود والنَّصارى والمجوس { فلما جاءهم نذير } هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم { ما زادهم } مجئيه { إلاَّ نفوراً } عن الحقِّ .
{ استكباراً في الأرض } أَيْ : استكبروا عن الإيمان استكباراً ، { ومكر السَّيِّىء } ومكروا المكر السَّيِّىءَ ، وهو مكرهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليقتلوه { ولا يحيق } أَيْ : يحيط { المكرُ السيِّىء إلاَّ بأهله } فحاق بهم مكرهم يوم بدرٍ . { فهل ينظرون } بعد تكذيبك { إلاَّ سنة الأولين } يعني : العذاب .
(1/757)

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
{ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا } من الجرائم { ما ترك على ظهرها } على ظهر الأرض { من دابة } من الإنس والجنِّ وكلِّ ما يعقل { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمَّىً فإذا جاء أجلهم فإنَّ الله كان بعباده بصيراً } .
(1/758)

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
{ يس } يا إنسان .
{ والقرآن الحكيم } أقسم الله تعالى بالقرآن المحكم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين ، وهو قوله :
{ إنك لمن المرسلين } .
{ على صراط مستقيم } على طريق الأنبياء الذين تقدَّموك .
{ تنزيل } أَيْ : القرآن تنزيل { العزيز الرحيم } .
{ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } في الفترة { فهم غافلون } عن الإيمان والرُّشد .
{ لقد حقَّ القول } وجبت عليهم كلمة العذاب { فهم لا يؤمنون } ثمَّ بيَّن سبب تركهم الإيمان .
(1/759)

إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } أراد : في أعناقهم وأيديهم؛ لأنَّ الغلَّ لا يكون في العنق دون اليد { فهي إلى الأذقان } أَيْ : فأيديهم مجموعةٌ إلى أذقانهم؛ لأنَّ الغلَّ يجعل في اليد ممَّا يلي الذقن { فهم مقمحون } رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق؛ لأنَّ مَنْ غُلَّت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه ، وهذا مَثَلٌ معناه : أمسكنا أيديهم عن النَّفقة في سبيل الله بموانعَ كالأغلال .
{ وجعلنا من بين أيديهم سدَّاً ومن خلفهم سداً } هذا وصف إضلال الله تعالى إيَّاهم ، فهو بمنزلة مَنْ سُدَّ طريقه من بين يديه ومن خلفه . يريد : إنَّهم لا يستطيعون أن يخرجوا من ضلالهم { فأغشيناهم } فأعميناهم عن الهدى { فهم لا يُبصرون } ه ثم ذكر أنَّ هؤلاء لا ينفعهم الإِنذار فقال :
{ وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } .
{ إنما تنذر من اتبع الذكر } إنما ينفع إنذارك من اتَّبع القرآن فعمل به { وخشي الرحمن بالغيب } خاف الله تعالى ولم يره .
{ إنا نحن نُحْيِ الموتى } عند البعث { ونكتب ما قدَّموا } من الأعمال { وآثارهم } ما استُنَّ به بعدهم . وقيل : خطاهم إلى المساجد { وكلَّ شيء أحصيناه } عددناه وبيَّناه { في إمام مبين } وهو اللَّوح المحفوظ .
{ واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } وهي أنطاكية { إذ جاءها المرسلون } رسل عيسى عليه السَّلام .
{ إذْ أرسلنا إليهم اثنين } من الحوارييِّن { فكذبوهما فَعَزَّزْنا بثالث } قوَّينا الرِّسالة برسولٍ ثالثٍ .
(1/760)

قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{ إنّا تطيرنا بكم } أَيْ : تشاءمنا ، وذلك أنَّهم حُبس عنهم المطر ، فقالوا : هذا بشؤمكم { لئن لم تنتهوا لَنَرْجُمَنَّكم } لنقتلنَّكم رجماً بالحجارة .
{ قالوا طائركم معكم } شؤمكم معكم بكفركم { أَإِنْ ذكرتم } وُعظتم وخُوِّفتم تطيَّرتم { بل أنتم قوم مسرفون } مُجاوزون الحدّ بشرككم .
{ وجاء من أقصى المدينة رجل } وهو حبيب النَّجار ، كان قد آمن بالرُّسل ، وكان منزله في أقصى البلد ، فلمَّا سمع أنَّ القوم كذَّبوهم وهمُّوا بقتلهم أتاهم يأمرهم بالإيمان ، فقال : { يا قوم اتبعوا المرسلين } .
{ اتبعوا مَنْ لا يسألكم أَجْراً } على أداء النُّصح وتبليغ الرِّسالة { وهم مهتدون } يعني : الرُّسل ، فقيل له : أنت على دين هؤلاء؟ فقال :
{ ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } .
{ أأتخذ من دونه إلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون } .
{ إني إذاً لفي ضلال مبين } .
(1/761)

إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
{ إني آمنت بربكم فاسمعون } فلمَّا قال ذلك وثبوا إليه فقتلوه ، فأدخله الله تعالى الجنَّة ، فذلك قوله تعالى :
{ قيل ادخل الجنَّة } فلمَّا شاهدها قال : { يا ليت قومي يعلمون } .
{ بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } أَيْ : بمغفرة ربِّي .
{ وما أنزلنا على قومه } يعني : على قوم حبيب { من جند من السماء } لنصرة الرُّسل الذين كذَّبوهم . يريد : لم نحتج في إهلاكهم إلى إرسال جند .
{ إن كانت } ما كانت عقوبتهم { إلاَّ صيحة واحدة } صاح بهم جبريل عليه السَّلام ، فماتوا عن آخرهم ، وهو قوله : { فإذا هم خامدون } ساكنون قد ماتوا .
{ يا حسرة على العباد } يعني : هؤلاء حين استهزؤوا بالرُّسل ، فتحسَّروا عند العقوبة .
{ ألم يروا } يعني : أهل مكَّة { كم أهلكنا قبلهم من القرون أنَّهم إليهم لا يرجعون } يعني : ألم يروا أنَّ الذين أهلكناهم قبلهم لا يرجعون إليهم .
{ وإن كل } وما كلُّ مَنْ خُلق مِن الخلق إلاَّ { جميع لدينا محضرون } عند البعث يوم القيامة يحضرهم ليقفوا على ما عملوا .
{ وآية لهم } على البعث { الأرض الميتة أحييناها } .
(1/762)

لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
{ وما عملته أيديهم } أَيْ : لم تعمله ولا صنع لهم في ذلك .
{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها } أَيْ : الأجناس من النَّبات والحيوان { وممَّا لا يعلمون } ممَّا خلق الله سبحانه من جميع الأنواع والأشباه .
{ وآية لهم } ودلالةٌ لهم على توحيد الله سبحانه وقدرته { الليل نسلخ } نُخرج { منه النهار } إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النَّهار ، والمعنى : ننزع النَّهار فنذهب به ، ونأتي باللَّيل { فإذا هم مظلمون } داخلون في الظَّلام .
{ والشمس } أَيْ : وآيةٌ لهم الشَّمس { تجري لمستقرٍ لها } عند انقضاء الدُّنيا .
{ والقمر قدرنا منازل } ذا منازلٍ { حتى عاد } في آخر منزله { كالعرجون القديم } وهو عود الشِّمراخ إذا يبس اعوجَّ .
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } فيجتمعا معاً { ولا الليل سابق النهار } يسبقه فيأتي قبل انقضاء النَّهار { وكلٌّ } من الشَّمس والقمر والنُّجوم { في فلك يسبحون } . [ يسيرون ] .
{ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم } أباهم { في الفلك المشحون } يعني : سفينة نوحٍ عليه السَّلام .
(1/763)

وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
{ وخلقنا لهم من مثله } من مثل جنس سفينة نوح { ما يركبون } في البحر .
{ وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } فلا مُغيث لهم { ولا هم يُنقذون } يُنجون .
{ إلاَّ رحمةً منا ومتاعاً إلى حين } أَيْ : إلا أن نَرحمهم ونُمتِّعهم إلى انقضاء آجالهم .
{ وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم } العذاب الذي عُذِّب به الأمم قبلكم { وما خلفكم } يعني : عذاب الآخرة { لعلكم ترحمون } لكي تكونوا على رجاء الرَّحمة ، وجواب { إذا } محذوف تقديره : وإذا قيل لهم هذا أعرضوا ، ودلَّ على هذا قوله تعالى :
{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلاَّ كانوا عنها معرضين } .
{ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } كان فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون للمشركين : أعطونا من أموالكم ما زعمتم أنَّها لله تعالى ، فكانوا يقولون استهزاءً : { أنطعم مَن لو يشاء الله أطعمه } فقال الله تعالى : { إن أنتم إلاَّ في ضلال مبين } .
{ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } أنَّا نُبعث .
{ ما ينظرون } ما ينتظرون { إلاَّ صيحة واحدة } وهي نفخة إسرافيل { تأخذهم وهم يخصمون } يختصمون ، يُخاصم بعضهم بعضاً . يعني : يوم تقوم الساعة وهم في غفلةٍ عنها .
(1/764)

فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
{ فلا يستطيعون } بعد ذلك أن يُوصوا في أمورهم بشيءٍ { ولا إلى أهلهم يرجعون } لا ينقلبون إلى أهليهم من الأسواق ، ويموتون في مكانهم .
{ ونفخ في الصور } يعني : نفخة البعث { فإذا هم من الأجداث } القبور { إلى ربهم ينسلون } يخرجون بسرعة .
{ قالوا : يا وليا مَنْ بعثنا من مرقدنا } أَيْ : منامنا ، وذلك أنَّهم كانوا قد رُفع عنهم العذاب فيما بين النَّفختين ، فيرقدون ثم يقولون : { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } أقرُّوا حين لم ينفعهم .
{ إن كانت إلاَّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } يريد : إنَّ بعثهم وإحياءهم كان بصيحة تُصاح بهم ، وهو قول إسرافيل عليه السَّلام : أيَّتها العظام البالية .
(1/765)

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
{ إن أصحاب الجنة اليوم في شغل } بافتضاض الأبكار { فاكهون } ناعمون فرحون مُعجبون .
(1/766)

لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
{ ولهم ما يدعون } يتمنَّون .
{ سلام } أَيْ : لهم سلامٌ { قولاً } يقوله الله عزَّ وجلَّ قولاً .
{ وامتازوا اليوم أيها المجرمون } أَيْ : انفردوا عن المؤمنين .
{ ألم أعهد إليكم } ألم آمركم { يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنَّه لكم عدوٌ مبين } .
(1/767)

وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
{ ولقد أضل منكم جبلاً } خلقاً { كثيراً أفلم تكونوا تعقلون } عدوانه وإضلاله .
(1/768)

اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
{ اصلوها اليوم } اُدخلوها وقاسوا حرَّها { بما كنتم تكفرون } بكفركم .
(1/769)

وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
{ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } لأعميناهم وأذهبنا أبصارهم { فاستبقوا الصراط } فتبادروا إلى الطَّريق { فأنى } يبصرون حينئذٍ وقد طمسنا أعينهم؟
{ ولو نشاء لمسخناهم } حجارةً وقردةً وخنازير { على مكانتهم } في منازلهم { فما استطاعوا مُضيّاً ولا يرجعون } أَيْ : لم يقدروا على ذهابٍ ولا مجيءٍ .
{ ومَنْ نعمره ننكسه في الخلق } مَنْ أطلنا عمره نكَّسنا خلقه ، فصار بدل القوَّة صعفاً ، وبدل الشَّباب هرماً { أفلا تعقلون } أنَّا نفعل ذلك .
{ وما علمناه الشعر } لم نعلِّمْ محمداً صلى الله عليه وسلم قول الشِّعر { وما ينبغي له } وما يتسهَّل له ذلك { إن هو } أَيْ : لس الذي أتى به { إلاَّ ذكرٌ وقرآن مبين } .
{ لينذر مَنْ كان حيَّاً } عاقلاً ، فلا يغفل ما يُخاطب به؛ لأنَّ الكافر كالميِّت { ويحق القول على الكافرين } تجب الحُجَّة عليهم .
(1/770)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
{ أَوَلَمْ يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً } أَيْ : عملناه من غير واسطةٍ ولا توكيلٍ ، ولا شريكٍ أعاننا { أنعاماً فهم لها مالكون } ضابطون .
{ وذللناها } سخَّرناها { لهم فمنها ركوبهم } ما يركبون .
(1/771)

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
{ واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون } يُمنعون من عذاب الله تعالى .
{ لا يستطيعون نصرهم } لا تنصرهم آلهتهم { وهم لهم جند محضرون } . في النار؛ لأنَّ أوثانهم معهم فيها .
{ فلا يحزنك قولهم } فيك بالسُّوء والقبيح . { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } فنجازيهم بذلك .
{ أَوَلَمْ ير الإِنسان أنا خلقناه من نطفة } يعني : العاص بن وائل . وقيل : أُبيّ بن خلف { فإذا هو خصيم مبين } جَدِلٌ بالباطل ، خاصم النبيَّ صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث ، وهو قوله :
{ وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه } وهو أنَّه قال : متى يُحيي الله العظيم البالي المتفتِّت؟ ونسي ابتداء خلقه؛ لأنَّه لو علم ذلك ما أنكر الإِعادة ، وهذا معنى قوله : { قال : مَنْ يُحْيِ العظام وهي رميم } أَيْ : باليةٌ .
{ قل : يحييها الذي أنشأها } خلقها { أول مرة وهو بكلّ خلق } من الابتداء والإِعادة { عليم } .
{ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً } يعني : المرخ والعفار ، ومنهما زنود الأعراب { فإذا أنتم منه توقدون } تورون النَّار ، ثمَّ احتجَّ عليهم بخلق السَّموات والأرض ، فقال :
{ أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } ثمَّ ذكر كمال قدرته فقال :
{ إنما أمره إذا أراد شيئاً } أَيْ : خلق شيءٍ { أن يقول له كن فيكون } ذلك الشَّىء .
{ فسبحان } تنزيهاً لله سبحانه من أن يُوصف بغير القدرة على الإعادة { الذي بيده ملكوت كلِّ شيء } أَيْ : القدرة على كلِّ شيء { وإليه ترجعون } تُردُّون في الآخرة .
(1/772)

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
{ والصافات صفاً } يعني : صفوف الملائكة في السَّماء .
{ فالزاجرات زجراً } يعني : الملائكة تزجر السَّحاب وتسوقه .
{ فالتاليات ذكراً } جماعة قرَّاء القرآن .
{ إن إلهكم لواحد } أقسم الله سبحانه بهؤلاء أنَّ إلهكم لواحد .
{ وربّ المشارق } مطالع الشمس .
{ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } بضوئها ، { و } حفظناها .
{ حفظاً من كلِّ شيطان مارد } متمرِّدٍ خبيثٍ .
(1/773)

لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
{ لا يَسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى } يعني : الملائكة . { ويقذفون من كلّ جانب } ويُرمون .
{ دحوراً } يُدحرون دحوراً ، أَيْ : يُباعدون { ولهم عذاب واصب } دائم .
{ إلاَّ من خطف الخطفة } سمع الكلمة من الملائكة فأخذها بسرعةٍ { فأتبعه } لقحه { شهاب ثاقب } كوكبٌ مضيءٌ .
{ فاستفتهم } فسلهم . يعني : أهل مكَّة { أهم أشد خلقاً أم من خلقنا } من الأمم السَّالفة قبلهم ، وغيرهم من السَّموات والأرض { إنا خلقناهم من طين لازب } لاصقٍ لازمٍ .
{ بل عجبت } يا محمَّد من تكذيبهم إيَّاك { و } هم { يسخرون } من تعجُّبك .
(1/774)

وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
{ وإذا رأوا آية } معجزةً سخروا .
{ وقالوا إن هذا إلاَّ سحر مبين } .
(1/775)

قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
{ قل : نعم } تبعثون { وأنتم داخرون } صاغرون أذلاَّء .
{ فإنما هي } يعني : القيامة { زجرة } صيحةٌ { واحدة فإذا هم } أحياءٌ { ينظرون } سوء أعمالهم . وقيل : ما كذَّبوا به .
{ وقالوا : يا ويلنا هذا يوم الدين } يوم نُجازى فيه بما عملنا .
{ هذا يوم الفصل } بين الحقِّ والباطل . { الذي كنتم به تكذبون } .
{ احشروا الذين ظلموا } كفروا { أزواجهم } قرناءهم من الشَّياطين وأوثانهم .
{ فاهدوهم } دلُّوهم إلى النار .
{ وقفوهم } احبسوهم { إنهم مسؤولون } عن أقوالهم وأفعالهم .
{ مالكم لا تناصرون } لا ينصر بعضكم بعضاً .
{ بل هم اليوم مستسلمون } مُنقادون .
{ وأقبل بعضهم على بعض } يعني : الأتباع والرُّؤساء { يتساءلون } يتخاصمون .
{ قالوا } يعني : الأتباع للرُّؤساء { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } تقهروننا بالقوَّة من قبل الدِّين ، فتضلُّونا عنه .
{ قالوا بل لم تكونوا مؤمنين } أَيْ : إنَّما الكفر من قِبَلِكم .
(1/776)

فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
{ فحق علينا } جميعاً { قول ربنا } كلمة العذاب .
(1/777)

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
{ إلاَّ عباد الله المخلصين } المؤمنين لكن عباد الله المخلصين .
{ أولئك لهم رزق معلوم } بكرةً وعشياً .
(1/778)

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
{ بكأس من معين } خمرٍ تجري على وجه الأرض .
{ بيضاء لذة للشَّاربين } ذات لذَّةٍ .
{ لا فيها غولٌ } داءٌ ولا وجعٌ { ولا هم عنها ينزفون } لا تذهب بعقولهم .
{ وعندهم قاصرات الطرف } نساء لا ينظرن إلى غير أزواجهنَّ { عين } نُجْل العيون .
{ كأنهن بيض } في صفاء لونها { مكنون } يستره ريش النَّعام .
{ فأقبل بعضهم } يعني : أهل الجنَّة { على بعض يتساءلون } عمَّا مرَّ بهم .
{ قال قائل منهم إني كان لي قرين } يعني : الذين قصَّ الله خبرهما في سورة الكهف ، كان يقول له قرينه :
{ أَإِنّك لمن المصدقين } ممَّن يصدِّق بالبعث والجزاء؟ وقوله :
{ أإنَّا لمدينون } أَيْ : مجزيون .
{ قال } الله سبحانه لأهل الجنَّة : { هل أنتم مطلعون } إلى النَّار .
{ فاطلع } المسلم فرأى قرينه الكافر { في سواء الجحيم } وسطه ، فقال له :
{ تالله إن كدت لَتُرِديْنَ } تهلكني وتضلُّني .
(1/779)

وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
{ ولولا نعمة ربي } عصمته ورحمته { لكنت من المحضرين } في النَّار .
{ أفما نحن بميتين } . { إلاَّ موتتنا الأولى } يقوله أهل الجنَّة للملائكة حين يُذبح الموت ، فتقول الملائكة : لا ، فيقولون : { إنَّ هذا لهو الفوز العظيم } . { لمثل هذا فليعمل العاملون } .
{ أذلك } الذي ذكرتُ من نعيم أهل الجنَّة { خيرٌ نُزُلاً أم شجرة الزقوم } .
{ إنا جعلناها فتنة للظالمين } افتتنوا بها ، وكذَّبوا بكونها فصارت فتنةً لهم ، وذلك أنَّهم أنكروا أن يكون في النَّار شجرة . قال الله تعالى :
{ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أصلها في قعر جهنَّم .
{ طلعها } ثمرها { كأنَّه رؤوس الشياطين } في القبح وكراهية المنظر .
(1/780)

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)
{ ثمَّ إنَّ لهم عليها } على شجرة الزَّقوم { لشوباً } خلطاً ومزاجاً { من حميم } ماءٍ حارٍ .
{ ثم إنَّ مرجعهم } مرجع الكفَّار { لإِلى الجحيم } الذي يجمع هذه الأشياء .
(1/781)

فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
{ يهرعون } أَيْ : يزعجون إلى أتباعهم .
(1/782)

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
{ ولقد نادانا نوح } يعني : قوله : { إنِّي مغلوبٌ فانتصر } { فلنعم المجيبون } نحن .
{ ونجيناه وأهله من الكرب العظيم } يعني : الغرق .
{ وجعلنا ذريته هم الباقين } لأنَّ الخلق كلَّهم أُهلكوا إلاَّ مَنْ كان معه في سفينته ، وكانوا من ذرِّيَّته .
{ وتركنا عليه في الآخرين } فيمن يأتي بعده ثناءً حسناً ، وهو أن يُصلَّى عليه ويُسلَّم ، وهو معنى قوله : { سلام على نوح في العالمين } .
(1/783)

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
{ وإن من شيعته } أهل دينه وملَّته { لإِبراهيم } .
{ إذ جاء ربه بقلب سليم } من الشِّرك .
(1/784)

فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)
{ فما ظنكم برب العالمين } قال إبراهيم عليه السَّلام لقومه وهم يعبدون الأصنام : أَيُّ شيءٍ ظنُّكم بربِّ العالمين وأنتم تعبدون غيره؟
{ فنظر نظرة في النجوم } وذلك أنَّه كان لقومه من الغد عيدٌ يخرجون إليه ، ويضعون أطعمتهم بين يدي أصنامهم لتبرِّك عليها زعموا ، فقالوا لإِبراهيم : ألا تخرج معنا إلى عيدنا؟ فنظر إلى نجم وقال :
{ إني سقيم } وكانوا يتعاطون علم النُّجوم ، فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه ، واعتلَّ في التَّخلُّف من عيدهم بأنَّه يعتلُّ ، وتأوَّل في قوله : { سقيم } سأسقم .
{ فتولوا عنه مدبرين } أدبروا عنه إلى عيدهم وتركوه .
{ فراغ } فمال { إلى آلهتهم فقال } إظهاراً لضعفها وعجزها { ألا تأكلون } من هذه الأطعمة .
(1/785)

فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
{ فراغ } فمال { عليهم } يضربهم { ضرباً باليمين } بيده اليمنى .
{ فأقبلوا إليه } من عيدهم { يزفون } يسرعون . فقال لهم إبراهيم محتجاً .
{ أتعبدون ما تنحتون } . { والله خلقكم وما تعملون } من نحتكم وجميع أعمالكم .
{ قالوا ابنوا له بنياناً } حظيرة واملؤوه ناراً ، وألقوا إبراهيم في تلك النَّار .
{ فأرادوا به كيداً } حين قصدوا إحراقه بالنَّار { فجعلناهم الأسفلين } المقهورين ، لأنَّه علاهم بالحجَّة والنُّصرة .
{ وقال إني ذاهب إلى ربي } إلى المكان الذي أمرني بالهجرة إليه { سيهدين } يثبتني على الهدى .
{ رب هب لي } ولداً { من الصالحين } .
{ فبشرناه بغلام حليم } سيِّدٍ يُوصف بالحلم .
{ فلما بلغ } ذلك الغلام { معه السعي } أَيْ : أدرك معه العمل { قال : يا بنيَّ إني أرى في المنام أني أذبحك } وذلك أنَّه أُمر في المنام بذبح ولده { فانظر ماذا ترى } ما الذي تراه فيما أقول لك ، هل تستسلم له؟ فاستسلم الغلام و { قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } .
{ فلما أسلما } انقادا لأمر الله { وتلَّه للجبين } صرعه على أحد جنبيه .
{ وناديناه أن يا إبراهيم } . { قد صدَّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين } .
{ إنّ هذا لهو البلاء المبين } الاختيار الظاهر . يعني : حين اختبره بذبح ولده ، فانقاد وأطاع .
{ وفديناه بذبحٍ } بكبشٍ { عظيم } لأنَّه رعى في الجنَّة أربعين خريفاً ، وكان الكبش الذي تُقبِّل من ابن آدم عليه السَّلام .
(1/786)

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
{ ولقد مننا على موسى وهارون } بالنُّبوَّة .
{ ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم } يعني : الغرق .
(1/787)

أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
{ أتدعون بعلاً } يعني : صنماً كان لهم .
(1/788)

فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
{ فكذبوه فإنهم لمحضرون } في النَّار .
{ إلاَّ عباد الله المخلصين } من قومه .
(1/789)

سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
{ سلام على إِلْ ياسين } يعني : إلياس عليه السَّلام . وقيل : يعني قومه ممَّن ينتسب إلى اتَّباعه .
(1/790)

إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
{ إذ أبق } هرب { إلى الفلك المشحون } السَّفينة المملوءة حين ذهب مُغاضباً ، فوقفت السَّفينة ولم تجرِ ، فقارعه أهل السَّفينة فخرجت القرعة عليه ، فخرج منها وألقى نفسه في البحر ، فذلك قوله :
{ فساهم } فقارع { فكان من المدحضين } المغلوبين بالقرعة .
{ فالتقمه } فابتلعه { الحوت وهم مليم } أتى بما يُلام عليه .
{ فلولا أنَّه كان من المسبحين } من المُصلِّين قبل ذلك .
{ للبث في بطنه } في بطن الحوت إلى يوم القيامة .
{ فنبذناه } طرحناه { بالعراء } وجه الأرض { وهو سقيم } عليلٌ كالفرخ الممعَّط .
{ وأنبتنا عليه } عنده { شجرة من يقطين } وهو القرع ليستظلَّ بها .
{ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } بل يزيدون .
{ فآمنوا فمتعناهم إلى حين } إلى انقضاء آجالهم .
{ فاستفتهم } فسل يا محمَّد أهلَ مكَّة { ألربك البنات ولهم البنون } وذلك أنَّهم كانوا يزعمون أنَّ الملائكة بنات الله .
{ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون } حاضرون خلقنا إيَّاهم .
(1/791)

أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
{ أَصطفى البنات على البنين } أتَّخذ البنات دون البنين فاصطفاها ، وجعل لكم البنين؟ كقوله : { أفأصفاكم ربُّكم بالبنين واتَّخذَ من الملائكة إِناثاً . }
(1/792)

أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
{ أم لكم سلطان } برهانٌ { مبين } على أنَّ لله ولداً .
{ فأتوا بكتابكم } الذي فيه حُجَّتكم { إن كنتم صادقين } .
{ وجعلوا بينه وبين الجنة } يعني : الملائكة { نسباً } حين قالوا : إنَّهم بنات الله . { ولقد علمت الجنة } الملائكة { إنهم لمحضرون } أنَّ الذين قالوا هذا القول محضرون في النَّار .
(1/793)

إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)
{ إلاَّ عباد الله المخلصين } فإنهم ناجون من النَّار .
{ فإنكم وما تعبدون } من الأصنام .
{ وما أنتم عليه بفاتنين } لا تفتنون أحداً على ما يعبدون ولا تضلونه .
{ إلاَّ مَنْ هو صال الجحيم } أَيْ : إلا مَنْ هو في معلوم الله أنَّه يدخل النَّار .
{ وما منا إلاَّ له } هذا من قول الملائكة ، والمعنى : ما منَّا مَلَكٌ إلاَّ له { مقام معلوم } من السَّماء يعبد الله سبحانه هناك .
{ وإنا لنحن الصافون } في الصَّلاة .
{ وإنا لنحن المسبحون } المُصلُّون .
{ وإن كانوا ليقولون } كان كفار مكَّة يقولون : لو جاءنا كتابٌ كما جاء غيرنا من الأوَّلين لأخلصنا عبادة الله سبحانه ، فلمَّا جاءهم كفروا به .
(1/794)

فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
{ فسوف يعلمون } عاقبة كفرهم .
{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } .
{ إنهم لهم المنصورون } .
{ وإن جندنا لهم الغالبون } أَيْ : تقدَّم الوعد بنصرتهم ، وهو قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي } { فَتَوَلَّ عنهم حتى حين } حتى تنقضي المدة التي أمهلوا فيها .
{ وأَبْصرْهم } انظر إليهم إذا عذِّبوا { فسوف يبصرون } ما أنكروا .
{ أفبعذابنا يستعجلون } وذلك أنَّهم كانوا يقولون : متى هذا الوعد؟
{ فإذا نزل } العذاب { بساحتهم } بِفِنائهم { فَسَاءَ صباح المنذرين } .
(1/795)

وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
{ وأبصر } انظر فبئس ما يصبحون عند ذلك .
(1/796)

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
{ ص } صدق الله { والقرآن ذي الذكر } ذي الشَّرف .
{ بل الذين كفروا في عزَّة } امتناعٍ من الدِّين { وشقاق } خلافٍ وعداوةٍ .
{ كم أهلكنا } هذا جواب القسم ، اعترض بينهما قوله : { بل الذين كفروا } .
{ فنادوا } بالاستغاثة عند الهلاك { ولات حين مناص } وليس حين منجىً وفوت .
{ وعجبوا } يعني : أهل مكَّة { أن جاءهم منذر منهم } محمَّد صلى الله عليه وسلم .
{ أجعل الآلهة إلهاً واحداً } وذلك أنَّهم اجتمعوا عند أبي طالب يشكون إليه النبيَّ صلى الله عيله وسلم ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : إني أدعوكم إلى كلمة التَّوحيد لا إله إلاَّ الله ، فقالوا : كيف يسع الخلق كلَّهم إلهٌ واحد؟ { إنَّ هذا } الذي يقوله { لشيء عجاب } عجيب .
{ وانطلق الملأ منهم } نهضوا من مجلسهم ذلك ، يقول بعضهم لبعض : { امشوا واصبروا على آلهتكم إنَّ هذا } الذي يقوله محمَّد { لشيءٌ يراد } أَيْ : لأَمرٌ يُراد . بنا ، ومكرٌ يمكر علينا .
{ ما سمعنا بهذا } الذي يقوله { في الملَّة الآخرة } فيما أدركنا عليه آباءنا { إن هذا إلاَّ اختلاق } زورٌ وكذب .
{ أَأنزل عليه الذكر من بيننا } كيف خُصَّ بالوحي من جملتنا؟ قالوا هذا حسداً له على النُّبوَّة . قال الله تعالى : { بل هم في شك من ذكري } أَيْ : وَحْيِي [ أَيْ : حين قالوا : اختلاق ] { بل لما يذوقوا عذاب } ولو ذاقوه لأيقنوا وصدَّقوا .
{ أم عندهم خزائن رحمة ربك } أَيْ : مفاتيح النُّبوَّة حتى يعطوا النُّبوَّة مَن اختاروا .
(1/797)

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
{ أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما } يعني : إنَّ ذلك لله عزَّ وجلَّ فيصطفي مَنْ يشاء { فليرتقوا في الأسباب } أَيْ : إن ادَّعوا شيئاً من ذلك فليصعدوا فيما يوصلهم إلى السَّماء ، وليأتوا منها بالوحي إلى مَنْ يختارون ، ثمَّ وعد نبيَّه النَّصر فقال :
{ جند ما هنالك } أَيْ : هم جندٌ هنالك { مهزوم } مغلوبٌ { من الأحزاب } كالقرون الماضية الذين قُهروا وأُهلكوا ، وهذا إخبارٌ عن هزيمتهم ببدرٍ ، ثمَّ عزَّى نبيَّه عليه السَّلام فقال :
{ كذبت قبلهم قوم نوح وعادٌ وفرعون ذو الأوتاد } ذو الملك الشَّديد .
(1/798)

إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
{ إنْ كلٌّ } ما كلٌّ من هؤلاء { إلاَّ كذَّب الرسل فحقَّ } فوجب { عقاب } .
{ وما ينظر هؤلاء } أَيْ : ما ينتظر هؤلاء كفار مكَّة { إلاَّ صيحة واحدة } وهي نفخة القيامة { ما لها من فواق } رجوعٌ ومردٌّ .
{ وقالوا ربنا عجِّلْ لنا قطنا } كتابنا وصحيفة أعمالنا { قبل يوم الحساب } وذلك لمَّا نزل قوله : { فأمَّا مَنْ أوتي كتابه بيمينه } { وأمَّا مَنْ أوتي كتابه بشماله } سألوا ذلك ، فنزلت هذه الآية . وقوله :
{ داود ذا الأيد } أي : ذا القوَّة في العباد { إنَّه أوَّابٌ } رجَّاع إلى الله سبحانه .
{ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن } يجاوبنه بالتَّسبيح { بالعشي والإِشراق } يعني : الضُّحى .
{ والطير } أَيْ : وسخَّرنا الطَّير { محشورة } مجموعةً { كلٌّ له } لداود { أواب } مطيعٌ يأتيه ويسبِّح معه .
{ وشددنا ملكه } بالحرس ، وكانوا ثلاثةً وثلاثين ألف رجلٍ يحرسون كلَّ ليلةٍ محرابه . { وآتيناه الحكمة } الإِصابة في الأمور { وفصل الخطاب } بيان الكلام ، والبصر في القضاء ، وهو الفصل بين الحقِّ والباطل .
{ وهل أتاك نبأ الخصم } يعني : الملكين اللذين تصوَّرا في صورة خصمين من بني آدم { إذ تسوروا المحراب } علوا غرفة داود عليه السَّلام .
{ إذ دخلوا على داود ففزع منهم } لأنَّهما دخلا بغير إذنٍ في غير وقت دخول الخصوم { قالوا لا تخف خصمان } أَيْ : نحن خصمان { بغى بعضنا على بعض } أَيْ : ظلم بعضنا بعضاً { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } ولا تَجُرْ { واهدنا إلى سواء الصراط } إلى طريق الحقِّ .
{ إنَّ هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجة } يعني : امرأة { ولي نعجة واحدة } أَي : امرآةٌ { فقال : أكفلنيها } أَي : انزل عنها واجعلني أنا أكفلها { وعزَّني في الخطاب } غلبني في الاحتجاج لأنَّه أقوى مني . وأقدر على النُّطق ، وهذا القول من الملكين على التّمثيل لا على التَّحقيق ، كأنَّ القائل منهما قال : نحن كخصمين هذه حالهما ، فلمَّا قال هذا أحد الخصمين اعترف له الآخر .
(1/799)

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
{ قال } داود عليه السَّلام : { لقد ظلمك بسؤال نعجتك } أَيْ : بسؤاله إيَّاك نعجتك : امرأتك أن يضمَّها { إلى نعاجه ، وإن كثيراً من الخلطاء } الشُّركاء { ليبغي بعضهم على بعض إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم } [ وقليلٌ هم ] { وظنَّ داود } علم عند ذلك { إنّما فتناه } ابتليناه بتلك المرأة التي أحبَّ أن يتزوَّجها ، ثمَّ تزوَّجها بعد قتل زوجها { فاستغفر ربه } ممَّا فعل ، وهو محبَّته يتزوَّج امرأةَ مَنْ له امرأةٌ واحدةٌ ، وله تسع وتسعون امرأةً { وخرَّ راكعاً } سقط للسُّجود بعد ما كان راكعاً { وأناب } رجع إلى الله سبحانه بالتَّوبة .
{ فغفرنا له ذلك وإنَّ له عندنا } بعد المغفرة { لزلفى } قربةً { وحسن مآب } مرجع .
{ يا داود إنَّا جعلناك خليفة في الأرض } أَيْ : عَنْ مَنْ قبلك من الأنبياء ، وقوله : { بما نسوا يوم الحساب } أَيْ : تركوا الإِيمان به والعمل له .
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } إلاَّ لأمرٍ صحيحٍ ، وهو الدَّلالة على قدرة خالقهما وتوحيده وعبادته .
(1/800)

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
{ الصافناتُ الجياد } أي : الخيل القائمة .
{ فقال : إني أحببت حبَّ الخير عن ذكر ربي } آثرت حبَّ الخير ، أي : الخيل ، على ذكر الله حتى فاتني في وقته { حتى توارت } الشَّمس { بالحجاب } أَيْ : غربت ، وقوله :
{ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } أَيْ : أقبل يقطع سوقها وأعناقها ، ولم يفعل ذلك إلاَّ لإِباحة الله عزَّ وجلَّ له ذلك ، وقوله :
{ ولقد فتنا سليمان } ابتليناه { وألقينا على كرسيِّه جسداً } شيطاناً تصوَّر في صورته ، وذلك أنَّه تزوَّج امرأة وهويها ، وعبدت الصَّنم في داره بغير علمه ، فنزع الله ملكه أيَّاماً ، وسلَّط شيطاناً على مملكته ، ثمَّ تاب سليمان وأعاد الله عليه ملكه ، فسأل الله أن يهب له ملكاً يدلُّ على أنَّه غفر له ، وردَّ عليه ما نزع منه ، وهو قوله :
{ وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي } . وقوله :
{ رخاءً } أي : ليِّنةً مُطيعةً سريعةً { حيث أصاب } أراد وقصد سليمان عليه السَّلام .
{ والشياطين } أَيْ : وسخَّرنا له { كلَّ بناء } من الشَّياطين مَنْ يبنون له { وغوَّاص } يغوصون في البحر ، فيستخرجون ما يريد .
{ وآخرين مقرنين في الأصفاد } وسخَّرنا له مردة الشَّياطين حتى قرنهم في السَّلاسل من الحديد ، وقلنا له :
{ هذا } الذي أعطيناك { عطاؤنا فامنن } أَيْ : أعطِ { أو أمسك بغير حساب } عليك في إعطائه ولا إمساكه ، وهذا مما خصَّ به .
(1/801)

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
{ بنصب } أَيْ : بتعبٍ ومشقَّةٍ في بدني { وعذاب } في أهلي ومالي ، فقلنا له :
{ اركض برجلك } أَيْ : دُسْ وحرِّك برجلك في الأرض ، فداس فنبعت عين ماءٍ ، فاغتسل به حتى ذهب الدّاء من ظاهره ، ثمَّ شرب منه فذهب الدَّاء من باطنه .
{ ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب } مُفسَّرةٌ في سورة الأنبياء عليهم السَّلام .
{ وخذ بيدك ضغثاً } حزمةً من الحشيش { فاضرب به } امرأتك { ولا تحنث } في يمينك . وقوله :
{ أولي الأيدي } أَيْ : ذوي القوَّة في العبادة { والأبصار } البصائر في الدِّين .
{ إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } أَيْ : جعلناهم يُكثرون ذكر الدَّار الآخرة والرُّجوع إلى الله تعالى .
(1/802)

وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
{ من الأخيار } جمع خيِّر .
{ هذا ذكر } شرفٌ وذكرٌ جميلٌ يُذكرون به أبداً { وإنَّ للمتقين } مع ذلك { لحسن مآب } مرجعٍ في الآخرة ، ثمَّ بيَّن ذلك المرجع فقال :
{ جنات عدن } .
(1/803)

وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
{ أتراب } [ أقرانٌ وأمثالٌ ] أسنانهنَّ واحدةٌ .
(1/804)

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)
{ هذا وإنَّ للطاغين } أي : الأمر هذا الذي ذكرت .
(1/805)

هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
{ هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق } أَيْ : هذا حميمٌ وغسَّاقٌ فليذوقوه ، والغسَّاق : ما سال من جلود أهل النَّار .
{ وآخر } أَيْ : وعذابٌ آخر { من شكله } من مثل ذلك الأوَّل { أزواج } أنواع فإذا دخلت الرُّؤساء النَّار ، ثمَّ دخل بعدهم الأتباع قالت الملائكة :
{ هذا فوج } جماعةٌ { مقتحمٌ معكم } داخلوا النَّار ، فقال الرُّؤساء : { لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار } كما صليناها ، فقال الأتباع :
{ بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدَّمتموه لنا } شرعتم وسنتتم الكفر لنا { فبئس القرار } قرارانا وقراراكم .
{ قالوا } أي : الأتباع { ربنا مَنْ قدَّم لنا هذا } شرعه وسنَّه { فزده عذاباً ضعفاً في النار } كقوله : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } { وقالوا } يعني : صناديد قريش : { ما لنا لا نرى رجالاَ كنَّا نعدُّهم من الأشرار } أي : فقراء المسلمين .
{ أتخذناهم سخرياً } كنَّا نسخر بهم في الدَّنيا ، أَمفقودون هم؟ { أم زاغت عنهم الأبصار } فلا نراهم ها هنا .
{ إن ذلك } الذي ذكرنا عن أهل النَّار { لحق } ثمَّ بيَّن ما هو فقال : { تخاصم أهل النار } .
(1/806)

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
{ قل هو نبأٌ عظيم } أَي : القرآن الذي أنبأكم به وجئتكم فيه بما لا يُعلم إلاَّ بوحي .
(1/807)

مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
{ ما كان لي من علم بالملأ الأعلى } وهم الملائكة { إذ يختصمون } في شأن آدم عليه السَّلام . يعني : قولهم : { أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها . . . } الآية .
(1/808)

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
{ لما خلقت بيدي } أَيْ : تولَّيت خلقه ، وهذا اللَّفظ ذُكر تخصيصاً وتشريفاً لآدم عليه السَّلام ، وإن كان كلُّ شيءٍ يتولَّى الله خلقه دون غيره .
(1/809)

قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
{ قال فالحقُّ والحقَّ أقول } أَيْ : فبالحقِّ أقول ، وأقول الحقَّ [ قَسمٌ جوابه ] : { لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } .
{ قل ما اسألكم عليه } على تبليغ الرِّسالة { من أجر وما أنا من المتكلفين } المُتقوِّلين للقرآن من تلقاء نفسي .
{ إن هو } ليس القرآن { إلاَّ ذكر } عظةٌ { للعالمين } .
{ ولتعلمنَّ } أنتم أيُّها المشركون { نبأه } ما أخبرتكم فيه من البعث والقيامة { بعد حين } بعد الموت .
(1/810)

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{ تنزيل الكتاب } ابتداءٌ ، وخبرُه قوله : { من الله العزيز الحكيم } . وقوله :
{ مخلصاَ له الدين } أَيْ : الطَّاعة ، والمعنى : اعبده مُوحِّداً لا إله إلاَّ هو .
{ ألا لله الدين الخالص } أَيْ : الطَّاعة لا يستحقُّها إلاَّ الله تعالى ، ثمَّ ذكر الذين يعبدون غيره فقال : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم } أَيْ : ويقولون : { ما نعبدهم إلاَّ ليُقَرِّبونا إلى الله زلفى } أَيْ : قربى { إنَّ الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون } من أمر الدِّين ، ثمَّ ذكر أنَّه لا يهدي هؤلاء ، فقال : { إنَّ الله لا يهدي مَنْ هو كاذب } في إضافة الولد إلى الله تعالى { كفار } يكفر نعمته بعبادة غيره ، ثمَّ ذكر براءته عن الولد فقال :
{ لو أراد الله أن يتخذ ولداً } كما يزعم هؤلاء { لاصطفى } لاختار { ممَّا يخلق ما يشاء ، سبحانه } تنزيهاً له عن الولد . وقوله :
{ يكور الليل على النهار } أَيْ : يدخل أحدهما على الآخر .
{ خلقكم من نفس واحدة } يعني : آدم عليه السَّلام { ثمَّ جعل منها زوجها } حوَّاء { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } مشروحٌ في سورة الأنعام ، وقوله : { خلقاً من بعد خلق } أَيْ : نطفةً ، ثمَّ علقةً ، ثمَّ مضغةً { في ظلمات ثلاث } ظلمة البطن ، وظلمة الرَّحم ، وظلمة المشيمة { فأنى تُصرفون } عن عبادته إلى عبادة غيره بعد هذا اليبان! وقوله :
{ ولا يرضى لعباده الكفر } أَيْ : المؤمنين المخلصين منهم ، كقوله : { عيناً يشرب بها عباد الله } . { وإن تشكروا } أَيْ : إن تطيعوا ربَّكم { يرضه لكم } يرض الشُّكر لكم ويُثبكم عليه .
(1/811)

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
{ وإذا مسَّ الإنسان } يعني : الكافر { ضرٌّ دعا ربَّه منيباً إليه } راجعاً { ثمَّ إذا خَوَّلَهُ } أعطاه { نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل } نسي الله الذي كان يتضرَّع إليه من قبل النِّعمة ، وترك عبادته { قل } يا محمَّد عليه السَّلام لمن يفعل ذلك : { تمتع بكفرك قليلاًَ إنك من أصحاب النار } . وهذا تهديدٌ .
{ أم مَنْ هو قانت } قائمٌ مطيعٌ لله { آناء الليل } أوقاته { يحذر } عذاب { الآخرة } كمَنْ هو عاص؟ ثمَّ ضرب لهما مثلاً فقال : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } أَيْ : هل يستوي العالم والجاهل؟ كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . { إنما يتذكر أولوا الألباب } إنَّما يتَّعظ بوعظ الله ذوو العقول . وقوله :
{ للذين أحسنوا في هذه الدنيا } وحَّدوا الله تعالى وعملوا بطاعته { حسنة } وهي الجنَّة { وأرض الله واسعة } فهاجروا فيها ، واخرجوا من بين الكفَّار { إنما يوفى الصابرون } على طاعة الله تعالى وما يبتليهم به { أَجْرَهُمْ بغير حساب } بغير مكيالٍ ولا ميزان .
{ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين } أَيْ : مُوحِّداً .
{ وأمرت لأن أكون أول المسلمين } من هذه الأُمَّة .
(1/812)

فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
{ قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم } بالتَّخليد في النَّار { وأهليهم } لأنَّهم لم يدخلوا مدخلِ المؤمنين الذين لهم أهل في الجنَّة .
{ لهم من فوقهم ظللٌ } هذا كقوله { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم . . . } الآية ، وكقوله : { لهم من جهنَّم مهادٌ ومن فوقهم غواشٍ } { ذلك } الذي وصفت من العذاب { يخوِّف الله به عباده } .
{ والذين اجتنبوا الطاغوت } أَيْ : الأوثان { أن يعبدوها وأنابوا إلى الله } رجعوا إليه بالَّطاعة { لهم البشرى } بالجنَّة { فبشر عباد } .
{ الذين يستمعون القول } القرآن وغيره { فيتبعون أحسنة } وهو القرآن .
{ أفمن حقَّ عليه كلمةُ العذاب أفأنت } يا محمَّدُ { تنقذ } ه ، أَيْ : تُخرجه من النَّار ، أيْ : إنَّه لا يقدر إلى هدايته ، وقوله :
{ لهم غرفٌ من فوقها غرفٌ مبنية } أَيْ : لهم منازل في الجنَّة رفيعةٌ ، وفوقها منازل أرفع منها .
{ ألم تر أنَّ الله أنزل من السماء ماءً فسلكه } أدخل ذلك الماء { ينابيع في الأرض } وهي المواضع التي ينبع منها الماء ، وكلُّ ماءٍ في الأرض فمن السَّماء نزل . { ثم يخرج به } بذلك الماء { زرعاً مختلفاً ألوانه } خضرةً ، وحمرةً ، وصفرةً { ثمَّ يهيج } ييبس { فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً } دُقاقاً فتاتاً { إنَّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب } يذكرون ما لهم من الدَّلالة في هذا على توحيد الله تعالى وقدرته .
{ أفمن شرح الله صدره } وسَّعه { للإِسلام فهو على نور من ربه } أَيْ : فاهتدى إلى دين الإِسلام ، كمَنْ طبع على قلبه ، ويدل على هذا المحذوف قوله : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } .
{ والله نزل أحسن الحديث } أي : القرآن { كتاباً متشابهاً } يشبه بعضه بعضاً من غير اختلافٍ ولا تناقضٍ { مثاني } يثني فيه الأخبار والقصص ، وذكر الثَّواب والعقاب { تقشعر } تضطرب وتتحرَّك بالخوف { منه جلود الذين يخشون ربهم } يعني : عند ذكر آية العذاب { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } أَيْ : من آية الرَّحمة { ذلك هدى الله } أَيْ : ذلك الخشية من العذبا ورجاء الرَّحمة هدى الله .
{ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } وهو الكافر يُلقي في النَّار مغلولاً ، فلا يتهيَّأ له أن يتَّقي النَّار إلاَّ بوجهه ، ومعنى الآية : أَفَمن هذه حاله كمَن يدخل الجنَّة؟
(1/813)

قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
{ غير ذي عوج } أَيْ : ليس فيه اختلافٌ وتضادٌّ ، ثمَّ ضرب مثلاً للموحِّد والمشرك فقال :
{ ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون } متنازعون سيِّئةٌ أخلاقهم ، وكلُّ واحدٍ يستخدمه بقدر نصيبه ، وهذا مَثَلُ المشرك الذي يعبد آلهةً شتى { ورجلاً سالماً } خالصاً لرجل وهو الذي يعبد الله وحده { هل يستويان مثلاً } أَيْ : هل يستوي مَثَل الموحِّد ومَثَل المشرك؟ { الحمد لله } وحده دون غيره من المعبودين { بل أكثرهم لا يعلمون } مفسَّر في سورة النَّحل . ثمَّ ذكر أنهم يموتون ويرجعون إلى الله فيختصمون عنده ، فقال :
{ إنك ميت وإنهم ميتون } { ثمَّ إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } يعني : المؤمن والكافر ، والمظلوم والظَّالم .
{ فمن أظلم ممن كذب على الله } وزعم أنَّ له ولداً وشريكاً { وكذَّب بالصدق } بالقرآن { إذ جاءه } على لسان الرَّسول . { أليس في جهنَّم مثوى } مقامٌ ومنزلٌ لهؤلاء .
{ والذي جاء بالصدق } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن { وصدَّق } أبو بكر رضي الله عنه ثمَّ المؤمنون بعده .
(1/814)

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
{ أليس الله بكافٍ عبده } يعني : محمداً صلوات الله عليه ، ينصره ويكفيه أمر مَنْ يُعاديه { ويخوفونك بالذين من دونه } أَيْ : يُخوِّفونك بأوثانهم ، يقولون : إنَّك لتعيبها ، وإنَّها لتصيبنَّك بسوء ، ثمَّ بيَّن أنَّهم مع عبادتهم الأوثان يُقرُّون بأنَّ الخالق هو الله .
(1/815)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنَّ الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله } الأوثان . { إن أرادني بضرٍّ } بلاءٍ وشدَّةٍ . هل يكشفنَ ذلك عني { أو أرادني برحمة } نعمةٍ . هل يمسكن ذلك عني؟ وهذا بيان أنَّها لا تنفع ولا تدفع .
(1/816)

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
{ الله يتوفى الأنفس } يقبض الأرواح { حين } عند { موتها والتي لم تمت } أَيْ : ويقبض روح التي لم تمت { في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت } أَيْ : يمسك أنفس الأموات عنده ، { ويرسل الأخرى } أنفس الأحياء [ إذا أنتبهوا من منامهم يردُّ عليهم أرواحهم ] { إلى أجل مسمى } وهو أجل الموت .
{ أم اتخذوا من دون الله شفعاء } أَيْ : الأوثان التي عبدوها لتشفع لهم . { قل أَوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئاً } من الشَّفاعة { ولا يعقلون } أنَّهم يعبدونهم لا يتركون عبادتهم .
{ قل لله الشفاعة جميعاً } فليس يشفع أحدٌ إلاَّ بإذنه .
{ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } كان المشركون إذا سمعوا قول لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له نفروا من ذلك ، وإذا ذكر الأوثان فرحوا ، و { اشمأزَّت } : نفرت .
(1/817)

وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
{ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } في الدُّنيا أنَّه نازلٌ بهم في الآخرة .
(1/818)

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
{ إنما أوتيته على علمٍ } أُعطيته على شرفٍ وفضلٍ ، وكنت علمتُ أنِّي سأُعطى هذا باستحقاقي { بل هي فتنة } أَيْ : تلك العطيَّة فتنةٌ من الله تعالى يبتلي به العبد ليشكر أو يكفر .
{ قد قالها الذين من قبلهم } يعني : قارون حين قال : { إنَّما أُوتيته على علمٍ عندي . }
(1/819)

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } بارتكاب الكبائر والفواحش ، نزلت في قومٍ من أهل مكَّة همُّوا بالإسلام ، ثمَّ قالوا : إنَّ محمداً يقول : إنَّ مَنْ عبد الأوثان ، واتَّخذ مع الله آلهةً ، وقتل النَّفس لا يُغفر له ، وقد فعلنا كلَّ هذا ، فأعلم الله تعالى أنَّ مَنْ تاب وآمن غفر الله له كلَّ ذنب ، فقال : { لا تقنطوا من رحمة الله . . . } الآية .
{ وأنيبوا إلى ربكم } أَيْ : ارجعوا إليه الطَّاعة { وأسلموا } وأطيعوا { له } .
{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم } أَيْ : القرآن ، كقوله : { اللَّهُ نزَّل أَحسنَ الحَديثِ } وقوله :
{ أن تقول نفس يا حسرتى } أَيْ : افعلوا ما أمرتكم به من الإنابة واتِّباع القرآن خوفَ أن تصيروا إلى حالةٍ تقولون فيها هذا القول . وقوله : { على ما فرطت في جنب الله } أَيْ : قصَّرت في طاعة الله ، وسلوك طريقة { وإن كنت لمن الساخرين } أَيْ : ما كنت إلاَّ من المستهزئين بدين الله تعالى وكتابه .
(1/820)

وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
{ وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } بمنجاتهم من العذاب ، والمفازة ها هنا بمعنى الفوز .
(1/821)

لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
{ له مقاليد السموات والأرض } أَيْ : مفاتيح خزائنها ، فكلُّ شيء في السموات والأرض؛ واللَّهُ فاتحُ بابه .
{ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } هذا جواب الذين دعوه إلى دين آبائه .
(1/822)

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
{ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } أَيْ : ملكه من غير منازعٍ ، كما يقال : هو في قبضة فلان : إذا ملك التَّصرُّف فيه وإن لم يقبض عليه بيده ، { والسموات مطويات } كقوله : { يوم نطوي السَّماء } { بيمينه } أَيْ : بقوَّته . وقيل : بقسمه؛ لأنَّه حلف أنَّه يطويها .
{ ونفخ في الصور فصعق } أَيْ : مات { مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض إلاَّ من شاء الله } قيل : هم الشُّهداء ، وهم أحياءٌ عند ربِّهم . وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش عليهم السَّلام . { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } ينتظرون أمر الله فيهم .
{ وأشرقت الأرض } أُلبست الإِشراق عَرَصَاتُ القيامة { بنور ربها } وهو نورٌ يخلقه الله في القيامة يلبسه وجه الأرض { ووضع الكتاب } أَيْ : الكتب التي فيها أعمال بني آدم { وجيء بالنبيين والشهداء } الذين يشهدون للرُّسل بالتَّبليغ .
(1/823)

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
{ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } جماعاتٍ وأفواجاً .
(1/824)

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{ طبتم } أَيْ : كنتم طيِّبين في الدُّنيا . وقوله :
{ وأورثنا الأرض } أَيْ : أرض الجنَّةَ { نتبوَّأ من الجنة } نتَّخذ منها منازل { حيث نشاء فنعم أجر العاملين } ثواب المطيعين .
{ وترى الملائكة حافين من حول العرش } محيطين به { وقضي بينهم } أيْ : حُكم بين أهل الجنَّة والنَّار . { وقيل الحمد لله رب العالمين } .
(1/825)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
{ حم } قُضي ما هو كائن .
{ تنزيل الكتاب } ابتداءٌ ، وخبره : { من الله العزيز العليم } .
{ غافر الذنب } لمن قال لا إله إلاَّ الله { وقابل التوب } ممن قال : لا إله إلاَّ الله { شديد العقاب } لمَنْ لم يقل لا إله إلاَّ الله . { ذي الطول } الغنى والسَّعة .
{ ما يجادل في آيات الله } أَيْ : في دفعها وإبطالها . { فلا يغررك تقلبهم } تصرُّفهم { في البلاد } للتِّجارت ، أَيْ : سلامتهم بعد كفرهم حتى إنَّهم يتصرَّفون حيث شاؤوا؛ فإنَّ عاقبتهم كعاقبة مَنْ قبلهم من الكفَّار ، وهو قوله :
{ كذبت قبلهم قوم نوحٍ والأحزاب من بعدهم } أي : الذين تحزَّبوا على انبيائهم بالمخالفة والعداوة كعادٍ وثمود { وهمَّت كلُّ أمة برسولهم ليأخذوه } أَيْ : قصدت كلُّ أمة رسولها ليتمكَّنوا منه فيقتلوه { وجادلوا } بباطلهم { ليدحضوا } ليدفعوا { به الحق فأخذتهم } فعاقبتهم { فكيف كان عقاب } استفهام تقرير .
{ وكذلك } ومثل ما ذكرنا { حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار } يعني : قوله : { لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك . . . } الآية . ثمَّ أخبر بفضل المؤمنين وأنَّ الملائكة يستغفرون لهم فقال :
{ الذين يحملون العرش ومَنْ حوله } من الملائكة ، وقوله : { ربنا وسعت كلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً } أَيْ : وسعت رحمتك كلَّ شيء ، وعلمتَ كلَّ شيء .
(1/826)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
{ إن الذين كفروا ينادون } وهم في النَّار وقد مقتوا أنفسهم حين وقعوا في العذاب . { لمقت الله } إيَّاكم في الدُّنيا إذ تُدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبرُ من مقتكم أنفسكم .
{ قالوا ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } وذلك أنَّهم كانوا أمواتاً نُطفاً ، فأُحيوا ثمَّ أُميتوا في الدُّنيا ، ثمَّ أُحيوا للبعث { فاعترفنا بذنوبنا } أي : أريتنا من الآيات ما أوجب علينا الإقرار بذنوبنا { فهل إلى خروج } من الدُّنيا { من سبيل } ؟ فقيل لهم :
{ ذلكم } العذاب { بأنَّه إذا دعي الله وحده كفرتم } [ نكرتم وحدانيته ] { وإن يشرك به تؤمنوا } تُصدِّقوا ذلك الشِّرك { فالحكم لله } في إنزال العذاب بكم لا يمنعه عن ذلك مانع .
{ هو الذين يريكم آياته } دلائل توحيده { وينزل لكم من السماء رزقاً } بالمطر { وما يتذكر } وما يتَّعظ بآيات الله { إلاَّ مَنْ ينيب } يرجع إلى الله بالإيمان .
{ فادعوا الله مخلصين له الدين } الطَّاعة .
{ رفيع الدرجات } رافعها لأهل الثَّواب في الجنَّة { ذو العرش } مالكه وخالقه { يلقي الروح } الوحي الذي تحيا به القلوب من موت الكفر { من أمره } من قوله { على مَنْ يشاء من عباده } على مَنْ يختصه بالرِّسالة { لينذر يوم التلاق } ليخوِّف الخلق يوم يلتقي أهل الأرض وأهل السَّماء ، أَيْ : يوم القيامة .
{ يوم هم بارزون } خارجون من قبورهم { لا يخفى على الله } من أعمالهم وأموالهم { شيء } يقول الله في ذلك اليوم : { لمن الملك اليوم } ثمَّ يجيب نفسه { لله الواحد القهار } .
(1/827)

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
{ وأنذرهم يوم الآزفة } خوّفهم بيوم القيامة ، والآزقة ، القريبة { إذ القلوب لدى الحناجر } وذلك أنَّ القلوب ترتفع من الفزع إلى الحناجر { كاظمين } ممتلئين غمّاً وخوفاً وحزناً { ما للظالمين } أي : الكافرين { من حميم } قريبٍ { ولا شفيع يطاع } فيشفع فيهم .
{ يعلم خائنة الأعين } خيانة الأعين ، وهي مسارقتها النَّظر إلى ما لا يحلُّ .
(1/828)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } بعلاماتنا التي تدلُّ على صحة نبوّته { وسلطان مبين } أيْ : حجَّةٍ ظاهرةٍ .
(1/829)

فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
{ فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } وذلك أَنَّ فرعون أمر بإعادة القتل على الذُّكور من أولاد بني إسرائيل لمَّا أتاه موسى عليه السَّلام؛ ليصدَّهم بذلك عن متابعة موسى . { وما كيد الكافرين } مكر فرعون وسوء صنيعه { إلاَّ في ضلال } زوالٍ وبطلانٍ وذهابٍ .
{ وقال فرعون } لملَئهِ : { ذروني أقتل موسى وليدع ربه } الذي أرسله إلينا ، فيمنعه { إني أخاف أن يبدل دينكم } الذين أنتم عليه يبطله { أو أن يظهر في الأرض الفساد } أو يفسد عليكم دينكم إن لم يبطله ، فلمَّا توعَّده بالقتل قال موسى :
{ إني عذت بربي وربكم من كلِّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } . وقوله :
{ يصبكم بعض الذي يعدكم } قيل : كلُّ الذي يعدكم .
{ يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } هذا من قول مؤمن آل فرعون؛ أعلمهم أنَّ لهم الملك ظاهرين عالين على بني إسرائيل في أرض مصر ، ثمَّ أعلمهم أنَّ عذاب الله لا يدفعه دافع فقال : { فمن ينصرنا من بأس الله } أَيْ : مَنْ يمنعنا من عذابه { إن جاءنا } ؟ ف { قال فرعون } حين منع من قتله : { ما أُريكُمْ } من الرَّأي والنَّصيحة { إلاَّ ما أرى } لنفسي .
{ وقال الذين آمن } يعني : مؤمن آل فرعون : { يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } ثمَّ فسَّر ذلك فقال :
{ مثل دأب قوم نوح وعادٍ وثمود والذين من بعدهم } خوَّفهم إن أقاموا على كفرهم مثل حال هؤلاء حين عذِّبوا ، ثمَّ خوَّفهم بيوم القيامة . وهو قوله :
(1/830)

وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
{ إني أخاف عليكم يوم التناد } وذلك أنَّه يكثر النِّداء في ذلك اليوم ، يُنادى بالسَّعادة والشَّقاوة ، ويُنادى فيُدعى كلُّ أناسٍ بإمامهم .
{ يوم تولون مدبرين } مُنصرفين عن موقف الحساب إلى النَّار { ما لكم من الله } [ من عذاب الله ] { من عاصم } مانعٍ يمنعكم من عذاب الله .
{ ولقد جاءكم يوسف من قبل } أَيْ : من قبل موسى { بالبينات } بالآيات المعجزات { كذلك } مثل ذلك الضَّلال { يضل الله مَنْ هو مسرف } مشركٌ { مرتاب } شاكٌّ فيما أتى به الأنبياء .
{ الذين يجادلون في آيات الله } أَيْ : في إبطالها ودفعها { بغير سلطان } أَيْ : حُجَّةٍ { أتاهم كبر } ذلك الجدال { مقتاً } بغضاً .
{ وقال فرعون : يا هامان ابن لي صرحاً } قصراً طويلاً { لعلي أبلغ الأسباب } أبواب السَّموات وأطرافها التي تُوصلني إليها .
{ وإني لأظنه كاذباً } في ادِّعائه إلهاً دوني . { وكذلك } مثل ما وصفنا { زين لفرعون سوء عمله وصدَّ عن السبيل } ومُنع عن الإيمان { وما كيد فرعون إلاَّ في تباب } خسارٍ . يريد : أنه خسر كيده ولم ينفعه ذلك .
{ وقال الذي آمن } من قوم فرعون : { يا قوم اتَّبِعُون أهدكم سبيل الرشاد } طريق الصَّواب .
{ يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع } متعةٌ ينتفعون بها مدَّة ولا تبقى . وقوله :
(1/831)

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
{ وأشرك به ما ليس لي به علم } أيْ : أشرك بالله شيئاً لا علم لي به أنَّه شريك له .
{ لا جرم } حقّاً { إنَّ ما تدعونني إليه ليس له دعوة } إجابة دعوة ، أَيْ : لا يستجيب لأحدٍ { في الدنيا ولا في الآخرة وأنَّ مردَّنا } مرجعنا { إلى الله } .
{ فستذكرون } إذا عاينتم العذاب { ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله } وذلك أنَّهم تَوَعَّدُوه لمخالفته دينهم .
(1/832)

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{ النار يعرضون عليها غدوّاً وعشياً } وذلك أنَّهم يُعرضون على النَّار صباحاً ومساءً ، ويقال لهم : هذه منازلكم إذا بعثتم .
(1/833)

وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
{ وقال الذين في النار لخزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب } .
{ قالوا : أَوَلَمْ تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا : بلى ، قالوا : فادعوا } أَيْ : فادعوا أنتم إذاً ، فإنَّا لن ندعو الله لكم { وما دعاء الكافرين إلاَّ في ضلال } هلاكٍ وبطلانٍ؛ لأنَّه لا ينفعهم .
{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } بظهور حجتهم ، والانتصار ممَّن عاداهم بالعذاب في الدُّنيا والآخرة { ويوم يقوم الاشهاد } الملائكةُ الذين يكتبون أعمال بني آدم .
(1/834)

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{ فاصبر } يا محمَّدُ { إنَّ وعد الله } في نصرتك وإهلاك أعدائك { حق وسبِّح بحمد ربك } صلِّ بالشُّكر منك لربِّك { بالعشي والإِبكار } أَيْ : طرفي النَّهار ، وقوله :
{ إن في صدورهم إلاَّ كبر ما هم ببالغيه } أَيْ : تكبُّرٌ وطمعٌ أن يعلوا على محمدٍ عليه السلام ، وما هم ببالغي ذلك { فاستعذ بالله } أي : فامتنع بالله من شرِّهم .
{ لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } أَيْ : أعظم في القدرة من إعادة النَّاس للبعث .
(1/835)

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } اعبدوني أُثبكم وأغفر لكم ، وقوله : { داخرين } أي : صاغرين .
(1/836)

كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
{ كذلك يؤفك } أَيْ : كما صُرفتم عن الحقِّ مع قيام الدلائل يُصرف عن الحقِّ { الذين كانوا بآيات الله يجحدون } .
(1/837)

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
{ ولتبلغوا أجلاً مسمَّى } أَيْ : وقتاً محدوداً لا تجاوزونه { ولعلكم تعقلون } ولكي تعقلوا أنَّ الذي فعل ذلك لا إله غيره .
(1/838)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
{ ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله } أيْ : في دفعها وإبطالها { أنى يصرفون } عن الحقِّ .
(1/839)

إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
{ والسلاسل يسحبون } يُجَرُّون .
{ في الحميم ثم في النار يسجرون } يُصيَّرون وقوداً للنَّار .
{ ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون } .
{ من دون الله } أي : الأصنام . { قالوا ضلوا عنا } زالوا عنَّا وبطلوا ، فلا نراهم { بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً } أَيْ : ضاعت عبادتنا ، فلم تكن تصنع شيئاً { كذلك } كما أضلَّهم { يضل الله الكافرين } .
{ ذلكم } العذاب الذي نزل بكم { بما كنتم تفرحون } بالباطل وتبطرون .
(1/840)

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
{ فإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم } من العذاب في حياتك { أو نتوفينك } قبل أن ينزل بهم ذلك { فإلينا يرجعون } . وقوله :
{ فإذا جاء أمر الله } بعذاب الأمم المُكذِّبة { قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون } أَيْ : تبيَّن خسران أصحاب الباطل .
(1/841)

وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
{ ولكم فيها منافع } من الصُّوف والوبر ، والدَّرِّ والنَّسل { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } من حمل أثقالكم إلى البلاد .
(1/842)

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
{ فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } رضوا بما عندهم من العلم ، وقالوا : نحن أعلم منهم لن نُبعث ولن نعذَّب .
(1/843)

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
{ سنة الله } أَيْ : سنَّ الله هذه السُّنَّةَ في الأمم كلِّها أن لا ينفعهم الإِيمان إذا رأوا العذاب { وخسر هنالك الكافرون } تبيَّن لهم الخسران .
(1/844)

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
{ حم } .
{ تنزيلُ من الرحمن الرحيم } ابتداءٌ وخبره [ قوله ] :
{ كتابٌ فصلت آياته } بُيِّنت . { لقوم يعلمون } لمَنْ يعلم ذلك ممَّن يعلم العربيَّة .
(1/845)

وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
{ وقالوا قلوبنا في أكنَّة } أغطيةٍ . { وفي آذاننا وقر } صممٌ ، أَيْ : نحن في ترك القبول منك بمنزلة مَن لا يفقه ولا يسمع . { ومن بيننا وبينك حجاب } خلافٌ في الدِّين فلا نجتمع معك ولا نوافقك { فاعمل } على دينك ف { إننا عاملون } على ديننا . وقوله :
{ فاستقيموا إليه } وجِّهوا إليه وجوهكم بالطَّاعة . { وويلٌ للمشركين } .
{ الذين لا يؤتون الزكاة } لا يؤمنون بوجوبها فلا يُؤدُّونها .
(1/846)

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
{ قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } الأحد والأثنين .
{ وبارك فيها } بما خلق فيها من المنافع { وقدَّر فيها أقواتها } أرزاق أهلها وما يصلح لمعاشهم من البحار والأنهار ، والأشجار والدَّوابِّ { في أربعة أيام } في تتمة أربعة أَيَّامٍ وهو يوم الثلاثاء والأربعاء ، فصارت الجملة أربعة أيَّام خلق الله الأرض وما فيها من سبب الأقوات والمنافع والتجارات ، فتمَّ أمرها في أربعة أيَّام { سواء } أَيْ : استوت استواء ، وسواءً { للسائلين } عن ذلك ، أَيْ : لمَنْ سأل في كم خُلقت السَّموات والأرض؟ فيقال : في أربعة أيام .
(1/847)

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
{ ثم استوى } قصد وعمد { إلى } خلق { السماء وهي دخان } بخارٌ مرتفعٌ عن الماء { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } بما خلقت فيكما من المنافع ، وأَخْرِجاها لمنافع خلقي . قال للسَّموات : أطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وقال للأرض : أخرجي ماءك وثمارك طائعةً أو كارهةً ، ففعلتا ما أمرهما طوعاً ، وهو قوله : { قالتا أتينا طائعين } .
{ فقضاهن } صنعهنَّ وأحكمهنَّ { سبع سموات في يومين وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها } أوحى في أهل كلِّ سماءٍ بما أراد من الأمر والنَّهي . وقوله : { وحفظاً } أَيْ : حفظناها من استماع الشَّياطين بالكواكب حفظاً .
{ فإن أعرضوا } عن الإِيمان بعد هذا البيان { فقل أنذرتكم } خوَّفتكم { صاعقة } مهلكةً تنزل بكم كما نزلت بمن قبلكم { إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم } أتت الرُّسل إيَّاهم ومَنْ كان قبلهم { ومن خلفهم } ومن بعد الرُّسل الذين أُرسلوا إلى آبائهم جاءتهم الرُّسل أنفسهم .
(1/848)

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
{ ريحاً صرصراً } أي : لها صوتٌ شديدٌ { في أيام نحسات } مشؤوماتٍ عليهم .
(1/849)

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
{ وأما ثمود فهديناهم } دعوناهم ودللناهم { فاستحبوا العمى على الهدى } فاختاروا الكفر على الإيمان { فأخذتهم صاعقة } مهلكةُ { العذاب } ذي { الهون } وهو الهوان ، أي : العذاب الذي يُهينهم . وقوله :
{ وهو خلقكم أوَّل مرة } ابتداءُ إخبارٍ عن الله تعالى ، وليس من كلام الجلود .
{ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم } [ أَيْ مِنْ أن يشهد عليكم سمعكم ] أي : لم تكونوا تخافون أن يشهد عليكم جوارحكم ، فتستتروا منها { ولكن ظننتم أنَّ الله } أي : ظننتم أنَّ ما تُخفون { لا يعلم } اللَّهُ ذلك ولا يطَّلع عليه ، وذلك الظَّنُّ منكم بربِّكم .
{ أرداكم } أهلككم .
{ فإن يصبروا } في جهنَّم { فالنار مثوىً لهم } أي : مقامهم لا يخرجون منها { وإن يستعتبوا } يطلبوا الصلح { فما هم من المعتبين } أَيْ : ممَّن يُصالح ويرضى .
(1/850)

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
{ وقيضنا لهم } أيْ : سبَّبنا لهم { قرناء } من الشَّياطين { فزينوا لهم ما بين أيديهم } من أمر الدُّنيا حتى آثروه { وما خلفهم } من أمر الآخرة ، فدعوهم إلى التَّكذيب به ، وأن لا جنَّة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب . { وحقَّ عليهم القول في أمم } مع أممٍ بالخسران والهلاك . وقوله :
{ والغوا فيه } أَيْ : عارضوه بكلامٍ لا يُفهم من المُكاء ، والصَّفير ، وباطل الكلام { لعلكم تغلبون } ه على قراءته فيترك القراءة .
(1/851)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
{ ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس } يعنون : إبليس وقابيل؛ لأنًّهما أوَّل مَنْ سنَّ الضَّلالة { نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا } في الدَّرك الأسفل من النَّار .
{ إنَّ الذين قالوا ربنا الله } أَيْ : وحَّدوه { ثمَّ استقاموا } على التَّوحيد ، فلم يشركوا به شيئاً { تتنزل عليهم الملائكة } عند الموت { ألا تخافوا } ذنوبكم { ولا تحزنوا } عليها؛ فإنَّ الله يغفرها لكم .
{ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } أَيْ : أنصاركم وأحباؤكم ، وهم قرناؤهم الذين كانوا معهم في الدُّنيا من الحفظة ، يقولون لهم : لن نُفارقكم [ في القيامة ] حتى ندخلكم الجنَّة . { ولكم فيها ما تدَّعون } تتمنَّون وتسألون .
{ نزلاً } أيْ : جعل الله ذلك زرقاً لهم مُهيَّئاً .
{ ومَنْ أحسن قولاً ممن دعا إلى الله . . . } الآية . قيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه دعا إلى توحيد الله . وقيل : إنَّها نزلت في المُؤّذِّنين .
{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } " لا " زائدة . { ادفع } السَّيئة { بالتي هي أحسن } كالغضب يُدفع بالصَّبر ، والجهل بالحلم ، والإِساءة بالعفو { فإذا الذي بينك وبينه عداوة } يصير لك كأنًّه صديقٌ قريبٌ إذا فعلت ذلك .
{ وما يلقاها } أَي : ْ ما يُلقَّى هذه الخصلة { إلاَّ الذين صبروا } بكظم الغيظ واحتمال الأذى { وما يلقَّاها إلاَّ ذو حظ عظيم } وهو الجنَّة .
{ وإمَّا ينزغنك من الشيطان نزغ } أَيْ : إنْ صرفك عن الاحتمال نَزْغُ الشَّيطان { فاستغذ بالله } من شرِّه وامض على حلمك .
{ ومن آياته } علاماته التي تدلُّ على أنَّه واحدٌ { الليل والنهار والشمس والقمر . . } الآية .
{ فإن استكبروا } أي : الكفَّار . يقول : إن استكبروا عن السُّجود لله { فالذين عند ربك } وهم الملائكة { يسبحون } يُصلُّون له { بالليل والنهار وهم لا يسأمون } لا يملُّون .
(1/852)

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
{ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } مُغبَّرةً لا نبات فيها { فإذا أنزلنا عليهم الماء اهتزَّت } تحرَّكت بالنًّبات { وربت } انتفخت وعلت ، ثمَّ تصدَّعت عن النَّبات .
{ إنَّ الذين يلحدون في آياتنا } يجعلون الكلام فيها على غير جهته ، بأن ينسبوها إلى الكذب والسِّحر { لا يخفون علينا } بل نعلمهم ونجازيهم بذلك .
{ إنَّ الذين كفروا بالذكر } أَيْ : بالقرآن { لما جاءهم وإنَّه لكتاب عزيز } منيعٌ من الشَّيطان والباطل .
{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه } أي : الكُتب التي تقدَّمت لا تبطله ، ولا يأتي كتابٌ بعده يبطله . وقيل : إنَّه محفوظٌ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه ، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه .
{ ما يقال لك إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك } أَيْ : إنْ كذَّبك قومك فقد كذَّب الذين من قبلك .
{ ولو جعلناه قرآناً أعجمياً } لا بلسان العرب { لقالوا : لولا فصلت } بُيِّنت { آياته } بلغتنا حتى نعرفها { أأعجمي وعربي } أي : القرآنُ أعجميٌّ ، ونبيٌّ عربيٌّ { قل هو } أي : القرآن { للذين آمنوا هدى } من الضَّلالة { وشفاء } من الجهل { والذين لا يؤمنون } في ترك قبوله بمنزلة مَنْ { في آذانهم وقرٌ وهو } أي : القرآن { عليهم } ذو { عمى } لأنَّهم لا يفقهونه { أولئك ينادون من مكان بعيد } أَيْ : كأنهم لقلَّة استماعهم وانتفاعهم يُنادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعونه لبعد المسافة .
{ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } بالتَّكذيب والتَّصديق ، والإِيمان به والكفر كما فعل قومك { ولولا كلمة سبقت من ربك } بتأخير العذاب عن قومك { لقضي بينهم } لفرغ من هلاكهم { وإنهم لفي شك منه } من القرآن { مريب } .
(1/853)

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{ إليه يردُّ علم الساعة } لأنَّه لا يعلمه غيره { وما تخرج من ثمرة من أكمامها } أوعيتها { ويوم يناديهم أين شركائي } الذين كنتم تزعمون { قالوا آذناك } أعلمناك { ما منا من شهيد } شاهدٍ أنَّ لك شريكاً ، لمَّا عاينوا القيامة تبرَّؤوا من معبوديهم .
{ وضلَّ عنهم } زال وبطل { ما كانوا يدعون من قبل } [ يثقون به ] ويعبدونه قبل يوم القيامة { وظنوا } علموا { ما لهم من محيص } من مهربٍ .
{ لا يسأم الإنسان من دعاء الخير } لا يَمَلُّ الكافر من الدُّعاء بالصحَّة والمال { وإن مسَّه الشرُّ } الفقر والضرُّ { فيؤوس } من روح الله { قنوط } من رحمته . وقوله :
{ ليقولنَّ هذا لي } أَيْ : هذا واجبٌ لي بعملي استحققته { وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إنَّ لي عند للحسنى } أَيْ : لستُ أوقن بالبعث وقيام السَّاعة ، فإن كان الأمر على ذلك إنَّ لي عنده لثواباً .
{ وإذا أنعمنا على الإنسان . . . } الآية . يقول : إذا كان الكافر في نعمةٍ تباعد عن ذكر الله ، وإذا مسَّته الحاجة أكثر الدُّعاء .
{ قل أرأيتم إن كان } القرآن { من عند الله ثم كفرتم به من أضلُّ } منكم ، لأنَّهم في { شقاق بعيد } أيْ : في خلافٍ بعيدٍ عن الحقّ بكفرهم بالقرآن .
{ سنريهم آياتنا في الآفاق } ما يفتح على محمَّد صلى الله عليه وسلم من القرى { وفي أنفسهم } فتح مكة { حتى يتبين لهم } أنَّ القرآن حقٌّ وصدقٌ منزلٌ من عند الله تعالى : { أَوَلَمْ يكف بربك أنَّه على كل شيء شهيد } وهو يشهد لمحمَّد عليه السَّلام ولكتابه بالصِّدق .
{ ألا إنهم في مرية } شكٍّ { من لقاء ربهم } من البعث والمصير إليه { ألا إنَّه بكلِّ شيء محيط } عالمٌ .
(1/854)

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{ حم } ح : حكم الله ، م : مجده .
{ عسق } ع : علمه ، س : سناؤه ، ق : قدرته . أقسم الله تعالى بها .
{ كذلك يوحي إليك } ما من نبيٍّ صاحب كتابٍ إلاَّ وقد أوحى الله إليه : حم عسق ، فهو معنى قوله : { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك } .
(1/855)

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
{ تكاد السموات يتفطرن من فوقهن } تكاد كلُّ واحدة منها تتفطَّر فوق التي تليها من قول المشركين : اتَّخذ الله ولداً . { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } يُنزِّهون الله تعالى عن السُّوء { ويستغفرون } اللَّهَ { لمن في الأرض } من المؤمنين .
{ والذين اتخذوا من دونه أولياء } أَيْ : آلهةً . { الله حفيظ عليهم } يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها { وما أنت عليهم بوكيل } لم تُوكَّل عليهم ، وما عليك إلاَّ البلاغ .
{ وكذلك } وهكذا { أوحينا إليك قرآناً عربياً } بلفظ العرب { لتنذر أمَّ القرى } أهل مكَّة { ومَنْ حولها } سائر النَّاس { وتنذر يوم الجمع } تخوِّفهم بيوم القيامة الذي يجمع فيه الخلق { لا ريب فيه } كما يرتاب الكافرون { فريق في الجنة وفريق في السعير } إخبارٌ عن اختلاف حال النَّاس في ذلك اليوم .
{ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } لجعل الفريقين فريقاً واحداً { ولكن يدخل مَنْ يشاء في رحمته } بيَّن أنَّه إنَّما يُدخل الجنة مَنْ يشاء ، فهو فضلٌ منه { والظالمون } والكافرون { ما لهم من وليٍّ ولا نصير } ناصرٍ يمنعهم من العذاب .
{ أم اتخذوا } بل اتَّخذوا { من دونه أولياء فاللَّهُ هو الوليُّ } لا ما اتَّخذوه من دونه .
{ وما اختلفتم فيه من شيء } من أمر الدِّين { فحكمه إلى الله } لا إليكم ، وقد حكم أنَّ الدِّين هو الإِسلام لا غيره . وقوله :
{ جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } حلائل { ومن الأنعام أزواجاً } أَيْ : خلق الذَّكر والأنثى { يذرؤكم فيه } أيْ : يُكثِّركم يجعله لكم حلائل؛ لأنهنَّ سبب النَّسل ، و " فيه " بمعنى " به " { ليس كمثله شيء } الكافُ زائدةٌ ، أَيْ : ليس مثله شيء .
(1/856)

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
{ شرع لكم } بيَّن وأظهر لكم { من الدين ما وصَّى به } أمر { نوحاً } ثمَّ بيَّن ذلك فقال : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } والله يبعث الأنبياء كلَّهم بإقامة الدِّين وترك الفرقة . { كبر } عَظُمَ وشقَّ { على المشركين ما تدعوهم إليه } من التَّوحيد وترك الأوثان . { الله يجتبي إليه مَنْ يشاء } يصطفي مَنْ يشاء لدينه ، فيهديه إليه .
{ وما تفرَّقوا إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } ما تفرَّق أهل الكتاب إلاَّ عن علمٍ بأنَّ الفرقة ضلالةٌ ، ولكنَّهم فعلوا ذلك للبغي { ولولا كلمةٌ سبقت من ربك } في تأخيرهم إلى السَّاعة { لقضي بينهم } لجوزوا بأعمالهم { وإنَّ الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } يعني : هذه الأمَّة ، أعطوا الكتاب من بعد اليهود والنَّصارى { لفي شك منه مريب } يعني : كفَّار هذه الأمَّة ومشركيها .
{ فلذلك فادع } أَيْ : إلى ذلك . يعني : إلى إقامة الدِّين فادع النَّاس { واستقم كما أمرت } اثبت على الدِّين الذي أُمرتَ به { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } أَيْ : بجميع كتب الله المنزلة { وأمرت لأعدل بينكم } لأسوِّي بينكم في الإيمان بكتبكم . وقيل : لأعدل بينكم في القضية . وقوله : { لا حجة } أَيْ : لا خصومة { بيننا وبينكم } وهذا منسوخٌ بآية القتال .
(1/857)

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
{ والذين يحاجون في الله } يُخاصمون في دين الله نبيَّه عليه السَّلام { من بعد ما استجيب له } أُجِيبَ النبيُّ عليه السَّلام إلى الدِّين ، فأسلموا ودخلوا في دينه { حجتهم داحضةٌ عند ربهم } أَيْ : باطلةٌ زائلةٌ؛ لأنَّهم يخاصمون صادقاً في خبره قد ظهرت معجزته .
{ الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } أَيْ : العدل ، والمعنى : إنَّ الله تعالى أمر أن يقتدي بكتابه في أوامره ونواهيه ، وأن يعامل بالنَّصفة والسَّويَّة ، وآلةُ ذلك الميزان ، ثمَّ قال : { وما يدريك لعلَّ الساعة قريب } أَيْ : فاعمل بالعدل والكتاب ، فلعلَّ السَّاعة قد قربت منك وأنت لا تدري .
{ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } ظنَّاً منهم أنَّها غير كائنة ، { والذين آمنوا مشفقون } خائفون منها ، لأنَّهم يعلمون أنَّهم مبعوثون ومحاسبون . { ألا إنَّ الذين يمارون } تدخلهم المِرية والشَّكُّ { في الساعة لفي ضلال بعيد } لأنَّهم لو فكَّروا لعلموا أنَّ الذي أنشأهم أوَّلاً قادرٌ على إعادتهم .
{ الله لطيف بعباده } حفيٌّ بارٌّ بهم ، بَرِّهم وفاجرِهم حيث لم يقتلهم جُوعاًَ بمعاصيهم .
(1/858)

مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
{ مَنْ كان يريد حرث الآخرة } من أراد بعمله الآخرة { نزد له في حرثه } أَيْ : كسبه بالتَّضعيف بالواحدة عشراً . { ومَنْ كان يريد حرث الدنيا } بعمله الدُّنيا { نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب } أَيْ : مَنْ آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الآخرة .
{ أم لهم } بل أَلهم { شركاء } آلهةٌ { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل } أَيْ : القَدَر السَّابق بأنَّ القضاء والجزاء يوم القيامة { لقضي بينهم } في الدُّنيا .
{ ترى الظالمين } المشركين يوم القيامة { مشفقين } خائفين { ممَّا كسبوا } أَيْ : من جزائه { وهو واقع بهم } لا محالة ، وقوله :
{ قل لا أسألكم عليه أجراً } أَيْ : على تبليغ الرِّسالة { أجراً إلاَّ المودَّة في القربى } أيْ : إلاَ أن تحفظوا قرابتي وتَوَدُّوني ، وتصلوا رحمي ، وذلك أنَّه لم يكن حيٌّ من قريشٍ إلاَّ وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابةٌ ، فكأنًّه يقول : إذا لم تؤمنوا بي فاحفظوا قرابتي ولا تُؤذوني . وقيل : معناه : إلاَّ أَنْ تتودَّدُوا إلى الله عزَّ وجلَّ بما يُقرِّبكم منه ، وقوله : { إلاَّ المودة } استثناءٌ ليس من الأوَّل . { ومن يقترف } يعمل { حسنة نزدْ له فيها حسناً } نضاعفها له .
{ أم يقولون } بل أيقولون ، يعني : أهل مكَّة { افترى على الله كذباً } تقوَّل القرآن من قبل نفسه { فإنْ يشأ اللَّهُ يختم على قلبك } يربط على قلبك بالصَّبر على أذاهم ، ثمَّ ابتدأ فقال { ويمحو الله الباطل } أَيْ : الشِّرك { ويحق الحق بكلماته } بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّه عليه السَّلام [ وهو القرآن ] .
{ وهو الذين يقبل التوبة عن عباده } إذا رجع العبد عن معصية الله تعالى إلى طاعته قَبِلَ ذلك الرُّجوع ، وعفا عنه ما سلف ، وهو قوله : { ويعفو عن السيئات } .
{ ويستجيب الذين آمنوا } أَيْ : يُجيبهم إلى ما يسألون .
{ ولو بسط الله الرزق لعباده } أَيْ : وسَّع عليهم الرِّزق { لبغوا في الأرض } لطغوا وعصوا { ولكن ينزِّل بقدر ما يشاء } فيجعل واحداً فقيراً ، وآخر غنيَّاً { إنَّه بعباده خبيرٌ بصير } .
{ وهو الذي ينزل الغيث } المطر { من بعد ما قنطوا } من بعدِ يأسِ العباد من نزوله { وينشر رحمته } ويبسط مطره .
(1/859)

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
{ ومن آياته } دلائل قدرته { خلق السموات والأرض وما بثَّ } فرَّق ونشر { فيهما من دابة وهو على جمعهم } للحشر { إذا يشاء قدير } .
{ وما أصابكم من مصيبة } بليَّةٍ وشدَّةٍ { فبما كسبت أيديكم } فهي جزاء ما اكتسبتم من الإِجرام { ويعفو عن كثير } فلا يُجازي عليه .
{ وما أنتم بمعجزين في الأرض } هرباَ ، اَيْ : إنِْ هربتم لم تعجزوا الله في أخذكم .
{ ومن آياته الجوار } السُّفن التي تجري { في البحر كالأعلام } كالجبال في العظم .
{ إن يشأ يسكن الريح فيظللن } فيصرن { رواكد } ثوابت على ظهر البحر لا تجري { إنَّ في ذلك لآيات لكلِّ صبار شكور } لكلِّ مؤمنٍ .
{ أو يوبقهن } يُهلكهنَّ ، يعني : أهلها { بما كسبوا } من الذُّنوب { ويعف عن كثير } فلا يعاقب عليها .
{ ويعلم الذين يجادلون في آياتنا } أَيْ : في دفعها وإبطالها { ما لهم من محيص } مهربٍ من عذاب الله .
{ فما أوتيتم من شيء } من أثاثِ الدُّنيا { فمتاع الحياة الدنيا } يتمتَّع به في هذه الدَّار { وما عند الله } من الثَّواب { خير وأبقى للذين آمنوا } نزلت في أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه حين أنفق جميع ماله وتصدَّق به ، فلامه النَّاس .
(1/860)

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
{ والذين يجتنبون } عطفٌ على قوله : { للذين آمنوا } . { كبائر الإِثم والفواحش } الشِّرك وموجبات الحدود { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } يتجاوزون ويحلمون .
{ والذين استجابوا لربهم } أجابوه بالإِيمان والطَّاعة . { وأمرهم شورى بينهم } لا ينفردون برأيهم بل يتشاورون .
{ والذين إذا اصابهم البغي } الظُّلم { هم ينتصرون } ينتقمون ممَّن ظلمهم ، ثمَّ بيَّن حدَّ الانتصار فقال :
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } أَيْ : إنما يُجازى السُّوء بمثله ، فيقتصُّ من الجاني بمقدار جنايته { فمن عفا } ترك الانتقام { وأصلح } بينه وبين الظَّالم عليه بالعفو { فأجره على الله } أَيْ : إنَّ الله يأجره على ذلك { إنَّه لا يحب الظالمين } الذين يبدؤون بالظُّلم .
{ ولمن انتصر بعد ظلمه } أَيْ : بعد أنْ ظُلم { فأولئك ما عليهم من سبيل } [ باللَّوم ولا القصاص ، لأنَّه آخذٌ حقَّه ] .
(1/861)

وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
{ ولمن صبر } على الأذى { وغفر } ولم يكافىء { إن ذلك } أَيْ : الصَّبر والغفران { لمن عزم الأمور } لأنَّه يوجب الثَّواب ، فهو أتمُّ عزمٍ .
(1/862)

وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
{ وتراهم يعرضون عليها } على النَّار { خاشعين من الذل } مُتواضعين ساكنين . { ينظرون } إلى النَّار { من طرف خفي } مُسارقةً .
(1/863)

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
{ استجيبوا لربكم } بالإيمان والطَّاعة { من قبل أن يأتي يومٌ لا مردَّ له من الله } أَيْ : إنَّ الله تعالى إذا أتى به لم يردَّه { مالكم من ملجأ يومئذٍ } مهربٍ من العذاب { وما لكم من نكير } إنكارٌ على ما ينزل بكم من العذاب ، لا تقدرون أن تنكروه فتغيِّروه .
(1/864)

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
{ أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } أَيْ : يجعل ما يهب من الولد بعضه ذكوراً ، وبعضه إناثاً { ويجعل من يشاء عقيماً } لا يُولد له .
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً } بأن يوحي إليه في منامه { أو من وراء حجاب } كما كلَّم موسى عليه السَّلام { أو يرسل رسولاً } مَلَكاً { فيوحيَ بإذنه ما يشاء } فيكلِّمه عنه بما يشاء .
{ وكذلك } وكما أوحينا إلى سائر الرُّسل { أوحينا إليك روحاً } ما يحيا به الخلق ، أَيْ : يهتدون به ، وهو القرآن { من أمرنا } أَيْ : فِعْلِنا في الوحي إليك . { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } قبل الوحي . ويعني : بالإيمان شرائعه ومعالمه { ولكن جعلناه } جعلنا الكتاب { نوراً } وقوله : { وإنك لتهدي } بوحينا إليك { إلى صراط مستقيم } . [ يعني الإِسلام ] .
(1/865)

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
{ حم } .
{ والكتاب المبين } الذي أبان الهدى وما تحتاج إليه الأُمَّة .
{ إنا جعلناه } بيَّناه { قرآناً عربياً } بلغة العرب { لعلكم تعقلون } تعرفون أحكامه ومعانيه .
{ وإنه } أَيْ : القرآن { في أمِّ الكتاب } أَيْ : اللَّوح المحفوظ { لدينا لعليٌّ حكيم } يريد : إنَّه مثبتٌ عند الله تعالى في اللَّوح المحفوظ بهذه الصِّفة .
{ أفنضرب عنكم الذكر صفحاً } أَفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنَّكم لا تؤمنون به ، وهو قوله : { أن كنتم قوماً مسرفين } أَيْ : لأن كنتم قوماً مُشركين مُجاوزين أمر الله . قال قتادة رضي الله عنه : واللَّهِ لو أنَّ هذا القرآنَ رُفع حين ردَّه أوئل هذه الأمَّة لهلكوا .
(1/866)

فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
{ فأهلكنا أشد منهم } من قومك { بطشاً } قوَّة { ومضى مثل الأولين } سنَّتهم في العقوبة .
(1/867)

وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
{ والذي نزل من السماء ماءً بقدر } بمقدارٍ معلومٍ عند الله { فأنشرنا } فأحيينا { به } بذلك الماء { بلدة ميتاً كذلك تخرجون } من قبوركم أحياء .
{ والذي خلق الأزواج } الأصناف { كلها } . وقوله :
{ وما كنَّا له مقرنين } أَيْ : مُطيقين .
(1/868)

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
{ وجعلوا له من عباده جزءاً } أَيْ : الذين جعلوا الملائكة بنات الله .
{ أم اتخذ ممَّا يخلق بنات وأصفاكم } أخلصكم وخصَّكم { بالبنين } كقوله : { أفأصفاكم ربُّكم بالبنين . . . } الآية .
{ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاَ } بما وصفه به من اتِّخاذ البنات .
{ أَوَمَنْ يُنَشَّؤُ في الحلية } أَيْ : أَنسبوا إليه مَنْ يُنشَّأ في الحلية؟ يعني : البنات { وهو في الخصام غير مبين } وذلك أنَّ المرأة لا تكاد تقوم بحجَّةٍ في الخصومة .
{ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } أَيْ : حكموا بأنَّهم إناثٌ حين قالوا : إنَّهم بنات الله . { أشهدوا } أَحضروا { خلقهم } حين خُلقوا؟ { ستكتب شهادتهم } على الملائكة بأنَّهم بنات الله { ويسألون } عنها .
{ وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم } أَيْ : الملائكة ، وذلك أنَّهم قالوا : لو لم يرض منَّا بعبادتنا إيَّاها لعجَّل عقوبتنا . { ما لهم بذلك من علم } ما لهم بقولهم : الملائكة بناتُ الله من علمٍ . { إن هم إلاَّ يخرصون } يكذبون .
{ أم آتيناهم كتاباً من قبله } من قبل القرآن فيه عبادة غير الله { فهم به مستمسكون } بذلك الكتاب ، ثمَّ بيَّن أنَّهم اتَّبعوا ضلالة آبائهم ، فقال :
{ بل قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة } دينٍ .
(1/869)

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
{ قال أو لو جئتكم بأهدى } بدينٍ أهدى { ممَّا وجدتم عليه آباءكم } أَتتبعونهم؟ { قالوا } أَيْ : الأمم للرُّسل : { إنا بما أرسلتم به كافرون } .
{ فاتنقمنا منهم } بالعقوبة .
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه : إنني براء } أَيْ : بريٌ .
(1/870)

وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
{ وجعلها كلمة } أَيْ : كلمة التَّوحيد { باقية في عقبه } عقب إبراهيم عليه السَّلام ، لا يزال من ولده مَنْ يوحِّدُ الله عزَّ وجلَّ { لعلهم يرجعون } كي يرجعوا بها من الكفر إلى الإيمان .
{ بل متعتُ هؤلاء وآباءهم } في الدُّنيا ولم أهلكهم { حتى جاءهم الحق } القرآن .
(1/871)

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
{ وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من } [ إحدى ] { القريتين } مكَّة والطَّائف { عظيم } أَيْ : الوليد بن المغيرة من أهل مكَّة ، وعروة بن مسعود الثقفيِّ من الطَّائف ، قال الله تعالى :
{ أهم يقسمون رحمة ربك } نبوَّته وكرامته ، فيجعلونها لمن يشاؤون؟ { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } فجعلنا بعضهم غنيَّاً وبعضهم فقيراً { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } بالمال { ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } ليُسخِّر الأغنياء بأموالهم الفقراء ويستخدموهم ، فيكون بعضهم لبعض سببَ المعاش في الدُّنيا ، هذا بماله ، وهذا بأعماله ، فكما قسمنا هذه القسمة كذلك اصطفينا للرِّسالة مَنْ نشاء ، ثمَّ بيَّن أنَّ الآخرة أفضل من الدُّنيا فقال : { ورحمة ربك } أَيْ : الجنَّة { خيرٌ ممَّا يجمعون } في الدُّنيا ، ثمَّ ذكر قلَّة خطر الدُّنيا عنده فقال :
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } مجتمعين على الكفر . وقوله : { ومعارج } : مراقي { عليها يظهرون } يعلون ويصعدون .
{ ولبيوتهم أبواباً وسرراً } من فضَّةٍ { عليها يتكئون } .
{ وزخرفاً } أَيْ : ومن زخرفٍ ، وهو الذَّهب { وإن كلُّ ذلك لما متاع الحياة الدنيا } [ لمتاع الحياة الدُّنيا ] .
{ ومَنْ يعش } يُعرض { عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً } نسبِّب له شيطاناً { فهو له قرين } لا يُفارقه .
{ وإنهم } أَيْ : الشَّياطين { ليصدونهم } يمنعون الكافرين { ويحسبون } الكفَّار { أنهم مهتدون } .
{ حتى إذا جاءنا } يعني : الكافر { قال } لقرينه : { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } أَيْ : بُعد ما بين المشرق والمغرب { فبئس القرين } أنت؛ ثم لا يفارقه حتى يصيرا إلى النار ، وقال الله تعالى :
{ ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم } أشركتم في الدُّنيا { أنكم في العذاب مشتركون } اشتراككم في العذاب لأنَّ لكلِّ واحدٍ نصيبَه الأوفرَ منه .
(1/872)

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
{ فإمَّا نذهبنَّ بك } نُميتك قبل أن نعذِّبهم { فإنا منهم منتقمون } بعد موتك .
{ أو نرينك } في حياتك { الذي وعدناهم } من العذاب .
(1/873)

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
{ وإنه } أَيْ : القرآن { لذكر } لَشرفٌ { لك ولقومك } إذ نزل بلغتهم ، ونزل عليك وأنت منهم { وسوف تسألون } عن شكر ما جعلنا لكم من الشَّرف .
{ واسأل من أرسلنا } أَيْ : أمم مَنْ أرسلنا { من قبلك } يعني : أهل الكتابين ، هل في كتاب أحدٍ الأمرُ بعبادة غير الله تعالى؟ ومعنى هذا السُّؤال التَّقرير لعبدة الأوثان أنَّهم على الباطل .
(1/874)

وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{ وما نريهم من آية إلاَّ هي أكبرُ من أختها } قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها { وأخذناهم بالعذاب } بالسِّنين والطُّوفان والجراد { لعلهم يرجعون } عن كفرهم .
{ وقالوا يا أيها الساحر } خاطبوه بما تقدَّم له عندهم من التَّسمية بالسَّاحر : { ادع لنا ربك بما عهد عندك } فيمن آمن به مِنْ كشف العذاب عنه { إننا لمهتدون } أَيْ : مؤمنون .
{ فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } ينقضون عهدهم . وقوله :
{ وهذه الأنهار تجري من تحتي } بأمري . وقيل : من تحت قصوري .
{ أم أنا } بل أنا { خير من هذا الذي هو مهين } حقيرٌ ضعيفٌ ، يعني : موسى . { ولا يكاد يبين } يُفصح بكلامه لِعِيِّه .
{ فلولا } فهلاًّ { ألقي عليه أسورة من ذهب } حليٌّ بأساور الذَّهب إن كان رئيساً مُطاعاً؟ والطَّوق والسِّوار من الذَّهب كان من علامة الرِّئاسة عندهم . { أو جاء معه الملائكة مقترنين } مُتتابعين يشهدون له .
{ فاستخف قومه } وجد قومه القبط جُهَّالاً .
{ فلما آسفونا } أغضبونا بكفرهم . { انتقمنا منهم } .
{ فجعلناهم سلفاً } مُتقدِّمين في الهلاك [ ليتَّعظ ] بهم مَنْ بعدهم { ومثلاً للآخرين } عبرةً لمَنْ يجيء بعدهم .
{ ولما ضرب ابن مريم مثلاً } نزلت هذه الآية حين خاصمه الكفَّار لما نزل قوله تعالى : { إنَّكم وما تعبدون من دُونِ الله . . . } الآية ، فقالوا : رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى ، فجعلوا عيسى عليه السَّلام مثلاً لآلهتهم ، فقال الله تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يَصِدًّون } أَيْ : يضجُّون ، وذلك أنَّ المسلمين ضجُّوا من هذا حتى نزل قوله تعالى : { إنَّ الذين سَبَقَتْ لهم منا الحُسنى أولئك عنها مُبعدون } وذكر الله تعالى في هذه السُّورة تلك القصَّة ، وهو قوله :
{ وقالوا أآلهتنا خيرٌ أم هو } يعني : عيسى عليه السَّلام . { ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً } أَيْ : إلاَّ الإرادة للمجادلة؛ لأنَّهم علموا أنَّ المراد بحصب جهنم ما اتَّخذوه من الموات . { بل هم قوم خصمون } يجادلون بالباطل ، ثمَّ بيَّن حال عيسى عليه السَّلام فقال :
{ إن هو إلاَّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل } آيةً تدلُّ على قدرة الله .
{ ولو نشاء لجعلنا منكم } بدلكم { ملائكة في الأرض يخلفون } بأن نلهككم ونأتي بهم بدلاً منكم يكونون خلفاء منكم .
{ وإنه } أَي : وإنَّ عيسى { لعلم للساعة } بنزوله يُعلم قيام السَّاعة { فلا تمترنَّ بها } لا تشكُّوا فيها .
(1/875)

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
{ ولما جاء عيسى } إلى بني إسرائيل { بالبينات } بالآيات التي يعجز عنها المخلوقون { قال : قد جئتكم بالحكمة } أَيْ : الإنجيل { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } أَيْ : كلَّه .
(1/876)

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
{ فاختلف الأحزاب . . . } الآية مفسَّرةٌ في سورة مريم .
{ هل ينظرون } أَيْ : يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك { إلاَّ } أن يَفْجَأَهُمْ قيام { السَّاعة } ، ثمَّ ذكر أنَّ مخالَّتهم في الدُّنيا تبطل في ذلك اليوم ، وتنقلب عداوة ، فقال :
{ الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلاَّ المتقين } وهم المؤمنون .
(1/877)

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
{ تحبرون } تُكرمون وتسرُّون .
{ يطاف عليهم بصحاف } بقصاع وأكوابٍ ، وهي الأواني التي لا عُرى لها . { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } أَيْ : تستلذًّ ، وهذا وصفٌ لجميع ما في الجنَّة من الطَّيِّبات .
(1/878)

لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
{ لا يفتر عنهم } أَيْ : لا يخفَّف عنهم العذاب { وهم فيه مبلسون } ساكتون سكوت يأس .
(1/879)

وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
{ ونادوا يا مالك ليقضِ علينا ربك } ليمتنا فنستريح { قال : إنكم ماكثون } مُقيمون في العذاب .
(1/880)

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
{ أم أبرموا أمراً } أحكموا الأمر في المكر بمحمَّد عليه السَّلام { فإنا مبرمون } مُحكمون أمراً في مجازاتهم .
(1/881)

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
{ قل : إن كان للرحمن ولد . . . } الآية معناها : إنْ كنتم تزعمون أنَّ للرحمن ولداً فأنا أوَّل الموحِّدين؛ لأنَّ مَنْ عبد الله واعترف بأنَّه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد . وقيل : { فأنا أول العابدين } الآنفين من هذا القول .
(1/882)

وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
{ وهو الذي في السماء إله } يُعبد { وفي الأرض إله } يُعبد ، أيْ : هو المعبود فيهما { وهو الحكيم } في تدبير خلقه { العليم } بصلاحهم .
(1/883)

وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
{ ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } أَيْ : الأوثان لا يشفعون لعابديها . { إلاَّ مَنْ شهد بالحق } يعني : عيسى وعزيراً والملائكة ، [ فلهم الشَّفاعة في المؤمنين لا في الكفَّار ] ، وهم يشهدون بالحقِّ بالوحدانيَّة لله { وهم يعلمون } حقيقة ما شهدوا به .
(1/884)

وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
{ وقيله } أَيْ : ويسمع قول محمَّد عليه السَّلام شاكياًَ إلى ربِّه ، وهو راجعٌ إلى قوله : { أنا لا نسمع سرَّهم ونجواهم } .
{ فاصفح عنهم } أَيْ : أعرض عنهم ، وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم { وقل سلام } أيْ : سلامةٌ لنا منكم { فسوف تعلمون } تهديدٌ لهم .
(1/885)

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
{ حم } .
{ والكتاب المبين } .
{ إنا أنزلناه } أَيْ : القرآن { في ليلة مباركة } قيل : هي ليلة القدر في رمضان ، أنزل الله القرآن فيها من أمِّ الكتاب إلى سماء الدُّنيا ، ثمَّ أنزله على نبيِّه عليه السَّلام نجوماَ . وقيل : ليلة النِّصف من شعبان { إنا كنا منذرين } مُحذِّرين عبادنا العقوبة بإنزال الكتاب .
{ فيها يفرق } يُفصل { كلُّ أمر حكيم } مُحكمٍ من أرزاق العباد وآجالهم ، وذلك أنَّه يُدبِّر في تلك الليلة أمر السَّنة .
{ أمراً من عندنا } معناه : يُفْرق كلُّ أمرٍ حكيمٍ فرقاً من عندنا ، فوضع الأمر موضع الفرق؛ لأنَّه أمرٌ . { إنا كنا مرسلين } محمَّداً إلى قومه .
(1/886)

رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
{ رحمةً } أَيْ : للرًّحمة ، وقوله :
{ إن كنتم موقنين } أَيْ : إن أيقنتم بأنَّه ربُّ السَّموات والأرض ، فأيقنوا أنَّ محمداً رسوله؛ لأنَّه أرسله .
(1/887)

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
{ بل هم في شك } من البعث والنَّشر { يلعبون } مُشتغلين بالدُّنيا .
{ فارتقب } فانتظر { يوم تأتي السماء بدخان مبين } وذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه بالقحط ، فمنع المطر ، وأجدبت الأرض ، وانجرَّت الآفاق ، وصار بين السَّماء والأرض كالدُّخان .
{ يغشى الناس } ذلك الدخان وهم يقولون { هذا عذاب أليم } .
{ ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } مُصدِّقون بنبيِّك . قال الله تعالى :
{ أنى لهم الذكرى } من أين لهم التَّذكُّر والاتِّعاظ ، { و } حالهم أنَّهم { قد جاءهم رسول مبين } يبيِّن لهم أحكام الدِّين . يعني : محمَّداً صلى الله عليه وسلم .
{ ثمَّ تولوا } أعرضوا { عنه وقالوا معلَّم } أَيْ : إنَّه معلَّم يُعلِّمه ما يأتي به بشر .
{ إنا كاشفو العذاب قليلاً } أَيْ : يكشف عنكم عذاب الجوع في الدُّنيا ، ثمَّ تعودون في العذاب ، وهو قوله : { إنكم عائدون } .
{ يوم نبطش البطشة الكبرى } أَيْ : يوم القيامة . وقيل : يوم بدرٍ .
{ ولقد فتنا } بلونا { قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم } على الله تعالى : يعني : موسى عليه السَّلام .
{ أن أدوا إليَّ عباد الله } أَيْ : سلِّموهم إليَّ ولا تُعذِّبوهم ، يعني : بني إسرائيل ، كما قال : { فأرسل معي بني إسرائيل } { إني لكم رسول أمين } على وحي الله عزَّ وجلَّ .
{ وأن لا تعلوا على الله } لا تعصوه ولا تخالفوا أمره { إني آتيكم بسلطان مبين } بحجَّةٍ واضحةٍ تدلُّ على أنَّني نبيٌّ .
{ وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } أَن تقتلون ، وذلك أنَّهم توعَّدوه بالقتل .
{ وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } أَيْ : لا تكونوا عليَّ [ ولا لي ] ، وخلُّوا عني .
{ فدعا ربَّه أنَّ } أَيْ : بأنَّ { هؤلاء } [ أَيْ : يا ربِّ هؤلاء ] { قوم مجرمون } مُشركون .
(1/888)

فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)
{ فأسرِ بعبادي } بني إسرائيل { ليلاً إنكم متبعون } يتَّبعكم فرعون وقومه .
{ واترك البحر رهواً } خلِّفه وراءك ساكناً غير مضطربٍ ، وذلك أنّ الماء وقف له كالطود العظيم حين جاوز البحر { إنهم جندٌ مغرقون } نغرقهم في ذلك البحر الذي تجاوزوه رهواً .
{ كم تركوا } بعد هلاكهم { من جنات وعُيُون . . . } الآية ، مُفسَّرةٌ في سورة الشُّعراء .
(1/889)

كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
{ كذلك } أَيْ : الأمر كما وصفنا { وأورثناها } أعطيناها { قوماً آخرين } يعني : بني إسرائيل .
{ فما بكت عليهم السماء والأرض } لأنَّهم ماتوا كفَّاراً ، والمؤمن يبكي عليه مصعد عمله ، ومُصلاَّه من الأرض . { وما كانوا منظرين } مؤخَّرين حين أخذناهم بالعذاب .
{ ولقد نجينا بني إسرائيل } بإهلاك فرعون وقومه { من العذاب المهين } يعني : قتل الأبناء واستخدام النِّساء .
{ من فرعون إنه كان عالياً } مستكبراً مُتعظِّماً { من المسرفين } الكافرين المُتجاوزين حدِّهم .
{ ولقد اخترناهم } بني إسرائيل { على علمٍ } منَّا بهم { على العالمين } عالمي زمانهم .
{ وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين } نعمةٌ ظاهرةٌ من فلق البحر ، وإنزال المنِّ والسَّلوى .
{ إنَّ هؤلاء } أَيْ : مشركي مكَّة { ليقولون : إن هي إلاَّ موتتنا الأولى } أَيْ : ليس إلاَّ الموت ولا نشر بعده ، وهو قوله : { وما نحن بمنشرين } .
{ فأتوا بآبائنا } الذين ماتوا { إن كنتم صادقين } أنَّا نُبعث بعد الموت .
{ أهم خير } أَيْ : أقوى وأشدُّ { أم قوم تبع } الحِميريِّ { والذين من قبلهم } من الكفَّار { أهلكناهم } .
{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } ونحن نلعب في خلقهما ، أَيْ : إنَّما خلقناهما لأمرٍ عظيم ، وهو قوله : { ما خلقناهما إلاَّ بالحق } أَيْ : لإقامة الحقِّ وإظهاره من توحيد الله وإلزام طاعته .
{ إنَّ يوم الفصل } وهو يوم القيامة ، يفصل الله تعالى فيه بين العباد { ميقاتهم } الذي وقَّتنا لعذابهم { أجمعين } .
{ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً } قريبٌ عن قريبٍ { ولا هم ينصرون } يُمنعون من عذاب الله .
(1/890)

إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
{ إلاَّ من رحم } لكن مَنْ رحم الله فإنَّه يُنصر .
{ إنَّ شجرة الزَّقوم } .
{ طعام الأثيم } أَيْ : صاحب الإثم ، وهو أبو جهل .
{ كالمهل } أَيْ : كالذَّائب من الفضَّة والنُّحاس في الحرارة . { يَغلي في البطون } في بطون آكليه .
{ كغلي الحميم } وهو الماء الحارُّ .
{ خذوه } يعني : الأثيم { فاعتلوه } سوقوه [ سوقاً ] بالعنف { إلى سواء الجحيم } وسط الجحيم .
{ ثمَّ صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } كما قال : { يصبُّ من فوقِ رؤوسهم الحميم } ويقال له :
{ ذق إنك أنت العزيز الكريم } بزعمك وعلى قولك ، وذلك أنَّه قال : ما بين جبليها أعزُّ ولا أكرم مني .
{ إنَّ هذا } الذي ترون من العذاب { ما كنتم به تمترون } فيه تشكُّون .
{ إنَّ المتقين في مقام أمين } أمنوا فيه من الغير .
(1/891)

يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
{ يلبسون من سندس } وهو ما رقَّ من الثّياب { وإستبرق } وهو ما غلظ منه { متقابلين } مُتواجيهن .
{ كذلك } كما وصفنا { وزوجناهم بحور } وهنَّ النِّساء النَّقيات البياض { عين } واسعة الأعين .
{ يدعون فيها بكلِّ فاكهة آمنين } من الموت .
{ لا يذوقون فيها الموت إلاَّ } سوى { الموتة الأولى } الموتة التي ذاقوها في الدُّنيا .
(1/892)

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
{ فإنما يسرناه } سهَّلنا القرآن { بلسانك لعلهم يتذكرون } يتَّعظون .
{ فارتقب } فانتظر الفتح والنَّصر { إنهم مرتقبون } مُنتظرون قهرك وهلاكك .
(1/893)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
{ حم } .
{ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } .
{ إنَّ في السموات والأرض } أَيْ : إنَّ في خلقهما { لآيات } لدلالاتٍ على قدرة الله وتوحيده .
(1/894)

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
{ فبأيِّ حديث بعد الله } أَيْ : بعد حديث الله وكتابه { يؤمنون } .
{ ويلٌ لكلِّ أفاك أثيم } كذَّاب صاحب إثمٍ .
{ يسمع آيات الله تتلى عليه ثمَّ يصرُّ } يُقيم على كفره { مستكبراً } مُتعظِّماً عن الإيمان به .
{ وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً } استهزأ بها .
{ ومن ورائهم } أمامهم { جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا } من الأموال { شيئاً } .
{ هذا هدى } أَيْ : هذا القرآن هدىً . { والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذابٌ من رجز أليم } مُؤلمٌ مُوجعٌ .
(1/895)

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
{ جميعاً منه } أيْ : كلُّ ذلك تفضُّلٌ منه وإحسانٌ .
{ قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } نزلت قبل الأمر بالقتال يقول : قل لهم يصفحوا عن المشركين الذين لا يخافون عقوبته الله وعذابه { ليجزي قوماً } أَيْ : ليجزيهم { بما كانوا يكسبون } من سوء أعمالهم .
(1/896)

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
{ ورزقناهم من الطيبات } أَيْ : المنِّ والسَّلوى .
{ وآتيناهم بينات من الأمر } يعني : أحكام التَّوراة ، وبيان أمر النبيِّ عليه السَّلام { فما اختلفوا } في نبوَّته { إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم } يعني : ما علموه من شأنه . { بغياً بينهم } حسداً منهم له .
{ ثم جعلناك على شريعة } مذهبٍ وملَّةٍ { من الأمر } من الدِّين { فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } مراد الكافرين .
{ إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً } لن يدفعوا عنك عذاب الله إن اتَّبعت أهواءهم .
{ هذا } إشارةٌ إلى القرآن { بصائر } معالم { للناس } في الحدود والأحكام يبصرون بها .
{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات } اكتسبوا الكفر والمعاصي { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم } مُستوياً حياتهم وموتهم ، أَيْ : المؤمنُ مؤمنٌ حياً وميتاً ، والكافر كافرٌ حياً وميتاً ، فلا يستويان { ساء ما يحكمون } بئس ما يقضون إذ حسبوا أنَّهم كالمؤمنين ، نزلت هذه الآية حين قال المشركون : لئن كان ما تقولون حقاً لنفضلنَّ عليكم في الآخرة ، كما فضلنا عليكم في الدُّنيا .
(1/897)

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
{ أفرأيت من اتخذ إله هواه } أَيْ : الكافر اتَّخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئاً إلاَّ ركبه . { وأضله الله على علم } على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه [ أنَّه ضالٌّ ] . وباقي الآية مُفسَّر في أوَّل سورة البقرة .
{ وقالوا } يعني : منكري البعث : { ما هي إلاَّ حياتنا الدنيا } أَيْ : ما الحياة إلاَّ هذه الحياة في دار الدُّنيا { نموت } نحن { ونحيا } أولادنا { وما يهلكنا إلاَّ الدهر } أَيْ : ما يفنينا إلاَّ مرُّ الزَّمان . { وما لهم بذلك من علم } أَيْ : الذين يقولون . { إن هم إلاَّ يظنون } ما هم إلاَّ ظانِّين ما يقولون .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا } أَدلَّتنا في قدرتنا على البعث { بينات } واضحاتٍ { وما كان حجَّتهم إلاَّ أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين } أنَّا نُبعث بعد الموت . وقوله :
{ ثمَّ يجمعكم إلى يوم القيامة } أَيْ : مع ذلك اليوم .
(1/898)

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
{ وترى كلَّ أمة } كلَّ أهلِ دينٍ { جاثية } مُجتمعةً للحساب . وقيل : جالسةً على الرُّكَب من هول ذلك اليوم .
{ هذا كتابنا ينطق } أَيْ : ديوان الحفظة { إنا كنا نَستنسِخُ } نأمر بنسخ { ما كنتم تعملون } .
(1/899)

وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
{ وقيل اليوم ننساكم } نترككم في العذاب كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم هذا وقوله :
{ ولا هم يستعتبون } أَيْ : لا يُلتمس منهم عمل ولا طاعة .
(1/900)

وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{ وله الكبرياء } العظمة { في السموات والأرض } أَيْ : إنَّه يُعظَّم بالعبادة في السموات والأرض { وهو العزيز الحكيم } .
(1/901)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
{ حم }
{ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } .
{ ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق } أَيْ : للحقِّ ، ولإِقامة الحقِّ { وأجل مسمَّى } تفنى عند انقضاء ذلك الأجل { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } أعرضوا بعدما قامت عليهم الحجَّة بخلق الله السَّموات والأرض ، ثمَّ طالبهم بالدَّليل على عبادة الأوثان ، فقال :
{ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات } أَيْ : مشاركةٌ مع الله في خلقهما لذلك أشركتموهم في عبادته { ائتوني بكتاب من قبل هذا } [ أَيْ : من قَبْلِ ] القرآن فيه بيان ما تقولون { أو أثارة من علم } روايةٍ عن الأنبياء أنَّهم أَمروا بعبادة غير الله ، فلمَّا قامت عليهم الحجَّة جعلهم أضلَّ الخلق ، فقال :
{ ومَنْ أضلُّ ممن يدعو من دون الله مَنْ لا يستجيب له إلى يوم القيامة . . . } أَيْ : أبداً . الآية .
{ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً } عادوا معبوديهم؛ لأنَّهم بسببهم وقعوا في الهلكة ، وجحد المعبودون عبادتهم ، وهو قوله : { وكانوا بعبادتهم كافرين } كقوله : { تبرَّأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون . }
(1/902)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
{ قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً } أَيْ : عذَّبني على افترائي لم تملكوا دفعه ، وإذا كنتم كذلك لم أفتر على الله من أجلكم { هو أعلم بما تفيضون فيه } تخوضون فيه من الإفك . { وهو الغفور } لمَنْ تاب { الرحيم } به .
{ قل ما كنت بدعاً } بديعاً { من الرسل } أَيْ : لستُ بأوَّل مرسل فتنكروا نبوَّتي ، { وما أدري ما يفعل بي } إلى إيش يصير أمري معكم ، أتقتلونني أم تخرجونني { ولا بكم } أَتُعذِّبون بالخسف أم الحجارة ، والمعنى : ما أدري إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدُّنيا .
{ قل أرأيتم إن كان } القرآن { من عند الله وكفرتم به وشهد شاهدٌ من بني إسرائيل } يعني : عبد الله بن سلام { على مثله } على مثل ما شهد عليه القرآن من تصديق محمَّد عليه السَّلام { فآمن } ذلك الرَّجل { واستكبرتم } عن الإيمان .
{ وقال الذين كفروا } من اليهود : { لو كان } دين محمَّدٍ { خيراً ما سبقونا إليه } يعنون : عبد الله بن سلام وأصحابه { وإذ لم يهتدوا به } بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان { فسيقولون هذا إفكٌ قديم } كما قالوا : أساطير الأوَّلين .
{ ومن قبله } ومن قبل القرآن { كتاب موسى } التَّوراة { إماماً ورحمة وهذا كتاب } أَيْ : القرآن { مصدق } أَيْ : مصدِّقٌ لما بين يديه لما تقدَّم من الكتب { لساناً عربياً } نصب على الحال .
(1/903)

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
{ حملته أمه كرهاً } على مشقَّةٍ { ووضعته كرهاً } أَيْ : على مشقَّةٍ { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } أقلُّ الحمل ستة أشهر ، والفِصال : الفِطام ، ويكون ذلك بعد حولين { حتى إذا بلغ أشده } غاية شبابه ، وهي ثلاثٌ وثلاثون سنةً { وبلغ أربعين سنةً قال : ربِّ أوزعني . . . } الآية . نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أنَّه لمَّا بلغ أربعين سنةً آمن بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وآمن أبواه ، فذلك قوله : { أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي } أَيْ : بالإِيمان { وأصلح لي في ذريتي } بأن تجعلهم مؤمنين ، فاستجاب الله له في أولاده فأسلموا ، ولم يكن أحدٌ من الصَّحابة أسلم هو وأبواه وبنوه وبناته إلاَّ أبو بكر رضي الله عنه .
(1/904)

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
{ والذي قال لوالديه } نزلت في كافرٍ عاقٍّ قال لوالديه : { أَتَعِدانِني أن أخرج } من قبري حيَّاً { وقد خلت القرون من قبلي } فلم يُبعث منهم أحدٌ { وهما يستغيثان الله } يعني : والديه يستغيثان بالله على إيمان ولدهما ، ويقولان له : { ويلك آمن إنَّ وعد الله حق فيقول : ما هذا } الذي تدعونني إليه { إلاَّ أساطير الأولين } .
{ أولئك الذين } أَيْ : مَنْ كان بهذه الصِّفة فهم الذين { حق عليهم القول } وجب عليهم العذاب { في أمم } كافرةٍ . { من الجن والإِنس } .
{ ولكلٍّ } من المؤمنين والكافرين { درجات } منازل ومراتب من الثَّواب والعقاب { ممَّا عملوا } .
{ ويوم يعرض الذين كفروا على النار } فيقال لهم : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } وذلك أنَّهم يفعلون ما يشتهون ، لا يَتَوَقَّوْن حراماً ، ولا يجتنبون مأثماً { فاليوم تجزون عذاب الهون } الهوان . الآية .
{ واذكر أخا عاد } يعني : هوداً { إذ أنذر قومه بالأحقاف } أَيْ : منازلهم { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه } أَيْ : قد أُنذروا بالعذاب أنْ عَبَدوا غيرَ الله قبل إنذار هود وبعده .
{ قالوا أجئتنا لتأفكنا } لتصرفنا { عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا } من العذاب { إن كنت من الصادقين } .
{ قال : إنما العلم عند الله } هو يعلم متى يأتيكم العذاب ، { و } إنما أنا مُبلِّغٌ { أبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوماً تجهلون } مراشدكم حين أدلُّكم على الرَّشاد وأنتم تُعرضون .
{ فلما رأوه } أَيْ : السَّحاب { عارضاً } قد عرض في السماء { مستقبل أوديتهم } يأتي من قبلها . { قالوا هذا عارض ممطرنا } سحابٌ يمطر علينا . قال الله تعالى : { بل هو ما أستعجلتم به } من العذاب .
{ تدمّر } تُهلك { كلَّ شيء } مرَّت به من الرِّجال والدَّوابِّ . { فأصبحوا لا يُرى } أشخاصهم { إلاَّ مساكنهم } لأنَّ الرِّيح أهلكتهم وفرَّقتهم ، وبقيت مساكنهم خاليةً .
{ ولقد مكَّناهم } من القوَّة والعمر والمال { فيما إن مكَّناكم فيه } في الذي ما مكَّنَّاكم فيه .
(1/905)

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
{ ولقد أهلكنا ما حولكم } يا أهل مكَّة { من القرى } كحجر ثمود وقرى قوم لوط { وصرَّفنا الآيات } بيَّنا الدَّلالات { لعلهم يرجعون } عن كفرهم . يعني : الأمم المهلكة .
{ فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة } يعني : أوثانهم الذين اتَّخذوها آلهةَ يتقرَّبون بها إلى الله . { بل ضلوا عنهم } بطلوا عند نزول العذاب { وذلك إفكهم } أَيْ : كذبهم وكفرهم . يعني : قولهم : إنَّها تُقرِّبنا إلى الله .
{ وإذْ صرفنا إليك نفراً من الجن } كانوا تسعة نفرٍ من الجنِّ من نينوى من أرض الموصل ، وذلك أنَّه عليه السَّلام أُمر أن يُنذر الجنَّ ، فصرف إليه نفرٌ منهم ليتسمعوا ويبلِّغوا قومهم . { فلما حضروه } قال بعضهم لبعض : { أنصتوا } أَيْ : اسكتوا { فلما قضي } أَيْ : فرغ من تلاوة القرآن رجعوا { إلى قومهم منذرين } ؛ وقالوا لهم ما قصَّ الله في كتابه .
(1/906)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
{ ولم يعي بخلقهن } أَيْ : لم يضعف عن إبداعهنَّ .
(1/907)

فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } أَيْ : ذوو الرَّأي والجدِّ ، وكلّهم أولو العزم إلاَّ يونس . وقيل : هم أصحاب الشَّرائع نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد منهم صلى الله عليهم أجمعين . { ولا تستعجل لهم } العذاب { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } من العذاب في الآخرة { لم يلبثوا } في الدُّنيا { إلاَّ ساعة من نهار } لهولِ ما عاينوا ، ونسوا قدر مكثهم في الدُّنيا . { بلاغ } أَيْ : هذا القرآن بلاغٌ ، أَيْ : تبْليغٌ من الله تعالى إليكم على لسان محمَّد عليه السَّلام { فهل يهلك إلاَّ القوم الفاسقون } أَيْ : لا يُهلك مع رحمة الله وتفضُّله إلاَّ الكافرون .
(1/908)

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
{ الذين كفروا } أهل مكَّة { وصدوا عن سبيل الله } ومنعوا النَّاس عن الإيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { أضلَّ أعمالهم } أحبطها ، فلا يرون في ألآخرة لها جزاءً . وقوله :
{ كفَّر عنهم سيئاتهم } أَيْ : سترها وغفرها لهم { وأصلح بالهم } أمرهم وحالهم .
{ ذلك } الإِضلال والتَّكفير لاتِّباع الكافرين الباطل ، وهو الشَّيطان ، واتِّباع المؤمنين الحقَّ ، وهو القرآن . { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } أَيْ : كالبيان الذي ذُكر يُبيِّن الله للنَّاس أمثال سيئات الكافرين وحسنات المؤمنين .
{ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } فاضربوا رقابهم ، أَيْ : فاقتلوهم { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم فيهم القتل { فشدوا } وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم { فإمَّا منَّاً بعد } أَيْ : بعد أن تأسروهم؛ إمَّا مننتم عليهم فأطلقتموهم؛ وإمَّا أن تُفادوهم بمالٍ { حتى تَضَعَ الحرب أوزارها } أَيْ : اقتلوهم وأسروهم حتى لا يبقى كافرٌ يقاتلكم ، فتسكن الحرب وتنقطع ، وهو معنى قوله : { تضع الحرب أوزارها } أَيْ : يضع أهلها آلة الحرب من السِّلاح وغيره ، ويدخلوا في الإِسلام أو الذِّمَّة . { ذلك } أَيْ : افعلوا ذلك الذي ذكرت { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أهلكهم بغير قتالٍ { ولكن ليبلو بعضكم ببعض } يمحِّص المؤمنين بالجهاد ، ويمحق الكافرين { والذين قتلوا في سبيل الله } وهم أهل الجهاد .
{ سيهديهم } في الدُّنيا إلى الطَّاعات ، وفي الآخرة إلى الدَّرجات { ويصلح بالهم } أمر معاشهم .
{ ويدخلهم الجنة عرَّفها لهم } بيَّن لهم مساكنهم فيها ، وعرَّفهم منازلهم .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله } أَيْ : رسوله ودينه { ينصركم ويثبت أقدامكم } في مواطن القتال .
{ والذين كفروا فتعساً لهم } أَيْ : سقوطاً وهلاكاً { وأضلَّ أعمالهم } أبطلها؛ لأنَّها كانت للشَّيطان .
(1/909)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
ثمَّ توعَّدهم فقال : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمَّر الله عليهم وللكافرين أمثالها } أَيْ : أمثال تلك العاقبة التي كانت لمَنْ قبلهم .
{ ذلك } أَيْ : ذلك النَّصر للمؤمنين والهلاك للكافرين { بأنَّ الله مولى الذين آمنوا } وليُّهم وناصرهم { وأن الكافرين لا مولى لهم } لا وليَّ لهم ينصرهم من الله .
{ والذين كفروا يتمتعون } في الدُّنيا { ويأكلون كما تأكل الأنعام } ليس لهم همَّةٌ إلاَّ بطونهم وفروجهم ، ثمَّ يصيرون إلى النَّار .
{ وكأين من قرية هي أشدُّ قوة من قريتك التي أخرجتك } يعني : مكَّة ، أخرجك أهلها { أهلكناهم } بتكذيبهم الرُّسل { فلا ناصر لهم } .
{ أفمن كان على بينة من ربه } وهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون { كمَنْ زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } وهم أبو جهل والكفَّار .
{ مثل } صفة { الجنَّة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسن } غير متغيِّرِ الرَّائحة { وأنهار من خمر لذة للشاربين } لذيذة .
{ ومنهم مَنْ يستمع إليك } يعني : المنافقين { حتى إذا خرجوا من عندك } كانوا يستمعون خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا خرجوا سألوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً وإعلاماً أنَّهم لم يلتفتوا إلى ما قال ، يقولون : { ماذا قال آنفاً } أَيْ : الآن . وقوله :
{ وآتاهم تقواهم } أَيْ : ثواب تقواهم ، ويجوز أن يكون المعنى : وألهمهم تقواهم ووفَّقهم لها .
(1/910)

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
{ فهل ينظرون } ينتظرون { إلاَّ الساعة } القيامة { أن تأتيهم بغتة } أَيْ : هم في الحقيقة كذلك؛ لأنَّه ليس الأمر إلاَّ أن تقوم عليهم السَّاعة بغتةً { فقد جاء أشراطها } علاماتها من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وغيره { فأنى لهم إذا جاءتهم } السَّاعة { ذكراهم } أَيْ : فمن أين لهم أن يتذكَّروا أو يتوبوا بعد مجيء السَّاعة .
{ فأعلم أنه لا إله إلاَّ الله } أَيْ : فاثبت على ذلك من علمك . { والله يعلم متقلبكم } مُتصرِّفكم في أعمالكم وأشغالكم . وقيل : مُتقلَّبكم من الأصلاب إلى الأرحام . { ومثواكم } مرجعكم في الدُّنيا والآخرة .
{ ويقول الذين آمنوا } حرصاً منهم على الوحي إذا استبطؤوه : { لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة } غير منسوخةٍ { وذكر فيها } فُرِضَ { القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض } أَيْ : المناققين { ينظرون إليك } شزراً { نظر المغشي عليه من الموت } كنظر مَنْ وقع في سكرات الموت ، كراهة منهم للقتال . { فأولى لهم } .
{ طاعة وقول معروف } أَيْ : لو أطاعوا وقالوا لك قولاً حسناً كان ذلك أولى . { فإذا عزم الأمر } أَيْ : جدَّ الأمرُ ولزم فرض القتال { فلو صدقوا الله } في الإِيمان والطَّاعة { لكان خيراً لهم } .
{ فهل عسيتم إن توليتم } أَيْ : لعلَّكم إن أعرضتم عمَّا جاء به محمد عليه السَّلام أن تعودوا إلى أمر الجاهليَّة ، فيقتل بعضكم بعضاً ، وهو قوله : { أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } أَيْ : بالبغي والظُّلم والقتل .
(1/911)

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
{ أفلا يتدبرون القرآن } فيتَّعظوا بمواعظه { أم على قلوبٍ أقفالها } فليس تفهمها .
{ إنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى } يعني : كفَّار أهل الكتاب كفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه { الشيطان سؤَّل لهم } زيَّن لهم { وأملى لهم } أطال لهم الأمل .
{ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزَّل الله } يعني : المشركين { سنطيعكم في بعض الأمر } في التَّظاهر على عداوة محمَّد صلى الله عليه وسلم .
{ فكيف } أَيْ : فيكف يكون حالهم { إذا توفتهم الملائكة } .
(1/912)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
{ أم حسب الذين في قلوبهم مرض } وهم المنافقون { أن لن يخرج الله أضغانهم } لن يظهر الله أحقادهم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
{ ولو نشاء لأريناكهم } لعرَّفناكهم { فلعرفتهم بسيماهم } بعلامتهم { ولتعرفنهم في لحن القول } في معنى كلامهم إذا تكلَّموا معك .
{ ولنبلونكم } بالجهاد { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } العلم الذي يقع به الجزاء { ونبلوا أخباركم } أَيْ : ونكشف ما تُسرُّون .
{ إنَّ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله . . . } الآية . يعني : المُطعمين من أصحاب بدرٍ . وقوله :
{ ولا تبطلوا أعمالكم } أَيْ : بالمنِّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامكم .
(1/913)

فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
{ وتدعوا إلى السلم } أَيْ : لا توادعوهم ولا تتركوا قتالهم حتى يُسلموا؛ لأنَّكم الأعلون ، ولا ضعف بكم فتدعوا إلى الصُّلح { والله معكم } بالنُّصرة { ولن يتركم أعمالكم } لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم . وقوله :
{ ولا يسألكم أموالكم } أَيْ : لا يسألكم محمَّد عليه السَّلام أموالكم أجراً على تبليغ الرِّسالة .
{ إن يسألكموها فيحفكم } يجهدكم بالمسألة { تبخلوا ويخرج أضغانكم } ويظهر عداوتكم؛ لأنَّ في مسألة المال ظهور العداوة والحقد .
{ ها أنتم هؤلاء } يا هؤلاء { تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم مَنْ يبخل } بالصَّدقة { ومَنْ يبخل فإنما يبخل عن نفسه } لأنَّ له ثواب ما أعطي ، فإذا لم يعط لم يستحقَّ الثَّواب { والله الغنيُّ } عن صدقاتكم { وأنتم الفقراء } إليها في الآخرة { وإن تتولوا } عن الرَّسول { يستبدل قوماً غيركم } أطوع منكم ، وهم فارس { ثم لا يكونوا } في الطَّاعة { أمثالكم } بل يكونوا أطوع منكم ، وهذا الخطاب للعرب .
(1/914)

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
{ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } حكمنا لك بإظهار دينك والنُّصرة على عدوِّك ، وفتحنا لك أمر الدِّين .
{ ليغفر لك الله ما تقدَّم من ذنبك } ما عملت في الجاهليَّة { وما تأخَّر } ممَّا لم تعمله وقيل : ما تقدَّم من ذنبك ، يعني : ذنب أبويك آدم وحوَّاء ببركتك ، وما تأخَّر من ذنوب أُمَّتك بدعوتك . { ويتم نعمته عليك } بالنُّبوَّة والحكمة { ويهديك صراطاً مستقيماً } أَيْ : يُثبِّتك عليه .
{ وينصرك الله نصراً عزيزاً } ذا عزٍّ لا يقع معه ذلٌّ .
{ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } اليقين والطُّمأنينة { ليزدادوا إيماناً } بشرائع الدِّين { مع إيمانهم } تصديقهم بالله وبرسوله .
(1/915)

وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
{ الظانين بالله ظنَّ السوء } يظنُّون أن لن ينصر الله محمَّداً والمؤمنين { عليهم دائرة السوء } بالذُّلَّ والعذاب ، أَيْ : عليهم يدور الهلاك والخزي .
(1/916)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
{ إنَّا أرسلناك شاهداً } على أُمَّتك يوم القيامة { ومبشراً } بالجنَّة مَنْ عمل خيراً { ونذيراً } منذراً بالنَّار مَنْ عمل سوءً .
{ وتعزروه } أَيْ : تنصروه { وتوقروه } وتعظِّموه .
{ إنَّ الذين يبايعونك } بالحديبية { إنما يبايعون الله } أَيْ : أخذك عليهم البيعة عقدُ الله عليهم . { يد الله فوق أيديهم } نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة . { فمن نكث } نقض البيعة { فإنما ينكث على نفسه } فإنما يضرُّ نفسه بذلك النَّكث .
{ سيقول لك المخلفون من الأعراب . . . } الآية . لمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكَّة عام الحديبية استنفر مَنْ حول المدينة من الأعراب حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ، فتثاقلوا عنه وخافوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنفسهم ، فأنزل الله تعالى : { سيقول لك المخلفون } الذين خلَّفهم الله عن صحبتك إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم عن التَّخلُّف : { شغلتنا } عن الخروج معك { أموالنا وأهلونا } أَيْ : ليس لنا مَنْ يقوم فيها إذا خرجنا { فاستغفر لنا } تركنا الخروج معك ، ثمَّ كذَّبهم الله تعالى في ذلك العذر ، فقال : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم . . . } الآية .
{ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً } وذلك أنَّهم قالوا : إنَّ محمداً وأصحابه أكلة رأس [ أًيْ : قليلو العدد ] وأنَّهم لا يرجعون من هذا الوجه أبداً ، فقال الله تعالى : { وظننتم ظنَّ السوء وكنتم قوماً بُوْراً } هالكين عند الله تعالى بهذا الظَّنِّ .
(1/917)

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
{ سيقول المخلفون } يعني : هؤلاء : { إذا انطلقتم إلى مغانم } يعني : غنائم خيبر { ذرونا نتبعكم } إلى خيبر فنشهد معكم . { يريدون أن يبدلوا كلام الله } يغيّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية ، وذلك أنَّ الله تعالى حكم لهم بغنائم خيبر دون غيرهم . { قل لن تتبعونا } إلى خيبر { كذلكم قال الله من قبل } [ أَيْ : من قبل ] مرجعنا إليكم ، إنَّ غنيمة خيبر لمّنْ شهد الحديبية دون غيرهم { فسيقولون بل تحسدوننا } أن نصيب معكم من الغنائم .
{ قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم } إلى قتال قوم { أولي بأس شديد } وهم فارس والرُّوم . وقيل : بنو حنيفة أصحاب اليمامة . { تقاتلونهم أو يسلمون } يعني : أو هم يسلمون [ أصحاب مسيلمة الكذاب ] فيترك قتالهم { فإن تطيعوا } مَنْ دعاكم إلى قتالهم { يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل } عام الحديبية ، يعني : نافقتم وتركتم الجهاد { يعذِّبكم عذاباً أليماً } . ثم ذكر أهل العُذر في التَّخلُّف عن الجهاد فقال :
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج . . . } الآية . ثمَّ ذكر خبر مَنْ أخلص نيَّته فقال :
{ لقد رضي الله عن المؤمنين } وكانوا ألفاً وأربعمائة { إذ يبايعونك } بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً ولا يفرُّوا { تحت الشجرة } يعني : سمرة كانت هنالك ، وهذه البيعة تسمَّى بيعة الرِّضوان { فعلم ما في قلوبهم } من الإِخلاص والوفاء { فأنزل } الله { السكينة عليهم } وهي الطُّمأنينة وثلج الصدر بالنُّصرة من الله تعالى : لرسوله { وأثابهم فتحاً قريباً } أَيْ : فتح خيبر .
(1/918)

وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
{ ومغانم كثيرة يأخذونها } يعني : عقار خيبر وأموالها .
{ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة ، { فعجَّل لكم هذه } يعني : خيبر { وكفَّ أيدي الناس عنكم } لما خرجوا وخلفوا عيالهم بالمدينة حفظ الله عليهم عيالهم ، وقد همَّت اليهود بهم ، فقذف الله في قلوبهم الرُّعب ، فانصرفوا { ولتكون } هزيمتهم وسلامتكم { آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً } يعني : طريق التَّوكُّل وتفويض الأمر إلى الله سبحانه في كلِّ شيء .
{ وأخرى } أَيْ : ومغانم أخرى { لم تقدروا عليها } يعني : فارس والرُّوم { قد أحاط الله بها } علم أنَّه يفتحها لكم .
{ ولو قاتلكم الذين كفروا } أَيْ : أهل مكَّة لو قاتلوكم عام الحديبية { لولوا الأدبار } لانهزموا عنك ، ولنصرت عليهم .
{ سنة الله } كسنَّة الله في النُّصرة لأوليائه .
{ وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } مَنَّ الله سبحانه على المؤمنين بما أوقع من صلح الحديبية ، فكفَّهم عن القتال بمكَّة ، وذكر حُسن عاقبة ذلك في الآية الثَّانية . وقوله : { من بعد أن أظفركم عليهم } وذلك أنَّ رجالاً من قريش طافوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك العام ليصيبوا منهم ، فأُخذوا وأُتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم ، وكان ذلك سبب الصُّلح بينهم .
(1/919)

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
{ هم الذين كفروا } يعني : أهل مكَّة { وصدوكم عن المسجد الحرام } منعوكم من زيارة البيت { والهدي } ومنعوا الهدي { معكوفاً } محبوساً { أن يبلغ محله } منحره ، وكانت سبعين بدنةً . { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } بمكَّة { لم تعلموهم أن تطؤوهم } أَيْ : لولا أن تطؤوهم في القتال؛ لأنَّكم لم تعلموهم مؤمنين ، وهو وقوله : { بغير علم } { فتصيبكم منهم معرَّة } [ كفَّارةٌ و ] عارٌ وعيبٌ من الكافرين . يقولون : قتلوا أهل دينهم { ليدخل الله في رحمته } دينه الإِسلام { مَنْ يشاء } من أهل مكَّة قبل أن يدخلوها { لو تزيلوا } تميَّز عنهم هؤلاء المؤمنون { لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } لأنزلنا بهم ما يكون عذاباً لهم أليماً بأيديكم .
{ إذْ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية } حين صدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } أَيْ : الوقار حين صالحوهم ، ولم تأخذهم من الحمية ما أخذهم فيلجُّوا ويقاتلوا . { وألزمهم كلمة التقوى } توحيد الله والإيمان به وبرسوله : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وقيل : يعني : بسم الله الرحمن الرحيم ، أبى المشركون أن يقبلوا هذا لمَّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاب الصُّلح بينهم ، وقالوا : اكتب باسمك اللَّهم ، فقال الله تعالى : { وكانوا أحقَّ بها وأهلها } أَيْ : المؤمنون؛ لأنَّ الله اختارهم للإيمان ، وكانوا أحقَّ بكلمة التَّقوى من غيرهم .
{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق . . . } الآية . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قبل خروجه عام الحديبية كأنَّه وأصحابه يدخلون مكَّة مُحلِّقين ومُقصِّرين غير خائفين ، فلمَّا خرج عام الحديبية كانوا قد وطنوا أنفسهم على دخول مكَّة لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا صدُّوا عن البيت راب بعضهم ذلك ، فأخبر الله تعالى أنَّ تلك الرُّؤيا صادقةٌ ، وأنَّهم يدخلونها إٍن شاء الله آمنين . وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } علم الله تعالى أنًّ الصَّلاح كان في ذاك الصُّلح ، ولم تعلموا ذلك . { فجعل من دون ذلك } أَيْ : من دون دخولكم المسجد { فتحاً قريباً } وهو صلح الحديبية ، ولم يكن فتحٌ في الإسلام كان أعظم من ذلك؛ لأنَّه دخل في الإسلام في تلك السِّنين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر ، وقيل : يعني : فتح خيبر .
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } ليجعل دين الحقِّ ظاهراً على سائر الأديان عالياً عليها { وكفى بالله شهيداً } أنَّك مرسلٌ بالحقِّ ، ثمَّ حقَّق الله تلك الشَّهادة وبيَّنها .
(1/920)

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
{ محمد رسول الله والذين معه } من المؤمنين { أشداء } غلاظٌ { على الكفار رحماء بينهم } متوادُّون متعاطفون { تراهم ركعاً سجداً } في صلواتهم { يبتغون فضلاً من الله } أني يدخلهم الجنَّة { ورضواناً } أن يرضى عنهم { سيماهم } علامتهم { في وجهوههم من أثر السجود } يعني : نوراً وبياضاً في وجوههم يوم القيامة ، يُعرفون بذلك النُّور أنَّهم سجدوا في دار الدُّنيا لله تعالى . { ذلك مثلهم } صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه { في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } فراخه ونباته { فآزره } قوَّاه وأعانه ، أيْ : قوَّى الشَّطأ الزَّرع ، كما قوَّى أمر محمَّد وأصحابه ، والمعنى : أنَّهم يكونون قليلاً ثمَّ يكثرون ، وهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيِّه عليه السَّلام إذ خرج وحده ، فأيَّده بأصحابه كما قوَّى الطَّاقة من الزرع بما ينبت حوله { فاستغلظ } فَغَلُظَ وقوِيَ . { فاستوى } ثمَّ تلاحق نباته وقام على { سوقه } جمع ساق { يعجب الزراع } بحسن نباته واستوائه { ليغيظ بهم الكفار } فعل الله تعالى ذلك بمحمَّد وأصحابه ليغيظ بهم أهل الكفر . { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } أَيْ : من أصحاب عليه السَّلام { مغفرة وأجراً عظيماً } .
(1/921)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } أَيْ : لا تُقدِّموا خلاف الكتاب والسُّنَّة . وقيل : لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيُّ عليه السَّلام في الأضحى وقيل : لا تصوموا قبل صومه . نزلت في النَّهي عن صوم يوم الشَّكِّ ، والمعنى : لا تسبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ حتى يكون هو الذي يأمركم به { واتقوا الله } في مخالفة أمره { إنَّ الله سميع } لأقوالكم { عليم } بأحوالكم .
{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ } نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس ، وكان جهوريَّ الصَّوت ، وربَّما كان يُكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته ، فأُمروا بغضِّ الصَّوت عند مخاطبته { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } لا تُنزِّلوه منزلة بعضكم من بعضٍ ، فتقولوا : يا محمد ، ولكن خاطبوه بالنبوَّة والسَّكينة والإِعظام { أن تحبط أعمالكم } كي لا تبطل حسناتكم { وأنتم لا تشعرون } أنَّ خطابه بالجهر ورفع الصَّوت فوق صوته يُحبط العمل ، فلمَّا نزلت هذه الآية خفض أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صوتهما ، فما كلَّما النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ كأخي السِّرار ، فأنزل الله تعالى :
{ إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أَيْ : اختبرها وأخلصها للتَّقوى .
{ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات } نزلت في وفد تميمٍ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفاخروه ، فنادوا على الباب : يا محمَّد ، اخرج إلينا؛ فإنَّ مدحنا زينٌ وإنَّ ذمنا شينٌ ، فقال الله تعالى : { أكثرهم لا يعقلون } أَيْ : إنَّهم جهَّال ، ولو عقلوا لما فاخروا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ ولو أنَّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم } من إيذائهم إيَّاك بالنِّداء على بابك { والله غفورٌ رحيم } لمَنْ تاب منهم .
{ يا أيُّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصَّدِّقاً إلى قومٍ كانت بينه وبينهم تِرةٌ في الجاهليَّة ، فخاف أن يأتيهم ، وانصرف من الطَّريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنَّهم منعوا الصَّدقة وقصدوا قتلي ، فذلك قوله : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } أَيْ : فاعلموا صدقه من كذبه { أن تصيبوا } لئلا تصيبوا { قوماً بجهالة } وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم همَّ أن يغزوهم حتى تبيَّن له طاعتهم .
(1/922)

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
{ واعلموا أنَّ فيكم رسول الله } فلا تقولوا الباطل؛ فإنَّ الله يخبره { لو يطيعكم في كثير من الأمر } لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له { لعنتم } لأثمتم ولهلكتم { ولكنَّ الله حبب إليكم الإيمان } فأنتم تطيعون الله ورسوله ، فلا تقعون في العنت ، يعني بهذا : المؤمنين المخلصين ، ثمَّ أثنى عليهم فقال : { أولئك هم الراشدون } .
{ فضلاً من الله } أَيْ : الفضل من الله عليهم .
{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } نزلت في جمعين من الأنصار كان بينهما قتالٌ بالأيدي والنِّعال { فأصلحوا بينهما } بالدُّعاءِ إلى حكم كتاب الله . فإن بغت إحداهما على الأخرى [ أَيْ : تعدَّت إحداهما على الأخرى ] وعدلت عن الحقِّ { فقاتلوا } الباغية حتى ترجع إلى أمر الله في كتابه . { فإن فاءت } رجعت إلى الحقِّ { فأصلحوا بينهما } بحملهما على الإِنصاف { وأقسطوا } وأعدلوا { إنَّ الله يحب المقسطين } .
{ إنما المؤمنون أخوة } في الدين والولاية { فأصلحوا بين أخويكم } إذا اختلفا واقتتلا { واتقوا الله } في إصلاح ذات البين { لعلكم ترحمون } كي ترحموا به .
{ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم . . . } الآية . نهى الله تعالى المؤمنين والمؤمنات أن يسخر بعضهم من بعض { عسى أن يكونوا } أَيْ : المسخور منه { خيراً منهم } من السَّاخر ، ومعنى السُّخرية ها هنا الازدراء والاحتقار . { ولا تلمزوا أنفسكم } لا يعب بعضكم بعضاً { ولا تنابزوا بالألقاب } وهو أن يُدعى الرَّجل بلقبٍ يكرهه ، نهى الله تعالى عن ذلك . { بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان } يعني : إنَّ السُّخرية واللَّمز والتَّنابز فسوقٌ بالمؤمنين ، وبئس ذلك بعد الإِيمان .
(1/923)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنَّ بعض الظن إثم } وهو أنْ يظنَّ السُّوء بأهل الخير ، وبمن لا يُعلم منه فسقٌ . { ولا تجسسوا } لا تطلبوا عورات المسلمين ، ولا تبحثوا عن معايبهم { ولا يغتب بعضكم بعضاً } لا تذكروا أحدكم بشيءٍ يكرهه وإن كان فيه ذلك الشَّيء . { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } يعني : إنَّ ذكرك أخاك على غيبةٍ بسوءٍ كأكل لحمه وهو ميِّت ، لا يحسُّ بذلك . { فكرهتموه } إنْ كرهتم أكل لحمه ميتاً فاكرهوا ذكره بسوءٍ .
{ يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى } أَيْ : كلُّكم بنو أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ ، فلا تفاضل بينكم في النَّسب { وجعلناكم شعوباً } وهي رؤوس القبائل ، كربيعة ومضر { وقبائل } وهي دون الشُّعوب كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر { لتعارفوا } ليعرف بعضكم بعضاً في قرب النَّسب وبعده لا لتتفاخروا بها ، ثمَّ أعلم أنَّ أرفعهم عنده منزلةً أتقاهم ، فقال : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم . . . } الآية .
{ قالت الأعراب آمنا } نزلت في نفرٍ من بني أسدٍ قدموا المدينة في سنةٍ جدبةٍ بذراريَّهم ، وأظهروا كلمة الشَّهادة ، ولم يكونوا مؤمنين في السِّرِّ ، فقال الله تعالى : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } أَيْ : لم تُصدِّقوا الله ورسوله بقلوبكم ولكن أظهرتم الطَّاعة مخافة القتل والسَّبي { ولما يدخل الإِيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله } ظاهراً وباطناً { لا يلتكم } لا ينقصكم { من } ثواب { أعمالكم شيئاً . . . } الآية . ثمَّ بيَّن حقيقة الإيمان والمؤمن .
(1/924)

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } . أَيْ : هؤلاء هم الذين صدقوا في إيمانهم ، لا مَنْ أسلم خوف السَّيف ، ورجاء المنفعة ، فلمَّا نزلت الآيتان جاءت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحلفوا بالله أنَّهم مؤمنون ، وعلم الله غير ذلك منهم ، فأنزل الله تعالى :
{ قل أتعلمون الله بدينكم . . . } الآية . أيْ : أَتُعَلِّمونه بما أنتم عليه وهو يعلم ذلك .
{ يمنون عليك أن أسلموا } وذلك أنَّهم كانوا يقولون لنبيِّ الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالعيال والأثقال طوعاً ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلانٍ فأعطنا ، فقال الله تعالى : { قل لا تمنوا عليَّ } وقوله : { إن كنتم صادقين } أنَّكم مؤمنون ، أَيْ : لله المنَّةُ إن صدقتم في إيمانكم لا لكم .
(1/925)

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
{ ق } قُضي ما هو كائنٌ [ إلى يوم القيامة ] { والقرآن المجيد } [ الكبير القدر و ] الكثير الخير .
{ بل عجبوا } يعني : كفَّار مكَّة { أن جاءهم منذر منهم } محمدٌ عليه السَّلام ، وهم يعرفون نسبه وأمانته { فقال الكافرون هذا شيء عجيب } يعني : هذا الإنذار الذي ينذرنا .
{ أإذا متنا وكنا تراباً } نُبعث؟ وهذا استفهامُ إنكارٍ ، وجوابه محذوفٌ ، ثمَّ انكروا ذلك أصلاً ، فقالوا : { ذلك } أَيْ : البعث { رجع بعيد } ردٌّ لا يكون . قال الله تعالى :
{ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } ما تأكل من لحومهم { وعندنا كتاب حفيظ } أَي : ْ اللَّوح المحفوظ من أن يدرس ويتغيَّر ، وفيه جميع الأشياء المقدَّرة .
(1/926)

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
{ بل كذَّبوا بالحق } أَيْ : بالقرآن { لما جاءهم فهم في أمرٍ مريج } مُلتبسٍ عليهم ، مرَّةً يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : ساحرٌ ، ومرَّةً : شاعرٌ ومرَّةً : مُعلَّمٌ ، ثمَّ دلَّهم على قدرته فقال :
{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج } شقوق . وقوله :
{ من كلِّ زوج بهيج } أَيْ : من كلِّ لونٍ حسنٍ .
{ تبصرة } فعلنا ذلك تبصيراً وتذكيراً ودلالةً على قدرتنا { لكلِّ عبد منيب } يرجع إلى الله تعالى ، فيتفكَّر في قدرته . وقوله :
{ وحبَّ الحصيد } أَيْ : ما يُقتات من الحبوب .
{ والنخل باسقات } طوالاً { لها طلع نضيد } ثمرٌ متراكبٌ .
{ رزقاً للعباد } أَيْ : آتينا هذه الأشياء للرِّزق { وأحيينا به } بذلك الماء { بلدة ميتاً كذلك الخروج } من القبور .
(1/927)

وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
{ وقوم تبع } وهو ملكٌ كان باليمن أسلم ، ودعا قومه إلى الإِسلام فكذَّبوه وقوله : { فحقَّ وعيد } وجب عليهم العذاب .
{ أفعيينا بالخلق الأول } أَيْ : أَعجزنا عنه حتى نعيى بالإعادة { بل هم في لبس } شكٍّ { من خلق جديد } أَيْ : البعث .
{ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } يحدثه قلبه { ونحن أقرب إليه } بالعلم { من حبل الوريد } وهو عرقٌ في العنق .
{ إذ يتلقى المتلقيان } أَيْ : المَلكان الحافظان يتلقَّيان ويأخذان ما يعمله الإنسان ، فيثبتانه . { عن اليمين وعن الشمال قعيد } قاعدان على جانبيه .
{ ما يلفظ } يتكلَّم { من قول إلاَّ لديه رقيب } حافظٌ { عتيد } حاضر .
{ وجاءت سكرة الموت } أَيْ : غمرته وشدَّته { بالحق } أَيْ : من أمر الآخرة حتى يراه الإنسان عياناً . { ذلك ما كنت منه تحيد } أَي : ْ تهرب وتروغ : يعني : الموت .
{ ونفخ في الصور } أَيْ : نفخة البعث . { وذلك يوم الوعيد } الذي يُوعد الله به الكفَّار .
{ وجاءت كلُّ نفس } إلى المحشر { معها سائق } من الملائكة يسوقها { وشهيد } شاهدٌ عليها بعملها ، وهو الأيدي والأرجل ، فيقول الله تعالى :
{ لقد كنت في غفلة هذا } اليوم { فكشفنا عنك غطاءك } فخلينا عنك سترك حتى عاينته { فبصرك اليوم حديد } فعلمك بما أنت فيه نافذٌ .
{ وقال قرينه } أَيْ : المَلك الموَّكل به : { هذا ما لديَّ عتيد } هذا الذي وكَّلتني به قد أحضرته ، فأحضرت ديوان أعماله ، فيقول الله للملَكين الموكَّلين بالإِنسان :
{ ألقيا في جهنم كلَّ كفار عنيد } عاصٍ مُعرضٍ عن الحقِّ .
{ مناع للخير } للزَّكاة المفروضة وكلِّ حقٍّ في ماله { معتد } ظالمٍ { مريب } شاكٍّ .
(1/928)

قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
{ قال قرينه } من الشَّياطين : { ربنا ما أطغيته } ما أضللته { ولكن كان في ضلال بعيد } أَيْ : إنَّما طغى هو بضلاله ، وإنَّما دعوته فاستجاب لي ، كما قال في الإخبار عن الشَّيطان : { إلاَّ أنْ دعوتُكم فاستجبتُمْ لي } فحينئذٍ يقول الله :
{ لا تختصموا لدي وقد قدَّمت إليكم بالوعيد } حذَّرتكم العقوبة في الدُّنيا على لسان الرُّسل .
{ ما يبدل القول لدي } لا تبديل لقولي ولا خلف لوعدي { وما أنا بظلام للعبيد } فأعاقب بغير جرم .
{ يوم نقول لجهنم هل امتلأت } وهذا استفهامُ تحقيقٍ ، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ وعدها أن يملأها ، فلمَّا ملأها قال لها : { هل امتلأت وتقول هل من مزيد } أَيْ : هل بقي فيَّ موضعٌ لم يمتلىء ، أيْ : قد امتلأت .
{ وأزلفت الجنة } أُدنيت الجنَّة { للمتقين } حتى يروها { غير بعيد } منهم ، ويقال لهم :
{ هذا ما توعدون لكلِّ أوَّاب } رجَّاع إلى الله بالطًّاعة { حفيظ } حافظ لأمر الله .
{ من خشي الرحمن بالغيب } خاف الله ولم يره { وجاء بقلب منيب } مقبلٍ إلى طاعة الله . يقال لهم :
{ ادخلوها بسلام } بسلامةٍ من العذاب { ذلك يوم الخلود } لأهل الجنَّة فيها .
{ لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } زيادةٌ ممَّا لم يخطر ببالهم . وقيل هو الرُّؤية .
{ وكم أهلكنا قبلهم } قبل أهل مكَّة { من قرنٍ } جماعةٍ من النَّاس { هم أشدُّ منهم بطشاً فَنَقَّبوا } طوَّفوا البلاد وفتَّشوا ، فلم يروا محيصاً من الموت .
{ إن في ذلك } الذي ذكرت { لذكرى } لعظةً وتذكيراً { لمن كان له قلب } أَيْ : عقلٌ { أو ألقى السمع } أَيْ : استمع القرآن { وهو شهيد } حاضر القلب . وقوله :
{ وما مسنا من لغوب } أَيْ : وما أصابنا تعبٌ وإعياءٌ ، وهذا ردٌّ على اليهود في قولهم : إنَّ الله تعالى استراح يوم السَّبت .
{ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك } صلِّ لله { قبل طلوع الشمس } أَيْ : صلاة الفجر { وقبل الغروب } صلاة الظهر والعصر .
{ ومن الليل فسبحه } أَيْ : صلاتي العشاء { وأدبار السجود } أَيْ : الرَّكعتين بعد المغرب .
{ واستمع } يا محمد { يوم ينادي المنادي } وهو إسرافيل عليه السَّلام يقول : أيَّتها العظام البالية ، واللُّحوم المُتمزِّقة ، إنَّ الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء { من مكان قريب } من السِّماء ، وهو صخرة بيت المقدس أقرب موضعٍ من الأرض إلى السَّماء .
{ يوم يسمعون الصيحة بالحق } أَيْ : نفخة البعث { ذلك يوم الخروج } من القبور .
(1/929)

يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
{ يوم تشقق الأرض عنهم } فيخرجون { سراعاً } .
{ وما أنت عليهم بجبار } بمسلِّطٍ يجبرهم على الإسلام ، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال { فذكِّر } فعظ { بالقرآن مَنْ يخاف وعيد } .
(1/930)

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
{ والذاريات ذرواً } أي : الرِّياح التي تذرو التُّراب .
{ فالحاملات وقراً } وهي السَّحاب تحمل الماء .
{ فالجاريات يسراً } السُّفن تجري في البحر بيسرٍ { فالمقسمات أمراً } الملائكة تأتي بأمرٍ مختلفٍ من الخصب والجدب ، والمطر والموت ، والحوادث .
{ إن ما توعدون } من الخير والشَّرِّ ، والثَّواب والعقاب { لصادق } . أقسم الله بهذه الأشياء على صدق وعده .
{ وإنَّ الدين } الجزاء على الأعمال { لواقع } لكائنٌ .
{ والسماء ذات الحبك } الخَلْق الحسن .
{ إنكم } يا أهل مكَّة { لفي قول مختلف } في أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
(1/931)

يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
{ يؤفك عنه } يُصرف عن الإيمان به { مَنْ أفك } صُرف عن الخير .
{ قتل الخراصون } لُعن الكذَّابون ، يعني : المُقتسمين .
{ الذين هم في غمرة } غفلةٍ { ساهون } لاهون .
{ يسألون أيان يوم الدين } متى يوم الجزاء؟ استهزاءً منهم . قال الله تعالى :
{ يوم هم على النار يفتنون } أي : يقع الجزاء يوم هم على النَّار يُفتنون يُحرَّقون ويُعذَّبون ، وتقول لهم الخزنة :
{ ذوقوا فتنتكم } عذابكم { هذا الذي كنتم به تستعجلون } في الدُّنيا .
{ إنَّ المتقين في جنات وعيون } .
{ آخذين ما آتاهم ربهم } من الثَّواب والكرامة { إنهم كانوا قبل ذلك } قبل دخولهم الجنَّة { محسنين } .
{ كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } كانوا ينامون قليلاً من اللَّيل .
(1/932)

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
{ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } وهو الذي لا يسأل النَّاس ولا يكتسب .
{ وفي الأرض آيات } دلالاتٌ على قدرة الله تعالى ووحدانيته { للموقنين } .
{ وفي أنفسكم } أيضاً آياتٌ من تركيب الخلق ، وعجائب ما في الآدمي من خلقه { أفلا تبصرون } ذلك .
{ وفي السماء رزقكم } أَي : الثَّلج والمطر الذي هو سبب الرِّزق والنَّبات من الأرض { وما توعدون } " ما " ابتداءٌ ، وخبره محذوفٌ على تقدير : وما توعدون من البعث والثَّواب والعقاب حقٌّ ، ودلَّ على هذا المحذوف قوله :
{ فوربِّ السماء والأرض إنَّه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون } أَيْ : كما أنَّكم تتكلَّمون ، أي : إنَّه معلومٌ بالدَّليل كما إِنَّ كلامكم إذا تكلّمتم معلومٌ لكم ضرورةً أنَّكم تتكلَّمون ، و " مثلُ " رفع لأنَّه صفةٌ لقوله : " لحق " ، ومَنْ نصب أراد : إنَّه لحقّ حقاً مثلَ ما أنّكم تنطقون .
{ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } بأن خدمهم بنفسه .
{ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً } سلَّموا سلاماً { قال سلامٌ } عليكم { قوم منكرون } أي : أنتم قوم لا نعرفكم .
{ فراغ } فعدل ومال { إلى أهله } .
(1/933)

فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
{ فأوجس منهم خيفة } أَيْ : وقع في نفسه الخوف منهم ، وقوله :
{ فأقبلت امرأته في صرَّة } أَيْ : أخذت تصيح بشدَّةٍ { فَصَكَّتْ } لطمت { وجهها وقالت } : أنا { عجوز عقيم } فكيف ألد؟
{ قالوا كذلك } كما اخبرناك { قال ربك } أي : نخبرك عن الله لا عن أنفسنا { إنَّه هو الحكيم العليم } يقدر أن يجعل العقيم ولوداً ، فلمَّا قالوا ذلك علم إبراهيم أنَّهم رسلٌ ، وأنَّهم ملائكة [ صلوات الله عليهم ] .
{ قال : فما خطبكم } أي : ما شأنكم وفيمَ أُرسلتم؟
{ قالوا إنا أُرسلنا إلى قومٍ مجرمين } يعنون قوم لوط .
{ لنرسل عليهم حجارة من طين } يعني : السِّجيل .
{ مسوَّمة عند ربك للمسرفين } مًعلَّمة على كلِّ حجرٍ منها اسم مَنْ يهلك به .
{ فأخرجنا مَنْ كان فيها } يعني : من قرى قوم لوطٍ { من المؤمنين } .
{ فلما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } يعني : بيت لوطٍ عليه السَّلام .
{ وتركنا فيها } بأهلاكهم { آية } علامة للخائفين تدلُّ على أنَّ الله أهلكهم .
{ وفي موسى } عطفٌ على قوله : " وفي الأرض " . { إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين } بحجَّةٍ واضحةٍ .
{ فتولى } فأعرض عن الإيمان { بركنه } مع جنوده وما كان يتقوَّى به . وقوله :
{ وهو مليم } أَيْ : أتى ما يُلام عليه .
{ وفي عاد } أيضاً آيةٌ { إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } وهي التي لا بركة فيها ، ولا تأتي بخيرٍ .
{ ما تذر من شيء أتت عليه إلاَّ جعلته كالرميم } كالنَّبت الذي قد تحطَّم .
(1/934)

وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{ وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } إلى فناء آجالكم .
{ فعتوا عن أمر ربهم } عصوه { فأخذتهم الصاعقة } العذاب المهلك .
{ فما استطاعوا من قيام } أي : أن يقوموا بعذاب الله { وما كانوا منتصرين } أي : لم ينصرهم أحدٌ علينا .
{ وقوم نوح } وأهلكنا قوم نوحٍ قبل هؤلاء .
{ والسماء بنيناها بأيدٍ } بقوَّةٍ { وإنا لموسعون } لقادرون . وقيل : جاعلون بين السَّماء والأرض سعةً .
{ والأرض فرشناها } مهَّدناها لكم { فنعم الماهدون } نحن .
{ ومن كل شيء خلقنا زوجين } صنفين كالذَّكر والأنثى ، والحلو والحامض ، والنُّور والظُّلمة { لعلكم تذكرون } فتعلموا أنَّ خالق الأزواج فردٌ .
{ ففروا } من عذاب الله إلى طاعته .
(1/935)

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
{ كذلك } كما أخبرناك { ما أتى الذين من قبلهم } من قبل أهل مكَّة { من رسول إلاَّ قالوا ساحرٌ أو مجنون } .
{ أتواصوا به } أوصى بعضهم بعضاً بالتَّكذيب ، والألف للتَّوبيخ . { بل هم قوم طاغون } عاصون .
{ فتولًّ عنهم فما أنت بملوم } لأنَّك بلغت الرِّسالة .
{ وذكر } ذكِّرهم بأيَّام الله { فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين } .
{ وما خلقت الجن والإِنس إلاَّ ليعبدون } أي : إلاَّ لآمرهم بعبادتي وأدعم إليها . وقيل : أراد المؤمنين منهم ، وكذا هو في قراءة ابن عباس : " وما خلقت الجن والإِنس من المؤمنين إلاَّ ليعبدون " . { ما أريد منهم من رزق } أن يرزقوا أنفسهم أو أحداً من عبادي { وما أريد أن يطعمون } لأنِّي أنا الرَّزَّاق والمُطعم . وقوله :
{ المتين } أي : المُبالغ في القُوَّة .
{ فإنَّ للذين ظلموا } أَيْ : أهل مكَّة { ذنوباً } نصيباً من العذاب { مثل ذنوب } نصيب { أصحابهم } الذين أُهلكوا { فلا يستعجلون } إنْ أخَّرتهم إلى يوم القيامة .
{ فويلٌ للذين كفروا من يومهم الذين يوعدون } من يوم القيامة .
(1/936)

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)
{ والطور } أقسم الله تعالى بالجبل الذي كلَّم عليه موسى ، وهو جبلٌ بمدين اسمه زبير .
{ وكتاب مسطور } مكتوبٍ .
{ في رقّ } وهو الجلد الذي يكتب فيه { منشور } مبسوطٍ . أَيْ : دواوين الحفظة التي أثبتت فيها أعمال بني آدم .
{ والبيت المعمور } وهو بيتٌ في السَّماء بإزاء الكعبة تزوره الملائكة .
{ والسقف المرفوع } أي : السَّماء .
(1/937)

وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)
{ والبحر المسجور } المملوء .
{ إنَّ عذاب ربك لواقع } لنازلٌ كائنٌ .
(1/938)

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
{ يوم تمور السماء موراً } تتحرَّك وتضطرب وتدور . يعني : يوم القيامة .
(1/939)

الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
{ الذين هم في خوض } باطلٍ { يلعبون } أي : تشاغلهم بكفرهم .
{ يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً } يُدفعون إليها دفعاً عنيفاً ، ويقال لهم :
{ هذه النار التي كنتم بها تكذبون } .
{ أفسحر هذا } الذي ترون { أم أنتم لا تبصرون } ؟ وهذا توبيخٌ لهم ، والمعنى : أتصدِّقون الآن عذاب الله .
(1/940)

فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
{ فاكهين بما آتاهم ربهم } أَيْ : مُعجبين به .
(1/941)

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } يريد : إنَّه يلحق الأولاد بدرجة الآباء في الجنَّة إذا كانوا على مراتب ، وكذلك الآباء بدرجة الأبناء لتقرَّ بذلك أعينهم ، فيلحق بعضهم بعضاً إذا اجتمعوا في الإيمان ، من غير أن ينقص من أجر مَنْ هو أحسن عملاً شيئاً بزيادته في درجة الأنقص عملاً ، وهو قوله : { وما ألتناهم } أَيْ : وما نقصناهم { من عملهم من شيء كلُّ امرىء بما كسب } بما عمل من خيرٍ أو شرٍّ { رهين } مرهونٌ يُؤخذ به .
{ وأمددناهم بفاكهة ولحم } أَيْ : زدناهم .
{ يتنازعون } يتناولون ويأخذ بعضهم من بعض { فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيم } لا يجري بينهم فيها باطلٌ ولا إثمٌ كما يجري بين شَرَبة الخمر في الدُّنيا .
{ ويطوف عليهم } بالخدمة { غلمان لهم كأنهم } في بياضهم وصفائهم { لؤلؤ مكنون } مخزونٌ مصونٌ .
{ وأقبل بعضهم على بعض } في الجنَّة { يتساءلون } عن أحوالهم التي كانت في الدُّنيا .
{ قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } خائفين من عذاب الله .
{ فمنَّ الله علينا } بالجنَّة { ووقانا عذاب السموم } عذاب سموم جهنم ، وهو نارها وحرارتها .
(1/942)

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
{ فذكر } فذكِّرهم يا محمَّد الجنَّة والنَّار { فما أنت بنعمة ربك } برحمة ربّك وإكرامه إيَّاك بالنُّبوَّة { بكاهنٍ } تخبر بما في غدٍ من غير وحيٍ { ولا مجنون } كما تقولون .
{ أم يقولون } بل أيقولون : هو { شاعرٌ نتربَّص به ريب المنون } ننتظر به الموت فيهلك .
{ قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } حتى يأتي أمر الله فيكم .
{ أم تأمرهم أحلامهم } عقولهم { بهذا } أَيْ : بترك قبول الحقِّ من صاحب المعجزة { أم هم قوم طاغون } أَيْ : أم يكفرون طغياناً بعد ظهور الحقِّ .
{ أم يقولون تقوَّله } أَي : القرآن من قبل نفسه ، ليس كما يقولون { بل لا يؤمنون استكباراً } .
{ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } أنَّ محمداً يقوله من قبل نفسه .
{ أم خلقوا من غير شيء } أَيْ : لغير شيءٍ . يعني : أَخُلقوا عبثاً وسُدىً { أم هم الخالقون } أنفسهم .
(1/943)

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
{ أم عندهم خزائن ربك } ما في خزائن ربِّك من العلم بما يكون في غدٍ { أم هم المسيطرون } المُسلَّطون الجبَّارون .
{ أم لهم سلَّم } مرقىً إلى السَّماء { يستمعون فيه } أنَّ الذي هم عليه حقٌّ { فليأت مستمعهم } إن ادَّعوا ذلك { بسلطانٍ مبين } بحجَّةٍ واضحةٍ ، ثمَّ سفَّه أحلامهم في جعلهم البنات لله ، فقال :
{ أم له البنات ولكم البنون } .
{ أم تسألهم أجراً } على ما جئتهم به { فهم من مغرم } غُرمٍ { مثقلون } مجهودون ، والمعنى : إنَّ الحجَّة واجبةٌ عليهم من كلِّ جهةٍ .
{ أم عندهم الغيب } علم ما يؤول إليه أمر محمد صلى الله عليه وسلم { فهم يكتبون } يحكمون بأنَّه يموت فتستريح منه .
{ أم يريدون كيداً } مكراً بك في دار النَّدوة { فالذين كفروا هم المكيدون } المجزيون بكيدهم؛ لأنَّ الله تعالى حفظ نبيَّه عليه السَلام من مكرهم ، وقُتلوا هم ببدر .
(1/944)

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
{ وإن يروا كسفاً } قطعاً { من السماء ساقطاً يقولون } لعنادهم وفرط شقاوتهم : { سحاب مركوم } بعضه على بعض . وهذا جوابٌ لقولهم : { فأسقط علينا كسفاً من السماء } أخبر الله تعالى أنَّه لو فعل ذلك لم يؤمنوا .
{ فذرهم حتى يلاقو يومهم الذي فيه يصعقون } يموتون ، ثمَّ أخبر أنَّه يعجِّل لهم العذاب في الدُّنيا .
(1/945)

وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
{ وإنَّ للذين ظلموا } كفروا { عذاباً دون ذلك } قبل موتهم ، وهو الجوع والقحط سبع سنين ، ثمَّ أمره بالصَّبر فقال :
{ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } بحيث نراك ونحفظك ونرعاك { وسبح بحمد ربك حين تقوم } من مجلسك قل : سبحانك اللهم وبحمدك .
{ ومن الليل } فسبحه ، أَيْ : صلِّ له صلاتي العشاء { وإدبار النجوم } أَيْ : ركعتي الفجر
(1/946)

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
{ والنجم إذا هوى } أي : والثُّريا إذا سقطت . وقيل : القرآن إذا نزل مُتفرِّقاً نجوماً .
{ ما ضلَّ صاحبكم } محمد عليه السَّلام { وما غوى } .
{ وما ينطق عن الهوى } ما الذي يتكلَّم به ممَّا قاله بهواه .
{ إن هو } ما هو { إلاَّ وحيٌ يوحى } إليه .
{ علمه شديد القوى } أَيْ : جبريل عليه السَّلام .
{ ذو مرَّة } قوَّةٍ شديدةٍ { فاستوى } جبريل عليه السَّلام في صورته التي خلقه الله عزَّ وجلَّ عليها .
{ وهو بالأفق الأعلى } وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يريه نفسه على صورته ، فواعده ذلك بحراء ، فطلع له جبريل عليه السَّلام من المشرق ، فسدَّ الأفق إلى المغرب .
{ ثم دنا فتدلى } هذا من المقلوب ، أَيْ : ثمَّ تدلى أَيْ : نزل من السَّماء ، فدنا من محمَّد عليه السَّلام .
(1/947)

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)
{ فكان } منه في القرب على قدر { قوسين أو أدنى } والمعنى : أنَّه بعد ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظمه ، وهاله ذلك ردَّه الله تعالى إلى صورة آدميٍّ حتى قرب من النبيِّ صلى الله عليه وسلم للوحي ، وذلك قوله :
{ فأوحى إلى عبده } محمد صلى الله عليه وسلم { ما أوحى } الله عزَّ وجلَّ إلى جبريل عليه السَّلام .
{ ما كذب الفؤاد ما رأى } أَيْ : لم يكذب قلب محمَّد عليه السَّلام فيما رأى ليلة المعراج ، وذلك أنَّ الله جعل بصره لفي فؤاده حتى رآه ، وحقَّق الله تعالى تلك الرُّؤية وقال : إنها كانت رؤية حقيقية ولم تكن كذباً .
{ أفتمارونه على ما يرى } أفتجادلونه في أنه رأى الله عزَّ وجلَّ .
{ ولقد رآه } ربَّه . وقيل : رأى جبريل على صورته التي خلق عليها { نزلة أخرة } مرَّة أخرى .
{ عند سدرة المنتهى } وهي شجرةٌ إليها ينتهي علم الخلق ، وما وراءها غيبٌ لا يعلمه إلاَّ الله عزَّ وجلَّ .
{ عندها جنة المأوى } وهي جنَّةٌ تصير إليها أرواح الشُّهداء .
{ إذ يغشى السدرة ما يغشى } قيل : يغشاها فراش من ذهب . وقيل : الملائكة أمثال الغربان .
{ ما زاغ البصر وما طغى } هذا وصفٌ أدبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، أَيْ : لم يمل بصره عمَّا قصد له ، ولا جاوز إلى ما أُمر به .
(1/948)

لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)
{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } أَيْ : ما رأى من الآيات العظام تلك اللَّيلة .
{ أفرأيتم اللات والعُزَّى } .
{ ومناة الثالثة الأخرى } هذه أصنامٌ من حجارةٍ كانت في جوف الكعبة . والمعنى أخبرونا عن هذه الإناث التي تعبدونها ، وتزعمون أنَّها بنات الله ، أللَّهِ هي ، وأنتم تختارون الذُّكران ، وذلك قوله :
{ ألكم الذكر وله الأنثى } .
{ تلك إذاً قسمة ضيزى } جائرةٌ ناقصةٌ .
{ إن هي } ما هذه الأوثان { إلاَّ أسماء } لا حقيقة لها { سميتموهم أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها } بعبادتها { من سلطان } حجَّةٍ وبرهانٍ . { إن يتبعون } ما يتَّبعون في عبادتها وأنَّها شفعاء لهم { إلاَّ الظن وما تهوى الأنفس } يعني : إنَّ ذلك شيء ظنُّوه ، وأمرٌ سوَّلت لهم أنفسهم { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } البيان على لسان محمَّد صلى الله عليه وسلم .
{ أم للإِنسان ما تمنى } أَيظنُّون أنَّ لهم ما تمنَّوا من شفاعة الأصنام؟ ليس كما تمنَّوا . بل
(1/949)

فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
{ فللَّه الآخرة والأولى } فلا يجري في الدَّارين إلاَّ ما يريد .
{ وكم من ملك في السموات } هو أكرم على الله من هذه الأصنام { لا تغني شفاعتهم } عن أحدٍ { شيئاً إلاَّ من بعد أن يأذن الله } لهم في ذلك { لمن يشاء ويرضى } كقوله : { ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى } { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } يقولون : إنَّهم بنات الله .
{ وما لهم به من علم إن يتبعون إلاَّ الظن وإنَّ الظن لا يغني من الحق شيئاً } إنَّ ظنَّهم لا يدفع عنهم من العذاب شيئاً .
{ فأعرض } يا محمَّد { عن من تولَّى عن ذكرنا } أعرضَ عن القرآن { ولم يرد إلاَّ الحياة الدنيا } .
{ ذلك مبلغهم من العلم } يقول : ذلك نهاية علمهم أَنْ آثروا الدُّنيا على الآخرة .
(1/950)

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)
{ إلاَّ اللمم } يعني : صغار الذُّنوب ، كالنَّظرة والقُبلة ، وقوله : { إذ أنشأكم من الأرض } يعني : خلق أباكم من التُّراب { وإذ أنتم أجنَّة } جمع جنين . { فلا تزكوا أنفسكم } لا تمدحوها { هو أعلم بمن اتقى } عمل حسنةً .
{ أفرأيت الذي تولى } أعرض عن الإيمان ، يعني : الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعض المشركين على ذلك فقال : إنّي أخشى عذاب الله ، فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أنْ يتحمَّل عنه عذاب الله ، فرجع في الشِّرك وأعطى صاحبه الضَّامن من بعض ما كان ضمن له ، ومنعه الباقي ، وذلك قوله :
{ وأعطى قليلاً وأكدى } أَيْ : قطع ذلك ومنعه .
{ أعنده علم الغيب فهو يرى } ما غاب عنه من أمر الآخرة ، حتى علم أنَّ غيره يحمل عنه العذاب .
{ أم لم ينبأ بما في صحف موسى } أسفار التَّوراة .
{ و } صحف . { إبراهيم الذي وفَّى } أكمل ما أُمر به وأتمَّه ، ثمَّ بيَّن ذلك فقال :
{ ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى } أَيْ : لا تؤخذ نفسٌ بمأثم غيرها .
{ وإن ليس للإِنسان إلاَّ ما سعى } عمل لآخرته .
{ وإنَّ سعيه } عمله { سوف يرى } في ميزانه من خيرٍ وشرٍّ .
{ ثم يجزاه } يجزى عليه { الجزاء الأوفى } الأتمَّ .
{ وأنَّ إلى ربك المنتهى } المصير والمرجع .
{ وأنه هو أضحك } مَنْ شاء من خلقه { وأبكى } مَنْ شاء منهم .
{ وأنه هو أمات } في الدُّنيا { وأحيا } للبعث .
(1/951)

مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)
{ إذا تمنى } أَيْ : تصبُّ في الرَّحم .
{ وأنَّ عليه النشأة الأخرى } الخلق الآخر بعد الموت .
{ وأنه هو أغنى } بالمال { وأقنى } أرضى بما أعطى . وقيل : أقنى : أعطى أصول الأموال وما يتَّخذ فيه قنيةً .
{ وأنَّه هو رب الشعرى } وهي كوكبٌ خلف الجوازاء كانت تُعبد في الجاهليَّة .
{ وأنه أهلك عاداً الأولى } قوم هود .
(1/952)

وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
{ والمؤتفكة } قرى قوم لوط { أهوى } أسقطها إلى الأرض بعد رفعها .
{ فغشَّاها ما غشَّى } ألبسها العذاب والحجارة .
{ فبأي آلاء ربك تتمارى } بأيِّ نِعَم ربِّك التي تدلُّ على توحيده وقدرته تتشكَّكُ أيُّها الإنسان؟
{ هذا } محمَّدٌ { نذير من النذر الأولى } أَيْ : هو رسولٌ أُرسل إليكم كما أُرسل مَنْ قبله من الرُّسل .
{ أزفت الآزفة } قربت القيامة .
{ ليس لها من دون الله كاشفة } لا يكشف عنها إلاَّ الله تعالى ، كقوله : { لا يجلِّيها لوقتها إلا هو } { أفمن هذا الحديث } أي : القرآن { تعجبون } .
{ وتضحكون ولا تبكون } .
{ وأنتم سامدون } لاهون غافلون .
{ فاسجدوا لله واعبدوا } معناه : فاسجدوا لله واعبدوا الذي خلق السَّموات والأرض ، ولا تسجدوا للأصنام التي ذكرت في هذه السُّورة .
(1/953)

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
{ اقتربت الساعة } دنت القيامة { وانشقَّ القمر } انفلق بنصفين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنَّ أهل مكَّة سألوه آيةً ، فأراهم القمر فلقتين حتى رأوا حراءً بينهما ، فأخبر الله تعالى أنَّ ذلك من علامات قرب السَّاعة .
{ وإن يروا } يعني : أهل مكَّة { آية } تدلُّ على صدق محمد صلى الله عليه وسلم { يعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمر } ذاهب باطلٌ يذهب . وقيل : محكمٌ شديدٌ . وقوله :
{ وكلُّ أمر مستقر } أَيْ : يستقرُّ قرار تكذيبهم وقرار تصديق المؤمنين . يعني : عند ظهور الثَّواب والعقاب .
{ ولقد جاءهم } جاء أهل مكَّة { من الأنباء } أخبار إهلاك الأمم المُكذِّبة { ما فيه مزدجر } متناهى ومنتهى .
{ حكمة بالغة } أَيْ : ما أتاهم من أخبار مَنْ قبلهم حكمةٌ بالغةٌ تامَّةٌ ، ليس فيها نقصانٌ ، أي : القرآن ، وذلك أنَّ تلك الأخبار قُصَّت عليهم في القرآن { فما تغني النذر } جمع نذير ، أَيْ : فليست تغني عن التَّكذيب .
{ فتولَّ عنهم } ، وتمَّ الكلام ، ثمَّ قال : { يوم يدع الداعي إلى شيء نكر } مُنكرٍ ، وهو النَّار .
{ خشعاً } ذليلةً { أبصارهم يخرجون من الأجداث } القبور { كأنهم جراد منتشر } كقوله : { كالفراش المبثوث } { مهطعين } مُقبلين ناظرين { إلى الداعي } إلى مَنْ يدعوهم إلى المحشر { يقول الكافرون هذا يوم عسر } شديدٌ .
{ كذبت قبلهم } قبل أهل مكَّة { قوم نوح فكذَّبوا عبدنا } نوحاً { وقالوا : مجنون وازدجر } زُجر [ ونُهِرَ ] ونُهي عن دعوته ومقالته .
{ فدعا ربَّه أني مغلوب } مقهورٌ { فانتصر } فانتقم لي منهم .
{ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } سائلٍ .
(1/954)

وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
{ وفجرنا الأرض عيوناً } فتحناها بعيون الماء { فالتقى الماء } ماءُ السَّماء وماءُ الأرض { على أمر قد قدر } قُضي عليهم في أمِّ الكتاب .
{ وحملناه } أَيْ : نوحاً { على ذات ألواح } وهي السَّفينة { ودسر } يعني : ما تُشدَّ به السَّفينة من المسامير والشُّرُط .
{ نجري بأعيننا } بمرأىً منا وحفظٍ { جزاءً لمن كان كفر } يعني : نوحاً ، أَيْ : فعلنا ذلك ثواباً له إذ كُفر به وكُذِّب .
{ ولقد تركناها آية } تركنا تلك القِصَّة آيةً : علامةً؛ ليُغتبر بها { فهل من مدَّكر } مُتَّعظٍ بها .
{ فكيف كان عذابي } استفهام معناه التَّقرير { ونذر } أي : إنذاري .
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } سهَّلناه للحفظ ، فليس يحفظ كتابٌ من كتب الله ظاهراً إلاَّ القرآن { فهل من مدكر } مُتَّعظ بمواعظه .
(1/955)

إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
{ إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } شديدةً ذات صوتٍ { في يوم نحس } شؤمٍ { مستمر } دائم الشُّؤم .
{ تنزع الناس } تقلعهم من مواضعهم { كأنهم أعجاز نخل } أصول نخلٍ { منقعر } مُنقطعٍ ساقطٍ ، شُبِّهوا وقد كبَّتهم الرِّيح على وجوههم بنخيل سقطت على الأرض .
(1/956)

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
{ كذبت ثمود بالنذر } جمع نذير . وقوله :
{ إنا إذاً لفي ضلال } ذهابٍ عن الصَّواب { وسعر } جنون .
{ أألقي الذكر عليه من بيننا } أنكروا أن يكون مخصوصاً بالوحي من بينهم . { بل هو كذَّاب أشر } بَطِرٌ يريد أن يتعظَّم علينا . قال الله تعالى :
{ سيعلمون غداً } عند نزول العذاب بهم { من الكذاب الأشر } .
{ إنا مرسلو الناقة } مخرجوها من الهضبة كما سألوا { فتنة لهم } محنةً لهم لنختبرهم { فارتقبهم } انتظر ما هم صانعون { واصطبر } .
{ ونبئهم أنَّ الماء قسمة بينهم } بين ثمود والناقة غِبَّاً؛ لهم يومٌ ، ولها يومٌ { كلُّ شرب } نصيبٍ من الماء { محتضر } يحضره القوم يوماً ، والنَّاقة يوماً .
{ فنادوا صاحبهم } قُدَاراً عاقر الناقة { فتعاطى } تناول النَّاقة بالعقر فعقرها .
(1/957)

إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
{ كهشيم المحتظر } هو الرَّجل يجعل لغنمه حظيرةً بالشَّجر والشَّوك دون السِّباع ، مما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيمُ .
(1/958)

إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
{ إلاَّ آل لوط } أَي : أتباعه على دينه من أهله وأُمَّته . { نجيناهم } من العذاب { بسحر } من الأسحار ، كقوله : { فأسر بأهلك . . . } الآية .
{ نعمة من عندنا } عليهم بالإنجاء { كذلك } كما جزينا لوطاً وآله { نجزي مَنْ شكر } آمن بالله وأطاعه .
{ ولقد أنذرهم } خوَّفهم لوط { بطشتنا } أخذنا إيَّاهم بالعقوبة { فتماروا بالنذر } كذَّبوا بإنكاره شكَّاً منهم .
{ ولقد راودوه عن ضيفه } سألوه أن يُخلِّي بينهم وبين القوم الذين أتوه في صورة الأضياف ، وكانوا ملائكةً { فطمسنا أعينهم } أعميناها ، وصيّرناها كسائر الوجه ، وقلنا لهم : { فذوقوا عذابي ونذر } .
{ ولقد صبحهم بكرةً } جاءهم صباحاً { عذابٌ مستقر } ثابتٌ؛ لأنَّه أفضى بهم إلى عذاب الآخرة .
(1/959)

وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
{ ولقد جاء آل فرعون النذر } الإنذار على لسان موسى وهارون عليهما السَّلام .
{ كذبوا بآياتنا } التِّسع { كلها فأخذناهم } بالعذاب { أخذ عزيز } قويٍّ { مقتدر } قادرٍ لا يعجزه شيء . ثمَّ خاطب العرب فقال :
{ أكفاركم خيرٌ من أولئكم } الذين ذكرنا قصَّتهم { أم لكم براءة } من العذاب { في الزبر } الكتب تأمنون بها من العذاب .
{ أم يقولون } كفَّار مكَّة : { نحن جميع منتصر } جماعةٌ منصورون .
{ سيهزم الجمع } أَي : جمعهم { ويولون الدبر } ينهزمون فيرجعون على أدبارهم ، وكان هذا يوم بدرٍ .
{ بل الساعة موعدهم } للعذاب { والساعة أدهى وأمر } أشدُّ أمراً وأشدُّ مرارةً ممَّا يلحقهم في الدُّنيا .
{ إنَّ المجرمين في ضلال } في الدُّنيا { وسعر } نارٍ في الآخرة .
{ يوم يسبحون } يجرُّون { في النار على وجوههم } ويقال لهم : { ذوقوا مسَّ سقر } إصابة جهنَّم إيَاكم بالعذاب .
{ إن كلَّ شيء خلقناه بقدر } أَيْ : كلُّ ما خلقناه فمقدورٌ مكتوبٌ في اللَّوح المحفوظ ، وهذه الآيات نزلت في القدرية الذين يُكذِّبون بالقدر .
{ وما أمرنا } لشيءٍ إذا أردنا تكوينه { إلاَّ واحدة } كلمةٌ واحدةٌ ، وهي " كن " { كلمح بالبصر } في السُّرعة كخطفة البصر .
{ ولقد أهلكنا أشياعكم } أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية .
{ وكل شيء فعلوه في الزبر } في كتب الحفظة .
{ وكلُّ صغير وكبير } من أعمالهم { مستطر } مكتوبٌ .
{ إنَّ المتقين في جنات ونهر } ضياءٍ وسعةٍ . وقيل : أراد أنهاراً ، فوحَّد لوفاق الفواصل .
{ في مقعد صدق } في مجلس حقٍّ لا لغوٌ فيه ولا تأثيمٌ { عند مليك مقتدر } وهو الله تعالى . و " عند " إشارةٌ إلى الرُّتبة والقربة من فضل الله ورحمته .
(1/960)

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
{ الرحمن } .
{ علم القرآن } علَّم نبيَّه عليه السَّلام القرآن ، ليس كما يقول المشركون : { إنَّما يُعلِّمه بَشرٌ } وقيل : معناه : يسَّر القرآن لأَنْ يُذكر ، فعلَّمه هذه الأُمَّة حتى حفظوه .
{ خلق الإنسان } يعني : النبيَّ صلى الله عليه وسلم .
{ علَّمه البيان } القرآن الذي فيه بيان كلِّ شيءٍ . وقيل : { خلق الإنسان } يعني ابن آدم ، فعلَّمه النُّطق ، وفضَّله به على سائر الحيوان .
{ الشمس والقمر } يجريان { بحسبان } بحسابٍ لا يجاوزانه .
(1/961)

وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
{ والنجم } كلُّ نبتٍ لا يقوم على ساق ، ولا يبقى على الشَّتاء . { والشجر يسجدان } يخضعان لله تعالى بما يريد منهما .
{ والسماء رفعها } فوق الأرض { ووضع الميزان } العدل والإنصاف .
{ أن لا } لئلا { تطغوا } تجاوزوا القدر { في الميزان } .
{ وأقيموا الوزن بالقسط } بالعدل { ولا تخسروا الميزان } لا تنقصوا الوزن .
{ والأرض وضعها للأنام } للجنِّ والإنس .
{ فيها فاكهة } أنواع الفواكه { والنخل ذات الأكمام } أوعية الثَّمر .
{ والحب ذو العصف } أَيْ : ورق الزَّرع . وقيل : هو التِّبن { والريحان } الرِّزق ، ثمَّ خاطب الجن والإنس فقال :
{ فبأي آلاء } نِعمَ { ربكما } من هذه الأشياء التي ذكرها { تكذبان } لأنَّها كلَّها مُنعَمٌ بها عليكُم في دلالتها إيَّاكم على وحدانيَّة الله سبحانه ، ثمَّ كرر في هذه السُّورة هذه الآية توكيداً وتذكيراً لنعمه .
{ خلق الإنسان } آدم { من صلصال } طينٍ يابسٍ يُسمع له صلصلةٌ { كالفخار } وهو ما طبخ من الطِّين .
{ وخلق الجان } أَيْ : أبا الجن { من مارج } من لهب النَّار الخالص .
{ رب المشرقين ورب المغربين } مشرق الصَّيف ومشرق الشَّتاء ، وكذلك المغربان .
(1/962)

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
{ مرج البحرين } خلط البحر العذب والبحر المالح { يلتقيان } يجتمعان ، وذلك أنَّ البحر المالح فيه عيون ماءٍ عذبٍ .
{ بينهما برزخ } حاجزٌ من قدرة الله { لا يبغيان } لا يختلطان ولا يُجاوزان ما قدَّر الله لهما ، فلا الملح يختلط بالعذب ، ولا العذب يختلط بالملح .
{ يخرج منهما } أراد : من أحدهما ، وهو الملح { اللؤلؤ } وهو الحبُّ الذي يخرج من البحر { والمرجان } صغار اللؤلؤ .
{ وله الجوار } السُّفن { المنشئات } المرفوعات . { كالأعلام } كالجبال في العظم .
{ كلُّ مَنْ عليها } على الأرض من حيوانٍ { فانٍ } هالكٌ .
{ ويبقى وجه ربك } وهو السَّيِّد { ذو الجلال } العظمة { والإِكرام } لأنبيائه وأوليائه .
{ يسأله من في السموات والأرض } من مَلَكٍ وإنس وجنِّ الرِّزقَ والمغفرة وما يحتاجون إليه { كلَّ يوم هو في شأن } من إظهار أفعاله ، وإحداث ما يريد من إحياءٍ وإماتةٍ ، وخفضٍ ورفعٍ ، وقبضٍ وبسطٍ .
{ سنفرغ لكم } سنقصد لحسابكم بعد الإمهال { أيها الثقلان } يعني : الجنَّ والإنس .
(1/963)

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
{ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا } تخرجوا { من أقطار السموات والأرض } نواحيها هاربين من الموت { فانفذوا } فاخرجوا { لا تنفذون إلاَّ بسلطان } أَيْ : حيث ما كنتم شاهدتم حجَّة الله وسلطاناً يدلُّ على أنَّه واحد .
{ يرسل عليكما شواطٌ من نار } وهو اللَّهب الذي لا دخان له { ونحاس } وهو الدخان [ الذي لا لهب له ] أَيْ : يُرسل هذا مرَّةً وهذا مرَّةً ، وهو في يوم القيامة يُحاط على الخلق بلسانٍ من نارٍ { فلا تنتصران } أَيْ : تمتنعان .
{ فإذا انشقت السماء } انفرجت أبواباً لنزول الملائكة { فكانت وردة } في اختلاف ألوانها كالدُّهن واختلاف ألوانه .
{ فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه } سؤالَ استفهامٍ ، ولكن يُسألون سؤالَ تقريعٍ وتوبيخٍ .
{ يعرف المجرمون بسيماهم } بعلامتهم ، وهي سواد الوجوه ، وزرقة العيون { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } تضمُّ نواصيهم إلى أقدامهم ، ويُلقون في النَّار ، والنَّواصي : جمع النَّاصية ، وهو شعر الجبهة ، ثم يقال لهم :
{ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون } .
(1/964)

يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
{ يطوفون بينها وبين حميم آن } وهو الذي قد انتهى في الحرارة ، والمعنى أنَّهم إذا استغاثوا من النَّار جُعل غياثهم الحميم الآني ، فيُطاف بهم مرَّةً إلى الحميم ، ومرَّةً إلى النَّار .
{ ولمن خاف مقام ربه } قيامه بين يدي الله تعالى للحساب ، فترك المعصية . { جنتان } .
{ ذواتا أفنان } أغصانٍ .
{ فيهما عينان تجريان } إحدهما بالماء الزُّلال ، والأخرى بالخمر .
{ فيهما من كلِّ فاكهة زوجان } نوعان كلاهما حلو .
{ متكئين على فرش } جمع فراش { بطائنها } ما بطن منها ، وهو ضدُّ الظَّاهر { من إستبرق } وهو ما غلظ من الدِّيباج { وجنى الجنتين } ثمرهما { دان } قريبٌ يناله القاعد والقائم .
{ فيهن قاصرات الطرف } حابسات الأعين إلاَّ على أزواجهنَّ ، ولا ينظرن إلى غيرهم { لم يَطْمِثْهُنَّ } لم يُجامعهنَّ { إنس قبلهم } قبل أزواجهن { ولا جانٌ } .
{ كأنهنَّ الياقوت } في الصَّفاء { والمرجان } في البياض .
{ هل جزاء الإِحسان إلاَّ الإِحسان } ما جزاء مَنْ أحسن في الدُّنيا بطاعة الله تعالى إلاَّ الإِحسان إليه في الآخر بالجنَّة ونعيمها .
(1/965)

فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64)
{ ومن دونهما } وسوى الجنتين الأُولَيَيْنِ { جنتان } أُخريان .
{ مدهامتان } سوداوان لشدَّة الخضرة .
(1/966)

فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)
{ فيهن خيرات } نساء فاضلات الأخلاق { حسان } الوجوه .
{ حور } سود الأحداق { مقصورات } محبوساتٌ { في الخيام } من الدُّرِّ المُجوَّفة .
(1/967)

مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{ متكئين على رفرف } وهو ما فضل من الفرش والبسط . وقيل : الوسائد . { وعبقري } أَيْ : الزَّرابي والطَّنافس { حسان } ثمَّ ختم السورة بما ينبغي أن يُمجَّد به ويُعظَّم ، فقال :
{ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإِكرام } .
(1/968)

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
{ إذا وقعت الواقعة } جاءت القيامة .
{ ليس لوقعتها } لمجيئها { كذبٌ } .
{ خافضة رافعة } تخفض قوماً إلى النَّار ، وترفع آخرين إلى الجنَّة .
{ إذا رجَّت الأرض رجّاً } حُرَّكت الأرض حركةً شديدةً .
{ وبست الجبال بساً } فتَّت فتَّاً .
{ فكانت هباء منبثاً } غُباراً متقرِّقاً .
{ وكنتم } في ذلك اليوم { أزواجاً } أَصنافاً { ثلاثة } ثمَّ بيَّن الأصناف ، فقال :
{ فأصحاب الميمنة } وهم الذين يُؤتون كتبهم بأيمانهم . وقيل : الذين كانوا على يمين آدم عليه السَّلام حين أخرج الذُّريَّة من ظهره { من أصحاب الميمنة } أَيُّ شيءٍ هم؟ على التَّعظيم لشأنهم .
{ وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة } أَيْ : الشِّمال . تفسيرها على ضدِّ تفسير التي قبلها .
{ والسابقون } إلى الإِيمان ، من كلِّ أمَّةٍ { السابقون } إلى رحمة الله وجنَّته .
{ أولئك المقربون } إلى كرامة الله .
(1/969)

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
{ ثلة من الأولين } جماعةٌ من الأمم الماضية .
{ وقليل من الآخرين } من هذه الأُمّة . يريد : من سابقي الأمم وسابقي هذه الأُمَّة .
{ على سرر موضونة } منسوجةٍ بقضبان الذَّهب والجواهر .
(1/970)

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
{ ولدان مخلدون } غلمانٌ لا يموتون ولا يهرمون .
{ بأكواب } بأقداحٍ لا عُرى لها { وأباريق } التي لها عُرى وخراطيم { وكأس } إناءٍ { من معين } من خمرٍ جاريةٍ .
{ لا يصدعون عنها } لا ينالهم الصُّداع عن شربها { ولا ينزفون } ولا يسكرون .
{ وفاكهة مما يتخيرون } يختارون .
(1/971)

وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
{ وحور } جوارٍٍ وغلمانٌ شديدات سواد الأعين وبياضها { عين } ضخام العيون .
{ كأمثال } كأشباه { اللؤلؤ المكنون } في صفاء اللَّون ، والمكنون : المستور في كِنِّه ، وهو الصَّدَف .
(1/972)

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
{ لا يسمعون فيها } في الجنَّات { لغواً } كاملاً فاحشاً { ولا تأثيماً } ولا ما يوقع في الإِثم .
{ إلاَّ قيلاً } قولاً { سلاماً سلاماً } ما يسلمون فيه اللَّغو والإٍثم ، ثمَّ ذكر منازل أصحاب الميمنة ، فقال :
{ في سدر } وهو نوعٌ من الشَّجر { مخضود } مقطوعِ الشَّوك ، لا كسدر الدُّنيا .
{ وطلح } وهو شجر الموز { منضود } نُضِدَ بالحمل من أوَّله إلى آخره ، فليست له سوقٌ بارزةٌ .
{ وظل ممدود } دائمٍ ثابت .
{ وماء مسكوب } جارٍ غير منقطع .
{ وفاكهة كثيرة } .
{ لا مقطوعة } بالأزمان { ولا ممنوعة } بالأثمان .
{ وفرش مرفوعة } على السُّرر .
(1/973)

إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
{ إنا أنشأناهن } خلقناهنَّ ، أَيْ : الحور العين { إنشاء } خلقاً من غير ولادةٍ .
{ فجعلناهنَّ أبكاراً } عذارى .
{ عُرباً } مُتحبِّبات إلى الأزواج ، عواشق لهم { أتراباً } مُستوياتٍ في السنِّ .
{ لأصحاب اليمين } .
{ ثلة من الأولين } من الأمم الماضية .
{ وثلة من الآخرين } من هذه الأُمَّة . يعني : إنَّ أصحاب الجنَّة نصفان : نصفٌ من الأمم الماضية ، ونصفٌ من هذه الأمَّة ، ثمَّ ذكر منازل أصحاب الشِّمال ، فقال :
{ في سموم } ريحٍ حارَّةٍ { وحميم } .
{ وظلٍّ من يحموم } دخانٍ شديد السَّواد { لا بارد } المنزل { ولا كريم } المنظر .
{ إنهم كانوا قبل ذلك } في الدُّنيا { مترفين } مُنعَّمين لا يتعبون في طاعة الله .
{ وكانوا يصرون على الحنث العظيم } يُقيمون على الذَّنب العظيم ، وهو الشِّرك ، وكانوا يُنكرون البعث . { وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أَإِنّا لمبعوثون } . فقال الله تعالى :
{ قل إنَّ الأولين والآخرين } . { لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } وهو يوم القيامة ومعنى { إلى ميقات } لميقات يوم .
(1/974)

فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
{ شرب الهيم } أَيْ : الإِبل العطاش .
{ هذا نزلهم } ما أعدَّ لهم من الرِّزق { يوم الدين } المجازاة .
{ نحن خلقناكم } ابتداءً { فلولا } فهلاَّ { تصدّقون } بالخلق الثَّاني ، وهو البعث .
{ أفرأيتم ما تمنون } تصبُّون في الأرحام من المنيّ .
{ أأنتم تخلقونه } بشراً { أم نحن الخالقون } .
{ نحن قدَّرنا } قضينا { بينكم الموت وما نحن بمسبوقين } .
{ على أن نبدِّل أمثالكم } أَيْ : إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم نُسبق ، ولا فاتنا ذلك { وننشئكم } نخلقكم { فيما لا تعلمون } من الصُّور ، أَيْ : نجعلكم قردةً وخنازير ، والمعنى : لسنا عاجزين عن خلق أمثالكم بدلاً منكم ، ومسخكم من صوركم إلى غيرها .
{ ولقد علمتم النشأة الأولى } الخلقة الأولى ، أَيْ : أقررتم بأنَّ الله خلقكم في بطون أُمَّهاتكم { فلولا تذكرون } أنِّي قادرٌ على إعادتكم .
{ أفرأيتم ما تحرثون } تقلبون من الأرض وتلقون فيه من البذر .
{ أأنتم تزرعونه } تنبتونه { أم نحن الزارعون } .
{ لو نشاء لجعلناه حطاماً } تبناً يابساً لا حَبَّ فيه { فظلتم تفكهون } تعجبون وتندمون ممَّا نزل بكم ، وممَّا علمتم من الحرث ، وتقولون :
(1/975)

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
{ إنا لمغرمون } صار ما أنفقنا على الحرث غُرْماً علينا .
{ بل نحن محرومون } ممنوعون مُنعنا رزقنا .
(1/976)

لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
{ أجاجاً } أَيْ : مِلحاً لا يمكن شربه .
{ أفرأيتم النار التي تورون } تقدحون .
{ أأنتم أنشأتم } خلقتم { شجرتها } التي تخرج منها .
{ نحن جعلناها تذكرة } يتذكَّر بها نار جهنَّم { ومتاعاً } ومنفعةً { للمقوين } للمسافرين .
{ فسبح باسم ربك العظيم } أَيْ : نَزِّه الله ممَّا يقول المشركون .
{ فلا أقسم } " لا " زائدة { بمواقع النجوم } مساقطها ومغاربها . وقيل : أراد نجوم القرآن .
(1/977)

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
{ إنه لقرآن كريم } حسنٌ عزيزٌ .
{ في كتاب مكنون } مصونٍ عند الله .
(1/978)

لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
{ لا يمسه } باليد ، أَيْ : المصحف { إلاَّ المطهرون } من الجنابات والأحداث .
{ تنزيل من رب العالمين } .
{ أفبهذا الحديث } أَيْ : القرآن { أنتم مدهنون } مُكِّذبون .
{ وتجعلون رزقكم } شكر زرقكم ، فحذف الشُّكر { أنكم تكذبون } بسقيا الله إذا مُطرتم ، وتقولون : مطرنا بنوء كذا .
{ فلولا } فهلاَّ { إذا بلغت } الرُّوح { الحلقوم } .
{ وأنتم } يا أصحاب الميت { حينئذٍ تنظرون } إليه وهو في النَّزع .
{ ونحن أقرب إليه منكم } بالعلم والقدرة { ولكن لا تبصرون } لا تعلمون ذلك .
{ فلولا إن كنتم غير مَدِينين } مملوكين ومجزيين .
{ ترجعونها } أَيْ : تردُّون الرُّوح إلى الميِّت { إن كنتم صادقين } أنَّكم غير مملوكين وغير مُدْبِرين . وقوله : { ترجعونها } جوابٌ واحدٌ لشيئين ، وقوله : { فلولا إذا بلغت الحلقوم } وقوله : { فلولا إن كنتم } ثمَّ ذكر مآل الخلق بعد الموت فقال :
{ فأمَّا إن كان المقربين } . { فروح } فلهم روحٌ ، أَيْ : استراحةٌ وبردٌ { وريحان } ورزقٌ حسنٌ .
{ وأمَّا إن كان من أصحاب اليمين } . { فسلام لك من أصحاب اليمين } أَيْ : إنَّك ترى فيهم ما تحبُّ من السَّلامة وقد علمت ما أعدَّ لهم من الجزاء ، لأنَّه قد بُيِّن لك في قوله : { في سدر مخضود . . . } الآيات .
(1/979)

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
{ وإمَّا إن كان من المكذبين الضالين } وهم أصحاب المشأمة .
{ فنزل من حميم } فلهم نزلٌ أعدَّ لهم من شراب جهنَّم .
{ وتصلية جحيم } إدخال النَّار .
{ إنَّ هذا } الذي ذكرت { لهو حق اليقين } .
{ فسبح باسم ربك العظيم } أَيْ : نزِّه الله من السُّوء .
(1/980)

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
{ سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } ذُكر تفسيرها في قوله : { وإنْ مِنْ شيءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بحمده . }
(1/981)

هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
{ هو الأوَّل } قبل كلِّ شيءٍ ، فكلُّ شيءٍ دونه { والباطن } العالم بكلِّ شيءٍ .
{ يعلم ما يلج في الأرض } ما يدخل فيها من مطرٍِ وغيره { وما يخرج منها } من نباتٍ وشجرٍ { وما ينزل من السماء } من رزقٍ ومطرٍ ، ومَلكٍ وأمرٍ { وما يعرج فيها } يصعد إليها من عملٍ { وهو معكم } بالعلم والقدرة { أينما كنتم } .
(1/982)

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{ آمنوا بالله ورسوله } صدِّقوا بأنَّ الله تعالى واحدٌ ، وأنَّ محمداً رسول الله { وأنفقوا } من المال الذي { جعلكم مستخلفين فيه } أَيْ : كان لغيركم فملكتموه . وقوله :
{ وقد أخذ ميثاقكم } أَيْ : حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السَّلام بأنَّ الله ربُّكم لا إله لكم سواه { إن كنتم مؤمنين } أي : إِن كنتم على أن تؤمنوا يوماً من الأيام .
(1/983)

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{ وما لكم أنْ لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } أَيْ : أَيُّ شيءٍ لكم في ترك الإِنفاق في طاعة الله وأنتم ميِّتون تاركون أموالكم ، ثمَّ بيَّن فضل السَّابقين في الإنفاق والجهاد ، فقال : { لا يستوي منكم مَنْ أنفق من قبل الفتح } يعني : فتح مكَّة { وقاتل } جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداء الله . { أولئك أعظم درجة } [ يعني : عند الله ] { من الذين أنفقوا من بعد } الفتح { وقاتلوا وكلاً } من الفريقين { وعد الله الحسنى } الجنَّة .
{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } ذُكر تفسيره في سورة البقرة .
{ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } وهو يوم القيامة { يسعى نورهم } على الصِّراط { بين أيديهم وبأيمانهم } وتقول لهم الملائكة : { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم } .
{ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظروا نقتبس من نوركم } انتظرونا وقفوا لنا نستضىء بنوركم { قيل } لهم { ارجعوا وراءكم } من حيث جئتم { فالتمسوا نوراً } فلا نور لكم عندنا { فضرب بينهم } بين المؤمنين والمنافقين . { بسور } وهو حاجزٌ بين الجنَّة والنَّار . قيل : هو سور الأعراف { له باب } في ذلك السُّور بابٌ { باطنه فيه الرحمة } لأنَّ ذلك الباب يُفضي إلى الجنَّة { وظاهره من قبله } أَيْ : من قبل ذلك الظَّاهر { العذاب } وهو النَّار .
{ ينادونهم } ينادي المنافقون المؤمنين : { ألم نكن معكم } في الدُّنيا نناكحكم ونوارثكم { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } آثمتموها بالنِّفاق { وتربصتم } بمحمدَّ عليه السَّلام الموت { وارتبتم } شككتم في الإيمان { وغرَّتكم الأمانيّ } ما كنتم تمنَّون من نزول الدَّوابر بالمؤمنين { حتى جاء أمر لله } الموت { وغرَّكم بالله } أَيْ : بحلمه وإمهاله { الغرور } الشَّيطان .
{ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } بدلٌ { ولا من الذين كفروا } وهم المشركون { مأواكم النار } منزلكم النَّار { هي مولاكم } أولى بكم { وبئس المصير } هي .
(1/984)

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{ ألم يأن للذين آمنوا } ألم يحن { أن تخشع قلوبهم } ترقَّ وتلين { لذكر الله وما نزل من الحق } وهو القرآن ، وهذا حثٌّ من الله تعالى لقومٍ من المؤمنين على الرِّقة والخشوع { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } أي : اليهود والنَّصارى { فطال عليهم الأمد } الزَّمان بينهم وبين أنبيائهم { فقست قلوبهم } لم تَلِنْ لذكر الله ، ونسوا ما عهد الله سبحانه إليهم في كتابهم { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين تركوا الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
{ اعلموا أنَّ الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات } أَيْ : إنَّ إحياء الأرض بعد موتها دليلٌ على توحيد الله تعالى وقدرته .
{ إنَّ المصدِّقين والمصدقات } الذين يتصدَّقون وينفقون في سبيل الله { وأقرضوا الله قرضاً حسناً } بالنَّفقة في سبيله { يضاعف لهم } ما عملوا { ولهم أجرٌ كريم } وهو الجنَّة .
{ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } المُبالغون في الصِّدق { والشهداء عند ربهم } أَي : الأنبياء عليهم السَّلام { لهم أجرهم ونورهم } في ظلمة القبر . وقيل : هم جميع المؤمنين .
{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } في انقضائها وقلَّة حاصلها { وزينة } يتزيَّنون بها { وتفاخرٌ بينكم } يفخر بها بعضكم على بعض { وتكاثر في الأموال والأولاد } مباهاةٌ بكثرتها ، ثمَّ ضرب لها مثلاً فقال : { كمثل غيث } مطرٍ { أعجب الكفار } أي : الزُّراع { نباتُه } ما أنبته ذلك الغيث ، { ثم يهيج } ييبس { فتراه مصفراً } بعد يبسه { ثمَّ يكون حطاماً } هشيماً مُتفتِّتاًَ ، وكذلك الإِنسان يهرم ثمَّ يموت ويبلى { وفي الآخرة عذاب شديد } للكفَّار { ومغفرة من الله ورضوان } لأوليائه .
{ سابقوا إلى مغفرة من ربكم } ذُكر في سورة آل عمران عند قوله : { وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم . . . } الآية .
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض } بالجدبِ { ولا في أنفسكم } بالمرض والموت والخسران { إلاَّ في كتاب } أي : اللَّوح المحفوظ { من قبل أن نبرأها } نخلق تلك المصيبة { إنَّ ذلك على الله يسير } أَيْ : خلقها في وقتها بعد أَنْ كتبها في اللَّوح المحفوظ .
{ لكيلا تأسوا على ما فاتكم } من الدُّنيا { ولا تفرحوا بما آتاكم } أعطاكم منها ، أَيْ : لكيلا تحزنوا حزناً يُطغيكم ، ولا تبطروا بالفرح بعد أَنْ علمتم أنَّ ما يصيبكم من خيرٍ وشرٍّ فمكتوب لا يخطئكم . { والله لا يحب كلَّ مختال } مُتكبِّرٍ بما أُوتي من الدُّنيا { فخور } به على النَّاس .
{ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } ذُكر في سورة النِّساء .
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالدّلالات الواضحات { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } العدل { ليقوم الناس بالقسط } ليتعامل النَّاس بينهم بالعدل { وأنزلنا الحديد } وذلك أنَّ آدم عليه السَّلام نزل إلى الأرض بالعلاة والمطرقة وآلة الحدَّادين { فيه بأس شديد } قوَّةٌ وشدَّةٌ يُمتنع بها ويُحارب { ومنافع للناس } يستعملونه في أدواتهم { وليعلم الله } أَيْ : أرسلنا الرُّسل ومعهم هذه الأشياء ليتعامل النَّاس بالحقِّ ، وليرى الله مَنْ ينصر دينه { ورسله بالغيب } في الدُّنيا .
(1/985)

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{ ورهبانية ابتدعوها } أَي : ابتدعوا من قبل أنفسهم رهبانيَّةً ، أَي : التَّرهُّب في الصَّوامع { ما كتبناها عليهم } ما أمرناهم بها { إلاَّ ابتغاء رضوان الله } لكنَّهم ابتغوا بتلك الرَّهبانيَّة رضوان الله { فما رعوها حق رعايتها } أَيْ : قصَّروا في تلك الرَّهبانيَّة حين لم يؤمنوا بمحمد عليه السَّلام ، { فآتينا الذين آمنوا منهم } بمحمَّدٍ عليه السَّلام { أجرهم وكثير منهم فاسقون } وهم الذين لم يؤمنوا به .
{ يا أيها الذين آمنوا } بالتَّوراة والإنجيل { اتقوا الله وآمنوا برسوله } محمد عليه السَّلام { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } نصيباً بإيمانكم الأوَّل ، ونصيباً بإيمانكم بمحمَّد عليه السَّلام وكتابه { ويجعل لكم نوراً تمشون به } في الآخرة على الصِّراط { ويغفر لكم } وعدهم الله هذه الأشياء كلَّها على الإِيمان بمحمد عليه السَّلام ، ثمَّ قال :
{ لئلا يعلم } أي : ليعلم ، و " لا " زائدة { أهل الكتاب } اليهود والنَّصارى { ألا يقدرون على شيء } أنَّهم لا يقدرون على شيءٍ { من فضل الله } يعني : إِنْ لم يؤمنوا لم يُؤتهم الله شيئاً ممَّا ذُكر { وأنَّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }
(1/986)

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } نزلت في سبب خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصَّامت ، ظاهر منها وكان ذلك أوَّل ظهارٍ في الإِسلام ، وكان الظِّهار من طلاق الجاهليَّة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أنَّ زوجها ظاهر منها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حَرُمْتِ عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وصبيةً صغاراً ، وجعلت تُراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال لها : حَرُمْتِ عليه هتفت وشكت إلى الله ، وقوله : { والله يسمع تحاوركما } أَيْ : تخاطبكما ومراجعتكما الكلام ،
(1/987)

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
ثمَّ ذمَّ الظَّهار فقال : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنَّ أمهاتهم } أَيْ : ما اللواتي يجعلن من الزَّوجات كالأمهات بأمهاتٍ . { إن أمهاتهم إلاَّ اللائي ولدنهم } ما أُمهاتهم إلاَّ الوالدات { وإنهم ليقولون } بلفظ الظِّهار { منكراً من القول } لا تُعرف صحَّته { وزوراً } وكذباً؛ فإنَّ المرأة لا تكون كالأمِّ { وإنَّ الله لعفو غفور } عفا وغفر للمُظاهِر بجعل الكفَّارة عليه ، ثمَّ ذكر حكم الظِّهار ، فقال :
{ والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديرها : والذين يُظاهرون من نسائهم فتحرير رقبةٍ لما قالوا ، ثمَّ يعودون ، أيْ : على المُظاهر عتق رقبةٍ لقوله لامرأته : أنتِ عليَّ كظهر أُمِّي ، ثمَّ يعود إلى استباحة الوطء ، ولا تحلُّ له قبل الكفَّارة ، وهو قوله : { من قبل أن يتماسا } أي : يَجَّامعا { ذلكم توعظون به } أي : ذلك التَّغليظ في الكفَّارة وعظٌ لكم كي تنزجروا به عن الظِّهار فلا تُظاهروا .
{ فمن لم يجد } الرَّقبة لفقره { فصيام شهرين متتابعين } لو أفطر فيما بين ذلك بطل التَّتابع ، ويجب عليه الاستئناف { فمن لم يستطع } ذلك لمرضٍ أو لخوفِ مشقَّةٍ عظيمةٍ { فإطعام ستين مسكيناً } لكلِّ مسكينٍ مدٌّ من غالب القوت . { ذلك } أي : الفرض الذي وصفنا { لتؤمنوا بالله ورسوله } لتصدقوا ما أتى به الرَّسول عليه السَّلام ، وتُصدِّقوا أنَّ الله تعالى به أمر { وتلك حدود الله } يعني : ما وصف في الظِّهار والكفَّارة { وللكافرين } لمن لم يُصدِّق به { عذاب أليم } .
{ إنَّ الذين يحادون الله } يُخالفون الله { ورسوله كُبِتوا } أُذِلُّوا وأُخزوا { كما كُبِتَ الذين من قبلهم } ممَّن خالف الله ورسوله { وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين } بها { عذاب مهين } .
{ يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا } يخبرهم بذلك ليعلموا وجوب الحجَّة عليهم { أحصاه الله } علمه الله وأحاط بعدده { ونسوه } هم . وقوله :
{ ما يكون من نجوى ثلاثة } أَيْ : مناجاة ثلاثةٍ ، وإن شئت قلتَ : من متناجين ثلاثة { إلاَّ هو رابعهم } بالعلم ، يسمع نجواهم .
(1/988)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } نزلت في المنافقين واليهود ، كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين ، وينظرون إلى المؤمنين ليُواقعوا في قلوبهم ريبةً وتهمةً ، ويظنُّون أنَّ ذلك لشيءٍ بلغهم ممَّا يهمُّهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك ، فعادوا لما نُهوا عنه ، فأنزل الله : { ألم تر إلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما } أَي : إلى { ما نُهوا عنه ويتناجون بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول } أي : يُوصي بعضهم بعضاً سرَّاً بالظُّلم والإِثم ، وترك طاعة الرَّسول عليه السَّلام . { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يُحَيِّكَ به الله } يعني : قولهم : السَّام عليك { ويقولون في أنفسهم : لولا يعذِّبنا الله بما نقول } وذلك أنَّهم قالوا : لو كان نبيَّاً لعذَّبنا بهذا ، قال الله : { حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } . ثمَّ نهى المؤمنين عن مثل ذلك ، فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان ومعصيت الرسول } { إنما النجوى من الشيطان } أَيْ : النَّجوى بالإِثم والعدوان ممَّا يزيِّن الشَّيطان لهم { ليحزن الذين آمنوا وليس بضارِّهم } وليس الشَّيطان بضارِّهم { شيئاً إلاَّ بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أَيْ : وإِليه فَلْيَكِلُوا أمورهم .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } توسَّعوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم { فافسحوا } أوسعوا المجلس { يفسح الله لكم } يُوسِّعه عليكم . نزلت في قومٍ كانوا يُبكِّرون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويأخذون مجالسهم بالقرب منه ، فإذا دخل غيره ضنُّوا بمجالسهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يُكرم أهل بدرٍ ، فدخلوا يوماً فقاموا بين يديه ولم يجدوا عنده مجلساً ، ولم يقم لهم أحدٌ من هؤلاء الذين أخذوا مجالسهم ، فكره النبيُّ عليه السَّلام ذلك ، فنزلت هذه الآية ، وأمرهم أن يُوسِّعوا في المجلس لمن أراد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم . { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } وإذا قيل لكم : قوموا إلى صلاةٍ أو جهادٍ ، أو عمل خيرٍ فانهضوا { يرفع الله الذين آمنوا منكم } بطاعة الرَّسول { والذين أوتوا العلم درجات } في الجنَّة .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم } أمام مناجاتكم { صدقة } . نزلت حين غلب أهلُ الجدة الفقراءَ على مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناجاته ، فكره الرَّسول ذلك فأمرهم الله بالصَّدقة عند المناجاة ، ووضع ذلك عن الفقراء فقال : { فإن لم تجدوا فإنَّ الله غفور رحيم } ثمَّ نسخ الله ذلك ، فقال :
{ أأشفقتم } بخلتم وخفتم بالصَّدقة الفقر { فإذْ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } عاد عليكم بالتَّخفيف { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } المفروضة .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا قوماً غضب الله عليهم } أَي : المنافقين تولَّوا اليهود وناصحوهم ، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين { ما هم منكم } أيُّها المؤمنون { ولا منهم } من اليهود { ويحلفون على الكذب } يحلفون أنَّهم لا يخونون المؤمنين { وهم يعلمون } أنَّهم كاذبون في حلفهم .
(1/989)

اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
{ اتخذوا أيمانهم } الكاذبة { جنة } يستجنُّون بها من القتل .
(1/990)

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{ يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له } كاذبين ما كانوا مشركين { كما يحلفون لكم } كاذبين { ويحسبون أنهم على شيء } من نفاقهم ، يأتونكم بوجهٍ ، ويأتون الكفَّار بوجهٍ ، ويظنُّون أنَّهم يسلمون فيما بينكم وبينهم { ألا إنهم هم الكاذبون } .
{ استحوذ عليهم الشيطان } أي : استولى عليهم .
{ إنَّ الذين يحادون الله ورسوله } يخالفونهما . { أولئك في الأذلين } المغلوبين .
{ كتب الله } قضى الله { لأغلبنَّ أنا ورسلي } إمَّا بالظفَّر والقهر ، وإمَّا بظهور الحجَّة .
{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله . . . } الآية . أخبر الله في هذه الآية أنَّ المؤمن لا يوالي الكافر وإنْ كان أباه ، أو أخاه ، أو قريبه وذلك أنَّ المؤمنين عادوا آباءَهم الكفَّار وعشائرهم وأقاربهم ، فمدحهم الله على ذلك فقال : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أَيْ : أثبته { وأيديهم بروحٍ منه } أيْ : بنور الإِيمان ، وقيل : بالقرآن ، ثمَّ وعدهم الإِدخال في الجنَّة فقال : { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله أَلاَ إنَّ حزب الله هم المفلحون } .
(1/991)

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
{ سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني : بني النَّضير { من ديارهم } مساكنهم بالمدينة ، وذلك أنَّه نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف سيِّدهم ، فقتل غيلةً ، وحاصر بني النَّضير ثمَّ صالحهم على أن يخرجوا إلى الشَّام ، فخرجوا وتركوا رباعهم وضياعهم ، وقوله : { لأوَّل الحشر } كانوا أوَّل مَنْ حُشر إلى الشَّام من اليهود من جزيرة العرب وقيل : إنَّه كان أوَّل حشرٍ إلى الشَّام ، والحشر الثَّاني حشر القيامة ، والشَّام أرض المحشر . { ما ظننتم } أَيُّها المؤمنون { أن يخرجوا } لعدَّتهم ومنَعتهم { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } وذلك أنَّهم كانوا أهل حلقةٍ وحصونٍ ، فظنُّوا أنَّها تحفظهم من ظهور المسلمين عليهم { فأتاهم الله } أي : أمر الله { من حيث لم يحتسبوا } من جهة المؤمنين ، وما كانوا يحسبون أنَّهم يغلبونهم ويظهرون عليهم { وقذف في قلوبهم الرعب } ألقى في قلوبهم الخوف بقتل سيِّدهم { يخربون بيوتهم بأيديهم } وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صالحهم على أنَّ لهم ما أقلَّت الإِبل ، وكانوا ينظرون إلى الخشبة والشَّيء في منازلهم ممَّا يستحسنونه ، فيقلعونه وينتزعونه ويهدمون البيوت لأجله ، فذلك إخرابهم بأيديهم ، ويخرِّب المؤمنون باقيها ، وهو قوله : { وأيدي المؤمنين } وأضاف الإخراب بأيدي المؤمنين إليهم؛ لأنَّهم عرَّضوا منازلهم للخراب بنقض العهد . { فاعتبروا } فاتَّعظوا { يا أولي الأبصار } يا ذوي العقول ، فلا تفعلوا فعل بني النَّضير فينزل بكم ما نزل بهم .
{ ولولا أن كتب الله } قضى الله { عليهم الجلاء } الخروج عن الوطن { لعذَّبهم في الدنيا } بالقتل والسَّبى كما فعل بقريظة .
(1/992)

مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
{ ما قطعتم من لينة } من نخلةٍ من نخيلهم { أو تركتموها قائمة } فلم تقطعوها { فبإذن الله } أي : إنَّه أذن في ذلك ، إِنْ شئتم قطعتم وإنْ شئتم تركتم ، وذلك أنَّهم لمَّا تحصَّنوا بحصونهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وإحراقها فجزعوا من ذلك ، وقالوا : من أين لك يا محمَّد عقر الشَّجر المثمر؟ واختلف المسلمون في ذلك ، فمنهم مَنْ قطع غيظاً لهم ، ومنهم من ترك القطع وقالوا : هو مالنا : أفاء الله علينا به ، فأخبر الله أنَّ كلَّ ذلك من القطع والتَّرك بإذنه { وليخزي الفاسقين } وليذلَّ اليهود وليغيظهم .
{ وما أفاء الله على رسوله } ردَّ الله على رسوله ورجع إليه { منهم } من بني النَّضير من الأموال { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } أَيْ : ما حملتم خيلكم ولا إبلكم على الوجيف إليه ، وهو السَّير السَّريع ، والمعنى : لم تركبوا إليه خيلاً ولا إبلاً ، ولا قطعتم إليه شُقَّة ، فهو خالصٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل فيه ما أحبَّ ، وليس كالغنيمة التي تكون للغانمين ، وهذا معنى قوله : { ولكنَّ الله يسلط رسله على مَنْ يشاء . . . } الآية .
{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } من أموال أهل القرى الكافرة { فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } وكان الفيء يُخَمَّسُ خمسةَ أخماسٍ ، فكانت أربعةُ أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء ، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية ، وأمَّا اليوم فما كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من الفيء يُصرف إلى أهل الثُّغور المُترصِّدين للقتال في أحد قولي الشَّافعي رحمه الله ، والفيء : كلُّ مالٍ رجع إلى المسلمين من أيدي الكفَّار عفواً من غير قتال ، مثل : مال الصُّلح والجزية والخراج ، أو هربوا فتركوا ديارهم وأموالهم ، كفعل بني النَّضير ، وقوله : { كيلا يكون } يعني : الفيء { دولة } متداولاً { بين الأغنياء } الرُّؤساء والأقوياء { منكم وما آتاكم الرسول } أعطاكم من الفيء { فخذوه وما نهاكم عنه } عن أخذه { فانتهوا } .
(1/993)

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
{ للفقراء المهاجرين } يعني : خمس الفيء للذين هاجروا إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم حُبَّاً لله ولرسوله ، ونصرةً لدينه ، وهو قوله : { وينصرون الله } أي : دينه { ورسوله أولئك هم الصادقون } في إيمانهم .
{ والذين تبوَّؤا الدار والإِيمان } نزلوا المدينة وقبلوا الإيمان { من قبلهم } من قبل المهاجرين وهم الأنصار { يحبون من هاجر إليهم } من المسلمين { ولا يجدون في صدورهم حاجة } غيظاً وحسداً { مما أوتوا } ممَّا أُوتي المهاجرون من الفيء ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النَّضير بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلاَّ ثلاثة نفرٍ ، كانت بهم حاجة فطابت أنفس الأنصار بذلك ، فذلك قوله : { ويؤثرون على أنفسهم } أَي : يختارون إخوانهم المهاجرين بالمال على أنفسهم { ولو كانت بهم خصاصة } حاجةٌ وفاقةٌ إلى المال { ومَنْ يوق شح نفسه } مَنْ حُفظ من الحرص المهلك على المال ، وهو حرصٌ يحمله على إمساك المال عن الحقوق والحسد { فأولئك هم المفلحون } .
{ والذين جاؤوا من بعدهم } أي : والذين يَجئيون من بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواتنا الذين سبقونا بالإيمان } أي : المهاجرين والأنصار { ولا تجعل في قلوبنا غلاً } حقداً { للذين آمنوا . . . } الآية . فمن ترحَّم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم فهو من أهل هذه الآية ، ومَنْ يشتم واحداً منهم ولم يترحَّم عليه لم يكن له حظٌّ في الفيء ، وكان خارجاً من جملة أقسام المؤمنين ، وهم ثلاثةٌ : المهاجرون والأنصار ، والذين جاؤوا من بعدهم بهذه الصِّفة التي ذكرها الله تعالى .
(1/994)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
{ ألم تر إلى الذين نافقوا . . . } الآية . وذلك أنَّ المنافقين ذهبوا إلى بني النَّضير لمَّا حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : لا تخرجوا من دياركم ، فإن قاتلكم محمدٌ كنَّا معكم ، وإن أخرجكم خرجنا معكم ، وذلك قوله : { لئن أخرجتم لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً } سألنا خذلانكم { أبداً } فكذَّبهم الله تعالى فيما قالوا بقوله : { والله يشهد إنهم لكاذبون } والآية الثَّانية ، وذكر أنَّهم إن نصروهم انهزموا ولم ينتصروا ، وهو قوله :
{ ولئن نصروهم ليولنَّ الأدبار ثمَّ لا ينصرون } .
{ لأنتم } أيُّها المؤمنون { أشد رهبة في صدروهم } صدور المنافقين من الله ، يقول : أنتم أهيبُ في صدورهم من الله تعالى؛ لأنَّهم يُخفون منك موافقة اليهود خوفاً منكم ، ولا يخافون الله فيتركون ذلك .
{ لا يقاتلونكم جميعاً } أي : اليهود { إلاَّ في قرىً محصنة أو من وراء جدر } أي : لِمَا ألقى الله في قلوبهم من الرعب لا يقاتلونكم إلاَّ مُتحصِّنين بالقرى والجدران ، ولا يبرزون لقتالكم . { بأسهم بينهم شديد } خلافهم بينهم عظيم { تحسبهم جميعاً } مُجتمعين مُتَّفقين { وقلوبهم شتى } مُختلفةٌ مُتفرِّقةٌ ، و { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } عن الله أمره .
(1/995)

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
{ كمثل الذين من قبلهم } أي : المشركين ، يقول : هم في تركهم الإيمان وغفلتهم عن عذاب الله كالذين من قبلهم { قريباً ذاقوا وبال أمرهم } يعني : أهل بدرٍ ذاقوا العذاب بمدَّةٍ قليلةٍ من قبل ما حلَّ بالنَّضير من الجلاء والنَّفي ، وكان ذلك بعد مرجعه من أُحدٍ ، وقوله :
{ كمثل الشيطان } يعني : إنَّ المنافقين في نصرتهم لليهود كمثل الشَّيطان { إذ قال للإِنسان اكفر } يعني : عابداً في بني إسرائيل فتنه الشَّيطان حتى كفر ، ثمَّ خذله ، كذلك المنافقون منَّوا بني النَّضير نصرتهم ثمَّ خذلوهم وتبرَّؤوا منهم .
{ فكان عاقبتهما } عاقبة الشَّيطان والكافر { أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين } .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } بأداء فرائضه واجتناب معاصيه { ولتنظر نفسٌ ما قدَّمت لغد } يوم القيامة من طاعةٍ وعملٍ صالحٍ .
{ ولا تكونوا كالذين نسوا الله } تركوا طاعة اللَّه وأمره { فأنساهم أنفسهم } حظَّ أنفسهم أن يُقدِّموا لها خيراً .
(1/996)

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } أخبر الله تعالى أنَّ من شأن القرآن وعظمته أنَّه لو جُعل في الجبل تمييزٌ - كما جعل في الإنسان - وأُنزل عليه القرآن لخشع وتصدَّع ، أَيْ : تشقَّق من خشية الله . قوله :
{ عالم الغيب والشهادة } السِّرِّ والعلانيَة . وقوله :
{ الملك } : ذو الملك { القدوس } الطَّاهر عمَّا لا يليق به { السلام } ذو السَّلامة من الآفات والنَّقائص { المؤمن } المُصدِّق رسله بخلق المعجزة لهم . وقيل : الذي آمن خلقه من ظلمه { المهيمن } الشَّهيد { العزيز } القويُّ { الجبار } الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره { المتكبر } عمَّا لا يليق به .
(1/997)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة لمَّا كتب إلى مشركي مكَّة يُنذرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إليهم { تلقون إليهم بالمودة } أَيْ : تُلقون إليهم أخبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وسرَّه بالمودة التي بينكم وبينهم { وقد كفروا } أَي : وحالهم أنَّهم كافرون { بما جاءكم من الحق } دين الإِسلام والقرآن { يخرجون الرسول وإياكم } أيُّها المؤمنون من مكَّة { أن تؤمنوا } لأن آمنتم { بالله ربكم إن كنتم خرجتم } من مكَّة { جهاداً } للجهاد { في سبيلي وابتغاء مرضاتي } وجواب هذا الشَّرط متقدِّم وهو قوله : { لا تتخذوا عدوي } أي : لا تتَّخذوهم أولياء إن كنتم تبتغون مرضاتي ، وقوله : { تسرون إليهم بالمودة } كقوله : { تُلقون إليهم بالمودَّة } { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } وذلك أنَّ الله أطلع نبيَّه عليه السَّلام على مكاتبة حاطبٍ للمشركين حتى استردَّ الكتاب ممَّن دفعه إليه ليوصله إليهم { ومن يفعله منكم } أي : الإسرار إليهم { فقد ضلَّ سواء السبيل } أخطأ طريق الدِّين ، ثمَّ أعلم أنَّه ليس ينفعهم ذلك عند المشركين ، فقال :
{ إن يثقفوكم } أَيْ : يلقوكم ويظفروا بكم { يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم } بالضَّرب والقتل { وألسنتهم بالسّوء } أي : الشَّتم { وودوا لو تكفرون } فلا تُناصِحوهم ، فإنَّهم معكم على هذه الحالة ، ثمَّ أخبر أنَّ أهلهم وأولادهم الذين لأجلهم يُناصحون المشركين لا ينفعونهم شيئاً في القيامة ، فقال :
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } المشركون { يوم القيامة يفصل بينكم } فيدخل المؤمنون الجنَّة ، والكافرون النَّار ، ثمَّ أمرَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بأصحاب إبراهيم عليه السَّلام ، فقال : { قد كانت لكم أسوة حسنة } .
(1/998)

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
{ قد كانت لكم أسوة حسنة } ائتمامٌ واقتداءٌ [ وطريقةٌ حسنةٌ ] { في إبراهيم والذين معه } من أصحابه إذ تبرَّؤوا من قومهم الكفَّار وعادوهم ، وقالوا لهم : { كفرنا بكم } أَيْ : أنكرناكم وقطعنا محبتكم . وقوله : { إلاَّ قول إبراهيم لأبيه } أَيْ : كانت لكم أسوةٌ فيهم ما خلا هذا ، فإنَه لا يجوز الاستغفار للمشركين ، ثمَّ أخبر أنَّهم قالوا يعني قوم إبراهيم : { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } .
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } أَيْ : لا تُظهرهم علينا فيظنوا أنَّهم على حقٍّ ، فيفتتنوا بذلك .
{ لقد كان لكم فيهم } في إبراهيم والذين معه { أسوة حسنة } تقتدون بهم ، فتفعلون من البراءة من الكفَّار كما فعلوا ، وتقولون كما قالوا ممَّا أخبر عنهم ، ثمَّ بيَّن أنَّ هذا الاقتداء بهم { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } { ومن يتول } عن الحقِّ ووالى الكفَّار { فإنَّ الله هو الغني الحميد } .
{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم } من مشركي مكَّة { مودَّة } بأن يهديهم للدِّين ، فيصيروا لكم أولياء وإخواناً ، ثمَّ فعل ذلك بعد فتح مكَّة ، فتزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة بنت سفيان ، ولان أبو سفيان للمؤمنين وترك ما كان عليه من العداوة ، ثمَّ رخص في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفَّار ، فقال :
{ ولا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } أَيْ : لا ينهاكم عن برِّ هؤلاء { وتقسطوا إليهم } أَيْ : تعدلوا فيهم بالإحسان ، ثمَّ ذكر أنَّه إنَّما ينهاهم عن أن يتولَّوا مشركي مكَّة الذين قاتلوهم ، فقال : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم . . . . } .
(1/999)

إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
{ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم } .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات . . . } الآية . نزلت بعد صلح الحديبية ، وكان الصُّلح قد وقع على أن يردَّ إلى أهل مكَّة مَنْ جاء من المؤمنين منهم ، فأنزل الله في النِّساء إذا جئن مهاجراتٍ أَنْ يُمتحنَّ ، وهو وقوله : { فامتحنوهن } وهو أنّْ تُستحلف ما خرجت بُغضاً لزوجها ، ولا عشقاً لرجلٍ من المسلمين ، وما خرجت إلاَّ رغبةً في الإسلام ، فإذا حلفت لم تردَّ إلى الكفَّار ، وهو قوله : { فإن علمتموهنَّ مؤمنات فلا ترجعوهنَّ إلى الكفار } لأنَّ المسلمةَ لا تحلُّ للكافر ، وقوله : { وآتوهم } يعني : أزواجهم الكفَّار ما أنفقوا عليهنَّ من المهر { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا ءاتيتموهنَّ أجورهنَّ } أي : مهورهنَّ وإن كان لهنَّ أزواجٌ كفَّارٌ ، [ في دار الإِسلام ] ، لأنَّ الإِسلام أبطل تلك الزَّوجية ، { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } أَيْ : لا تمسكوا بنكاحهنَّ؛ فإنَّ العصمة لا تبقى بين المشركة والمؤمن ، والمعنى : إن لحقت بالمشركين واحدةٌ من نسائكم فلا تتمسكوا بنكاحها { واسألوا ما أنفقتم } عليهنَّ من المهر مَنْ يتزوجهنَّ من الكفَّار { وليسألوا } يعني : المشركين { ما أنفقوا } من المهر ، فلمَّا نزلت هذه الآية أدَّى المؤمنون ما أُمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون ذلك ، فنزلت :
{ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } أَيْ : إنْ لحقتْ واحدةٌ من نسائكم مرتدَّةً بالكفَّار { فعاقبتم } فغزوتموهم وكانت العقبى لكم { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } إلى الكفَّار { مثل ما أنفقوا } عليهنَّ من الغنائم ، ثمَّ نزل في بيعة النِّساء :
{ يا أيها النبيُّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنَّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } أَيْ : لا يأتين بولدٍ ينسبنه إلى الزَّوج؛ فإن ذلك بهتانٌ وفِريةٌ { ولا يعصينك في معروف } أيْ : فيما وافق طاعة الله تعالى { فبايعهنَّ } أمره أن يُبايعهنَّ على الشَّرائط التي ذكرها في هذه الآية ، ثمَّ نهى المؤمنين عن موالاة اليهود ، فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة } أن يكون لهم فيها ثوابٌ { كما يئس الكفار } الذين لا يوقنون بالبعث { من أصحاب القبور } أن يُبعثوا . وقيل : كما يئس الكفَّار الذين في القبور مَنْ أَنْ يكون لهم في الآخرة خيرٌ .
(1/1000)

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
{ سبَّح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } .
{ يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون } كان المؤمنون يقولون : لو علمنا أحبَّ الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فأُخبروا بذلك في قوله : { إنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون } الآية .
وقوله : { كَبُر مقتاً عند الله } أَيْ : عَظُم ذلك في البعض { أن تقولوا ما لا تفعلون } وقوله :
{ إنَّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } وأُعلموا أنَّ أحب الأعمال إلى الله الجهاد ، فلم يَفوا بما قالوا وانهزموا يوم أُحدٍ ، فَعُيِّروا بهذه الآية . وقوله : { كأنهم بنيان مرصوص } لاصق ٌ بعضه ببعض لا يزولون عن أماكنهم .
{ وإذ قال موسى } أَيْ : اذكر يا محمَّد لقومك قصَّة موسى إذ قال لقومه : { يا قوم لم تؤذونني } وذلك حين رموه بالأُدْرَة { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } والرَّسول يُعظَّم ولا يُؤذى { فلما زاغوا } عدلوا عن الحقِّ { أزاغ الله قلوبهم } أضلَّهم الله وصرف قلوبهم عن الحقِّ { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أَيْ : مَنْ سبق في علمه أنَّه فاسقٌ .
(1/1001)

وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{ وأخرى تحبونها } أَيْ : ولكم أخرى تحبُّونها في العاجل مع ثواب الآجل ، ثمَّ بيَّن ما هي فقال : { نصرٌ من الله وفتح قريب } .
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } أعواناً بالسَّيف على أعدائه { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين مَنْ أنصاري إلى الله } أَيْ : مع الله { قال الحواريون نحن أنصار الله ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل } بعيسى { وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا } [ قوّيناهم ] { على عدوهم فأصبحوا ظاهرين غالبين .
(1/1002)

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{ يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم } .
{ هو الذي بعث في الأميين } يعني : العرب { رسولاً منهم } محمداً عليه السَّلام .
{ وآخرين منهم } أَيْ : وفي آخرين منهم { لما يلحقوا بهم } وهم التَّابعون وجميعُ مَنْ يدخل في الإسلام ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى كلِّ مَنْ شاهده ، وإِلى كلِّ مَنْ كان بعدهم من العرب والعجم .
(1/1003)

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
{ مثل الذين حملوا التوارة } كُلِّفوا العمل بها { ثمَّ لم يحملوها } لم يعملوا بما فيها { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } كتباً . أَيْ : اليهود ، شبَّههم في قلَّة انتفاعهم بما في أيديهم من التَّوراة إذ لم يؤمنوا بمحمد عليه السَّلام بالحمار يحمل كتباً ، ثمَّ قال : { بئس مثلُ القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين } .
{ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } فسِّر في سورة البقرة عند قوله : { قل إنْ كانت لكم الدَّارُ الآخرةُ . . . . } الآية .
(1/1004)

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{ قل إنَّ الموت الذي تفِرُّون منه } وذلك أنَّهم علموا أنَّ عاقبتهم النَّار بتكذيب محمد عليه السَّلام ، فكرهوا الموت ، قال الله : { فإنَّه ملاقيكم } أَيْ : لا بدَّ لكم منه يلقاكم وتلقونه .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } أَيْ : اعلموا على المشي إليه { وذروا البيع } اتركوه بعد النِّداء .
{ فإذا قضيت الصَّلاة } فُرغ منها { فانتشروا في الأرض } أَمرُ إباحةٍ { وابتغوا من فضل الله } الرِّزق .
{ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } أَيْ : تفرَّقوا عنك إلى التِّجارة ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة ، فقدمت عيرٌ وضرب لقدومها الطبل ، وكان ذلك في زمان غلاءٍ بالمدينة ، فتفرَّق النَّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى التِّجارة وصوت الطبل ، ولم يبق معه إلاَّ اثنا عشر نفساً . وقوله : { وتركوك قائماً } أَيْ : في الخطبة . { قل ما عند الله } [ للمؤمنين ] { خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } فإيَّاه فاسألوا ، ولا تنفضُّوا عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم لطلب الرِّزق .
(1/1005)

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
{ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون } لإِضمارهم خلاف ما أظهروا .
{ اتخذوا أيمانهم } جمع يمينٍ { جنَّة } سترةً يستترون بها من القتل . يعني : قولهم : { ويحلفون بالله إنَّهم لمنكم } وقوله : { يحلفون بالله ما قالوا } { فصدوا عن سبيل الله } منعوا النَّاس عن الإِيمان بمحمَّد صلى الله عليه وسلم { إنهم ساء ما كانوا يعملون } بئس [ العملُ ] عملهم .
{ ذلك بأنهم آمنوا } في الظَّاهر { ثمَّ كفروا } بالاعتقاد .
{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } في طولها واستواء خلقها ، وكان عبد الله بن أبيّ جسيماً صبيحاً فصيحاً ، إذا تكلَّم يَسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم قوله ، وهو قوله : { وإن يقولوا تسمع لقولهم } ثمَّ أعلم أنَّهم في ترك التَّفهُّم بمنزلة الخشب ، فقال : { كأنهم خشب مسندة } أَيْ : ممالةٌ إلى الجدار { يحسبون } من جُبنهم وسوء ظنِّهم { كلَّ صيحة عليهم } أَيْ : إنْ نادى منادٍ في العسكر ، أو ارتفع صوتٌ ، ظنُّوا أنَّهم يُرادون بذلك لما في قلوبهم من الرُّعب { هم العدو } وإن كانوا معك { فاحذرهم } ولا تأمنهم { قاتلهم الله } لعنهم الله { أنى يؤفكون } من أين يُصرفون عن الحقِّ بالباطل؟! .
{ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم } وذلك أنَّه لمَّا نزلت هذه الآيات قيل لعبد الله بن أبيّ : لقد نزلت فيك آيٌ شدادٌ ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه وأعرض بوجهه إظهاراً للكراهة { ورأيتهم يصدون } يُعرضون عمَّا دُعوا إليه { وهم مستكبرون } لا يستغفرون ، ثمَّ أخبر أنَّ استغفار الرَّسول عليه السَّلام لا ينفعهم لفسقهم وكفرهم فقال :
{ سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } .
(1/1006)

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{ هم الذين يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله } وذلك أَنَّ عبد الله ابن أبيّ قال لقومه وذويه : لا تنفقوا على أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - حتى ينفضُّوا ، أَيْ : يتفرَّقوا { ولله خزائن السموات والأرض } أَيْ : إنَّه يرزق الخلق كلَّهم ، وهو يرزق المؤمنين والمنافقين جميعاً .
{ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة } يعني : عبد الله ابن أبيّ ، وكان قد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بني المصطلق ، وجرى بينه وبين واحدٍ من المؤمنين جدال ، فأفرط عليه المؤمن فقال عبد الله بن أبيّ : { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذل } يعني : بالأعزِّ نفسه ، وبالأذلِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى : { ولله العزَّة } القوَّة والغلبة { ولرسوله } بعلوِّ كلمته وإظهار دينه { وللمؤمنين } بنصر الله إيَّاهم على مَنْ ناوأهم .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم } لا تشغلكم { أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } أَيْ : الصَّلوات الخمس { ومَنْ يفعل ذلك } يشتغل بشيءٍ عن الصَّلوات { فأولئك هم الخاسرون } .
{ وأنفقوا مما رزقناكم } يعني : أَدُّوا الزَّكاة { من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول : ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب } هلاَّ أخرتني إلى أجلٍ قريبٍ ، يسأل الرجعة ، وما قصَّر أحدٌ في الزَّكاة والحجِّ إلاَّ سأل الرَّجعة عند الموت { فأصدَّق } أَيْ : أتصدَّق وأُزكِّي { وأكن من الصالحين } أَيْ : أحج . قال الله تعالى :
{ ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبيرٌ بما تعملون } .
(1/1007)

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{ يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } .
{ هو الذي خلقكم } أَيْ : في بطون أمهاتكم { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } أَيْ : خلقكم كُفَّاراً ومؤمنين ، وقوله :
{ فأحسن صوركم } أَيْ : خلقكم أحسن الحيوان .
(1/1008)

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{ ألم يأتكم } يا أهلَ مكَّة { نبأ الذين كفروا من قبل } أَيْ : خبر الأمم الكافرة قبلكم { فذاقوا وبال أمرهم } ذاقوا في الدُّنيا العقوبة بكفرهم { ولهم } في الآخرة { عذاب أليم } .
{ ذلك } أَيْ : ذلك الذي نزل بهم { بأنَّه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا : أبشرٌ يهدوننا } استبعدوا أن يكون الدَّاعي إلى الحقِّ بشراً ، والمراد بالبشر ههنا الجمع ، لذلك قال : { يهدوننا ، فكفروا وتولوا } عن الإِيمان { واستغنى الله } أَيْ : عن إيمانهم { والله غنيٌّ } عن خلقه { حميد } في أفعاله .
(1/1009)

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{ يوم التغابن } يغبن فيه أهلُ الجنَّة أهلَ النَّار بأخذ منازلهم التي كانت لهم في الجنَّة لو آمنوا ، ويغبن مَنْ ارتفعت منزلته في الجنَّة مَنْ كان دون منزلته ، فيظهر في ذلك اليوم غبن كلِّ كافرٍ بترك الإِيمان ، وغبن كلِّ مؤمنٍ بتقصيره .
(1/1010)

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
{ ما أصاب من مصيبة إلاَّ بإذن الله } بعلمه وإرادته { ومَنْ يؤمن بالله } يُصدِّق بأنَّه لا تصيبه مصيبةٌ إلاَّ بإذن الله { يهد قلبه } يجعله مهتدياً حتى يشكر عند النِّعمة ، ويصبر عند الشدَّة .
(1/1011)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
{ يا أيها الذين آمنوا إنَّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } نزلت في قومٍ آمنوا ، وأرادوا الهجرة فثبَّطهم أهلهم وأولادهم ، وقالوا : لا نصبر على مفارقتكم ، فأخبر الله تعالى أنَّهم أعداءٌ لهم بحملهم إيَّاهم على المعصية وترك الطَّاعة { فاحذروهم } أن تقبلوا منهم ولا تطيعوهم ، ثمَّ إذا هاجر هذا الذي ثبَّطه أهله عن الهجرة رأى النَّاس قد تعلَّموا القرآن ، وتفقَّهوا في الدِّين فيهمُّ أن يعاقب أهله ، فقال الله تعالى : { وإن تعفوا وتصفحوا فإن الله غفور رحيم } .
{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة } اتبلاءٌ واختبارٌ لكم ، فمَنْ كسب الحرام لأجل الأولاد ، ومنع ماله عن الحقوق ، فهو مفتونٌ بالمال والولد { والله عنده أجر عظيم } لمن صبر عن الحرام ، وأنفق المال في حقِّه .
{ فاتقوا الله ما استطعتم } يعني : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عن ذلك . وهذه الآية ناسخةٌ لقوله تعالى : { اتَّقوا اللَّهَ حقَّ تُقاتِه } وقوله : { وأنفقوا خيراً لأنفسكم } أَيْ : قدِّموا خيراً لأنفسهم من أموالكم { ومَنْ يُوقَ شُحَّ نفسه } بخلها وحرصها حتى ينفق المال { فأولئك هم المفلحون } الفائزون بالخير .
(1/1012)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
{ يا أيها النبيُّ إذا طلقتم النساء } هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنون داخلون معه في الخطاب ، ومعنى قوله : { إذا طلقتم } : إذا أردتم طلاق النِّساء { فطلقوهنَّ لعدتهنَّّ } أَيْ : لطهرهنَّ الذي يحصينه من عدتهنَّ ، وهذا سنَّةُ الطَّلاق ، ولا تُطلقوهنَّ لحيضتهنَّ التي لا يعتدون بها من زمان العِدَّة . { وأحصوا العدة } أَيْ : عدد أقرائها ، واحفظوها لتعلموا وقت الرَّجعة إن أردتم أن تُراجعوهنَّ ، وذلك أنَّ الرجعة إنَّما تجوز في زمان العِدَّة { واتقوا الله ربكم } وأطيعوه فيما يأمركم وينهاكم { لا تخرجوهنَّ من بيوتهن } حتى تنقضي عدَّتهنَّ { ولا يخرجن } من البيوت في زمان العِدَّة { إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينة } وهي الزِّنا ، فيخرجن حينئذٍ لإِقامة الحدِّ عليهنَّ { وتلك حدود الله } يعني : ما ذكر من طلاق السُّنَّة { ومَنْ يتعدَّ حدود الله } ما حدَّ الله له من الطَّلاق وغيره { فقد ظلم نفسه لا تدري لعلَّ الله يحدث بعد ذلك أمراً } بعد الطَّلاق مراجعةً ، وهذا يدلُّ على كراهية التَّطليق ثلاثاً بمرَّةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ إحداث الرَّجعة لا يكون بعد الثَّلاث .
{ فإذا بلغن أجلهنَّ } قاربن انقضاء العدَّة { فأمسكوهنَّ } برجعةٍ تراجعونهنَّ بها { بمعروف } وهو أن لا يريد بالرَّجعة ضرارها { أو فارقوهنَّ بمعروف } أَيْ : اتركوهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ فتبين ، ولا تضاروهنَّ بمراجعتهنَّ . { وأشهدوا ذوي عدل منكم } على الرَّجعة أو الفراق . { ومَنْ يتَّق الله } يُعطه فيما يأمره وينهاه { يجعل له مخرجاً } من الشدَّة إلى الرَّخاء ، ومن الحرام إلى الحلال ، ومن النَّار إلى الجنَّة ، يعني : من صبر على الضِّيق ، واتَّقى الحرام جعل الله له مخرجاً من الضِّيق .
(1/1013)

وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } ويروى أنَّ هذا نزل في عوف بن مالك الأشجعيِّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنَّ العدو أسر ابني ، وشكا إليه الفاقة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتَّق الله واصبر ، وأَكْثِرْ من قول : لا حول ولا قوة إلاَّ بالله ، ففعل الرَّجل ذلك ، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو ، وأصابَ إبلاً لهم وغنماً ، فساقها إلى أبيه . { ومَن يتوكل على الله } ما أهمَّه يتوثق به ويسكن قلبه إليه { فهو حسبه } كافيه { إنَّ الله بالغ أمره } يبلغ أمره فيما يريد ، وينفذه { قد جعل الله لكل شيء قدراً } ميقاتاً وأجلاً .
{ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } أَيْ : القواعد من النِّساء اللاتي قعدن عن الحيض { إن ارتبتم } إنْ شككتم في حكمهنَّ ولم تعلموا عدَّتهنَّ ، وذلك أنَّهم سألوا فقالوا : قد عرفناه عدَّة التي تحيض ، فما عِدَّة التي لا تحيض والتي لم تحض بعد؟ فبيَّن الله تعالى ذلك فقال : { فعدتهنَّ ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } يعني : الصِّغار . { وأولات الأحمال } ذوات الحمل من النِّساء { أجلهنَّ } عدتهنَّ { أن يضعن حملهنَّ } فإذا وضعت الحامل انقضت عدَّتها مُطلَّقةً كانت ، أو مُتوفَّى عنها زوجها { ومن يتق الله } بطاعته في أوامره ونواهيه { يجعل له من أمره يسراً } أتاه باليسر في أموره .
{ ذلك } يعني : ما ذُكر من أحكام العِدَّة { أمر الله أنزله إليكم . . . } الآية .
{ أسكنوهنَّ } أَيْ : المطلَّقات { من حيث سكنتم } أَيْ : من منازلكم وبيوتكم { من وُجدكم } : من سعتكم وطاقتكم { ولا تضاروهنَّ } لا تؤذوهن { لتضيقوا عليهن } مساكنهن فيحتجن إلى الخروج { وإن كنّ } أي المطلقات { أولات حَمْلٍ فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم } أولادكم منهنَّ { فآتوهن أجورهنّ } على إرضاعهنَّ { وائتمروا بينكم بمعروف } أَيْ : ليقبل بعضكم من بعضٍ إذا أمره بمعروف { وإن تعاسرتم } تضايقتم ولم تتوافقوا على إرضاع الأمِّ { فسترضع } الصَّبيَّ [ { له } لوالده ] مرضعةٌ أخرى سوى الأُمَّ ، ولا تُكرَهُ الأمُّ على الإِرضاع .
(1/1014)

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{ لينفق ذو سعة من سعته } أمر أهل التَّوسعة أن يُوسِّعوا على نسائهم المرضعات أولادهنَّ { ومَنْ قدر عليه رزقه } مَنْ كان رزقه بمقدار القوت { فلينفق } على قدر ذلك . { لا يكلف الله نفساً إلاَّ ما آتاها } أعطاها . { سيجعل الله بعد عسرٍ يُسْراً } أعلم الله تعالى المؤمنين أنَّهم - وإن كانوا في حالٍ ضيقةٍ - سَيُوَسِّرهم ويفتح عليهم ، وكان الغالب عليهم في ذلك الوقت الفقر والفاقة ، ثمَّ فتح الله عليهم وجاءهم باليسر .
{ وكأين } وكم { من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } عتا أهلها عمَّا أمر الله تعالى به ورسله { فحاسبناها } في الآخرة { حساباً شديداً وعذَّبناها عذاباً نكراً } فظيعاً ، يعني : عذاب النَّار .
{ فذاقت وبال أمرها } ثقل عاقبة أمرها { وكان عاقبة أمرها خسراً } خساراً وهلاكاً . وقوله :
{ قد أنزل الله إليكم ذكراً } أَيْ : القرآن .
{ رسولاً } أَيْ : وأرسل رسولاً . { يتلو عليكم آياتِ الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . وقوله : { قد أحسن الله له رزقاً } أَيْ : رزقهُ الجنَّة التي لا ينقطع نعيمُها . وقوله :
{ يتنزل الأمر بينهنَّ } يعني : إنَّ في كلِّ سماء وكلِّ أرض خلقاً من خلقه ، وأمراً نافذاً من أمره { لتعلموا } أَيْ : أعلمكم ذلك وبيَّنه لتعلموا قدرته على كلّ شيء ، وأنَّه علم كلَّ شيءٍ .
(1/1015)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
{ يا أيها النبيُّ لم تحرِّم ما أحلَّ الله لك } رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل على حفصة في يوم نوبتها ، فخرجت هي لبعض شأنها ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مارية جاريته ، وأدخلها بيت حفصة وواقعها ، فلمَّا رجعت حفصة علمت بذلك فغضبت وبكت ، وقالت : أَما لي حرمةٌ عندك وحقٌّ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسكتي فهي حرامٌ عليَّ ، أبتغي بذلك رضاك ، وحلف أن لا يقربها ، وبشَّرها بأنَّ الخليفة من بعده أبوها وأبو عائشة رضي الله عنهم أجميعن ذكوراً وإناثاً ، وقال لها : لا تخبري أحداً بما أسررتُ إليك من أمر الجارية وأمر الخلافة من بعدي ، فلمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها أخبرت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها بذلك وقالت : قد أراحنا الله من مارية ، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّمها على نفسه ، وقصَّت عليها القصَّة ، فنزل : { لم تحرِّم ما أحل الله لك } أَيْ : الجارية { تبتغي } بتحريمها { مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } غفر لك ما فعلت من التَّحريم ، ثمَّ أمره بأن يكفِّر عن يمينه .
(1/1016)

قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
{ قد فرض الله لكم } أَيْ : بيَّن الله لكم { تحلَّة أيمانكم } ما تستحلُّ به المحلوف عليه من الكفَّار . يعني : في سورة المائدة .
{ وإذ أسرَّ النبيُّ إلى بعض أزواجه } يعني : حفصة { حديثاً } تحريم الجارية وأمر الخلافة { فلما نبأت به } أخبرت به عائشة رضوان الله عليهما وعلى أبيهما { وأظهره الله عليه } أطلع نبيَّه عليه السَّلام على إفشائها السِّرَّ { عرَّف بعضه } أخبر حفصه ببعض ما قالت لعائشة { وأعرض عن بعض } فلم يُعرِّفها إيَّأه على وجه التَّكرُّم والإِغضاء { فلما نبأها به } أخبر حفصة بما فعلت { قالت من أنبأك هذا } من أخبرك بما فعلت؟ { قال نبأني العليم الخبير } .
{ إن تتوبا إلى الله } يعني : عائشة وحفصة { فقد صغت قلوبكما } عدلت وزاغت عن الحقِّ ، وذلك أنَّهما أحبَّتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته { وإن تظاهرا عليه } تتعاعونا على أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإنَّ الله هو مولاه } وليُّه وحافظه فلا يضرُّه تظاهُرُكُما عليه وقوله : { وصالح المؤمنين } قيل : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وهو تفسير النبيِّ صلى الله عليه وسلم { والملائكة بعد ذلك ظهير } أَيْ : الملائكة بعد هؤلاء أعوانٌ .
(1/1017)

عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
{ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } هذا إخبارٌ عن قدرة الله تعالى على أن يُبدِّله لو طلَّق أزواجه خيراً منهنَّ ، وتخويفٌ لنسائه . وقوله : { قانتات } مطيعاتٍ { سائحات } صائماتٍ .
{ يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً } أَيْ : خذوا أنفسكم وأهليكم بما يُقرِّب من الله تعالى ، وجَنِّبوا أنفسكم وأهليكم المعاصي { وقودها الناس والحجارة } أَيْ : توقد بهذين الجنسين { عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } يعني : خزنة جهنَّم .
(1/1018)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
{ توبة نصوحاً } هي التَّوبة التي تنصح صاحبها حتى لا يعود إلى ما تاب منه ، ونصوحاً معناه بالغةً في النُّصْح . وقوله : { لا يخزي الله النبيَّ والذين آمنوا معه } أَيْ : لا يفضحهم ولا يهلكهم . { نورهم } على الصِّراط { يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } إذا طُفىء نور المنافقين دعوا الله وسألوه أن يتمَّ لهم النُّور ، ثمَّ ضرب مثلاً للنِّساء الصَّالحات والطَّالحات ، فقال : { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح . . . } .
(1/1019)

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
{ ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } أَيْ : في الدِّين ، فكانت امرأةُ نوحٍ تخبر قومه أنَّه مجنونٌ ، وامرأة لوط دلَّت على أضيافه { فلم يُغْنيا } يعني : نوحاً ولوطاً { عنهما من } عذاب { الله شيئاً } من شيءٍ ، وهذا تخويفٌ لعائشة وحفصة ، وإخبار أنَّ الأنبياء لا يُغنون عن مَنْ عمل بالمعاصي شيئاً ، وقطعٌ لطمع من ركب المعصية رجاء أن ينفعه صلاح غيره . وقوله :
{ ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة } قيل : إنَّ فرعون لما تبيَّن له إسلامها وَتَدَها على الأرض بأربعة أوتاد على يديها ورجليها ، فقالت وهي تعذَّب : { ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله } أَيْ : تعذيبه إيَّاي ، وفي هذا بيانٌ أنَّها لم تمل إلى معصيته مع شدَّة ما قاست من العذاب ، وكذا فليكن صوالح النِّساء ، وأمرٌ لعائشة وحفصة أن يكونا كآسيةَ وكمريم بنت عمران . وقوله :
{ ومريم ابنة عمران } هو عطفٌ على قوله : " امرأة فرعون " { التي أحصنت فرجها } أَيْ : عفَّت وحفظت { فنفخنا فيه من } جيب درعها من { روحنا } . فُسِّر في سورة الأنبياء ، { وصدَّقت بكلمات ربِّها وكتبه } آمنت بما أنزل الله على الأنبياء { وكانت من القانتين } أَيْ : من القوم المُطيعين لله ، أَيْ : إِنَّها أطاعت فدخلت في جملة المطيعين لله من الرِّجال والنِّساء .
(1/1020)

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
{ تبارك } أَيْ : تعالى وتعظَّم { الذي بيده الملك } يُؤتيه مَنْ يشاء وينزعه عمَّن يشاء .
{ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم } في الحياة { أيكم أحسن عملاً } أَيْ : أطوع لله وأورع عن محارمه ، ثمَّ يُجازيكم بعد الموت .
{ الذي خلق سبع سموات طباقاً } بعضها فوق بعضٍ { ما ترى في خلق الرحمن } أَيْ : خلقه السَّماء { من تفاوت } اضطرابٍ واختلافٍ ، بل هي مستويةٌ مستقيمةٌ { فارجع البصر } [ أعد فيها النَّظر ] { هل ترى من فطور } صدوعٍ وشقوقٍ . { ثم ارجع البصر } [ كرِّر النظر ] { كرَّتين } مرَّتين .
{ ينقلب إليك البصر } ينصرف ويرجع { خاسئاً } صاغراً ذليلاً { وهو حسير } أيْ : وقد أعيا من قبل أن يرى في السَّماء خللاً .
{ ولقد زيَّنا السماء الدنيا } التي تدنو منكم { بمصابيح } بكواكب { وجعلناها رجوماً } مرامي { للشياطين } إذا استرقوا السَّمع { وأعتدنا لهم } في الآخرة { عذاب السعير } .
(1/1021)

إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
{ إذا ألقوا فيها سمعوا لها } لجهنَّم { شهيقاً } صوتاً كصوت الحمار { وهي تفور } تغلي .
{ تكاد تميز من الغيظ } تتقطَّع غضباً على الكفَّار { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها } سؤال توبيخ : { ألم يأتكم نذير } رسولٌ في الدُّنيا ينذركم عذاب الله؟ فقالوا :
(1/1022)

وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
{ لو كنا نسمع } من الرُّسل سمع مَنْ يفهم ويتفكَّر { أو نعقل } عقل مَن ينظر { ما كنا في أصحاب السعير } . وقوله :
{ فاعترفوا بذنبهم } بتكذيب الرُّسل ، ثمَّ اعترفوا بجهلهم { فسحقاً لأصحاب السعير } أَيْ : أسحقهم الله سحقاً ، أَيْ : باعدهم من رحمته مُباعدةً .
{ إن الذين يخشون ربهم بالغيب } قبل مُعاينة العذاب وأحكام الآخرة .
{ وأسروا قولكم أو اجهروا به } نزلت في المشركين الذين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم ، فيخبره الله تعالى ، فقالوا : فيما بينهم : أَسرّوا قولكم كيلا يسمع إله محمَّدا .
(1/1023)

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
{ ألا يعلم من خلق } أَيْ : ألا يعلم ما في صدوركم وما تُسرّون به مَنْ خلقكم؟
{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } سهلاً مُسخَّرةً { فامشوا في مناكبها } جوانبها { وإليه النشور } إليه يبعث الخلق .
{ أأمنتم من في السماء } قدرته وسلطانه وعرشه { أن يخسف بكم الأرض } تغور بكم { فإذا هي تمور } تتحرَّك بكم وترتفع فوقكم . وقوله :
{ فستعلمون } أَيْ : عند مُعاينة العذاب { كيف نذير } أَيْ : إنذاري بالعذاب .
{ ولقد كذَّب الذين من قبلهم فكيف كان نكير } إنكاري إذ أهلكتهم .
{ أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات } باسطاتٍ أجنحتها { ويقبضن } يضربن بها جنوبهنَّ { ما يمسكهنَّ } في حال القبض والبسط { إلاَّ الرحمن } بقدرته .
{ أم مَنْ هذا الذي هو جند لكم ينصركم مِنْ دون الرحمن } يدفع عنكم عذابه .
{ بل لجُّوا } تمادوا { في عتوّ } عصيانٍ وضلالٍ { ونفور } تباعدٍ عن الحقِّ .
{ أفمن يمشي مكباً على وجهه } أَيْ : الكافر يُحشر يوم القيامة وهو يمشي على وجهه . يقال : كببْتُ فلاناً على وجهه فأكبَّ هو . يقول : هذا { أهدى أم من يمشي سوياً } مستوياً مستقيماً { على صراط مستقيم } وهو المؤمن .
(1/1024)

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
{ قل هو الذي أنشأكم } خلقكم { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون } أَيْ : لا تشكرون خالقكم وخالق هذه الأعضاء لكم إذ أشركتم به غيره .
{ قل هو الذي ذرأكم } خلقكم { في الأرض وإليه تحشرون } .
{ ويقولون متى هذا الوعد } أَيْ : وعد الحشر .
{ قل إنما العلم } بوقوعه ومجيئه { عند الله وإنما أنا نذير } مُخوِّفٌ { مبين } أُبيِّن لكم الشَّريعة .
{ فلمَّا رأوه } أَيْ : العذاب في الآخرة { زلفة } قريباً { سيئت وجوه الذين كفروا } تبيَّن في وجوههم السُّوء ، وعلتها الكآبة { وقيل هذا } العذاب { الذي كنتم به تَدَّعُون } تفتعلون من الدُّعاء ، أَيْ : تدعون الله به إذ تقولون : { اللَّهم إنْ كان هذا هو الحقَّ من عندك . . . } الآية .
{ قل أرأيتم إن أهلكني الله } فعذَّبني { ومَنْ معي أو رحمنا } غفر لنا { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } يعني : نحن مع إيمناننا خائفون نخاف عذاب الله ونرجو رحمته ، فمن يمنعكم من عذابه وأنتم كافرون؟
(1/1025)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{ قُلْ أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً } غائراً ذاهباً في الأرض { فمن يأتيكم بماء معين } ظاهر تناله الأيدي والدِّلاء .
(1/1026)

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
{ ن } أقسم بالحوت الذي على ظهره الأرضُ . { والقلم } يعني : القلم الذي خلقه الله تعالى ، فجرى بالكائنات إلى يوم القيامة { وما يسطرون } أَيْ : وما تكتب الملائكة .
{ ما أنت بنعمة ربك } بإنعامه عليك بالنُّبوِّة { بمجنون } أَيْ : إِنَّك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله عليك بالنُّبوَّة ، وهذا جوابٌ لقولهم : { وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه الذِّكر إنَّك لمجنونٌ } { وإنَّ لك لأجراً غير ممنون } غير مقطوعٍ ولا منقوصٍ .
(1/1027)

وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
{ وإنك لعلى خلق عظيم } أَيْ : أنت على الخُلُقِ الذي أمرك الله به في القرآن .
{ فستبصر } يا محمد { ويبصرون } أَيْ : المشركون الذي رموه بالجنون .
{ بأييكم المفتون } الفتنة ، أَبِكَ أم بهم .
{ فلا تطع المكذبين } فيما دعوك إليه من دينهم .
{ وَدُّوا لو تدهن فيدهنون } تلين فيلينون لك .
{ ولا تطع كلَّ حلاَّفٍ } كثير الحلف بالباطل ، أَيْ : الوليد بن المغيرة { مهين } حقير .
{ همَّاز } عيَّابٍ { مشَّاء بنميم } سَاعٍ بين النَّاسِ بالنَّميمة .
{ مناع للخير } بخيلٍ بالمال عن الحقوق { معتد } مجاوزٍ في الظُّلم { أثيم } آثمٍ .
{ عتل } جافٍ غليظٍ { بعد ذلك } مع ما ذكرنا من أوصافه { زنيم } مُلحَقٍ بقومه وليس منهم .
{ إن كان } لأن كان { ذا مال وبنين } يُكذِّب بالقرآن . وهو قوله :
{ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } والمعنى : أَيجعل مُجازاة نعمة الله عليه بالمال والبنين الكفر بآياتنا؟
{ سنسمه على الخرطوم } سنجعل على أنفه علامةً باقيةً ما عاش ، نخطم أنفه بالسَّيف يوم بدرٍ .
(1/1028)

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
{ إنا بلوناهم } امتحنا أهل مكَّة بالقحط والجوع { كما بلونا أصحاب الجنة } كما امتحنَّا أصحاب البستان بإحراقها وذهاب قوتهم منها ، وكانوا قوماً بناحية اليمن ، وكان لهم أبٌ وله جنَّةٌ كان يتصدَّق فيها على المساكين ، فلمَّا مات قال بنوه : نحن جماعةٌ ، وإنْ فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، فحلفوا ليقطعنَّ ثمرها بسدفةٍ من اللَّيل كيلا يشعر المساكين فيأتوهم ، وهو قوله : { إذْ أقسموا ليصرمنها مصبحين } .
{ ولا يستثنون } ولا يقولون إن شاء الله .
{ فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون } أَيْ : أنزل الله عليها ناراً أحرقتها .
{ فأصبحت كالصريم } كاللَّيل المُظلم سوداء .
{ فتنادوا مصبحين } نادى بعضهم بعضاً لمَّا أصبحوا ليخرجوا إلى الصِّرام ، وهو قوله :
{ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } قاطعين الثَّمر .
{ فانطلقوا } ذهبوا إليها { وهم يتخافتون } يتسارُّون الكلام بينهم .
ب { ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } .
{ وغدوا على حرد } قصدٍ وجدٍّ { قادرين } عند أنفسهم على ثمر الجنَّة .
{ فلما رأوها } سوداء محترقةً { قالوا إنَّا لضالون } مُخطئون طريقنا ، وليست هذه جنَّتنا ، ثمَّ علموا أنَّها عقوبةٌ من الله تعالى فقالوا :
{ بل نحن محرومون } حُرمنا ثمر جنَّتنا بمنعنا المساكين .
(1/1029)

قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
{ قال أوسطهم } أعدلهم وأفضلهم : { ألم أقل لكم لولا تسبحون } هلاَّ تستثنون ، ومعنى التَّسبيح ها هنا الاستثناء بإنْ شاء الله؛ لأنَّه تعظيمٌ لله ، وكلُّ تعظيمٍ لله فهو تسبيحٌ له .
{ قالوا سبحان ربنا } نزَّهوه عن أن يكون ظالماً ، وأقرُّوا على أنفسهم بالظُّلم فقالوا : { إنا كنا ظالمين } .
{ فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين ومنع حقهم .
{ قالوا يا ويلتنا إنا كنا طاغين } بمنع حقِّ الفقراء وترك الاستثناء .
{ عسى ربنا أن يُبْدِلَنا خيراً منها } من هذه الجنَّة { إنا إلى ربنا راغبون } .
{ كذلك العذاب } كما فعلنا بهم نفعل بمَنْ خالف أمرنا ، ثمَّ بيَّن ما عند الله للمؤمنين فقال تعالى :
{ إنَّ للمتقين عند ربهم جنات النعيم } فلمَّا نزلت قال بعض قريش : إنْ كان ما تذكرون حقَّاً فإنَّ لنا في الآخرة أكثرَ ممَّا لكم ، فنزل :
{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين } . { ما لكم كيف تحكمون } .
{ أم لكم كتاب } نزل من عند الله { فيه } ما تقولون { تدرسون } تُقرُّون ما فيه .
{ إنَّ لكم فيه } في ذلك الكتاب { لما تخيرون } تختارون .
{ أم لكم أيمان } عهودٌ ومواثيق { علينا بالغة } محكمةٌ لا ينقطع عهدها { إلى يوم القيامة إنَّ لكم لما تحكمون } تقضون . وكسرت " إنَّ " في الآيتين لمكان اللام في جوابها ، وحقُّها الفتح لو لم تكن اللام .
ف { سلهم } يا محمد { أيهم بذلك } الذي يقولون من أنَّ لهم في الآخرة حظّاَ { زعيم } كفيلٌ لهم .
{ أم لهم شركاء } آلهةٌ تكفل لهم بما يقولون { فليأتوا بشركائهم } لتكفل لهم { إن كانوا صادقين } فيما يقولون .
{ يوم يكشف عن ساق } عن شدَّةٍ من الأمر ، وهو يوم القيامة . قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : أشدُّ ساعةٍ في القيامة ، فصار كشف السَّاق عبارةً عن شدَّة الأمر { ويدعون إلى السجود } أَيْ : الكافرون والمنافقون { فلا يستطيعون } يصير ظهرهم طبقاً واحداً كلَّما أراد أن يسجد واحدٌ منهم خرَّ على قفاه .
{ خاشعة أبصارهم } ذليلةً لا يرفعونها { ترهقهم } تغشاهم { ذلَّة وقد كانوا يدعون إلى السجود } في الدُّنيا { وهم سالمون } فيأبون ولا يسجدون لله .
{ فذرني ومَنْ يكذب بهذا الحديث } دعني والمُكذِّبين بهذا القرآن ، أَيْ : كِلْهُمْ إليَّ ولا تشغل قلبك بهم ، فإنِّي أكفيك أمرهم . { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } أَيْ : نأخذهم قليلاً قليلاً ولا نباغتهم .
(1/1030)

وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{ وأملي لهم } أُمهلهم كي يزدادوا تمادياً في الشِّرك { إنَّ كيدي متين } شديدٌ لا يطاق .
{ أم تسألهم } بل أتسألهم على ما آتيتهم به من الرِّسالة { أجراً فهم من مغرم } ممَّا يعطونك { مُثقلون } .
{ أم عندهم الغيب } علم ما في غدٍ { فهم يكتبون } يحكمون . وقوله :
{ ولا تكن كصاحب الحوت } كيونس في الضَّجر والعجلة { إذ نادى } دعا ربَّه { وهو مكظوم } مملوءٌ غمَّاً .
{ لولا أن تداركه } أدركه { نعمة } رحمةٌ { من ربه لنبذ } لطرح حين ألقاه الحوت { بالعراء } بالأرض الفضاء الواسعة؛ لأنَّها خاليةٌ من البناء والإِنسان والأشجار { وهو مذموم } مجرم .
{ فاجتباه ربه } فاختاره { فجعله من الصالحين } بأن رحمه وتاب عليه .
{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } أَيْ : إنَّهم لشدَّة إبغاضهم وعداوتهم لك إذا قرأت القرآن ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد يصرعك ويسقطك عن مكانك { ويقولون إنه لمجنون } .
{ وما هو } أَيْ : القرآن { إلاّ ذكر } عظةٌ { للعالمين } .
(1/1031)

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
{ الحاقة } أَيْ : القيامة؛ لأنَّها حقَّت فلا كاذبة لها .
{ ما الحاقة } استفهامٌ معناه التَّعظيم لشأنها ، كقولك : زيدٌ ما هو؟
{ وما أدراك ما الحاقة } أَيٌّ شيء أعلمك ما ذلك اليوم؟ ثمَّ ذكر أمر مَنْ كذَّب بالقيامة ، فقال :
{ كذبت ثمود وعادٌ بالقارعة } بالقيامة التي تقرع القلوب .
{ فأمَّا ثمود فأهلكوا بالطاغية } أَيْ : بالصَّيحة الطَّاغية ، وهي التي جاوزت المقدار .
{ وأمَّا عادٌ فأهلكوا بريح صرصر عاتية } عتت على خُزَّانها فلم تُطعهم .
(1/1032)

سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
{ سخرها عليهم } استعملها عليهم كما شاء . وقوله : { حسوماً } أَيْ : دائمةً مُتتابعةً ، والمعنى : تحسمهم حسوماً ، أَيْ : تذهبهم وتفنيهم { فترى القوم } [ أيْ : أهل القرى ] { فيها } أَيْ : في تلك الأيَّام { صرعى } جمع صريعٍ { كأنهم أعجاز } أصول { نخل خاوية } ساقطةٍ .
{ فهل ترى لهم من باقية } أَيْ : هل ترى منهم باقياً .
{ وجاء فرعون ومِنْ قِبَلِه } أَيْ : تُبَّاعه . ومَنْ قرأ : { ومَنْ قَبْلَه } فمعناه : مَنْ تقدَّمه من الأمم { والمؤتفكات } أَيْ : أهل قرى قوم لوط { بالخاطئة } بالخطأ العظيم ، وهو الكفر .
{ فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } زائدةً تزيد على الأخذات .
{ إنَّا لما طغى الماء } جاوز حدَّه . يعني : أيَّام الطُّوفان { حملناكم } أَيْ : حملنا آباءكم { في الجارية } وهي السَّفينة .
{ لنجعلها } لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوحٍ وإنجاء مَنْ معه { لكم تذكرة } تتذكَّرونها فتتَّعظون بها { وتعيها أذن واعية } لتحفظها كلُّ أذنٍ تحفظ ما سمعت .
{ فإذا تفخ في الصور نفخة واحدة } أَيْ : النِّفخة الأولى لقيام السَّاعة .
{ وحملت الأرض والجبال فدكتا } كُسرتا { دكَّة واحدة } فصارت هباءً منبثاً .
(1/1033)

فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
{ فيومئذٍ وقعت الواقعة } قامت القيامة .
{ وانشقت السماء فهي يومئذٍ واهية } أَيْ : مُتَشَقِّقةٌ .
{ والملك } يعني : الملائكة { على أرجائها } نواحيها { ويحمل عرش ربك فوقهم } فوق الملائكة { يومئذٍ ثمانية } أملاك .
{ يومئذٍ تعرضون } على ربِّكم { لا تخفى منكم خافية } كقوله : { لا يخفى على الله منهم شيءٌ } { فأمَّا مَنْ أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه } خذوا فاقرؤوا كتابي ، وذلك لما يرى فيه من الحسنات .
{ إني ظننت أني ملاق حسابيه } أَيْ : أيقنت أنِّي أُحاسب .
{ فهو في عيشة راضية } ذات رضىً ، أَيْ : يرضى بها صاحبها .
(1/1034)

قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
{ قطوفها دانية } ثمارها قريبةٌ من مريدها على أيِّ حالٍ كان . يقال لهم : { كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم } قدَّمتم لآخرتكم من الأعمال الصَّالحة { في الأيام الخالية } الماضية في الدُّنيا .
(1/1035)

يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
{ يا ليتها كانت القاضية } يقول : ليت الموتة التي مُتها لم أَحْيَ بعدها .
(1/1036)

هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
{ هلك عني سلطانية } ذهب عني حجَّتي ، وزال عني ملكي وقوَّتي ، فيقول الله لخزنة جهنَّم .
{ خذوه فغلُّوه } . { ثم الجحيم صلُّوه } أدخلوه .
{ ثمَّ في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } أَيْ : أدخلوه في تلك السِّلسلة ، فتدخل في دبره وتخرج من فيه ، وهي سلسلةٌ لو جُمع حديد الدُّنيا ما وزن حلقةً منها .
(1/1037)

وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
{ ولا يحض على طعام المسكين } لا يأمر بالصَّدقة على الفقراء .
{ فليس له اليوم هاهنا حميم } قريبٌ ينفعه .
{ ولا طعام إلاَّ عن غسلين } وهو صديد أهل النَّار .
{ لا يأكله إلاَّ الخاطئون } وهم الكافرون .
{ فلا أقسم } { لا } زائدة { بما تبصرون } ما ترون من المخلوقات .
{ وما لا تبصرون } ما لا ترون منها .
{ إنه } إنَّ القرآن { لقول } لتلاوةُ { رسول كريم } على الله . يعني : محمَّداً صلوات الله عليه .
{ وما هو بقول شاعر } أَيْ : ليس هو شاعراً { قليلاً ما تؤمنون } { ما } لغوٌ مؤكِّدة .
{ ولا بقول كاهن } وهو الذي يُخبر عن المُغيَّبات من جهة النُّجوم كذباً وباطلاً ، ثمَّ بيَّن أنَّ ما يتلوه تنزيلٌ من الله تعالى ، فقال :
{ تنزيل من رب العالمين } .
{ ولو تقول علينا بعض الأقاويل } يعني : النبيَّ صلى الله عليه وسلم لو قال ما لم يُؤمر به ، وأتى بشيءٍ مِنْ قِبَل نفسه . { لأخذنا منه باليمين } { مِنْ } صلةٌ ، والمعنى : لأخذناه بالقوَّة والقدرة .
{ ثمَّ لقطعنا منه الوتين } وهو نياط القلب ، أَيْ : لأهلكناه .
{ فما منكم من أحد عنه حاجزين } أَيْ : لم يحجزنا عنه أحدٌ منكم .
(1/1038)

وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{ وإنَّه } أَيْ : القرآن { لحسرة على الكافرين } يوم القيامة إذا رأوا ثواب متابعيه .
{ وإنه لحق اليقين } أَيْ : وإنَّه اليقين حقُّ اليقين .
{ فسبح باسم ربك العظيم } نزِّهه عن السُّوء .
(1/1039)

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
{ سأل سائل } دعا داعٍ { بعذاب واقع } .
{ للكافرين } على الكافرين ، وهو النَّضر بن الحارث حين قال : { اللَّهم إن كانَ هذا هو الحقَّ من عندكَ } الآية . { ليس له دافع } ليس لذلك العذاب الذي يقع بهم دافعٌ .
{ من الله } أَيْ : ذلك العذاب يقع بهم من الله { ذي المعارج } ذي السَّموات .
{ تعرج الملائكة والروح } يعني : جبريل عليه السَّلام { إليه } إلى محل قربته وكرامته ، وهو السَّماء { في يوم } { في } صلةُ " واقعٍ " ، أَيْ : عذابٌ واقعٌ في يومٍ { كان مقداره خمسين ألف سنة } وهو يوم القيامة .
{ فاصبر صبراً جميلاً } وهذا قبل أن أُمر بالقتال . { إنهم } يعني : المشركين { يرونه } يرون ذلك اليوم { بعيداً } مُحالاً لا يكون .
{ ونراه قريباً } لأنَّ ما هو آتٍ قريبٌ ، ثمَّ ذكر متى يكون ذلك اليوم فقال :
{ يوم تكون السماء كالمهل } كدرديِّ الزَّيت . وقيل : كالقار المُذاب ، وقد مَّر هذا .
{ وتكون الجبال } : [ الجواهر . وقيل : الذَّهب والفضَّة والنُّحاس ] { كالعهن } كالصُّوف المصبوغ .
{ ولا يسأل حميم حميماً } لا يسأل قريبٌ عن قريبٍ لاشتغاله بما هو فيه .
{ يبصرونهم } يُعرَّف بعضهم بعضاً ، أَيْ : إنَّ الحميم يرى حميمه ويعرفه ، ولا يسأل عن شأنه . { يودُّ المجرم } يتمنَّى الكافر { لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه } .
{ وصاحبته } وزوجته { وأخيه } .
{ وفصيلته } عشيرته التي فُصِلَ منها { التي تؤويه } تضمُّه إليها في النَّسب .
(1/1040)

وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
{ ومَنْ في الأرض جميعاً ثم ينجيه } ذلك الافتداء .
{ كلا } ليس الأمر كذلك ، لا ينجيه شيءٌ . { إنها لظى } وهي من أسماء جهنَّم .
{ نزاعة للشوى } يعني : جلود الرَّأس تقشيرها عنه .
{ تدعو } الكافر باسمه والمنافق ، فتقول : إليَّ إليَّ يا { مَنْ أدبر } عن الإِيمان { وتولى } أعرض .
{ وجمع } المال { فأوعى } فأمسكه في وعائه ، ولم يُؤدِّ حقَّ الله منه .
{ إنَّ الإِنسان خُلق هلوعاً } وتفسير الهلوع ما ذكره في قوله :
{ إذا مسَّه الشر جزوعاً } يجزع من الشَّرِّ ولا يستمسك .
{ وإذا مسَّه الخير منوعاً } إذا أصاب المال منع حقَّ الله .
{ إلاَّ المصلين } أَيْ : المؤمنين .
{ الذين هم على صلاتهم دائمون } لا يلتفتون في الصَّلاة عن سمت القبلة .
(1/1041)

وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
{ والذين هم بشهاداتهم قائمون } يقيمونها ولا يكتمونها .
(1/1042)

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{ فما للذين كفروا } ما بالهم { قبلك مهطعين } يُديمون النَّظر إليك ، ويتطلّعون نحوك .
{ عن اليمين وعن الشمال } عن جوانبك { عزين } جماعاتٍ حلقاً حلقاً ، وذلك أنَّهم كانوا يجتمعون عنده ، ويستهزئون به وبأصحابه ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنَّة فلندخلنَّها قبلهم . قال الله تعالى :
{ أيطمع كلُّ امرىءٍ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا } لا يدخلونها . { إنا خلقناهم مما يعلمون } من ترابٍ ومن نطفةٍ ، فلا يستوجب أحدٌ الجنة بشرفه وماله؛ لأنَّ الخلق كلَّهم من أصلٍ واحدٍ ، بل يستوجبونها بالطَّاعة .
{ فلا أقسم } " لا " صلة . يعني : أُقسم . وقوله :
{ وما نحن بمسبوقين } أَيْ : بمغلوبين ، نظيره قد تقدَّم في سورة الواقعة .
{ فذرهم يخوضوا } في باطلهم { ويلعبوا } في دنياهم { حتى يُلاقوا يومهم الذي يوعدون } نسختها آية القتال .
{ يوم يخرجون من الأجداث } القبور { سراعاً كأنهم إلى نصب } إلى شيءٍ منصوبٍ من علمٍ أو رايةٍ { يوفضون } يُسرعون .
{ خاشعة أبصارهم } ذليلةً خاضعةً لا يرفعونها لذلَّتهم { ترهقهم ذلة } يغشاهم هوان { ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } يعني : يوم القيامة .
(1/1043)

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
{ إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك } أَيْ : بأن خوِّفهم عذاب الله { من قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم } .
{ قال يا قوم إني لكم نذير مبين } . { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } .
{ يغفر لكم من ذنوبكم } { مِنْ } صلة { ويؤخركم } عن العذاب { إلى أجل مسمىً } وهو أجل الموت ، فتموتوا غيرَ ميتة مَنْ يهلك بالعذاب { إنَّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر } إذا جاء الأجل في الموت لا يُؤخَّر { لو كنتم تعلمون } ذلك .
(1/1044)

فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
{ إلاَّ فراراً } أَيْ : نفاراً عن طاعتك وإدباراً عني .
{ وإني كلما دعوتهم } إلى الإِيمان بك { لتغفر لهم } ما قد سلف من ذنوبهم { جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا صوتي { واستغشوا ثيابهم } غطُّوا بها وجوههم مبالغةً في الإِعراض عني كيلا يروني { وأصروا } أَقاموا على كفرهم { واستكبروا } عن اتِّباعي { استكباراً } لأنَّهم قالوا : { أَنؤمنُ لك واتَّبعكَ الأَرْذَلون } { ثم إني دعوتهم جهاراً } أظهرتُ لهم الدَّعوة .
{ ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً } أَيْ : خلطتُ دعاءَهم العلانيَة بدعاءِ السِّرِّ .
{ فقلت استغفروا ربكم إنه غفاراً } . { يرسل السماء عليكم مدراراً } .
{ ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } وذلك أنَّهم لما كذَّبوه حبس الله عنهم المطر وأعقم نساءَهم ، فهلكت أموالهم ومواشيهم ، فوعدهم نوحٌ إنْ آمنوا أَنْ يردَّ الله عليهم ذلك ، فقال : { يرسل السماء عليكم مدراراً } كثيرة الدرِّ ، أَيْ : كثيرة المطر ، { ويمددكم بأموالٍ وبنين } : يعطكم زينة الدُّنيا ، وهي المال والبنون .
{ ما لكم لا تَرْجُون لله وقاراً } لا تخافون لله عظمةً .
{ وقد خلقكم أطواراً } حالاً بعد حالٍ . نطفةً ، ثمَّ علقةً ، ثمَّ مضغةً ، إلى تمام الخلق .
(1/1045)

أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
{ ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً } بعضها فوق بعض .
{ وجعل القمر فيهن نوراً } أَيْ : في إحداهنَّ { وجعل الشمس سراجاً } تُضِيءُ لأهل الأرض .
{ والله أنبتكم من الأرض نباتاً } جعلكم تنبتون من الأرض نباتاً ، وذلك أنَّه خلق آدم من الأرض وأولاده [ أحياءً ] منه .
{ ثم يعيدكم فيها } أمواتاً { ويخرجكم } منها إخراجاً . وقوله :
(1/1046)

لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{ سبلاً فجاجاً } أَيْ : طرقاً بيِّنةً . وقوله :
{ واتبعوا مَنْ لم يزده ماله وولده إلاَّ خساراً } أَيْ : اتَّبعوا أشرافهم الذين لا يزيدون بإنعام الله تعالى عليهم بالمال والولد إلاَّ طغياناً وكفراً .
{ ومكروا مكراً كباراً } أفسدوا في الأرض فساداً عظيماً بالكفر وتكذيب الرُّسل .
{ وقالو } لسفلتهم : { لا تذرنَّ آلهتكم ولا تَذَرُنَّ ودَّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } وفي أسماء أوثانهم .
{ وقد أضلوا كثيراً } أَيْ : ضلَّ كثيرٌ من النَّاس بسببها ، كقوله : { إنهنَّ أضللْنَ كثيراً من النَّاس } { ولا تزد الظالمين إلاَّ ضلالاً } دعاءٌ من نوحٍ عليهم بأن يزيدهم الله ضلالاً ، وذلك أن الله تعالى أخبره أنه لن يؤمن من قومه إلاَّ من قد آمن ، فلما أيس نوح من إيمانهم دعا عليهم بالضَّلال والهلاك . قال الله تعالى :
{ ممَّا خطيئاتهم } { ما } صلة ، أَيْ : مِن خطيئاتهم التي ارتكبوها { أغرقوا } بالطُّوفان { فأدخلوا ناراً } بعد الغرق ، أَيْ : أُدخلوا جهنَّم { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً } لم يجدوا مَنْ يمنعهم من عذاب الله .
{ وقال نوحٌ ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديَّاراً } أَيْ : نازل دار ، أَيْ : أحداً .
{ إنك إن تذرهم } فلا تهلكهم { يضلوا عبادك } بدعوتهم إلى الضَّلال { ولا يلدوا إلاَّ فاجراً كفاراً } إلاَّ مَنْ يفجر ويكفر ، وذلك أنَّ الله أخبره أنَّهم لا يلدون مؤمناً .
{ ربِّ اغفر لي ولوالدي } وكانا مؤمنين { ولمن دخل بيتي } مسجدي { مؤمناً للمؤمنين والمؤمنات } إلى يوم القيامة { ولا تزد الظالمين إلاَّ تباراً } هلاكاً ودماراً .
(1/1047)

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
{ قل أوحي إليَّ } أَيْ : أُخبرت بالوحي من الله إليَّ { أنَّه استمع نفرٌ من الجن } وذلك أنَّ الله تعالى بعث نفراً من الجنِّ ليَستمعوا قراءة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي الصُّبح ببطن نخلة ، وهؤلاء الذين ذكرهم الله في سورة الأحقاف في قوله : { وإذ صرفنا إليك نفراً . . . . } الآية . فلما رجعوا إلى قومهم قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً } في فصاحته وبيانه وصدق إخباره .
(1/1048)

وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
{ وأنَّه تعالى جدُّ ربنا } أي : جلاله وعظمته عن أن يتَّخذ ولداً أو صاحبة .
{ وأنَّه كان يقول سفيهنا } جاهلنا { على الله شططاً } غلوَّاً في الكذب حتى يصفه بالولد والصاحبة .
{ وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً } أي : كنَّا نظنُّهم صادقين في أنَّ لله صاحبةً وولداً حتى سمعنا القرآن ، وكنَّا نظنُّ أنَّ أحداً لا يكذب على الله . انقطع هاهنا قول الجن . قال الله تعالى :
{ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } وذلك أنَّ الرَّجل في الجاهليَّة كان إذا سافر فأمسى في الأرض القفر . قال : أعوذ بسيِّد هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه ، أَي : الجنِّ . يقول الله : { فزادوهم رهقاً } أَيْ : فزادوهم بهذا التَّعوُّذ طغياناً ، وذلك أنَّهم قالوا : سُدْنا الجنَّ والإِنس .
{ وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً } يقول : ظنَّ الجنُّ كما ظننتم أيُّها الإِنس أن لا بعث يوم القيامة ، وقالت الجنُّ :
{ وأنا لمسنا السماء } أَي : رُمْنَا استراق السَّمع فيها { فوجدناها ملئت حرساً شديداً } من الملائكة { وشهباً } من النُّجوم . يريدون : حُرست بالنُّجوم من استماعنا .
{ وأنا كنَّا } قبل ذلك { نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } أي : كواكب حفظةً تمنع من الاستماع .
{ وأنَّا لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض } بحدوث رجم الكواكب { أم أراد بهم ربهم رشداً } أَيْ : خيراً .
{ وأنا منا الصالحون } بعد استماع القرآن ، أَيْ : بررةٌ أتقياءُ { ومنا دون ذلك } دون البررة { كنا طرائق قدداً } أَيْ : أصنافاً مختلفين .
(1/1049)

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
{ وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض } علمنا أن لا نفوته إِنْ أراد بنا أمراً { ولن نعجزه هرباً } إِنْ طلبنا . وقوله :
{ فلا يخاف بَخْساً } أَيْ : نقصاً { ولا رهقاً } أَيْ : ظلماً ، والمعنى : لا نخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يُزاد في سيئاته .
{ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } الجائرون عن الحقّ { فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً } قصدوا طريق الحقّ .
(1/1050)

وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
{ وأن لو استقاموا على الطريقة } لو آمنوا جميعاً ، أَي : الخلق كلُّهم أجمعون الجنُّ والإِنس { لأسقيناهم ماءً غدقاً } لوسَّعنا عليهم في الدُّنيا ، وضرب المثل بالماء لأنَّ الخير كلَّه والرِّزق بالمطر ، وهذا كقوله تعالى : { ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا . . . . } الآية .
{ لِنَفْتنهم فيه } لنختبرهم فنرى كيف شكرهم { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه } يدخله { عذاباً صعداً } شاقاً .
{ وأنَّ المساجد لله } يعني : المواضع التي يُصلَّى فيها . وقيل : الأعضاء التي يسجد عليها . وقيل : يعني : إنَّ السَّجدات لله ، جمع مسجد بمعنى السُّجود { فلا تدعوا مع الله أحداً } أمرٌ بالتَّوحيد لله تعالى في الصَّلاة .
{ وإنه لما قام عبد الله يدعوه } أي : النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قام ببطن نخلة يدعو الله { كادوا يكونون عليه } كاد الجنُّ يتراكبون ويزدحمون حرصاً على ما يسمعون ، ورغبةً فيه .
(1/1051)

قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
{ ولن أجد من دونه ملتحداً } أَيْ : ملجأً .
{ إلاَّ بلاغاً من الله ورسالاته } لكن أُبلِّغ عن الله ما أُرسلت به ، ولا أملك الكفر والإِيمان وهو قوله : { لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً } . وقوله :
{ حتى إذا رأوا } أي : الكفَّار { ما يوعدون } من العذاب والنَّار { فسيعلمون } حينئذٍ { مَنْ أضعف ناصراً } أنا أو هم { وأقل عدداً } .
{ قل إن أدري } ما أدري { أقريب ما توعدون } من العذاب { أم يجعل له ربي أمداً } أجلاً وغايةً .
{ عالم الغيب } أي : هو عالم الغيب { فلا يظهر } فلا يُطلع على ما غيَّبه عن العباد { أحداً } .
{ إلاَّ من ارتضى } اصطفى { من رسول } فإنَّه يُطلعه على ما يشاء من الغيب معجزةً له { فإنَّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } أي : يجعل من جميع جوانبه رصداً من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشَّياطين ، فتلقيه إلى الكهنة ، فيساوون الأنبياء .
{ ليعلم } الله { أن قد أبلغوا رسالات ربهم } أي : ليُبلِّغوا رسالات ربِّهم ، فإذا بلَّغوا علم الله ذلك ، فصار كقوله : { ولمَّا يعلمِ اللَّهُ الذين جاهدوا منكم } أي : ولمَّا يجاهدوا . { وأحاط بما لديهم } علم الله ما عندهم { وأحصى كلَّ شيء عدداً } أي : علم عدد كلِّ شيء فلم يخف عليه شيءٌ .
(1/1052)

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
{ يا أيها المزمل } أي : المُتَلفِّف بثيابه . نزل هذا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو مُتلَفِّفٌ بقطيفةٍ .
{ قم الليل إلاَّ قليلاً } أي : صلِّ [ كلَّ ] اللَّيلِ إلاَّ شيئاً يسيراً تنام فيه ، وهو الثُّلث ، ثمَّ قال :
{ نصفه } أَيْ : قم نصفه { أو انقص منه } من النِّصف { قليلاً } إلى الثُّلث .
{ أو زد عليه } على النِّصف إلى الثُّلثين ، جعل له سعةً في مدَّة قيامه في اللَّيل ، فكأنَّه قال : قم ثلثي اللَّيل أو نصفه أو ثلثه ، فلمَّا نزلت هذه الآية أخذ المسلمون أنفسهم بالقيام على هذه المقادير ، وشقَّ ذلك عليهم؛ لأنَّهم لم يمكنهم أن يحفظوا هذه المقادير ، وكانوا يقومون اللَّيل كلَّه انتفخت أقدامهم ، ثمَّ خفَّف الله عنهم بآخر هذه السُّورة ، وهو قوله : { إنَّ ربك يعلمُ أنَّك تقوم . . . } الآية ، ثمَّ نسخ قيام اللَّيل بالصَّلوات الخمس ، وكان هذا في صدر الإِسلام . وقوله :
{ ورتل القرآن ترتيلاً } أَي : بيِّنه تبييناً بعضُه على إثر بعضٍ في تُؤّدةٍ .
{ قولاً ثقيلاً } رصيناً رزيناً ، ليس بالسفساف والخفيف؛ لأنَّه كلام الله .
{ إنَّ ناشئة الليل } ساعاته { هي أشد وطأ } أثقلُ على المُصلِّين من ساعات النَّهار ، ومَنْ قرأ : " وِطاء " فمعناه : أشدُّ موافقةً بين القلب والسَّمع والبصر واللِّسان؛ لأنَّ اللَّيل تهدأ فيه الأصوات ، وتنقطع الحركات ، ولا تحول دون تسمُّعه وتفهُّمه شيءٌ . { وأقوم قيلاً } وأصوب قراءةً .
{ إنَّ لك في النهار سبحاً طويلاً } أَيْ : تصرُّفاً في حوائجك إقبالاً وإدباراً ، وهذا حثٌ على القيام باللَّيل لقراءة القرآن .
{ واذكر اسم ربك } بالتَّعظيم والتَّنزيه { وتبتل إليه تبتيلاً } وانقطع إليه في العبادة . وقوله :
{ فاتخذوه وكيلاً } أَيْ : قيِّماً بأمورك مُفوَّضاً إليه .
{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً } وهو أن لا تتعرَّض لهم ولا تشتغل بمكافآتهم ، وهذه الآية نسختها آية القتال .
(1/1053)

وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{ وذرني والمكذبين } لا تهتمَّ لشأنهم فإني أكفيكهم ، يعني : رؤساء المشركين ، كقوله : { فذرني ومَنْ يُكذِّب بهذا الحديث } وقد مرَّ . { أولي النعمة } ذوي التَّنعُّم والتًَّرفُّه { ومهِّلهم قليلاًَ } يعني : إلى مدَّة آجالهم .
{ إنَّ لدينا } يعني : في الآخرة { أنكالاً } قيوداً { وجحيماً } ناراً عظيمةً .
{ وطعاماً ذا غُصَّةٍ } يغصُّ في الحلوق ولا يسوغ ، وهو الغِسلين والضَّريع والزَّقُّوم .
{ يوم ترجف الأرض والجبال } تضطرب وتتحرَّك { وكانت الجبال كثيباً مهيلاً } رملاً سائلاً .
{ إنا أرسلنا إليكم رسولاً } محمداً صلى الله عليه وسلم { شاهداً عليكم } يشهد عليكم يوم القيامة بما فعلتم . وقوله :
{ فأخذناه أخذاً وبيلاً } ثقيلاً غليظاً .
{ فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً } أَيْ : فكيف تتحصَّنون من عذاب يومٍ يشيب الطِّفل لهوله وشدَّته إن كفرتم اليوم في الدُّنيا .
{ السماء منفطر به } متشقِّق في ذلك اليوم .
{ إنَّ هذه } الآيات { تذكرة } تذكيرٌ للخلق { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } بالطَّاعة والإِيمان .
{ إنَّ ربك يعلم أنك تقوم } للصَّلاة والقراءة { أدنى } أقلَّ { من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } أي : وتقوم نصفه وثلثه { وطائفة من الذين معك ، والله يقدِّر الليل والنهار } فيعلم مقادير أوقاتهما { علم أن لن تحصوه } لن تُطيقوا قيام اللَّيل { فتاب عليكم } رجع لكم إلى التَّخفيف { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } رخَّص لهم أن يقوموا ، فيقرؤوا ما أمكن وخفَّ بغير مقدارٍ معلومٍ من القراءة والمُدَّة . { علم أن سيكون منكم مرضى } فيثقل عليهم قيام اللَّيل ، وكذلك المسافرون للتِّجارة والجهاد ، وهو قوله : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } يريد : أنَّه خفف قيام اللَّيل لما علم من ثقله على هؤلاء { فاقرؤوا ما تيسر منه } قال المُفسِّرون : وكان هذا في صدر الإِسلام ، ثمَّ نُسخ بالصَّلوات الخمس ، وقوله : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً } مما خلَّفتم وتركتم . { واستغفروا الله إن الله غفور } [ لذنوب المؤمنين { رحيم } بهم ] .
(1/1054)

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
{ يا أيها المدثر } [ أي : المدثِّر ] في ثوبه .
{ قم فأنذر } النَّاس .
{ وربك فكبر } فصفه بالتَّعظيم .
{ وثيابك فطهر } لا تلبسها على معصيةٍ ولا على غدر؛ فإنَّ الغادر والفاجر يُسمَّى دنس الثِّياب .
{ والرجز فاهجر } أي : الأوثان فاهجر [ عبادتها ] ، وكذلك كلَّ ما يؤدي إلى العذاب .
(1/1055)

وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
{ ولا تمنن تستكثر } لا تُعطِ شيئاً لتأخذَ أكثر منه ، وهذا خاصَّة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّه مأمورٌ بأجلِّ الأخلاق ، وأشرفِ الآداب .
{ ولربك فاصبر } اصبر لله على أوامره ونواهيه وما يمتحنك به حتى يَكون هو الذي يُثيبك عليها .
{ فإذا نقر في الناقور } نُفخ في الصُّور . الآية . وقوله :
(1/1056)

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
{ ذرني ومن خلقت وحيداً } أَيْ : لا تهتمَّ لشأنه فإني أكفيك أمره ، أَي : الوليد بن المغيرة ، يقول : خلقته وحيداً لا ولد له ولا مال .
{ وجعلت له مالاً ممدوداً } دائماً لا ينقطع عنه من الزَّرع والضَّرع والتّجارة .
{ وبنين شهوداً } حضوراً معه بمكَّة ، وكانوا عشرةً .
{ ومهدت له تمهيداً } بسطت له في العيش والمال بسطاً .
{ ثم يطمع أن أزيد } يرجو أن أزيده مالاً وولداً .
{ كلا } قطعٌ لرجائه { إنَّه كان لآياتنا عنيداً } للقرآنِ معانداُ غير مطيعٍ .
{ سأرهقه صعوداً } سأغشيه مشقَّةً من العذاب .
{ إنَّه فكر وقدَّر } وذلك أنَّ قريشاً سألته ما تقول في محمَّد؟ فتفكَّر في نفسه وقدَّر القول في محمَّد عليه السَّلام والقرآن ماذا يمكنه أن يقول فيهما .
{ فقتل } لُعن وعُذِّب { كيف قدَّر } ؟ استفهامٌ على طريق التَّعجُّب .
(1/1057)

ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)
{ ثم نظر } . { ثم عبس وبسر } كلح وجهه .
{ ثمَّ أدبر واستكبر } عن الإِيمان .
{ فقال إن هذا } ما هذا الذي يقرؤه محمد { إلاَّ سحرٌ يؤثر } يُروى عن السَّحرة .
{ إن هذا إلاَّ قول البشر } كما قالوا : { إنَّما يُعلِّمه بشرٌ } قال الله تعالى :
{ سأصليه سقر } سأُدخله جهنَّم ، ثمَّ أعلم عظم شأن سقر من العذاب ، فقال :
{ وما أدراك ما سقر } ما أعلمك أيُّ شيءٍ سقر . !
(1/1058)

لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
{ لواحة للبشر } محرّقةٌ للجلد حتى تُسوِّده .
{ عليها تسعة عشر } من الخزنة ، الواحدة منهم يدفع بالدُّفعة الواحدة في جهنَّم أكثر من ربيعة ومضر ، فلمَّا نزلت هذه الآية قال بعض المشركين : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، فاكفوني اثنين ، فأنزل الله :
{ وما جعلنا أصحاب النار إلاَّ ملائكة } لا رجالاً ، فمن ذا يغلب الملائكة؟ { وما جعلنا عدتهم } عددهم في القلَّة { إلاَّ فتنة للذين كفروا } لأنَّهم قالوا : ما أعوان محمَّدٍ إلاَّ تسعة عشر { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } ليعلموا أنَّ ما أتى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم موافقٌ لما في كتبهم { ويزداد الذين آمنوا } لأنَّهم يُصدِّقون بما أتى به الرَّسول عليه السَّلام ، وبعدد خزنة النَّار { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } أَيْ : لا يشكُّون في أنَّ عددهم على ما أخبر به محمد عليه السَّلام { وليقول الذين في قلوبهم مرض } شكٌّ { والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلاً } أيُّ : شيءٍ أراد الله بهذا العدد وتخصيصه؟ { كذلك } كما أضلَّهم الله بتكذيبهم { يضلُّ الله مَنْ يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلاَّ هو } هذا جوابٌ لقولهم : ما أعوانه إلاَّ تسعة عشر { وما هي } أي : النَّار { إلاَّ ذكرى للبشر } أَيْ : إنَّها تُذكِّرهم في الدُّنيا النّار في الآخرة .
{ كلا } ليس الأمر على ما ذكروا من التَّكذيب له { والقمرِ } قسمٌ .
{ والليل إذ أدبر } جاء بعد النَّهار .
{ والصبح إذا أسفر } أضاء .
{ إنها لإِحدى الكبر } إنَّ سقر لإِِحدى الأمور العظام .
{ نذيراً } إنذاراً { للبشر } .
{ لمن شاء منكم أن يتقدَّم } فيما أُمِرَ به { أو يتأخر } عنه ، فقد أُنذرتم .
{ كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينةٌ } مأخوذةٌ بعملها .
{ إلاَّ أصحاب اليمين } يعني : أهل الجنَّة فهم لا يُرتهنون بذنوبهم ، ولكنَّ الله يغفرها لهم . وقيل : أصحاب اليمين ها هنا أطفال المسلمين .
(1/1059)

مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
{ ما سلككم في سقر } أَيْ : ما أدخلكم جهنَّم؟
(1/1060)

وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
{ وكنا نخوض مع الخائضين } ندخل الباطل مع مَنْ دخله .
{ وكنا نكذب بيوم الدين } بيوم الجزاء .
{ حتى أتانا اليقين } الموت .
(1/1061)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{ فما لهم عن التذكرة معرضين } ما لهم يُعرضون عن تذكيرك إيَّاهم .
{ كأنَّهم حمر مستنفرة } نافرةٌ مذعورة .
{ فرَّت من قسورة } أي : الأسد . وقيل : الرُّماة الصَّيَّادون .
{ بل يريد كلُّ امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منتشرة } وذلك أنَّهم قالوا : إنْ سرَّك أن نتَّبعك فأت كلَّ واحدٍ منا بكتابٍ من ربِّ العالمين نؤمر فيه باتِّباعك ، كما قالوا : { لن نُؤمنَ لرقيِّك حتى تنزِّلَ علينا كتاباً نقرؤه . . . } الآية .
{ كلا } ردٌّ لما قالوا { بل لا يخافون الآخرة } حيث يقترحون أن يُؤتوا صحفاً منشرة .
{ كلا إنه تذكرة } إنَّ القرآن تذكيرٌ للخلق ، وليس بسحرٍ .
{ فمن شاء ذكره } .
{ وما يذكرون إلاَّ أن يشاء الله هو أهل التقوى } أهلٌ أن يُتَّقى عقابه { وأهل المغفرة } أهلٌ أنْ يعمل بما يُؤدِّي إلى مغفرته .
(1/1062)

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
{ لا أقسم } " لا " صلةٌ ، معناه : أقسم ، وقيل : " لا " ردٌّ لإِنكار المشركين البعث ، ثمّ قال : أقسم { بيوم القيامة } .
{ ولا أقسم بالنفس اللوامة } وهي نفس ابن آدم تلومه يوم القيامة إنْ كان عمل شرَّاً لِمَ عمله ، وإنْ كان عمل خيراً لأمته على ترك الاستكثار منه ، وجواب هذا القسم مضمرٌ على تقدير : إنَّكم مبعوثون ، ودلَّ عليه ما بعده من الكلام ، وهو قوله :
{ أيحسب الإِنسان } أي : الكافر { أن لن نجمع عظامه } للبعث والإِحياء بعد التَّفرقة والبلى!
{ بلى قادرين } بلى نقدر على جمعها و { على أن نسوي بنانه } نجعله كخفِّ البعير ، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً ، وقيل : نُسوِّي بنانه على ما كانت وإنْ دقَّت عظامها وصغرت .
{ بل يريد الإِنسان ليفجر أمامه } يُؤخِّر التَّوبة ويمضي في معاصي الله تعالى قُدُماً قُدُماً ، فيقدّم الأعمال السَّيِّئة . وقيل : معناه ليكفر بما قدَّامه ، يدلُّ على هذا قوله : { يسأل أيان . . . } .
(1/1063)

يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
{ يسأل أيان } متى { يوم القيامة } تكذيباً به واستبعاداً لوقوعه .
{ فإذا برق البصر } فزع وتحيَّر .
{ وخسف القمر } أظلم وذهب ضوءه .
{ وجمع الشمس والقمر } أَيْ : جُمعا في ذهاب نورهما .
{ يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر } أَي : الفرار؟
{ كلا } لا مفرَّ ذلك اليوم و { لا وزر } ولا ملجأ ولا حِرز .
{ إلى ربك يومئذٍ المستقر } المنتهى والمصير .
{ ينبأ الإِنسان } يُخبر { بما قدَّم وأخر } بأوَّل عمله وآخره .
{ بل الإِنسان على نفسه بصيرة } أَيْ : شاهدٌ عليها بعملها ، يشهد عليه جوارحه ، وأُدخلت الهاء في البصيرة للمبالغة . وقيل : لأنَّه أراد بالإِنسان الجوارح .
{ ولو ألقى معاذيره } ولو اعتذر وجادل فعليه من نفسه من يُكذِّب عذره ، وقيل : معناه : ولو أرخى السُّتور وأغلق الأبواب ، والمِعذار : السِّتر بلغة اليمين .
{ لا تحرّك به } بالوحي { لسانك لتعجل به } كان جبريل عليه السَّلام إذا نزل بالقرآن تلاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل فراغ جبريل كراهيةَ أن ينفلت منه ، فأعلم الله تعالى أنَّه لا يُنسيه إيَّاه ، وأنَّه يجمعه في قلبه .
(1/1064)

إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
{ إنَّ علينا جمعه وقرآنه } قراءته عليك حتى تعيه .
{ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } أَي : لا تعجل بالتِّلاوة إلى أن يقرأ عليك .
{ ثم إنَّ علينا بيانه } أَيْ : علينا أن ننزِّله قرآناً فيه بيانٌ للنَّاس .
{ كلا } زجرٌ وتنبيهٌ . { بل تحبون العاجلة } .
{ وتذرون الآخرة } أي : تختارون الدُّنيا على العقبى .
{ وجوهٌ يومئذٍ } يوم القيامة { ناضرة } مُضِيئةٌ حسنةٌ . { إلى ربها ناظرة } تنظر إلى خالقها عياناً .
{ ووجوه يومئذ باسرة } كالحةٌ .
{ تظن } توقن { أن يفعل بها فاقرة } داهيةٌ عظيمةٌ من العذاب .
{ كلا إذا بلغت التراقي } يعني : النَّفس . بلغت عظام الحلق .
{ وقيل مَنْ راق } مال مَنْ حضر ذلك الذي قارب الموت : هل من طبيبٍ يداويه ، وراقٍ يرقيه فيشفى برقيته؟
{ وظن } أيقن الذي نزل به الموت { أنَّه الفراق } من الدُّنيا والأهل والمال .
{ والتفت الساق بالساق } التفَّت ساقاه لشدَّة النَّزع . وقيل : تتابعت عليه الشَّدائد .
(1/1065)

إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{ إلى ربك يومئذ المساق } المنتهى والمرجع بسوق الملائكة الرُّوح إلى حيث أمر الله سبحانه .
{ فلا صدَّق ولا صلى } يعني : أبا جهلٍ لعنه الله .
{ ولكن كذب وتولى } عن الإِيمان .
{ ثمَّ ذهب إلى أهله يتمطى } يتبختر .
{ أولى لك فأولى } . { ثم أولى لك فأولى } هذا تهديدٌ ووعيدٌ له ، والمعنى : وليك المكروه يا أبا أجهل ، [ أي : لزمك المكروه ] .
{ أيحسب الإنسان أن يترك سدى } مُهملاً غير مأمورٍ ولا منهيٍّ .
{ ألم يك نطفة من مني يمنى } يصبُّ في الرَّحم .
{ ثمَّ كان علقة فخلق فسوى } فخلقه الله فسوَّى خلقه ، حتى صار إنساناً بعد أن كان علقةً .
{ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } فخلق من الإِنسان صنفين الرَّجل والمرأة .
{ أليس ذلك } الذي فعل هذا { بقادر على أن يحيي الموتى } ؟ [ بلى ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير ] .
(1/1066)

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
{ هل أتى على الإنسان } قد أتى على آدم { حين من الدَّهر } أربعون سنةً { لم يكن شيئاً مذكوراً } لأنَّه كان جسداً مُصوَّراً من طينٍ ، لا يُذكر ولا يُعرف ، ويجوز أن يريد جميع النَّاس ، لأنَّ كلَّ أحدٍ يكون عدماً إلى أَنْ يصير شيئاً مذكوراً .
{ إنا خلقنا الإِنسان } يعني : ابن آدم { من نطفة أمشاج } أخلاطٍ ، يعني : ماء الرَّجل وماء المرأة واختلاف ألوانهما { نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } أَيْ : خلقناه كذلك لنختبره بالتَّكليف والأمر والنَّهي .
{ إنَّا هديناه السبيل } بيَّنا له الطَّريق { إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً } إنْ شكر أو كفر ، يعني : أعذرنا إليه في بيان الطَّريق ببعث الرَّسول آمن أو كفر .
(1/1067)

إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
{ إنَّ الأبرار } المُطيعين لربِّهم . { يشربون من كأس } إناءٍ فيه شرابٌ { كان مزاجها كافوراً } يُمزج لهم بالكافور .
{ عيناً } من عينٍ { يشرب بها } بتلك العين { عباد الله يفجرونها تفجيراً } يقودونها حيث شاؤوا من منازلهم .
{ يوفون بالنذر } إذا نذروا في طاعة الله وفوا به { ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً } منتشراً فاشياً .
{ ويطعمون الطعام على حبّه } على قلَّته وحبِّهم إيَّاه { مسكيناً } فقيراً { ويتيماً } لا أب له { وأسيراً } أي : المملوك والمحبوس في حقٍّ من المسلمين ، ويقولون لهم :
{ إنما نطعمكم لوجه الله } لطلب ثواب الله { لا نريد منكم } بما نُطعمكم { جزاءً } مكافأةً منكم { لا شكوراً } شكراً .
{ إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً } كريه المنظر لشدَّته { قمطريراً } صعباً شديداً طويل الشَّر .
{ فوقاهم الله شرَّ ذلك اليوم } الذي يخافون { ولقَّاهم نضرة } [ ضياءً ] في وجوههم { وسروراً } في قلوبهم .
{ وجزاهم بما صبروا } على طاعة الله وعن معصيته { جنة وحريراً } .
{ متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } حرَّاً ولا برداً ، صيفاً ولا شتاءً .
(1/1068)

وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
{ ودانية عليهم ظلالُها } أَيْ : قريبةً منهم ظلال أشجارها { وذللت قطوفها تذليلاً } أُدنيت منهم ثمارها ، فهم ينالونها قعوداً كانوا أو قياماً .
{ ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا } أَيْ : لها بياض الفضَّة وصفاء القوارير وهو قوله :
{ قوارير من فضة قدروها تقديراً } أي : جُعلت الأكواب على قدر رِيِّهِمْ ، وهو ألذُّ الشَّراب .
{ ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً } والزَّنجبيل : شيءٌ تستلذُّه العرب ، فوعدهم الله ذلك في الجنَّة .
{ عيناً } من عينٍ { فيها } في الجنَّة { تسمى } تلك العين { سلسبيلاً }
{ ويطوف عليهم ولدان } أي : غلمانٌ { مخلَّدون } لا يشيبون { إذا رأيتهم حسبتهم } في بياضهم وصفاء ألوانهم { لؤلؤاً منثوراً } .
{ وإذا رأيت ثمَّ } إذا رميت ببصرك في الجنَّة { رأيت نعيماً وملكاً كبيراً } وهو أنَّ أدناهم منزلاً ينظر في ملكه في مسيرة ألف عامٍ .
{ عاليهم } فوقهم { ثياب سندس } أي : الحرير . وقوله : { شراباً طهوراً } طاهراً من الأقذاء والأقذار ، ليس بنجس كخمر الدُّنيا .
(1/1069)

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
{ ولا تطع منهم آثماً } يعني : عتبة بن ربيعة { أو كفوراً } يعني : الوليد بن المغيرة ، وذلك أنَّهما ضمنا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم المال والتَّزويج إِنْ ترك دعوتهم إلى الإِسلام .
(1/1070)

إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{ إنَّ هؤلاء يحبُّون العاجلة } يعني : الدُّنيا { ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } ويتركون العمل ليومٍ شديدٍ أمامهم ، وهو يوم القيامة .
{ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } خلقهم وخلق مفاصلهم .
{ إنَّ هذه } السُّورة { تذكرة } تذكيرٌ للخلق { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } وسيلةً بالطَّاعة .
{ وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله } أَيْ : لستم تشاؤون شيئاً إلاَّ بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ الأمر إليه .
{ يدخل من يشاء في رحمته } جنَّته ، وهم المؤمنون ، { والظالمين } الكافرين الذين عبدوا غيره { أعدَّ لهم عذاباً أليماً } .
(1/1071)

وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
{ والمرسلات عرفاً } أي : الرِّياح التي أُرسلت مُتتابعةً كعُرْف الفرس .
{ فالعاصفات عصفاً } أي : الرِّياح الشَّديدة الهبوب .
{ والناشرات نشراً } الرِّياح التي تأتي بالمطر .
{ فالفارقات فرقاً } يعني : آي القرآن فرَّقت بين الحلال والحرام .
{ فالملقيات ذكراً } أي : الملائكة التي تنزل بالوحي .
{ عذراً أو نذراً } للإِعذار والإِنذار من الله تعالى .
{ إنَّ ما توعدون } من البعث والثَّواب والعقاب { لواقع } .
{ فإذا النجوم طمست } مُحي نورها .
{ وإذا السماء فُرِجَتْ } شُقَّت .
(1/1072)

وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
{ وإذا الجبال نسفت } قُلعت من أماكنها ، فأُذهبت بسرعةٍ .
{ وإذا الرسل أقتت } جُمعت لوقتٍ ، وهو يوم القيامة .
{ لأيِّ يومٍ أجِّلت } أُخِّرت وأُمهلت .
{ ليوم الفصل } القضاء بين النَّاس .
{ وما أدراك ما يوم الفصل } على التَّعظيم لذلك اليوم . { ويلٌ يومئذٍ للمكذبين } .
{ ألم نهلك الأولين } من الأمم المكذِّبة .
{ ثم نتبعهم الآخرين } ممَّن سلكوا سبيلهم في الكفر والتَّكذيب .
{ كذلك } مثل الذي فعلنا بهم { نفعل بالمجرمين } بالمُكذِّبين من قومك .
{ ألم نخلقكم من ماء مهين } أي : النُّطفة .
{ فجعلناه في قرار مكين } أي : الرَّحم .
{ إلى قدر معلوم } وهو وقت الولادة .
{ فقدرنا } أَيْ : قدَّرنا وقت الولادة { فنعم القادرون } فنعم المُقدِّرون نحن ، وقُرئت بالتَّشديد والتَّخفيف ، لغتان بمعنى واحدٍ .
(1/1073)

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
{ ألم نجعل الأرض كفاتاً } وعاءً . وقيل : ذات كفات ، أَيْ : ضمٍّ وجمعٍ تَكْفِتُ الخلق أحياءً على ظهرها ، وأمواتاً في بطنها .
{ وجعلنا فيها رواسي } جبالاً ثوابت { شامخات } مرتفعاتٍ . { وأسقيناكم ماءً فراتاً } عذباً .
{ ويل يومئذ للمكذبين } ويُقال لهم ذلك اليوم .
{ انطلقوا } اذهبوا . { إلى ما كنتم به تكذبون } في الدنُّيا .
{ انطلقوا إلى ظل } إلى دُخان جهنَّم { ذي ثلاث شعب } إذا ارتفع انْشَعَبَ ثلاث شُعَبٍ ، فيقف على رؤوس الكافرين .
{ لا ظليل } باردٍ { لا يغني من اللهب } ولا يدفع من لهب النَّار شيئاً .
{ إنها ترمي بشرر } وهو ما يتطاير من النَّار { كالقصر } من البناء في العظم .
{ كأنه جُمالاتٌ } جمع جمالٍ { صفر } سود .
{ هذا يوم لا ينطقون } .
{ ولا يؤذن لهم فيعتذرون } يعني : في بعض ساعات ذلك اليوم يُؤمرون بالسُّكوت .
(1/1074)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
{ هذا يوم الفصل } بين أهل الجنَّة والنَّار { جمعناكم والأولين } .
{ فإن كان لكم كيدٌ فكيدون } إنْ كان عندكم حيلةٌ فاحتالوا لأنفسكم .
(1/1075)

كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{ كلوا وتمتعوا } في الدُّنيا { قليلاً إنكم مجرمون } مشركون .
{ وإذا قيل لهم اركعوا } صلُّوا { لا يركعون } لا يصلُّون .
{ فبأيّ حديث بعده } بعد القرآن الذي آتاهم فيه البيان { يؤمنون } إذا لم يؤمنوا به .
(1/1076)

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
{ عمَّ يتساءلون } [ عمَّا يتساءلون ] والمعنى : عن أيِّ شيءٍ يتساءلون . يعني : قريشاً ، وهذا لفظ استفهامٍ معناه تفخيم القصَّة ، وذلك أنَّهم اختلفوا واختصموا فيما أتاهم به الرَّسول صلى الله عليه وسلم فمن مصدِّق ومكذِّبٍ ، ثمَّ بيَّن فقال :
{ عن النبأ العظيم } [ يعني : البعث ] .
{ الذي هم في مختلفون } لا يُصدِّقون به .
{ كلا } ليس الأمر على ما ذكروا من إنكارهم البعث { سيعلمون } حقيقة وقوعه .
{ ثم كلا سيعلمون } تأكيدٌ وتحقيقٌ ، ثمَّ دلَّهم على قدرته على البعث ، فقال :
{ ألم نجعل الأرض مهاداً } أَيْ : فرشناها لكم حتى سكنتموها .
(1/1077)

وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
{ وخلقناكم أزواجاً } ذكوراً وإناثاً .
{ وجعلنا نومكم سباتاً } راحةً لأبدانكم .
{ وجعلنا الليل لباساً } يلبس كلَّ شيءٍ بسواده .
{ وجعلنا النهار معاشاً } سبباً للمعاش .
{ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً } سبع سمواتٍ شدادٍ محكمةٍ .
{ وجعلنا سراجاً } أي : الشَّمس { وهَّاجاً } وقَّاداً حارَّاً .
{ وأنزلنا من المعصرات } السَّحاب { ماء ثجاجاً } صبَّاباً .
{ لنخرج به حبَّاً } ممَّا يأكله النَّاس { ونباتاً } ممَّا ترعاه النَّعم .
{ وجنات ألفافاً } مُلتفَّةً مُجتمعةً .
{ إنَّ يوم الفصل كان ميقاتاً } لما وعده الله من الجزاء والثَّواب .
{ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً } زُمراً وجماعاتٍ .
{ وفتحت السماء } شُقِّقت { فكانت أبواباً } حتى يصير فيها أبواب .
{ وسيِّرت الجبال } عن وجه الأرض { فكانت سراباً } في خفَّة سيرها .
{ إنَّ جهنم كانت مرصاداً } ترصد أهل الكفر ، فلا يجاوزونها .
{ للطاغين } للكافرين { مآباً } مرجعاً .
{ لابثين } ماكثين { فيها أحقاباً } جمع حقب ، وهو ثمانون سنة ، كلُّ سنةٍ ثلثمائة وستون يوماً . كلُّ يومٍ كألف سنةٍ من أيَّام الدُّنيا ، فإذا مضى حقبٌ عاد حقبٌ إلى ما لا يتناهى .
(1/1078)

لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
{ لا يذوقون فيها برداً } نوماً وراحةً { ولا شراباً } .
{ إلاَّ حميماً } ماءً حارَّاً من حميم جهنَّم { وغسَّاقاً } وهو ما سال من جلود أهل النَّار .
{ جزاءً وفاقاً } أَيْ : جُوزوا وفق أعمالهم ، فلا ذنب أعظم من الشِّرك ، ولا عذاب أعظم من النَّار .
{ إنهم كانوا لا يرجون حساباً } لا يخافون أن يحاسبهم الله .
{ وكذبوا بآياتنا كذاباً } تكذيباً .
{ وكلَّ شيء } من أعمالهم { أحصيناه } كتبناه { كتاباً } لنحاسبهم عليه .
(1/1079)

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)
{ إنَّ للمتقين مفازاً } فوزاً بالجنَّة ونجاةً من النَّار .
(1/1080)

وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
{ وكواعب } جواري قد تكعَّبت ثُدُيّهن . { أتراباً } مُستوياتٍ في السِّنِّ .
{ وكأساً دهاقاً } ممتلئةً .
(1/1081)

جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{ عطاءً حساباً } كثيراً كافياً ، وقوله :
{ لا يملكون منه خطاباً } أَيْ : لا يمكلون أن يخاطبوه إلاَّ بإذنه ، كقوله تعالى : { لا تكلَّمُ نفسٌ إلاَّ بإذنه } وقد فُسِّر هذا فيما قبل . وقوله :
{ يوم يقوم الروح } قيل : هو جبريل عليه السَّلام . وقيل : هو مَلَكٌ يقوم صفاً . وقيل : الرُّوح جندٌ من جنود الله ليسوا من الملائكة ولا من النَّاس يقومون { والملائكة صفاً } صفوفاً . { لا يتكلمون إلاَّ من أذن له الرحمن وقالوا صواباً } حقاً في الدُّنيا . يعني : لا إله إلاَّ الله .
{ ذلك اليوم الحقُّ فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً } مرجعاً إلى طاعته .
{ إنا أنذرناكم عذاباً قريباَ } يعني : يوم القيامة ، { يوم ينظر المرء ما قدَّمت يداه } ما عمل من خيرٍ وشرٍّ { ويقول الكافر } في ذلك اليوم : { يا ليتني كنت تراباً } ولك حين يقول الله تعالى للبهائم والوحوش : كوني تراباً ، فيتمنَّى الكافر أن لفو كان تراباً فلا يُعذَّب .
(1/1082)

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
{ والنازعات } أي : الملائكة التي تنزع أرواح الكفَّار { غرقاً } إغراقاً كما يُغرق النَّازع في القوس . يعني : المبالغة في النَّزع .
{ والناشطات نشطاً } يعني : الملائكة تقبض نفس المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير ، أَيْ : يُفتح .
{ والسابحات سبحاً } أي : النُّجوم تسبح في الفلك .
{ فالسابقات سبقاً } أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى لقاء الله عزَّ وجلَّ . وقيل : النُّجوم يسبق بعضها بعضاً في السَّير .
{ فالمدبرات أمراً } يعني : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام ، يُدبِّر أمر الدُّنيا هؤلاء الأربعة من الملائكة ، وجواب هذه الأقسام مضمرٌ على تقدير : لَتُبعَثُنَّ .
{ يوم ترجف الراجفة } تضطرب الأرض وتتحرَّك حركةً شديدةً .
(1/1083)

تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
{ تتبعها الرادفة } يعني : نفخة البعث تأتي بعد الزَّلزلة .
{ قلوب يومئذٍ واجفة } قلقةٌ زائلةٌ عن أماكنها .
{ أبصارها خاشعة } ذليلةٌ .
{ يقولون } يعني : منكري البعث { أإنا لمردودون في الحافرة } أَيْ : إلى أوَّل الأمر من الحياة بعد الموت ، وهو قوله :
{ أإذا كنا عظاماً نخرة } أَيْ : باليةً .
{ قالوا تلك إذاً كرَّة خاسرة } رجعةٌ يُخسر فيها ، فأعلم الله تعالى سهولة البعث عليه فقال :
{ فإنما هي زجرة واحدة } أي : صيحةٌ ونفخةٌ .
{ فإذا هم بالساهرة } يعني : وجه الأرض بعد ما كانوا في بطنها .
{ هل أتاك } يا محمَّد { حديث موسى } .
{ إذ ناداه ربُّه بالوادي المقدس طوى } طوى اسم ذلك الوادي .
{ اذهب إلى فرعون إنَّه طغى } جاوز الحدَّ في الكفر .
{ فقل هل لك إلى أن تزكى } أترغب في أن تتطهَّر من كفرك بالإِيمان .
(1/1084)

فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
{ فأراه الآية الكبرى } اليد البيضاء .
{ فكذَّب } فرعون موسى { وعصى } أمره .
{ ثم أدبر } أعرض عنه { يسعى } في الأرض يعمل فيها بالفساد .
{ فحشر } فجمع السَّحرة وقومه { فنادى } .
{ فقال أنا ربكم الأعلى } ليس ربٌّ فوقي .
{ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } أَيْ : نكَّل الله به في الآخرة بالعذاب في النَّار ، وفي الدُّنيا بالغرق .
(1/1085)

أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
{ أأنتم } أيُّها المنكرون للبعث { أشدُّ خلقاً أم السماء بناها } .
{ رفع سمكها } سقفها { فسوَّاها } بلا شقوقٍ ولا فطورٍ .
{ وأغطش } أَظلم { ليلها وأخرج ضحاها } أظهر نورها بالشَّمس .
{ والأرض بعد ذلك دحاها } بسطها ، وكانت مخلوقةً غير مدحوَّةٍ .
{ أخرج منها ماءها ومرعاها } ما ترعاه النَّعم من الشَّجر والعشب .
{ والجبال أرساها } . { متاعاً } منفعةً { لكم ولأنعامكم } .
{ فإذا جاءت الطامة الكبرى } يعني : صيحة القيامة .
(1/1086)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{ يسألونك عن الساعة } يعني : القيامة . { أيَّان مرساها } متى وقوعها وثبوتها؟ قال الله تعالى :
{ فيم أنت } يا محمد { من ذكراها } أي : ليس عندك علمها .
{ إلى ربك منتهاها } منتهى علمها .
{ إنما أنت منذر مَنْ يخشاها } إنَّما ينفع إنذارك من يخشاها .
{ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا } في قبورهم { إلاَّ عَشِيَّةً أو ضحاها } أَيْ : نهارها .
استقصروا مدَّة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول .
(1/1087)

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)
{ عبس } كلح { وتولَّى } أعرض .
{ أن } [ لأَنْ ] . { جاءه الأعمى } وهو عبد الله بن أمِّ مكتوم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يدعوا أشراف قريش إلى الإِسلام ، فجعل يُناديه ويكرِّر النِّداء ، ولا يدري أنَّه مشتغلٌ حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعبس وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات .
{ ومَا يدريك لعله } لعلَّ الأعمى { يزكَّى } يتطهَّر من ذنوبه بالإِسلام ، وذلك أنَّه أتاه يطلب الإِسلام ، ويقول له : علِّمني ممَّا علمك الله .
{ أو يَذكَّر } يتَّعظ { فتنفعه الذكرى } الموعظة ، ثمَّ عاتبه عزَّ وجلَّ فقال :
{ أمَّا من استغنى } أثرى من المال .
(1/1088)

فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
{ فأنت له تصدَّى } تُقبِلُ عليه وتتعرَّض له .
{ وما عليك ألا يزكَّى } أيُّ شيء عليك في أنْ لا يُسلم؛ لأنَّه ليس عليك إسلامه ، إنَّما عليك البلاغ .
{ وأمَّا مَنْ جاءك يسعى } أي : الأعمى .
{ وهو يخشى } الله تعالى .
{ فأنت عنه تلهى } تتشاغل .
{ كلا } ردعٌ وزجرٌ ، أيْ : لا تفعل مثل ما فعلت { إنها } إنَّ آيات القرآن { تذكرة } تذكيرٌ للخلق .
{ فمن شاء ذكره } يعني : القرآن ، ثمَّ أخبر بجلالته في اللَّوح المحفوظ عنده ، [ فقال ] :
{ في صحف مكرمة } .
{ مرفوعة } رفيعة القدر { مطهرة } لا يمسُّها إلاَّ المطهرون .
{ بأيدي سفرة } كَتَبةٍ ، وهم الملائكة .
{ كرام بررة } جمع بارٍّ .
{ قتل الإنسان } لُعن الكافر . يعني : عُتبة بن أبي لهب { ما أكفره } ما أشدَّ كفره .
{ من أي شيء خلقه } استفهامٌ معناه التَّقرير ، ثمَّ فسَّر فقال :
{ من نطفة خلقه فقدَّره } أطواراً من علقةٍ ومضغةٍ إلى أن خرج من بطن أُمِّه ، وهو قوله : { ثم السبيل يسره } .
(1/1089)

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
{ ثم السبيل يسره } أي : طريق خروجه من بطن أُمِّه .
{ ثمَّ أماته } قبض روحه { فأقبره } جعل له قبراً يُوارى فيه ، ولم يجعله ممَّن يُلقى إلى السِّباع والطير .
{ ثمَّ إذا شاء أنشره } أحياه بعد موته .
{ كلا } حقاً [ { لما } ] لم { يقض } هذا الكافر { ما أمره } به ربُّه .
{ فلينظر الإنسان إلى طعامه } كيف قدَّره ربُّه ودبَّره له .
{ أنّا صببنا الماء صباً } أي : المطر من السَّحاب .
{ ثم شققنا الأرض شقاً } بالنَّبات .
{ فأنبتنا فهيا حباً } . { وعنباً وقضباً } وهو القتُّ الرَّطب .
(1/1090)

وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
{ وحدائق غلباً } بساتين كثيرة الأشجار .
{ وفاكهة وأباً } أي : الكلأ الذي ترعاه الماشية .
{ متاعاً } منفعةً { لكم ولأنعامكم } .
{ فإذا جاءت الصاخَّة } صيحة القيامة .
{ يوم يفرُّ المرء من أخيه } . { وأمه وأبيه } .
{ وصاحبته وبنيه } لا يلتفت إلى واحدٍ منهم لشغله بنفسه ، وهو قوله :
{ لكلِّ امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه } يشغله عن شأن غيره .
{ وجوهٌ يومئذٍ مسفرة } مضيئةٌ .
{ ضاحكة مستبشرة } فرحةٌ .
{ ووجوه يومئذ عليها غبرة } غبارٌ .
{ ترهقها } تغشاها { قترة } ظلمةٌ وسوادٌ .
{ أولئك } أهل هذه الحال { هم الكفرة الفجرة } .
(1/1091)

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
{ إذا الشمس كورت } ذهب ضوؤها .
{ وإذا النجوم انكدرت } تساقطت وتناثرت .
{ وإذا الجبال سيرت } عن وجه الأرض فصارت هباءً منبثاً .
{ وإذا العشار } يعني : النُّوق الحوامل { عطلت } سُيِّبت وأُهملت ، تركها أربابها ، ولم يكن مالٌ أعجب إليهم منها ، لإِتيان ما يشغلهم عنها .
{ وإذا الوحوش حشرت } جُمعت للقصاص .
{ وإذا البحار سجرت } أُوقدت فصارت ناراً [ ويقال : تقذف الكواكب فيها ثم تضطرم فتصير ناراً ] .
{ وإذا النفوس زوجت } قُرِن كلُّ أحدٍ بمَنْ يعمل عمله ، فأُلحق الفاجر بالفاجر والصَّالح بالصَّالح ، وقيل : قُرنت الأجساد بالأرواح .
(1/1092)

وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
{ وإذا المَوْءُوْدَةُ } وهي الجارية تدفن حيَّةً . { سئلت } .
{ بأيِّ ذنب قتلت } وسؤالها سؤال توبيخ لوائدها؛ لأنها تقول : قتلت بغير ذنبٍ ، وهذا كقوله تعالى لعيسى عليه السَّلام : { أَأَنتَ قلتَ للنَّاسِ . . . } الآية .
{ وإذا الصحف نشرت } كُتُب الأعمال .
{ وإذا السماء كشطت } قُلعت كما يكشط الغطاء عن الشَّيء .
{ وإذا الجحيم سعِّرت } أُوقدت .
{ وإذا الجنة أزلفت } قرِّبت لأهلها حتى يروها .
{ علمت نفس ما أحضرت } أي : إذا كانت هذه الأشياء التي تكون في القيامة علمت في ذلك الوقت كلُّ نفسٍ ما أحضرت من عملٍ .
{ فلا أقسم } " لا " زائدة . { بالخنس } وهي النُّجوم الخمس تخنس ، أَيْ : ترجع في مجراها وراءها ، وتكنس : تدخل في كناسها ، أَيْ : تغيب في المواضع التي تغيب فيها ، فهي الكنَّس ، جمع كانسٍ .
{ والليل إذا عسعس } أقبل بظلامه ، وقيل : أدبر .
{ والصبح إذا تنفس } امتدَّ حتى يصير نهاراً بيِّناً .
{ إنه لقول رسول كريم } أي : القرآن لتنزيلُ جبريلٍ .
{ ذي قوة } من صفة جبريل { عند ذي العرش مكين } ذي مكانةٍ ومنزلةٍ .
(1/1093)

مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{ مطاع ثمَّ } تطيعه الملائكة في السَّماء { أَمين } على الوحي .
{ وما صاحبكم } محمد صلى الله عليه وسلم { بمجنون } كما زعمتم .
{ ولقد رآه } رأى جبريل عليه السَّلام في صورته { بالأفق المبين } وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق .
{ وما هو } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { على الغيب } أي : على الوحي وخبر السَّماء { بظنين } بمتَّهم ، أَيْ : هو الثِّقة بما يؤدِّيه عن الله تعالى .
{ وما هو } يعني : القرآن { بقول شيطان رجيم } .
{ فأين تذهبون } فأيَّ طريقٍ تسلكون أبينَ من هذه الطَّريقة التي قد بُيِّنت لكم؟
{ إن هو إلاَّ ذكر } ليس القرآن إلاَّ عظةٌ { للعالمين } .
{ لمن شاء منكم أن يستقيم } يتبع الحقَّ ويعمل به ، ثمَّ أعلمهم أنَّهم لا يقدرون على ذلك إلاَّ بمشيئة الله تعالى ، فقال :
{ وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله رب العالمين } .
(1/1094)

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
{ إذا السماء انفطرت } انشقَّت .
{ وإذا الكواكب انتثرت } تساقطت .
{ وإذا البحار فجِّرت } فُتح بعضها في بعضٍ فصارت بحراً واحداً .
{ وإذا القبور بعثرت } قُلب ترابها وبُعث الموتى الذين فيها .
{ علمت نفسٌ ما قدَّمت } من عملٍِ أُمرت به { و } ما { أخرت } منه فلم تعمله .
{ يا أيها الإِنسان ما غرَّك بربك الكريم } أَي : ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى أضعت ما أوجب عليك .
{ الذي خلقك فسوَّاك } جعلك مستوي الخلق { فعدلك } قوَّمك وجعلك معتدل الخلق والقامة .
(1/1095)

فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
{ في أيِّ صورة ما شاء ركَّبك } إمَّا طويلاً؛ وإمَّا قصيراً؛ وإمَّا حسناً؛ وإمَّا قبيحاً .
{ كلا بل تكذبون بالدين } بالمجازاة بالأعمال .
{ وإنَّ عليكم لحافظين } يحفظون أعمالكم .
{ كراماً } على الله { كاتبين } يكتبون أقوالكم وأعمالكم .
{ يعلمون ما تفعلون } لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم .
{ إنَّ الأبرار } الصَّادقين في إيمانهم . { لفي نعيم } .
{ وإنَّ الفجار } الكفَّار . { لفي جحيم } .
{ يصلونها } يقاسون حرَّها . { يوم الدين } .
{ وما هم عنها بغائبين } بمخرجين ، ثمَّ عظَّم شأن يوم القيامة ، فقال :
{ وما أدراك ما يوم الدين } .
{ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } لا تملك أن تُنجيها من العذاب ، { والأمر يومئذٍ لله } وحده ، لم يملك أحدٌ أمراً في ذلك اليوم كما ملك في الدُّنيا .
(1/1096)

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
{ ويل للمطففين } يعني : الذين يبخسون حقوق النَّاس في الكيل والوزن .
{ الذين إذا اكتالوا } أخذوا بالكيل { على الناس } من النَّاس { يستوفون } يأخذون حقوقهم تامَّة وافيةً .
{ وإذا كالوهم } كالوا لهم { أو وزنوهم } وزنوا لهم { يخسرون } ينقصون .
{ ألا يظن أولئك } ألا يستيقن أولئك الذين يفعلون ذلك { أنهم مبعوثون } .
{ ليوم عظيم } يعني : يوم القيامة .
{ يوم يقوم الناس } من قبورهم { لربِّ العالمين } والمعنى أنَّهم لو أيقنوا بالبعث ما فعلوا ذلك .
{ كلا } ردعٌ وزجرٌ ، أَيْ : ليس الأمر على ما هم عليه ، فليرتدعوا { إنَّ كتاب الفجار } الذي فيه أعمالهم مرقومٌ مكتوبٌ مثبتٌ عليهم في { سجين } في أسفل سبع أرضين ، وهو محل إبليس وجنده .
{ وما أدراك ما سجين } أي : ليس ذلك ممَّا كنتَ تعلمه أنت ولا قومُك . وقوله :
{ كتاب مرقوم } فمؤخَّرٌ معناه التَّقديم؛ لأنَّ التَّقدير كما ذكرنا : إنَّ كتاب الفجَّار كتابٌ مرقومٌ في سجِّين .
(1/1097)

كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
{ كلا بل ران على قلوبهم } أي : غلب عليها حتى غمرها وغشيها { ما كانوا يكسبون } من المعاصي ، وهو كالصَّدأ يغشى القلب .
{ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } يحجبون عن الله تعالى فلا يرونه .
{ ثم إنهم لصالوا الجحيم } لداخلو النَّار .
{ ثمَّ يقال هذا } العذاب { الذي كنتم به تكذِّبون } في الدُّنيا .
{ كلا إنَّ كتاب الأبرار لفي عليين } في السَّماء السَّابعة تحت العرش .
{ وما أدراك } وما الذي أعلمك يا محمد { ما عليون } كيف هي ، وأيُّ شيءٍ صفتها .
{ كتاب مرقوم } يعني : كتاب الأبرار كتابٌ مرقومٌ .
{ يشهده المقربون } تحضره الملائكة؛ لأنَّ عليين محلُّ الملائكة .
(1/1098)

عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ على الأرائك ينظرون } أَيْ : إلى ما أعطاهم الله سبحانه من النَّعيم والكرامة .
{ تعرف في وجوههم نَضْرَةَ النعيم } أي : غضارته وبريقه .
{ يسقون من رحيق } وهو الخمر الصَّافية . { مختوم } .
{ ختامه مسك } يعني : إذا فني ما في الكأس وانقطع الشَّراب يختم ذلك الشَّراب برائحة المسك . { وفي ذلك فيتنافس المتنافسون } فليرغب الرَّاغبون بالمبادرة إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ .
{ ومزاجه } ومزاج ذلك الشَّراب { من تسنيم } وهو عينُ ماءٍ تجري في جنَّة عدنٍ ، وهي أعلى الجنَّات ، ثمَّ فسَّره فقال :
{ عيناً يشرب بها المقربون } أَيْ : يشربها المُقرَّبون .
{ إنَّ الذين أجرموا } أشركوا : يعني : أبا جهلٍ وأصحابه { كانوا من الذين آمنوا } من فقراء المؤمنين { يضحكون } استهزاءً بهم .
{ وإذا مروا بهم يتغامزون } يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون إليهم .
{ وإذا انقلبوا } رجعوا { إلى أهلهم } أصحابهم وذويهم { انقلبوا فاكهين } مُعجبين بما هم فيه ، يتفكَّهون بذكر المؤمنين .
{ وإذا رأوهم } رأوا المؤمنين { قالوا : إنَّ هؤلاء لضالون } .
{ وما أرسلوا } يعني : الكفَّار { عليهم } على المؤمنين { حافظين } لأعمالهم موكلين بأموالهم .
{ فاليوم } يعني : يوم القيامة { الذين آمنوا من الكفار يضحكون } كما ضحكوا منهم في الدُّنيا .
{ على الأرائك ينظرون } إليهم كيف يُعذَّبون .
{ هل ثوِّب الكفار ما كانوا يفعلون } أي : هل جُوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدُّنيا؟
(1/1099)

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
{ إذا السماء انشقت } تنشقُّ السَّماء يوم القيامة .
{ وأذنت لربها } سمعت أمر ربِّها بالانشقاق { وحقت } وحقَّ لها أن تطيع .
{ وإذا الأرض مدَّت } من أطرافها فَزِيد فيها ، كما يمدُّ الأديم .
{ وألقت ما فيها } ما في بطنها من الموتى والكنوز { وتخلَّت } وخَلَتْ منها .
(1/1100)

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً } عاملٌ لربِّك عملاً { فملاقيه } فملاقٍ عملك ، والمعنى : إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله .
{ فأمَّا مَنْ أوتي كتابه بيمينه } .
{ فسوف يحاسب حساباً يسيراً } وهو العرض على الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ مَنْ نُوقش الحساب عُذِّب .
{ وينقلب إلى أهله } في الجنَّة { مسروراً } .
{ وأمَّا مَنْ أوتي كتابه وراء ظهره } وذلك أنَّ يديه غُلَّتا إلى عنقه ، فيُؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره .
{ فسوف يدعو ثبوراً } فينادي بالهلاك على نفسه .
{ ويصلى سعيراً } ويدخل النَّار .
{ إنَّه كان في أهله } في الدُّنيا { مسروراً } متابعاً لهواه .
{ إنَّه ظنَّ أن لن يحور } لن يرجع إلى ربِّه .
{ بلى } أيْ : ليس الأمر كما ظنَّ ، يرجع إلى ربِّه .
{ فلا أقسم } معناه فأقسم { بالشفق } وهو الحمرة التي تُرى بعد سقوط الشَّمس . وقيل : يعني : اللَّيل والنَّهار .
{ والليل وما وسق } جمع وحمل ، وضمَّ وآوى من الدَّوابِّ والحشرات ، والهوام والسباع ، وكلّ شيء دخل عليه اللَّيل .
{ والقمر إذا اتسق } اجتمع واستوى .
{ لتركبنَّ طبقاً عن طبق } حالاً بعد حالٍ ، من النُّطفة وإلى العلقة ، وإلى الهرم والموت حتى يصيروا إلى الله تعالى .
(1/1101)

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
{ والله أعلم بما يوعون } أي : يحملون في قلوبهم ، ويُضمرون .
{ فبشرهم } أخبرهم { بعذاب أليم } . وقوله :
{ غير ممنون } أي : غير منقوصٍ ولا مقطوعٍ .
(1/1102)

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
{ والسماء ذات البروج } يعني : بروج الكواكب ، وهي اثنا عشر برجاً .
{ واليوم الموعود } يوم القيامة .
{ وشاهد } يوم الجمعة { ومشهود } يعني : يوم عرفة .
{ قتل } لُعن { أصحاب الأخدود } وهو الشَّقُّ يحفر في الأرض طولاً ، وهم قومٌ كفرةٌ كانوا يعبدون الصنم ، وكان قومٌ من المؤمنين بين أظهرهم يكتمون إيمانهم ، فاطَّلعوا على ذلك منهم فشقُّوا أخدوداً في الأرض ، وملؤوه ناراً وعرضوهم على النَّار ، فمن لم يرجع عن دينه قذفوه فيها .
{ النار ذات الوقود } ذات الالتهاب .
{ إذ هم عليها قعود } وذلك أنَّهم قعدوا عند تلك النَّار .
(1/1103)

وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
{ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين } من التَّعذيب والصَّدِّ عن الإِيمان { شهود } حاضرون . أخبر الله تعالى عن قصَّة قومٍ بلغت بصيرتهم في إيمانهم إلى أن صبروا على أَنْ أُحرقوا بالنَّار في الله .
{ وما نقموا منهم إلاَّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } أَيْ : ما أنكروا عليهم ذنباً إلاَّ إيمانهم .
(1/1104)

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
{ إنَّ الذين فتنوا } أَيْ : أحرقوا { المؤمنين والمؤمنات ثمَّ لم يتوبوا } لم يرجعوا عن كفرههم { فلهم عذاب جهنم } بكفرهم { ولهم عذاب الحريق } بما أحرقوا المؤمنين .
(1/1105)

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
{ إنَّ بطش ربك } أخذه بالعذاب { لشديد } .
{ إنَّه هو يبدىء } الخلق ، يخلقهم ابتداءً ثمَّ يُعيدهم عند البعث .
{ وهو الغفور الودود } المحبُّ أولياءه .
{ ذو العرش } خالقه ومالكه { المجيد } المستحقُّ لكمال صفات العلوِّ والمدح .
(1/1106)

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{ هل أتاك حديث الجنود } خبر الجموع الكافرة ، ثمَّ بيَّن مَنْ هم فقال :
{ فرعون وثمود } .
{ بل الذين كفروا } من قومك { في تكذيب } كذبٍ لك .
{ والله من ورائهم محيط } قدرته مشتملةٌ عليهم فلا يعجزه منهم أحدٌ .
{ بل هو قرآن مجيد } كثير الخير ، وليس كما زعم المشركون .
{ في لوح محفوظ } من أن يبدِّل ما فيه أو يُغيِّر .
(1/1107)

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
{ والسماء والطارق } يعني : النُّجوم كلَّها؛ لأنَّ طلوعها باللَّيل ، وكلُّ ما أتى ليلاً فهو طارق ، وقد فسَّر الله تعالى ذلك بقوله :
{ النجم الثاقب } المضيء النَّيِّرُ .
{ إن كلُّ نفسٍ لما عليها } لَعَليها ، و { ما } صلة { حافظ } من ربِّها يحفظ عملها .
{ فَلْيَنْظُرِ الإِنسان ممَّ خلق } من أيِّ شيءٍ خلقه ربُّه ، ثمَّ بيَّن فقال :
{ خلق من ماءٍ دافق } مدفوقٍ مصبوبٍ في الرَّحم . يعني : النُّطفة .
{ يخرج من بين الصلب } وهو ماء الرَّجل { والترائب } عظام الصَّدر ، وهو ماء المرأة .
{ إنَّه } إنَّ الله { على رجعه } على بعث الإِنسان وإِعادته بعد الموت { لقادر } .
(1/1108)

يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
{ يوم تبلى السرائر } يعني : يوم القيامة ، وفي ذلك اليوم تختبر السَّرائر ، وهي الفرائضُ التي هي سرائر بين العبد وربِّه ، كالصَّلاة والصَّوم وغسل الجنابة ، ولو شاء العبد أن يقول : فعلت ذلك ولم يفعله أمكنه ، فهي سرائر عند العبد ، وإنما تبين وتظهر صحَّتها وأمانة العبد فيها يوم القيامة .
{ فما له } يعني : الإِنسان الكافر { من قوة ولا ناصر } .
{ والسماء ذات الرجع } أَيْ : المطر .
{ والأرض ذات الصدع } تتشقَّق عن النَّبات .
{ إنه } أَيْ : القرآن { لقول فصل } يفصل بين الحقّ والباطل .
{ وما هو بالهزل } أَيْ : باللَّعب والباطل .
{ إنهم } يعني : مشركي مكَّة { يكيدون كيداً } يُظهرون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم على ما هم على خلافه .
{ وأكيد كيداً } وهو استدارجُ الله تعالى إيَّاهم من حيث لا يعلمون { فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً } يقول : أخِّرهم قليلاً؛ فإني آخذهم بالعذاب ، فأُخذوا يوم بدرٍ ، وذلك أنَّه كان يدعو الله تعالى عليهم ، فقال الله تعالى : { أمهلهم رويداً } ، أَيْ : قليلاً .
(1/1109)

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)
{ سبِّح اسم ربك الأعلى } نزِّه ذات ربِّك من السُّوء . وقيل : معناه : قل : سبحان ربِّي الأعلى .
{ الذي خلق فسوَّى } خلق الإنسان مُستوي الخلق .
{ والذي قدَّر فهدى } قدَّر الأرزاق ثمَّ هدى لطلبها .
{ والذي أخرج } من الأرض { المرعى } النَّبات .
{ فجعله غثاء } يابساً وهو ما يحمله السَّيل ممَّا يجف من النَّبات { أحوى } أسود بالياً .
{ سنقرئك } سنجعلك قارئاً لما يأتيك به جبريل عليه السَّلام من الوحي { فلا تنسى } شيئاً ، وهذا وعدٌ من الله سبحانه لنبيِّه عليه السَّلام أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلت منه شيءٌ .
(1/1110)

إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{ إلاَّ ما شاء الله } أن ينسخه . وقيل : إلاَّ ما شاء الله ، وهو لا يشاء أن تنسى { إنَّه يعلم الجهر } من القول والفعل { وما يخفى } .
{ ونيسِّرك لليسرى } أَيْ : نُهوِّن عليك الشَّريعة اليسرى ، وهي الحنيفيَّة السَّمحة .
{ فذكر } فَعِظْ بالقرآن { إن نفعت الذكرى } التَّذكير .
{ سيذكر } سيتَّعظ { من يخشى } الله .
{ ويتجنبها } ويتجنَّب الذِّكرى ويتباعد عنها { الأشقى } في علم الله .
{ الذي يصلى النار الكبرى } الذي يدخل جهنَّم .
{ ثمَّ لا يموت فيها ولا يحيى } لا يموت فيها موتاً يستريح به من العذاب ، ولا يحيا حياةً يجد فيها روح الحياة .
{ قد أفلح } صادف البقاء في الجنَّة { مَنْ تزكَّى } أكثر من العمل الصالح .
{ وذكر اسم ربه فصلى } أَيْ : الصَّلوات الخمس .
{ بل تؤثرون } تختارون { الحياة الدنيا } .
{ والآخرة خير وأبقى } من الدُّنيا .
{ إنَّ هذا } الذي ذكرتُ من فلاح المُتزكِّي ، وكون الآخرة خيراً من الدُّنيا { لفي الصحف الأولى } مذكورٌ في الكتب المتقدِّمة .
{ صحف إبراهيم وموسى } يعني : ما أنزل الله عليهما من الكتب .
(1/1111)

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
{ هل أتاك حديث الغاشية } يعني : القيامة؛ لأنَّها تغشى الخلق ، ومعنى : { هل أتاك } أَيْ : إنَّ هذا لم يكن من علمك ، ولا من علم قومك .
{ وجوه يومئذٍ خاشعة } ذليلةٌ .
{ عاملة } في النار تعالج حرَّها وعذابها { ناصبة } ذات نصبٍ وتعبٍ .
{ تصلى ناراً } تقاسي حرَّها { حامية } حارَّةً .
{ تسقى من عين آنية } متناهيةٍ في الحرارة .
{ ليس لهم } في جهنم { طعام إلاَّ من ضريع } وهو يبيس الشِّبْرِقِ ، وهو نوعٌ من الشَّوك لا تقربه دابَّةٌ ولا ترعاه ، وصفته ما ذكر الله : { لا يسمن ولا يغني من جوع } .
(1/1112)

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
{ وجوهٌ يومئذٍ ناعمة } حسنةٌ .
{ لسعيها } في الدُّنيا { راضية } حين أًعطيت الجنَّة بعملها .
{ في جنة عالية } .
{ لا تسمع فيها لاغية } لغواً ولا باطلاً .
(1/1113)

وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
{ ونمارق مصفوفة } أَيْ : وسائد بعضها بجنب بعضٍ .
{ وزرابيُّ } وهي البسط والطَّنافس { مبثوثة } مفرَّقة في المجالس ، ثمَّ نبَّههم على عظيمٍ من خلقه قد ذلَّله لصغير؛ ليدلَّهم ، بذلك على توحيده ، فقال :
{ أفلا ينظرون إلى الإِبل كيف خلقت } .
(1/1114)

وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
{ سطحت } أَيْ : بُسطت .
{ فذكِّر إنما أنت مذكِّر } ذكِّرهم نعم الله ودلائل توحيده ، فإنَّك مبعوثٌ بذلك .
{ لست عليهم بمسيطر } بمسلِّط تُكرههم على الإِيمان ، وهذا قبل أَنْ أُمر بالحرب .
{ إلاَّ من تولى } لكنْ من تولَّى عن الإيمان { وكفر } .
{ فيعذِّبه الله العذاب الأكبر } عذاب جهنم .
{ إنَّ إلينا إيابهم } رجوعهم .
{ ثمَّ إنَّ علينا حسابهم } .
(1/1115)

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
{ والفجر } يعني : فجر كلِّ يومٍ .
{ وليالٍ عشر } عشر ذي الحجَّة .
{ والشفع } يعني : يوم النَّحر؛ لأنَّه يوم العاشر { والوتر } يوم عرفة؛ لأنَّه يوم التَّاسع .
{ والليل إذا يسر } يعني : ليل المزدلفة إذا مضى وذهب . وقيل : إذا جاء وأقبل .
{ هل في ذلك } الذي ذكرت { قَسَمٌ لذي حجر } أَيْ : مقنعٌ ومكتفى في القسم لذي عقلٍ ، ثمَّ ذكر الأمم التي كذَّبت الرُّسل كيف أهلكهم فقال :
{ ألم تر كيف فعل ربك بعاد } .
(1/1116)

إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
{ إرم } يعني : عاداً الأولى ، وهو عاد بن عوص بن إرم ، وإرم : اسم القبيلة . { ذات العماد } أَيْ : ذات الطُّول ، وقيل : ذات البناء الرفيع ، وقيل : ذات العمد السيَّارة ، وذلك أنَّهم كانوا أهل عمدٍ سيَّارة ينتجعون الغيث .
{ التي لم يخلق مثلها في البلاد } في بطشهم وقوَّتهم وطول قامتهم .
{ وثمود الذي جابوا } قطعوا { الصخر } فاتَّخذوا منها البيوت { بالواد } يعني : وادي القرى ، وكانت مساكنهم هناك .
{ وفرعون ذي الأوتاد } ذي الجنود والجموع الكثيرة ، وكانت لهم مضارب كثيرةٌ يوتدونها في أسفارهم .
(1/1117)

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
{ فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب } أَيْ : جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب .
{ إنَّ ربك } جواب القسم الذي في أوَّل السُّورة { لبالمرصاد } بحيث يرى ويسمع ويرصد أعمال بني آدم .
{ فأمَّا الإنسان } يعني : الكافر { إذا ما ابتلاه ربُّه } امتحنه بالنِّعمة والسَّعة { فأكرمه } بالمال { ونعَّمة } بما وسَّع عليه { فيقول ربي أكرمنِ } لا يرى الكرامة من الله إلاَّ بكثرة الحظِّ من الدُّنيا .
{ وإمَّا إذا ما ابتلاه فقدر } فضيَّق { عليه رزقه فيقول : ربي أهانن } يرى الهوان في قلَّة حظِّه من الدنيا ، وهذا صفة الكافر ، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يُكرمه الله بطاعته ، والهوان أن يُهينه بمعصيته ، ثم رَدَّ هذا على الكافر ، فقال :
{ كلا } أَيْ : ليس الأمر كما يظنُّ هذا الكافر . { بل لا تكرمون اليتيم } إخبارٌ عمَّا كانوا يفعلونه من ترك توريث اليتيم ، وحرمانه ما يستحقُّ من الميراث .
{ ولا تَحَاضُّون على طعام المسكين } لا تأمرون به ، ولا تُعينون عليه .
{ وتأكلون التراث } يعني : ميراث اليتامى { أكلاً لمّاً } شديداً ، تجمعون المال كلَّه في الأكل ، فلا تُعطون اليتيم نصيبه .
{ وتحبون المال حباً جماً } كثيراً .
{ كلا } ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر { إذا دكت الأرض دكاً دكاً } إذا زُلزلت الأرض فكَسر بعضها بعضاً .
{ وجاء ربك } أَيْ : أمر ربِّك وقضاؤه { والملك } أَيْ : الملائكةُ { صفاً صفاً } صفوفاً .
{ وجيء يومئذٍ بجهنم } تُقاد بسبعين أَلْفِ زمامٍ ، كلُّ زمامٍ بأيدي سبعين ألف مَلَكٍ { يومئذٍ يتذكَّر الإنسان } يُظهر الكافر التَّوبة { وأنى له الذكرى } ومن أين له التَّوبة؟
{ يقول يا ليتني قدمت لحياتي } أَيْ : للدَّار الآخرة التي لا موت فيها .
{ فيومئذٍ لا يعذِّب عذابه أحد } لا يتولَّى عذاب الله تعالى يومئذٍ أحدٌ ، والأمر يومئذ أمره ، ولا أمر غيره .
{ ولا يوثق وثاقه } يعني بالوثاق الإِسار والسًَّلاسل والأغلال ، والمعنى : لا يبلغ أحدٌ من الخلق كبلاغ الله سبحانه في التَّعذيب والإِيثاق .
(1/1118)

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
{ يا أيتها النفس المطمئنة } إلى ما وعد الله سبحانه المصدِّقة بذاك .
{ ارجعي إلى ربك } يقال لها ذلك عند الموت . { راضية } بما آتاها الله { مرضية } رضي عنها ربُّها . هذا عند خروجها من الدُّنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل :
{ فادخلي في عبادي } أَيْ : في جملة عبادي الصَّالحين .
{ وادخلي جنتي } .
(1/1119)

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
{ لا أقسم } المعنى : أقسم ، و { لا } توكيدٌ . { بهذا البلد } يعني : مكَّة .
{ وأنت } يا محمَّدُ { حلٌّ بهذا البلد } تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ، أُحلَّت له مكَّةُ ساعةً من النَّهار يوم الفتح حتى قاتل وقتل من شاء .
{ ووالدٍ } أقسم بآدم عليه السَّلام { وما ولد } وولده ، و { ما } بمعنى " مَنْ " .
{ لقد خلقنا الإِنسان في كبد } أَيْ : مشقَّةٍ يكابد أمر الدُّنيا والآخرة وشدائدهما . وقيل مُنتصباً معتدلاً .
{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } نزلت في رجلٍ من بني جمح يُكنى أبا الأشدين ، كان يوصف بالقوَّة؛ فقال الله تعالى : أيحسب بقوَّته أن لن يقدر عليه أحدٌ ، والله قادر عليه .
(1/1120)

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
{ يقول أهلكت مالاً } على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم { لبداً } كثيراً بعضه على بعض ، وهو كاذبٌ في ذلك ، قال الله تعالى :
{ أيحسب أن لم يره أحد } في إنفاقه ، فيعلم مقدار نفقته ، ثمَّ ذكر ما يستدلُّ به على أنَّ الله تعالى قادرٌ عليه ، وأَنْ يحصي عليه ما يعمله ، فقال :
{ ألم نجعل له عينين } . { ولساناً وشفتين } .
{ وهديناه النجدين } يقول : ألم نُعرِّفه طريق الخير وطريق الشَّرِّ .
{ فلا اقتحم العقبة } أَيْ : لم يدخل العقبة ، وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمنفق في طاعة الله يحتاج أن يتحمَّل الكُلفة ، كمَنْ يتكلَّف صعود العقبة ، يقول : لم ينفق هذا الإنسان في طاعة الله شيئاً .
{ وما أدراك ما العقبة } أَيْ : ما اقتحام العقبة ، ثمَّ فسَّره فقال :
{ فك رقبة } وهو إخراجها من الرِّقِّ بالعون في ثمنها .
{ أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبة } مجاعةٍ .
{ يتيماً ذا مقربة } ذا قرابةٍ .
{ أو مسكيناً ذا متربة } أَيْ : ذا فقرٍ قد لصق من فقره بالتُّراب .
{ ثم كان من الذين آمنوا } أَيْ : كان مقتحم العقبة وفاكُّ الرَّقبة والمُطعم من الذين آمنوا؛ فإنَّه إنْ لم يكن منهم لم ينفعه قربةٌ { وتواصوا } أوصى بعضهم بعضاً { بالصبر } على طاعة الله تعالى { وتواصوا بالمرحمة } بالرَّحمة على الخلق .
{ أولئك أصحاب الميمنة } مَنْ كان بهذه الصفة فهو من جملة أصحاب اليمين .
{ والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة } أصحاب الشِّمال . وقيل في أصحاب اليمين : إنَّهم الميامين على أنفسهم ، وفي أصحاب المشأمة : إنَّهم المشائيم على أنفسهم .
{ عليهم نار مؤصدة } مُطَبقةٌ .
(1/1121)

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
{ والشمس وضحاها } وضيائها .
{ والقمر إذا تلاها } تبعها في الضِّياء والنُّور ، وذلك في النِّصف الأوَّل من الشَّهر يخلف الشَّمسَ القمرُ في النُّور .
{ والنهار إذا جلاَّها } جلَّى الظُّلمة وكشفها . وقيل : جلَّى الشَّمس وبيَّنها؛ لأنها تبين إذا انبسط النَّهار .
{ والليل إذا يغشاها } يستر الشَّمس .
{ والسماء وما بناها } أَيْ : وبنائها .
{ والأرض وما طحاها } وطحوها ، أَيْ : بسطها .
{ ونفس وما سوَّاها } وتسوية خلقها .
{ فألهمها فجورها وتقواها } علَّمها الطَّاعة والمعصية .
(1/1122)

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
{ قد أفلح } سعد { مَنْ زكاها } أصلح الله نفسه وطهَّرها من الذُّنوب .
{ وقد خاب مَنْ دسَّاها } جعلها الله ذليلةً خسيسةً حتى عملت بالفجور ، ومعنى دسَّاها : أخفى محلها ، ووضع منها وأحملها وخذلها .
{ كذبت ثمود بطغواها } بطغيانها كذَّبت الرُّسل .
{ إذِ انبعث } قام { أشقاها } عاقر النَّاقة .
{ فقال لهم رسول الله } [ صالحٌ ] . { ناقة الله } ذَروا ناقة الله { وسقياها } وشربها في يومها .
{ فكذَّبوه فعقروها } فقتلوا النَّاقة { فدمدم عليهم ربهم } أهلكهم هلاك استئصال { بذنبهم فسوَّاها } سوَّى الدمامة عليهم فعمَّهم بها . وقيل : سوَّى ثمود بالهلاك ، فأنزله بصغيرها وكبيرها .
{ ولا يخاف عقباها } لا يخاف اللَّهُ من أحدٍ تبعةَ ما أنزل بهم . وقيل : لا يخاف أشقاها عاقبة جنايته .
(1/1123)

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
{ والليل إذا يغشى } أيْ : يغشى الأُفق بظلمته .
{ والنهار إذا تجلى } بان وظهر .
{ وما خلق } ومَنْ خلق { الذكر والأنثى } وهو الله تعالى ، [ وجواب القسم وهو قوله : ]
{ إنَّ سعيكم لشتى } إنَّ عملكم لمختلفٌ . يريد : بينهما بُعدٌ يعني : عمل المؤمن وعمل الكافر . نزلت في أبي بكر الصِّديق وأبي سفيان بن حرب .
{ فأمَّا مَنْ أعطى } ماله { واتقى } ربَّه واجتنب محارمه .
{ وصدَّق بالحسنى } أيقن بأنَّ الله سبحانه سيخلف عليه . وقيل : صدَّق ب لا إله إلاَّ الله .
{ فسنيسره } فسنهيِّئه { لليسرى } للخلَّة اليسرى ، أَي : الأمر السَّهل من العمل بما يُرضي الله تعالى ، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه اشترى جماعةً يُعذِّبُهم المشركون ليرتدُّوا عن الإِسلام ، فوصفه الله تعالى بأنَّه أعطى وصدَّق بالمُجازاة من الله له .
{ وأمَّا مَنْ بخل } بالنَّفقة في الخير { واستغنى } عن الله ، فلم يرغب في ثوابه .
(1/1124)

فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
{ فسنيسره للعسرى } أَيْ : نخذله حتى يعمل بما يُؤدِّيه إلى العذاب والأمر العسير .
{ وما يغني عنه ماله إذ تردَّى } أَيْ : مات وهلك . وقيل : سقط في جهنَّم .
{ إنَّ علينا للهدى } أَي : إِنَّ علينا أَّنْ نبيِّن طريق الهدى من طريق الضَّلال .
{ وإن لنا للآخرة والأولى } فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ .
{ فأنذرتكم } خوَّفتكم { ناراَ تلظى } تتوقَّد .
{ لا يصلاها إلاَّ الأشقى } لا يدخلها إلاَّ الكافر . { الذي كذَّب وتولَّى } .
{ وسيجنبها } أَيْ : يبعد منها { الأتقى } يعني : أبا بكر رضوان الله عليه .
{ الذي يؤتي ماله يتزكى } يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، ولا يطلب رياءً ولا سمعةً .
{ وما لأحدٍ عنده من نعمة تجزى } وذلك أنَّ الكفَّار قالوا لمَّا اشترى أبو بكر رضي الله عنه بلالاً فأعتقه : ما فعل أبو بكر ذلك إلاَّ ليدٍ كانت عنده لبلال ، فقال الله تعالى : وما لأحد عنده من نعمةٍ تُجزى ، أَيْ : لم يفعل ذلك مجازاة ليدٍ أُسديت إليه .
{ إلاَّ ابتغاء وجه ربه الأعلى } أي : لكن طلب ثواب الله .
{ ولسوف يرضى } سيدخل الجنَّة .
(1/1125)

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
{ والضحى } أيْ : النَّهارِ كلِّه .
{ والليل إذا سجى } سكن بالخلق واستقرَّ بظلامه .
{ ما ودَّعك ربك وما قلى } وما تركك منذ اختارك ، وما أبغضك منذ أحبَّك ، وهذا جواب القسم . وقد كان تأخَّر الوحي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً ، فقال ناس : إنَّ محمداً ودَّعه ربُّه وقلاه ، فأنزل الله هذه السورة .
{ وللآخرة خير لك من الأولى } لأّنَّ الله يعطيك فيها الكرامات والدَّرجات .
{ ولسوف يعطيك ربك } في الآخرة من الثَّواب ، وفي مقام الشَّفاعة { فترضى } .
يروى أنَّه قال عليه السَّلام لمَّا نزلت هذه الآية : إذن لا أرضى وواحدٌ من أُمَّتي في النَّار . ثمَّ أخبر عن حاله قبل الوحي ، وذكَّره نعمه عليه فقال :
(1/1126)

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
{ ألم يجدك يتيماً } حين مات أبواك ولم يُخلِّفا لك مالاً ولا مأوى { فآوى } فآواك إلى عمِّك [ أبي طالب ] وضمَّك إليه حتى كفلك وربَّاك .
{ ووجدك ضالاً } عمَّا أنت عليه اليوم من معالم النُّبوَّة وأحكام القرآن والشَّريعة ، فهداك إليها ، كقوله : { ما كنتَ تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ . . . } الآية .
{ ووجدك عائلاً } فقيراً ولا مال لك ، فأغناك بمال خديجة رضي الله عنه ، ثمَّ بالغنائم .
{ فأما اليتيم فلا تقهر } على ماله ، واذكر يُتمك .
{ وأما السائل فلا تنهر } فلا تزجره ، ولكن بذلٌ يسير ، أو ردٌّ جميلٌ ، واذكر فقرك .
{ وأمَّا بنعمة ربك } أَيْ : النُّبوَّة والقرآن { فحدِّث } أخبر بها .
(1/1127)

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
{ ألم نشرح لك صدرك } أَلم نفتحْ ونوسِّع ، ونليِّن لك قلبك بالإِيمان والنُّبوَّة ، والعلم والحكمة؟ هذا استفهامٌ معناه التَّقرير .
{ ووضعنا } [ حططنا ] { عنك وزرك } ما سلف منك في الجاهليَّة . وقيل : يعني : الخطأ والسَّهو . وقيل : معناه : خفَّفنا عليك أعباء النُّبوَّة ، والوِزر في اللُّغة : الحِمل الثقيل :
{ الذي أنقض } أثقل { ظهرك } .
{ ورفعنا لك ذكرك } أي : إذا ذُكرت ذكرتَ معي .
{ فإنَّ مع العسر يسراً } أي : مع الشِّدَّة التي أنتَ فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً ، بإظهاري إيَّاك عليهم حتى تغلبهم ، وينقادوا لك طوعاً أو كرهاً .
{ إنَّ مع العسر يسراً } تكرارٌ للتَّأكيد . وقيل : إنَّ هذا عامٌّ في كلِّ عسرٍ أصاب المؤمن ، وهو من الله تعالى على وعد اليسر؛ إمَّا في الدُّنيا ، وإمَّا في الآخرة ، فالعسر واحدٌ ، واليسر اثنان .
{ فإذا فرغت } من صلاتك { فانصب } أَي : اتعب في الدُّعاء وسله حاجتك ، وارغب إلى الله تعالى به .
(1/1128)

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
{ والتين والزيتون } هما جبلان بالشَّام ، طور تينا ، وطور زيتا بالسِّريانية ، سمِّيا بالتِّين والزَّيتون؛ لأنَّهما يُنبتانهما .
{ وطور سِنين } جبل موسى عليه السَّلام ، وسينين : المبارك بالسِّريانية .
{ وهذا البلد الأمين } [ الآمن ] . يعني : مكَّة ، سمَّاه أميناً لأنه آمنٌ لا يُهاج أهله .
{ لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم } صورةٍ؛ لأنَّه معتدل القامة ، يتناول مأكوله بيده .
{ ثمَّ رددناه أسفل سافلين } إلى أرذل العمر ، والسَّافلون : هم الهرمى والزَّمنى والضَّعفى .
{ إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ ممنون } يعني : إنَّ المؤمن إذا ردَّ إلى أرذل العمر كُتب له مثل أجره إذا كان يعمل ، بخلاف الكافر ، فذلك قوله : { فلهم أجرٌ غير ممنون } أي : غير مقطوعٍ . وقيل : معنى : { ثم رددناه أسفل سافلين } : إلى النَّار ، يعني : الكافر ، ثمَّ استثنى المؤمنين ، فقال : { إلاَّ الذين آمنوا } وهذا القول أظهر ، ثمَّ قال توبيخاً للكافر :
{ فما يكذبك } أيُّها الإِنسان { بعد } هذه الحُجَّة { بالدين } بالحساب والجزاء ، ومعنى : ما يُكذِّبك : ما الذي يجعلك مكذِّباً بالدِّين . وقيل : إنَّ هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فما الذي يكذِّبك يا محمد بعد ما تبيَّن من قدرتنا على خلق الإِنسان ، وظهر من حجَّتنا ، كأنَّه قال : فمَنْ يقدر على تكذيبك بالثَّواب والعقاب .
{ أليس الله بأحكم الحاكمين } في جميع ما خلق وصنع ، وكلُّ ذلك دالٌّ على علمه وحكمته [ جلَّ جلاله ، وتقدَّست أسماؤه ، ولا إله غيره ] .
(1/1129)

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
{ أقرأ باسم ربك } يعني : اقرأ القرآن باسم ربك ، وهو أن تذكر التَّسمية في ابتداء كلِّ سورةٍ . { الذي خلق } الأشياء والمخلوقات .
{ خلق الإِنسان } يعني : ابن آدم { من علق } جمع عَلَقةٍ .
{ اقرأ وربك الأكرم } يعني : الحليم عن جهل العباد ، فلا يعجل عليهم بالعقوبة .
{ الذي علَّم بالقلم } ثمَّ بيَّن ما علَّم ، فقال :
{ علَّم الإنسان ما لم يعلم } وهو الخطُّ والكتابة .
{ كلا } حقَّاً { إنَّ الإِنسان ليطغى } ليتجاوز ويستكبر على ربِّه .
{ أن رآه } رأى نفسه { استغنى } .
{ إنَّ إلى ربك الرجعى } المرجع في الآخرة ، فيجازي الطَّاغي بما يستحقُّه .
(1/1130)

أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{ أرأيت الذي ينهى } يعني : أبا جهلٍ .
{ عبداً إذا صلى } وذلك أنَّه قال : لئن رأيتُ محمداً يصلي لأطأنَّ على رقبته ، ومعنى : أرأيتَ ها هنا تعجُّبٌ ، وكذلك قوله :
{ أرأيت إن كان على الهدى } . { أو أمر بالتقوى } .
{ أرأيت إن كذب وتولى } . والمعنى : أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلَّى وهو على الهدى آمرٌ بالتَّقوى ، والنَّاهي كاذبٌ مُتولٍّ عن الذِّكرى ، أَيْ : فما أعجب من ذا!
{ ألم يعلم } أبو جهلٍ { بأنَّ الله يرى } أَيْ : يراه ويعلم ما يفعله .
{ كلا } ردعٌ وزجرٌ { لئن لم ينته } عمَّا هو عليه من الكفر ومعاداة النبيِّ صلى الله عليه وسلم { لنسفعن بالناصية } لنجرَّن بناصيته إلى النَّار ، ثمَّ وصف ناصيته ، فقال :
{ ناصيةٍ كاذبة خاطئة } وتأويلها : صاحبُها كاذبٌ خاطىءٌ .
{ فليدع ناديه } فليستعن بأهل مجلسه ، وذلك أنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لأملأنَّ عليك هذا الوادي خيلاً جُرداً ، ورجالاً مُرداً ، فقال الله تعالى : { فليدع ناديه } .
{ سندع الزبانية } وهم الملائكة الغلاظ الشِّداد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو دعا ناديه لأخذته الزَّبانية عياناً "
{ كلا } ليس الأمر على ما عليه أبو جهلٍ { لا تطعه واسجد } وصلِّ { واقترب } تقرّب إلى ربِّك بطاعته .
(1/1131)

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
{ إنا أنزلناه } أي : أنزلنا القرآن { في ليلة القدر } ليلة الحكم والفصل ، يقضي الله فيها قضاء السَّنة ، والقَدْر : بمعنى التَّقدير . أنزل الله تعالى القرآن كلَّه في ليلة القدر جُملةً واحدةً من اللَّوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا ، ثمَّ نزل به جبريل عليه السَّلام على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عشرين سنةً .
{ وما أدراك } يا محمَّد عليه السَّلام { ما ليلة القدر } على التَّعظيم لشأنها والتَّعجيب منها ، ثمَّ أخبر عنها فقال :
{ ليلة القدر خير من ألف شهر } أي : من ألف شهرٍ ليس فيها ليلة القدر .
{ تنزل الملائكة والروح } يعني : جبريل عليه السَّلام { فيها } في تلك اللَّيلة { بإذن ربهم من كل أمر } أي : بكلِّ أمرٍ قضاه الله تعالى في تلك اللَّيلة للسَّنة ، وتمَّ الكلام ها هنا ، ثمَّ قال :
{ سلام هي } أَيْ : تلك اللَّيلة كلها سلامةٌ وخيرٌ لا داء فيها ، ولا يستطيع الشَّيطان أن يصنع فيها شيئاً . وقيل : يعني : تسليم الملائكة في تلك اللَّيلة على أهل المساجد { حتى مطلع الفجر } إلى وقت طلوع الفجر .
(1/1132)

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
{ لم يكن الذين كفروا } بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { من أهل الكتاب } أي : اليهود والنَّصارى { والمشركين } يعني : كفَّار العرب { منفكين } مُنتهين زائلين عن كفرهم { حتى تأتيهم البينة } يعني : أتتهم البينة ، أَي : البيان والبصيرة ، وهو محمد عليه السَّلام والقرآن . يقول : لم يتركوا كفرهم حتى بُعث إليهم محمَّدٌ عليه السَّلام ، وهذا فيمَنْ آمن من الفريقين ، ثمَّ فسَّر البيِّنة فقال :
{ رسول من الله يتلو صحفاً } كتباً { مطهرة } من الباطل .
{ فيها كتب } أحكامٌ { قيِّمة } مستقيمةٌ عادلةٌ ، ثمَّ ذكر كفَّار أهل الكتاب ، فقال :
{ وما تفرَّق الذين أوتوا الكتاب } أي : ما اختلفوا في كون محمَّدٍ عليه السَّلام حقاً لما يجدون من نعته في كتابهم { إلاَّ مِنْ بعد ما جاءتهم البينة } إلاَّ من بعد ما بيَّنوا أنَّه النبيُّ الذي وُعدوا به في التَّوراة والإِنجيل ، يريد : أنَّهم كانوا مجتمعين على صحَّة نبوَّته ، فلمَّا بُعث جحدوا نبوَّته وتفرَّقوا ، فمنهم مَنْ كفر بغياً وحسداً ، ومنهم مَنْ آمن ، وهذا كقوله تعالى : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم . . . } الآية .
{ وما أمروا } يعني : كفَّار الذين أُوتوا الكتاب { إلاَّ ليعبدوا الله } إلاَّ أنْ يعبدوا الله { مخلصين له الدين } الطَّاعة ، أَيْ : مُوحِّدين له لا يعبدون معه غيره . { حنفاء } على دين إبراهيم عليه السَّلام ودين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . وقوله : { وذلك دين القيمة } أي : دين الملَّة القيِّمة ، وهي المستقيمة ، وباقي الآية ظاهرٌ .
(1/1133)

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
{ إذا زلزلت الأرض زلزالها } أي : حُرِّكت حركةً شديدةً لقيام السَّاعة .
{ وأخرجت الأرض أثقالها } كنوزها وموتاها ، فألقتها على ظهرها .
{ وقال الإِنسان } يعني : الكافر الذي لا يؤمن بالبعث { ما لها } إنكاراً لتلك الحالة .
{ يومئذ تحدّث أخبارها } أَيْ : تُخبر بما عُمل عليها من خيرٍ وشرٍّ .
{ بأنَّ ربك أوحى لها } أي : أمرها بالكلام وأذن لها فيه .
{ يومئذ يصدر الناس } ينصرف النَّاس { أشتاتاً } متفرِّقين عن موقف الحساب ، فآخذٌ ذات اليمين ، وآخذٌ ذات الشِّمال { ليروا أعمالهم } أَيْ : ثوابها .
{ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره } يرى المؤمن ثوابه في الآخرة ، والكافر في الدُّنيا يراه في نفسه وأهله وماله .
{ ومَنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره } جزاء المؤمن في الدُّنيا بالأحزان والمصائب ، والكافر في الآخرة .
(1/1134)

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
{ والعاديات } يعني : الخيل في الغزو { ضبحاً } تضبح ضبحاً ، وهو صوت أجوافها إذا عدت .
{ فالموريات } وهي الخيل التي تُوري النَّار { قدحاً } بحوافرها إذا عدت في الأرض ذات الحجارة باللَّيل .
{ فالمغيرات صبحاً } يعني : الخيل تُغير على العدوِّ وقت الصبح ، وإنما يُغير أصحابها ولكن جرى الكلام على الخيل .
{ فأثرن } هيَّجن { به } بمكان عدوها { نقعاً } غباراً .
{ فوسطن } توسطن { به } بالمكان الذي هي به { جمعاً } من النَّاس أغارت .
عليهم ، يريد : صارت في وسط قومٍ من العدوِّ تُغير عليهم .
{ إن الإنسان } جواب القسم { لربه لكنود } لكفورٌ . يعني : الكافر يجحد نعم الله تعالى .
{ وإنه } وإنَّ الله تعالى { على ذلك } على كنوده { لشهيد } .
{ وإنّه لحب الخير } لأجل حبِّ المال { لشديد } لبخيلٌ .
{ أفلا يعلم } هذا الإنسان { إذا بعثر } قُلب فَأُثير { ما في القبور } يعني : إذا بُعث الموتى .
{ وحصِّل } بيِّن وأُبرز { ما في الصدور } [ من الكفر والإيمان .
{ إنَّ ربهم بهم يومئذٍ لخبير } عالمٌ فيجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم ، وإنَّما قال " بهم " لأنَّ الإِنسان اسم الجنس ] .
(1/1135)

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
{ القارعة } يعني : القارعة؛ لأنَّها تقرع القلوب بأهوالها .
{ ما القارعة } تفخيمٌ لشأنها وتهويلٌ ، كما قلنا في الحاقَّة .
{ يوم يكون الناس كالفراش } كغوغاء الجراد لا يتَّجه إلى جهةٍ واحدةٍ ، كذلك النَّاس إذا بُعثوا ماج بعضهم في بعضٍ للحيرة { المبثوث } المفرَّق .
{ وتكون الجبال كالعهن } كالصُّوف { المنفوش } المندوف ، لخفَّة سيرها .
{ فأمَّا مَنْ ثقلت موازينه } بالحسنات .
{ فهو في عيشة راضية } يرضاها .
{ وأما من خفت موازينه } . { فأمه هاوية } فمسكنه النَّار .
{ وما أدراك ماهِيَهْ } ثمَّ فسرها فقال :
{ نار حامية } شديدة الحرارة .
(1/1136)

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
{ ألهاكم التكاثر } . { حتى زرتم المقابر } شغلكم التَّكاثر بالأموال والأولاد والعدد عن طاعة الله تعالى : { حتى زرتم المقابر } : حتى أدرككم الموت على تلك الحالة . نزلت في اليهود قالوا : نحن أكثرُ من بني فلانٍ ، وبنو فلان أكثرُ من بني فلانٍ ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضُلالاً .
{ كلا } ليس الأمر الذي ينبغي أَنْ تكونوا عليه التَّكاثر { سوف تعلمون } عند النَّزع سوء عاقبة ما كنتم عليه .
{ ثمَّ كلا سوف تعلمون } سوء عاقبة ما كنتم عليه في القبر ، والتَّكرير لتأكيد التَّهديد .
[ { كلا لو تعلمون عليم اليقين } أَيْ : لو علمتم الأمرَ حقَّ علمه لشغلكم ذلك عمَّا أنتم فيه ، وجواب { لو } محذوف ] ثمَّ ابتدأ فقال :
{ لترون الجحيم } .
{ ثم لترونها } تأكيدٌ أيضاً { عَيْنَ اليقين } عياناً لستم عنها بغائبين .
{ ثمَّ لتسألنَّ يومئذ عن النعيم } عن الأمن والصَّحة فيما أفنيتموها .
(1/1137)

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
{ والعصر } هو الدَّهر ، أَقسم الله به .
{ إنَّ الإِنسان } يعني : الكافر العامل لغير طاعة الله { لفي خسر } خسرانٍ ، يعني : إنَّه يخسر أهله ومحله ومنزلته في الجنَّة .
{ إلاَّ الذين آمنوا } فإنَّهم ليسوا في خسرٍ . { وتواصوا بالحق } وصَّى بعضهم بالإِقامة على التَّوحيد والإِيمان { وتواصوا بالصَّبر } على طاعة الله والجهاد في سبيله . ويروى [ مرفوعاً ] : { إن الإنسان لفي خسرٍ } يعني : أبا جهلٍ ، { إلاَّ الذين آمنوا } يعني : أبا بكر { وعملوا الصالحات } يعني : عمر بن الخطاب . { وتواصوا بالحقِّ } يعني : عثمان . { وتواصوا بالصَّبر } يعني : علياً . رضي الله عنهم أجمعين .
(1/1138)

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
{ ويلٌ لكلِّ همزة لمزة } يعني : الإنسان الذي يغتاب النَّاس ويعيبهم . نزلت في أُميَّة بن خلف . وقيل : في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
{ الذي جمع مالاً وعدده } أعدَّه للدَّهر ، وقيل : أكثر عدده .
{ يحسب أنَّ ماله أخلده } في الدُنيا حتى لا يموت .
{ كلا } ليس الأمر على ما يحسب . { لينبذنَّ في الحطمة } ليطرحنَّ في النار .
(1/1139)

الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
{ التي تطلع على الأفئدة } أَيْ : يبلغ ألمها وإحراقها إلى الأفئدة .
{ إنها عليهم مؤصدة } مطبقةٌ .
{ في عمد } جمع عمودٍ . { ممددة } . قيل : يعني : أوتاد الأطباق التي تطبق عليهم ، ومعنى { في عمدٍ } : بعمدٍ . وقيل : إنَّها عمدٌ يُعذَّبون بها في النَّار .
(1/1140)

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
{ ألم ترَ } ألم تعلم . وقيل : ألم تخبر { كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } .
{ ألم يجعل كيدهم في تضليل } أضلَّ كيدهم عمَّا أرادوا من تخريب الكعبة .
{ وأرسل عليهم طيراً أبابيل } جماعاتٍ جماعاتٍ .
{ ترميهم بحجارة من سجيل } من آجرٍ .
{ فجعلهم كعصف مأكول } كزرعٍ أكلته الدَّوابُّ فداسته وفتَّتته . والعصف : ورق الزرع .
(1/1141)

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
{ لإِيلاف قريش } قيل : هذه اللام تتَّصل بما قبلها ، على معنى : أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وتألف رحلتيها . وقيل : معنى اللام التَّأخير ، على معنى : فليعبدوا ربَّ هذا البيت { لإِيلاف قريش } أَيْ : ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النِّعم واعترافاً بها . يقال : ألف الشَّيء وآلفه بمعنىً واحد ، والمعنى : لإِلف قريش رحلتيها ، وذلك انَّه كانت [ لهم ] رحلتان رحلةٌ في الشِّتاء إلى اليمين ، و [ رحلة ] في الصَّيف إلى الشَّام ، وبهما كانت تقوم معايشهم وتجاراتهم . وكان لا يتعرَّض لهم في تجارتهم أحدٌ . يقول : هم سكَّان حرم الله وولاة بيته ، فمنَّ الله عليهم بذلك ، وقال :
{ فليعبدوا ربَّ هذا البيت } . { الذي أطعهم من جوع } أَيْ : بعد جوعٍ ، وكانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الميتة والجيف ، ثمَّ كشف الله ذلك عنهم { وآمنهم من خوف } فلا يخافون في الحرم الغارة ، ولا يخافون في رحلتهم .
(1/1142)

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
{ أرأيت الذي يكذب بالدين } نزلت في العاص بن وائل . وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة . وقيل : في أبي سفيان ، وذلك أنَّه نحر جزوراً فأتاه يتيمٌ يسأله ، فقرعه بعصاه ، فذلك قوله تعالى : { يدعُّ اليتيم } أَيْ : يدفعه بجفوةٍ من حقِّه .
{ ولا يحضُّ على طعام المسكين } لا يُطعم المسكين ولا يأمر بإطعامه .
{ فويل للمصلين } . { الذين هم عن صلاتهم ساهون } غافلون يُؤخِّرونها عن وقتها .
{ الذين هم يراؤون } يعني : المنافقين يُصلُّون في العلانيَة ، ويتركون الصَّلاة في السِّرِّ .
{ ويمنعون الماعون } الزَّكاة وما فيه منفعةٌ من الفأس والقِدر والماء والملح .
(1/1143)

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
{ إنَّا أعطيناك الكوثر } قيل : هو نهرٌ في الجنَّة حافتاه الدُّرُّ . وقيل : هو الخير الكثير .
{ فصلِّ لربك } صلاة العيد ، يعني : يوم النَّحر { وانحر } نُسكك . وقيل : { فصلِّ } فضع يدك على نحرك في صلاتك .
{ إنَّ شانئك } مُبغضك { هو الأبتر } المُنقطع العقب . [ وقيل : المنقطع عن كلِّ خير . نزلت في العاص بن وائل سمَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أبتر عند موت ابنه القاسم ] .
(1/1144)

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
{ قل يا أيها الكافرون } نزلت في رهطٍ من قريشٍ قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم تعبد آلهتنا سنةً . ونعبد إلهك سنةً ، فأنزل الله هذه السُّورة .
{ لا أعبد ما تعبدون } في الحال .
{ ولا أنتم عابدون ما أعبد } في الحال ما أعبده .
{ ولا أنا عابد } في الاستقبال { ما عبدتم } .
{ ولا أنتم عابدون } في الاستقبال { ما أعبد } فنفى عنهم عبادة الله في الحال ، وفيما يستقبل ، وهذا في قومٍ أعلمه الله أنَّهم لا يؤمنون ، ونفى أيضاً عن نفسه عبادة الأصنام في الحال وفيما يستقبل ، لييئسوا عنه في ذلك .
{ لكم دينكم } الشِّرك { ولي ديني } الإِسلام ، وهذا قبل أَنْ يُؤمر بالحرب .
(1/1145)

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
{ إذا جاء نصر الله } إيَّاك على مَنْ ناوأك من اليهود والعرب { والفتح } يعني : فتح مكة .
{ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } جماعاتٍ جماعاتٍ بعد ما كان يدخل واحدٌ فواحدٌ . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزلت هذه السورة قال : قد نُعِيَتْ إليَّ نفسي .
{ فسبح بحمد ربك } أمره الله عزَّ وجل أن يُكثر التَّسبيح والاستغفار ، ليختم له في آخر عمره بالزِّيادة في العمل الصّالح .
(1/1146)

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
{ تبت يدا أبي لهب وتب } لمَّا نزل قوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّفا ، ونادى بأعلى صوته يدعو قومه ، فاجتمعوا إليه فأنذرهم النَّار ، وقال : إنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديدٍ ، فقال أبو لهب : تبَّاً لك ، ما دعوتنا إلاَّ لهذا ، فأنزل الله : { تبت يدا أبي لهب } أَيْ : خابت وخسرت { وتب } وخسر هو ، ولمَّا خوَّفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال : إنَّه إنْ كان ما يقوله ابن أخي حقاً؛ فإني أفتدي منه بمالي وولدي ، فقال الله تعالى :
{ ما أغنى عنه ماله وما كسب } يعني : ولده .
{ سيصلى ناراً ذات لهب } .
{ وامرأته حَمّالةَ الحطب } نقَّالة الحديث الماشية بالنَّميمة ، وهي أمُّ جميلٍ أخت أبي سفيان .
{ في جيدها } في عنقها { حبل من مسد } سلسلةٌ من حديدٍ ذرعها سبعون ذراعاً ، تدخل في فيها وتخرج من دبرها ، ويلوى سائرها في عنقها ، والمسد : كلُّ ما أُحكم به الحبل .
(1/1147)

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
روي أنَّ قوماً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربَّك ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :
{ قل هو الله أحد } أَيْ : الذي سألتم نسبته هو الله أحدٌ .
{ الله الصمد } السَّيِّد الذي قد انتهى إليه السُّؤدد . وقيل : الصَّمد : الذي لا جوف لَه ، ولا يأكل ولا يشرب . وقيل : هو المقصود إليه في الرَّغائب .
{ لم يلد ولم يولد } .
{ ولم يكن له كفواً أحد } لم يكن أحدٌ مثلاً له .
(1/1148)

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
{ قل أعوذ برب الفلق } نزلت هذه السُّورة والتي بعدها لمَّا سحر لبيدُ بن الأعصم اليهوديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتكى شكوى شديدةً ، فأعلمه الله بما سحر به ، وأين هو ، فبعث مَنْ أتى به ، وكان وَتَراً فيه إحدى عشرة عقدةً ، فجعلوا كلما حلُّوا عقدةً وجد راحةً حتى حلُّوا العقد كلَّها ، وأمره الله تعالى أن يتعوَّذ بهاتين السُّورتين ، وهما إحدى عشرة آية على عدد العقد ، وقوله : { برب الفلق } يعني : الصُّبح .
(1/1149)

وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
{ ومن شر غاسق } يعني : اللَّيل { إذا وقب } دخل .
{ ومن شر النفاثات } يعني : السَّواحر تنفث { في العقد } كأنَّها تنفخ فيها بشيءٍ تقرؤه .
{ ومن شرِّ حاسد إذا حسد } يعني : لبيداً الذي سحره .
(1/1150)

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
{ قل أعوذ برب الناس } . { ملك الناس } . { إله الناس } .
{ من شرِّ الوسواس } [ يعني : ذا الوسواس ] وهو الشيطان { الخناس } وهو الذي يخنس ويرجع إذا ذُكر الله ، والشَّيطان جاثمٌ على قلب الإِنسان ، فإذا ذَكر الله تنحَّى وخنس ، وإذا غفل التقم قلبه فحدَّثه ومنَّاه ، وهو قوله :
{ الذي يوسوس في صدور الناس } .
{ من الجِنَّة } أَيْ : الشيطان الذي هو من الجنِّ { والناس } عطف على قوله : الوسواس . والمعنى : من شرِّ ذي الوسواس ومن شر النَّاس ، كأنَّه أُمر أن يستعيذه من شرِّ الجنِّ ومن شر النَّاس .
(1/1151)