الكتاب : المحرر الوجيز
المؤلف : أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (المتوفى : 542هـ)
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير ]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكر فيهن أمر الله تعالى رسوله عليه السلام بأمرهن بإدناء الجلابيب ، ليقع سترهن ويبين الفرق بين الحرائر والإماء ، فيعرف الحرائر بسترهن فكيف عن معارضتهن من كان غزلاً أو شاباً وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، و " الجلباب " ثوب أكبر من الخمار ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء واختلف الناس في صورة إدنائه ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وعبيدة السلماني ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه ، وقوله تعالى : { ذلك أدنى أن يعرفن } أي على الجملة بالفرق حتى لا يختلطن بالإماء ، فإذا عرفن لم يقابلن بأذى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية ، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي ، وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت قنعها الذرة محافظة على زي الحرائر ، وباقي الآية ترجية ولطف وحظ على التوبة وتطميع في رحمة الله تعالى ، وفيها تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع .
(5/327)

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
اللام في قوله تعالى : { لئن } هي المؤذنة بمجيء القسم ، واللام في { لنغرينك } هي لام القسم ، وتوعد الله تعالى هذه الأصناف في هذه الآية ، وقرن توعده بقرينة متابعتهم وتركهم الانتهاء ، فقالت فرقة : إن هذه الأصناف لم تنته ولم ينفذ الله تعالى عليها هذا الوعيد ، فهذه الآية دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة ، وقالت فرقة : إن هذه الأصناف انتهت وتستر جميعهم بأمرهم وكفوا وما بقي من أمرهم أنفذ الله تعالى وعيداً بإزائه ، وهو مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم إلى غير ذلك مما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين من الإذلال في إخراجهم من المسجد وما نزل فيهم في سورة براءة وغير ذلك ، فهم لا يمتثلوا الانتهاء جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً . و { المنافقون } صنف يظهر الإيمان ولا يبطنه ، { والذين في قلوبهم مرض } هو الغزل وحب الزنا قاله عكرمة ، ومنه قوله تعالى : { فيطمع الذي في قلبه مرض } [ الأحزاب : 32 ] و { المرجفون في المدينة } هم قوم من المنافقين كانوا يتحدثون بغزو العرب المدينة وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيغلب ، ونحو هذا مما يرجفون به نفوس المؤمنين ، فيحتمل أن تكون هذه الأصناف مفترقة بعضها من بعض ، ويحتمل أن تكون داخلة في جملة المنافقين ، لكنه نص على هاتين الطائفتين وهو قد ضمهم عموم لفظة النفاق تنبيهاً عليهم وتشريداً بهم وغضاً منه ، و " نغرينك " معناه نحضك عليهم بعد تعيينهم لك ، قال ابن عباس المعنى لنسلطنك عليهم ، وقال قتادة لنحرشنك بهم ، وقوله تعالى : { ثم لا يجاورونك فيها } أي بعد الإغراء لأنك تنفيهم بالإخافة والقتل ، وقوله { إلا قليلاً } يحتمل أن يريد إلا جواراً قليلاً أو وقتاً قليلاً ، ويحتمل أن يريد إلا عدداً قليلاً ، كأنه قال إلا أقلاء ، وقوله تعالى : { ملعونين } يجوز أن ينتصب على الذم قاله الطبري ، ويجوز أن يكون بدلاً من أقلاء الذي قدرناه قبل في أحد التأويلات ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في { يجاورونك } كأنه قال ينتفون ملعونين ، فلما تقدر { لا يجاورونك } تقدير ينتفون ، حسن هذا ، واللعنة الإبعاد ، و { ثقفوا } معناه حصروا وقدر عليهم ، و { أخذوا } معناه أسروا ، والأخيذ الأسير ومنه قول العرب أكذب من الأخيذ الصيحان ، وقرأ جمهور الناس " وقتّلوا " بشد التاء ، ويؤيد هذا المصدر بعدها ، وقرأت فرقة بتخفيف التاء والمصدر على هذه القراءة على غير قياس ، قال الأعمش كل ما في القرآن غير هذا الموضع فهو " قتلوا " بالتخفيف ، وقوله تعالى : { سنة الله } نصب على المصدر ، ويجوز فيه الإغراء على بعد ، و { الذين خلوا } هم منافقو الأمم وقوله { ولن تجد لسنة الله تبديلاً } أي من مغالب يستقر تبديله فيخرج على هذا تبديل العصاة والكفرة ، ويخرج عنه أيضاً ما يبدله الله من سنة بسنّة بالنسخ .
(5/328)

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة متى هي فلم يجب في ذلك بشيء ، ونزلت الآية آمرة بأن يرد العلم فيها إلى الله تعالى إذ هي من مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها ، ثم توعد العالم بقربها في قوله { وما يدريك } الآية ، أي فينبغي أن تحذر ، و { قريباً } ظرف لفظه واحد جمعاً ، وإفراداً ، ومذكراً ومؤنثاً ، ولو كان صفة للساعة لكان قريبة ، ثم توعد تعالى { الكافرين } بعذاب لا ولي لهم منه ولا ناصر ، وقوله تعالى : { يوم } يجوز أن يكون متعلقاً بما قبله والعامل { يجدون } ، وهذا تقدير الطبري ، ويجوز أن يكون العامل فيه { يقولون } ويكون ظرفاً للقول .
وقرأ الجمهور " تُقلَّب وجوههم " على المفعول الذي لم يسم فاعله بضم التاء وشد اللام المفتوحة ، وقرأ أبو حيوة " تَقلب " بفتح التاء بمعنى تتقلب ، وقرأ ابن أبي عبلة " تتقلب " بتاءين ، وقرأ خارجة وأبو حيوة " نقلب " بالنون ، وقرأ عيسى بن عمر الكوفي " تُقلِب " بكسر اللام وضم التاء أي تقلب السعير . وبنصب الوجوه في هاتين القراءتين ، فيتمنون يومئذ الإيمان وطاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم التمني ، ثم لاذوا بالتشكي من كبرائهم في أنهم أضلوهم ، وقرأ جمهور الناس " سادتنا " وهو جمع سيد ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن عامر وحده من السبعة وأبو عبد الرحمن وقتادة وأبو رجاء والعامة في المسجد الجامع بالبصرة " ساداتنا " على جمع الجمع ، و { السبيلا } مفعول ثان لأن " أضل " معدى بالهمزة ، وضل يتعدى إلى مفعول واحد فيما هو مقيم كالطريق والمسجد وهي سبيل الإيمان والهدى ، ثم دعوا بأن يضاعف العذاب للكبراء المضلين أي عن أنفسهم وعمن أضلوا ، وقرأ عاصم وابن عامر وحذيفة بن اليمان والأعرج بخلاف عنه " لعناً كبيراً بالباء من الكبر ، وقرأ الجمهور والباقون " لعناً كثيراً " بالثاء ذات الثلاث والكثرة أشبه بمعنى اللعنة من الكبر أي العنهم مرات كثيرة .
(5/329)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
{ الذين آذوا موسى } هم قوم من بني إسرائيل ، واختلف الناس في الإذاية التي كانت وبرأه الله منها ، فقالت فرقة هي قصة قارون ، وإدخاله المرأة البغي في أن تدعي على موسى ثم تبرئتها له وإشهارها بداخلة قارون ، وقد تقدمت القصة في ذكر قارون ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي أن موسى وهارون خرجا من فحص التيه إلى جبل مات هارون فيه ، فجاء موسى وحده ، فقال قوم هو قتله ، فبعث الله تعالى ملائكة حملوا هارون حتى طافوا به في أسباط بني إسرائيل ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى ولم يكن فيه أثر ، وروي أنه حيي فأخبرهم بأمره وببراءة موسى ، وقال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة هي ما تضمنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيراً ويخفي بدنه فقال قوم هود آدر أو أبرص أو به آفة فاغتسل موسى يوماً وجعل ثيابه على حجر ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى يقول ثوبي حجر ثوبي حجر ، فمر في أتباعه على ملأ من بني إسرائيل ، فرواه سليمان مما ظن به ، الحديث بطوله خرجه البخاري { فبرأه الله مما قالوا } و " الوجيه " المكرم الوجه ، وقرأ الجمهور " وكان عند الله " ، وقرأ ابن مسعود " وكان عبد الله " ، ثم وصى عز وجل المؤمنين بالقول السداد ، وذلك يعم جميع الخيرات ، وقال عكرمة : أراد لا إله إلاَّ الله ، و " السداد " يعم جميع هذا وإن كان ظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافاً للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين ، ثم وعد تعالى بأنه يجازي على القول السديد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب ، وباقي الآية بين .
(5/330)

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
اختلف الناس في { الأمانة } فقال ابن مسعود هي أمانات المال كالودائع ونحوها ، وروي عنه أنه في كل الفرائض وأشدها أمانة المال ، وذهبت فرقة ، هي الجمهور ، إلى أنه كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا ، فالشرع كله أمانة ، قال أبيّ بن كعب من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها ، وقال أبو الدرداء غسل الجنابة أمانة ، ومعنى الآية { إنا عرضنا } على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي وتقتضي الثواب إن أحسنت والعقاب إن أساءت فأبت هذه المخلوقات وأشفقت ، ويحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها ، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة ، ويروى أنها قالت " رب ذرني مسخرة لما شئت أتيت طائعة فيه ولا تكلني إلى نظري وعملي ولا أريد ثواباً " ، وحمل الإنسان الأمانة أي التزم القيام بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه ، وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير ، وقال الحسن { حملها } معناه خان فيها والآية في الكافر والمنافق .
قال الفقيه الإمام القاضي : والعصاة على قدرهم ، وقال ابن عباس والضحاك وغيره { الإنسان } آدم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة ، وروي أن الله تعالى قال له : " يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فتحملها أنت بما فيها . قال : وما فيها؟ قال : إن أحسنت أجرت وإن أسأت عوقبت " ، قال نعم قد حملتها ، قال ابن عباس فما بقي له قدر ما بين الأولى إلى العصر حتى عصى ربه ، وقال ابن عباس وابن مسعود { الإنسان } ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه وكان قد تحمل الأمانة لأبيه أن يحفظ الأهل بعده ، وكان آدم سافر إلى مكة في حديث طويل ذكره الطبري وغيره ، وقال بعضهم { الإنسان } النوع كله وهذا حسن مع عموم الأمانة ، وقال الزجاج معنى الآية { إنا عرضنا الأمانة } في نواهينا وأوامرنا على هذه المخلوقات فقمن بأمرنا وأطعن فيما كلفناها وتأبين من حمل المذمة في معصيتنا ، وحمل الإنسان المذمة فيما كلفناه من أوامرنا وشرعنا .
قال الفقيه الإمام القاضي : و { الإنسان } على تأويله الكافر والعاصي ، وتستقيم هذه الآية مع قوله تعالى : { أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] فعلى التأويل الأول الذي حكيناه عن الجمهور يكون قوله تعالى : { أتينا طائعين } [ فصت : 11 ] إجابة لأمر أمرت به ، وتكون هذه الآية إباية وإشفاقاً من أمر عرض عليها وخيرت فيه ، وروي أن الله تعالى عرض الأمانة على هذه المخلوقات فأبت ، فلما عرضها الله تعالى على آدم قال : أنا أحملها بين أذني وعاتقي ، فقال الله تعالى له : إني سأعينك قد جعلت لبصرك حجاباً فأغلقه عما لا يحل لك ولفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك .
(5/331)

قال الفقيه الإمام القاضي : وفي هذا المعنى أشياء تركتها اختصاراً لعدم صحتها ، وقال قوم : إن الآية من المجاز ، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال رأينا أنها لا تطيقها وأنها لو تكلمت لأبتها وأشفقت فعبر عن هذا المعنى بقوله { إنا عرضنا } الآية ، وهذا كما تقول عرضت الحمل على البعير فأباه وأنت تريد بذلك قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه ، وقوله { ليعذب الله } اللام لام العاقبة لأن الإنسان لم يحمل ليقع العذاب لكن حمل فصار الأمر وآل إلى أن يعذب من نافق ومن أشرك وأن يتوب على من آمن وقرأ الجمهور و " يتوب " بالنصب عطفاً على قوله { ليعذب } وقرأ الحسن بن أبي الحسن و " يتوبُ " بالرفع علىلقطع والاستئناف ، وباقي الآية بين .
(5/332)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس ، أي { الحمد } على تنوعه هو { لله } تعالى من جميع جهات الفكرة ، ثم جاء بالصفات التي تستوجب المحامد وهي ملكه جميع ما في السماوات والأرض ، وعلمه المحيط بكل شيء وخبرته بالأشياء إذ وجودها إنما هو به جلت قدرته ورحمته بأنواع خلقه وغفرانه لمن سبق في علمه أن يغفر له من مؤمن ، وقوله تعالى : { وله الحمد في الآخرة } يحتمل أن تكون الألف واللام للجنس أيضاً وتكون الآية خبراً ، أي أن الحمد في الآخرة هو له وحده لإنعامه وإفضاله وتغمده وظهور قدرته وغير ذلك من صفاته ، ويحتمل أن تكون الألف واللام فيه للعهد والإشارة إلى قوله تعالى : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] أو إلى قوله { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } [ الزمر : 74 ] و { يلج } معناه يدخل ، ومنه قول شاعر : [ الطويل ]
رأيت القوافي يتلجن هوالجا ... تضايق عنها أن تولجها الابر
و { يعرج } معناه يصعد ، وهذه الرتب حصرت كلما يصح علمه من شخص أو قول أو معنى ، وقرأ أبو عبد الرحمن " وما يُنَزّل من السماء " بضم الياء وفتح النون وشد الزاي .
(5/333)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب ، وقال اللات والعزى ما ثم ساعة تأتي ولا قيامة ولا حشر فأمر الله تعالى نبيه أن يقسم بربه مقابلة لقسم أبي سفيان قبل رداً وتكذيباً وإيجاباً لما نفاه وأجاز نافع الوقف على { بلى } وقرأ الجمهور " لتأتينكم " بالتاء من فوق ، وحكى أبو حاتم قراءة " ليأتينكم " بالياء على المعنى في البعث .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بخلاف " عالمِ " بالخفض على البدل من { ربي } ، وقرأ نافع وابن عامر " عالمُ " بالرفع على القطع ، أي هو عالم ، ويصح أن يكون " عالم " رفع بالابتداء وخبره { لا يعزب } وما بعده ، ويكون الإخبار بأن العالم لا يعزب عنه شيء إشارة إلى أنه قد قدر وقتها وعلمه والوجه الأول أقرب ، وقرأ حمزة والكسائي " علامِ " على المبالغة وبالخفض على البدل و { يعزب } معناه يغيب ويبعد ، وبه فسر مجاهد وقتادة ، وقرأ جمهور القراء " لا يعزُب " بضم الزاي ، وقرأ الكسائي وابن وثاب " لا يعزب " بكسرها وهما لغتان ، و { مثقال ذرة } معناه مقدار الذرة ، وهذا في الأجرام بين وفي المعاني بالمقايسة وقرأ الجمهور " ولا أصغرُ ولا أكبر " عطفاً على قوله { مثقال } وقرأ نافع والأعمش وقتادة " أصغرَ وأكبرَ " بالنصب عطفاً على { ذرة } ورويت عن أبي عمرو ، وفي قوله تعالى : { إلا في كتاب مبين } ضمير تقديره إلا هو في كتاب مبين ، والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ ، واللام من قوله تعالى : { ليجزي } يصح أن تكون متعلّقة ، بقوله تعالى : { لتأتينكم } ويصح أن تكون متعلقة بقوله { لا يعزب } ، ويصح أن تكون متعلقة بما في قوله { إلا في كتاب مبين } من معنى الفعل لأن المعنى إلا أثبته في كتاب مبين ، و " المغفرة " تغمد الذنوب ، و " الرزق الكريم " الجنة { والذين } معطوف على { الذين } الأول أي وليجزي الذي سعوا ، و { معاجزين } معناه محاولين تعجيز قدرة الله فيهم ، وقرأ الجحدري وابن كثير " معجزين " دون ألفٍ أي معجزين قدرة الله تعالى بزعمهم ، وقال ابن الزبير : معناه مثبطين عن الإيمان من أراده مدخلين عليه العجز في نشاطه وهذا هو سعيهم في الآيات ، ثم بين تعالى جزاء الساعين كما بين قبل جزاء المؤمنين ، وقرأ عاصم في رواية حفص " أليمٌ " بالرفع على النعت للعذاب ، وقرأ الباقون " أليمٍ " بالكسر على النعت ، ل { رجز } ، و " الرجز " العذاب السيىء جداً ، وقرأ ابن محيصن " من رُجز " بضم الراء .
(5/334)

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
قال الطبري والثعلبي وغيرهما { ويرى } معطوف على ما قبله من الأفعال والظاهر أنه فعل مستأنف وأن الواو إنما عطفت جملة على جملة وكأن المعنى الإخبار بأن أهل العلم يرون الوحي المنزل على محمد حقاً وأنه يهدي إلى صراط الله ، وقوله { الذي أنزل } مفعول ب { يرى } ، و { الحق } مفعول ثان وهو عماد ، و { الذين أوتوا العلم } قيل هم أسلم من أهل الكتاب .
وقال قتادة هم أمة محمد المؤمنون به كان من كان ، { ويهدي } معناه يرشد ، و " الصراط " الطريق ، وأراد طريق الشرع والدين ، ثم حكي عن الكفار مقالتهم التي قالوها على جهة التعجب والهزء ، أي قالها بعضهم لبعض كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه : هل أدلك على أضحوكة ونادرة فلما كان البعث عندهم من البعيد المحال جعلوا من يخبر به في حيز من يتعجب منه ، والعامل في { إذا } فعل مضمر قبلها فيما قال بعض الناس تقديره " ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم " ، ويصح أن يكون العامل ما في قوله { إنكم لفي خلق جديد } من معنى الفعل لأن تقدير الكلام " ينبئكم إنكم لفي خلق جديد إذا مزقتم " ، وقال الزجاج العامل في { إذا } ، { مزقتم } وهو خطأ وإفساد للمعنى المقصود ، ولا يجوز أن يكون العامل { ينبئكم } بوجه ، و { مزقتم } معناه بالبلى وتقطع الأوصال في القبور وغيرها ، وكسر الألف من { إنكم } لأن { ينبئكم } في معنى يقول لكم ولمكان اللام التي في الخبر ، و { جديد } معناه مجدد ، وقولهم { افترى } هو من قول بعضهم لبعض ، وهي ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت مفتوحة غير ممدودة ، فكأن بعضهم استفهم بعضاً عن محمد أحال الفرية على الله هي حاله أم حال الجنون ، لأن هذا القول إنما يصدر عن أحد هذين فأضرب القرآن عن قولهم وكذبه ، فكأنه قال ليس الأمر كما قالوا { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة } والإشارة بذلك إليهم ، { في العذاب } يريد عذاب الآخرة لأنهم يصيرون إليه ، ويحتمل أن يريد { في العذاب } في الدنيا بمكابدة الشرع ومكابرته ومحاولة إطفاء نور الله تعالى وهو يتم ، فهذا كله عذاب وفي { الضلال البعيد } أي قربت الحيرة وتمكن التلف لأنه قد أتلف صاحبه عن الطريق الذي ضل عنه .
(5/335)

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
الضمير في { يروا } لهؤلاء { الذين لا يؤمنون بالآخرة } [ سبأ : 8 ] وقفهم الله تعالى على قدرته وخوفهم من إحاطتها بهم ، المعنى أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي لا سبيل لهم إلى فقد ذلك عن أبصارهم ، ولا عدم إحاطته بهم ، وقرأ الجمهور " إن نشأ نخسف " و " نسقط " بالنون في الثلاثة وقرأ حمزة والكسائي " إن يشأ يخسف بهم أو يسقط " بالياء في الثلاثة وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف والأعمش وعيسى واختارها أبو عبيد ، و " خسف الأرض " هو إهواؤها بهم وتهورها وغرقهم فيها ، و " الكسف " قيل هو مفرد اسم القطعة ، وقيل هو جمع كسفه جمعها على حد تمرة وتمر ومشهور جمعها كسف كسدرة وسدر وأدغم الكسائي الفاء في الباء في قوله { نخسف بهم } قال أبو علي وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كان الباء تدغم في الفاء كقوله اضرب فلاناً ، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقوله " اضرب محمداً " ولا تدغم الميم في الباء كقولك اضمم بكراً ، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم ، والإشارة بقوله تعالى في ذلك إلى إحاطة السماء بالمرء ومماسة الأرض له على كل حال ، و " المنيب " الراجع التائب ، ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان احتجاجاً على ما منح محمداً ، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبدنا قديماً بكذا وكذا ، فلما فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالفكر والعتو ، والمعنى قلنا { يا جبال } ، و { أوبي } معناه ارجعي معه لأنه مضاعف آب يؤوب ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم معناه سبحي معه أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح ، أي ترده بالذكر ثم ضوعف الفعل للمبالغة ، وقيل معناه سيري معه لأن التأويب سير النهار كان الإنسان يسير بالليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده فكأنه يؤوبه ، فقيل له التأويب ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب
ومنه قول ابن أبي مقبل : [ الطويل ]
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح
وقال مروح { أوبي } سبحي بلغة الحبشة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف غير معروف ، وقال وهب بن منبه : المعنى نوحي معه والطير تسعدك على ذلك ، قال فكان داود إذا نادى بالنياحة والحنين أجابته الجبال وعكفت الطير عليه من فوقه ، قال فمن حينئذ سمع صدى الجبال ، وقرأ الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق " أوبي " بضم الهمزة وسكون الواو أي ارجعي معه أي في السير أو في التسبيح ، وأمر الجبال كما تؤمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل كذلك يؤمر وكذلك يكنى عنه ويوصف ومنه المثل " يا خيل الله اركبي " ومنه
(5/336)

{ مآرب أخرى } [ طه : 18 ] وهذا كثير ، وقرأ الأعرج وعاصم بخلاف وجماعة من أهل المدينة " والطيرُ " بالرفع عطفاً على لفظ قوله { يا جبال } ، وقرأ نافع وابن كثير والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر " والطيرَ " بالنصب فقيل ذلك عطف على { فضلاً } وهو مذهب الكسائي ، وقال سيبويه هو على موضع قوله { يا جبال } لأن موضع المنادى المفرد نصب ، وقال أبو عمرو : نصبها بإضمار فعل تقديره وسخرنا الطير ، { وألنا له الحديد } معناه جعلناه ليناً ، وروى قتادة وغيره أن الحديد كان له كالشمع لا يحتاج في عمله إلى نار ، وقيل أعطاه قوة يثني بها الحديد ، وروي أنه لقي ملكاً وداود يظنه إنساناً وداود متنكر خرج ليسأل الناس عن نفسه في خفاء ، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل فيه الملك ما قولك في هذا الملك داود؟ فقال له الملك : نعم العبد لولا خلة فيه ، قال داود وما هي؟ قال : يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يديه لتمت فضائله ، فرجع فدعا الله تعالى في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه تعالى صنعة لبوس وألان له الحديد ، فكان فيما روي يصنع ما بين يومه وليلته درعاً تساوي ألف درهم حتى ادخر منها كثيراً وتوسعت معيشة منزله ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين ، وقوله تعالى : { أن اعمل } قيل إن { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، قيل هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، و " السابغات " الدروع الكاسيات ذوات الفضول ، قال قتادة داود عليه السلام أول من صنعها ، ودرع الحديد مؤنث ودرع المرأة مذكر ، وقوله تعالى : { وقدر في السرد } اختلف المتأولون في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد ، إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه ، قال الشماخ : " كما تابعت سرد العنان الخوارز " ، ومنه سرد الحديث ، وقيل للدرع مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق ومنه قول الشاعر [ القرطبي ] : [ الكامل ]
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صَنَعُ السوابغ تبع
ومنه قول دريد بالفارسي المسرد ، فقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لاسبها من خلالها ، وقال ابن عباس التقدير الذي أمر به هو المسمار يريد ثقبه حين يشد نتيرها ، وذكر البخاري في مصنفه ذلك فقال : المعنى لا تدق المسمار فيسلسل ، ويروى فيتسلسل ، ولا تغلظه فيقصم بالقاف ، وبالفاء أيضاً رواية ، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالاً ، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة ، أي قدر ما يأخذ هذين المعنيين بقسطه ، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ولا الخفة وحدها فتزيل المنعة ، وقوله تعالى : { واعملوا صالحاً } لما كان الأمر لداود وآله حكى وإن كانوا لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم ، ثم توعدهم تعالى بقوله : { إني بما تعملون بصير } أي لا يخفى علي حسنه من قبيحة وبحسب ذلك يكون جزائي لكم .
(5/337)

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
قال الحسن : عقر سليمان الخيل أسفاً على ما فوتته من فضل وقت صلاة العصر فأبدله الله تعالى خيراً منها وأسرع الريح تجري بأمره ، وقرأ جمهور القراء " الريحَ " بالنصب على معنى ولسليمان سخرنا الريح ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والأعرج " الريحُ " بالرفع على تقديره تسخرت الريح أو على الابتداء والخبر في المجرور ، وذلك على حذف مضاف تقديره ولسليمان تسخير الريح ، وقرأ الحسن " ولسليمان تسخير الرياح " وكذلك جمع في كل القرآن ، وقوله تعالى : { غدوها شهر ورواحها شهر } قال قتادة معناه أنها كانت تقطع به في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة وتقطع به في الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر ، فروي عن الحسن البصري أنه قال كان يخرج من الشام من مستقره تدمر التي بنتها له الجن بالصفاح والعمد فيقيل في اصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان ونحو هذا ، وكانت الأعصار تقل بساطه وتحمله بعد ذلك الرخاء ، وكان هذا البساط من خشب يحمل فيما روي أربعة آلاف فارس وما يشبهها من الرجال والعدد ويتسع بهم ، وروي أكثر من هذا بكثير ولكن عدم صحته مع بعد شبهه أوجب اختصاره .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الجيوش أربعة آلاف " وما كان سليمان ليعدو الخير ، وقرأ ابن أبي عبلة " غدوتها شهر وروحتها شهر " وكان إذا أراد قوماً لم يشعروا به حتى يظلمهم في جو السماء ، وقوله تعالى : { وأسلنا له عين القطر } ، روي عن ابن عباس وقتادة أنه كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس يصنع له منها جميع ما أحب ، و { القطر } : النحاس ، وقالت فرقة { القطر } الفلز كله النحاس والحديد وما جرى مجراه ، كان يسيل له منه عيون ، وقالت فرقة بل معنى { أسلنا له عين القطر } أذبنا له النحاس عن نحو ما كان الحديد يلين لداود ، قالوا وكانت الأعمال تتأتى منه لسليمان وهو بارد دون نار ، و { عين } على هذا التأويل بمعنى الذات ، وقالوا لم يلن النحاس ولاذاب لأحد قبله ، وقوله { من يعمل } يحتمل أن { من } تكون في موضع نصب على الاتباع لما تقدم بإضمار فعل تقديره وسخرنا من الجن من يعمل ، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على الابتداء والخبر في المجرور ، و { يزغ } معناه يمل أي ينحرف عاصياً ، وقال { عن أمرنا } يقل عن إرادتنا لأنه لا يقع في العالم شيء يخالف الإرادة ، ويقع ما يخالف الأمر ، قال الضحاك وفي مصحف عبد الله " ومن يزغ عن أمرنا " بغير { منهم } ، وقوله تعالى : { من عذاب السعير } قيل عذاب الآخرة ، وقيل بل كان قد وكل بهم ملك وبيده سوط من نار السعير ، فمن عصى ضربه فأحرقه به .
(5/338)

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
" المحاريب " الأبنية العالية الشريفة ، قال قتادة القصور والمساجد ، وقال ابن زيد المساكن ، والمحراب أشرف موضع في البيت ، والمحراب موضع العبادة أشرف ما يكون منه ، وغلب عرف الاستعمال في موضع وقوف الإمام لشرفه ومن هذه اللفظة قول عدي بن زيد : [ الخفيف ]
كدمى العاج في المحاريب أو كال ... بيض في الروض زهره مستنير
" والتماثيل " قيل كانت من زجاج ونحاس ، تماثيل أشياء ليست بحيوان ، وقال الضحاك كانت تماثيل حيوان ، وكان هذا من الجائز في ذلك الشرع .
قال القاضي أبو محمد : ونسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قوم : حرم التصوير لأن الصور كانت تعبد ، وحكى مكي في الهداية أن فرقة كانت تجوز التصوير وتحتج بهذه الآية وذلك خطأ ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه ، و " الجوابي " جمع جابية وهي البركة التي يجبى إليها الماء الذي يجمع قال الراجز : [ الرجز ]
فصحبت جابية صهارجا ... كأنه جلد السماء خارجا
وقال مجاهد : " الجوابي " جمع جوبة وهي الحفرة العظيمة في الأرض .
قال الفقيه الإمام القاضي : ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقيّ تفهق
وأنشده الطبري : تروح على آل المحلق ، ويروى السيح بالسين غير نقط ، وبالحاء غير نقط أيضاً ، وهو الماء الجاري على وجه الأرض ، ويروى الشين والخاء منقوطين ، فيقال أراد كسرى ويقال أراد شيخاً من فلاحي سواد العراق غير معين وذلك أنه لضعفه يدخر الماء في جابيته ، فهي تفهق أبداً فشبهت الجفنة بها لعظمها ، قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد " الجوابي " الحياض ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي " كالجواب " بغير ياء في الوصل والوقف ، وقرأ أبو عمرو وعيسى بغير ياء في الوقف وياء في الوصل ، وقرأ ابن كثير بياء فيهما ، ووجه حذف الياء التخفيف والإيجاز ، وهذا كحذفهم ذلك من القاض والغاز والهاد ، وأيضاً فلما كانت الألف واللام تعاقب التنوين وكانت الياء تحذف مع التنوين وجب أن تحذف مع ما عاقبه كما يعملون للشيء أبداً عمل نقيضه ، و { راسيات } معناه ثابتات لكبرها ليست مما ينقل ولا يحمل . ولا يستطيع على عمله إلا الجن وبالثبوت فسرها الناس ، ثم أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا بالطاعات ، وقوله تعالى : { شكراً } يحتمل أن يكون نصبه على الحال ، أي اعملوا بالطاعات في حال شكر منكم لله على هذه النعم ، ويحتمل أن يكون نصبه على جهة المفعول ، أي اعملوا عملاً هو الشكر كأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي نفسها الشكر إذ سدت مسده ، وفي الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال :
(5/339)

" ثلاث من أوتيهن فقد أوتي العمل شكراً العدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية " ، وروي أن داود عليه السلام قال يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك ، فقال : يا داود الآن عرفتني حق معرفتي ، وقال ثابت : روي أن مصلى داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلاً ونهاراً كانوا يتناوبونه دائماً ، وكان سليمان عليه السلام فيما روي يأكل خبز الشعير وطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك ، وروي أنه ما شبع قط فقيل له في ذلك فقال : أخاف أن أنسى الجياع ، وقوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } يحتمل أن تكون مخاطبة لآل داود ، ويحتمل أن تكون مخاطبة لآل محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى كل وجه ففيها تنبيه وتحريض ، وسع عمر بن الخطاب رجلاً يقول : اللهم اجعلني من القليل ، فقال له عمر : ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل : أردت قوله عز وجل : { وقليل من عبادي الشكور } ، فقال عمر رحمه الله : كل الناس أعلم من عمر .
قال الفقيه الإمام القاضي : وقد قال تعالى { وقليل ما هم } [ ص : 24 ] ، والقلة أيضاً بمعنى الخمور منحة من الله تعالى ، فلهذا الدعاء محاسن .
(5/340)

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
الضمير في { عليه } عائد على سليمان ، و { قضينا } بمعنى أنفذنا وأخرجناه إلى حيز الوجود وإلا فالقضاء الآخر به متقدم في الأزل ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود في قصص هذه الآية أن سليمان عليه السلام كان يتعبد في بيت المقدس وكان ينبت في محرابه كل سنة شجرة فكان يسألها عن منافعها ومضارها وسائر شأنها فتخبره فيأمر بها فتقلع فتصرف في منافعها وتغرس لتتناسل ، فلما كان عند موته خرجت شجرة فقال لها ما أنت؟ فقالت : أنا الخروب خرجت لخراب ملكك هذا ، فقال سليمان عليه السلام : ما كان الله ليخربه وأنا حي ولكنه لا شك حضور أجلي فاستعد عليه السلام وغرسها وصنع منها عصا لنفسه وجد في عبادته ، وجاءه بعد ذلك ملك الموت فأخبره أنه قد أمر بقبض روحه وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة ، فروي أنه أمر الجن حينئذ فصنعت له قبة من رخام تشف وجعل فيها يتعبد ولم يجعل لها باباً ، وتوكأ على عصاه على موضع يتماسك معه وإن مات ، ثم توفي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة ، وروي أنه استعد في تلك القبة بزاد سنة وكان الجن يتوهمون أنه يتغذى بالليل وكانوا لا يقربون من القبة ولا يدخلون من كوة كانت في أعاليها ، ومن رام ذلك منهم احترق قبل الوصول إليها ، هذا في المدة التي كان سليمان عليه السلام حياً في القبة ، فلما مات بقيت تلك الهيبة على الجن ، وروي أن القبة كان لها باب وأن سليمان أوصى بعض أهله بكتمان موته على الجن والإنس وأن يترك على حاله تلك سنة ، وكان غرضه في هذه السنة أن تعمل الجن عملاً كان قد بدىء في زمن داود قدر أنه بقي منه عمل سنة ، فأحب الفراغ منه ، فلما مضى لموته سنة ، خر عن عصاه والعصا قد أكلته الأرض ، وهي الدودة التي تأكل العود ، فرأت الجن انحداره ، فتوهمت موته فجاء جسور منهم فقرب فلم يحترق ، ثم خطر فعاد ثم قرب أكثر ثم قرب حتى دخل من بعض تلك الكوى فوجد سليمان ميتاً ، فأخبر بموته ، فنظر ذلك الأكل فقدر أنه منذ سنة ، وقال بعض الناس : جعلت الأرضة فأكلت يوماً وليلة ثم قيس ذلك بأكلها في العصا فعلم أنها أكلتها منذ سنة فهكذا كانت دلالة { دابة الأرض } على موته ، وللمفسرين في هذه القصص إكثار عمدته ما ذكرته ، وقال كثير من المفسرين { دابة الأرض } هي سوسة العود وهي الأرضة ، وقرأ ابن عباس والعباس بن المفضل " الأرض " بفتح الراء جمع أرضة فهذا يقوي ذلك التأويل ، وقالت فرقة { دابة الأرض } حيوان من الأرض شأنه أن يأكل العود ، وذلك موجود وليس السوسة من دواب الأرض ، وقالت فرقة منها أبو حاتم اللغوي { الأرض } هنا مصدر أرضت الأثواب والخشبة إذا أكلتها الأرضة ، فكأنه قال دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة على جهة التسوس ، وفي مصحف عبد الله " الأرض أكلت منسأته " ، والمنسأة العصا ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
(5/341)

إذا دببت على المنساة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقرأ جماعة من القراء " منساته " بغير همز منها أبو عمرو ونافع ، قال أبو عمرو لا أعرف لها اشتقاقاً فأنا لا أهمزها لأنها إن كانت مما يهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز ، وإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت لأنه لا يجوز لي همز ما لا يهمز ، وقال غيره أصلها الهمز وهي " المنسأة " مفتوحة من نسأت الإبل والغنم والناقة إذا سقتها ومنه قول طرفة : [ الطويل ]
أمون كعيدان الاران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد
ويروى " وعنس " كألواح وخففت همزتها جملة ، وكان القياس أن تخفف بين بين ، وقرأ باقي السبعة " منسأته " على الأصل بالهمز ، وقرأ حمزة " مَنساته " بفتح الميم وبغير همز ، وقرأت فرقة " مسنأْته " بهمزة ساكنة وهذا لا وجه له إلا التخفيف في تسكين المتحرك لغير علة كما قال امرؤ القيس : [ السريع ]
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغلِ
وقرأت فرقة " من ساتِه " بفصل " من " وكسر التاء وهذه تنحو إلى سية القوس لأنه يقال سية وساة ، فكأنه قال " من ساته " ثم سكن الهمزة ومعناها من طرف عصاه أنزل العصا منزلة القوس ، وقال بعض الناس : إن سليمان عليه السلام لم يمت إلا في سفر مضطجعاً ولكنه كان في بيت مبني عليه وأكلت الأرضية عتبة الباب حتى خر البيت فعلم موته .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف وقرأ الجمهور " تبينت الجنُّ " بإسناد الفعل إليها أي بان أمرها كأنه قال افتضحت الجن أي للإنس ، هذا تأويل ، ويحتمل أن يكون قوله { تبينت الجن } بمعنى علمت الجن وتحققت ، ويريد { الجن } جمهورهم والفعلة منهم والخدمة ويريد بالضمير في { كانوا } رؤساءهم وكبارهم لأنهم هم الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم من الجن والإنس ويوهمونهم ذلك ، قاله قتادة ، فيتيقن الأتباع أن الرؤساء { لو كانوا } عالمين الغيب { ما لبثوا } و { أن } على التأويل الأول بدل من { الجن } وعلى التأويل الثاني مفعولة محضة ، وقرأ يعقوب " تُبينت الجن " على بناء الفعل للمفعول أي تبينتها الناس ، و { أن } على هذه القراءة بدل ، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر أي " بأن " على هذه القراءة وعلى التأويل الأول من القراءة الأولى .
قال الفقيه الإمام القاضي : مذهب سيبويه أن { أن } في هذه الآية لا موضع لها من الإعراب وإنما هي مؤذنة بجواب ما تنزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقق واليقين ، لأن هذه الأفعال التي تبينت وتحققت وعلمت وتيقنت ونحوها تحل محل القسم في قولك : علمت أن لو قام زيد ما قام عمرو ، فكأنك قلت والله لو قام زيد ما قام عمرو ، فقوله { ما لبثوا } على هذا القول جواب ما تنزل منزلة القسم لا جواب { لو } وعلى الأقوال الأول جواب { لو } وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ " تبينت الجن " أي تبينت الإنس الجن ، و { العذاب المهين } هو العمل في تلك السخرة ، والمعنى أن الجن لو كانت تعلم الغيب لما خفي عليها موت سليمان ، وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة وهو ميت ، ف { المهين } المذل من الهوان ، قال الطبري وفي بعض القراءات " فلما خر تبينت الإنس أن الجن لو كانوا " وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين وذكر أبو حاتم أنها كذلك في مصحف ابن مسعود . قال القاضي أبو محمد : وكثر المفسرون في قصص هذه الآية بما لا صحة له ولا تقتضيه ألفاظ القرآن ( وفي معانيه بعد فاختصرته لذلك ) .
(5/342)

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
هذا مثل لقريش بقوم أنعم الله عليهم وأرسل إليهم الرسل فكفروا وعصوا ، فانتقم الله منهم ، أي فأنتم أيها القوم مثلهم و { سبأ } هنا أراد به القبيل ، واختلف لم سمي القبيل بذلك ، فقالت فرقة هو اسم لامرأة كانت أماً للقبيل ، وقال الحسن بن أبي الحسن في كتاب الرماني هو اسم موضع فسمي القبيل به وقال الجمهور هو اسم رجل هو أبو القبيل كله قيل هو ابن يشجب بن يعرب ، وروي في هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فروة بن مسيك عن { سبأ } فقال : هو اسم رجل منه تناسلت قبائل اليمن .
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعرج " لسبإ " بهمزة منونة مكسورة على معنى الحي ، وقرأ أبو عمرو والحسن " لسبأ " بهمزة مفتوحة غير مصروف على معنى القبيلة ، وقرأ جمهور القراء " في مساكنهم " لأن كل أحد له مسكن ، وقرأ الكسائي وحده " في مسكِنهم " بكسر الكاف أي في موضع سكناهم وهي قراءة الأعمش وعلقمة ، قال أبو علي والفتح حسن أيضاً لكن هذا كما قالوا مسجد وإن كان سيبويه يرى هذا اسم البيت وليس موضع السجود . قال هي لغة الناس اليوم ، والفتح هي لغة الحجاز وهي اليوم قليلة ، وقرأ حمزة وحفص " مسكَنهم " بفتح الكاف على المصدر وهو اسم جنس يراد به الجمع ، وهي قراءة إبراهيم النخعي وهذا الإفراد هو كما قال الشاعر : [ الوافر ]
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... وكما قال الآخر : [ البسيط ]
قد عض أعناقهم جلد الجواميس ... و { آية } معناها عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته ، و { جنتان } ابتداء وخبره في قوله عن { يمين وشمال } أو خبر ابتداء تقديره هي جنتان ، وهي جملة بمعنى هذه حالهم والبدل من { آية } ضعيف ، وقد قاله مكي وغيره ، وقرأ ابن أبي عبلة " آية جنتين " بالنصب ، وروي أنه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين وكانت جنتا الوادي منبت فواكه وزروع وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين جسر عظيم من حجارة من الجبل إلى الجبل فارتدع الماء فيه وصار بحيرة عظيمة ، وأخذ الماء من جنبتيها فمشى مرتفعاً يسقي جنات جنتي الوادي ، قيل بنته بلقيس ، وقيل بناه حمير أبو القبائل اليمينة كلها ، وكانوا بهذه الحال في أرغد نعم ، وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة متصلة من اليمن إلى الشام ، وكانوا أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان ، وقوله { كلوا } فيه حذف كأنه قال قيل لهم كلوا ، و { طيبة } معناه كريمة التربة حسنة الهواء رغدة من النعم سليمة من الهوام والمضار هذه عبارات المفسرين ، وكان ذلك الوادي فيما روي عن عبد الرحمن بن عوف لا يدخله برغوث لا قملة ولا بعوضة ولا عقرب ولا شيء من الحيوان الضار ، وإذا جاء به أحد من سفر سقط عند أول الوادي ، وروي أن الماشي بمكتل فوق رأسه بين أشجاره يمتلي مكتله دون أن يمد يداً ، وروي أن هذه المقالة من الأمر بالأكل والشرب والتوقيف على طيب البلدة وغفران الرب مع الإيمان به هو من قيل الأنبياء لهم ، وقرأ رؤيس عن يعقوب " بلدةً طيبةً ورباً غفوراً " بالنصب في الكل ، وبعث إليهم فيما روي ثلاثة عشر نبياً فكفروا بهم وأعرضوا ، فبعث الله تعالى على ذلك السد جرداً أعمى توالد فيه وخرقه شيئاً بعد شيء وأرسل سيلاً في ذلك الوادي ، فيحتمل ذلك السد ، فيروى أنه كان من العظم وكثرة الماء بحث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار ، ويروى أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه ، وروي أنه صرف الماء من موضعه الذي كان فيه أولاً فتعطل سقي الجنات ، واختلف الناس في لفظة { العرم } فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة : { العرم } في لغة اليمن : جمع عرمة : وهو كل ما بني أو سنم ليمسك الماء ويقال ذلك بلغة أهل الحجاز المسناة .
(5/343)

قال الفقيه الإمام القاضي : كأنها الجسور والسداد ونحوها ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :
وفي ذلك للمتأسي أسوة ومآرب ... عفا عليها العرم
رخام بناه لهم حمير ... إذا جاءه موارة لم يرم
ومنه قول الآخر :
ومن سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
وقال ابن عباس وقتادة الضحاك { العرم } اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني له ، وقال ابن عباس أيضاً إن سيل ذلك الوادي أبداً يصل إلى مكة وينتفع به ، وقال ابن عباس أيضاً { العرم } الشديد .
قال الفقيه الإمام القاضي : فكأنه صفة للسيل من العرامة ، والإضافة إلى الصفة مبالغة وهي كثيرة في كلام العرب ، وقالت فرقة { العرم } اسم الجرذ .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف ، وقيل { العرم } اسم المطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل ، وقوله { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } قول فيه تجوز واستعارة وذلك أن البدل من " الخمط والأثل " لم يكن جنات ، لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوباً جيداً وضرب ظهره هذا الضرب ثوب صالح لك ونحو هذا ، وقوله { ذواتي } تثنية ذات ، و " الخمط " شجر الأراك قاله ابن عباس وغيره ، وقيل " الخمط " كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حمضة أو نحوه ، ومنه تخمط اللبن إذا تغير طعمه ، و " الأثل " ضرب من الطرفاء هذا هو الصحيح ، وكذا قال أبو حنيفة في كتاب النبات ، قال الطبري وقيل هو شجر شبيه بالطرفاء وقيل إنه السمر ، و " السدر " معروف وهو له نبق شبه العناب لكنه في الطعم دونه بكثير ، وللخمط ثمر غث هو البريد ، وللأثل ثم قليل الغناء غير حسن الطعم ، وقرأ ابن كثير ونافع " أكْل " بضم الهمزة وسكون الكاف ، وقرأ الباقون بضم الهمزة وضم الكاف ، وروي أيضاً عن أبي عمرو سكون الكاف وهما بمعنى الجنى والثمر ، ومنه قوله تعالى
(5/344)

{ تؤتي أكلها كل حين } [ إبراهيم : 25 ] أي جناها ، وقرأ جمهور القراء بتنوين " أكل " وصفته بخمط وما بعده ، قال أبو علي : البدل هذا لا يحسن لأن الخمط ليس بالأكل والأكل ليس بالمخمط نفسه والصفة أيضاً كذلك ، لأن الخمط اسم لا صفة وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها ويحسن قراءة الجمهور أن هذا الاسم قد جاء بمجيء الصفات في قول الهذلي [ الطويل ]
عقار كماء الني ليس بخمطة ... ولا خلة يكوي الشروب شبابها
وقرأ أبو عمرو بإضافة " أكلِ " إلى " خمطٍ " وبضم كاف " أكلُ خمطٍ " ، ورجع أبو علي قراءة الإضافة وقوله { ذلك } إشارة إلى ما أجراه عليهم ، وقوله { وهل يجازي } أي يناقش ويقارض بمثل فعل قدراً لأن جزاء المؤمنين إنما هو بتفضيل وتضعيف ، وأما الذي لا يزاد ولا ينقص فهو { الكفور } قاله الحسن بن أبي الحسن ، وقال طاوس هي المناقشة ، وكذلك إن كان المؤمن إذ ذنوب فقد يغفر له ولا يجازى ، والكافر يجازي ولا بد ، وقد قال عليه السلام " من نوقش الحساب عذب " ، وقرأ جمهور القراء " يجازَى " بالياء وفتح الزاي ، وقرأ حمزة والكسائي " نجازي " بالنون وكسر الزاي ، " الكفورَ " بالنصب ، وقرأ مسلم بن جندب " وهل يجزي " وحكى عنه أبو عمرو الداني أنه قرأ " وهل يُجزي " بضم الياء وكسر الزاي ، قال الزجاج يقال جزيت في الخير وجازيت في الشر .
قال الفقيه الإمام القاضي : فترجح هذه قراءة الجمهور .
(5/345)

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
هذه الآية وما بعدها وصف حالهم قبل مجيء السيل ، وهي أن الله تعالى مع ما كان منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم ، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلهم أربابها ، وقدر فيها السير بأن قرب القرى بعضها من بعض حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في قرية أخرى ، فلا يحتاج إلى حمل زاد و { القرى } المدن ، ويقال للمجتمع الصغير قرية أيضاً ، وكلها من قريت أي جمعت ، والقرى التي بورك فيها هي بلاد الشام بإجماع من المفسرين ، و " القرى الظاهرة " هي التي بين الشام ومأرب وهي الصغار التي هي البوادي " قال ابن عباس : هي قرى عربية بين المدينة والشام وقاله الضحاك " واختلف في معنى { ظاهرة } فقالت فرقة : معناه مستعلية مرتفعة في الآكام والظراب وهي أشرف القرى .
وقالت فرقة : معناه يظهر بعضها من بعض فهي أبداً في قبضة المسافر لايخلو من رؤية شيء منها فهي ظاهرة بهذا الوجه .
قال الفقيه الإمام القاضي : والذي يظهر إليّ أن معنى { ظاهرة } خارجة عن المدن ، فهِي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن ، فإنما فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن ، وظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي والفحوص ، ومنه قولهم نزلنا بظاهر فلانة ، أي خارجاً عنها وقوله { ظاهرة } نظير تسمية الناس إياها البادية والضاحية ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فلو شهدتني من قريش عصابة ... قريش البطاح لا قريش الظواهر
يعني الخارجين عن بطحاء مكة ، وفي حديث الاستسقاء وجاء أهل الضواحي يشكون الغرق ، وقوله تعالى : { وقدرنا فيها السير } هو ما ذكرناه من أن المسافر فيها كان يبيت في قرية ويقيل في أخرى على أي طريق سلك لا يعوزه ذلك ، وقوله تعالى : { سيروا } معناه قلنا لهم ، و { آمنين } معناه من الخوف من الناس المفسدين ، و { آمنين } من الجوع والعطش وآفات المسافر ، ثم حكى عنهم مقالة قالوها على جهة البطر والأشر وهي طلب البعد بين الأسفار والإخبار بأنها بعيدة على القراءات الأخر وذلك أن نافعاً وعاصماً وحمزة والكسائي قرؤوا " باعِد بين أسفارنا " بكسر العين على معنى الطلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن ومجاهد " بعِّد بين أسفارنا " بشد العين وكسرها على معنى الطلب أيضاً ، فهاتان قراءتان معناهما الأشر بأنهم ملوا النعمة بالقرب وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وفي كتاب الرماني أنهم قالوا لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأكثر قيمة ، وقرأ ابن السميفع وسفيان بن حسين وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن وابن الحنفية " ربَّنا " بالنصب " بَعُد بينَ أسفارنا " بفتح الباء وضم العين ونصب " بين " أيضاً ، وقرأ سعيد بن أبي الحسن من هذه الفرقة " بينُ " بالرفع وإضافته إلى الأسفار وقرأ ابن عباس وأبو رجاء والحسن البصري وابن الحنفية أيضاً " ربُّنا " بالرفع " باعَدَ " بفتح العين والدال ، وقرأ ابن عباس وابن الحنفية أيضاً وعمرو بن فائد ويحيى بن يعمر " ربُّنا " بالرفع " بَعَّد " بفتح العين وشدها وفتح الدال فهذه القراءة معناها الأشر بأنهم استبعدوا القريب ورأوا أن ذلك غير مقنع لهم حتى كأنهم أرادوها متصلة بالدور وفي هذا تعسف وتسحب على أقدار الله تعالى وإرادته وقلة شكر على نعمته بل هي مقابلة النعمة بالتشكي والاستضرار ، وفي هذا المعنى ونحوه مما اقترن بكفرهم ظلموا أنفسهم فغرقهم الله تعالى وخرب بلادهم وجعلهم أحاديث ، ومنه المثل السائر " تفرقوا أيادي سبإ وأيدي سبإ " ويقال المثل بالوجهين ، وهذا هو تمزيقهم { كل ممزق } ، وروي أن رسول الله قال : إن سبأ أبو عشرة قبائل فلما جاء السيل على مأرب وهو اسم نبدهم تيامن منها ستة قبائل أي إذ تبددت في بلاد اليمن وتشاءمت منها أربعة فالمتيامنة كندة والأزد وأشعر ومذحج وأنمار الذي منها بجيلة وخثعم وطائفة قيل لها حمير بقي عليها اسم الأب الأول والتي تشاءمت لخم وجذام وغسان وخزاعة نزلت تهامة ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة وهم الأوس والخزرج ومنها عاملة وغير ذلك ، ثم أخبر تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته على جهة التنبيه بأن هذه القصص فيها آيات وعبر لكل مؤمن على الكمال ، ومن اتصف بالصبر والشكر فهو المؤمن الذي لا تنقصه خلة جميلة بوجه .
(5/346)

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر " ولقد صدَق " بتخفيف الدال " إبليسُ " رفعاً " ظنَّه " بالنصب على المصدر ، وقيل على الظرفية ، أي في ظنه ، وقيل على المفعول على معنى أنه لما ظن عمل عملاً يصدق به ذلك الظن ، فكأنه إنما أراد أن يصدق ظنه ، وهذا من قولك أخطأت ظني وأصبت ظني ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي " صدَّق " بتشديد الدال ف " الظن " على هذا مفعول ب " صدَّق " وهي قراءة ابن عباس وقتادة وطلحة وعاصم والأعمش ، وقرأ الزهري وأبو الهجاج " ظنُّه " بالرفع ، وبلال بن أبي بردة " صدَق " بتخفيف الدال " إبليسَ " النصب " ظنُّه " بالرفع ، وقرأت فرقة " صدَق " بالتخفيف " إبليسُ " بالرفع على البدل وهو بدل الأشتمال ، ومعنى الآية أن ما قال إبليس من أنه سيفتن بني آدم ويغويهم وما قال من أن الله لا يجد أكثرهم شاكرين وغير ذلك كان ظناً منه فصدق فيهم ، وأخبر الله تعالى عنهم أنهم " اتبعوه " وهو اتباع في كفر لأنه في قصة قوم كفار ، وقوله { ممن هو منها في شك } يدل على ذلك و { من } في قوله { من المؤمنين } لبيان الجنس لا للتبعيض ، لأن التبعيض يقتضي أن فريقاً من المؤمنين اتبعوا إبليس ، و " السلطان " الحجة ، وقد يكون الاستعلاء والاستقدار ، إذ اللفظ من التسلط ، وقال الحسن بن أبي الحسن : والله ما كان له سيف ولا سوط ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه ، وقوله تعالى : { إلا لنعلم } أي لنعلمة موجوداً ، لأن العلم به متقدم أزلاً ، وقرأت فرقة " إلا ليُعلم " بالياء على ما لم يسم فاعله ، وقوله تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } الآية ، آية تعجيز وإقامة حجة ، ويروى أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشاً ، والجمهور على " قلُ ادعوا " بضم اللام وروى عباس عن أبي عمرو " قلِ ادعوا " بكسر اللام ، وقوله { الذين } يريد الملائكة والأصنام وذلك أن قريشاً والعرب كان منهم من يعبد الملائكة ، ومنهم من يقول نعبدها لتشفع لنا ونحو هذا ، فنزلت هذه الآية معجزة لكل منهم ، ثم جاء بصفة هؤلاء الذين يدعونهم آلهة من أنهم { لا يملكون } ملك الاختراع { مثقال ذرة } في السماء { ولا في الأرض } وأنهم لا شرك لهم فيهما وهذان فيهما نوعا الملك إما استبداداً وإما مشاركة ، فنفى عنهم جميع ذلك ، ونفى أن يكون منهم لله تعالى معين في شيء من قدرته و " الظهير " المعين ، ثم تقرر في الآية بعد أن الذين يظنون أنهم يشفعون لهم لا تصح منه شفاعة لهم إذ هؤلاء كفرة ولا يأذن الله تعالى في الشفاعة في كافر .
(5/347)

وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
المعنى أن كل من دعوتم إلهاً من دون الله لا يملكون مثقال ذرة ولا تنفع شفاعتهم إلا بإذن فيمن آمن ، فكأنه قال ولا هم شفعاء على الحد الذي ظننتم أنتم واختلف المتأولون في قوله تعالى : { إلا لمن أذن له } فقالت فرقة معناه { لمن أذن لهم } أن يشفع ، فيه ، وقالت فرقة معناه { لمن أذن له } أن يشفع هو .
قال القاضي أبو محمد : واللفظ يعمهما ، لأن الإذن إذا انفرد للشافع فلا شك أن المشفوع فيه معين له ، وإذا انفرد للمشفوع فيه فالشافع لا محالة عالم معين لذلك ، وانظر أن اللام الأولى تشير إلى المشفوع فيه من قوله { لمن } تقول شفعت لفلان ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " أُذن " بضم ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر " أذَن " بفتحها ، والضمير في { قلوبهم } عائد على الملائكة الذين دعوهم آلهة ، ففي الكلام حذف يدل عليه الظاهر فكأنه قال ولا هم شفعاء كما تحسبون أنتم بل هم عبدة مستسلمون أبداً حتى إذا فزع عن قلوبهم .
قال الفقيه الإمام القاضي : وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية أعني قوله { حتى إذا فزع عن قلوبهم } إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل وبالأمر يأمر به سمعت كجر سلسلة الحديد على صفوان فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة ، وقيل خوف أن تقوم الساعة فإذا فزع ذلك { فزع عن قلوبهم } أي أطير الفزع عنها وكشف فيقول بعضهم لبعض ولجبريل { ماذا قال ربكم } فيقول المسؤولون قال { الحق هو العلي الكبير } وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله { الذين زعمتم } [ سبأ : 22 ] لم تتصل لهم هذه الآية بما قبلها فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار بعد حلول الموت { فزع عن قلوبهم } بفقد الحياة فرأوا الحقيقة وزال فزعهم من شبه ما يقال لهم في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ { ماذا قال ربكم } فيقولون قال { الحق } يقرون حين لا ينفعهم الإقرار ، وقالت فرقة الآية في جميع العالم ، وقوله { حتى إذا } يريد في القيامة .
قال الفقيه الإمام القاضي : والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ، وهذان بعيدان ، وقرأ جمهور القراء " فُزع " بضم الفاء ومعناه أطير الفزع منهم ، وهذه الأفعال جاءت مخالفة لسائر الأفعال ، لأن فعل أصلها الإدخال في الشيء كعلمت ونحوها وقولك : فزعت زيداً معناه أزلت الفزع عنه ، وكذلك جزعته معناه أزلت الجزع عنه ، ومنه الحديث فدخل ابن عباس على عمر بجزعة ومنه مرضت فلاناً أي أزلت عنه المرض .
(5/348)

قال الفقيه الإمام القاضي : وانظر أن مطاوع هذه الأفعال يلحق بتحنث وتحرج وتفكه وتأثم وتخوف ، وقرأ ابن عامر " فزّع " بفتح الفاء وشد الزاي وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبي المتوكل الناجي واليماني ، وقرأ الحسن البصري بخلاف " فُزِع " بضم الفاء وكسر الزاي وتخفيفها كأنه بمعنى أقلع ، ومن قال بأنها في العالم أجمعه قال معنى هذه القراءة فزع الشيطان عن قلوبهم أي بادر ، وقرأ أيوب عن الحسن أيضاً " فُرّغ " بالفاء المضمومة والراء المشددة غير منقوطة والغين المنقوطة من التفريغ ، قال أبو حاتم رواها عن الحسن نحو من عشرة أنفس وهي قراءة أبي مجلز .
وقرأ مطر الوراق عن الحسن " فزع " على بناء الفعل للفاعل وهي قراءة مجاهد والحسن أيضاً " فرغ " بالراء غير منقوطة مخففة من الفراغ ، قال أبو حاتم وما أظن الثقات رووها عن الحسن على وجوه إلا لصعوبة المعنى عليه فاختلفت ألفاظ فيه ، قرأ عيسى بن عمر " حتى إذا افرنقع " وهي قراءة ابن مسعود ومعنى هذا كله وقع فراغها من الفزع والخوف ، ومن قرأ شيئاً من هذا على بناء الفعل للمفعول فقوله عز وجل { عن قلوبهم } في موضع رفع ، ومن قرأ على بناء الفعل للفاعل فقوله { عن قلوبهم } في موضع نصب ، وافرنقع معناه تفرق ، وقوله { ماذا } يجوز أن تكون " ما " في موضع نصب ب { قال } ويصح أن تكون في موضع رفع بمعنى أي شيء قال ، والنصب في قوله { الحق } على نحوه في قوله { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } [ النحل : 30 ] لأنهم حققوا أن ثم ما أنزل ، وحققوا هنا أن ثم ما قيل ، وقولهم { وهو العلي الكبير } تمجيد وتحميد .
(5/349)

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
أمر الله تعالى نبيه على جهة الاحتجاج وإقامة الدليل على أن الرزاق لهم من السماوات والأرض من هو ثم أمره أن يقتضب الاحتجاج بأن يأتي جواب السؤال إذ هم في بهتة ووجمة من السؤال ، وإذ لا جواب لهم ولا لمفطور إلا بأن يقول هو الله ، وهذه السبيل في كل سؤال جوابه في غاية الوضوح ، لأن المحتج يريد أن يقتضب ويتجاوز إلى حجة أخرى يوردها ، ونظائر هذا في القرآن كثير وقوله تعالى : { وإنا أو إياكم } تلطف في الدعوة والمحاورة ، والمعنى كما تقول لمن خالفك في مسألة أحدنا يخطىء ، أي تثبت وتنبه ، والمفهوم من كلامك أن مخالفك هو المخطىء ، وكذلك هذا معناه { لعلى هدى أو في ضلال مبين } فلينتبه ، والمقصد أن الضلال في حيز المخاطبين وحذف أحد الخبرين لدلالة الباقي عليه ، وقال أبو عبيدة { أو } في الآية بمعنى واو النسق ، والتقدير " وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين " وهما خبران غير مبتدأين .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا القول غير متجه واللفظ لا يساعده وإن كان المعنى على كل قول يقتضي أن الهدى في حيز المؤمنين والضلال في حيز الكافرين ، وقوله تعالى : { قل لا تسألون عما أجرمنا } الآية مهادنة ومتاركة منسوخة بآية السيف ، وقوله عز وجل { قل يجمع بيننا } الآية إخبار بالبعث من القبور ، وقوله { يفتح } معناه يحكم والفتاح القاضي وهي مشهورة في لغة اليمن ، وهذا كله منسوخ بآية السيف ، وقوله تعالى { قل أروني } يحتمل أن تكون رؤية قلب فيكون قوله { شركاء } مفعولاً ثالثاً وهذا هو الصحيح أي أروني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة وقالت فرقة هي رؤية بصر و { شركاء } حال من الضمير المفعول ب { ألحقتم } العائد على { الذين } .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له ، وقوله { كلا } رد لما تقرر من مذهبهم في الإشراك بالله تعالى ووصف نفسه عز وجل باللائق به من العزة والحكمة .
(5/350)

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
هذا إعلام من الله تعالى بأنه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع العالم ، و " الكافة " الجمع الأكمل من الناس ، و { كافة } نصب على الحال وقدمها للاهتمام ، وهذه إحدى الخصال التي خص بها محمد صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء التي حصرها في قوله " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأوتيت جوامع الكلم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وبعث كل نبي إلى خاص من الناس وبعثت إلى الأسود والأحمر " ، وفي هذه الخصال زيادة في كتاب مسلم ، وقوله تعالى : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يريد بها العموم في الكفرة ، والمؤمنون هم الأقل ، ثم حكى عنهم مقالتهم في الهزء بأمر البعث واستعجالهم على معنى التكذيب بقولهم { متى هذا الوعد } فأمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم عن { ميعاد } هو يوم القيامة لا يتأخر عنه أحد ولا يتقدمه ، قال أبو عبيدة : " الوعد والوعيد والميعاد " بمعنى واحد ، وخولف في هذا ، والذي عليه الناس أن " الوعد " في الخير ، و " الوعيد " في المكروه و " الميعاد " يقع لهذا ولهذا .
قال الفقيه الإمام القاضي : وأضاف الميعاد إلى اليوم تجوزاً من حيث كان فيه وتحتمل الآية أن يكون استعجال الكفرة لعذاب الدنيا ويكون الجواب عن ذلك أيضاً ولم يجر للقيامة ذكر على هذا التأويل .
(5/351)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
حكيت في هذه الآية مقالة قالها بعض قريش وهي أنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بما بين يديه من التوراة والإنجيل والزبور فكأنهم كذبوا بجميع كتب الله وإنما فعلوا هذا لما وقع الاحتجاج عليهم بما في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالت فرقة : " الذي بين يديه " هي الساعة والقيامة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا خطأ قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة وأنه المتقدم في الزمان وقد بيناه فيما تقدم ، ثم أخبر الله تعالى نبيه عن حالة الظالمين في صيغة التعجيب من حالهم ، وجواب { لو } محذوف ، وقوله { يرجع بعضهم إلى بعض القول } أي يرد ، أي يتحاورون ويتجادلون ، ثم فسر ذلك الجدل بأن الأتباع والضعفاء من الكفرة يقولون للكفار وللرؤوس على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم { لولا أنتم } لآمنا نحن واهتدينا ، أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر ، فقال لهم الرؤساء على جهة التقرير والتكذيب { أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين } أي دخلتم في الكفر ببصائركم ، وأجرمتم بنظر منكم ، ودعوتنا لم تكن ضربة لازب عليكم لأنا دعوناكم بغير حجة ولا برهان .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا كله يتضمنه اللفظ .
(5/352)

وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
هذه مراجعة من الأتباع للرؤساء حين قالو لهم : إنما كفرتم ببصائر أنفسكم قال المستضعفون بل كفرنا بمكركم بنا بالليل والنهار " وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما " ولتدل هذه الإضافة على الدؤوب والدوام ، وهذه الإضافة كما قالوا " ليل نائم ونهار صائم " ، وأنشد سيبويه " فنام ليلي وتجلى همي " ، وهذه قراءة الجمهور ، وقرأ قتادة بن دعامة " بل مكرٌ الليلَ والنهارَ " بتنوين " مكرٌ " ونصب " الليلَ والنهارَ " على الظرف ، وقرأ سعيد بن جبير " بل مكَرّ " بفتح الكاف وشد الراء من كر يكر وبالإضافة إلى " الليل والنهار " وذكر عن يحيى بن يعمر وكأن معنى هذه الآية الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله ، و " الند " المثيل والشبيه ، والضمير في قوله { أسروا } عام جميع ما تقدم ذكره من المستضعفين والمستكبرين ، { أسروا } معناه اعتقدوها في نفوسهم ، ومعتقدات النفس كلها سر لا يعقل غير ذلك ، وإنما يظهر ما يصدر عنها من كلام أو قرينة ، وقال بعض الناس { أسروا } معناه أظهروا وهي من الأضداد .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا كلام من لم يعتبر المعنى أما نفس الندامة فلا تكون إلا مستسرة ضرورة ، وأما الظاهر عنها فغيرها ولم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد ، وقوله تعالى : { لما رأوا العذاب } أي وافوه وتيقنوا حصولهم فيه وباقي الآية بين .
(5/353)

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن فعل قريش وقولها أي هذه يا محمد سيرة الأمم فلا يهمنك أمر قومك ، و " القرية " المدينة ، و " المترف " المنع البطال الغني القليل تعب النفس والجسم فعادتهم المبادرة بالتكذيب ، وقوله { وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً } يحتمل أن يعود الضمير على المترفين ويكون ذلك من قولهم مع تكذيبهم ، ثم لما كانت قريش مثلهم أمره الله تعالى بأن يقول { إن ربي } الآية ، ويحتمل أن يعود الضمير في { قالوا } لقريش ويكون كلام المترفين قد تم ، ثم تطرد الآية بعد ، وقولهم { نحن أكثر أموالاً وأولاداً } معناه الاحتجاج أي أن الله لم يعطنا هذا وقدره لنا إلا لرضاء عنا وعن طريقنا ونحن لا نعذب البتة اذ الله الذي تزعم أنت علمه بجميع الأشياء وإحاطته قد قدر علينا النعم ، فهو إذن راض عنا ، وقال بعض المفسرين معنى قولهم { وما نحن بمعذبين } أي بالفقر .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ليس كالأول في القوة فأمر الله تعالى نبيه أن يقول : إن الأمر ليس كما ظنوا بل بسط الرزق وقدره معلق بالمشيئة في كافر ومؤمن وليس شيء من ذلك دليلاً على رضى الله تعالى والقرب منه لأنه قد يعطي ذلك إملاء واستدراجاً ، وكثير من الناس لا يعلم ذلك كأنتم أيها الكفار ، وقرأت فرقة " ويقدر " ، وقرأت فرقة " ويُقَدّر " بضم الباء وفتح القاف وشد الدال وهي راجعة إلى معنى التضييق الذي هو ضد البسط ، ثم أخبرهم بأن أموالهم وأولادهم ليست بمقربة من الله { زلفى } ، والزلفى مصدر بمعنى القرب ، وكأنه قال تقربكم عندنا تقريباً ، وقرأ الضحاك " زلَفًى " بفتح اللام وتنوين الفاء ، وقوله تعالى : { إلا من آمن } استثناء منقطع ، و { من } في موضع نصب بالاستثناء ، وقال الزجاج { من } بدل من الضمير في { تقربكم } ، وقال الفراء { من } في موضع رفع ، وتقدير الكلام ما هو المقرب إلا من آمن ، وقرأ الجمهور " جزاءُ الضعفِ " بالإضافة ، وقرأ قتادة " جزاءُ الضعفُ " برفعها ، وحكى عنه الداني " جزاءَ " بالنصب " الضعفَ " بنصب الفاء ، و { الضعف } هنا اسم جنس أي بالتضعيف إذ بعضهم يجازى إلى عشرة وبعضهم أكثر إلى سبعمائة بحسب الأعمال . ومشيئة الله تعالى فيها ، وقرأ جمهور القراء " في الغرفات " بالجمع ، وقرأ حمزة وحده " في الغرفة " على اسم الجنس يراد به الجمع ، ورويت عن الأعمش وهما في القراءة حسنتان ، قال أبو علي : وقد يجيء هذا الجمع بالألف والتاء " الغرفات " ونحوه للتكثير ومنه قول حسان بن ثابت :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فلم يرد إلا كثرة جفان .
قال الفقيه الإمام القاضي : وتأمل نقد الأعشى في هذا البيت ، وقرأ الأعمش والحسن وعاصم بخلاف في " الغرْفات " بسكون الراء .
(5/354)

وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
لما ذكر تعالى المؤمنين العاملين الصالحات وذكر ثوابهم عقب بذكر ضدهم وذكر جزائهم ليظهر تباين المنازل ، وقرأت فرقة " معاجزين " ( وقرأت فرقة معجزين ) ، وقد تقدم تفسيرها في صدر السورة ، و { محضرون } من الإحضار والإعداد ، ثم كرر القول ببسط الرزق وقدره تأكيداً وتبييناً وقصد به ها هنا رزق المؤمنين وليس سوقه على المعنى الأول الذي جلب للكافرين ، بل هذا هنا على جهة الوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على النفقة في الطاعات ، ثم وعد بالخلف في ذلك وهو بشرط الاقتصاد والنية في الطاعة ودفع المضرات وعد منجز إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قال الله لي أنفق أنفق عليك " وفي البخاري أن ملكاً ينادي كل يوم اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول ملك آخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً ، وقال مجاهد المعنى إن كان خلف فهو موليه وميسره ، وقد لا يكون الخلف ، وأما قوله { خير الرازقين } فمن حيث يقال في الإنسان إنه يرزق عياله ، والأمير جنده ، لكن ذلك من مال يملك عليهم والله تعالى من خزائن لا تفنى ومن إخراج من عدم إلى وجود ، وقرأ الأعمش " ويُقدّر " بضم الياء وشد الدال .
(5/355)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
هذه آية وعيد للكفار ، والمعنى واذكر يوم نحشرهم ، وقرأ جمهور القراء " نحشرهم جميعاً ثم نقول " بالنون فيهما ، ورواها أبو بكر عن عاصم ، وقرأ حفص عن عاصم " ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول " بالياء فيهما ، وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو ، والقول للملائكة هو توقيف تقوم منه الحجة على الكفار عبدتهم وهذا نحو قوله تعالى لعيسى عليه السلام { أأنت قلت للناس } [ المائدة : 116 ] وإذا قال الله تعالى للملائكة هذه المقالة قالت الملائكة { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما فعل هؤلاء الكفرة ، ثم برؤوا أنفسهم بقولهم { أنت ولينا من دونهم } يريدون البراءة من أن يكون لهم رضى أو علم أو مشاركة في أن يعبدهم البشر ، ثم قرروا البشر إنما عبدت الجن برضى الجن وبإغوائها للبشر فلم تنف الملائكة عبادة البشر . إياها وإنما قررت أنها لم تكن لها في ذلك مشاركة ، ثم ذنبت الجن ، وعبادة البشر للجن هي فيما نعرفه نحن بطاعتهم إياهم وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع من العبادة ، وقد يجوز إن كان في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها ، ثم قال تعالى : { فاليوم } وفي الكلام حذف تقديره فيقال لهم أي من عبد ومن عبد اليوم { لا يملك بعضكم لبعض نفعاً } ، وقوله { وإذا تتلى عليهم آياتنا } ذكر الله تعالى في هذه الآية أقوال الكفرة وأنواع كلامهم عندما يقرأ عليهم القرآن ويسمعون حكمته وبراهينه البينة ، فقائل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يقدح في الأوثان ودين الآباء ، وقائل طعن عليه بأن هذا القرآن مفترى أي مصنوع من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ويدعي أنه من عند الله ، وقائل طعن عليه بأن ما عنده من الرقة واستجلاب النفوس واستمالة الأسماع إنما هو سحر به يخلب ويستدعى ، تعالى الله عن أقوالهم وتقدست شريعته عن طعنهم .
(5/356)

وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
معنى هذه الآية أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله فيقول بعضهم سحر ، وبعضهم افتراء ، وذلك منهم تسور لا يستندون فيه إلى إثارة علم ولا إلى خبر من يقبل خبره ، فإنا ما آتيناهم كتباً يدرسونها ولا أرسلنا إليهم نذيراً فيمكنهم أن يدعوا أن أقوالهم تستند إلى أمره ، وقرأ جمهور الناس " يدْرسونها " بسكون الدال ، وقرأ أبو حيوة " يدَّرِسونها " بفتح الدال وشدها وكسر الراء - والمعنى وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء ولا يباشر أهل عصرهم ولا من قرب من آبائهم ، وإلا فقد كانت النذارة في العالم وفي العرب مع شعيب وصالح وهود ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه ، فإنما معنى هذه الآية { من نذير } يختص بهؤلاء الذين بعثناك إليهم ، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل ، والله تعالى يقول : إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّاً ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم مثل لهم بالأمم المكذبة قبلهم ، وقوله { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } يحتمل ثلاثة معان : أحدها أن يعود الضمير في { بلغوا } على قريش ، وفي { آتيناهم } على الأمم { الذين من قبلهم } ، والمعنى من قوة والنعم والظهور في الدنيا ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، والثاني أن يعود الضمير في { بلغوا } على الأمم المتقدمة وفي { آتيناهم } على قريش ، والمعنى من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به ، والثالث أن يعود الضميران على الأم المتقدمة ، والمعنى من شكر النعمة وجزاء المنة و " المعشار " ، ولم يأت هذا البناء إلا في العشرة والأربعة فقالوا : مرباع ومعشار وقال قوم : المعشار عشر العشر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ليس بشيء ، والنكير مصدر كالإنكار في المعنى وكالعديد في الوزن وسقطت الياء منه تخفيفاً لأنها آخر آية ، و { كيف } تعظيم للأمر وليست استفهاماً مجرداً ، وفي هذا تهديد لقريش أي أنّهم معرضون لنكير مثله ، ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى عبادة الله والنظر في حقيقة نبوته هو ويعظهم بأمر مقرب للأفهام فقوله { بواحدة } معناه بقضية واحدة إيجازاً لكم وتقريباً عليكم ، وقوله { أن } مفسرة ، ويجوز أن تكون بدلاً من { واحدة } ، وقوله { تقوموا لله مثنى وفرادى } يحتمل أن يريد بالطاعة والإخلاص والعبادة فتكون الواحدة التي وعظ بها هذه ، ثم عطف عليها أن يتفكروا في أمره هل هو به جنة أو هو بريء من ذلك والوقف عند أبي حاتم { ثم تتفكروا } .
قال الفقيه الإمام القاضي : فيجيء { ما بصاحبكم } نفياً مستأنفاً وهو عند سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التحقيق كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات الله والإيمان به ، ويحتمل أن يريد بقيامهم أن يكون لوجه الله في معنى التفكر في محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الواحد التي وعظ بها أن يقوموا لمعنى الفكرة - في أمر صاحبهم ، وكأن المعنى أن يفكر الواحد بينه وبين نفسه ويتناظر الاثنان على جهة طلب التحقيق ، هل بمحمد صلى الله عليه وسلم جنة أم لا؟ وعلى هذا لا يوقف على { تتفكروا } وقدم المثنى لأن الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة ، فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وقد قال الشاعر : [ الطويل ]
(5/357)

إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة ... فيزداد بعض القوم من بعضهم علما
وقرأ يعقوب " ثم تفكروا " بتاء واحدة ، وقال مجاهد بواحدة معناه بلا إله إلا الله وقيل غير هذا مما لا تعطيه الآية ، وقوله { بين يدي } مرتب على أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء في الزمن من قبل العذاب الشديد الذي توعدوا به .
(5/358)

قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
أمره الله تعالى في هذه الآية بالتبري من طلب الدنيا وطلب الأجر على الرسالة وتسليم كل دنيا إلى أربابها والتوكل على الله في الأجر وجزاء الجد والإقرار بأنه شهيد على كل شيء من أفعال البشر وأقوالهم وغير ذلك ، وقوله { يقذف بالحق } يريد بالوحي وآيات القرآن واستعار له القذف من حيث كان الكفار يرمون بآياته وحكمه ، وقرأ جمهور القراء " علاّمُ " بالرفع أي هو علام ، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق " علاّمَ " بالنصب إما على البدل من اسم { إن } وإما على المدح ، وقرأ الأعمش " بالحق هو علام الغيوب " ، وقرأ عاصم " الغِيوب " بكسر الغين ، وقوله { قل جاء الحق } يريد الشرع وأمر الله ونهيه ، وقال قوم يعني السيف ، وقوله { وما يبدىء الباطل وما يعيد } ، قالت فرقة : { الباطل } هو غير { الحق } من الكذب والكفر ونحوه استعار له الإبداء والإعادة ونفاهما عنه ، كأنه قال وما يصنع الباطل شيئاً ، وقالت فرقة { الباطل } الشيطان ، والمعنى ما يفعل الشيطان شيئاً مفيداً أي ليس يخلق ولا يرزق ، وقالت فرقة { ما } استفهام كأنهم قال وأي شيء يصنع الباطل؟ وقرأ جمهور الناس " ضلَلت " بفتح اللام " فإنما إضِل " بكسر الضاد ، وقرأ الحسن وابن وثاب " ضلِلت " بكسر اللام " أضَل " بفتح الضاد وهي لغة بني تميم ، وقوله { فيما } يحتمل أن تكون " ما " بمعنى الذي ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، و { قريب } معناه بإحاطته وإجابته وقدرته ، واختلف المتأولون في قوله تعالى : { لو ترى } الآية ، فقال ابن عباس والضحاك : هذا في عذاب الدنيا ، وروي أن ابن أبزى قال ذلك في جيش يغزو الكعبة فيخسف بهم في بيداء من الأرض ولا ينجو إلا رجل من جهينة فيخبر الناس بما نال الجيش قالوا بسببه قيل " وعند جهينة الخبر اليقين " ، وهذا قول سعيد ، وروي في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة وذكر الطبري أنه ضعيف السند مكذوب فيه على داود بن الجراح ، وقال قتادة : ذلك في الكفار عند الموت ، وقال ابن زيد : ذلك في الكفار في بدر ونحوها ، وقال الحسن بن أبي الحسن : ذلك في الكفار عند خروجهم من القبور في القيامة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا أرجح الأقوال عندي ، وأما معنى الآية فهو التعجيب من حالهم إذا فزعوا من أخذ الله إياهم ولم يتمكن لهم أن يفوت منهم أحد ، وقوله { من مكان قريب } معناه أنهم للقدرة قريب حيث كانوا قبل من تحت الأقدام ، وهذا يتوجه على بعض الأقوال والذي يعم جميعها أن يقال إن الأخذ يجيئهم من قرب في طمأنينتهم ويعقبها بينا الكافر يؤمل ويظن ويترجى إذ غشيه الأخذ ، ومن غشيه أخذ من قريب ، فلا حيلة له ولا روية ، وقرأ الجمهور " وأخذوا " ، وقرأ طلحة بن مصرف " فلا فوت وأخذ " ، كأنه قال وجاء لهم أخذ من مكان قريب .
(5/359)

وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
الضمير في { به } عائد على الله تعالى ، وقيل على محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه والقرآن ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وعامة القراء " التناوُش " بضم الواو دون همز ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم أيضاً " التناؤش " بالهمز ، والأولى معناها التناول من قولهم ناش ينوش إذا تناول وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضاً بالسلاح ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا
فكأنه قال وأنى لهم تناول مرادهم وقد بعدوا عن مكان إمكان ذلك ، وأما التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناؤش الذي تقدم تفسيره وهمزت الواو لما كانت مضمونة وكانت ضمتها لازمة ، كما قالوا أقتت وغير ذلك ، ويحتمل أن يكون من الطلب ، تقول اتناشت الشيء إذا طلبته من بعد ، وقال ابن عباس تناؤش الشيء رجوعه حكاه عنه ابن الأنباري وأنشد : [ الوافر ]
تمنى أن تؤوب إليك ميّ ... وليس إلى تناوشها سبيل
فكأنه قال في الآية : وأنى لهم طلب مرادهم وقد بعد ، قال مجاهد المعنى من الآخرة إلى الدنيا ، وقرأ جمهور الناس " ويَقذِفون " بفتح الياء وكسر الذال على إسناد الفعل إليهم ، أي يرجمون بظنونهم ويرمون بها الرسل وكتاب الله ، وذلك غيب عنهم في قولهم سحر وافتراء وغير ذلك ، قاله مجاهد ، وقال قتادة قذفهم بالغيب هو قولهم لا بعث ولا جنة ولا نار ، وقرأ مجاهد " ويُقذَفون " بضم الياء وفتح الذال على معنى ويرجمهم الوحي بما يكرهون من السماء ، وقوله { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } قال الحسن معناه من الإيمان والتوبة والرجوع إلى الإتابة والعمل الصالح ، وذلك أنهم اشتهوه في وقت لا تنفع فيه التوبة ، وقاله أيضاً قتادة ، وقال مجاهد معناه وحيل بينهم وبين نعيم الدنيا ولذاتها ، وقيل حيل بينهم وبين الجنة ونعيمها ، وهذا يتمكن جداً على القول بأن الأخذ والفزع المذكورين هو في يوم القيامة ، وقوله { كما فعل بأشياعهم من قبل } الأشياع الفرق المتشابهة ، فأشياع هؤلاء هم الكفرة من كل أمة ، وهو جمع شيعة ، وشيع ، وقوله { من قبل } يصلح على بعض الأقوال المتقدمة تعلقه بفعل ، ويصلح على قوم من قال إن الفزع هو في يوم القيامة تعلقه { بأشياعهم } أي بمن اتصف بصفتهم من قبل في الزمن الأول ، لأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد . لا يقال فيه { من قبل } ، و " الشك المريب " أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاماً .
(5/360)

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس على أتم عموم ، لأن { الحمد } بالإطلاق على الأفعال الشريفة والكمال هو لله تعالى والشكر مستغرق فيه لأنه فصل من فصوله ، و { فاطر } معناه خالق لكن يزيد في المعنى الانفراد بالابتداء لخلقها ، ومنه قول الأعرابي المتخاصم في البئر عند ابن عباس : أنا فرطتها ، أراد بدأت حفرها . قتال ابن عباس ما كنت أفهم معنى { فاطر } حتى سمعت قول الأعرابي ، وقرأ الجمهور " الحمد لله فطر " ، وقرأ جمهور الناس " جاعلِ " بالخفض ، وفرأت فرقة " جاعلُ " بالرفع على قطع الصفة ، وقرأ خليد بن نشيط " جعل " على صيغة الماضي " الملائكة " نصباً ، فأما على هذه القراءة الأخيرة فنصب قوله { رسلاً } على المفعول الثاني ، وأما على القراءتين المتقدمتين فقيل أراد ب " جاعل " الاستقبال لأن القضاء في الأزل وحذف التنوين تخفيفاً وعمل عمل المستقبل في { رسلاً } ، وقالت فرقة { جاعل } بمعنى المضي و { رسلاً } نصب بإضمار فعل ، و { رسلاً } معناه بالوحي وغير ذلك من أوامره ، فجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل رسل ، والملائكة المتعاقبون رسل ، والمسددون لحكام العدل رسل وغير ذلك ، وقرأ الحسن " رسْلاً " بسكون السين ، و { أولي } جمع واحده ذو ، تقول ذو نهية والقوم أولو نهي ، وروي عن الحسن أنه قال في تفسير قول مريم { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً } [ مريم : 18 ] قال علمت مريم أن التقي ذو نهية ، وقوله { مثنى وثلاث ورباع } ألفاظ معدولة من اثنين وثلاثة وأربعة عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل للعدل والصفة ، وفائدة العدل الدلالة على التكرار لأن { مثنى } بمنزلة قولك اثنين اثنين ، وقال قتادة : إن أنواع الملائكة هي هكذا منها ما له جناحان ، ومنها ما له ثلاثة ، ومنها ما له أربعة ، ويشذ منها ما له أكثر من ذلك ، وروي أن لجبريل ستمائة جناح منهِا اثنان تبلغ من المشرق إلى المغرب ، وقالت فرقة المعنى أن في كل جانب من الملك جناحين ، ولبعضهم ثلاثة في كل جانب ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لكل واحد لما اعتدلت في معتاد ما رأيناه نحن من الأجنحة ، وقيل بل هي ثلاثة لكل واحد كالحوت والله أعلم بذلك ، وقوله تعالى : { يزيد في الخلق ما يشاء } تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب عن الخبر بالملائكة أولي الأجنحة ، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله تعالى فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، وروي عن الحسن وابن شهاب أنهما قالا المزيد هو حسن لصوت قال الهيثم الفارسي : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي : أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيراً ، وقيل الزيادة الخط الحسن ، وقال النبي عليه السلام :
(5/361)

" الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً " ، وقال قتادة الزيادة ملاحة العينين .
قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا وهذه الإشارة إنما ذكرها من ذكرها على جهة المثال لا أن المقصود هي فقط ، وإنما مثل بأشياء هي زيادات خارجة عن الغالب الموجود كثيراً وباقي الآية بين ، وقوله { ما يفتح الله } { ما } شرط ، و { يفتح } جزم بالشرط ، وقوله { من رحمة } عام في كل خير يعطيه الله تعالى للعباد جماعتهم وأفذاذهم ، وقوله { من بعده } فيه حذف مضاف أي من بعد إمساكه ، ومن هذه الآية سمت الصوفية ما تعطاه من الأموال والمطاعم وغير ذلك الفتوحات ، ومنها كان أبو هريرة يقول مطرنا بنوء الفتح ، وقرأ الآية ، وقوله { يا أيها الناس } خطاب لقريش وهو متجه لكل كافر ، ولا سيما لعباد غير الله ، وذكرهم تعالى بنعمة الله عليهم في خلقهم وإيجادهم ، ثم استفهمهم على جهة التقرير والتوقيف بقوله { هل من خالق غير الله } أي فليس إله إلا الخالق لا ما تعبدون أنتم من الأصنام ، وقرأ حمزة والكسائي " غيرِ " بالخفض نعتاً على اللفظ وخبر الابتداء { يرزقكم } وهي قراءة أبي جعفر وشقيق وابن وثاب ، وقرأ الباقون غير نافع بالرفع ، وهي قراءة شيبة بن نصاح وعيسى والحسن بن أبي الحسن ، وذلك يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها النعت على الموضع والخبر مضمر تقديره في الوجود أو في العالم وأن يكون " غيرُ " خبر الابتداء الذي هو في المجرور والرفع على الاستثناء ، كأنه قال هل خالق إلا الله ، فجرت " غير " مجرى الفاعل بعد { إلا } ، وقوله { من السماء } يريد بالمطر ومن { الأرض } يريد بالنبات ، وقوله { فأنى تؤفكون } معناه فلأي وجه تصرفون عن الحق ، ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بما سلف من حال الرسل مع الأمم ، و { الأمور } تعم جميع الموجودات المخلوقات إلى الله مصير جميع ذلك على اختلاف أحوالها ، وفي هذا وعيد للكفار ووعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم وعظ عز وجل جميع العالم وحذرهم غرور الدنيا بنعيمها وزخرفها الشاغلة عن المعاد الذي له يقول الإنسان : { يا ليتني قدمت لحياتي } [ الفجر : 24 ] ولا ينفعه ليت يومئذ ، وحذر غرور الشيطان ، وقوله { إن وعد الله } عبارة عن جميع خبره عز وجل في خير وتنعم أو عذاب أو عقاب ، وقرأ جمهور الناس " الغَرور " بفتح الغين وهو الشيطان قاله ابن عباس ، وقرأ سماك العبدي وأبو حيوة " الغُرور " بضم الغين وذلك يحتمل أن يكون جمع غار كجالس وجلوس ، ويحتمل أن يكون جمع غر وهو مصدر غره يغره غراً ، ويحتمل أن يكون مصدراً وإن كان شاذاً في الأفعال المتعدية أن يجيء مصدرها على فعول لكنه قد جاء لزمه لزوماً ونهكه المرض نهوكاً فهذا مثله وكذلك هو مصدر في قوله { فدلاهما بغرور } [ الأعراف : 22 ] .
(5/362)

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
قوله تعالى : { إن الشيطان } الآية ، يقوي قراءة من قرأ " الغَرور " بفتح الغين ، وقوله { فاتخذوه عدواً } أي بالمباينة والمقاطعة والمخالفة له باتباع الشرع ، و " الحزب " الحاشية والصاغية ، واللام في قوله { ليكونوا } لام الصيرورة لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك ، و { السعير } طبقة من طبقات جهنم وهي سبع طبقات ، وقوله { الذين كفروا } في موضع رفع بالابتداء وهذا هو الحسن لعطف { الذين آمنوا } عليه بعد ذلك فهي جملتان تعادلتا ، وجوز بعض الناس في { الذين } أن يكون بدلاً من الضمير في { يكونوا } وجوز غيره أن يكون { الذين } في موضع نصب بدلاً من { حزبه } وجوز بعضهم أن يكون في موضع خفض بدلاً من { أصحاب } وهذا كله محتمل ، غير أن الابتداء أرجح . وقوله تعالى : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } توقيف وجوابه محذوف تقديره عنده الكسائي تذهب نفسك حسرات عليهم ، ويمكن أن يتقدر كمن اهتدى ونحو هذا من التقدير ، وأحسنها ما دل اللفظ بعد عليه ، وقرأ طلحة " أمن زين " بغير فاء ، وهذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن كفر قومه ، ووجب التسليم لله تعالى في إضلال من شاء وهداية من شاء ، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أمرهم وأن لا يبخع نفسه أسفاً عليهم ، وقرأ جمهور الناس " فلا تذهَبُ " بفتح التاء والهاء " نفسُك " بالرفع ، وقرأ أبو جعفر وقتادة وعيسى والأشهب " تُذهِبَ " بضم التاء وكسر الهاء نفسك بالنصب ، ورويت عن نافع ، و " الحسرة " هم النفس على فوات أمر ، واستشهد ابن زيد لذلك بقوله تعالى : { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } [ الزمر : 56 ] ثم توعد تعالى الكفرة بقوله { إن الله عليم بما يصنعون } .
(5/363)

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
هذه آية احتجاج على الكفرة في إنكار البعث من القبور ، فدلهم تعالى على المثال الذي يعاينونه وهو سواء مع إحياء الموتى ، و " البلد الميت " هو الذي لا نبت فيه قد اغبر من القحط فإذا أصابه الماء من السحاب اخضر وأنبت فتلك حياته ، و { النشور } مصدر نشر الميت إذا حيي ، ومنه قول الأعشى :
يا عجبا للميت الناشر ... وقوله تعالى : { من كان يريد العزة } يحتمل ثلاثة معان : أحدها أن يريد { من كان يريد العزة } بمغالبة { فلله العزة } أي ليست لغيره ولا تتم إلا له وهذا المغالب مغلوب ونحا إليه مجاهد ، وقال { من كان يريد العزة } بعبادة الأوثان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تمسك بقوله تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً } [ مريم : 81 ] والمعنى الثاني { من كان يريد العزة } وطريقها القويم ويحب نيلها على وجهها { فلله العزة } أي به وعن أوامره لا تنال عزته إلا بطاعته ، ونحا إليه قتادة . والمعنى الثالث وقاله الفراء { من كان يريد } علم { العزة فلله العزة } أي هو المتصف بها ، و { جميعاً } حال ، وقوله تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب } أي التوحيد والتمجيد وذكر الله ونحوه ، وقرأ الضحاك " إليه يُصعد " بضم الياء ، وقرأ جمهور الناس " الكلم " وهو جمع كلمة ، وقرأ أبو عبد الرحمن " الكلام " ، و { الطيب } الذي يستحسن سماعه الاستحسان الشرعي ، وقال كعب الأحبار : إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لدوياً حول العرش كدوي النحل تذكر بصاحبها ، وقوله تعالى : { والعمل الصالح يرفعه } اختلف الناس في الضمير في { يرفعه } على من يعود ، فقالت فرقة يعود على { العمل } ، واختلفت هذه الفرقة فقال قوم الفاعل ب " يرفع " هو { الكلم } أي والعمل يرفعه الكلم وهو قول لا إله إلا الله لأنه لا يرتفع عمل إلا بتوحيد ، وقال بعضهم الفعل مسند إلى الله تعالى أي " والعمل الصالح يرفعه هو " .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أرجح الأقوال ، وقال ابن عباس وشهر بن حوشب ومجاهد وقتادة الضمير في { يرفعه } عائد على { الكلم } أي أن العمل الصالح هو يرفع الكلم .
قال القاضي أبو محمد : واختلفت عبارات أهل هذه المقالة فقال بعضها وروي عن ابن عباس أن العبد إذا ذكر الله وقال كلاماً طيباً وأدى فرائضه ارتفع قوله مع عمله ، وإذا قال ولم يؤد فرائضه رد قوله على عمله ، وقيل عمله أولى به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يرده معتقد أهل الحق والسنة ولا يصح عن ابن عباس ، والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله تعالى وقال كلاماً طيباً فإنه مكتوب له متقبل منه وله حسناته وعليه سيئاته ، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك ، وأيضاً فإن { الكلم الطيب } عمل صالح وإنما يستقيم قول من يقول إن العمل هو الرافع ل { الكلم } بأن يتأول أنه يزيد في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه ، كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر لله كانت الأعمال أشرف .
(5/364)

قال القاضي أبو محمد : فيكون قوله { والعمل الصالح يرفعه } موعظة وتذكرة وحضاً على الأعمال ، وذكر الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقبل الله قولاً إلا بعمل ولا عمل إلا بنية " ، ومعناه قولاً يتضمن أن قائله عمل عملاً أو يعمله في الأنف ، وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها كالتوحيد والتسبيح فمقبولة على ما قدمناه ، وقرأت فرقة " والعملَ " بالنصب " الصالحَ " على النعت وعلى هذه القراءة ف { يرفعه } مستند إما إلى الله تعالى وإما إلى { الكلم } ، والضمير في { يرفعه } عائد على { العمل } لا غير ، وقوله { يمكرون السيئات } إما أنه عدى { يمكرون } لما أحله محل يكسبون ، وإما أنه حذف المفعول وأقام صفته مقامه تقديره يمكرون المكرات السيئات ، و { يمكرون } معناه يتخابثون ويخدعون وهم يظهرون أنهم لا يفعلون ، و { يبور } معناه يفسد ويبقى لا نفع فيه ، وقال بعض المفسرين يدخل في الآية أهل الربا .
قال القاضي أبو محمد : ونزول الآية أولاً في المشركين .
(5/365)

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
هذه آية تذكير بصفات الله تعالى على نحو ما تقدم ، وهذه المحاورة إنما هي في أمر الأصنام وفي بعث الأجساد من القبور ، وقال تعالى : { خلقكم من تراب } من حيث خلق آدم أبانا منه ، وقوله { ثم من نطفة } أي بالتناسل من مني الرجال ، و { أزواجاً } قيل معناه أنواعاً ، وقيل أراد تزويج الرجال النساء ، وقوله تعالى : { ومن يعمر من معمر ولا ينقص من عمره } اختلف الناس في عود الضمير في قوله { من عمره } ، فقال ابن عباس وغيره ما مقتضاه أنه عائد على { معمر } الذي هو اسم جنس والمراد غير الذي يعمر ، أي أن القول يتضمن شخصين يعمر أحدهما مائة سنة أو نحوها وينقص من عمر الآخر بأن يكون عاماً واحداً أو نحوه ، وهذا قول الضحاك وابن زيد لكنه أعاد ضميراً إيجازاً واختصاراً ، والبيان التام أن تقول ولا ينقص من عمر معمر لأن لفظة { معمر } هي بمنزلة ذي عمر .
قال القاضي أبو محمد : كأنه قال " ولا يعمر من ذي عمر ولا ينقص من عمر ذي عمر " ، وقال ابن عباس أيضاً وأبو مالك وابن جبير المراد شخص واحد وعليه الضمير أي ما يعمر إنسان ولا ينقص من عمره بأن يحصي ما مضى منه إذا مر حول كتب ذلك ، ثم حول ، ثم حول ، فهذا هو النقص ، قال ابن جبير ما مضى من عمره فهو النقص وما يستقبل فهو الذي يعمر ، وروي عن كعب الأحبار أنه قال المعنى { ولا ينقص من عمره } أي لا يخرم بسبب قدرة الله ، ولو شاء لأخر ذلك السبب .
قال القاضي أبو محمد : وروي أنه قال : حين طعن عمر لو دعا الله تعالى لزاد في أجله ، فأنكر عليه المسلمون ذلك وقالوا : إن الله تعالى يقول { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة } [ الأعراف : 34 ، النحل : 61 ] فاحتج بهذه الآية وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين ، وبنحوه تمسكت المعتزلة ، وقرأ الحسن والأعرج وابن سيرين " ينقِضُ " على بناء الفعل للفاعل أي ينقص الله ، وقرأ " من عمْره " بسكون الميم الحسن وداود ، و " الكتاب " المذكور في الآية اللوح المحفوظ ، وقوله { إن ذلك } إشارة إلى تحصيل هذه الأعمال وإحصاء دقائقها وساعاتها .
(5/366)

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
هذه آية أخرى يستدل بها كل عاقل ويقطع أنها مما لا مدخل لصنم فيه ، و { البحران } يريد بهما جميع الماء الملح وجميع الماء العذب حيث كان ، فهو يعني به جملة هذا وجملة هذا ، و " الفرات " الشديد العذوبة ، و " الأجاج " الشديد الملوحة الذي يميل إلى المرارة من ملوحته ، قال الرماني هو من أججت النار كأنه يحرق من حرارته ، وقرأ عيسى الثقفي " سيّغ شرابه " بغير ألف وبشد الياء ، وقرأ طلحة " مَلِح " بفتح الميم وكسر اللام ، و " اللحم الطري " الحوت وهو موجود في البحرين ، وكذلك { الفلك } تجري في البحرين ، وبقيت " الحلية " وهي اللؤلؤ والمرجان ، فقال الزجاج وغيره هذه عبارة تقتضي أن الحلية تخرج منهما ، وهي إنما تخرج من الملح وذلك تجوز كما قال في آية أخرى { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] ، وكما قال { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } [ الأنعام : 128 ] ، والرسل إنما هي من الإنس ، وقال بعض الناس بل الحلية تخرج من البحرين ، وذلك أن صدف اللؤلؤ إنما يلحقه فيما يزعمون ماء النيسان ، فمنه ما يخرج ويوجد الجوهر فيه ، ومنه ما ينشق في البحر عند موته وتقطعه ، فيخرج جوهرة بالعطش وغير ذلك من الحيل ، فهذا هو من الماء الفرات ، فنسب إليه الإخراج لما كان من الحلية بسبب ، وأيضاً فإن المرجان يزعم طلابه في البحر أنه إنما يوجد وينبت في موضع بإزائها انصباب ماء أنهار في البحر وأيضاً فإن البحر الفرات كل ينصب في البحر الأجاج فيجيء الإخراج منهما جميعاً .
قال القاضي أبو محمد : وقد خطىء أبو ذؤيب في قوله في صفة الجوهر : [ الطويل ]
فجاء بها ما شئت من لطمية ... وجهها ماء الفرات يموج
وليس ذلك بخطإ على ما ذكرنا من تأويل هذه الفرقة ، و { الفلك } في هذا الموضع جمع بدليل صفته بجمع ، و { مواخر } جمع ماخرة وهي التي تمخر الماء أي تشقه ، وقيل الماخرة التي تشق الريح ، وحينئذ يحدث الصوت ، والمخر الصوت الذي يحدث من جري السفينة بالريح ، وعبر المفسرون عن هذا بعبارات لا تختص باللفظة ، فقال بعضهم " المواخر " التي تجيء وتذهب بريح واحدة ، وقال مجاهد الريح تمخر السفن ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام .
قال القاضي أبو محمد : هكذا وقع لفظه في البخاري ، والصواب أن تكون { الفلك } هي الماخرة لا الممخورة وقوله تعالى : { لتبتغوا } يريد بالتجارات والحج والغزو وكل سفر له وجه شرعي .
(5/367)

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
{ يولج } معناه يدخل ، وهذه عبارة عن أن ما نقص من { الليل } زاد { في النهار } ، فكأنه دخل فيه ، وكذلك ما نقص من { النهار } يدخل { في الليل } والألف واللام في { الشمس والقمر } هي للعهد ، وقيل هي زائدة لا معنى لها ولا تعريف وهذا أصوب ، و " الأجل المسمى " هو قيام الساعة ، وقيل آماد الليل وآماد النهار ، ف " أجل " على هذا اسم جنس ، وقرأ جمهور الناس " تدعون " بالتاء ، وقرأ الحسن ويعقوب " يدعون " بالياء من تحت ، و " القطمير " القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة هذا قول الناس الحجة ، وقال جوبير عن رجاله " القطمير " القمع الذي في رأس التمرة ، وقاله الضحاك والأول أشهر وأصوب ، ثم بين تعالى أمر الأصنام بثلاثة أشياء كلها تعطي بطلانها ، : أولها أنها لاتسمع إن دعيت ، والثاني أنها لا تجيب أن لو سمعت وإنما جاء بهذه لأن لقائل متعسف أن يقول عساها تسمع ، والثالث أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفار ، ويكفرون بشركهم أي بأن جعلوهم شركاء لله فأضاف الشرك إليهم من حيث هم قرروه ، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل ، وقوله { يكفرون } يحتمل ان يكون بكلام ، وعبارة يقدر الله الأصنام عليها ويخلق لها إدراكاً يقتضيها ، ويحتمل أن يكون بما يظهر هناك من جمودها وبطولها عند حركة كل ناطق ومدافعة كل محتج فيجيء هذا على طريق التجوز كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]
وقفت على ربع لمية ناطق ... يخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه
وهذا كثير ، وقوله { ولا ينبئك مثل خبير } قال المفسرون قتادة وغيره " الخبير " هنا أراد به تعالى نفسه فهو الخبير الصادق الخبر نبأ بهذا فلا شك في وقوعه ، ويحتمل أن يكون قوله { ولا ينبئك مثل خبير } من تمام ذكر الأصنام ، كأنه قال : ولا يخبرك مثل من يخبر عن نفسه أي لا أصدق في تبريها من شرككم منها فيريد بالخبير على هذا المثل له ، كأنه قال { ولا ينبئك مثل خبير } عن نفسه وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء .
(5/368)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
هذه آية موعظة وتذكير ، والإنسان فقير إلى الله تعالى في دقائق الأمور وجلائلها لا يستغني عنه طرفة عين ، وهو به مستغن عن كل واحد ، والله تعالى غني عن الناس وعن كل شيء من مخلوقاته غني على الإطلاق ، و { الحميد } المحمود بالإطلاق ، وقوله تعالى { بعزيز } أي بممتنع ، و { تزر } معناه تحمل ، والوزر الثقل ، وهذه الآية في الذنوب والآثام والجرائم ، قاله قتادة وابن عباس ومجاهد ، وسببها أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم ، فحكم الله تعالى بأنه لا يحملها أحد عن أحد ، ومن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة كفعل زيادة ونحوه فإنما ذلك لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ومواصلة أو اطلاع على حاله وتقرير لها ، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب ، وهذا هو المعنى في قوله تعالى { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [ العنكبوت : 13 ] لأنهم أغووهم ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة بعده ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده " وأنثت { وازرة } لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت { مثقلة } ، و " الحمل " ما كان على الظهر في الأجرام ، ويستعار للمعاني كالذنوب ونحوها ، فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر ، كما يجعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد ، واسم { كان } مضمر تقديره ولو كان الداعي ، ثم أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه إنما ينذر أهل الخشية وهم الذي يمنحون العلم ، أي إنما ينتفع بالإنذار هم وإلا فلنذارة جميع العالم بعثه ، وقوله { بالغيب } أي وهو بحال غيبة عنهم إنما هي رسالة ، ثم خصص من الأعمال إقامة الصلاة تنبيهاً عليها وتشريفاً لها ، ثم حض على التزكي بأن رجى عليه غاية الترجية ، وقرأ طلحة " ومن أزكى فإنما يزكي " ، ثم توعد بعد ذلك بقوله { وإلى الله المصير } .
قال القاضي أبو محمد : وكل عبارة مقصرة عن تبيين فصاحة هذه الآية ، وكذلك كتاب الله كله ، ولكن يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع بحسب تقصيرنا .
(5/369)

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
مضمن هذه الآية طعن على الكفرة وتمثيل لهم بالعمى والظلمات وتمثيل المؤمنين بآرائهم بالبصراء والأنوار ، وقوله { ولا النور } ودخول { لا } فيها وفيما بعدها إنما هو على نية التكرار كأنه قال { ولا الظلمات } والنور ، { ولا النور } ولا الظلمات ، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الآية على متروكه ، و { الحرور } شدة حر الشمس ، وقال رؤبة بن العجاج { الحرور } بالليل والسموم بالنهار ، وليس كما قال وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره أن السموم يختص بالنهار و { الحرور } يقال في حر الليل وفي حر النهار ، وتأول قوم { الظل } في هذه الآية الجنة ، و { الحرور } جهنم ، وشبه المؤمنين ب { الأحياء } والكفرة ب { الأموات } من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه ، ثم رد الأمر إلى مشيئة الله تعالى بقوله { إن الله يسمع من يشاء } ، وقوله { وما أنت بمسمع من في القبور } تمثيل بما يحسه البشر ويعهده جميعنا من أن الميت الذي في القبر لا يسمع ، وأما الأرواح فلا نقول إنها في القبر بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش وفي قناديل وغير ذلك ، وأن أرواح الكفرة في سجين ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور فربما سمعت وكذلك أهل قليب بدر إنما سمعت أرواحهم ، وكذلك سماع الميت خفق النعال إنما هو برد روحه عليه عند لقاء الملكين .
قال القاضي أبو محمد : فهذه الآية لا تعارض حديث القليب لأن الله تعالى رد على أولئك أرواحهم في القليب ليوبخهم ، وهذا على قول عمر وابنه عبد الله وهو الصحيح إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما أنتم بأسمع منهم " ، وأما عائشة فمذهبها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمعهم وأنه إنما قصد توبيخ الأحياء من الكفرة ، وجعلت هذه الآية أصلاً واحتجت بها ، فمثل الله تعالى في هذه الآية الكفرة بالأشخاص التي في القبور ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن " بمسمع من " على الإضافة ، ثم سلاه بقوله { إن أنت إلا نذير } أي ليس عليك غير ذلك ، والهداية والإضلال إلى الله تعالى و { بشيراً } معناه بالنعيم الدائم لمن آمن ، { ونذيراً } معناه بالعذاب الأليم لمن كفر ، وقوله تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } معناه ان دعوة الله تعالى قد عمت جميع الخلق ، وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة فهو ممن بلغته لأن آدم بعث إلى بنيه ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم ، والآيات التي تتضمن أن قريشاً لم يأتهم نذير ، معناه نذير مباشر ، وما ذكره المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم فإنما ذلك بالفرض لا أنه توجد أمة لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله ، ثم سلى نبيه بما سلف من الأمم لأنبيائهم ، و { البينات والزبر والكتاب المنير } شيء واحد ، لكنه أكد أوصافه بعضها ببعض وذكره بجهاته و { الزبر } من زبرت الكتاب إذا كتبته ، ثم توعد قريشاً بذكره أخذ الأمم الكافرة .
(5/370)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
الرؤية في قوله { ألم تر } رؤية القلب ، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب ، لأن الحجة بها تقوم ، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة ، فأحياناً تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره ، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه ، و { إن } سادت مسد المفعولين الذين للرؤية ، هذا مذهب سيبويه لأن { أن } جملة مع ما دخلت عليه ، ولا يلزم ذلك في قولك رأيت وظننت ذلك ، لأن قولك ذلك ليس بجملة كما هي { أن } ومذهب الزجاج أن المفعول الثاني محذوف تقديره { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } حقاً ، ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة لأنها أهيب في العبارة ، وقوله { ألوانها } يحتمل أن يريد الحمرة والصفرة والبياض والسواد وغير ذلك ، ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد ، ويحتمل أن يريد بالألوان الأنواع ، والمعتبر فيه على هذا التأويل أكثر عدداً ، و { جدد } جمع جدة ، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كأنّ سراته وحدَّة متنه ... كنائن يحوي فوقهن دليص
وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه أنه يقال { جدد } في جمع جديد ، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية ، وقرأ الزهري " جَدد " بفتح الجيم ، وقوله { وغرابيب سود } لفظان لمعنى واحد ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله يبغض الشيخ الغربيب " ، يعني الذي يخضب بالسواد ، وقدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر وكذلك هو في المعنى ، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا النحو ، وقوله { مختلف ألوانه } قبله محذوف إليه يعود الضمير تقديره { والأنعام } خلق { مختلف ألوانه } ، { والدواب } يعم الناس والأنعام لكن ذكرا تنبيهاً منهما ، وقوله { كذلك } يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسناً ، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين ، ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب كأنه قال كما جاءت القدرة في هذا كله ، { إنما يخشى الله من عباده العلماء } أي المحصلون لهذه العبرة الناظرون فيها .
قال القاضي أبو محمد : وقال بعض المفسرين الخشية رأس العلم ، وهذه عبارة وعظية لا تثبت عند النقد ، بل الصحيح المطرد أن يقال العلم رأس الخشية ، وسببها والذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خشية الله رأس كل حكمة " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " رأس الحكمة مخافة الله " ، فهذا هو الكلام المنير ، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية كفى بالزهد علماً ، وقال مسروق وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله ، وقال تعالى : { سيذكر من يخشى } [ الأعلى : 1 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(5/371)

" أعلمكم بالله أشدكم له خشية " ، وقال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم ، ويقال إن فاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله . وقال ابن مسعود : كفى بخشية الله علماً وبالاغترار ، به جهلاً ، وقال مجاهد والشعبي : إنما العالم من يخشى الله ، وإنما في هذه الآية تخصيص { العلماء } لا للحصر ، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه ، وإنما يعلم ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه ، فإذا قلت إنما الشجاع عنترة ، وإذا قلت إنما الله إله واحد ، بان لك فتأمله ، وهذه الآية بجملتها دليل على الوحدانية والقدرة والقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش .
(5/372)

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
قال مطرف بن عبد الله بن الشخير هذه آية القراء وهذا على أن { يتلون } يمعنى يقرؤون وإن جعلناها بمعنى يتبعون صح معنى الآية ، وكانت في القراء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية ، و { كتاب الله } هو القرآن ، وإقامة الصلاة إقامتها بجميع شروطها ، والنفقة هي في الصدقات ووجوه البر ، فالسر من ذلك هو التطوع والعلانية هو المفروض ، و { يرجون } جملة في موضع خبر { إن } ، و { تبور } معناه تكسد ويتعذر ربحها ، ويقال تعوذوا بالله من بوار الأيم ، واللام في قوله { ليوفيهم } متعلقة بفعل مضمر يقتضيه لفظ الآية تقديره وعدهم بأن لا تبور ، أو فعلوا ذلك كله ، أو أطاعوه ونحو هذا من التقديرات ، وقوله { ويزيدهم من فضله } قالت فرقة : هو تضعيف الحسنات من العشر إلى السبعمائة ، وتوفية الأجور على هذا هي المجازاة مقابلة ، وقالت فرقة : إن التضعيف داخل في توفيه الأجور ، وأما الزيادة من فضله إما النظر إلى وجهه تعالى ، وإما أن يجعلهم شافعين في غيرهم ، كما قال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] و { غفور } معناه متجاوز عن الذنوب ساتر لها ، و { شكور } معناه مجاز عن اليسير من الطاعات مقرب لعبده ، ثم ثبت تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { والذي أوحينا إليك من الكتاب } الآية ، و { مصدقاً } حال مؤكدة ، والذي بين يدي القرآن هو التوراة والإنجيل ، وقوله تعالى : { إن الله بعباده لخبير بصير } ، وعيد .
(5/373)

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
{ أورثنا } معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرق ، والميراث حقيقة أو مجازاً إنما يقال فيما صار لإنسان بعد موت آخر ، و { الكتاب } هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، فكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وهو قد تضمن لمعاني الكتب المنزلة ، قبله ، فكأنه ورث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها ، و { الذين اصطفينا } يريد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وغيره ، وكأن اللفظ يحتمل أن يريد به جميع المؤمنين من كل أمة إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأول لم يورثوه ، و { اصطفينا } معناه اخترنا وفضلنا ، و " العباد " عام في جميع العالم ، مؤمنهم وكافرهم ، واختلف الناس في عود الضمير من قوله { فمنهم } فقال ابن عباس وابن مسعود ما مقتضاه إن الضمير عائد على { الذين } والأصناف الثلاثة هي كلها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ف " الظالم لنفسه " العاصي المسرف ، و " المقتصد " متقي الكبائر والجمهور من الأمة ، و " السابق " المتقي على الإطلاق ، وقالت هذه الفرقة والأصناف الثلاثة في الجنة وقاله أبو سعيد الخدري ، والضمير في { يدخلونها } عائد على الأصناف الثلاثة ، قالت عائشة : دخلوا الجنة كلهم ، وقال كعب الأحبار : استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم ، وفي رواية تحاكت مناكبهم ، وقال أبو إسحاق السبيعي : أما الذي سمعت مذ ستين سنة فكلهم ناج ، وقال عبد الله بن مسعود : هذه الأمة يوم القيامة أثلاث ، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، ثم يدخلون الجنة ، وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول الله ما هؤلاء وهو أعلم بهم فتقول الملائكة : هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا فيقول الله عز وجل : أدخلوهم في سعة رحمتي ، وقالت عائشة في كتاب الثعلبي : " السابق " من أسلم قبل الهجرة ، و " المقتصد " من أسلم بعدها ، و " الظالم " نحن ، وقال الحسن : " السابق " من رجحت حسناته ، و " المقتصد " من استوت سيئاته و " الظالم " من خفت موازينه ، وقال سهل بن عبد الله : " السابق " العالم ، و " المقتصد " المتعلم ، و " الظالم " الجاهل ، وقال ذو النون المصري ، " الظالم " الذاكر لله بلسانه فقط و " المقتصد " الذاكر بقلبه و " السابق " الذي لا ينساه ، وقال الأنطاكي : " الظالم " صاحب الأقوال ، و " المقتصد " صاحب الأفعال ، و " السابق " صاحب الأحوال ، وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال :
(5/374)

" كلهم في الجنة " ، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة " .
قال القاضي أبو محمد : أراد صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء رؤوس السابقين ، وقال عثمان بن عفان : سابقنا أهل جهادنا ومقتصدنا أهل حضرنا وظالمنا أهل بدونا ، لا يشهدون جماعة ولا جمعة ، وقال عكرمة والحسن وقتادة ما مقتضاه أن الضمير في { منهم } عائد على العباد و " الظالم لنفسه " الكافر والمنافق و " المقتصد " المؤمن العاصي و " السابق " التقي على الإطلاق ، وقالوا وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة { وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم } [ الواقعة : 12 ] والضمير في قوله { يدخلونها } على هذا القول خاص على الفريقين المقتصد والسابق الفرقة الظالمة في النار قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم كما يقتضي التأويل الأول ، وروي هذا القول عن ابن عباس ، وقال بعض العلماء قدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله والمقتصد هو المعتدل في أموره لا يسرف في جهة من الجهات بل يلزم الوسط ، وقال صلى الله عليه وسلم : " خير الأمور أوساطها " ، وقالت فرقة لا معنى لقولها إن قوله تعالى : { الذين اصطفيناهم } الأنبياء والظالم منهم لنفسه من وقع في صغيرة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مردود من غير ما وجه ، وقرأ جمهور الناس " سابق بالخيرات " ، وقرأ أبو عمرو الجوني " سباق بالخيرات " ، و { بإذن الله } معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده ، وقوله تعالى : { ذلك هو الفضل الكبير } إشارة إلى الاصطفاء وما يكون عنه من الرحمة ، وقال الطبري : السبق بالخيرات هو { الفضل الكبير } ، قال في كتاب الثعلبي جمعهم في دخول الجنة لأنه ميراث ، والبار والعاق سواء في الميراث مع صحة النسب ، فكذلك هؤلاء مع صحة الإيمان ، وقرأ جمهور الناس " جناتُ " بالرفع على البدل من { الفضل } وقرأ الجحدري " جناتِ " بالنصب بفعل مضمر يفسره { يدخلونها } وقرأ زر بن حبيش " جنة عدن " على الإفراد ، وقرأ أبو عمرو وحده " يُدخَلونها " بضم الياء وفتح الخاء ، ورويت عن ابن كثير ، وقرأ الباقون " يَدخُلونها " بفتح الياء وضم الخاء ، و { أساور } جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار ، ويقال سُوار بضم السين ، وفي حرف أبي أساوير ، وهو جمع أسوار وقد يقال ذلك في الحلي ، ومشهور أسوار أنه الجيد الرمي من جند الفرس ، ويحلون معناه رجلاً ونساء ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع " ولؤلؤاً " بالنصب عطفاً على { أساور } ، وكان عاصم في رواية أبي بكر يقرأ و " لوْلؤاً " بسكون الواو الأولى دون همز ، وبهمز الثانية ، وروي عنه ضد هذا همز الأولى ، ولا يهمز الثانية ، وقرأ الباقون " لؤلؤٍ " بالهمز وبالخفض عطفاً على { أساور } ، و { الحزن } في هذه الآية عام في جميع أنواع الأحزان ، وخصص المفسرون في هذا الموضع فقال أبو الدرداء : حزن أهوال القيامة وما يصيب هناك من ظلم نفسه من الغم والحزن ، وقال ابن عباس : حزن جهنم ، وقال عطية : حزن الموت ، وقال شهر : حزن معيشة الدنيا الخبز ونحوه ، وقال قتادة : حزن الدنيا في الخوف أن تتقبل أعمالهم ، وقيل غير هذا مما هو جزء من الحزن . قال القاضي أبو محمد : ولا معنى لتخصيص شيء من هذه الأحزان ، لأن الحزن أجمع قد ذهب عنهم ، وقولهم { لغفور شكور } وصفوه تعالى بأنه يغفر الذنوب ويجازي على القليل من الأعمال الصالحة بالكثير من الثواب ، وهذا هو شكره لا رب سواه .
(5/375)

الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
{ المقامة } الإقامة ، وهو من أقام ، و " المَقامة " بفتح الميم القيام وهو من قام ، و { دار المقامة } الجنة ، و " النصب " تعب البدن ، و " اللغوب " تعب النفس اللازم عن تعب البدن ، وقال قتادة " اللغوب " الوجع ، وقرأ الجمهور " لُغوب " بضم اللام ، وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي " لَغوب " بفتح اللام أي شيء يعيينا ، ويحتمل أن يكون مصدراً كالولوع والوضوء ، ثم أخبر عن حال { الذين كفروا } معادلاً بذلك الإخبار قبل عن الذين اصطفى ، وهذا يؤيد تأويل من قبل إن الأصناف الثلاثة هي كلها في الجنة لأن ذكر الكافرين إنما جاء ها هنا ، وقوله { لا يقضى } معناه لا يجهز لأنهم لو ماتوا لبطلت حواسهم فاستراحوا ، وقرأ الحسن البصري والثقفي " فيموتون " ووجهها العطف على { يقضى } وهي قراءة ضعيفة ، وقوله { لا يخفف عنهم من عذابها } لا يعارضه قوله { كلما خبت زدناهم سعيراً } [ الإسراء : 97 ] لأن المعنى لا يخفف عنهم نوع عذابهم والنوع في نفسه يدخله أن يخبو أو يسعر ونحو ذلك ، وقرأ جمهور القراء ، " نجزي " بنصب " كلَّ " وبالنون في " نجزي " ، وقرأ أبو عمرو ونافع " يُجزى " بضم الياء على بناء الفعل للمفعول " كلُّ كفور " برفع " كلُّ " ، و { يصطرخون } يفتعلون من الصراخ أصله يصترخون فأبدلت التاء طاء لقرب مخرج الطاء من الصاد ، وفي الكلام محذوف تقديره يقولون { ربنا } وطلبوا الرجوع إلى الدنيا في مقالتهم هذه فالتقدير فيقال لهم { أو لم نعمركم } على جهة التوقيف والتوبيخ ، و { ما } في قوله { ما يتذكر } ظرفية ، واختلف الناس في المدة التي هي حد للتذكير ، فقال الحسن بن أبي الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكير ، وقال قتادة : ثمان عشرة سنة ، وقالت فرقة : عشرون سنة ، وحكى الزجاج : سبع عشرة سنة ، وقال ابن عباس : أربعون سنة ، وهذا قول حسن ، ورويت فيه آثار ، وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب مسح الشيطان على وجهه وقال بابي وجه لا يفلح ، وقال مسروق بن الأجدع : من بلغ أربعين سنة فليأخذ حذره من الله ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... وإن جر أسْباب الحياة له العمر
وقد قال قوم : الحد خمسون سنة وقد قال الشاعر : [ الوافر ]
أخو الخمسين مجتمع أشدي ... ونجدني مداومة الشؤون
وقال الآخر : [ الطويل ]
وإن امرأً قد سار خمسين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب
وقال ابن عباس أيضاً وغيره : الحد في ذلك ستون وهي من الأعذار ، وهذا أيضاً قول حسن متجه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(5/376)

" إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين " وهو العمر الذي قال الله فيه ما يتذكر فيه من تذكر ، وقال صلى الله عليه وسلم : " عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر " ، وقرأ جمهور الناس " ما يتذكر فيه من تذكر " ، وقرأ الأعمش " ما يذكر فيه من أذكر " ، و { النذير } في قول الجمهور الأنبياء وكل نبي نذير أمته ومعاصره ، ومحمد صلى الله عليه وسلم نذير العالم في غابر الزمان ، وقال الطبري وقيل { النذير } الشيب وهذا قول حسن ، إلا أن الحجة إنما تقوم بالنذارة الشرعية وباقي الآية بين .
(5/377)

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
هذا ابتداء تذكير بالله تعالى ودلالة على وحدانيته وصفاته التي لا تنبغي الألوهية إلا معها ، و " الغيب " ، ما غاب عن البشر و { ذات الصدور } ما فيها من المعتقدات والمعاني ومنه قول أبي بكر : ذو بطن بنت خارجة ، ومنه قول العرب : الذيب مغبوط بذي بطنه ، أي بالنفخ الذي فيه فمن يراه يظنه شابعاً قريب عهد بأكل ، و { خلائف } جمع خليفة كسفينة وسفائن ومدينة ومدائن ، وقوله { فعليه كفره } فيه حذف مضاف تقديره " فعليه وبال كفره وضرر كفره " ، و " المقت " احتقارك الإنسان من أجل معصيته أو ذنبه الذي يأتيه فإذا احتقرت تعسفاً منك فلا يسمى ذلك مقتاً ، و " الخسار " مصدر من خسر يخسر أي خسروا آخرتهم ومعادهم بأن صاروا إلى النار والعذاب ، وقوله تعالى : { قل أرأيتم شركاءكم } الآية احتجاج على الكفار في بطلان أمر أصنامهم ، وقفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه على أصنامهم وطلب منهم أن يعرضوا عليه الشيء الذي خلقته آلهتهم لتقوم حجتهم التي يزعمونها ، ثم وقفهم مع اتضاح عجزهم عن خلق شيء على السماوات هل لهم فيها شرك وظاهر أيضاً ، بعد هذا ثم وقفهم هل عندهم كتاب من الله تعالى ليبين لهم فيه ما قالوه ، أي ليس ذلك كله عندهم ، ثم أضرب بعد هذا الجحد المقدر فقال : بل إنما يعدون أنفسهم غروراً ، و { أرأيتم } يتنزل عند سيبويه منزلة أخبروني ، ولذلك لا تحتاج إلى مفعولين ، وأضاف الشركاء إليهم من حيث جعلوهم شركاء لله ، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولكم فالواجب أضافتها إليكم ، و { تدعون } معناه تعبدون ، والرؤية في قوله { أروني } رؤية بصر ، و " الشرك " الشركة مصدر أيضاً ، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم " بينات " بالجمع ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والأعمش وابن وثاب ونافع بخلاف عنه " بينة " بالإفراد والمراد به الجمع ، ويحتمل أن يراد به الإفراد كما تقول : أنا من هذا الأمر على واضحة أو على جلية ، و " الغرور " الذي كانوا يتعاطونه قولهم إن الأصنام تقرب من الله زلفى ونحوه مما يغبطهم ، ولما ذكر تعالى ما يبين فساد أمر الأصنام وقف على الحجة على بطلانها عقب ذلك بذكر عظمته وقدرته ليبين الشيء بضده ، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله تعالى ، فأخبر عن إمساكه السماوات والأرض بالقدرة ، وقوله { أن تزولا } معناه كراهة { أن تزولا } ، ومعنى الزوال هنا التنقل من مكانها والسقوط من علوها ، وقال بعض المفسرين معناه { أن تزولا } عن الدوران ، ويظهر من قول عبد الله بن مسعود أن السماء لا تدور وإنما تجري فيها الكواكب وذلك أن الطبري أسند أن جندباً الجبلي رحل إلى كعب الأحباري ثم رجع فقال له عبد الله بن مسعود : حدثنا ما حدثك ، فقال : حدثني أن السماء في قطب كقطب الرحا ، والقطب عمود على منكب ملك ، فقال له عبد الله بن مسعود : لوددت أنك افتديت رحلته بمثل راحلتك ورحلك ، ثم قال : ما تمكنت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه ، ثم قال : { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } وكفى بها زوالاً أن تدور ، ولو دارت لكانت قد زالت ، وقوله { ولئن زالتا } قيل أراد يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال ، فكأنه قال ولئن جاء وقت زوالهما ، وقيل بل ذلك على جهة التوهم والفرض ، ولئن فرضنا زوالهما فكأنه قال ولو زالتا ، وقال بعضهم { لئن } في هذا الموضع بمعنى لو .
(5/378)

قال القاضي أبو محمد : وهذا قريب من الذي قبله ، وقرأ ابن أبي عبلة " ولو زالتا " وقوله { من بعده } فيه حذف مضاف تقديره من بعد تركه الإمساك ، وقالت فرقة : اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول والأرض كذلك لإشراك الكفرة فيمسكهما الله حلماً منه عن المشركين وتربصاً ليغفر لمن آمن منهم ، كما قال في آية أخرى { تكاد السماوات يتفطرن } [ مريم : 90 ] [ الشورى : 5 ] .
(5/379)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
الضمير في قوله { أقسموا } لكفار قريش ، وذلك أنه روي أن كفار قريش كانت قبل الإسلام تأخذ على اليهود والنصارى في تكذيب بعضهم بعضاً وتقول لو جاءنا نحن رسول لكنا أهدى من هؤلاء وهؤلاء ، و { جهد أيمانهم } منصوب على المصدر ، أي بغاية اجتهادهم ، و { إحدى الأمم } يريد اليهود والنصارى ، و " النفور " البعد عن الشيء والفزع منه والاستبشاع له ، و { استكباراً } قيل فيه بدل من النفور ، وقيل مفعول من أجله ، أي نفروا من أجل الاستكبار ، وأضاف " المكر " إلى { السَّيِّىء } وهو صفة كما قيل دار الآخرة ، ومسجد الجامع ، وجانب الغربي ، وقرأ الجمهور بكسر الهمزة من " السَّيِّىء " وقرأ حمزة وحده " السَّيِّىء " بسكون الهمزة وهو في الثانية برفع الهمزة كالجماعة ، ولحن هذه القراءة الزجاج ووجهها أبو علي الفارسي بوجوه منها أن يكون أسكن لتوالي الحركات كما قال : " قلت صاحب قوم " على أن المبرد روى هذا قلت صاح ، وكما امرؤ القيس : [ السريع ]
اليوم أشربْ غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
على أن المبرد قد رواه فاشرب وكما قال جرير : [ البسيط ]
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى ولن تعرفْكم العَرب
وقرأ ابن مسعود " ومكراً سيئاً " ، قال أبو الفتح : يعضده تنكير ما قبله من قوله { استكباراً } ، و { يحيق } معناه يحيط ويحل وينزل ولا يستعمل إلا في المكروه ، وقوله { إلا بأهله } ، أي أنه لا بد أن يحيق بهم إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة فعاقبته الفاسدة لهم ، وإن حاق في الدنيا بغيرهم أحياناً فعاقبة ذلك على أهله ، وقال كعب لابن عباس : إن في التوراة " من حفر حفرة لأخيه وقع فيها " ، فقال ابن عباس : أنا أوجدك هذا في كتاب الله تعالى : { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } ، و { ينظرون } معناه ينتظرون ، و " السنة " الطريقة والعادة ، وقوله { فلن تجد لسنة الله تبديلاً } أي لتعذيبه الكفرة المكذبين ، وفي هذا توعد بين .
(5/380)

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
لما توعدهم تعالى في الآية قبلها بسنة الأولين وأن الله تعالى لا يبدلها في الكفرة ، وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره كديار ثمود ونحوها ، و " يعجزه " معناه يفوته ويفلته ، و { من } في قوله تعالى : { من شيء } زائدة مؤكدة ، و " عليم قدير " صفتان لائقتان بهذا الموضع ، لأن مع العلم والقدرة لا يتعذر شيء ، ثم بين تعالى الوجه في إمهاله من أمهل من عباده أن ذلك إنما هو لأن الآخرة من وراء الجميع وفيها يستوفى جزاء كل أحد ، ولو جازى عز وجل في الدنيا على الذنوب لأهلك الجميع ، وقوله تعالى : { من دابة } مبالغة ، والمراد بنو آدم لأنهم المجازون ، وقيل المراد الجن والإنس ، وقيل كل ما دب على الأرض من الحيوان وأكثره إنما هو لمنفعة ابن آدم وبسببه ، والضمير في { ظهرها } عائد على { الأرض } المتقدم ذكرها ، ولو لم يتقدم لها ذكر لأمكن في هذا الموضع لبيان الأمر ولكانت ك { تورات بالحجاب } [ ص : 32 ] ونحوها ، و " الأجل المسمى " القيامة ، وقوله { فإن الله كان بعباده بصيراً } توعد وفيه للمتقين وعد .
(5/381)

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
أمال حمزة والكسائي الياء في { يس } غير مفرطين والجمهور يفتحونها ونافع وسط في ذلك ، وقوله تعالى : { يس } يدخل فيه من الأقوال ما تقدم في الحروف المقطعة في أوائل السور ، ويختص هذا بأقوال ، منها أن سعيد بن جبير قال : إنه اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم دليله { إنك لمن المرسلين } وقال السيد الحميري :
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة ... على المودة إلا آل ياسينا
وقال ابن عباس : معناه يا إنسان بلسان الحبشة ، وقال أيضاً ابن عباس في كتاب الثعلبي : هو بلغة طيِّىء وذلك أنهم يقولون يا إيسان بمعنى إنسان ويجمعونه على أياسين فهذا منه ، وقالت فرقة : " يا " حرف نداء ، والسين مقامة مقام الإنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه ، ومن قال إنه اسم من أسماء السورة أو من أسماء القرآن فذلك من الأقوال المشتركة في أوائل جميع السور ، وقرأ جمهور القراء { يس } و { نون } [ القلم : 1 ] بسكون النون وإظهارها وإن كانت النون ساكنة تخفى مع الحروف فإنما هذا مع الانفصال ، وإن حق هذه الحروف المقطعة في الأوائل أن تظهر ، وقرأ عاصم وابن عامر بخلاف عنهما { يس والقرآن } بإدغام النون في الواو على عرف الاتصال ، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف بنصب النون ، وهي قراءة عيسى بن عمرو رواها عن الغنوي ، وقال قتادة : { يس } قسم ، قال أبو حاتم : قياس هذا القول نصب النون كما تقول الله لأفعلن كذا ، وقرأ الكلبي بضمها وقال هي بلغة طيىء " يا إنسان " ، وقرأ أبو السمال وابن أبي إسحاق بخلاف بكسرها وهذه الوجوه الثلاثة هي للالتقاء ، وقال أبو الفتح ويحتمل الرفع أن يكون اجتزاء بالسين من " يا إنسان " ، وقال الزجاج النصب كأنه قال اتل يس وهو مذهب سيبويه على أنه اسم للسورة ، و { يس } مشبهة الجملة من الكلام فلذلك عدت آية بخلاف { طس } [ النحل : 14 ] ولم ينصرف { يس } للعجمة والتعريف ، و { الحكيم } المحكم ، فيكون فعيل بمعنى مفعل أي أحكم في مواعظه وأوامره ونواهيه ، ويحتمل أن يكون { الحكيم } بناء فاعل أي ذو الحكمة ، وقوله { على صراط مستقيم } يجوز أن تكون جملة في موضع رفع على أنها خبر بعد خبر ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنها في موضع حال من { المرسلين } ، و " الصراط " الطريق ، والمعنى على طريق وهدى ومهيع رشاد ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عامر " تنزيلُ " بالرفع على خبر الابتداء وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " تنزيلَ " بالنصب على المصدر ، واختلف عن عاصم ، وهي قراءة طلحة والأشهب وعيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنهما .
(5/382)

لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
اختلف المفسرون في قوله { ما أنذر } ، فقال عكرمة { ما } بمعنى الذي ، والتقدير الشيء الذي أنذره الآباء من النار والعذاب ، ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية على هذا القول من أن الآباء أنذروا .
قال القاضي أبو محمد : ف " الآباء " على هذا كله هم الأقدمون على مر الدهور ، وقوله تعالى : { فهم } ، مع هذا التأويل بمعنى فإنهم دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة ، وقال قتادة { ما } نافية أي أن آباءهم لم ينذروا ، فالآباء على هذا هم القريبون منهم ، وهذه الآية كقوله تعالى : { وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } [ سبأ : 44 ] ، وهذه النذارة المنفية هي نذارة المباشرة والأمر والنهي ، وإلا فدعوة الله تعالى من الأرض لم تنقطع قط ، وقوله { فهم } على هذا ، الفاء منه واصلة بين الجملتين ، ورابطة للثانية بالأولى ، و { حق القول } معناه وجب العذاب وسبق القضاء به هذا فيمن لم يؤمن من قريش كمن قتل ببدر وغيرهم ، وقوله تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } الآية قال مكي : قيل هي حقيقة في أحوال الآخرة وإذا دخلوا النار .
قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } يضعف هذا القول لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله ، وقال الضحاك : معناه متعناهم من النفقة في سبيل الله ، كما قال تعالى { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } [ الإسراء : 23 ] ، وقال ابن عباس وابن إسحاق : الآية استعارة لحال الكفرة الذين أرادوا محمداً صلى الله عليه وسلم بسوء ، فجعل الله تعالى هذا مثالاً لهم في كفه إياهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ومنعهم من إذايته حين بيتوه ، قال عكرمة : نزلت هذه الآية حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم فمنعه الله تعالى منه ، الحديث ، وفي غير ذلك من المواطن وقالت فرقة : الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى آباءهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أرجح الأقوال لأنه تعالى لما ذكر أنهم { لا يؤمنون } بما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغللين ، والغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة هذا معنى التغليل ، وقوله تعالى : { فهي } يحتمل أن يعود على " الأغلال " أي هي عريضة تبلغ بحرفها { الأذقان } ، والذقن مجتمع اللحيين فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء وذلك هو " الإقماح " وهو نحو الإقناع في الهيئة ونحوه ما يفعله الإنسان والحيوان عند شرب الماء البارد وعند الملوحات والحموضة القوية ونحوه ، ويحتمل وهو قول الطبري أن تعود " هي " على الأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى ، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين ، وروي أن في مصحف ابن مسعود وأبيّ " إنا جعلنا في أيمانهم " ، وفي بضعها " في أيديهم " ، وقد ذكرنا معنى " الإقماح " ، وقال قتادة : المقمح الرافع رأسه ، وقال قتادة : { مقمحون } مضللون عن كل خير ، وأرى الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألصقها ورفع رأسه ، وقرأ الجمهور " سُداً " بضم السين في الموضعين ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وطلحة وابن وثاب وعكرمة والنخعي وابن كثير " سَداً " بفتح السين ، وقال أبو علي : قال قوم هما بمعنى واحد أي حائلاً يسد طريقهم ، وقال عكرمة : ما كان مما يفعله البشر فهو بالضم وما كان خلقة فهو بالفتح .
(5/383)

قال القاضي أبو محمد : والسد ما سد وحال ، ومنه قول الأعرابي في صفة سحاب : طلع سد مع انتشار الطفل ، أي سحاب سد الأفق ، ومنه قولهم : جراد سد ، ومعنى الآية أن طريق الهدى سد دونهم ، وقرأ جمهور الناس " فأغشيناهم " بالغين منقوطة أي جعلنا على أعينهم غشاوة ، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين " فأعشيناهم " بالعين غير منقوطة ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي من العشى أي أضعفنا أبصارهم والمعنى { فهم لا يبصرون } رشداً ولا هدى ، وقرأ يزيد البربري " فأغشيتهم " بتاء دون ألف وبالغين منقوطة .
(5/384)

وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
هذه مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم مضمنها تسلية عنهم أي أنهم قد حتم عليهم بالكفر فسواء إنذارك وتركه ، والألف في قوله في { أأنذرتهم } ألف التسوية لأنها ليست باستفهام بل المستفهم والمستفهَم مستويان في علم ذلك ، وقرأ الجمهور " آنذرتهم " بالمد ، وقرأ ابن محيصن والزهري " أنذرتهم " بهمزة واحدة على الخبر ، { وسواء } رفع بالابتداء ، وقوله { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } جملة من فعلين متعادلين تقدر تقدير فعل واحد هو خبر الابتداء ، كأنه قال وسواء عليهم جميع فعلك ففسر هذا الجميع ب { أنذرتهم أم لم تنذرهم } ، ومثله قولهم : سواء عندي أقمت أم عقدت ، هكذا ذكر أبو علي في تحقيق الخبر في مثل هذا إذ من الأصول أن الابتداء هو الخبر والخبر هو الابتداء ، وقوله { إنما تنذر } ليس على جهة الحصر ب { إنما } بل على تجهة تخصيص من ينفعه الإنذار ، و " اتباع الذكر " هو العمل بما في كتاب الله تعالى والاقتداء به ، قال قتادة : { الذكر } القرآن وقوله تعالى : { بالغيب } أي بالخلوات عند مغيب الإنسان عن عيون البشر ، ثم قال تعالى { فبشره } فوحد الضمير مراعاة للفظ من ، و " الأجر الكريم " هو كل ما يأخذه الأجير مقترناً بحمد على الأحسن وتكرمة ، وكذلك هي للمؤمنين الجنة ، ثم أخبر تعالى بإحيائه الموتى رداً على الكفرة ، ثم توعدهم بذكره كتب الآثار ، وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان ، فيدخل فيما قدم ويدخل في آثاره لكنه تعالى ذكر الأمر من الجهتين ولينبه على الآثار التي تبقى ويذكر ما قدم الإنسان من خير أو شر ، وإلا فذلك كله داخل فيما قدم ابن آدم ، وقال قتادة { ما قدموا } معناه من عمل ، وقاله ابن زيد ومجاهد وقد يبقى للمرء ما يستن به بعد فيؤجر به أو يأثم ، ونظير هذه الآية { علمت نفس ما قدمت وأخرت } [ الانفطار : 5 ] ، وقوله { يُنَبَّأُ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } [ القيامة : 13 ] ، وقرأت فرقة " وآثارهم " بالنصب ، وقرأ مسروق " وآثارهم " بالرفع ، وقال ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري إن هذه الآية نزلت في بني سلمة حين أرادوا النقلة إلى جانب المسجد ، وقد بينا ذلك في أول السورة ، وقال ثابت البناني : مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت فحبسني فلما انقضت الصلاة قال لي : مشيت مع زيد بن ثابت إلى الصلاة ، فأسرعت في مشيي فحبسني فلما انقضت الصلاة قال : مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فأسرعت في مشيي فحبسني ، فلما انقضت الصلاة قال لي : يا زيد أما علمت أن الآثار تكتب .
قال القاضي أبو محمد : فهذا احتجاج بالآية ، وقال مجاهد وقتادة والحسن : والآثار في هذه الآية الخطا ، وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال : الآثار هي الخطا إلى الجمعة ، وقيل الآثار ما يبقى من ذكر العمل فيقتدى به فيكون للعامل أجر من عمل بسنته من بعده ، وكذلك الوزر في سنن الشر ، وقوله تعالى : { وكلَّ شيء } نصب بفعل مضمر يدل عليه { أحصيناه } كأنه قال وأحصينا كل شيء أحصيناه ، و " الإمام " الكتاب المقتدى به الذي هو حجة ، قال مجاهد وقتادة وابن زيد : أراد اللوح المحفوظ ، وقالت فرقة : أراد صحف الأعمال .
(5/385)

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
الضرب للمثل مأخوذ من الضريب الذي هو الشبه في النوع ، كما تقول هذا ضرب هذا ، واختلف هل يتعدى فعل ضرب المثل إلى مفعولين أو إلى واحد ، فمن قال إنه يتعدى إلى مفعولين جعل هذه الآية { مثلاً } و { أصحاب } مفعولين لقوله { اضرب } ، ومن قال إنه يتعدى إلى مفعول واحد جعله { مثلاً } وجعل { أصحاب } بدلاً منه ، ويجوز أن يكون المفعول { أصحاب } ويكون قوله { مثلاً } نصب على الحال ، أي في حال تمثيل منك ، و { القرية } على ما روي عن ابن عباس والزهري وعكرمة أنطاكية ، واختلف المفسرون في " المرسلين " فقال قتادة وغيره : كانوا من الحواريين الذين بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه شبهه ، فافترق الحواريون في الآفاق فقص الله تعالى هنا قصة الذين نهضوا إلى انطاكية ، وقالت فرقة : هؤلاء أنبياء من قبل الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يرجحه قول الكفرة { ما أنتم إلا بشر مثلنا } فإنها محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة عن الله تعالى والآخر محتمل ، وذكر النقاش في قصص هذه الآية شيئاً يطول والصحة فيه غير متيقنة فاختصرته ، واللازم من الآية أن الله تعالى بعث إليها رسولين فدعيا أهل القرية إلى عبادة الله تعالى وحده ، وإلى الهدى والإيمان فكذبوهما فشدد الله تعالى أمرهما بثالث وقامت الحجة على أهل القرية ، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى ، وقتلوه في آخر أمره ، وكفروا فأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا ، وقرأ جمهور القراء " فعزّزنا " بشد الزاي الأولى على معنى قوينا وشددنا ، وبهذا فسر مجاهد وغيره ، وقرأ عاصم في رواية المفضل عن أبي بكر " فعزَزنا " بالتخفيف في الزاي على معنى غلبناهم أمرهم ، وفي حرف ابن مسعود " فعززنا بالثالث " بألف ولام ، وهذ الأمة أنكرت النبوءة بقولها : { وما أنزل الرحمن من شيء } ، وراجعتهم الرسل بأن يردوا العلم إلى الله تعالى وقنعوا بعلمه وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط وما عليهم من هداهم وضلالهم ، وفي هذا وعيد لهم .
(5/386)

قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
قال بعض المتأولين : إن أهل هذه القرية أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم المرسلين فلذلك { قالوا إنا تطيرنا بكم } ، وقال مقاتل : احتبس عنهم المطر فلذلك قالوه ، ومعناه تشاءمنا بكم ، مأخوذ من الحكم بالطير ، وهو معنى متداول في الأمم وقلما يستعمل تطيرت إلا في الشؤم ، وأما حكم الطير عند مستعمليه ففي التيمن وفي الشؤم ، والأظهر أن تطير هؤلاء إنما كان بسبب ما دخل قريتهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس ، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى نحو ما خوطب به موسى ، وقال قتادة : قالوا إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم ، و { لنرجمنكم } معناه بالحجارة ، قاله قتادة ، وقولهم عليهم السلام ، { طائركم معكم } ، معناه حظكم وما صار إليه من خير وشر معكم ، أي من أفعالكم ومن تكسباتكم ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وكفركم ، وبهذا فسر الناس ، وسمي الحظ والنصيب طائراً استعارة أي هو مما تحصل عن النظر في الطائر ، وكثر استعمال هذا المعنى حتى قالت المرأة الأنصارية : فطار لنا ، حين اقتسم المهاجرون ، عثمان بن مظعون ، ويقول الفقهاء : طار لفلان في المحاصة كذا وكذا ، وقرأ ابن هرمز والحسن وعمرو بن عبيد " طيركم معكم " ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر " أإن ذكرتم " بهمزتين الثانية مكسورة على معنى أإن ذكرتم تتطيرون ، وقرأ نافع وأبوعمرو وابن كثير بتسهيل هذه الهمزة الثانية وردها ياء " أين ذكرتم " ، وقرأ الماجشون " أن ذكرتم " بفتح الألف ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن " إن ذكرتم " بكسر الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وزر بن حبيش " أأن ذكرتم " بهمزتين مفتوحتين وشاهده قول الشاعر : [ الطويل ]
أأن كنت داود أحوى مرجلاً ... فلست براع لابن عمك محرما
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش " أينْ ذكَرتم " بسكون الياء وتخفيف الكاف .
قال القاضي أبو محمد : فهي " أين " المقولة في الظرف ، وهذه قراءة أبي جعفر وخالد وطلحة وقتادة والحسن في تخفيف الكاف فقط ، ثم وصفهم بالإسراف والتعدي ، وأخبر تعالى ذكره عن حال رجل { جاء من أقصى المدينة } سمع من المرسلين وفهم عن الله تعالى فجاء يسعى على قدميه وسمع قولهم فلما فهمه روي أنه تعقب أمرهم وسبرهم بأن قال لهم : أتطلبون على دعوتكم هذه أجراً؟ قالوا : لا ، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم و " الإيمان بهم " إذ هو الحق ثم احتج عليهم بقوله { اتبعوا من لا يسألكم أجراً } وهم على هدى من الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية حاكمة بنقص من يأخذ على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة كالصلاة ونحوها ، فإنها كالتبليغ لمن بعث بخلاف ما لا يلزمه كالإمارة والقضاء ، وقد ارتزق أبو بكر الصديق رضي الله عنه وروي عن أبي مجلز وكعب الأحبار وابن عباس أن اسم هذا الرجل حبيب وكان نجاراً وكان فيما قال وهب بن منبه قد تجذم ، فقيل : كان في غار يعبد ربه ، وقال ابن أبي ليلى : سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة علي بن أبي طالب وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون ، وذكر الناس من أسماء الرسل صادق وصدوق وشلوم وغير هذا والصحة معدومة فاختصرته .
(5/387)

وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
قرأ الجمهور " وماليَ " بفتح الياء ، وقرأ الأعمش وحمزة بسكون الياء ، وقد تقدم مثل هذا ، وقوله تعالى : { وما لي } تقرير لهم على جهة التوبيخ في هذا الأمر يشهد العقل بصحته أن من فطر واخترع وأخرج من العدم إلى الوجود فهو الذي يستحق أن يعبد ، ثم أخبرهم بأنهم يحشرون إليه يوم القيامة ، ثم وقفهم أيضاً على جهة التوبيخ على اتخاذ الآلهة من دون الله تعالى ، وهي لا ترد عن الإنسان المقادير التي يريدها الله تعالى به لا بقوة منها ولا بشفاعة ، وقرأ طلحة السمان وعيسى الهمداني " أن يردنَي " بياء مفتوحة ، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو ، ثم صدع رضي الله تعالى عنه بإيمانه وأعلن فقال { إني آمنت بربكم فاسمعون } واختلف المفسرون في قوله { فاسمعون } فقال ابن عباس وكعب ووهب : خاطب بها قومه .
قال القاضي أبو محمد : على جهة المبالغة والتنبيه ، وقيل خاطب بها الرسل على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ عندهم ، وقرأ الجمهور " فاسمعونِ " بكسر النون على نية الياء بعدها وروى أبو بكر عن عاصم " فاسمعونَ " بفتح النون قال أبو حاتم : هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر ، فإما حذف النون وإما كسرها على نية الياء .
قال القاضي أبو محمد : وهنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات ، وهو أنهم قتلوه ، واختلف كيف ، فقال قتادة وغيره : رجموه بالحجارة ، وقال عبد الله بن مسعود ، مشوا عليه بأقدامهم حتى خرج قصبه من دبره ، فقيل له عند موته { ادخل الجنة } وذلك والله أعلم بأن عرض عليه مقعده منها ، وتحقق أنه من ساكنيها برؤيته ما أقر عينه ، فلام تحصل له ذلك تمنى أن يعلم قومه بذلك ، وقيل أراد بذلك الإشفاق والتنصح لهم ، أي لو علموا بذلك لآمنوا بالله تعالى ، وقيل أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم به ويحزنهم ذلك ، وهذا موجود في جبلة البشر إذا نال خيراً في بلد غربة ود أن يعلم ذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم ولا سيما في الكرامات ، ونحو من ذلك قول الشاعر :
والعز مطلوب وملتمس ... وأحبه ما نيل في الوطن
قال القاضي أبو محمد : والتأويل الأول أشبه بهذا العبد الصالح ، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " نصح قومه حياً وميتاً " ، وقال قتادة بن دعامة : نصحهم على حالة الغضب والرضى ، وكذلك لا تجد المؤمن إلا ناصحاً للناس ، و " ما " في قوله تعالى : { بما } يجوز أن تكون مصدرية أي بغفران ربي لي ، ويجوز أن تكون بمعنى الذي ، وفي غفر ضمير عائد محذوف قال الزهراوي : ويجوز أن يكون استفهاماً ثم ضعفه .
(5/388)

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
هذه مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فيها توعد لقريش إذ هذا هو المروع لهم من المثال ، أي ينزل بهم من عذاب الله ما نزل بقوم حبيب النجار ، فنفى عز وجل ، أي أنه ما أنزل على قوم هذا الرجل { من جند من السماء } ، فقال مجاهد : أراد أنه لم يرسل رسولاً ولا استعتبهم ، قال ابن مسعود : أراد لم يحتج في تعذيبهم إلى جند من جنود الله تعالى كالحجارة والغرق والريح وغير ذلك بل كانت صيحة واحدة لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك ، قال قتادة : والله ما عاتب الله تعالى قومه بعد قتله حتى أهلكهم ، واختلف المتأولون في قوله { وما كنا منزلين } ، فقالت فرقة { ما كنا منزلين } ، { ما } نافية وهذا يجري مع التأويل الثاني في قوله ، { ما أنزلنا من جند } ، وقالت فرقة { وما } عطف على { جند } أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم قبل ذلك ، وقرأ الجمهور " إلا صيحةً " بالنصب على خبر " كان " ، أي ما كان عذابهم إلا صحية واحدة ، وقرأ أبو جعفر ومعاذ بن الحارث " إلا صيحةٌ " بالرفع ، وضعفها أبو حاتم ، والوجه فيها أنها ليست " كان " التي تطلب الاسم والخبر ، وإنما التقدير ما وقعت أو حدثت إلا صحية واحدة ، وقرأ ابن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود إلا زقية " وهي الصيحة " من الديك ونحوه من الطير ، و { خامدون } ساكنون موتى لاطئون بالأرض شبهوا بالرماد الذي خمدت ناره وطفئت ، وقوله { يا حسرة } نداء لها على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء مثل هذا عند سيبويه ، وهو معنى قويم في نفسه ، وهو نداء منكور على هذا القراءة ، قال الطبري : المعنى " يا حسرة العباد على أنفسهم " ، وذكر أنها في بعض القراءات كذلك ، وقال ابن عباس : " يا ويلا العباد " ، وقرأ ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين ومجاهد وأبي بن كعب " يا حسرةَ العبادِ " ، بإضافتها ، وقول ابن عباس حسن مع قراءته ، وتأويل الطبري في ذلك القراءة الأولى ليس بالبين وإنما يتجه أن يكون المعنى تلهفاً على العباد ، كأن الحال يقتضيه وطباع كل بشر توجب عند سماعه حالهم وعذابهم على الكفر وتضييعهم أمر الله تعالى أن يشفق ويتحسر على العبادة ، وقال أبو العالية : المراد ب { العباد } الرسل الثلاثة ، فكأن هذا التحسر هو من الكفار حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم ، وقوله تعالى : { ما يأتيهم } الآية ، يدافع هذا التأويل ، والحسرة التلهفات التي تترك صاحبها حسيراً ، وقرأ الأعرج بن جندب وأبو الزناد " يا حسرة " بالوقف على الهاء وذلك للحرص على بيان معنى التحسر وتقريره للنفس ، والنطق بالهاء في مثل هذا أبلغ في التشفيق وهز النفس كقولهم : أوه ونحوه ، وقوله { ما يأتيهم من رسول } الآية ، تمثيل لفعل قريش ثم عناهم بقوله { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون } ، و { كم } هنا خبرية ، و { أنهم } بدل منها ، والرؤية رؤية البصر ، وفي قراءة ابن مسعود " أو لم يروا من أهلكنا " ، وقرأ جمهور القراء " أنهم " بفتح الألف ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن " إنهم " بكسرها ، وقرأ جمهور الناس " لما جميع " بتخفيف الميم وذلك على زيادة " ما " للتأكيد ، والمعنى لجميع ، وقرأ الحسن وابن جبير عاصم " لمّا " بشد الميم ، قالوا هي منزلة منزلة " إلا " ، وقيل المراد " لمما " حذفت الميم الواحدة وفيها ضعف ، وفي حرف أبيّ و " إن منهم إلا جميع " ، و { محضرون } قال قتادة : محشرون يوم القيامة .
(5/389)

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
{ وآية } معناه علامة على الحشر وبعث الأجساد ، والضمير في { لهم } يراد به كفار قريش ، وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر ، " الميِّتة " بكسر الياء وشدها ، وقرأ أبو عمرو وعاصم " الميْتة " بسكون الياء ، وإحياؤها بالمطر ، وقرأ جمهور الناس " من ثَمَره " بفتح الثاء والميم ، وقرأ طلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي " من ثُمُرة " بضمهما ، وقرأ الأعمش " من ثُمْره " بضم الثاء وسكون الميم ، والضمير في { ثمره } قالت فرقة هو عائد على الماء الذي يتضمنه قوله { وفجرنا فيها من العيون } لأن التقدير ماء ، وقالت فرقة هو عائد على جميع ما تقدم مجملاً ، كأنه قال : من ثمر ما ذكرنا ، وقال أبو عبيدة : هو من باب أن يذكر الإنسان شيئين أو ثلاثة ثم يعيد الضمير على واحد ويكني عنه ، كما قال الشاعر ، وهو الأزرق بن طرفة بن العمرد القارضي الباهلي : [ الطويل ]
رماني بذنب كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطويّ رماني
قال القاضي أبو محمد : وهذا وجه في الآية ضعيف ، و { ما } في قوله تعالى : { وما عملته أيديهم } قال الطبري : هي اسم معطوف على الثمر أي يقع الأكل من الثمر ومما عملته الأيدي بالغرس والزراعة ونحوه ، وقالت فرقة : هي مصدرية وقيل هي نافية ، والتقدير أنهم يأكلون من ثمره وهي شيء لم تعمله أيديهم بل هي نعمة من الله عليهم ، وقرأ جمهور الناس " عملته " بالهاء الضمير ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وطلحة وعيسى " عملت " بغير ضمير ، ثم نزه نفسه تعالى تنزيهاً مطلقاً في كل ما يلحد به ملحد أو يشرك مشرك ، و { الأزواج } الأنواع من جميع الأشياء ، وقوله تعالى : { ومما لا يعلمون } نظير قوله { ويخلق ما لا تعلمون } [ النمل : 8 ] .
(5/390)

وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
هذه الآيات جعلها الله عز وجل أدلة على القدرة ووجوب الألوهية له ، و { نسلخ } معناه نكشط ونقشر ، فهي استعارة ، و { مظلمون } داخلون في الظلام ، واستدل قوم من هذه الآية على أن الليل أصل والنهار فرع طارٍ عليه ، وفي ذلك نظر ، و " مستقر الشمس " على ما روي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي ذؤيب " بين يدي العرش تمجد فيه كل ليلة بعد غروبها " ، وفي حديث آخر " أنها تغرب في عين حمئة ولها ثم وجبة عظيمة " ، وقالت فرقة : مستقرها هو في يوم القيامة حين تكون فهي تجري لذلك المستقر ، وقالت فرقة : مستقرها كناية عن غيوبها لأنها تجري كل وقت إلى حد محدود تغرب فيه ، وقيل : مستقرها آخر مطالعها في المنقلبين لأنهما نهاية مطالعها فإذا استقر وصولها كرت راجعة وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين ، ونحا إلى هذا ابن قتيبة ، وقالت فرقة : مستقرها وقوفها عند الزوال في كل يوم ، ودليل استقرارها وقوف ظلال الأشياء حينئذ ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ، وعطاء بن أبي رباح وأبو جعفر ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، " والشمس تجري لا مستقر لها " ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والحسن والأعرج " والقمرُ " بالرفع عطفاً على قوله { وآية لهم الليل } عطف جملة على جملة ويصح وجه آخر وهو أن يكون قوله { وآية } ابتداء وخبره محذوف ، كأنه قال : في الوجود وفي المشاهدة ، ثم فسر ذلك بجملتين من ابتداء وخبر وابتداء وخبر ، الأولى منهما { الليل نسلخ منه النهار } ، والثانية { والقمر قدرناه منازل } ، وقرأ الباقون " والقمرَ قدرناه " بنصب " القمر " على إضمار فعل يفسره { قدرناه } وهي قراءة أبي جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه ، و { منازلَ } نصب على الظرف ، وهذه المنازل المعروفة عند العرب وهي ثمانية وعشرون منزلة يقطع القمر منها كل ليلة أقل من واحدة فيما يزعمون ، وعودته هي استهلاله رقيقاً ، وحينئذ يشبه " العرجون " وهو الغصن من النخلة الذي فيه شماريخ التمر فإنه ينحني ويصفر إذا قدم ويجيء أشبه شيء بالهلال قاله الحسن بن أبي الحسن ، والوجود تشهد به ، وقرأ سليمان التيمي " كالعِرجون " بكسر العين ، و { القديم } معناه العتيق الذي قد مر عليه زمن طويل ، و { ينبغي } هنا مستعملة فيما لا يمكن خلافه لأنها لا قدرة لها على غير ذلك ، وقرأ الجمهور " سابقُ النهارِ " بالإضافة ، وقرأ عبادة " سابقُ النهار " دون تنوين في القاف ، وبنصب " النهارَ " ذكره الزهراوي وقال : حذف التنوين تخفيفاً ، و " الفلك " فيما روي عن ابن عباس متحرك مستدير كفلكة المغزل من الكواكب ، و { يسبحون } معناه يجرون ويعومون ، قال مكي : لما أسند إليها فعل من يعقل جمعت الواو والنون .
(5/391)

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
{ آية } معناه علامة ودليل ، ورفعها بالابتداء وخبره في قوله { لهم } ، و { أنا } بدل من { آية } وفيه نظر ، ويجوز أن تكون " أن " مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، والحمل منع الشيء أن يذهب سفلاً ، وذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن ، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش " ذرياتهم " بالجمع ، وقرأ الباقون " ذريتهم " بالإفراد ، وهي قراءة طليحة وعيسى ، والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس ، كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما اتجه في هذا ، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا الذرية تقع على الآباء وهذا لا يعرف لغة ، وأما معنى الآية فيحتمل تأويلين : أحدهما قاله ابن عباس وجماعة ، وهو أن يريد ب " الذريات المحمولين " أصحاب نوح في السفينة ، ويريد بقوله { من مثله } السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، وإياها أراد الله تعالى بقوله { وإن نشأ نغرقهم } ، والتأويل الثاني قاله مجاهد والسدي وروي عن ابن عباس أيضاً هو أن يريد بقوله { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة ويريد بقوله { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط ، ويعود قوله { وإن نشأ نغرقهم } على السفن الموجودة في الناس ، وأما من خلط القولين فجعل الذرية في الفلك في قوم نوح في سفينة وجعل { من مثله } في الإبل فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله تعالى : { وإن نشأ نغرقهم } فتأمله ، و { الفلك } جمع على وزنه هو الإفراد معناه الموفر ، و { من } في قوله { من مثله } ، يتجه على أحد التأويلين : أن تكون للتبعيض ، وعلى التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس فانظره ، ويقال الإبل مراكب البر ، و " الصريخ " هنا بناء الفاعل بمعنى المصرخ ، وذلك أنك تقول صارخ بمعنى مستغيث ، ومصرخ بمعنى مغيث ، ويجيء { صريخ } مرة بمعنى هذا ومرة بمعنى هذا لأن فعيلاً من أبنية اسم الفاعل ، فمرة يجيء من أصرخ ومرة يجيء من صرخ إذا استغاث ، وقوله { إلا رحمة } قال الكسائي نصب { رحمةً } على الاستثناء كأنه قال إلا أن يرحمهم رحمة ، وقال الزجاج : نصب { رحمة } على المفعول من أجله كأنه قال : إلا لأجل رحمتنا إياهم ، و { متاعاً } عطف على { رحمة } ، وقوله { إلى حين } ، يريد إلى آجالهم المضروبة لهم .
قال القاضي أبو محمد : والكلام تام في قوله { وإن نشأ نغرقهم } { فلا صريخ لهم } استئناف إخبار عن السائرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين فهم بهذه لا نجاة لهم إلا برحمة الله وليس قوله { فلا صريخ لهم } مربوطاً بالمغرقين ، وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله ، ثم ابتدأ الإخبار عن عتو قريش بقوله { وإذا قيل لهم } الآية ، وما بين أيديهم قال مقاتل وقتادة ، هو عذاب الأمم الذي قد سبقهم في الزمن وما خلفهم هو عذاب الآخرة الذي يأتي من بعدهم في الزمن وهذا هو النظر ، وقال الحسن : خوفوا بما مضى من ذنوبهم وبما يأتي منها .
(5/392)

قال القاضي أبو محمد : فجعل الترتيب كأنهم يسيرون من شيء إلى شيء ، ولم يعتبر وجود الأشياء في الزمن ، وهذا النظر يكسره عليه قوله تعالى : { مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل } [ المائدة : 46 ] ، وإنما المطرد أن يقاس ما بين اليد والخلف بما يسوقه الزمن فتأمله ، وجواب { إذا } في هذه الآية محذوف تقديره أعرضوا يفسره قوله بعد ذلك { إلا كانوا عنها معرضين } ، و " الآيات " العلامات والدلائل .
(5/393)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
الضمير في قوله { لهم } لقريش ، وسبب الآية أن الكفار لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم من المستضعفين قطعوا عنهم نفقاتهم وجميع صلاتهم وكان الأمر بمكة أولاً فيه بعض الاتصال في وقت نزول آيات الموادعة فندب أولئك المؤمنون قرابتهم من الكفار إلى أن يصلوهم وينفقوا عليهم مما رزقهم الله ، فقالوا عند ذلك { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } قال الرماني : ونسوا ما يجب من التعاطف وتآلف المحقين وقالت فرقة : بل سبب الآية أن قريشاً شحت بسبب أزمة على المساكين جميعاً ، مؤمن وغير مؤمن وندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين فقالوا هذا القول ، وقولهم يحتمل معنيين من التأويل : أحدهما يخرج على اختيارات لجهال العرب ، فقد روي أن أعرابياً كان يرعى إبله فجعل السمان في الخصب والمهازيل في المكان الجدب فقيل له في ذلك فقال : أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله ، فيخرج قول قريش على هذا المعنى كأنهم رأوا الإمساك عمن أمسك الله عنه رزقه ، ومن أمثالهم " كن مع الله كالمدبر " ، والتأويل الثاني أن يكون كلامهم بمعنى الاستهزاء بقول محمد صلى الله عليه وسلم إن ثم إلهاً هو الرزاق فكأنهم قالوا لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم أي نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمت أطعمه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كما يدعي إنسان أنه غني ثم يحتاج إلى معونتك في مال فتقول له على جهة الاحتجاج والهزء به أتطلب معونتي وأنت غني أي على قولك ، وقوله تعالى : { إن أنتم إلا في ضلال مبين } يحتمل أن يكون من قول الكفرة للمؤمنين ، أي في أمركم لنا في نفقة أموالنا وفي غير ذلك من دينكم ، ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفر استئناف وزجرهم بهذا ، ثم حكى عنهم على جهة التقرير عليهم قولهم { متى هذا الوعد } أي متى يوم القيامة الذي تزعم ، وقيل أرادوا متى هذا العذاب الذي تهددنا به وسموا ذلك وعداً من حيث قيدته قرائن الكلام أنه في شر والوعد متى ورد مطلقاً فهو في خير وإذا قيدته بقرينة الشر استعمل فيه ، والوعيد دائماً إنما هو في الشر ، و { ينظرون } معناه ينتظرون ، و { ما } نافية ، وهذه الصيحة هي صيحة القيامة والنفخة الأولى في الصور رواه عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث أبي هريرة أن بعدها نفخة الصعق ثم نفخة الحشر وهي التي تدوم ، فما لها من فواق ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن القسطنطين المكي " يَخَصِّمون " بفتح الياء والخاء وشد الصاد المكسورة ، وأصلها يختصمون نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء الساكنة في الصاد ، وقرأ نافع وأبو عمرو أيضاً " يَخْصِّمون " بفتح الياء وسكون الخاء وشد الصاد المكسورة وفي هذه القراءة جمع بين الساكنين ولكنه جمع ليس بجمع محض ووجهها أبو علي ، وأصلها يختصمون حذفت حركة التاء دون نقل ثم أدغمت في الصاد ، وقرأ عاصم والكسائي وابن عامر ونافع أيضاً والحسن وأبو عمرو بخلاف عنه " يَخِصِّمون " بفتح الياء وكسر الخاء وشد الصاد المكسورة أصلها يختصمون عللت كالتي قبلها ، ثم كسرت للالتقاء ، وقرأت فرقة " يِخِصِّمون " بكسر الياء والخاء وشد الصاد المكسورة عللت كالتي قبلها ثم أتبعت كسرة الخاء كسرة الياء ، وفي مصحف أبي بن كعب " يختصمون " ومعنى هذه القراءات كلها أنهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال بينهم ويتدافعون في شؤونهم ، وقرأ حمزة " يخصمون " وهذه تحتمل معنيين أحدهما المذكور في القراءات أي يخصم بعضهم بعضاً في شؤونهم والمعنى الثاني يخصمون أهل الحق في زعمهم وظنهم ، كأنه قال تأخذهم الصيحة وهم يظنون بأنفسهم أنهم قد خصموا وغللوا لأنك تقول خاصمت فلاناً فخصمته إذا غلبته ، وقوله تعالى : { فلا يستطيعون توصية } عبارة عن إعجال الحال ، والتوصية مصدر من وصى ، وقوله تعالى : { ولا إلى أهلهم يرجعون } يحتمل ثلاث تأويلات : أحدها ولا يرجع أحد إلى منزله وأهله لإعجال الأمر بل تفيض نفسه حيثما أخذته الصيحة ، والثاني معناه { ولا إلى أهلهم يرجعون } قولاً وهذا أبلغ في الاستعجال وخص الأهل بالذكر لأن القول معهم في ذلك الوقت أهم على الإنسان من الأجنبيين وأوكد في نفوس البشر ، والثالث تقديره { ولا إلى أهلهم يرجعون } أبداً ، فخرج هذا عن معنى وصف الاستعجال إلى معنى ذكر انقطاعهم وانبتارهم من دنياهم ، وقرأ الجمهور " يَرجِعون " بفتح الياء وكسر الجيم ، وقرأ ابن محيصن بضم الياء وفتح الجيم .
(5/394)

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
هذه نفخة البعث ، و { الصور } القرن في قول جماعة المفسرين وبذلك تواترت الأحاديث ، وذهب أبو عبيدة إلى أن { الصور } جمع صورة خرج مخرج بسر وبسرة وكذلك قال سورة البناء جمعها سور ، والمعنى عنده وعند من قال بقوله نفخ في صور بني آدم فعادوا أحياء ، و { الأجداث } القبور ، وقرأ الأعرج " في الصوَر " بفتح الواو جمع صورة ، و { ينسلون } معناه يمشون بسرعة ، والنسلان مشية الذئب ، ومنه قول الشاعر :
عسلان الذيب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل
وقال ابن عباس : { ينسلون } يخرجون ، وقرأ جمهور الناس " ينسِلون " بكسر السين ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرو أيضاً " ينسُلون " بضمها ، ونداؤهم الويل بمعنى هذا وقتك وأوان حضورك وهو منادى مضاف ، ويحتمل أن يكون نصب الويل على المصدر والمنادى محذوف ، كأنهم قالوا يا قومنا ويلنا ، وقرأ ابن أبي ليلى " يا ويلتنا " بتاء التأنيث ، وقرأ الجمهور " مَن بعثنا " بفتح الميم على معنى الاستفهام ، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما أنها قرآ " مِن بْعثِنا " بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية ، وسكون العين وكسر الثاء على المصدر ، وفي قراءة ابن مسعود ، " من أهبنا من مرقدنا " أي من نبهنا ، وفي قراءة أبي بن كعب " من هبنا " ، قال أبو الفتح ولم أرَ لها في اللغة أصلاً ولا مر بنا مهبوب ، ونسبها أبو حاتم إلى ابن مسعود رضي الله عنه ، وقولهم { من مرقدنا } يحتمل أن يريدوا من موضع الرقاد حقيقة ، ويروى عن أبي بن كعب وقتادة ومجاهد أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير صحيح الإسناد ، وإنما الوجه في قولهم { من مرقدنا } أنها استعارة وتشبيه ، كما تقول في قتيل هذا مرقده إلى يوم القيامة ، وفي كتاب الثعلبي : أنهم قالوا { من مرقدنا } لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم ، وقال الزجاج : يجوز أن يكون هذا إشارة إلى المرقد ، ثم استأنف بقوله ، { ما وعد الرحمن } ويضمر الخبر حق أو نحوه ، وقال الجمهور : ابتداء الكلام { هذا ما وعد الرحمن } ، واختلف في هذه المقالة من قالها ، فقال ابن زيد : هي من قول الكفرة أي لما رأوا البعث والنشور الذي كانوا يكذبون به في الدنيا قالوا { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } وقالت فرقة : ذلك من قول الله تعالى لهم على جهة التوبيخ والتوقيف ، وقال الفراء : هو من قول الملائكة ، وقال قتادة ومجاهد : هو من قول المؤمنين للكفرة على جهة التقريع ، ثم أخبر تعالى أن أمر القيامة والبعث من القبور ما هو { إلا صيحة واحدة } فإذا الجميع حاضر محشور ، وقرأت فرقة " إلا صيحةً " بالنصب ، وقرأ فرقة فرقة " إلا صيحةٌ " بالرفع ، وقد تقدم إعراب نظيرها ، وقوله { فاليوم } نصب على الظرف ، ويريد يوم القيامة ، والحشر المذكور وهذه مخاطبة يحتمل أن تكون لجميع العالم .
(5/395)

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
هذا إخبار من الله عز وجل عن حال أهل الجنة بعقب ذكر أهوال يوم القيامة وحالة الكفار ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وطلحة وخالد بن إلياس " في شُغْل " بضم الشين وسكون الغين ، وقرأ الباقون " في شُغُل " بالضم فيهما وهي قراءة أهل المدينة والكوفة ، وقرأ مجاهد وأبو عمرو أيضاً بالفتح فيهما ، وقرأ ابن هبيرة على المنبر " في شَغْل " بفتح الشين وسكون الغين وهي كلها بمعنى واحد ، واختلف الناس في تعيين هذا الشغل ، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب : في افتضاض الأبكار ، وحكى النقاش عن ابن عباس سماع الأوتار ، وقال مجاهد معناه نعيم قد شغلهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو القول الصحيح وتعيين شيء دون شيء لا قياس له ، ولما كان النعيم نوعاً واحداً هو نعيم وحده فقال { في شغل } ولو اختلف لقال في أشغال ، وحكى الثعلبي عن طاوس أنه قال : لو علم أهل الجنة عمن شغلوا ما همهم ما شغلوا به ، قال الثعلبي : وسئل بعض الحكماء عن قوله عليه السلام " أكثر أهل الجنة البله " فقال : لأنهم شغلوا بالنعيم عن المنعم ، وقرأ جمهور الناس " فاكهون " معناه أصحاب فاكهة كما تقول لابن وتامر وشاحم ولاحم ، وقرأ أبو رجاء ومجاهد ونافع أيضاً وأبو جعفر " فكهون " ومعناه طربون وفرحون مأخوذ من الفكاهة أي لا همّ لهم ، وقرأ طلحة والأعمش وفرقة " فاكهين " جعلت الخبر في الظرف الذي هو قوله { في شغل } ونصب " فاكهين " على الحال ، وقوله تعالى : { هم } ابتداء و { أزواجهم } و { في ظلال } خبره ويحتمل أن يكون { هم } بدلاً من قوله { فاكهون } ويكون قوله { في ظلال } في موضع الحال كأنه قال مستظلين ، وقرأ جمهور القراء " في ظلال " وهو جمع ظل إذ الجنة لا شمس فيها وإنما هواؤها سجسج كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس ، ويحتمل قوله { في ظلال } أن يكون جمع ظلة قال أبو علي كبرمة وبرام وغير ذلك ، وقال منذر بن سعيد : { ظلال } جمع ظلة بكسر الظاء .
قال القاضي أبو محمد : وهي لغة في ظلة ، وقرأ حمزة والكسائي " في ظلل " وهي جمع ظلة وهي قراءة طلحة وعبد الله وأبي عبد الرحمن ، وهذه عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل ، وهي زينة ، و { الأرائك } السرر المفروشة ، قال بعض الناس : من شروطها أن تكون عليها حجلة وإلا فليست بأريكة ، وبذلك قيدها ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة ، وقال بعضهم : الأريكة السرير كان عليه حجلة أو لم يكن ، وقوله تعالى : { ولهم ما يدعون } بمنزلة ما يتمنون قال أبو عبيدة : العرب تقول : ادع علي ما شئت بمعنى تمن علي ، وتقول : فلان فيما ادعى أي فيما دعى به لأنه افتعل من دعا يدعو وأصل هذا يدتعيون نقلت حركة الياء إلى العين وحذفت الياء لاجتماعها مع الواو الساكنة فصار يدتعون قلبت التاء دالاً فأدغمت الدال فيها وخصت الدال بالبقاء دون التاء لأنها حرف جلد ، والتاء حرف همس .
(5/396)

قال الرماني : المعنى أن من ادعى شيئاً فهو له لأنهم قد هذبت طباعهم فلا يدعون إلا ما يحسن منهم ، وقوله تعالى : { سلام } قيل : هي صفة لما أي مسلم لهم وخالص ، وقيل : هو ابتداء ، وقيل؛ هو خبر ابتداء ، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وعيسى الثقفي والغنوي " سلاماً " بالنصب على المصدر ، وقرأ محمد بن كعب القرطبي " سلم " وهو بمعنى سلام ، و { قولاً } نصب على المصدر وقوله تعالى : { وامتازوا اليوم } الآية فيه حذف تقديره ونقول للكفرة وهذه معادلة لقوله لأصحاب الجنة { سلام } ، { وامتازوا } معناه انفصلوا وانحازوا لأن العالم في الموقف إنما هم مختلطون ، ثم خاطبهم تعالى لما تميزوا توقيفاً لهم وتوبيخاً على عهده إليهم ومخالفتهم عهده ، وقرأ جمهور الناس " أعهَد " بفتح الهاء ، وقرأ الهذيل وابن وثاب ، " ألمِ إعهَد " بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من يكسر أول المضارع سوى الياء ، وروي عن ابن وثاب " ألم أعهِد " بكسر الهاء ، يقال عهد وعهد ، وعبادة الشيطان هي طاعته والانقياد لإغوائه ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي " أنُ اعبدون " بضم النون من أن أتبعوا بها ضمة الدال واو الجماعة أيضاً ، وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة " وأنِ اعبدون " بكسر النون على أصل الكسر للالتقاء ، وقوله تعالى { هذا صراط مستقيم } إشارة إلى الشرائع ، فمعنى هذا أن الله تعالى عهد إلى بني آدم وقت إخراج نسلهم من ظهره أن لا يعبدوا الشيطان وأن يعبدوا الله تعالى وقيل لهم هذه الشرائع موجودة وبعث تعالى آدم إلى ذريته ولم تخل الأرض من شريعة إلى ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والصراط الطريق ، ويقال إنها دخيلة في كلام العرب وعربتها .
(5/397)

وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
هذه أيضاً مخاطبة للكفار على جهة التقريع : و " الجبلّ " : الأمة العظيمة ، قال النقاش عن الضحاك ، أقلها عشرة آلاف ، ولا حد لأكثرها ، وقرأ نافع وعاصم " جبَلاًّ " بفتح الباء والجيم والشد وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وأهل المدينة وعاصم وأبي رجاء والحسن بخلاف عنه ، وقرأ الأشهب ، العقيلي " جِبْلاً " بكسر الجيم وسكون الباء والتخفيف ، وقرأ الزهري والحسن والأعرج " جُبُلاًّ " بضم الجيم والباء والشد ، وهي قراءة أبي إسحاق وعيسى وابن وثاب وقرأ أبو عمرو وابن عامر والهذيل بن شرحبيل " جُبْلاً " بضم الجيم وسكون الباء والتخفيف ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " جُبُلاً " بضم الجيم والباء والتخفيف ، وذكر أبو حاتم عن بعض الخراسانيين " جِيلاً " بكسر الجيم وبياء بنقطتين ساكنة ، وقرأ الجمهور " أفلم تكونوا تعقلون " بالتاء ، وقرأ طلحة وعيسى " أفلم يكونوا يعقلون " بالياء ، ثم وقفهم على جهنم التي كانوا يوعدون ويكذبون بها ، و { جهنم } أول طبقة من النار ، و { اصلوها } معناه باشروا نارها ثم أخبر تعالى محمداً إخباراً تشاركه فيه أمته في قوله { اليوم نختم على أفواههم } أي في ذلك اليوم يكون ذلك ، وروي في هذا المعنى أن الله تعالى يجعل الكفرة يخاصمون فإذا لم يأتوا بشيء تقوم به الحجة رجعوا إلى الإنكار فناكروا الملائكة في الأعمال فعند ذلك يختم الله تعالى على أفواههم فلا ينطقون بحرف ، ويأمر تعالى جوارحهم بالشهادة فتشهد ، وروى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن أول ما يتكلم من الكافر فخذه اليسرى " ، وقال أبو سعيد اليمني : ثم سائر جوارحه ، وروي أن بعض الكفرة يقول يومئذ لجوارحه : تباً لك وسحقاً فعنك كنت أماحل ونحو هذا من المعنى ، وقد اختلفت فيه ألفاظ الرواة ، وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده أنه قرأ " ولتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم " بزيادة لام كي والنصب ، وهي مخالفة لخط المصحف .
(5/398)

وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
الضمير في { أعينهم } مراد به كفار قريش ، ومعنى الآية تبيين أنهم في قبضة القدرة وبمدرج العذاب إن شاء الله تعالى لهم ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : أراد الأعين حقيقة ، والمعنى لأعميناهم فلا يرون كيف يمشون ، ويؤيد هذا مجانسة المسخ للعمى الحقيقي ، وقال ابن عباس : أراد أعين البصائر ، والمعنى لو شئنا لختمنا عليهم بالكفر فلم يهتد منهم أحد أبداً ، و " الطمس " إذهاب الشيء ، من الآثار والهيئات ، حتى كأنه لم يكن ، أي جعلنا جلود وجوههم متصلة حتى كأنه لم تكن فيها عين قط ، وقوله تعالى : { فاستبقوا } معناه على الفرض والتقدير ، كأنه قال : ولو شئنا لأعميناهم فاحسب أو قدر أنهم يستبقون الصراط وهو الطريق { فأنى } لهم بالإبصار وقد أعميناهم ، و " أنى " لفظة استفهام فيه مبالغة وقدره سيبويه ، كيف ومن أين ، { مسخناهم } ظاهره تبديل خلقتهم بالقردة والخنازير ونحوه مما تقدم في بني إسرائيل وغَيرهم ، وقال الحسن وقتادة وجماعة من المفسرين : معناه لجعلناهم مقعدين مبطلين ، لا يستطيعون تصرفاً ، وقال ابن سلام هذا التوعد كله يوم القيامة ، وقرأ جمهور القراء " على مكانتهم " بإفراد ، وهو بمعنى المكان كما يقال دار ودارة ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " على مكاناتهم " بالجمع ، وفي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق ، وقرأ جمهور القراء " مُضياً " بضم الميم ، وقرأ أبو حيوة " مَضياً " بفتحها ، ثم بين تعالى دليلاً في تنكيسه المعمرين وأن ذلك مما لا يفعله إلا الله تعالى ، وقرأ جمهور الناس " نَنْكُسه " بفتح النون الأولى وسكون الثانية ، وضم الكاف ، وقرأ حمزة وعاصم بخلاف عنه " نُنَكِّسه " بضم النون الأولى وفتح الثانية وشد الكاف المكسورة على المبالغة ، وأنكرها أبو عمرو على الأعمش ، ومعنى الآية نحول خلقه من القوة إلى الضعف ومن الفهم إلى البله ، ونحو هذا ، وقرأ نافع وأبو عمرو في رواية عياش " تعقلون " بالتاء على معنى قل لهم ، وقرأ الباقون " يعقلون " بالياء على ذكر الغائب ، ثم أخبر تعالى عن حال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ورد قول من قال من الكفرة إنه شاعر ، وإن القرآن شعر بقوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر ، ولا يزنه ، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلاً كسر وزنه ، وإنما كان يحرز المعنى فقط وأنشد يوماً قول طرفة : [ الطويل ]
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك من لم تزوده بالأخبار
وأنشد يوماً وقد قيل له من أشعر الناس؟ فقال الذي يقول : [ الطويل ]
ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها وإن لم تطيب طيبا
(5/399)

وأنشد يوماً :
أتجعل نهبي ونهب العبي ... د بين الاقرع وعيينة
وقد كان صلى الله عليه وسلم ربما أنشد البيت المستقيم في النادر وروي أنه أنشد بيت ابن رواحة : [ الطويل ]
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الحسن بن أبي الحسن : أنشد النبي صلى الله عليه وسلم " كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً " ، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : نشهد أنك رسول الله إنما قال الشاعر : " كفى الشيب والإسلام إلخ . . . " حكاه الثعلبي .
قال القاضي أبو محمد : وإصابته الوزن أحياناً لا يوجب أنه يعلم الشعر ، وكذلك قد يأتي أحياناً في نثر كلامه ما يدخل في وزن كقوله يوم حنين ، " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " كذلك يأتي في آيات القرآن وفي كل كلام وليس كله بشعر ولا هو في معناه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية تقتضي عندي غضاضة على الشعر ولا بد ، ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها : كان الشعر أبغض الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتمثل بشعر أخي قيس طرفة فيعكسه ، فقال له أبو بكر : ليس هكذا ، فقال : " ما أنا بشاعر وما ينبغي لي " ، وقد ذهب قوم إلى أن الشعر لا غض عليه ، قالوا وإنما منعه الله من التحلي بهذه الحلية الرفيعة ليجيء القرآن من قبله أغرب فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن إن هذا من تلك القوى .
قال القاضي أبو محمد : وليس الأمر عندي كذلك ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبيان في النثر في المرتبة العليا ، ولكن كلام الله تعالى يبين بإعجازه ويبرز برصفه ويخرجه إحاطة علم الله من كل كلام ، وإنما منعه الله تعالى من الشعر ترفيعاً له عما في قول الشعراء من التخييل ، وتزويق القول ، واما القرآن فهو ذكر الحقائق وبراهين ، فما هو بقول شاعر ، وهكذا كان أسلوب كلامه عليه السلام لأنه لا ينطق عن الهوى ، والشعر نازل الرتبة عن هذا كله ، والضمير في { علمناه } عائد على محمد صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً ، والضمير في { له } يحتمل أن يعود على محمد ويحتمل أن يعود على القرآن ، وإن كان لم يذكر لدلالة المجاورة عليه ، وبين ذلك قوله تعالى : { إن هو } وقرأ نافع وابن كثير ، " لتنذر " بالتاء على مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون " لينذر " بالياء أي لينذر القرآن أو لينذر محمد ، واللام في " لينذر " متعلقة ب { مبين } ، وقرأ محمد اليماني " ليُنذَر " بضم الياء وفتح الذال قال أبو حاتم : ولو قرىء " لينذَر " بفتح الياء والذال أي لتحفظ ويأخذ بحظه لكان جائزاً ، وحكاها أبو عمرو قراءة عن محمد اليماني ، وقوله تعالى : { من كان حياً } أي حي القلب والبصيرة ، ولم يكن ميتاً لكفره ، وهذه استعارة قال الضحاك { من كان حياً } معناه عاقلاً ، { ويحق القول } معناه يحتم العذاب ويجب الخلود ، وهذا كقوله تعالى : { حقت كلمة ربك } [ يونس : 33 ] .
(5/400)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
هذه مخاطبة في أمر قريش وإعراضهم عن الشرع وعبادتهم الأصنام فنبههم تعالى على الألوهية ، بما لا يحصى من الأدلة كثرة وبياناً ، فنبه بهذه الآية على إنعامه عليهم ببهيمة الأنعام ، وقوله تعالى { أيدينا } عبارة عن القدرة عبر عنها بيد وبيدين وبأيد ، وذلك من حيث كان البشر إنما يقيمون القدرة والبطش باليد ، فعبر لهم عن القدرة بالجهة التي قربت في أفهامهم ، والله تعالى منزه عن الجارحة والتشبيه كله ، وقوله { فهم لها مالكون } تنبيه على أن النعمة في أن هذه الأنعام ليست بعاتية ولا متبورة ، بل تقتنى وتقرب منافعها ، { وذللناها } معناه سخرناها ذليلة ، والركوب والمركوب ، وهذا فعول بمعنى مفعول وليس إلا في ألفاظ محصورة كالركوب والحلوب والقروع ، وقرأ الجمهور " رَكوبهم " بفتح الراء ، وقرأ الحسن والأعمش " رُكوبهم " بضم الراء ، وقرأ أبي بن كعب وعائشة " ركوبتهم " ، و " المنافع " إشارة إلى الأصواف والأوبار وغير ذلك ، و " المشارب " الألباب ، ثم عنفهم في اتخاذ آلهة طلب الاستنصار بها والتعاضد ، ثم أخبر أنهم { لا يستطيعون } نصراً ويحتمل أن يكون الضمير في { يستطيعون } للكفار في نصرهم الأصنام ، ويحتمل الأمر عكس ذلك لأن الوجهين صحيحان في المعنى ، كذلك قوله { وهم لهم جند محضرون } يحتمل أن يكون الضمير الأول للكفار والثاني للأصنام على معنى وهؤلاء الكفار ، متجندون متحزبون لهذه الأصنام في الدنيا لكنهم لا يستطعيون التناصر مع ذلك ، ويحتمل أن يكون الضمير الأول للأصنام والثاني للكفار أي يحضرون لهم في الآخرة عند الحساب على معنى التوبيخ والنقمة ، وسماهم جنداً في هذا التأويل إذ هم عدة للنقمة منهم وتوبيخهم ، وجرت ضمائر الأصنام في هذه الآية مجرى من يعقل إذ نزلت في عبادتها منزل ذي عقل فعملت في العبارة بذلك ، ثم أنس تعالى نبيه ، بقوله { فلا يحزنك قولهم } وتوعد الكفار بقوله { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } .
(5/401)

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
هذه الآية قال فيها ابن جبير : إنها نزلت بسبب أن المعاصي بن وائل السهمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم ففته وقال : يا محمد من يحيي هذا؟ وقال مجاهد وقتادة : إن الذي جاء بالعظم النخر أمية بن خلف ، وقاله الحسن ذكره الرماني ، وقال ابن عباس : الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي ابن سلول .
قال القاضي أبو محمد : وهو وهم ممن نسبه إلى ابن عباس لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة ، واسم أبي هو الذي خلط على الرواة ، لأن الصحيح هو ما رواه ابن وهب عن مالك ، وقاله ابن إسحاق وغيره ، من أن أبي بن خلف أخا أمية بن خلف هو الذي جاء بالعظم الرميم بمكة ففته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وحياله ، وقال من يحيى هذا يا محمد؟ ولأبي مع النبي صلى الله عليه وسلم مقامات ومقالات إلى أن قتله يوم أحد بيده بالحربة بجرح في عنقه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي حين فت العظم " الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم " ثم نزلت الآية مبينة ومقيمة للحجة في أن الإنسان نطفة ثم يكون بعد ذلك خصيماً مبيناً هل هذا إلا إحياء بعد موت وعدم حياة ، وقوله { ونسي } يحتمل أن يكون نسيان الذهول ويحتمل أن يكون نسيان الترك ، و " الرميم " البالي المتفتت ، وهو الرفات ثم دلهم تعالى على الاعتبار بالنشأة الأولى ، ثم عقب ذلك تعالى بدليل ثالث في إيجاد النار في العود الأخضر المرتوي ماء ، وهذا هو زناد العرب والنار موجودة في كل عود غير أنها في المتخلخل المفتوح المسام أوجد ، وكذلك هو المرخ والعفار ، وأعاد الضمير على الشجر مذكراً من حيث راعى اللفظ فجاء كالتمر والحصا وغيره .
(5/402)

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
هذا تقرير وتوقيف على أمر تدل صحته على صحة بعث الأجساد من القبور وإعادة الموتى وجمع الضمير جمع من يعقل في قوله { مثلهم } من حيث كانتا متضمنتين من يعقل من الملائكة والثقلين ، هذا تأويل جماعة من المفسرين ، وقال الرماني وغيره : الضمير في مثلهم عائد على الناس .
قال القاضي أبو محمد : فهم مثال للبعث ، وتكون الآية نظير قوله تعالى : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } [ غافر : 57 ] وقرأ سلام أبو المنذر وابن أبي إسحاق ويعقوب والأعرج " والأرض يقدر " على يفعل مستقبلاً ، وقرأ جمهور " بقادر " ، وقرأ جمهور الناس " الخلاق " ، وقرأ الحسن " الخالق " ورفع " يكونُ " على معنى فهو يكون ، وهي قراءة الجمهور وقرأ ابن عامر والكسائي " فيكونَ " بالنصب ، قال أبو علي : لا ينصب الكسائي إذا لم تتقدم " أن " وينصب ابن عامر وإن لم تتقدم " أن " ، والنصب ها هنا قراءة ابن محيصن وقول تعالى : { كن } أمر للشيء المخترع عند تعلق القدرة به لا قبل ذلك ولا بعده ، وإنما يؤمر تأكيداً للقدرة وإشارة بها ، وهذا أمر دون حروف ولا أصوات بل من كلامه القائم بذاته لا رب سواه ، ثم نزه تعالى نفسه تنزيهاً عاماً مطلقاً ، وقرأ جمهور الناس " ملكوت " ، وقرأ طلحة التيمي والأعمش " ملَكه " بفتح اللام ومعناه ضبط كل شيء والقدرة عليه ، وباقي الآية بين .
(5/403)

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
أقسم تعالى في هذه الآية بأشياء من مخلوقاته واختلف الناس في معناها ، فقال ابن مسعود ومسروق وقتادة : هي الملائكة التي تصف في السماء في عبادة الله وذكره صفوفاً وقالت فرقة : أراد كل من يصف من بني آدم في قتال في سبيل الله ، أو في صلاة وطاعة ، والتقدير والجماعات الصافات .
قال القاضي أبو محمد : واللفظ يحتمل أن يعم هذه المذكورات كلها ، ومما أقسم به عز وجل { الزاجرات } واختلف الناس في معناها أيضاً فقال مجاهد والسدي : هي الملائكة التي تزجر السحاب وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى ، وقال قتادة : { الزاجرات } هي آيات القرآن المتضمنة النواهي الشرعية ، وقوله { فالتاليات ذكراً } معناه القارئات ، وقال مجاهد والسدي : أراد الملائكة التي تتلو ذكره ، وقال قتادة : أراد بني آدم الذين يتلون كتبه المنزلة وتسبيحه وتكبيره ونحو ذلك ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال ، وهي قراءة ابن مسعود ومسروق والأعمش ، وقرأ الباقون وجمهور الناس بالإظهار ، وكذلك في كلها ، قال أبو حاتم : والبيان اختيارنا وأما الحاملات وقرا والجاريات يسراً ، فلا يجوز فيها الإدغام لبعد التاء من الحرفين ، ثم بين تعالى المقسم عليه أنه توحيده وأنه واحد أي متحد في جميع الجهات التي ينظر فيها المفكر ، ثم وصف تعالى نفسه بربوبيته جميع المخلوقات ، وذكر { المشارق } لأنها مطالع الأنوار والعيون بها أكلف ، وفي ذكرها غنية عن ذكر المغارب إذ معادلتها لها مفهومة عند كل ذي لب ، وأراد تعالى مشارق الشمس وهي مائة وثمانون في السنة فيما يزعمون من أطول أيام السنة إلى أقصرها ، ثم أخبر تعالى عن قدرته من تزيين السماء بالكواكب وانتظم في ذلك التزيين أن جعلها { حفظاً } وحرزاً من الشياطين المردة وهم مسترقو السمع ، وقرأ جمهور القراء " بزينةِ الكواكب " بإضافة الزينة إلى " الكواكب " ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم " بزينةٍ الكواكبِ " بتنوين " زينة " وخفض " الكواكبِ " على البدل من الزينة وهي قراءة ابن مسعود ومسروق بخلاف عنه وأبي زرعة بن عمر وابن جرير وابن وثاب وطلحة ، وقرأ أبو بكر عن عاصم " بزينةٍ " بالتنوين " الكواكبَ " بالنصب وهي قراءة ابن وثاب وأبي عمرو والأعمش ومسروق ، وهذا في الإعراب نحو قوله عز وجل : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متبربة } [ البلد : 14 ] .
وحكى الزهراوي قراءة " بزينةٍ " بالتنوين " الكواكبُ " بالرفع ، و " المارد " المتجرد للشر ومنه شجرة مرداء لا ورق عليها ، ومنه الأمرد وخص تعالى السماء الدنيا بالذكر لأنها التي تباشر بأبصارنا وأيضاً فالحفظ من الشيطان إنما هو فيه وحدها ، { وحفظاً } نصب على المصدر وقيل مفعول من أجله والواو زائدة .
(5/404)

لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
{ الملأ الأعلى } أهل السماء الدنيا فما فوقها ، ويسمى الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملإ الأرض الذي هو أسفل ، والضمير في { يسمعون } للشياطين ، وقرأ جمهور القراء والناس " يسْمعون " بسكون السين وتخفيف الميم ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص وابن عباس بخلاف عنه وابن وثاب وعبد الله بن مسلم وطلحة والأعمش " لا يسّمّعون " بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون فينتفي على القراءة الأولى سمعهم وإن كانوا يستمعون وهو المعنى الصحيح ، ويعضده قوله تعالى { إنهم عن السمع لمعزولون } [ الشعراء : 212 ] وينتفي على القراءة الآخرة أن يقع منهم استماع أو سماع ، وظاهر الأحاديث أنهم يستمعون حتى الآن لكنهم لا يسمعون وإن سمع منهم أحد شيئاً لم يفلت الشهاب قبل أن يلقي ذلك السمع إلى الذي تحته ، لأن من وقت محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرساً شديداً وشهباً ، وكان الرجم في الجاهلية أخف ، وروي في هذا المعنى أحاديث صحاح مضمنها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء فتقعد للسمع واحداً فوق آخر يتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه فيقضي الله تعالى الأمر في الأمور في الأرض ، فيتحدث به أهل السماء ، فيسمعه منهم ذلك الشيطان الأدنى ، فيلقيه إلى الذي تحته ، فربما أحرقه شهاب وقد ألقى الكلام ، وربما لم يحرقه جملة فينزل تلك الكلمة إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة ، فتصدق تلك الكلمة ، فيصدق الجاهلون الجميع ، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حرست السماء بشدة فلم يفلت شيطان سمع بتة ، ويروى أنها لا تسمع شيئاً الآن ، والكواكب والراجمة هي التي يراها الناس تنقض منقضية ، قال النقاش ومكي : وليست بالكواكب الجارية في السماء لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، { ويقذفون } معناه ويرجمون ، و " الدحور " الإصغار والإهانة لأن الدحر الدفع بعنف ، وقال مجاهد مطرودين ، وقرأ الجمهور " دُحوراً " ، بضم الدال ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، " دَحوراً " بفتح الدال ، و " الواصب " الدائم ، قاله مجاهد وقتادة وعكرمة ، وقال السدي وأبو صالح " الواصب " الموجع ، ومنه الوصب ، والمعنى هذه الحال الغالبة على جميع الشياطين ، إلا من شذ فخطف خبراً ونبأً { فأتبعه شهاب } فأحرقه ، وقرأ جمهور القراء " خَطِف " بفتح الخاء وكسر الطاء وتخفيفها ، وقرأ الحسن وقتادة " خِطِّف " بكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء ، قال أبو حاتم : يقال إنها لغة بكر بن وائل وتميم بن مر ، وروي عن ابن عباس " خِطِف " بكسر الخاء والطاء مخففة ، و " الثاقب " النافذ بضوئه وشعاعه المنير ، قاله قتادة والسدي وابن زيد ، وحسب ثاقب إذا كان سنياً منيراً .
(5/405)

فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
الاستفتاء نوع من أنواع السؤال وكأنه سؤال من يهتبل بقوله ويجعل حجة ، وكذلك هي أقوالهم في هذا الفصل لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن خلق من سواهم من الملائكة والجن والسماوات والأرض والمشارق وغير ذلك هو أشد هؤلاء المخاطبين ، وبأن الضمير في { خلقنا } يراد به ما تقدم ذكره ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما وفي مصحف ابن مسعود " أم من عددنا " يريد من { الصافات } وغيرها { والسماوات والأرض وما بينهما } [ الصافات : 1 ] ، وكذلك قرأ الأعمش " أمَن " مخففة الميم دون { أم } ، ثم أخبر تعالى إخباراً جزماً عن خلقه لآدم الذي هو أبو البشر وأضاف الخلق من الطين إلى جميع الناس من حيث الأب مخلوق منه ، وقال الطبري : خلق آدم من تراب وماء ونار وهواء وهذا كله إذا خلط صار طيناً لازباً ، واللازب أي يلزم ما جاوره ويلصق به ، وهو الصلصال كالفخار ، وعبر ابن عباس وعكرمة عن " اللازب " بالجر الكريم الجيد وحقيقة المعنى ما ذكرناه ، يقال ضربه لازم وضربة لازب بمعنى واحد ، وقرأ جمهور القراء " بل عجبتَ " بفتح التاء ، أي عجبت يا محمد عن إعراضهم عن الحق وعماهم عن الهدى وأن يكونوا كافرين مع ما جئتهم به من عند الله ، وقرأ حمزة والكسائي " بل عجبتُ " بضم التاء ، ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب والنخعي وطلحة وشقيق والأعمش وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجب ، ومعنى ذلك من الله أنه صفة فعل ، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم " يعجب الله تعالى إلى قوم يساقون إلى الجنة في السلاسل " ، وقوله عليه السلام " يعجب الله من الشاب ليست له صبوة " ، فإنما هي عبارة عما يظهره تعالى في جانب المتعجب منه من التعظيم والتحقير حتى يصير الناس متعجبين منه ، فمعنى هذه الآية بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم ، وجعلتها للناظرين ، وفيما اقترن معها من شرعي وهداي متعجباً ، وروي عن شريح أنه أنكر هذه القراءة وقال إن الله تعالى لا يعجب ، وقال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم ، فقال إن شريحاً كان معجباً بعلمه وإن عبد الله أعلم منه ، وقال مكي وعلي بن سليمان في كتاب الزهراوي : هو إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه كأن المعنى قل بل عجبت ، وقوله { يسخرون } أي وهم يسخرون من نبوءتك والحق الذي عندك ، وقوله تعالى { وإذا رأوا آية يستسخرون } ، يريد بالآية العلامة والدلالة ، وروي أنها نزلت في ركانة وهو رجل من المشركين من أهل مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبل خال وهو يرعى غنماً له وهو أقوى أهل زمانه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5/406)

" يا ركانة أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي؟ " قال : نعم ، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ونحو ذلك مما اختلف فيه العلماء وألفاظ الحديث ، فلما فرغ من ذلك كله لم يؤمن وجاء إلى مكة فقال : يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت هذه الآية فيه وفي نظرائه ، وقوله { يستسخرون } معناه يطلبون أن يكونوا ممن يسخر ، ويجوز أن يكون بمعنى يسخرون كقوله تعالى : { واستغنى الله } [ التغابن : 6 ] فيكون فعل واستفعل بمعنى ، وب " يسخرون " فسره مجاهد وقتادة ، وفي بعض القراءات القديمة " يستسحرون " بالحاء غير منقوطة ، وهذه عبارة عما قال ركانة لأنه استسحر النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ " مُتنا " بضم الميم أبو جعفر وابن أبي إسحاق وعاصم وأبو عمرو والعامة ، وقرأ بكسر الميم الحسن والأعرج وشيبة ونافع ، وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة أيضاً " أوْ آباؤنا " بسكون الواو وهي " أو " التي هي للقسمة والتخيير ، وقرأ الجمهور " أوَ آباؤنا " بفتح الواو وهي واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام ، ثم أمره تعالى أن يجيب تقريرهم ب { نعم } وأن يزيدهم في الجواب أنهم مع البعث في صغار وذلة واستكانة ، وقرأ ابن وثاب " نعِم " بكسر العين ، و " الداخر " الصاغر الذليل وقد تقدم غير مرة ذكر القراءات في قوله { أئذا } على الخبر والاستفهام وما يلحقها من مد وتركه وإظهار همز وتسهيله .
(5/407)

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
هذا اسئناف إخبار جره ما قبله ، فأخبر تعالى أن بعثهم من قبورهم إنما هو { زجرة واحدة } ، وهي نفخة البعث في الصور ، وقوله { ينظرون } ، يحتمل أن يريد بالأبصار أي ينظرون ما هم فيه وصدق ما كانوا يكذبون به ، ويحتمل أن يكون بمعنى ينتظرون ، أي ما يفعل بهم ويؤمرون به ، ثم أخبر عنهم أنهم في تلك الحال يقولون { يا ويلنا } ينادون الويل بمعنى هذا وقت حضورك وأوان حلولك ، وروى أبو حاتم الوقف ها هنا وجعل قوله { هذا يوم الدين } من قول الله تعالى لهم أو الملائكة ، ورأى غيره أن قوله تعالى : { هذا يوم الدين } هو من قول الكفرة الذين قالوا { يا ويلنا } ، و { الدين } الجزاء والمقارضة كما يقولون كما تدين تدان ، وأجمعوا أن قوله { هذا يوم الفصل } إلى آخر الآية ليس من قول الكفرة وإنما المعنى يقال لهم ، وقوله تعالى : { وأزواجهم } معناه وأنواعهم وضرباؤهم ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وقتادة ومنه قوله تعالى : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] ، وقوله تعالى : { وإذا النفوس زوجت } [ التكوير : 7 ] أي نوعت ، وروي أنه يضم عند هذا الأمر كل شكل وصاحبه من الكفرة إلى شكله وصاحبه ومعهم { ما كانوا يعبدون من دون الله } من آدمي رضي بذلك ومن صنم ووثن توبيخاً لهم وإظهاراً لسوء حالهم ، وقال الحسن : المعنى وأزواجهم المشركات من النساء وروي ذلك عن ابن عباس ورجحه الرماني ، وقوله تعالى { فاهدوهم } . معناه قوموهم واجعلوهم على طريق الجحيم ، و { الجحيم } طبقة من طبقات جهنم يقال إنها الرابعة ، ثم يأمر تعالى بوقفهم ، و " وقف " يتعدى بنفسه تقول وقفت ووقفت زيداً ، وأمره بذلك على جهة التوبيخ لهم والسؤال واختلف الناس في الشيء الذي يسألون عنه فروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : يسألون هل يحبون شرب الماء البارد ، وهذا على طريق الهزء بهم ، وقال ابن عباس : يُسألون عن لا إله إلا الله ، وقال جمهور المفسرين : يُسألون عن أعمالهم ويوقفون على قبحها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول متجه عام في الهزء وغيره وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام أنه قال " إيما رجل دعا رجلاً إلى شيء كان لازماً له " ، وقرأ { وقفوهم إنهم مسؤولون } ، وروى ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تزول قدماً عبد من بين يدي الله تعالى حتى يسأله عن خمس ، عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله فيما أنفقه ، وكيف كسبه ، وعما عمل فيما علم " ، ويحتمل عندي أن يكون المعنى على نحو ما فسره بقوله { ما لكم لا تناصرون } أي أنكم مسؤولون عن امتناعهم عن التناصر ، وهذا على جهة التوبيخ في هذا الفصل خاصة أعني الامتناع من التناصر ، وقرأ " تناصرون " بتاء واحدة خفيفة ، شيبة ونافع ، وقرأ خلق " لا تتناصرون " ، وكذلك في حرف عبد الله ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " لا تناصرون " بإدغام التاء من قراءة عبد الله بن مسعود وقال الثعلبي قوله : { ما لكم لا تناصرون } جواب أبي جهل حين قال في بدر نحن جميع منتصر ، ثم أخبر تعالى عن أنهم في ذلك اليوم في حلة الاستسلام والإلقاء باليد .
(5/408)

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
هذه الجماعة التي يقبل بعضها على بعض هي إنس وجن ، قاله قتادة ، وتساؤلهم هو على معنى التقريع واللوم والتسخط ، والقائلون { إنكم كنتم تأتونا عن اليمين } إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين وهذا قول مجاهد وابن زيد ، وإما أن يكون ضعفة الإنس يقولونها للكبراء والقادة ، واضطرب المتأولون في معنى قولهم { عن اليمين } وعبر ابن زيد وغيره عنه بطريقة الجنة والخير ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى لا تختص باللفظة وبعضهم أيضاً نحا في تفسير الآية إلى ما يخصها ، والذي يتحصل من ذلك معان منها أن يريد ب { اليمين } القوة والشدة فكأنهم قالوا إنكم كنتم تغووننا بقوة منكم وتحملوننا على طريق الضلالة بمتابعة منكم في شدة فعبر عن هذا المعنى ب { اليمين } كما قالت العرب " بيدين ما أورد " ، وكما قالوا " اليد " في غير موضع عن القوة ، وقد ذهب بعض الناس ببيت الشماخ هذا المذهب وهو قوله : { الوافر ]
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
فقالوا معناه بقوة وعزمة ، وإلا فكل أحد كان يتلقاها بيمينه ، لو كانت الجارحة ، وأيضاً فإنما استعار الراية للمجد فكذلك لم يرد باليمين الجارحة ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا { إنكم كنتم تأتوننا } من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم ويظهر فيها أنها جهة الرشد والصواب ، فتصير عندنا كاليمين التي بيمين السانح الذي يجيء من قبلها .
قال القاضي أبو محمد : فكأنهم شبهوا أقوال هؤلاء المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة ، كأن التمويه في هذه الغوايات قد أظهر فيها ما يوشك أن يحمد به ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا إنكم كنتم تأتوننا أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمن معبر عنها ب { اليمين } ، إذ اليمين هي الجهة ا لتي يتيمن بكل ما كان منها وفيها ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا أنكم كنتم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر ، والجهة الثقيلة من الإنسان وهي جهة اليمين منه لأن كبده فيها ، وجهة شماله فيها قلبه وهي أخف ، وهذا معنى قول الشاعر : " تركنا لهم شق الشمال " ، أي زلنا لهم عن طريق الهروب ، لأن المنهزم إنما يرجع على شقه الأيسر إذ هو أخف شقيه ، وإذا قلب الإنسان في شماله وثم نظره فكأنه هؤلاء كأنوا يأتون من جهة الشهوات والثقل .
قال القاضي أبو محمد : وأكثر ما يتمكن هذا التأويل مع إغواء الشياطين وهو قلق مع إغواء بني آدم ، وقيل المعنى تحلفون لنا وتأتوننا إتيان من إذا حلف صدقناه .
قال القاضي أبو محمد : فاليمين على هذا القسم ، وقد ذهب بعض الناس في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله
(5/409)

{ من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } [ الأعراف : 17 ] إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات فقال ما بين يديه هي مغالطته فيما يراه ، وما خلفه هو ما يسارق فيه الخفاء ، وعن يمينه هو جانب شهواته ، وعن شماله هو موضع نظره بقلبه وتحرزه فقد يغلبه الشيطان فيه ، وهذا فيمن جعل هذا في جهات ابن آدم الخاصة بيديه ، ومن الناس من جعلها في جهات أموره وشؤونه فيتسع التأويل على هذا ، ثم أخبر تعالى عن قول الجن المجيبين لهؤلاء { بل لم كونوا مؤمنين } أي ليس الأمر كما ذكرتم بل كان لكم اكتساب الكفر به والبصيرة فيه وإنما نحن حملنا عليه أنفسنا وما كان لنا عليكم حجة ولا قوة إلا طغيانكم وإرادتكم الكفر فقد حق القول على جميعنا وتعين العذاب لنا وإنا جميعاً { لذائقون } ، والذوق هنا مستعار وبنحو هذا فسر قتادة وغيره أنه قول الجن إلى { غاوين } ، ثم أخبر تعالى عن أنهم اشتركوا جميعاً في العذاب وحصل كلهم فيه وأن هذا فعله بأهل الجرم واحتقاب الإثم والكفر .
(5/410)

إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
هؤلاء أهل الجرم الذين جهلوا الله تعالى ، وعظموا أصناماً وأوثاناً ف { إذا قيل لهم لا إله إلا الله } وهي كلمة الحق والعروة الوثقى أصابهم كبر وعظم عليهم أن يتركوا أصنامهم وأصنام آبائهم ، ونحو هذا كان فعل أبي طالب حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله " ، فقال أبو جهل : أترغب عن ملة عبد المطلب ، فقال آخر ما قال : أنا على ملة عبد المطلب ، وبعرض قول { لا إله إلا الله } جرت السنة في تلقين الموتى المحتضرين ليخالفوا الكفرة ويخضعوا لها ، وأما الطائفة التي قالت { أئنا لتاركو الهتنا لشاعر مجنون } فهي من قريش ، وإشارتهم بالشاعر المجنون هي إلى محمد صلى الله عليه وسلم فرد الله تعالى عليهم أي ليس الأمر كما قالوا من أنه شاعر { بل جاء بالحق } من عند الله وصدق الرسل المتقدمة له كموسى وعيسى وإبراهيم وغيرهم عليهم الصلاة والسلام ، ثم أخبر تعالى مخاطباً لهم ويجوز أن يكون التأويل قل لهم يا محمد { إنكم لذائقو العذاب الأليم } وقرأ قوم " لذائقو العذابَ " نصباً ووجهها أنه أراد لذائقون فحذف النون تخفيفاً وهي قراءة قد لحنت ، وقرأ أبو السمال " لذائقٌ " بالتنوين " العذابَ " نصباً ، و { الأليم } المؤلم ، ثم أعلمهم أن ذلك جزاء لهم بأعمالهم واكتسابهم ، ثم استثنى عباد الله استثناء منقطعاً وهم المؤمنون الذين أخلصهم الله تعالى لنفسه ، وقرأ الجمهور " المخلَصين " بفتح اللام ، وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء وأبو عمرو بكسر اللام ، وقد رويت هذه التي في الصافات عن الحسن بفتح اللام .
(5/411)

أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
{ أولئك } إشارة إلى العباد المخلصين ، وقوله تعالى : { معلوم } ، معناه عندهم فقد قرت عيونهم بعلم ما يستدر عليهم من الرزق وبأن شهواتهم تأتيهم لحينها ، وإلا فلو كان ذلك معلوماً عند الله تعالى فقط لما تخصص أهل المدينة بشيء وقوله { وهم مكرمون } تتميم بليغ للنعيم لأنه رب مرزوق غير مكرم ، وذلك أعظم التنكيد ، و " السرر " جمع سرير ، وقرأ أبو السمال " على سرَر " بفتح الراء الأولى ، وفي هذا التقابل حديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أحيان " وترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض ، ولا محالة أن بعض أحيانهم فيها متخيرون في قصورهم ، و { يطاف } معناه يطوف الوالدان حسبما فسرته آية أخرى ، و " الكأس " قال الزجاج والطبري وغيرهما : هو الإناء الذي فيه خمر أو ما يجري مجراه من الأنبذة ونحوها ، ولا تسمى كأساً إلا وفيها هذا المشروب المذكور ، وقال الضحاك : كل كأس في القرآن فهو خمر ، وذهب بعض الناس إلى أن الكأس آنية مخصوصة في الأواني وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ، ولا يراعى في ذلك كونه بخمر أم لا ، وقوله تعالى : { من معين } يريد من جار مطرد ، فالميم في { معين } أصلية لأنه من الماء المعين ، ويحتمل أن يكون من العين فتكون الميم زائدة أي مما يعين بالعين مستور ولا في خزن ، وخمر الدنيا إنما هي معصورة مختزنة ، وخمر الآخرة جارية أنهاراً ، وقوله { بيضاء } يحتمل أن يعود على الكأس ويحتمل أن يعود على الخمر وهو الأظهر ، وقال الحسن بن أبي الحسن : خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود " صفراء " فهذا موصوف به الخمر وحدها ، وقوله تعالى { لذة } أي ذات لذة فوصفها بالمصدر اتساعاً ، وقد استعمل هذا حتى قيل لذ بمعنى لذيذ ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
بحديثك اللذ الذي لو كلّمت ... أسد الفلاة به أتين سراعا
وقوله { ولا فيها غول } ، لم تعمل { لا } لأن الظرف حال بينها وبين ما شأن التبرية أن تعمل فيه و " الغول " اسم عام في الأذى ، يقال غاله كذا إذا أضره في خفاء ، ومنه الغيلة في القتل وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الرضاع " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة " ومن اللفظة قول الشاعر : [ الطويل ]
مضى أولونا ناعمين بعيشهم ... جميعاً وغالتني بمكة غول
أي عاقتني عوائق ، فهذا معنى من معاني الغول ، ومنه قول العرب ، في مثل من الأمثال ، " ماله غيل " ما أغاله يضرب للرجل الحديد الذي لا يقوم لأمر إلا أغنى فيه ، أو الرجل يدعى له بأن يؤذي ما آذاه ، وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد في الآية " الغول " وجع في البطن ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة : هو صداع في الرأس .
(5/412)

قال القاضي أبو محمد : والاسم أعم من هذا كله فنفى عن خمر الجنة جميع أنواع الأذى إذا هي موجودة في خمر الدنيا ، نحا إلى هذا العموم سعيد بن جبير ، ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]
وما زالت الخمر تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
أي تؤذينا بذهاب العقل ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر " ينزَفون " بفتح الزاي وكذلك في سورة الواقعة من قوله " نزف الرجل إذا سكر ونزفته الخمر " ، والنزيف السكران ومنه قول الشاعر [ جميل بن معمر ] : [ الكامل ]
فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف لبرد ماء الحشرج
وبذهاب العقل فسر ابن عباس وقتادة { ينزفون } ، وقرأ حمزة والكسائي " ينزِفون " بكسر الزاي وكذلك في الواقعة من أنزف ينزف ويقال أنزف بمعنيين أحدها سكر ومنه قال الأبيرد الرياحي . [ الطويل ]
لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُ ... لبيس الندامى أنتمُ آل أبجرا
والثاني : نزف شرابه يقال أنزف الرجل إذا تمّ شرابه فهذا كله منفي عن أهل الجنة ، وقرأ عاصم هنا بفتح الزاي وفي الواقعة بكسر الزاي ، وقرأ ابن أبي إسحاق " يَنزِفون " بفتح الياء وكسر الزاي ، و { قاصرات الطرف } قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة على أزواجهن أي لا ينظرن إلى غيرهم ولا يمتد طرف إحداهن إلى أجنبي ، فهذا هو قصر الطرف ، و { عين } جمع عيناء وهي الكبيرة العينين في جمال ، وأما قوله { كأنهن بيض مكنون } فاختلف الناس في الشيء المشبه به ما هو ، فقال السدي وابن جبير شبه ألوانهن بلون قشر البيضة من النعام وزهو بياض قد خالطته صفرة حسنة ، قالوا : و " البيض " نفسه في الأغلب هو المكنون بالريش ومتى شدت به حال فلم يكن مكنوناً خرج عن أن يشبه به ، وهذا قول الحسن وابن زيد ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كبكر مقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير المال غير محلل
وهذه المعنى كثير في أشعار العرب ، وقال ابن عباس فيما حكى الطبري ، " البيض المكنون " أراد به الجوهر المصون .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يصح عندي عن ابن عباس لأنه يرده اللفظ من الآية ، وقالت فرقة إنما شبههن تعالى ب " البيض المكنون " تشبيهاً عاماً جملة المرأة بجملة البيضة وأراد بذلك تناسب أجزاء المرأة وأن كل جزاء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائه إلى نوعه فنسبة شعرها إلى عينها مستوية إذ هما غاية في نوعهما ، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء ، لأنك من حيث جئتها فالنظر فيها واحد .
(5/413)

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
هذا التساؤل الذي بين أهل الجنة هو تساؤل راحة وتنعم يتذكرون أمورهم في الجنة وأمر الدنيا وحال الطاعة والإيمان فيها ، ثم أخبر الله تعالى عن قول { قائل منهم } في قصته فهو مثال لكل من له { قرين } سوء يعطي هذا المثال التحفظ من قرناء السوء ، واستشعار معصيتهم وعبر عن قول هذا الرجل بالمضي من حيث كان أمراً متيقناً حاصلاً لا محالة ، وقال ابن عباس وغيره كان هذان من البشر مؤمن وكافر ، وقالت فرقة : هما اللذان ذكر الله تعالى في قوله { يا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً } [ الفرقان : 28 ] وقال مجاهد كان إنسياً وجنياً من الشياطين الكفرة .
قال القاضي أبو محمد : والأول أصوب ، وقرأ جمهور الناس " من المصدقين " بتخفيف الصاد من التصديق ، وقرأت فرقة " من المصّدقين " بشد الصاد من التصدق ، وقال فرات بن ثعلبة البهراني في قصص هذين إنهم كانا شريكين بثمانية آلاف دينار فكان أحدهما يعبد الله ويقصد من التجارة والنظر وكان الآخر كافراً مقبلاً على ماله فحل الشركة مع المؤمن وبقي وحده لتقصير المؤمن ثم إنه جعل كلما اشترى شيئاً من دار وجارية وبستان ونحوه عرضه على ذلك المؤمن وفخر عليه به فيمضي المؤمن عند ذلك ويتصدق بنحو ذلك الثمن ليشتري به من الله في الجنة فكان من أمرهما في الآخرة ما تضمنته هذه الآية ، قال الطبري : وهذا الحديث يؤيد قراءة من قرأ " من المصّدّقين " بتشديد الصاد ، و { مدينون } معناه مجازون محاسبون قاله ابن عباس وقتادة والسدي ، والدين الجزاء وقد تقدم .
(5/414)

قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
في الكلام حذف تقديره فقال لهذا الرجل حاضرون من الملائكة إن قرينك هذا في جهنم يعذب فقال عند ذلك { هل أنتم مطلعون } ، ويحتمل أن يخاطب ب { أنتم } الملائكة ، ويحتمل أن يخاطب رفقاءه في الجنة ، ويحتمل أن يخاطب خدمته وكل هذا ، حكى المهدوي وقرأ جمهور القراء " مطَّلعون " بفتح الطاء وشدها ، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين " مطْلعونَ " بسكون الطاء وفتح النون ، وقرأ أبو البرهسم بسكون الطاء وكسر النون علي أنها ضمير المتكلم ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره ولحنوها ، وذلك أنها جمعت بين ياء الإضافة ونون المتكلم ، والوجه أن يقال " مطلعي " ، ووجه القراءة أبو الفتح بن جني وقال : أنزل الفاعل منزل الفعل المضارع ، وأنشد الطبري : [ الوافر ]
وما أدري وظن كل ظن ... أمسلمني إلى قومي شراحي
وقال الفراء : يريد شراحيل ، وقرأ الجمهور " فاطّلع " بصلة الألف وشد الطاء المفتوحة ، وقرأ أبو عمرو في رواية حسن " فأُطْلِع " بضم الألف وسكون الطاء وكسر اللام ، وهي قراءة أبي البرهسم ، قال الزجاج هي قراءة من قرأ " مطلِعون " بكسر اللام ، وروي أن لأهل الجنة كوى وطاقات يشرفون منها على أهل النار إذا شاؤوا على جهة النقمة والعبر لأنهم لهم في عذاب أهل الناس وتوبيخهم سرور وراحة ، حكاه الرماني عن أبي علي ، و { سواء الجحيم } وسطه قال ابن عباس والحسن : والناس ، وسمي { سواء } لاستواء المسافة منه إلى الجوانب ، و { الجحيم } متراكم جمر النار ، وروي عن مطرف بن عبد الله وخليد العصري أنه رآه قد تغير خبره وسيره أي تبدلت حاله ولولا ما عرفه الله إياه لم يميزه ، فقال له المؤمن عند ذلك { تالله إن كدت لتردين } أي لتهلكني بإغوائك ، والردى الهلاك ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]
أفي الطوف خفت علي الردى ... وكم من رد أهله لم يرم
وفي مصحف عبد الله بن مسعود " إن كدت لتُغوين " بالواو من الغي ، وذكرها أبو عمرو الداني بالراء من الإغراء والتاء في هذا كله مضمومة ، ورفع { نعمةُ ربي } بالابتداء وهو إعراب ما كان بعد { لولا } عند سيبويه والخبر محذوف تقديره تداركته ونحوه ، و { المحضرين } معناه في العذاب ، وقوله المؤمن { أفما نحن } إلى قوله { بمعذبين } يحتمل أن يكون مخاطبة لرفقائه في الجنة لما رأى ما نزل بقرينه ، ونظر إلى حاله في الجنة وحال رفقائه قدر النعمة قدرها فقال لهم على جهة التوقيف على النعمة { أفما نحن بميتين } ولا معذبين ، ويجيء على هذا التأويل قوله { إن هذا لهو الفوز العظيم } إلى قوله { العاملون } ، متصلاً بكلامه خطاباً لرفقائه ، ويحتمل قوله { أفما نحن } إلى قوله { بمعذبين } أن تكون مخاطبة لقرينه على جهة التوبيخ ، كأنه يقول أين الذي كنت تقول من أنا نموت وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب ، ويكون قوله تعالى : { إن هذا لهو الفوز } إلى { العاملون } يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه ، وإليه ذهب قتادة ، ويحتمل أن يكون من خطاب الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته ويقوى هذا لأن قول المؤمن لمثل هذا فليعمل ، والآخرة ليست بدار عمل يقلق إلا على تجوز كأنه يقول لمثل هذا كان ينبغي أن يعمل { العاملون } .
(5/415)

أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
الألف من قوله { أذلك } للتقرير ، والمراد تقرير قريش والكفار ، وجاء بلفظة التفضيل بين شيئين لا اشتراك بينهما من حيث كان الكلام تقريراً ، والاحتجاج يقتضي أن يوقف المتكلم خصمه على قسمين : أحدهما فاسد ويحمله بالتقرير على اختبار أحدهما ولو كان الكلام خبراً لم يجز ولا أفاد أن يقال الجنة خير من { شجرة الزقوم } وأما قوله تعالى { خير مستقراً } [ الفرقان : 24 ] فهذا على اعتقادهم في أن لهم مستقراً جيداً وقد تقدم إيعاب هذا المعنى .
قال القاضي أبو محمد : وفي بعض البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرة مرة مسمومة لها لبن إن مس جسم أحد تورهم ، ومات منه في أغلب الأمر تسمى شجرة الزقوم ، والتزقم في كلام العرب البلع على شدة وجهد ، وقوله تعالى : { إنا جعلناها فتنة للظالمين } قال قتادة والسدي ومجاهد : يريد ابا جهل ونظراءه وذلك أنه لما نزلت { أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم } ، قال الكفار ، وكيف يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار وهي تأكلها وتذهبها ففتنوا بذلك أنفسهم وجهلة من أتباعهم ، وقال أبو جهل : إنما الزقوم التمر بالزبد ونحن نتزقمه ، وقوله { في أصل الجحيم } معناه ملاصق نهاياتها التي لها كالجدرات ، وفي قراءة ابن مسعود " إنها شجرة ثابتة في أصل الجحيم " ، وقوله تعالى : { كأنه رؤوس الشيطان } اختلف الناس في معناه ، فقالت فرقة : شبه بثمر شجرة معروفة يقال لها { رؤوس الشياطين } وهي بناحية اليمن يقال لها الأستق ، وهو الذي ذكر النابغة في قوله : " تحيد من أستق سوداً أسافله " . ويقال إنه الشجرة الذي يقال له الصوم وهو الذي يعني ساعدة بن جوبة في قوله :
موكل بشدوق الصوم يرقبها ... من المغارب مخطوف الحشا زرم
وقالت فرقة : شبه ب { رؤوس } صنف من الحيات يقال لها الشياطين وهي ذوات أعراف ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
عجيز تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط اعرف
وقالت فرقة : شبه بما استقر في النفوس من كراهة { رؤوس الشياطين } وقبحها ، وإن كانت لم تر ، وهذا كما تقول لكل شعث المنتفش الشعر الكريه المنظر هذا شيطان ونحو هذا قول امرىء القيس : [ الطويل ]
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فإنما شبه بما استقر في النفوس من هيبتها ، و " الشوب " المزاج والخلط ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقرأ شيبان النحوي " لشُوباً " بضم الشين ، قال الزجاج : فتح الشين المصدر ، وضمه الاسم ، و " الحميم " السخن جداً من الماء ونحوه ، فيريد به ها هنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ينماع منهم ، هذا قول جماعة من المفسرين ، وقوله تعالى : { ثم إن مرجعهم } يحتمل أن يكون لهم انتقال أجساد في وقت الأكل والشرب ، ثم يرجعون إلى معظم الجحيم وكثرته ، ذكره الرماني وشبه بقوله تعالى :
(5/416)

{ يطوفون بينها وبين حميم آن } [ الرحمن : 44 ] ، ويحتمل أن يكون الرجوع إنما هو من حال ذلك الأكل المعذب إلى حال الاحتراق دون أكل ، وبكل احتمال قيل ، وفي مصحف ابن مسعود " وأن منقلهم لإلى الجحيم " ، وفي كتاب أبي حاتم عنه " مقيلهم " ، من القائلة وقوله تعالى : { إنهم ألفوا آباءهم ضالين } إلى آخر الآية تمثيل لقريش و { يهرعون } قال قتادة والسدي وابن زيد : معناه يسرعون كأنهم يساقون بعجلة وهذا تكسبهم للكفر وحرصهم عليه ، والإهراع سير شديد قال مجاهد : كهيئة الهرولة .
قال القاضي أبو محمد : فيه شبه رعدة وكأنه أيضاً شبه سير الفازع .
(5/417)

وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
مثل تعالى لقريش في هذه الآية بالأمم التي ضلت قديماً وجاءها الإنذار وأهلكها الله بعذابه ، وقوله تعالى : { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } ، يقتضي الإخبار بأنه عذبهم ، ولذلك حسن الاستثناء في قوله { إلا عباد الله } ، ونداء نوح عليه السلام قد تضمن أشياء منها الدعاء على قومه ، ومنها سؤال النجاة ومنها طلب النصرة ، وفي جميع ذلك وقعت الإجابة ، وقوله تعالى : { فلنعم المجيبون } يقتضي الخبر أن الإجابة كانت على أكل ما أراد نوح عليه السلام ، و { الكرب العظيم } قال السدي : هو الغرق .
قال القاضي أبو محمد : ومن { الكرب } تكذيب الكفرة وركوب الماء وهوله قال الرماني : { الكرب } : الحر الثقيل على القلب ، وقوله تعالى : { وجعلنا ذريته هم الباقين } قال ابن عباس وقتادة : أهل الأرض كلهم من ذرية نوح ، قال الطبري : والعرب من أولاد سام ، والسودان من أولاد حام ، والترك والصقلب وغيرهم من أولاد يافث ، وروي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ { وجعلنا ذريته هم الباقين } فقال : " سام وحام ويافث " ، وقالت فرقة : إن الله تعالى أبقى ذرية نوح ومد نسله وبارك في ضئضئه وليس الأمر بأن أهل الأرض انحصروا إلى نسله بل في الأمم من لا يرجع إليه ، والأول أشهر عند علماء الأمة وقالوا { نوح } هو آدم الأصغر ، وقوله { وتركنا عليه في الآخرين } معناه ثناء حسناً جميلاً آخر الدهر ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ، وقوله { سلام } عل هذا التأويل رفع بالابتداء مستأنف سلم الله به عليه ليقتدي بذلك البشر ، قال الطبري : هذه أمانة منه لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء .
قال القاضي أبو محمد : هذا جزاء ما صبر طويلاً على أقوال الكفرة الفجرة ، وقال الفراء وغيره من الكوفيين : قوله { سلام على نوح في العالمين } جملة في موضع نصب ب { تركنا } وهذا هو المتروك عليه ، فكأنه قال وتركنا على نوح تسليماً يسلم به عليه إلى يوم القيامة ، وفي قراءة عبد الله " سلاماً على نوح " على النصب ب { تركنا } صلى الله على نوح وعلى أهله وسلم تسليماً وشرف وكرم على جميع أنبيائه و { في الآخرين } معناه في الباقين غابر الدهر ، والقراءة بكسر الخاء وما كان من إهلاك فهو بفتحها .
(5/418)

إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
قوله تعالى : { كذلك } إشارة إلى إنعامه على نوح بالإجابة كما اقترح ، وأثنى تعالى على نوح بالإحسان ، لصبره على أذى قومه ومطاولته لهم وغير ذلك من عبادته وأفعاله صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { ثم أغرقنا الآخرين } يقتضي أنه أغرق قوم نوح وأمته ومكذبيه ، وليس في ذلك نص على أن الغرق عم جميع أهل الأرض ، ولكن قد قالت جماعة من العلماء وأسندت أحاديث بأن الغرق عم جميع الناس إلا من كان معه في السفينة ، وعلى هذا ترتب القول بأن الناس اليوم من ذريته ، وقالوا لم يكن الناس حينئذ بهذه الكثرة لأن عهد آدم كان قريباً ، وكانت دعوة نوح ونبوءته قد بلغت جميعهم لطول المدة واللبث فيهم فكان الجميع كفرة عبدة أوثان لم يثنهم الحق إلى نفسه فلذلك أغرق جميعهم ، وقوله تعالى : { من شيعته } قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : الضمير عائد على نوح ، والمعنى في الدين والتوحيد ، وقال الطبري وغيره عن الفراء : الضمير عائد على محمد صلى الله عليه وسلم والإشارة إليه .
قال القاضي أبو محمد : وذلك كله محتمل لأن " الشيعة " معناها الصنف الشائع الذي يشبه بعضه بعضاً والشيع الفرق وإن كان الأعرف أن المتأخر في الزمن هو شيعة للمتقدم ولكن قد يجيء من الكلام عكس ذلك قال الشاعر [ الكميت ] :
وما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب
فجعلهم شيعة لنفسه ، وقوله تعالى : { بقلب سليم } قال المفسرون : يريد من الشرك والشك وجميع النقائص التي تلحق قلوب بني آدم كالغل والحسد والكبر ونحوه قال عروة بن الزبير : لم يلعن شيئاً قط ، وقوله { أئفكاً } استفهام بمعنى التقرير أي أكذباً ومحالاً { آلهة دون الله تريدون } ، ونصب { آلهة } على البدل من قوله { أئفكاً } وسهلت الهمزة الأصلية من الإفك وقوله تعالى : { فما ظنكم } توبيخ وتحذير وتوعد ، ثم أخبر تعالى عن نظرة إبراهيم عليه السلام في النجوم ، وروي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوا إبراهيم عليه السلام إلى الخروج معهم فنظر حينئذ واعتذر بالسقم وأراد البقاء خلافهم إلى الأصنام ، وقال ابن زيد عن أبي أرسل إليه ملكهم أن غداً عيد فاحضر معنا فنظر إلى نجم طالع فقال إن هذا يطلع مع سقمي ، فقالت فرقة معنى " نظر في النجوم " أي فيما نجم إليه من أمور قومه وحاله معهم ، وقال الجمهور نظر نجوم السماء ، وروي أن علم النجوم كان عندهم منظوراً فيه مستعملاً فأوهمهم هو من تلك الجهة ، وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحة ، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم ، واختلف أيضاً في قوله { إني سقيم } ، فقالت فرقة هي كذبة في ذات الله تعالى أخبرهم عن نفسه أنه مريض وأن الكوكب أعطاه ذلك ، وقال ابن عباس وغيره : أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون ولذلك تولوا { مدبرين } أي فارين منه ، وقال بعضهم بل تولوا { مدبرين } لكفرهم واحتقارهم لأمره .
(5/419)

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل في أنها كذبة يجيء الحديث لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات : قوله { إني سقيم } ، وقوله { بل فعله كبيرهم } [ الأنبياء : 63 ] وقوله في سارة هي أختي ، وقالت فرقة : ليست بكذبة ولا يجوز الكذب عليه ولكنها من المعاريض أخبرهم بأنه سقيم في المثال وعلى عرف ابن آدم لا بد أن يسقم ضرورة ، وقيل أراد على هذا { إني سقيم } النفس أي من أموركم وكفركم فظهر لهم من كلامه أنه أراد سقماً بالجسد حاضراً وهكذا هي المعاريض .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل لا يرده الحديث وذكر الكذبات لأنه قد يقال لها كذب على الاتساع بحسب اعتقاد المخبر ، والكذب الذي هو قصد قول الباطل ، والإخبار بضد ما في النفس بغير منفعة شرعية ، هو الذي لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم .
(5/420)

فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
" راغ " معناه مال ، ومنه قول عدي بن زيد : [ الخفيف ]
حيث لا ينفع الرياغ ولا ... ينفع إلا المصلق النحرير
وقوله تعالى : { ألا تأكلون } هو على جهة الاستهزاء بعبدة تلك الأصنام ، وروي أن عادة أولئك كانت أنهم يتركون في بيوت الأصنام طعاماً ، ويعتقدون أنها تصيب منه شميماً ونحو هذا من المعتقدات الباطلة ، ثم كان خدم البيت يأكلونه ، فلما دخل إبراهيم وقف على الأكل ، والنطق والمخاطبة للأصنام والقصد الاستهزاء بعابدها ، ثم مال عند ذلك إلى ضرب تلك الأصنام بفأس حتى جعلها جذاذاً واختلف في معنى قوله { باليمين } فقال ابن عباس : أراد يمنى يديه ، وقيل : أراد بقوته لأنه كان يجمع يديه معاً بالفأس ، وقيل أراد يمين القسم في قوله { وتالله لأكيدن أصنامكم } [ الأنبياء : 57 ] و { ضرباً } نصب على المصدر بفعل مضمر من لفظه ، وفي مصحف عبدالله عليهم " صفعاً باليمين " ، والضمير في { أقبلوا } لكفار قومه ، وقرأ جمهور الناس " يَزفون " بفتح الياء من زف إذا أسرع وزفت الإبل إذا أسرعت ، ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]
فجاء قريع الشول قبل افالها ... يزف وجاءت خلفه وهي زفف
ومنه قول الهذلي :
وزفت الشول من برد العشيّ كما ... زفت النعام إلى حفانه الروح
وقرأ حمزة وحده " يُزفزن " بضم الياء من أزف إذا دخل في الزفيف وليست بهمزة تعدية هذا قول ، وقال أبو علي : معناه يحملون غيرهم على الزفيف ، وحكاه عن الأصمعي وهي قراءة مجاهد وابن وثاب والأعمش ، وقرأ مجاهد وعبد الله بن زيد " يَزفزن " بفتح الياء وتخفيف الفاء من وزف وهي لغة منكرة ، قال الكسائي والفراء : لا نعرفها بمعنى زف ، وقال مجاهد : الزفيف النسلان ، وذهبت فرقة إلى أن { يزفون } معناه يتمهلون في مشيهم كزفاف العروس ، والمعنى أنهم كانوا على طمأنينة من أن ينال أحد آلهتهم بسوء لعزتهم فكانوا لذلك متمهلين .
قال القاضي أبو محمد : وزف بمعنى أسرع هو المعروف ، ثم إن إبراهيم عليه السلام قال لهم في جملة محاورة طويلة قد تضمنتها الآية { أتعبدون ما تنحتون } أي تجعلون إلهاً معظماً شيئاً صنعتموه من عود أو حجر وعملتموه بأيديكم أخبرهم بخبر لا يمكنهم إنكاره وهو قوله { والله خلقكم } واختلف المتأولون في قوله { وما تعملون } ، فمذهب جماعة من المفسرين أن { ما } مصدرية والمعنى أن الله خلقكم وأعمالكم ، وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق أفعال العباد وذلك موافق لمذهب أهل السنة في ذلك ، وقالت { ما } بمعنى الذي ، وقالت فرقة { ما } استفهام ، وقالت فرقة هي نفي بمعنى وأنتم لا تعملون شيئا في وقت خلقكم ولا قبله ، ولا تقدرون على شيء .
قال القاضي أبو محمد : والمعتزلة مضطرة إلى الزوال عن أن تجعل { ما } مصدرية ، و " البنيان " قيل كان في موضع إيقاد النار ، وقيل بل كان للمنجنيق الذي رمي عنه وقد تقدم قصص نار إبراهيم وجعلهم الله { الأسفلين } ، بأن غلبوا وذلوا ونالتهم العقوبات .
(5/421)

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
قالت فرقة : إن قول إبراهيم { إني ذاهب } كان بعد خروجه من النار ، وإنه أشار بذهابه إلى هجرته من أرض بابل حيث كانت مملكة نمرود فخرج إلى الشام ويروى إلى بلاد مصر ، وقالت فرقة : قوله { إني ذاهب } ليس مراده به الهجرة كما في آية أخرى وإنما مراده لقاء الله بعد الاحتراق ولأنه ظن أن النار سيموت فيها ، فقال هذه المقالة قبل أن يطرح في النار ، فكأنه قال إني سائر بهذا العمل إلى ربي ، وهو سيهديني إلى الجنة ، نحا إلى هذا المعنى قتادة ، وللعارفين بهذا الذهاب تمسك واحتجاج في الصفاء وهو محمل حسن في { أني ذاهب } وحده ، والأول أظهر من نمط الآية بما بعده ، لأن الهداية معه تترتب ، والدعاء في الولد كذلك ، ولا يصح مع ذهاب الفناء ، وقوله { من الصالحين } { من } للتبعيض أي ولداً يكون في عداد الصالحين ، وقوله { فبشرناه } قال كثير من العلماء منهم العباس بن عبدالمطلب وقد رفعه وعلي وابن عباس وابن مسعود وكعب وعبيد بن عمرو هي البشارة المعروفة بإسحاق وهو الذبيح وكان أمر ذبحه بالشام ، وقال عطاء ومقاتل ببيت المقدس ، وقال بعضهم بل بالحجاز ، جاء مع أبيه على البراق وقال ابن عباس والبشارة التي بعد هذه في هذه الآية هي بشارة بنبوته كما قال تعالى في موسى { ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيّاً } [ مريم : 53 ] وهو قد كان وهبه له قبل ذلك ، فإنما أراد النبوءة ، فكذلك هذه ، وقالت هذه الفرقة في قول الأعرابي : يا بن الذبيحين أراد إسحاق والعم أب ، وقيل إنه أمر بذبحه بعدما ولد له يعقوب ، فلم يتعارض الأمر بالذبح مع البشارة بولده وولده ولده ، وقالت فرقة : هذه البشارة هي بإسماعيل وهو الذبيح وأمر ذبحه كان بالحجاز بمنى رمى إبراهيم الشيطان بالجمرات وقبض الكبش حين أفلت له وسن السنن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ابن عباس أيضاً وابن عمرو وروي عن الشعبي والحسن ومجاهد ومعاوية بن سفيان ورفعه معاوية إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومحمد بن كعب وبه كان أبي رضي الله عنه يقول ، ويستدل بقول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم : يا بن الذبيحين ، وبقوله صلى الله عليه وسلم " أنا ابن الذبيحين " يعني إسماعيل وعبد الله أباه ، ويستدل بأن بالبشارة اقترنت بأن من ورائه يعقوب ، فلو قيل له في صباه اذبحه لناقض ذلك البشارة بيعقوب ، ويستدل بظاهر هذه الآية أنه بشر بإسماعيل ، وانقضى أمر ذبحه ثم بشر بإسحاق بعد ذلك ، وسمعته رضي الله عنه يقول كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم يجيء من الشام إلى مكة على البراق زائراً ويعود من يومه وقد ذكر ذلك الثعلبي عن سعيد بن جبير ولم يذكر إن ذلك على البراق وذكر القصة عن ابن إسحاق ، وفيها ذكر البراق كما سمعت أبي يحكي وذكر الطبري أن ابن عباس قال : الذبيح إسماعيل ، وتزعم اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود وذكر أيضاً أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلاً يهودياً كان أسلم وحسن إسلامه فقال : الذبيح إسماعيل : وإن اليهود تعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن تكون هذه الآية والفضل والله في أبيكم .
(5/422)

و { السعي } في هذه الآية العمل والعبادة والمعونة ، هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، وقال قتادة { السعي } على القدم يريد سعياً متمكناً وهذا في المعنى نحو الأول ، وقرأ الضحاك " معه السعي وأسر في نفسه حزناً " قال وهكذا في حرف ابن مسعود وهي قراءة الأعمش ، قوله { إني أرى في المنام أني أذبحك } يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينه ورؤيا الأنبياء وحي ، وعين له وقت الامتثال ، ويحتمل أن أمر في نومه بذبحه فعبر هو عن ذلك أي { إني رأيت في المنام } ما يوجب أن { أذبحك } ، وقرأ جمهور الناس " ماذا تَرَى " بفتح والراء ، وقرأ حمزة والكسائي " تُرِي " بضم التاء وكسر الراء ، على معنى ما يظهر منك من جلد أو جزع ، وهي قراءة ابن مسعود والأسود بن يزيد وابن وثاب وطلحة والأعمش ومجاهد ، وقرأ الأعمش والضحاك " تُرَى " بضم التاء وفتح الراء على بناء الفعل للمفعول ، فأما الأولى فهي من رؤية الرأي ، وهي رؤية تتعدى إلى مفعول واحد ، وهو في هذه الآية إما { ماذا } ، بجملتها على أن تجعل " ما " و " ذا " بمنزل اسم واحد ، وإما " ذا " على أن تجعله بمعنى الذي ، وتكون " ما " استفهاماً وتكون الهاء محذوفة من الصلة ، وأما القراءة الثانية فيكون تقدير مفعولها كما مر في هذه ، غير أن الفعل فيها منقول من رأى زيد الشيء وأريته إياه ، إلا أنه من باب أعطيت فيجوز أن يقتصر على أحد المفعولين ، وأما القراءة الثانية فقد ضعفها أبو علي وتتجه على تحامل ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود " افعل ما أمرت به " .
(5/423)

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
قرأ جمهور الناس " أسلما " أي أنفسهما واستسلما لله تعالى ، وقرأ علي وعبد الله وابن عباس ومجاهد والثوري " سلما " والمعنى فوضا إليه في قضائه وقدره وانحملا على أمره ، فأسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه واختلف النحاة في جواب { لما } ، فقال الكوفيون الجواب { ناديناه } ، والواو زائدة ، وقالت فرقة الجواب { وتله } والواو زائدة كزيادتها في قوله : { وفتحت السماء } [ النبأ : 19 ] وقال البصريون : الجواب محذوف تقديره " فلما أسلم وتله " ، وهذا قول الخليل وسيبويه ، وهو عندهم كقول امرىء القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
التقدير فلما أجزنا ساحة الحي أجزنا وانتحى ، وقال بعض البصريين : الجواب محذوف وتقديره { فلما أسلما وتله للجبين } أجزل أجرهما أو نحو هذا مما يقتضيه المعنى ، { وتله } وضعه بقوة ومنه الحديث في القدح ، فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده أي وضعه بقوة ، والتل من الأرض مأخوذ من هذه كأنه تل في ذلك الموضع ، و { للجبين } معناه لتلك الجهة وعليها وكما يقولون في المثل لليدين والفم وكما تقول سقط لشقه الأيسر ، وقال ساعدة بن جوبة " وظل تليلاً للجبين والجبينان ما اكتنف الجبهة من هنا وهنا " ، وروي في قصص هذه الآية أن الذبيح قال لأبيه اشدد رباطي بالحبل لئلا أضطراب واصرف بصرك عني ، لئلا ترحمني ورد وجهي نحو الأرض ، قال قتادة كبه لفيه وأخذ الشفرة ، والتل للجبين ليس يقتضي أن الوجه نحو الأرض بل هي هيئة من ذبح للقبلة على جنبه ، وقوله { أن يا إبراهيم } ، { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب وقوله ، { قد صدقت } يحتمل أن يريد بقلبك على معنى كانت عندك رؤياك صادقة وحقاً من الله فعملت بحسبها حين آمنت بها واعتقدت صدقها ، ويحتمل أن يريد صدقت بعملك ما حصل عن الرؤيا في نفسك كأنه قال قد وفيتها حقها من العمل ، و { الرؤيا } اسم لما يرى من قبل الله تعالى ، والمنام والحلم اسم لما يرى من قبل الشيطان ، ومنه الحديث الصحيح " الرؤيا من الله والحلم من الشيطان " ، وقوله { إنا كذلك } إشارة إلى ما عمل إبراهيم ، كأنه يقول إنا بهذا النوع من الإخلاص والطاعة { نجزي المحسنين } ، وقوله تعالى { إن هذا لهو } يشير إلى ما في القصة من امتحان واختبار وسير معتقد ، فيكون { البلاء } على هذا المعنى الاختبار بالشدة ، ويحتمل أن يشير إلى ما في القصة من سرور بالفدية وإنقاذ من تلك الشدة في إنفاذ الذبح ، فيكون { البلاء } بمعنى النعمة .
قال القاضي أبو محمد : وإلى كل احتمال قد أشارت فرقة من المفسرين ، وفي الحديث أن الله تعالى أوحى إلى إسحاق أني قد أعطيتك فيها ما سألت فسلني فقال يا رب أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنة ، والضمير في { فديناه } عائد على الذبح ، و " الذبح " اسم لما يذبح ووصفه بالعظم لأنه متقبل يقيناً قاله مجاهد ، وقال عمر بن عبيد : " الذبح " الكبش و " العظيم " لجري السنة ، وكونه ديناً باقياً آخر الدهر ، وقال الحسن بن الفضل : عظم لأنه كان من عند الله ، وقال أبو بكر الوراق : لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين ، وروي عن ابن عباس وعن سعيد بن جبير : أن كونه عظيماً هو أنه من كباش الجنة ، رعى فيها أربعين خريفاً ، وقال ابن عباس : هو الكبش الذي قرب ولد آدم ، وقال ابن عباس والحسن : كان وعلاً اُهبط عليه من ثبير ، وقال الجمهور : إنه كبش أبيض أقرن أعين وجده وراءه مربوطاً بسمرة .
(5/424)

قال القاضي أبو محمد : وروي أنه انفلت لإبراهيم فاتبعه ورماه بحصيات في مواضع الجمرات فبذلك مضت السنة ، وقال ابن عباس رجم الشيطان عند جمرة العقبة وغيرها وقد قدم هذا .
قال القاضي أبو محمد : وأهل السنة أن هذه القصة نسخ فيها العزم على الفعل ، والمعتزلة التي تقول إنه لا يصح نسخ إلا بعد وقوع الفعل افترقت في هذه الآية على فرقتين ، فقالت فرقة وقع الذبح والتأم بعد ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كذب صراح ، وقالت فرقة منهم : بل كان إبراهيم لم ير في منامه إلا أمارة الشفرة فقط ، فظن أنه ذبح فجهز ، فنفذ لذلك فلما وقع الذي رآه وقع النسخ .
قال القاضي أبو محمد : والاختلاف أن إبراهيم عليه السلام أمر الشفرة على حلق ابنه فلم تقطع ، وروي أن صفيحة نحاس اعترضته فحز فيها والله أعلم كيف كان ، فقد كثر الناس في قصص هذه الآية بما صحته معدومة ، فاختصرته ، وقد تقدم تفسير مثل قوله { وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم } وقوله { كذلك نجزي المحسنين } معناه أي هذا الفعل وباقي الآية بين .
قال القاضي أبو محمد : وما يستغرب في هذه الآية أن عبيد بن عمير قال : ذبح في المقام ، وذكر الطبري عن جماعة لم يسمها أنها قالت : كان الأمر وإذاعة الذبح والقصة كلها بالشام ، وقال الجمهور : ذبح بمنى ، وقال الشعبي : رأيت قرني كبش إبراهيم معلقة في الكعبة .
(5/425)

وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
من قال إن الذبيح هو إسماعيل جعل هذه البشارة بولادة إسحاق وهي البشارة المترددة في غير ما سورة ، ومن جعل الذبيح إسحاق جعل هذه البشارة بنفس النبوءة فقط ، وقوله تعالى { وظالم لنفسه } توعد لمن كفر من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمنة ، على موسى وهارون هي في النبوءة وسائر ما جرى معها من مكانتها عند الله تعالى و { الكرب العظيم } هو تعبد القبط لهم ، ثم جيش فرعون لما قالت بنو إسرائيل { إنا لمدركون } [ الشعراء : 61 ] ثم البحر بعد ذلك ، والضمير في { نصرناهم } عائد على الجماعة المتقدم ذكرها وهم { موسى وهارون وقومهما } ، وقال قوم : أراد موسى وهارون ولكن أخرج ضميرهما مخرج الجميع تفخيماً ، وهذا مما تفعله العرب تكني عمن تعظم بكناية الجمع ، و { الكتاب المستبين } هو التوراة .
(5/426)

وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
{ الصراط المستقيم } يريد به في هذه الآية طريق الشرع والنبوءة المؤدي إلى الله تعالى وقد تقدم القول في مثل قوله { وتركنا عليهما } ، و { إلياس } نبي من أنبياء الله تعالى ، قال قتادة وابن مسعود : هو إدريس عليه السلام ، وقالت فرقة : هو من ولد هارون عليه السلام ، قال الطبري هو إلياس بن نسي بن فنحاص بن ألعيزار بن هارون ، وقرأ الجمهور من القراء " وإن إلياس " بهمزة مكسورة ، وهو اسم ، وقرأ ابن عامر وابن محيصن وعكرمة والحسن والأعرج " وإن الياس " بغير همز بصلة الألف ، وذلك يتجه على أحد وجهين : إما أن يكون حذف الهمزة كما حذفها ابن كثير من قوله تعالى { إنها لإحدى الكبر } [ المدثر : 35 ] أراد " لإحدى " فنزل المنفصل منزلة المتصل ، كما قد ينزل في كثير من الأمور ، والآخر أن يجعلها الألف التي تصحب اللام للتعريف كاليسع ، وفي مصحف أبي بن كعب " وإن ايِليَس " بألف مكسورة الهمزة وياء ساكنة قبل اللام المكسورة وياء ساكنة بعدها وسين مفتوحة ، وكذلك في قوله " سلام على إيليس " ، وقرأ نافع وابن عامر على " آل ياسين " وقرأ الباقون " سلام على إلياسين " بألف مكسورة ولام ساكنة ، قرأ الحسن وأبو رجاء " على الياسين " موصولة فوجه الأولى أنها فيما يزعمون مفصولة في المصحف فدل ذلك على أنها بمعنى أهل و " ياسين " اسم أيضاً ل { إلياس } وقيل هو اسم لمحمد صلى الله عليه وسلم ووجه الثانية أنه جمع إلياسي كما قالوا أعجمي أعجميون ، قال أبو علي : والتقدير إلياسين فحذف كما حذف من أعجميين ، ونحوه من الأشعريين والنمريين والمهلبين ، وحكى أبو عمرو أن منادياً نادى يوم الكلاب ، هلك اليزيديون ، ويروي قول الشاعر : " قدني من نصر الخبيبين قدي " بكسر الباء الثانية نسبة إلى أبي خبيب ، ويقال سمي كل واحد من آل ياسين إلياس كما قالوا شابت مفارقه فسمي كل جزء من المفرق مفرقاً ، ومنه قولهم " جمل ذو عثانين " ، وعلى هذا أنشد ابن جني : [ الرجز ]
مرت بنا أول من أموس ... تميس فينا مشية العروس
فسمى كل جزء من الأمس أمس ثم جمع ، وقال أبو عبيدة لم يسلم على آل أحد من الأنبياء المذكورين قبل فلذلك ترجح قراءة من قرأ " إلياسين " إذ هو اسم واحد له ، وقرأ ابن مسعود والأعمش " وإن إدريس لمن المرسلين " و " سلام على إدريس " وروى هذه القراءة قطرب وغيره وإن إدراسين وإدراس لغة في إدريس كإبراهيم وإبراهام ، وقوله { أتدعون } معناه أتعبدون ، والبعل الرب بلغة اليمن قاله عكرمة وقتادة ، وسمع ابن عباس رجلاً ينشد ضالة فقال له رجل آخر : أنا بعلها ، فقال ابن عباس الله أكبر أتدعون بعلاً ، وقال الضحاك وابن زيد والحسن { بعلاً } اسم صنم كان لهم وله يقال بعلبك وإليه نسب الناس ، وذكر ابن إسحاق عن فرقة أن { بعلاً } اسم امرأة كانت أتتهم بضلالة ، وقوله { أحسن الخالقين } من حيث قيل للإنسان على التجوز إنه يخلق وجب أن يكون تعالى { أحسن الخالقين } إذ خلقه اختراع وإيجاد من عدم وخلق الإنسان مجاز كما قال الشاعر : [ الكامل أقذ ] .
ولأنت تفري ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
(5/427)

اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
قرأ حمزة والكسائي وعاصم " الله " بالنصب " ربَّكم وربَّ آبائكم " كل ذلك بالنصب على البدل من قوله { أحسن الخالقين } [ المؤمنين : 14 ، الصافات : 125 ] ، وقرأ الباقون وعاصم أيضاً " ربُّكم وربُّ آبائكم " كل ذلك بالرفع على القطع والاستئناف ، والضمير في { كذبوه } عائد على قوم إلياس ، و { محضرون } معناه مجمعون لعذاب الله وقد تقدم تفسير مثل ما بقي من الآية وتقدم القول أيضاً في قوله { سلام على آل ياسين } ، و " لوط " عليه السلام هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام وقيل ابن أخته وقد تقدم تفسير قصته بكاملها ، وامرأته هي العجوز المهلكة ، وكانت كافرة فإما كانت متسترة منه عليه السلام ، وإما كانت معلنة وكان نكاح الوثنيات والإقامة عليهن جائزاً ، و " الغابرون " الباقون ، غبر بمعنى بقي ومعناه هنا بقيت في الهلاك ، ثم خاطب تعالى قريشاً أو هو على معنى قل لهم يا محمد { وإنكم لتمرون عليهم } في الصباح وفي الليل فواجب أن يقع اعتباركم ونظركم ثم وبخهم تعالى بقوله { أفلا تعقلون } .
(5/428)

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
وهذا { يونس } بن متى صلى الله عليه وسلم ، وهو من بني إسرائيل ، وروي أنه نبىء ابن ثمانية وعشرين سنة فتفسخ تحت أعباء النبوءة كما يتفسخ الربع تحت الحمل ، وقد تقدم شرح قصته ولكن نذكر منها ما تفهم به هذه الألفاظ ، فروي أن الله بعثه إلى قومه فدعاهم مرة فخالفوه فوعدهم بالعذاب ، وأعلمه الله تعالى بيومه فحدده يونس لهم ، ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم ، وكان في هذا تجربة ليونس فلحقت يونس غضبة ، ويروى أنه كان في سيرتهم أن يقتلوا الكذاب إذا لم تقم له بينة ، فخافهم يونس وغضب مع ذلك ف { أبق إلى الفلك } أي أراد الهروب ودخل في البحر وعبر عن هروبه بالإباق ، من حيث هو عبد الله فر عن غير إذن مولاه ، فهذه حقيقة الإباق ، و { الفلك } في هذا الموضع واحد ، و { المشحون } الموقر ، وهنا قصص محذوف إيجازاً واختصاراً ، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه لما حصل في السفينة وأبعدت في البحر ركدت ولم تجر ، والسفن تجري يميناً وشمالاً فقال أهلها إن فينا لصاحب ذنب وبه يحبسنا الله تعالى فقالوا لنفترع ، فأخذوا لكل أحد سهماً وقالوا اللهم ليطف سهم المذنب ، ولتغرق سهام الغير فطفا سهم يونس ، ففعلوا نحو هذا ثلاث مرات في كل مرة تقع القرعة عليه ، فأزمعوا معه على أن يطرحوه في البحر فجاء إلى ركن من أركان السفينة ليقع منه فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له فرجع إلى الركن الآخر فوجدها كذلك حتى استدار أركان السفينة ليقع منه بالمركب وهي لا تفارقه فعلم أن ذلك عن دالله فترامى إليها فالتقمته ، وروي أنما التقمته بعد أن وقع في الماء ، وروي أن الله أوحى إلى الحوت أني لم أجعل يونس لك رزقاً وإنما جعلت بطنك له حرزاً وسجناً فهذا معنى { فساهم } أي قارع وكذلك فسر ابن عباس والسدي ، و " المدحض " الزاهق المغلوب في محاضة أو مساهمة أو مسابقة ومنه الحجة الداحضة ، و " المليم " الذي أتى ما يلام عليه ، ألام الرجل دخل في اللوم ، وبذلك فسر مجاهد وابن زيد ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
وكم من مليم لم يصب بملامة ... ومتبع بالذنب ليس له ذنب
ومنه قول لبيد بن ربيعة : [ الكامل ]
سفهاً عذْلتَ ولمت غير مليم ... وهداك قبل اليوم غير حكيم
ثم استنقذه الله من بطن الحوت بعد مدة واختلف الناس فيها ، فقالت فرقة بعد ساعة من النهار ، وقالت فرقة بعد سبع ساعات ، وقال مقاتل بن حيان بعد ثلاثة أيام ، وقال عطاء بن أبي رباح بعد سبعة أيام ، وقالت فرقة بعد أربعة عشر يوماً ، وقال أبو مالك والسدي بعد أربعين يوماً ، وهو قول ابن جريج أنه بلغه وجعل تعالى علة استنقاذه مع القدر السابق تسبيحه ، واختلف الناس في ذلك فقال ابن جريج هو قوله في بطن الحوت سبحان الله ، وقالت فرقة بل التسبيح وصلاة التطوع ، واختلفت هذه الفرقة ، فقال قتادة وابن عباس وأبو العالية صلاته في وقت الرخاء نفعته في وقت الشدة ، وقال هذا جماعة من العلماء ، وقال الضحاك بن قيس على منبره اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إن يونس كان عبداً لله ذاكراً فلما أصابته الشدة نفعه ذلك ، قال الله عز وجل : { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } ، وإن فرعون كان طاغياً باغياً فلما أدركه الغرق قال آمنت فلم ينفعه ذلك ، فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة .
(5/429)

وقال قتادة في الحكمة : إن العمل يرفع صاحبه إذ عثر فإذا صرع وجد متكئاً ، وقال الحسن بن أبي الحسن : كانت سبحته صلاة في بطن الحوت ، وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه ويقول يا رب لأبنين لك مسجداً حيث لم يبنه أحد قبلي ويصلي ، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يونس حين نادى في الظلمات ، ارتفع نداؤه إلى العرش فقالت الملائكة : يا رب هذا صوت ضعيف من موضع غربة ، فقال الله هو عبدي يونس فأجاب الله دعوته .
قال القاضي أبو محمد : وذكر الحديث وقال ابن جبير الإشارة بقوله { من المسبحين } إلى قوله { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] .
قال القاضي أبو محمد : وكثر الناس في هذا القصص بما اختصرناه لعدم الصحة ، وروي أن الحوت مشى به في البحار كلها حتى قذفه في نصيبين من ناحية الموصل فنبذه الله في عراء من الأرض ، و " العراء " الفيفاء التي لا شجر فيها ولا معلم ومنه قول الشاعر :
رفعت رجلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وقال السدي وابن عباس في تفسير قوله { وهو سقيم } ، إنه كان كالطفل المنفوش بضعة لحم ، وقال بعضهم كان كاللحم النيء إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء فأنعشه الله في ظل " اليقطينة " بلبن أروية كانت تغاديه وتراوحه ، وقيل بل كان يتغذى من اليقطينة ، ويجد منها ألوان الطعام ، وأنواع شهواته واختلف الناس في " اليقطينة " فقالت فرقة هي شجرة لا نعرفها سماها الله باليقطينة وهي لفظة مأخوذة من قطن إذا أقام بالمكان ، وقال سعيد بن جبير وابن عباس والحسن ومقاتل اليقطين كل ما لا يقوم على ساق من عود كالبقول والقرع والحنظل ، والبطيخ ونحوه مما يموت من عامه ، وروي نحوه عن مجاهد ، وقال ابن عباس وأبو هريرة وعمرو بن ميمون " اليقطين " القرع خاصة .
(5/430)

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذين القولين فإما أن يكون قوله { شجرة } تجوزاً وإما أن يكون أنبتها عليه ذات ساق خرقاً للعادة ، لأن الشجرة في كلام العرب إنما يقال لما كان على ساق من عود ، وحكى بعض الناس أنها كانت قرعة وهي تجمع خصالاً برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقربها ، وحكى النقاش أن ماء ورق القرعة إذا رش بمكان لم يقربه ذباب ، ومشهور اللغة أن " اليقطين " القرع وقد قال أمية بن أبي الصلت في قصة يونس : [ الطويل ]
فأنبت يقطيناً عليه برحمة ... من الله لولا الله ألفي ضاحيا
فنبت يونس عليه السلام وصح وحسن جسمه لأن ورق القرع أنفع شيء لمن تسلخ جلده كيونس صلى الله عليه وسلم ، وروي أنه كان يوماً نائماً فأيبس الله تلك اليقطينة ، وقيل بعث عليها الأرضة فقطعت عروقها فانتبه يونس لحر الشمس فعز عليه شأنها وجزع له ، فأوحى الله تعالى إليه : يا يونس أجزعت ليبس اليقطينة ولم تجزع لإهلاك مائة ألف أو يزيدون تابوا فتيب عليهم .
(5/431)

وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
قال الجمهور إن هذه الرسالة { إلى مائة ألف } في رسالته الأولى التي أبق بعدها ، ذكرها الله في آخر القصص تنبيهاً على رسالته ، ويدل على ذلك قوله { فآمنوا فمتعناهم إلى حين } ، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس حتى أبق ، وقال قتادة وابن عباس أيضاً هذه الرسالة أخرى بعد أن نبذ بالعراء وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل ، وقرأ جعفر بن محمد ، " ويزيدون " بالواو ، وقرأ الجمهور " أو يزيدون " ، فقال ابن عباس " أو " بمعنى " بل " ، وكانوا مائة ألف وثلاثين ألفاً ، وقال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم " كانوا مائة وعشرين ألفاً " ، وقال ابن جبير : كانوا مائة وسبعين ألفاً ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ " إلى مائة ألف بل يزيدون " ، وقالت فرقة { أو } هنا بمعنى الواو ، وقالت فرقة هي للإبهام على المخاطب ، كما تقول ما عليك أنت أنا أعطي فلاناً ديناراً أو ألف دينار ، ونحو هذا قوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } [ آل عمران : 128 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى قليل التمكن في قوله { أو يزيدون } ، وقال المبرد وكثير من البصريين : المعنى على نظر البشر وحزرهم ، أي من رآهم قال : هم مائة ألف أو يزيدون ، وروي في قوله تعالى : { فآمنوا فمتعناهم } فمتعهم { إلى حين } أنهم خرجوا بالأطفال أولاد البهائم وفرقوا بينها وبين الأمهات وناحوا وضجوا وأخلصوا فرفع الله عنهم ، والتمتيع هنا هو بالحياة و " الحين " آجالهم السابقة في الأزل ، قاله قتادة والسدي ، وقرأ ابن أبي عبلة " حتى حين " ، وفي قوله تعالى : { فآمنوا فمتعناهم إلى حين } مثال القريش أي أن آمنوا كما جرى لهؤلاء ، ومن هنا حسن انتقال القول والمحاورة إليهم بقوله ، { فاستفتهم } فإنما يعود ضميرهم على ما في المعنى من ذكرهم ، والاستفتاء السؤال ، وهو هنا بمعنى التقريع والتوبيخ ، على قولهم على الله البهتان وجعلهم البنات لله تعالى عن ذلك وأمره بتوقيفهم على جهة التوبيخ أيضاً هل شاهدوا أن الملائكة إناث فيصح لهم القول به ، ثم أخبر تعالى عن فرقة منهم بلغ بها الإفك والكذب إلى أن قالت ولد الله الملائكة لأنه نكح في سروات الجن وهذه فرقة من بني مدلج فيما روي ، وقرأ جمهور الناس " اصطفى " بالهمز وهو ألف الاستفهام وهذا على جهة التقرير والتوبيخ على نسبتهم إليه اختيار الأدنى عندهم ، وقرأ نافع في رواية إسماعيل عنه " اصطفى " بصلة الألف على الخبر كأنه يحكي شنيع قولهم ، ورواها إسماعيل عن أبي جعفر وشيبة ، ثم قرر ووبخ وعرض للتذكر والنظر واستفهم عن البرهان والحجة على جهة التقرير وضمهم الاستظهار بكتاب أو أمر يظهر صدقهم ، وقرأ الجمهور " أفلا تذّكّرون " مشددة الذال والكاف ، وقرأ طلحة بن مصرف " تذْكُرون " بسكون الذال وضم الكاف خفيفة .
(5/432)

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
الضمير في قوله { وجعلوا } لفرقة من كفار قريش والعرب ، قال ابن عباس في كتاب الطبري إن بعضهم قال إن الله تعالى وإبليس أخوان ، وقال مجاهد : قال قوم لأبي بكر الصديق : إن الله تعالى نكح في سروات الجن ، وقال بعضهم إن الملائكة بناته ، ف { الجنة } على هذا القول الأخير يقع على الملائكة سميت بذلك لأنها مستجنة أي مستترة ، وقوله تعالى : { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } من جعل الجنة الشياطين جعل العلامة في { علمت } لها ، والضمير في { إنهم } عائد عليهم أي جعلوا الشياطين بنسب من الله والشياطين تعلم ضد ذلك من أنها ستحضر أمر الله وثوابه وعقابه ، ومن جعل الجنة الملائكة جعل الضمير في { إنهم } للقائلين هذه المقالة أي علمت الملائكة أن هؤلاء الكفرة سيحضرون ثواب الله وعقابه وقد يتداخل هذان القولان ، ثم نزه تعالى نفسه عما يصفه الناس ولا يليق به ، ومن هذا استثنى العباد المخلصين لأنهم يصفونه بصفاته العلى ، وقالت فرقة استثناهم من قوله { إنهم لمحضرون } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يصح على قول من رأى الجنة الملائكة ، وقوله تعالى : { فإنكم وما تعبدون } بمعنى قل لهم يا محمد إنكم وإصنامكم ما أنتم بمضلين أحداً بسببها ، وعليها الأمر سبق عليه القضاء وضمه القدر ، بأنه يصلى الجحيم في الآخرة ، وليس عليكم إضلال من هدى الله تعالى ، وقالت فرقة { عليه } ، بمعنى به ، و " الفاتن " المضل في هذا الموضع وكذلك فسر ابن عباس والحسن بن أبي الحسن ، وقال ابن الزبير على المنبر : إن الله هو الهادي والفاتن ، و { من } في موضع نصب { بفاتنين } ، وقرأ الجمهور " صالِ الجحيم " بكسر اللام ، من صال حذفت الياء للإضافة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن " صالُ الجحيم " بضم اللام وللنحاة في معناه اضطراب ، أقواه أنه صالون حذفت النون للإضافة ، ثم حذفت الواو للالتقاء وخرج لفظ الجميع بعد لفظ الإفراد ، فهو كما قال { ومنهم من يستمعون } [ يونس : 42 ] لما كانت " من " و " هو " من الأسماء التي فيها إبهام ويكنى بها عن أفراد وجمع ثم حكى قول الملائكة ، { وما منا } وهذا يؤيد أن الجنة أراد بها الملائكة كأنه قال ولقد علمت كذا أو أن قولها لكذا ، وتقدير الكلام ما منا ملك ، وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن السماء ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو واقف يصلي " ، وقال ابن مسعود " موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه " ، وقرأ ابن مسعود " وإن كلنا لما له مقام معلوم " ، و { الصافون } معناه الواقفون صفوفاً ، و { المسبحون } يحتمل أن يريد به الصلاة ، يحتمل أن يريد به قول سبحان الله ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أقيمت الصلاة صرف وجهه إلى الناس فيقول لهم : عدلوا صفوفكم وأقيموها فإن الله تعالى إنما يريد بكم هدي الملائكة ، فإنها تقول { وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون } ، ثم يرى تقويم الصفوف ، وعند ذلك ينصرف ويكبر ، قال الزهراوي : قيل إن المسلمين إنما اصطفوا منذ نزلت هذه الآية ، ولا يصطف أحد من أهل الملل غير المسلمين ، ثم ذكر عز وجل مقالة بعض الكفار ، وقال قتادة والسدي والضحاك فإنهم قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا لو كان لنا كتاب أو جاءنا رسول لكنا من أتقى عباد الله وأشدهم إخلاصاً فلما جاءهم محمد كفروا فاستوجبوا أليم العقاب .
(5/433)

فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
قوله تعالى : { فسوف يعلمون } ، وعيد محض لأنهم تمنوا أمراً فلما جاءهم الله تعالى به كفروا واستهواهم الحسد ، ثم أنس تعالى نبيه وأولياءه بأن القضاء قد سبق ، والكلمة قد حقت في الأزل بأن رسل الله تعالى إلى أرضه هم { المنصورون } على من ناوأهم المظفرون بإرادتهم المستوجبون الفلاح في الدارين ، وقرأ الضحاك " كلماتنا " بألف على الجمع ، وجند الله هم الغزاة لتكون كلمات الله هي العليا ، وقال علي بن أبي طالب : جند الله في السماء الملائكة ، وفي الأرض الغزاة وقوله تعالى ، { فتول عنهم حتى حين } وعد للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالموادعة ، وهذا مما نسخته آية السيف ، واختلف الناس في المراد ب " الحين " ، هنا ، فقال السدي : الحين المقصود يوم بدر ورجحه الطبري ، وقال قتادة : الحين موتهم ، وقال ابن زيد : الحين المقصود يوم القيامة ، وقوله تعالى : { وأبصرهم فسوف يبصرون } وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم أي سوف يرون عقبى طريقتهم ، ثم قرر تعالى نبيه على جهة التوبيخ لهم على استعجالهم عذاب الله ، وقرأ جمهور الناس " فإذا نَزَل بساحتهم " على بناء الفعل للفاعل أي نزل العذاب ، وقرأ ابن مسعود " نُزِل بساحتهم " على بنائه للمفعول ، والساحة الفناء ، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من خير أو شر ، وسوء الصباح أيضاً مستعمل في ورود الغارات والرزايا ، ونحو ذلك ومنه قول الصارخ : يا صباحاه! كأنه يقول قد ساء لي الصباح فأغيثوني ، وقرأ ابن مسعود " فبئس صباح " ، ثم أعاد عز وجل أمر نبيه بالتولي تحقيقاً لتأنيسه وتهمماً به ، وأعاد وتوعدهم أيضاً لذلك ، ثم نزه نفسه تنزيهاً مطلقاً عن جميع ما يمكن أن يصفه به أهل الضلالات ، و { العزة } في قوله { رب العزة } هي العزة المخلوقة الكائنة ، للأنبياء والمؤمنين وكذلك قال الفقهاء من أجل أنها مربوبة ، وقال محمد بن سحنون وغيره : من حلف بعزة الله فإن كان أراد صفته الذاتية فهي يمين ، وإن كان أراد عزته التي خلقها بين عباده وهي التي في قوله { رب العزة } فليست بيمين ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا سلمتم عليَّ فسلموا على المرسلين ، فإنما أنا أحدهم " ، وباقي الآية بين ، وذكر أبو حاتم عن صالح بن ميناء قال : قرأت على عاصم بن أبي النجود فلما ختمت هذه السورة سكت فقال لي : إيه اقرأ ، قلت قد ختمت ، فقال كذلك فعلت على أبي عبد الرحمن وقال لي كما قلت لك ، وقال لي كذلك قال لي علي بن أبي طالب وقال : " وقل آذنتكم باذانة المرسلين لتسألن عن النبإ العظيم " ، وفي مصحف عبد الله " عن هذا النبإ العظيم " .
(5/434)

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
قرأ الحسن وأبي بن كعب وابن أبي إسحاق : " صادِ " بكسر الدال على أنه أمر من صادى يصادي إذا ضاهى وماثل ، أي صار كالصدى الذي يحكي الصياح ، والمعنى : ماثل القرآن بعلمك وقارنه بطاعتك ، وهكذا فسر الحسن ، أي انظر أين عملك منه ، وقال جمهور الناس : إنه حرف المعجم المعروف ، ويدخله ما يدخل سائر أوائل السور من الأقوال ، ويختص هذا الموضع بأن قال بعض الناس : معناه صدق محمد ، وقال الضحاك معناه : صدق الله ، وقال محمد بن كعب القرظي : هو مفتاح أسماء الله : صمد صادق الوعد ، صانع المصنوعات ، وقرأها الجمهور : " صادْ " بسكون الدال ، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف عنه " صادٍ " بكسر الدال وتنوينها على القسم ، كما تقول : الله لأفعلن . وحكى الطبري وغيره عن ابن أبي إسحاق : " صادِ " بدون تنوين ، وألحقه بقول العرب : خاث باث ، وخار وباز . وقرأ فرقة منها عيسى بن عمر : " صادَ " بفتح الدال ، وكذلك يفعل في نطقه بكل الحروف ، يقول : قافَ ، ونونَ ، ويجعلها كأين وليت : قال الثعلبي ، وقيل معناه : صاد محمد القلوب ، بأن استمالها للإيمان .
وقوله : { والقرآن ذي الذكر } قسم . وقال السدي وابن عباس وسعيد بن جبير ، معناه ذي الشرف الباقي المخلد . وقال قتادة والضحاك : ذي التذكرة للناس والهداية لهم . وقالت فرقة معناه : ذي الذكر لأمم والقصص والغيوب . وأما جواب القسم فاختلف فيه ، فقالت فرقة : الجواب في قوله : { ص } إذ هو بمعنى صدق محمد ، أو صدق الله . وقال الكوفيون والزجاج ، الجواب قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] . وقال البصريين ومنهم الأخفش ، الجواب في قوله : { إن كل كذب الرسل } [ ص : 14 ] .
قال القضي أبو محمد : وهذان القولان بعيدان .
وقال قتادة والطبري : الجواب مقدر قبل بل ، وهذا هو الصحيح ، تقديره : والقرآن ما الأمر كما يزعمون ، ونحو هذا من التقدير فتدبره . وحكى الزجاج عن قوم أن الجواب قوله : { كم أهلكنا } وهذا متكلف جداً . والعزة هنا : المعازة والمغالبة . والشقاق : نحوه أي هم في شق ، والحق في شق . و : { كم } للتكثير ، وهي خبر فيه مثال ووعيد ، وهي في موضع نصب ب { أهلكنا } . والقرن الأمة من الناس يجمعها زمن احد ، وقد تقدم تحريره مراراً .
وقوله : { فنادوا } معناه : مستغيثين ، والمعنى أنهم فعلوا ذلك بعد المعاينة فلم ينفع ذلك ، ولم يكن في وقت نفع . { ولات } بمعنى : ليس ، واسمها مقدر عند سيبويه ، تقديره ولات الحين حين مناص ، وهي : لا ( لحقتها : تاء ، كما تقول ) ربت وثمت . قال الزجاج : وهي كتاء جلست وقامت ، تاء الحروف كتاء لأفعال دخلت على ما لا يعرب في الوجهين ، ولا تستعمل " لا " مع التاء إلا في الحين والزمان والوقت ونحوه ، فمن ذلك قول الشاعر [ محمد بن عيسى بن طلحة ] : [ الكامل ]
(5/435)

لات ساعة مندم ... وقال الآخر : [ الوافر ]
تذكر حب ليلى لات حينا ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا
وأنشد بعضهم في هذا المعنى : [ الخفيف ]
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
وأنشد الزجاج بكسر التاء ، وهذا كثير ، قراءة الجمهور : فتح التاء من : " لاتَ " والنون من : " حينَ " وروي عن عيسى كسر التاء من : " لاتِ " ونصب النون . وروي عنه أيضاً : " حينِ " بكسر النون ، واختلفوا في الوقف على : { لات } فذكر الزجاج أن الوقف بالتاء ، ووقف الكسائي بالهاء ، ووقف قوم واختاره أبو عبيد على " لا " ، وجعلوا التاء موصولة ب { حين } ، فقالوا " لا تحين " ، وذكر أبو عبيد أنها كذلك في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ويحتج لهذا بقول أبي وجزة : [ الكامل ]
العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم
يمدح آل الزبير . وقرأ بعض الناس : " لات حينُ " برفع النون من : { حين } على إضمار الخبر . والمناص : المفر ، ناص ينوص ، إذا فات وفر ، قال ابن عباس : المعنى ليس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم . والضمير في : { عجبوا } لكفار قريش ، واستغربوا أن نبىء بشر منهم فأنذرهم ، وأن وحد إلهاً ، وقالوا : كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمرهم؟ و : { عجاب } بناء مبالغة ، كما قالوا سريع وسراع ، وهذا كثير .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر : " عجّاب " بشد الجيم ، ونحوه قول الراجز : [ الراجز ]
جاؤوا بصيد عجب من العجب ... أزيد والعينين طوال الذنب
وقد قالوا : رجل كرام ، أي كريم .
(5/436)

وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
روي في قصص هذه الآية أن أشراف قريش وجماعتهم اجتمعوا عند مرض أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن من القبيح علينا أن يموت أبو طالب ونؤذي محمداً بعده ، فتقول العرب : تركوه مدة عمه ، فلما مات آذوه ، ولكن لنذهب إلى أبي طالب فلينصفنا منه ، وليربط بيننا وبينه ربطاً ، فنهضوا إليه ، فقالوا يا أبا طالب إن محمداً يسب ويسفه آراءنا وآراء آبائنا ونحن لا نقاره على ذلك ، ولكن افصل بيننا وبينه في حياتك ، بأن يقيم في منزله يعبد ربه الذي زعم ، ويدع آلهتنا ، ولا يعرض لأحد منا بشىء من هذا ، فبعث أبو طالب في محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال يا محمد ، إن قومك قد دعوك إلى النصفة ، وهي أن تدعهم وتعبد ربك وحدك ، فقال : أو غير لك يا عم؟ قال وما هو؟ قال : يعطوني كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم الجزية بها العجم قالوا وما هي؟ فإنا نبادر إليها ، قال : لا إله إلا الله ، فنفروا عند ذلك ، وقالوا ما يرضيك منا غير هذا؟ قال : والله لو أعطيتموني الأرض ذهباً ومالاً . وفي رواية : لو جعلتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما أرضاني منكم غيرها ، فقاموا عند ذلك ، وبعضهم يقول : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً ، إن هذا لشيء عجاب } [ ص : 5 ] ويرددون هذا المعنى ، وعقبة بن أبي معيط يقول : { امشوا واصبروا على آلهتكم } .
وجلبت هذا الخبر تام المعنى ، وفي بعض رواياته زيادة ونقصان ، والغرض متقارب ، ولما ذهبوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عم ، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله " ، فقال : والله لولا أن تكون سبة في بني بعدي لأقررت بها عينك ، ومات وهو يقول : على ملة عبد المطلب ، فنزلت في ذلك : { إنك لا تهدي من أحببت } [ القصص : 56 ] وانطلق .
فقوله تعالى في هذه الآية : { وانطلق الملأ } عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وانطلاقهم من ذلك الجمع ، هذا قول جماعة من المفسرين . وقالت فرقة : هي عبارة عن إذاعتهم لهذه الأقاويل ، فكأنه كما يقول الناس : انطلق الناس بالدعاء للأمير ونحوه ، أي استفاض كلامهم بذلك ، و { الملأ } الأشراف والرؤوس الذي يسدون مسد الجميع في الآراء ونحوه .
وقوله : { أن امشوا } { أن } مفسرة لا موضع لها في الإعراب ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، أي بأن ، فهي بتقدير المصدر ، كأنه قال : وانطلق الملأ منهم بقولهم : امشوا ومعنى الآية أنه قال بعضهم لبعض امشوا واصبروا على كل أمر آلهتكم ، وذهب بعض الناس إلى أن قولهم : { امشوا } ، هو دعاء بكسب الماشية ، وفي هذا ضعف ، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطوعة ، لأنه إنما يقال : أمشي الرجل إذا صار صاحب ماشية ، وأيضاً فهذا المعنى غير متمكن في الآية ، وإنما المعنى : سيروا على طريقتكم ودوموا على سيركم ، أو يكون المعنى : أمر من نقل الأقدام ، قالوه عند انطلاقهم ، وهو في مصحف عبد الله بن مسعود : " وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا " .
(5/437)

وقولهم : { إن هذا لشيء يراد } يريدون ظهور محمد وعلوه بالنبوة ، أي يراد منا : الانقياد إليه : وقولهم : { ما سمعنا بهذا } يريدون بمثل هذه المقالة أن الإله واحد .
واختلف المتأولون في قولهم : { في الملة الآخرة } فقال مجاهد : أرادوا ملتهم ونحلتهم التي العرب عليها ، ويقال لكل ما تتبعه أمة ما ملة . وقال ابن عباس والسدي : أراد ملة النصارى ، وذلك متجه ، لأنها ملة شهير فيها التثليث ، وأن الإله ليس بواحد . وقالت فرقة معنى قولهم : { ما سمعنا } أنه يكون مثل هذا ، ولا أنه يقال في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون آخر الزمان ، وذلك أنه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين ، ويدل على صحة هذا ما روي من قول الأحبار ذوي الصوامع ، وروي عن شق وسطيح ، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم .
وقولهم : { إن هذا إلا اختلاق } إشارة إلى جميع ما يخبر به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ، ثم قالوا على جهة التقرير من بعضهم لبعض ، ومضمن ذلك الإنكار : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } بمعنى نحن الأشراف الأعلام ، فلم خص هذا؟ وكيف يصح هذا؟ فرد الله تعالى قولهم بما تقضيه بل ، لأن المعنى ليس تخصيص الله وإنعامه جار على شهواتهم ، { بل هم في شك من ذكري } أي في ريب أن هذا التذكير بالله حق ، ثم توعدهم بقوله : { بل لما يذوقوا عذاب } أي لو ذاقوه لتحققوا أن هذه الرسالة حق ، أي هم لجهالتهم لا يبين لهم النظر ، وإنما يبين لهم مباشرة العذاب .
وقرأ ابن مسعود : " أم أنزل " بميم بين الهمزتين ، ثم وقفهم احتجاجاً عليهم ، أعندهم رحمة ربك وخزائنها التي فيها الهدى والنبوءة وكل فضل ، فيكون لهم تحكم في الرسالة وغيرها من نعم الله . و { أم } : هنا ، لم تعادلها ألف ، فهي المقطوعة التي معناها إضراب عن الكلام الأول واستفهام ، وقدرها سيبويه ب " بل " والألف كقول العرب : إنها لإبل أم شاء . والخزائن للرحمة مستعارة ، كأنها موضع جمعها وحفظها من حيث كانت ذخائر البشر تحتاج إلى ذلك خوطبوا في الرحمة بما ينحوا إلى ذلك . وقال الطبري : يعني ب " الخزائن " المفاتيح ، والأول أبين ، والله أعلم .
(5/438)

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
{ أم } في هذه الآية معادلة للألف المقدرة في { أم } [ ص : 9 ] الأولى ، وكأنه تعالى يقول في هذه الآية : أم لهم هذا الملك فتكون النبوءة والرسالة على اختيارهم ونظرهم فليرتقوا في الأسباب إن كان الأمر كذلك ، أي إلى السماء ، قاله ابن عباس . و { الأسباب } : كل ما يتوصل به إلى الأشياء ، وهي هنا بمعنى الحبال والسلاليم . وقال قتادة : اراد أبواب السماء .
وقوله تعالى : { جند من هنالك مهزوم } اختلف المتأولون في الإشارة ب { هنالك } إلى ما هي؟ فقالت فرقة : أشار إل الارتقاء في الأسباب ، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم ، وهذا قوي . وقالت فرقة : الإشارة ب { هنالك } إلى حماية الأصنام وعضدها ، أي هؤلاء القوم حند مهزوم في هذه السبيل وقال مجاهد : الإشارة ب { هنالك } ، إلى يوم بدر ، وكان غيب أعلم الله به على لسان رسوله ، أي جند المشركين يهزمون ، فخرج في بدر . وقالت فرقه : الإشارة إل حصر عام الخندق بالمدينه .
وقوله : { من الأحزاب } أي من جملة أجزاب الأمم الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل فأخذهم الله تعالى . و { ما } ، في قوله : { جند ما } زائدة مؤكدة وفيها تخصيص .
واختلف المتأولون في قوله : { ذي الأوتاد } ، فقال ابن عباس وقتادة سمي بذلك لأنه كانت له أوتاد وخشب يلعب له بها وعليها . وقال السدي : كان يقتل الناس بالأوتاد ، يسمرهم في الأرض بها . وقال الضحاك : أراد المباني العظام الثابتة ، وهذا أظهر الأقوال ، كما يقال للجبال أوتاد لثبوتها ، ويحتمل أن يقال له ذو أوتاد عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره ، ونحو من هذا قولهم : أهل العمود .
وقرأت فرقة : " ليكة " . وقرأت فرقة : " الأيكة " ، وقد تقدم القول في شرح ذلك في سورة الشعراء ، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء المذكورين هم الأحزاب ، وضرب بهم المثل لقريش في أنهم كذبوا ، ثم أخبر أن عقابه حق على جميعهم ، أي فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بمحمد وفي قراءة ابن مسعود : " إن كل لما " . وحكى أبو عمرو الداني إن فيها . " إن كلهم إلا كذب " .
(5/439)

وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
{ ينظر } بمعنى ينتظر ، وهذا إخبار من الله لرسوله صدقه الوجود ، ف " الصيحة " على هذا عبارة عن جميع ما نابهم من قتل وأسر وغلبة ، وهذا كما تقول : صاح فيهم الدهر . وقال قتادة : توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور . قال الثعلبي : روي هذا التفسير مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه سلم . وقالت طائفة : توعدهم بصيحة يهلكون بها في الدنيا ، وعلى هذين التأويلين فمعنى الكلام أنهم بمدرج عقوبة وتحت أمر خطير ، ما ينتظرون فيه إلا الهلكة ، وليس معناه التوعد بشيء معين ينتظره محمد فيه كالتأويل الأول .
وقرأ جمهور القراء : " فَواق " بفتح الفاء . وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن : " فُواق " بضم الفاء . قال ابن عباس وغيره : هما بمعنى واحد ، أي ما لها من انقطاع وعودة ، بل هي متصلة حتى تهلكهم ، ومنه فواق الحلب : المهلة التي بين الشخبين : وجعلوه مثل قصاص الشعر وقصاص وغيره ذلك ، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من رابط فوق ناقة حرم الله جسده على النار " وقال ابن زيد وأبو عبيدة ومؤرج والفراء : المعنى مختلف : الضم كما تقدم من معنى فواق الناقة ، والفتح بمعنى الإفاقة ، أي ما يكون لهم بعد هذه الصيحة إفاقة ولا استراحة ، ف " فواق " : مثل جواب ، من أجاب .
ثم ذكر عز وجل عنهم أنهم قالوا : { ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب } والقط : الحظ والنصيب ، والقط أيضاً : الصك والكتاب من السلطان بصلة ونحوه ، ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويافق
وهو من قططت ، أي قطعت .
واختلف الناس في " القط " هنا ما أرادوا به ، فقال سعيد بن جبير : أرادوا به عجل لنا نصيبنا من الخير والنعيم في دنيانا . وقال أبو العالية والكلبي : أرادوا عجل لنا صحفنا بإيماننا ، وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطى يوم القيامة بالأيمان والشمائل ، قالوا ذلك . وقال ابن عباس وغيره : أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه ، فهذا نظير قولهم : { فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 42 ] وقال السدي ، المعنى : أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك ، وعلى كل تأويل ، فكلامهم خرج على جهة الاستخفاف والهزء ، ويدل على ذلك ما علم من كفرهم واستمر ، ولفظ الآية يعطي إقراراً بيوم الحساب .
وقوله تعالى : { اصبر على ما يقولون } أي من هذه الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف ولا يلتفت إليها : واذكر داود ذا الأيد في الدين والشرع والصدع به ، فتأس به وتأيد كما تأيد ، و : { الأيد } القوة ، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوته على الطاعة . و { الأواب } الرجاع إلى طاعة الله ، وقاله مجاهد وابن زيد ، وفسره السدي بالمسبح ، وذكر الثعلبي أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الزرقة يمن .
(5/440)

وكان داود أزرق .
وأخبر تعالى عما وهب لداود من الكرامة في أن سخر الجبال تسبح بعه ، وظاهر الآية عموم الجبال . وقالت فرقة : بل هي الجبال التي كان فيها وعندها ، وتسبيح الجبال ها حقيقة . { والإشراق } وقت ضياء الشمس وارتفاعها ، ومنه قولهم : أشرق ثبير ، أي ادخل في الشروق ، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل . وقال ابن عباس : صلاة الضحى عندنا هي صلاة الإشراق ، وهي في هذه الآية .
وقوله تعالى : { والطير } عطف على { الجبال } ، أي وسخرنا الطير ، و { محشورة } نصب على الحال ، ومعناه : مجموعة .
وقرأ ابن أبي عبلة : " والطيرُ محشورة " بالرفع فيهما . والضمير في : { له } قالت فرقة : هو عائد على داود ، ف { كل } للجبال والطير .
وقوله تعالى : { وشددنا ملكه } عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة ، وقد خصص بعض المفسرين في ذلك أشياء دون أشياء ، فقال السدي : بالجنود . وقال آخرون : بهيبة جلعها الله تعالى له .
وقرأ الجمهور : " وشدَدنا " بتخفيف الدال الأولى ، وروي عن الحسن : " شدّدنا " بشدها على المبالغة .
و { الحكمة } : الفهم في الدين وجودة النظر ، هذا قول فرقة . وقالت فرقة : أراد ب { الحكمة } النبوءة . وقال أبو العالية : { الحكمة } العلم الذي لا ترده العقول .
قال القاضي أبو محمد : هي عقائد البرهان واختلف الناس في { فصل الخطاب } ، فقال ابن عباس ومجاهد والسدي : فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه . وقال علي بن أبي طالب وشريح والشعبي : { فصل الخطاب } إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعي . وقال الشعبي أيضاً وزياد : أراد قول أما بعد ، فإنه أول من قالها ، والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه ، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف ، وهذه صفة قليل من يدركها ، فكان كلامه عليه السلام فصلاً ، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن : { إنه لقول فصل } [ الطارق : 13 ] ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير ، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله : " وأعطيت جوامع الكلم " فإنها في الخلال التي لم يؤتها أحد قبله ، ذكر جوامع الكلم معدودة في ذلك مسلم .
(5/441)

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم واستفتحت بالاستفهام تعجيباً من القصة وتفخيماً لها ، لأن المعنى : هل أتاك هذا الأمر العجيب الذي هو عبرة ، فكأن هذا الاستفهام إنما هو تهيئة نفس المخاطب وإعدادها للتلقي . و { الخصم } جار مجرى عدل وزور ، يوصف به الواحد والاثنان والجميع ، ومنه قول لبيد : [ الطويل ]
وخصم يعدو الذخول كأنهم ... قروم غيارى كل أزهر مصعب
وتحتمل هذه الآية أن يكون المتسور للمحراب اثنين فقط ، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين ، فتجيء الضمائر في : { تسوروا } و : { دخلوا } و : { قالوا } على جهة التجوز ، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجمع ، ويحتمل أنه جاء مع كل فرقة ، كالعاضدة والمؤنسة ، فيقع على جميعهم خصم ، وتجيء الضمائر حقيقة . و : { تسوروا } معناه : علوا سوره وهو جمع سورة ، وهي القطعة من البناء ، هذا كما تقول : تسنمت الحائط أو البعير ، إذا علوت على سنامه . و { المحراب } : الموضع الأرفع من القصر أو المسجد ، وهو مضوع التعبد ، والعامل في : { إذ } الأولى { نبأ } وقيل : { أتاك } . والعامل في : { إذ } الثانية { تسوروا } ، وقيل هي بدل من { إذ } الأولى وقوله تعالى : { ففزع منهم } يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه ، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان ، وقيل إن ذلك كان ليلاً ، ذكره الثعلبي ، ويحتمل أن يكون فزعه من أين يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان ، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين . ويحتمل قولهم : { لا تخف } أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه .
وهنا قصص طول الناس فيها ، واختلفت الروايات به ، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به ، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام ، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها ، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته ، ولما شعر وفهم المراد ، خر وأناب واستغفر ، وأما نازلته التي وقع فيها ، فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله ، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة ، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع الملكين الحافظين عليه فقال لهما : جرباني يوماً ، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروهاً . وقال السدي : كان داود قد قسم دهره : يوماً يقضي فيه بين الناس ، ويوماً لعبادته ، ويوماً لشأن نفسه ، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا ، وقيل في السبب غير هذا مما لا يصح تطويله . قال ابن عباس ما معناه : أنه أخذ داود يوماً في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة ، فوقع بين يديه ، فروي أنه كان طائراً حسن الهيئة : حمامة ، فمد داود يده ليأخذه فزل مطمعاً له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه ، فتنحى له الطائر ، فتطلع داود عليه السلام ، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة ، فرأى منظراً جميلاً فتنه ، ثم إنها شعرت به ، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به ، فزاده ولوعاً بها ، ثم إنه انصرف وسأل عنها ، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له : أوريا وإنه في بعث كذا وكذا ، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلاناً يقاتل عند التابوت ، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد ، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك .
(5/442)

ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال ، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة من الحرب ، حتى قتل في الثالثة من نهضاته ، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة ، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه ، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع ، فلما سمي الرجل قال : كتب الموت على كل نفس ، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها ، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه الخصم ليفتي بأن هذا ظلم . وقالت فرقة : إن هذا كله هم به داود ولم يفعله ، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك . وقال آخرون : إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ، إذ كان عنده أمر المرأة .
قال القاضي أبو محمد والرواة على الأول أكثر ، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق . وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله .
وقوله : { خصمان } تقديره : نحن خصمان ، وهذا كقول الشاعر : [ الطويل ]
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر ... وجاوزتما الحيين نهداً وخثعما
نزيعان من جرم ابن زبان إنهم ... أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما
ونحوه قال العرب في مثل : محسنة فهيلي ، التقدير : أنت محسنة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " آيبون تائبون " و : { بغى } معناه : اعتدى واستطال ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم
وقوله : { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } إغلاظ على الحاكم واستدعاء بعدله ، وليس هذا بارتياب منه ، ومنه قول الرجل للنبي عليه السلام : فاحكم بيننا بكتاب الله .
وقرأ جمهور الناس : " ولا تُشطِط " بضم التاء وكسر الطاء الأولى ، معناه : ولا تتعد في حكمك . وقرأ أبو رجاء وقتادة : " تَشطُط " بفتح التاء وضم الطاء ، وهي قراءة الحسن والجحدري ، ومعناه : ولا تبعد ، يقال : شط إذا بعد ، وأشط إذا أبعد غيره .
(5/443)

وقرأ زر بن حبيش " تُشاطط " بضم التاء وبالألف . و : { سواء الصراط } معناه : وسط الطريق ولا حبه .
وقوله : { إن هذا أخي } إعراب أخي عطف بيان ، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف ، فإنه نعت محض ، والعامل فيه هو العامل في الموصوف ، وما كان منها مما ليس ليوصف به بتة فهو بدل ، والعامل فيه مكرر ، وتقول : جاءني أخوك زيد ، فالتقدير : جاءني أخوك جاءني زيد ، فاقتصر على حذف العامل في البدل والمبدل منه في قوله : { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون } [ يس : 31 ] وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان ، وهو بين في قول الشاعر : [ الرجز ]
يا نصر نصراً نصرا ... فإن الرواية في الثاني بالتنوين ، فدل ذلك على أن النداء ليس بمكرر عليه ، فليس ببدل ، وصح فيه عطف البيان ، وهذه الأخوة مستعارة ، إذ هما ملكان ، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان ، والله أعلم . و " النعجة " في هذه الآية ، عبر بها عن المرأة . والنعجة في كلام العرب تقع على أنثى بقر الوحش ، وعلى أنثى الضأن ، وتعبر العرب بها عن المرأة ، وكذلك بالشاة ، قال الأعشى : [ الكامل ]
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
أراد عن امرأته ، وفي قراءة ابن مسعود : " وتسعون نعجة أنثى " . وقرأ حفص عن عاصم : " وليَ " بفتح الياء . وقرأ الباقون بسكونها ، وهما حسنان . وقرأ الحسن والأعرج : " نِعجة " بكسر النون ، والجمهور على فتحها . وقرأ الحسن : " تَسع وتَسعون " بفتح التاء فيهما وهي لغة .
وقوله : { أكفلنيها } أي ردها في كفالتي ، وقال ابن كيسان ، المعنى : اجعلها كفلي ، أي نصيبي . { وعزتي } : معناه غلبني ، ومنه قول العرب : من عز بز ، أي من غلب سلب وقرأ أبو حيوة : " وعزني " بتخفيف الزاي . قال أبو الفتح : أراد عززني ، فحذف الزاي الواحدة تخفيفاً كما قال أبو زيد :
أحسن به فهن إليه شوس ... قال أبو حاتم : ورويت " عزني " بتخفيف الزاي عن عاصم . وقرأ ابن مسعود وأبو الضحى وعبيد بن عمير : " وعازني " ، أي غالبني .
ومعنى قوله : { في الخطاب } كان أوجه مني وأقوى ، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي ، وقوته أعظم من قوتي ، فيروى أن داود عليه السلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر : ما تقول؟ فأقر وألد ، فقال له داود : لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك . وقال للثاني : لقد ظلمك ، فتبسما عند ذلك ، وذهبا ولم يرهما لحينه ، فشعر حينئذ للأمر .
(5/444)

وروي أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه . وقيل بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها ، وقالا له : إنما نحن مثال لك . وقال بعض الناس : إن داود قال : لقد ظلمك ، قبل أن يسمع حجة الآخر ، وهذه كانت خطيئة ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية رضي الله عنه : وهذا ضعيف من جهات ، لأنه خالف متظاهر الروايات ، وأيضاً فقوله : { لقد ظلمك } إنما معناه إن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف ، وهذا من بلاغة الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق ، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة . وقال الثعلبي : كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصاراً ، ومن أجله قال داود : { لقد ظلمك } .
وقوله عليه السلام : { لقد ظلمت بسؤال نعجتك } أضاف الضمير إلى المفعول ، و { الخلطاء } الأشراك والمتعاقبون في الأملاك والأمور ، وهذا القول من داود وعظ وبسط لقاعدة حق ليحذر من الوقوع في خلاف الحق . وما في قوله : { وقليل ما هم } زائدة مؤكدة .
وقوله تعالى : { وظن داود } معناه : شعر للأمر وعلمه . وقالت فرقة : { ظن } هنا بمعنى أيقن .
قال القاضي أبو محمد : والظن أبداً في كلام العرب إنما حقيقته توقف بين معتقدين يغلب أحدهما على الآخر ، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ولا له اليقين التام ، ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون ظن بمعنى : أيقن ، ولسنا نجد في كلام العرب على العلم الذي ليس على الحواس شاهداً يتضمن أن يقال : رأى زيد كذا وكذا فظنه . وانظر لى قوله تبارك وتعالى في كتابه : { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها } [ الكهف : 53 ] وإلى قول دريد بن الصمة [ الطويل ]
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم بالفارسي المسرد
وإلى هذه الآية : { وظن داود } فإنك تجد بينها وبين اليقين درجة ، ولو فرضنا أهل النار قد دخلوها وباشروا ، لم يقل " ظن " ولا استقام ذلك ، ولو أخبر جبريل داود بهذه الفتنة لم يعبر عنها ب " ظن " ، فإنما تعبر العرب بها عن العلم الذي يقارب اليقين وليس به ، لم يخرج بعد إلى الإحساس وقرأ جمهور الناس : " فَتنّاه " بفتح التاء وشد النون ، أي ابتليناه وامتحناه . وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن : بخلاف عنه ، " فتّنّاه " بشد التاء والنون على معنى المبالغة . وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر : " فتَنَاه " بتخفيف التاء والنون على أن الفعل للخصمين ، أي امتحناه عن أمرنا ، وهي قراءة قتادة . وقرأ الضحاك : " افتتناه " .
وقوله : { وخر } أي ألقى بنفسه نحو الأرض متضامناً متواضعاً ، والركوع والسجود : الانخفاض والترامي نحو الأرض ، وخصصتها الشرائع على هيئات معلوم . وقال قوم يقال : " خر " ، لمن ركع وإن كان لم ينته إلى الأرض .
(5/445)

وقال الحسن بن الفضل ، والمعنى : خر من ركوعه ، أي سجد بعد أن كان راكعاً . وقال أبو سعيد الخدري : رأيتني في النوم وأنا أكتب سورة : { ص } فلما بلغت هذه الآية سجد القلم ، ورأيتني في منام آخر وشجرة تقرأ : { ص } فلما بلغت هذا سجدت ، وقالت : اللهم اكتب لي بها أجراً ، وحط عني بها وزراً ، وارزقني بها شكراً ، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وسجدت أنت يا أبا سعيد؟ قلت لا ، قال : أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة " ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات حتى بلغ : { وأناب } ، فسجد ، وقال كما قالت الشجرة . { وأناب } معناه : رجع وتاب ، ويروى عن مجاهد أن داود عليه السلام بقي في ركعته تلك لاصقاً بالأرض يبكي ويدعو أربعين صباحاً حتى نبت العشب من دمعه ، وروي غير هذا مما لا تثبت صحته . وروي أنه لما غفر الله له أمر المرأة ، قال : يا رب فكيف لي بدم زوجها إذا جاء يطلبني يوم القيامة ، فأوحى الله إليه أني سأستوهبه ذلك يا داود ، وأجعله أن يهبه راضياً بذلك ، فحينئذ سر داود عليه السلام واستقرت نفسه ، وروي عن عطاء الخراساني ومجاهد أن داود عليه السلام نقش خطيئته في كفه فكان يراها دائماً ويعرضها على الناس في كل حين من خطبه وكلامه وإشاراته وتصرفه تواضعاً لله عز وجل وإقراراً ، وكان يسيح في الأرض ويصيح : إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي ، سبحانك ، إلهي أتيت أطباء الدين يداووا علتي ، فكلهم عليك دلني . وكان يدخل في صدر خطبته الاستغفار للخاطئين ، وما رفع رأسه إلى السماء بعد خطيئته حياء صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المرسلين .
(5/446)

فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
" غفرنا " : معناه سترنا ، وذلك إشارة إلى الذنب المتقدم . و : " الزلفى " : القربة والمكانة الرفيعة . و " المآب " : المرجع في الآخرة ، ومن آب يؤوب إذا رجع ، وبعد هذا حذف يدل عليه ظاهر الكلام ، تقديره : وقلنا له { يا داود إنا جعلناك خليفه في الأرض } ، واستدل بعض الناس من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وليس هذا بلازم من الآية ، بل لزومه من الشرع والإجماع ، ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله ، وأما الخلفاء : فكل واحد منهم خليفة الذي قبله ، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله ، فذلك تجوز وغلو كما قال ابن قيس الرقيات : [ المنسرح ]
خليفة الله في بريته ... جفت بذاك الأقلام والكتب
ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبهذا كان يدعى مدته ، فلما ولي عمر قالوا : يا خليفة خليفة رسول الله ، فطال الأمر ، ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر ، فدعوه أمير المؤمنين ، وقصر هذا الاسم على الخلفاء .
وقوله عز وجل : { إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد } . إلى قوله : { وليتذكر أولو الألباب } اعتراض بين الكلامين من أمر داود وسليمان ، هو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وعظة لأمته ، ووعيد للكفرة به .
وقرأ أبو حيوة : " يُضلون " بضم الياء ، و { نسوا } في هذه الآية معناه : تركوا وأخبر تعالى أن الذين كفروا يظنون أن خلق السماء وما بينهما إنما هو باطل لا معنى له ، وأن الأمر ليس يؤول إلى ثواب ولا إلى عقاب .
وأخبر تعالى عن كذب ظنهم وتوعدهم بالنار ، ثم وقف تعالى على الفرق عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات ، وبين المفسدين بالكفرة ، وبين المتقين والفجار ، وفي هذ التوقيف حض على الإيمان وترغيب فيه ، ووعيد للكفرة . ثم أحال في طلب الإيمان والتقوى على كتابه العزيز بقوله : { كتاب أنزلناه } المعنى : هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا ، وفي هذه الآيات اقتضاب وإيجاز بديع حسب إعجاز القرآن العزيز ووصفه بالبركة لأن أجمعها فيه ، لأنه يورث الجنة وينقذ من النار ، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة .
وقرأ جمهور الناس : " ليدّبّروا " بشد الدال والباء ، والضمير للعالم . وقرأ حفص عن عاصم : " لتدبروا " على المخاطبة . وقرأ أبو بكر عنه : " لتدَبروا " بتخفيف الدال ، أصله : تتدبروا ، وظاهر هذه الآية يعطي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن ، فالترتيل إذاً أفضل من الهذ ، إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل ، وباقي الآية بين .
(5/447)

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
الهبة والعطية بمعنى واحد ، فوهب الله سليمان لداود ولداً ، وأثنى تعالى عليه بأوصاف من المدح تضمنها قوله : { نعم العبد } . و { أواب } ، معناه : ولفظة : { أواب } هو العامل في { إذ } ، لأن أمر الخيل مقتض أوبة عظيمة .
واختلف الناس في قصص هذه الخيل المعروضة ، فقال الجمهور : إن سليمان عليه السلام عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له ، وقيل : ألف واحد فأجريت بين يديه عشاء ، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها حتى فاته وقت صلاة العشاء . قال قتادة : صلاة العصر ونحوه عن علي بن أبي طالب ، فأسف لذلك ، وقال : ردوا علي الخيل . قال الحسن : فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف عقراً لما كانت سبب فوت الصلاة ، فأبدله الله أسرع منها : الريح . وقال قوم منهم الثعلبي : كانت بالناس مجاعة ولحوم الخيل لهم حلال ، فإنما عقرها لتؤكل على وجه القربة لها ونحو الهدي عندنا ، ونحو هذا ما فعله أبو طلحة الأنصاري بحائطه إذ تصدق به لما دخل عليه الدبسي في الصلاة فشلغه .
و " الصافن " : الفرس الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه ، وقد يفعل ذلك برجله ، وهي علامة الفراهية ، وأنشد الزجاج : [ الكامل ]
ألف الصفون فلا يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال أبو عبيدة : " الصافن الذي يجمع يديه ويسويها ، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المخيم . وفي مصحف ابن مسعود : " الصوافن الجياد " . و { الجياد } جمع جود ، كثوب وثياب ، وسمي به لأنه يجود بجريه . وقال بعض الناس : { الخير } هنا أراد به الخيل . والعرب تسمي الخيل الخير ، وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد الخيل : أنت زيد الخير . و { حبَّ } منصوب على المفعول به عند فرقة ، كأن { أحببت } بمعنى آثرت . وقالت فرقة : المفعول ب { أحببت } محذوف ، و { حبَّ } نصب على المصدر ، أي أحببت هذه الخيل حب الخير ، وتكون { الخير } على هذا التأويل غير الخيل ، وفي مصحف ابن مسعود : " حب الحيل " ، باللام . وقالت فرقة : { أحببت } معناه : سقطت إلى الأرض لذنبي ، مأخوذ من أحب البعير إذا أعيا وسقط هزالاً . و { حب } على هذا مفعول من أجله . والضمير في { توارت } للشمس ، وإن كان لم يجر لها ذكر صريح ، لأن المعنى يقتضيها ، وأيضاً فذكر العشي يقتضي لها ذكراً ويتضمنها ، لأن العشي إنما هو مقدر متوهم بها . وقال بعض المفسرين في هذه الآية : { حتى توارت بالحجاب } يريد الخيل ، أي دخلت اصطبلاتها . وقال ابن عيسى والزهري : إن مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف ، بل بيده تكريماً لها ومحبة ، ورجحه الطبري . وقال بعضهم : بل غسلاً بالماء ، وقد يقال للغسل مسح ، لأن الغسل بالأيدي يقترن به ، وهذه الأقوال عندي إنما تترتب على نحو من التفسير في هذه الآية .
(5/448)

وروي عن بعض الناس ، وذلك أنه رأى أن هذه القصة لم يكن فيها فوت صلاة ولا تضمن أمر الخيل أوبة ولا رجوعاً ، فالعامل في : { إذ عرض } فعل مضمر تقديره : اذكر إذ عرض ، وقالوا عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة ، فأشار إليهم ، أي في الصلاة ، فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الاصطبلات ، فقال هو لما فرغ من صلاته : { أني أحببت حب الخير } أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي ، كأنه يقول : فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها { ردوها علي } فطفق يمسح أعناقها وسوقها محبة لها ، وذكر الثعلبي أن هذا المسح إنما كان وسماً في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله . وجمهور الناس على أنها كانت خيلاً موروثة . قال بعضهم : قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس ، فمن نسل تلك المائة كل ما يوجد اليوم من الخيل ، وهذا بعيد . وقالت فرقة : كانت خيلاً أخرجتها الشياطين له من البحر وكانت ذوات أجنحة . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كانت عشرين فرساً . و { طفق } معناه : دام يقتل ، كما تقول : جعل يفعل .
وقرأ جمهور الناس : " بالسوْق " بسكون الواو وهو جمع ساق . وقرأ ابن كثير وحده : " السؤق " بالهمز . قال أبو علي : وهي ضعيفة ، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو قدر أنها عليها فهمزت كما يفعلون بالواو المضمومة ، وهذا نظير إمالتهم ألف " مقلات " من حيث وليت الكسرة القاف ، قدروا أن القاف هي المكسورة ، ووجه همزة السوق من السماع أن إباحية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة ، وكان ينشد :
لحب الموقدين إليَّ موسى ... وقرأ ابن محيصن : " بالسؤوق " بهمزة بعدها الواو .
وقوله تعالى : { عن ذكر ربي } فإن { عن } على كل تأويل هنا للمجاورة من شيء إلى شيء ، وتدبره فإنه مطرد .
ثم أخبر الله تعالى عن فتنته لسليمان وامتحانه إياه لزوال ملكه ، وروي في ذلك أن سليمان عليه السلام قالت له حظية من حظاياه إن أخي له خصومة ، فأرغب أن تقضي له بكذا وكذا بشيء غير الحق ، فقال سليمان عليه السلام : أفعل ، فعاقبه الله تعالى بأن سلط على خاتمه جنياً ، وذلك أن سليمان عليه السلام كان لا يدخل الخلاء بخاتم الملك ، توقيراً لاسم الله تعالى ، فكان يضعه عند امرأة من نسائه ، ففعل ذلك يوماً ، فألقى الله شبهه على جني اسمه صخر فيما روي عن ابن عباس . وقيل غير هذا ما اختصرناه لعدم الصحة ، فجاء إلى المرأة فدفعت إليه الخاتم فاستولى على ملك سليمان ، وبقي فيه أربعين يوماً ، وطرح خاتم سليمان في البحر ، وجعل يعبث في بني إسرائيل ، وشبه سليمان عليه حتى أنكروا أفعاله ، ومكنه الله تعالى من جميع الملك .
(5/449)

قال مجاهد : إلا من نساء سليمان فإنه لم يكشفهن ، وكان سليمان خلال ذلك قد خرج فاراً على وجهه منكراً ، لا ينتسب لقوم إلا ضربوه ، وأدركه جوع وفاقة فمر يوماً بامرأة تغسل حوتاً فسألها منه لجوعه ، وقيل بل اشتراه فأعطته حوتين ، فجعل يفتح أجوافها ، وإذا خاتمه في جوف أحدهما ، فعاد إليه ملكه ، وتسخرت له الجن والريح من ذلك اليوم بدعوته ، وفي صخر الجني ، فأمر سليمان به فسيق وأطبق عليه في حجارة ، وسجنه في البحر إلى يوم القيامة ، فهذه هي الفتنة التي فتن سليمان عليه السلام وامتحن بها .
واختلف الناس في الجسد الذي ألقي على كرسيه ، فقال الجمهور : هو الجني المذكور ، سماه { جسداً } لأنه كان قد تمثل في جسد سليمان وليس به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى .
وقالت فرقة : بل ألقي على كرسيه جسد ابن له ميت . وقالت فرقة : بل شق الولد الذي ولد له حين أقسم ليطوفن على نسائه ولم يستثن في قسمه . وقال قوم : مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه بلا روح ، وهذا كله غير متصل بمعنى هذه الآية و { أناب } معناه ارعوى وانثنى وأجاب إلى طاعة ربه ، ومعنى هذا من تلك الحوبة التي وقعت الفتنة بسببها ، ثم إن سليمان عليه السلام استغفر ربه واستوهبه ملكاً .
واختلف المتأولون في معنى قوله : { لا ينبغي لأحد من بعدي } فقال جمهور الناس : إراد أن يفرده بين البشر لتكون خاصة له وكرامة ، وهذا هو الظاهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه بسرية من سواري المسجد ، قال : " ثم ذكرت قول أخي سليمان : { رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فأرسلته " ، وقال قتادة وعطاء بن أبي رباح : إنما أراد سليمان : { لا ينبغي لأحد من بعدي } مدة حياتي ، أي لا أسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني . وروي في مثالب الحجاج بن يوسف أنه لما قرأ هذه الآية قال : لقد كان حسوداً ، وهذا من فسق الحجاج . وسليمان عليه السلام مقطوع بأنه إنما قصد بذلك قصداً براً جائزاً ، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد ، لا سيما بحسب المكانة والنبوءة ، وانظر أن قول عليه السلام : { ينبغي } إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصاً لما أوتيه سليمان ، لكن لما كان فيه بعض الشبه تركه جرياً منه عليه السلام على اختياره أبداً أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع .
(5/450)

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
قرأ الحسن وأبو رجاء : " الرياح " ، والجمهور على الإفراد .
وسخر الله تعالى الريح لسليمان وكان له كرسي عظيم يقال يحمل أربعة آلاف فارس ، ويقال أكثر ، وفيه الشياطين وتظله الطير ، وتأتي عليه الريح الإعصار فتقله من الأرض حتى يحصل في الهواء يتولاه الرخاء ، وهي اللينة القوية المتشابهة لا يتأتي فيها دفع مفرطة فتحمله غدوها شهر ورواحها شهر ، و { حيث أصاب } حيث أراد ، قاله وهب وغيره ، وأنشد الثعلبي : [ المتقارب ]
أصاب الكلام فلم يستطع ... فأخطى الجواب لدى المفصل
ويشبه أن { أصاب } معدى : صاب يصوب ، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر . قال الزجاج معناه : قصد ، وكذلك قولك للمتكلم أصبت : معناه قصدت الحق وقوله : { كل بناء } بدل من { الشياطين } ، والمعنى : كل من بنى مصانعه للحروب . و { مقرنين } معناه : موثقين قد قرن بعضهم ببعض و { الأصفاد } القيود والأغلال .
واختلف الناس في المشار إليه بقوله : { هذا عطاؤنا } فقال قتادة : أشار إلى ما فعله بالجن { فامنن } على من شئت منهم وأطلقه من وثاقه وسرحه من خدمته { أو أمسك } أمره كما تريد وقال ابن عباس : أشار إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليه من جماعهن . وقال الحسن بن أبي الحسن : أشار إلى جميع ما أعطاه من الملك وأمره بأن يمن على من يشاء ويمسك عمن يشاء ، فكأنه وقفه على قدر النعمة ثم أباح له التصرف فيه بمشيئته ، وهو تعالى قد علم منه أن مشيئته عليه السلام إنما تتصرف بحكم الطاعة الله ، وهذا أصح الأقوال ( وأجمعها لتفسر الآية ) ، وباقي الآية بين .
(5/451)

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
{ أيوب } هو نبي من بني إسرائيل من ذرية يعقوب عليه السلام ، وهو نبي ابتلي في جسده وماله وأهله ، وسلم دينه ومعتقده ، وروي في ذلك أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه عن دينه ، فأصابه في ماله ، وقال له : إن أطعتني رجع مالك ، فلم يطعه ، فأصابه في أهله وولده ، فهلكوا من عند آخرهم ، وقال له : لو أطعتني رجعوا ، فلم يطعه ، فأصابه في جسده ، فثبت أيوب على أمر الله سبع سنين وسبعة أشهر ، قاله قتادة . وروى أنس عن النبي عليه السلام أن أيوب بقي في محنته ثماني عشر سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم ، ولم يصبر عليه إلا امرأته . وروي أن السبب الذي امتحن الله أيوب من أجله هو : أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكراً فلم يغيره . وروي أن السبب : كان أنه ذبح شاة وطبخها وأكلت عنده ، وجار له جائع لم يعطه منها شيئاً . وروي أن أيوب لما تناهى بلاؤه وصبره ، مر به رجلان ممن كان بينه وبينهما معرفة فتقرعاه ، وقالا له : لقد أذنبت ذنباً ما أذنب أحد مثله ، وفهم منهما شماتاً به ، فعند ذلك دعا ونادى ربه .
وقوله عليه السلام : { مسني الشيطان } يحتمل أن يشير إلى مسه حين سلطه الله عليه حسبما ذكرنا ، ويحتمل أن يريد : مسه إياه حين حمله في أول الأمر على أن يواقع الذنب الذي من أجله كانت المحنة ، إما ترك التغيير عند الملك ، وإما ترك مواساة الجار . وقيل أشار إلى مسه إياه في تعرضه لأهله وطلبه منه أن يشرك بالله ، فكان أيوب يتشكى هذا الفعل ، وكان أشد عليه من مرضه .
وقرأ الجمهور : " أني " بفتح الهمزة . وقرأ عيسى بن عمر : " إني " بكسرها .
وقوله : { أني } في موضع نصب بإسقاط حرف الجر .
وقرأ جمهور الناس : " بنُصْب " بضم النون وسكون الصاد . وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم : " بنَصَب " بفتح النون والصاد ، وهي قراءة الجحدري ويعقوب ، ورويت عن الحسن وأبي جعفر . وقرأ أبو عمارة عن حفص عن عاصم : " بنُصُب " بضم النون والصاد ، وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع والحسن بخلاف عنه ، وروى أيضاً هبيرة عن حفص عن عاصم بفتح النون وسكون الصاد ، وذلك كله بمعنى واحد ، معناه المشقة ، وكثيراً ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء ، وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ ، والصواب أنها لغات بمعنى ، من قولهم أنصبني الأمر ونصبني إذا شق علي ، فمن ذلك الشاعر [ الطويل ]
تبغاك نصب من أميمة منصب ... ومثله قول النابغة : [ الطويل ]
كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب ... قال القاضي أبو محمد : وقد قيل في هذا البيت إن ناصباً بمعنى منصب ، وأنه على النسب ، أي ذا نصب ، وهنا في الآية محذوف كثير ، تقديره : فاستجاب له .
(5/452)

وقال { اركض برجلك } والركض : الضرب بالرجل ، والمعنى : اركض الأرض . وروي عن قتادة أن هذا الأمر كان في الجابية من أرض الشام . وروي أن أيوب أمر بركض الأرض فيها ، فنبعت له عين ماء صافية باردة فشرب منها ، فذهب كل مرض في داخل جسده ، ثم اغتسل فذهب ما كان في ظاهر بدنه . وروي أنه ركض مرتين ونبع له عينان : شرب من إحداهما ، واغتسل في الأخرى وقرأ نافع وشيبة وعاصم والأعمش . " بعذاب اركض " ، بضم نون التنوين . وقرأ عامة قراء البصرة : " بعذاب اركض " ، بنون مكسورة و : { مغتسل } معناه : موضع غسل ، وماء غسل ، كما تقول : هذا الأمر معتبر ، وهذا الماء مغتسل مثله . وروي أن الله تعالى وهب له أهله وماله في الدنيا ، ورد من مات منهم ، وما هلك من ماشيته وحاله ثم بارك في جميع ذلك ، وولد له الأولاد حتى تضاعف الحال . وروي أن هذا كله وعد في الآخرة ، أي يفعل الله له ذلك في الآخرة ، والأول أكثر في قول المفسرين . و { رحمة } نصب على المصدر .
وقوله : { وذكرى } معناه : موعظة وتذكرة يعتبر بها أهل العقول ويتأسون بصبره في الشدائد ولا ييأسون من رحمة الله على حال . وروي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه ، فيلقاها الشيطان في صورة طبيب ، ومرة في هيسة ناصح وعلى غير ذلك ، فيقول لها : لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرىء ، لو ذبح عناقاً للصنم الفلاني لبرىء ويعرض عليها وجوهاً من الكفر ، فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب ، فيقول لها : ألقيت عدو الله في طريقك؟ فلما أغضبته بهذا ونحوه ، حلف لها لئن برىء من مرضه ليضربنها مائة سوط ، فلما برىء أمره الله أن يأخذ ضغثاً فيه مائة قضيب . و " الضغث " القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشجرة الرطب ، قاله الضحاك وأهل اللغة فيضرب به ضربة واحدة فتبر يمينه ، ومنه قولهم : ضغث على إبالة . والإبالة : الحزم من الحطب . و " الضغث " : القبضة عليها من الحطب أيضاً ، ومنه قول الشاعر [ عوف بن الخرع ] : [ الطويل ]
وأسفل مني نهدة قد ربطتها ... وألقيت ضغثاً من خلى متطبب
ويروى متطيب . هذا حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حد زنا لرجل زمن ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق نخلة فيها شماريخ مائة أو نحوها ، فضرب به ضربة ، ذكر الحديث أبو داود ، وقال بهذا بعض فقهاء الأمة ، وليس يرى ذلك مالك بن أنس وجميع أصحابه ، وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به ، وأن الحدود والبر في الأيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات .
(5/453)

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
قرأ ابن كثير : " واذكر عبدنا " على الإفراد ، وهي قراءة ابن عباس وأهل مكة . وقرأ الباقون : " واذكر عبادنا " على الجمع ، فأما على هذه القراءة فدخل الثلاثة في الذكر وفي العبودية ، وأما على قراءة من قرأ " عبدنا " ، فقال مكي وغيره : دخلوا في الذكر ولم يدخلوا في العبودية إلا من غير هذه الآية وفي هذا نظر .
وتأول قوم من المتأولين من هذه الآية أن الذبيح { إسحاق } من حيث ذكره الله بعقب ذكر أيوب أنبياء امتحنهم بمحن كما امتحن أيوب ، ولم يذكر إسماعيل لأنه ممن لم يمتحن ، وهذا ضعيف كله وقرأ الجمهور : " أولي الأيدي " .
وقرأ الحسن والثقفي والأعمش وابن مسعود : " أولي الأيد " ، بحذف الياء ، فأما أولو فهو جمع ذو ، وأما القراءة الأولى ف " الأيدي " فيها عبارة عن القوة في طاعة الله ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقالت فرقة بل هي عبارة عن القوة في طاعة الله ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقالت فرقة بل هي عبارة عن إحسانهم في الدين وتقديمهم عند الله تعالى أعمال صدق ، فهي كالأيادي . وقالت فرقة : بل معناه : أولي الأيد والنعم التي أسداها الله إليهم من النبوءة والمكانة . وقال قوم المعنى : أيدي الجوارح ، والمراد الأيدي المتصرفة في الخير والأبصار الثاقبة فيه ، لا كالتي هي منهملة في جل الناس ، وأما من قرأ " الأيد " دون ياء فيحتمل أن يكون معناها معنى القراءة بالياء وحذفت تخفيفاً ، ومن حيث كانت الألف واللام تعاقب التنوين وجب أن تحذف معها كما تحذف مع التنوين . وقالت فرقة : معنى " الأيدي " ، القوة ، والمراد طاعة الله تعالى .
وقوله تعالى : { والأبصار } عبارة عن البصائر ، أي يبصرون الحقائق وينظرون بنور الله تعالى ، وبنحو هذا فسر الجميع .
وقرأ نافع وحده : " إنا أخلصناهم بخالصةِ ذكرى الدار " على إضافة " خالصةِ " إلى { ذكرى } ، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة . وقرأ الباقون والناس : " بخالصةٍ ذكر الدار " على تنوين " خالصة " ، وقرأ الأعمش : " بخالصتهم ذكر الدار " ، وهي قراءة طلحة .
وقوله : { بخالصة } يحتمل أن يكون خالصة اسم فاعل كأنه عبر بها عن مزية أو رتبة ، فأما من أضافها إلى " ذكرى " ، ف { ذكرى } مخفوض بالإضافة ، ومن نون " خالصةٍ " ، ف { ذكرى } بدل من " خالصة " ، ويحتمل قوله : { بخالصة } أن يكون " خالصة " مصدراً كالعاقبة وخائنة الأعين وغير ذلك ، ف { ذكرى } على هذا ما أن يكون في موضع نصب بالمصدر على تقدير : { إنا أخلصناهم } بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار ، ويكون " خالصة " مصدراً من أخلص على حذف الزوائد ، وإما أن يكون { ذكرى } في موضع رفع بالمصدر على تقدير { إنا أخلصناهم } بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، وتكون " خالصة " من خلص .
(5/454)

و { الدار } في كل وجه في موضع نصب ب { ذكرى } ، و { ذكرى } مصدر ، وتحتمل الآية أن يريد ب { الدار } دار الآخر على معنى { أخلصناهم } ، بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ودعاء الناس إليها وحضهم عليها ، وهذا قول قتادة ، وعلى معنى خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم لها والعمل بحسب قول مجاهد . وقال ابن زيد : المعنى إنا وهبناهم أفضل ما في الدار الآخرة وأخلصناهم به وأعطيناهم إياه ، ويحتمل أن يريد ب { الدار } دار الدنيا على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازي ، فتجيء الآية في معنى قوله : { لسان صدق } [ مريم : 50 ، الشعراء : 84 ] وفي معنى قوله : { وتركنا عليه في الآخرين } [ الصافات : 78 ، 108 ، 119 ، 129 } . و { المصطفين } أصله : المصطفيين ، تحركت الياء وما قبلها مفتوح فانقلبت ألفاً ، ثم اجتمع سكون الألف وسكون الياء التي هي علامة الجمع ، فحذفت الألف . و { الأخيار } جمع خير ، وخير : مخفف من خير كميت وميت .
وقرأ حمزة والكسائي : " والليسع " ، كأنه أدخل لام التعريف على { اليسع } ، فأجراه مجرى ضيغم ونحوه ، وهي قراءة علي بن أبي طالب والكوفيين . وقرأ الباقون : " واليسع " ، قال أبو علي : الألف واللام فيه زائدتان غير معرفتين كما هي في قول الشاعر : [ الكامل ]
ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وبنات الأوبر : ضرب من الكمأة . واختلف في نبوة " ذي الكفل " ، وقد تقدم تفسير أمره وقوله تعالى : { هذا ذكر } يحتمل معنيين : أحدهما أن يشير إلى مدح من ذكر وإبقاء الشرف له ، فيتأيد بهذا التأويل قول من قال آنفاً : إن { الدار } يراد بها الدار الدنيا . والثاني : أن يشير بهذا إلى القرآن ، إذ هو ذكر للعالم . و " المآب " : المرجع حيث يؤوبون . و { جنات } بدل من " حسن " و { مفتحة } نعت للجنات . و { الأبواب } مفعول لم يسم فاعله ، والتقدير عند الكوفيين : مفتحة لهم أبوابها ، ولا يجوز ذلك عند أهل البصرة ، والتقدير عندهم : الأبواب منها ، وإنما دعا إلى هذا الضمير أن الصفة لا بد أن يكون فيها عائداً على الموصوف . و { قاصرات الطرف } قال قتادة معناه : على أزواجهن . و { أتراب } معناه أمثال ، وأصله في بني آدم أن تكون الأسنان واحدة ، أي مست أجسادهم التراب في وقت واحد .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : " يوعدون " بالياء من تحت ، واختلفا في سورة : ( ق ) ، فقرأها أبو عمرو بالتاء من فوق . وقرأ الباقون في السورتين بالتاء من فوق . والنفاذ : الفناء والانقضاء .
(5/455)

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
التقدير : الأمر هذا ، ويحتمل أن يكون التقدير : هذا واقع ونحوه . والطاغي : المفرط في الشر ، مأخوذ من طغا يطغى ، والطغيان هنا في الكفر . و " المآب " : المرجع ، و { جهنم } بدل من قولهم : { لشر } . و { يصلونها } معناه : يباشرون حرها . و { المهاد } ما يفترشه الإنسان ويتصرف فيه .
وقوله : { هذا فليذوقوه } يحتمل أن يكون { هذا } ابتداء ، والخبر { حميم } ويحتمل أن يكون التقدير : الأمر هذا فليذوقوه ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بفعل يدل عليه { فليذوقوه } و { حميم } على هذا خبر ابتداء مضمر . قال ابن زيد : الحميم ، دموعهم تجتمع في حياض فيسقونها وقرأ جمهور الناس : " وغساق " بتخفيف السين ، وهو اسم بمعنى السائل ، يروى عن قتادة أنه ما يسيل من صديد أهل النار . ويروى عن السدي أنه ما يسيل من عيونهم . ويروى عن كعب الأحبار أنه ما يسيل من حمة عقارب النار ، وهي يقال مجتمعة عندهم . وقال الضحاك : هو أشد الأشياء برداً . وقال عبد الله بن بريدة : هو أنتن الأشياء ، ورواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : " وغسّاق " بتشديد السين ، بمعنى سيال وهي قراءة قتادة وابن أبي إسحاق وابن وثاب وطلحة ، والمعنى فيه على ما قدمناه من الاختلاف غير أنها قراءة تضعف ، لأن غساقاً إما أن يكون صفة فيجيء في الآية حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، وذلك غير مستحسن هنا ، وأما أن يكون اسماً ، فالأسماء على هذا الوزن قليلة في كلام العرب كالفياد ونحوه وقرأ جمهور الناس : " وآخر " بالإفراد ، وهو رفع بالابتداء ، واختلف في تقديره خبره ، فقالت طائفة تقديره : ولهم عذاب آخر . وقالت طائفة : خبره : { أزواج } لأن قوله : { أزواج } ابتداء و { من شكله } خبره ، والجملة خبر " آخر " . وقالت طائفة : خبره : { أزواج } ، و { من شكله } في موضع الصفة . ومعنى { من شكله } : من مثله وضربه ، وجاز على هذا القول أن يخبر الجمع الذي هو أزواج عن الواحد من حيث ذلك الواحد درجات ورتب من العذاب وقوى وأقل منه . وأيضاً فمن جهة أخرى على أن يسمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل ، قالوا : عرفات لعرفة : وشابت مفارقه فجعلوا كل جزء من المفرق مفرقاً ، وكما قالوا : جمل ذو عثانين ونحو هذا ، ألا ترى أن جماعة من المفسرين قالوا إن هذا الآخر هو الزمهرير ، فكأنهم جعلوا كل جزء منه زمهريراً .
وقرأ أبو عمرو وحده : " وأخر " على الجمع ، وهي قراءة الحسن ومجاهد والجحدري وابن جبير وعيسى ، وهو رفع بالابتداء وخبره { أزواج } ، و { من شكله } في موضع الصفة ، ورجح أبو عبيد هذه القراءة وأبو حاتم بكون الصفة جمعاً ، ولم ينصرف " أخر " لأنه معدول عن الألف واللام صفة ، وذلك أن حق أفعل وجمعه أن لا يستعمل إلا بالألف واللام ، فلما استعملت " أخر " دون الألف واللام كان ذلك عدلاً لها ، وجاز في " أخر " أن يوصف بها النكرة كقوله تعالى :
(5/456)

{ فعدة من أيام أخر } [ البقرة : 184 - 185 ] بخلاف جمع ما عدل عن الألف واللام ، كسحر ونحوه في أنه لا يجوز أن يوصف به النكرة ، لأن هذا العدل في " أخر " اعتد به في منع الصرف ولم يعتد به في الامتناع من صفة النكرة كما يعتدون بالشيء في حكم دون حكم ، نحو اللام في قولهم : لا أبا لك ، لأن اللام المتصلة بالكاف اعتد بها فاصلة للإضافة ، ولذلك جاز دخول لا ، ولم يعتد بها في أن أعرب أبا بالحروف وشأنه إذا انفصل ولم يكن مضافاً أن يعرب بالحركات فجاءت اللام ملغاة الحكم من حيث أعرب بالحرف ، كأنه مضاف وهي معتد بها فاصلة في أن جوزت دخول لا .
وقرأ مجاهد : " من شِكله " بكسر الشين . و { أزواج } معناه : أنواع ، والمعنى لهم حميم وغساق وأغذية أخر من ضرب ما ذكره ونحوه أنواع كثيرة .
وقوله تعالى : { هذا فوج } هو ما يقال لأهل النار إذا سيق عامة الكفار وأتباعهم لأن رؤساءهم يدخلون النار أولاً ، والأظهر أن قائل ذلك لهم ملائكة العذاب ، وهو الذي حكاه الثعلبي وغيره ، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض ، فيقول البعض الآخر : { لا مرحباً بهم } أي لا سعة مكان ولا خير يلقونه . والفوج : الفريق من الناس .
قوله تعالى : { بل أنتم لا مرحباً بكم } حكاية لقول الأتباع حين سمعوا قول الرؤساء : { أنتم قدمتموه } معناه بإغوائكم ، أسلفتم لنا ما أوجب هذا ، فكأنكم فعلتم بنا هذا .
وقوله : { قالوا ربنا } حكاية لقول الأتباع أيضاً دعوا على رؤسائهم بأن يكون عذابهم مضاعفاً .
(5/457)

وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
الضمير في : { قالوا } لأشراف الكفار ورؤسائهم ، أخبر الله عنهم أنهم يتذكرون إذا دخلوا النار لقوم من مستضعفي المؤمنين فيقولون هذه المقالة ، وهذا مطرد في كل أمة جاءها رسول . وروي أن القائلين من كفار عصر النبي عليه السلام هم أبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وأهل القليب ومن جرى مجراهم ، قاله مجاهد وغيره ، والمعنى : كنا نعدهم في الدنيا أشراراً لا خلاق لهم ، وأمال الراء { من الأشرار } : أبو عمرو وابن عامر والكسائي ، وفتحها ابن كثير وعاصم ، وأشم نافع وحمزة .
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : { أتخذناهم سخرياً } بألف الاستفهام ، ومعناها : تقرير أنفسهم على هذا على جهة التوبيخ لها والأسف ، أي أتخذناهم سخرياً ولم يكونوا كذلك ، واستبعد معنى هذه القراءة أبو علي . وقرأ نافع وحمزة والكسائي : " سُخريا " بضم السين ، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر وابن مسعود وأصحابه ومجاهد والضحاك ، ومعناها : من السخرة والاستخدام . وقرأ الباقون : " سِخرياً " بكسر السين وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وعيسى وابن محيصن ومعناها المشهور من السخر الذي هو الهزء ، ومنه قول الشاعر [ عامر بن الحارث ] : [ البسيط ]
إني أتاني لسان لا أسر بها ... من علو لا كذب فيها ولا سخر
وقالت فرقة يكون كسر السين من التسخير .
و { أم } في قولهم : { أم زاغت } معادلة ل { ما } في قولهم : { ما لنا لا نرى } وذلك أنها قد تعادل { ما } ، وتعادل من ، وأنكر بعض النحويين هذا ، وقال : إنها لا تعادل إلا الألف فقط . والتقدير في هذه الآية : أمفقودون هم أم زاغت؟ ومعنى هذا الكلام : أليسوا معنا أم هم معنا؟ ولكن أبصرنا تميل عنهم فلا تراهم ، والزيغ : الميل .
ثم أخبر الله تعالى نبيه بقوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } و : { تخاصم } بدل من قوله : { لحق } .
وقرأ ابن أبي عبلة : " تخاصمَ " بفتح الميم . وقرأ ابن محيصن : " تخاصمٌ " بالتنوين " أهلُ النار " برفع اللام .
ثم أمر نبيه أن يتجرد للكفار من جيمع الأغراض ، إلا أنه منذر لهم ، وهذا توعد بليغ محرك للنفوس ، وباقي الآية بين .
(5/458)

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
الإشارة بقوله تعالى : { قل هو نبأ عظيم } إلى التوحيد والمعاد ، فهي إلى القرآن وجميع ما تضمن ، وعظمه أن التصديق به نجاة ، والتكذيب به هلكة . وحكى الطبري : أن شريحاً اختصم إليه أعرابي فشهد عليه ، فأراد شريح أن ينفذ الحكم ، فقال له الأعرابي : أتحكم بالنبأ؟ فقال شريح : نعم ، إن الله يقول : { قل هو نبأ } ، وقرأ الآية حكم عليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الجواب من شريح إنما هو بحسب لفظ الأعرابي ولم يحرر معه الكلام ، وإنما قصد إلى ما يقطعه به ، لأن الأعرابي لم يفرق بين الشهاد والنبأ .
والنبأ في كلام العرب بمعنى : الخبر ، ووبخهم بقوله : { أنتم عنه معرضون } ، ثم قال : { ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون } وهذا احتجاج لصحة أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأنه يقول : هذا أمر خطر وأنتم تعرضون عنه مع صحته ، ودليل صحته أني أخبركم فيه بغيوب لم تأت إلا من عند الله ، فإني لم يكن لي علم بالملأ الأعلى ، أراد به الملائكة . والضمير في : { يختصمون } عند جمهور المفسرين هو للملائكة .
واختلف الناس في الشيء الذي هو اختصامهم فيه ، فقالت : فرقة اختصامهم في أمر آدم وذريته في جعلهم في الأرض ، ويدل على ذلك ما يأتي من الآيات ، فقول الملائكة : { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] هو الاختصام ، وقالت فرقة : بل اختصامهم في الكفارات وغفر الذنوب ونحوه ، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلف الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما شاء ، وورد في هذا حديث فسره ابن فورك ، لأنه يتضمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ربه عز وجل في نومه : فيم يختصمون؟ فقلت لا أدري ، فقال في الكفارات ، وهي إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الخطى إلى الجماعات الحديث بطوله قال : فوضع الله يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي .
قال القاضي أبو محمد : فتفسير هذا الحديث أن اليد هي نعمة العلم .
وقوله : بردها ، أي السرور بها والثلج ، كما تقول العرب في الأمر السار : يا برده على الكبد ونحو هذا ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الصلاة بالليل هي الغنيمة الباردة " أي السهلة التي يسر بها الإنسان . وقالت فرقة : المراد بقوله : { بالملإ الأعلى } الملائكة .
وقوله : { إذ يختصمون } مقطوع منه معناه : إذ تختصم العرب الكافر في الملإ فيقول بعضها هي بنات الله ، ويقول بعضها : هي آلهة تعبد ، وغير ذلك من أقوالهم ، وقالت فرقة : أراد ب " الملأ الأعلى " قريشاً . وهذا قول ضعيف لا يتقوى من جهة .
وقرأ جمهور الناس : " ألا أنما " بفتح الألف ، كأنه يقول : ألا إنذار .
(5/459)

وقرأ أبو جعفر " إلا أنما أنا " على الحكاية ، كأنه قيل له : أنت نذير مبين ، فحكى هذا المعنى ، وهذا كما يقول إنسان : أنا عالم ، فيقال له : قلت إنك عالم ، فيحكي المعنى .
و : { إذ } في قوله : { إذ قال ربك } بدل من قوله : { إذ } الأولى على تأويل من رأى الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض ، وعلى الأقوال الأخر يكون العامل في { إذ } الثانية فعل مضمر تقديره : واذكر إذ قال . والبشر المخلوق من الطين . هو آدم عليه السلام و : { سويته } يريد به شخصه . { ونفخت } هي عبارة عن إجراء الروح فيه ، هي عبارة على نحو ما يفهم من إجراء الأشياء بالنفخ .
وقوله : { من روحي } هي إضافة ملك إلى مالك ، لأن الأرواح كلها هي ملك لله تعالى ، وأضاف إلى نفسه تشريفاً .
وقوله : { ساجدين } اختلف الناس فيه ، فقالت فرقة : على السجود المتعارف . وقالت فرقة معناه : خاضعين على أصول السجود في اللغة . ثم أخبر تعالى أن الملائكة بأمره سجدوا { إلا إبليس } فإنه { استكبر } عن السجود .
وقوله تعالى : { وكان من الكافرين } يحتمل أن يريد به : وكان من أول أمره من الكافرين في علم الله تعالى ، قاله ابن عباس ، ويحتمل أن يريد : ووجد عند هذه الفعلة من الكافرين ، وعلى القولين فقد حكم الله على إبليس بالكفر ، وأخبر أنه كان عقد قلبه في وقت الامتناع .
(5/460)

قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
القائل لإبليس هو الله عز وجل ، وقوله { ما منعك } تقرير وتوبيخ .
وقرأ عاصم والجحدري : " لَمَّا خلقت " بفتح اللام من : " لَمَّا " وشد الميم .
وقرأ جمهور الناس " بيديْ " بالتثنية . وقرأ فرقة : " بيديَّ " بفتح الياء ، وقد جاء في كتاب الله : { مما عملت أيدينا } [ يس : 71 ] بالجمع .
وهذه كلها عبارة عن القدرة والقوة ، وعبر عن هذا المعنى بذكر اليد تقريباً على السامعين ، إذا المعتاد عند البشر أن القوه والبطش والاقتدار إنما هو باليد ، وقد كانت جهالة العرب بالله تعالى تقتضي أن تنكر نفوسها أن يكون خلق بغير مماسة ، ونحو هذا من المعاني المعقولة ، وذهب القاضي ابن الطيب إلى أن اليد والعين والوجه صفات ذات زائدة على القدرة والعلم غير ذلك من متقرر صفاته تعالى ، وذلك قول مرغوب عنه ويسميها الصفات الخبرية . وروي في بعض الآثار أن الله تعالى خلق أربعة أشياء بيده وهي : العرش والقلم وجنة عدن وآدم وسائر المخلوقات بقوله : " كن " .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إن صح فإنما ذكر على جهة التشريف للأربعة والتنبيه منها ، وإلا فإذا حقق النظر فكل مخلوق فهوة بالقدرة التي بها يقع الإيجاد بعد العدم .
وقرأت فرقة : " استكبرت " بصلة الألف على الخبر عن إبليس ، وتكون { أم } بينة الانقطاع لا معادلة لها . وقرأت فرقة : " أستكبرت " بقطع الألف على الاستفهام ، ف { أم } على هذا معادلة للألف ، وذهب كثير من النحويين إلى أن " أم " لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين ، وإنما تكون معادلة إذا أدخلتا على فعل واحد ، كقولك : أزيد قام أم عمرو؟ وقولك : أقام زيد أم عمرو؟ قالوا : وإذا اختلف الفعلان كهذه الآية فليست أم معادلة ، ومعنى الآية : أحدث لك الاستكبار الآن أن كنت قديماً ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك ، وهذا على جهة التوبيخ .
وقول إبليس : { أنا خير منه } قياس أخطأ فيه ، وذلك أنه لما توهم أن النار أفضل من الطين ، قاس أن ما يخلق من الأفضل فهو أفضل من الذي يخلق من المفضول ، ولم يدر أن الفضائل تخصيصات من الله تعالى يسم بها من شاء ، وفي قوله رد على حكمة الله تعالى وتجوير . وذلك بين في قوله : { أرأيتك هذا الذي كرمت علي } [ الإسراء : 62 ] ثم قال : { أنا خير منه } ، وعند هذه المقالة اقترن كفر إبليس به إما عناداً على قول من يجيزه ، وإما بأن سلب المعرفة ، وظاهر أمره أنه كفر عناداً ، لأن الله تعالى قد حكم عليه بأنه كافر ، ونحن نجده خلال القصة يقول : يا رب بعزتك وإلى يوم يبعثون ، فهذا كله يقتضي المعرفة ، وإن كان للتأويل فيه مزاحم فتأمله ، ثم أمر الله تعالى إبليس بالخروج على جهة الادخار له ، فقالت فرقة : أمره بالخروج من الجنة .
(5/461)

وقالت فرقة : من السماء . وحكى الثعلبي عن الحسن وأبي العالية أن قوله : { منها } يريد به من الخلقة التي أنت فيها ومن صفات الكرامة التي كانت له ، قال الحسين بن الفضل : ورجعت له أضدادها ، وعلى القول الأول فإنما أمره أمراً يقتضي بعده عن السماء ، ولا خلاف أنه أهبط إلى الأرض . و " الرجيم " : المرجوم بالقول السيىء . و " اللعنة " الإبعاد . و : { يوم الدين } يوم القيامة . و { الدين } : الجزاء ، وإنما حد له اللعنة ب { يوم الدين } ، ولعنته إنما هي مخلدة ليحصر له أمد التوبة ، لأن امتناع توبته بعد يوم القيامة ، إذ ليست الآخرة دار عمل ، ثم إن إبليس سأل النظرة وتأخير الأجل إلى يوم بعث الأجساد من القبور ، فأعطاه الله تعالى الإبقاء { إلى يوم الوقت المعلوم } .
واختلف الناس في تأويل ذلك ، فقال الجمهور : أسعفه الله في طلبته وأخره إلى يوم القيامة ، فهو الآن حي مغو مضل ، وهذا هو الأصح من القولين . وقالت فرقة : لم يسعف بطلبته ، وإنما أسعف إلى الوقت الذي سبق من الله تعالى أن يموت إبليس فيه . وقال بعض هذه الفرقة : مات إبليس يوم بدر .
(5/462)

قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
القائل هو إبليس ، أقسم بعزة الله تعالى ، قال قتادة : علم عدو الله أنه ليست له عزة فأقسم بعزة الله أنه يغوي ذرية آدم أجمع إلا من أخلص الله للإيمان به .
قال القاضي أبو محمد : وهذا استثناء الأقل عن الأكثر على باب الاستثناء لأن المؤمنين أقل من الكفرة بكثير ، بدليل حديث بعث الناس وغيره . وجوز قوم أن يستثنى الكثير من الجملة ويترك الأقل على الحكم الأول ، واحتجوا بقوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 42 ] وقال من ناقضهم : العباد هنا : يعم البشر والملائكة ، فبقي الاستثناء على بابه في أن الأقل هو المستثنى .
وفتح اللام من { المخلصين } وكسرها ، قد تقدم ذكره . والقائل : { فالحق } هو الله تعالى قال مجاهد : المعنى فالحق أنا .
وقرأ جمهور القراء : " فالحقَّ والحقَّ " بنصب الاثنين ، فأما الثاني فمنصوب ب { أقول } ، وأما الأول فيحتمل أن ينتصب على الإغراء ، ويحتمل أن ينتصب على القسم على إسقاط حرف القسم ، كأنه قال : فوالحق ، ثم حذف الحرف كما تقول : الله لأفعلن ، تريد : والله ، ويقوي ذلك قوله : { لأملأن } ، وقد قال سيبويه : قلت للخليل ما معنى لأفعلن إذا جاءت مبتدأة : قال هي بتقدير قسم منوي : وقالت فرقة : " الحق " الأول منصوب بفعل مضمر . وقال ابن عباس ومجاهد : " فالحقُّ والحقُّ " برفع الاثنين ، فأما الأول فرفع بالابتداء وخبره في قوله : { لأملأن } ، لأن المعنى : أن أملأ ، وأما الثاني فيرتفع على ابتداء أيضاً . وقرأ عاصم وحمزة : " فالحقُّ " بالرفع " والحقَّ " بالنصب ، وهي قراءة مجاهد والأعمش وأبان بن تغلب وإعراب هذه بين . وقرأ الحسن : " فالحقِّ والحقِّ " بخفض القاف فيهما على القسم ، وذكرها أبو عمرو الداني .
ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بأنه ليس بسائل أجر ولا مال ، وأنه ليس ممن يتكلف ما لم يجعل إليه ولا يتحلى بغير ما هو فيه . وقال الحسين بن الفضل : هذه الآية ناسخة لقوله : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] وقال الزبير بن العوام : نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم ، اللهم اغفر للذين لا يدعون ولا يتكلفون ، ألا إني بريء من التكلف ، وصالحو أمتي ، وقوله تعالى : { إن هو } يريد به القرآن . و : { ذكر } بمعنى : تذكرة ، ثم توعدهم بقوله : { ولتعلمن نبأه بعد حين } وهذا على حذف تقديره : لتعلمن صدق نبإه بعد حين في توعدكم واختلف الناس في معنى قوله : { بعد حين } إلى أي وقت اشار ، لأن الحين في اللغة يقع على القليل والكثير من الوقت ، فقال ابن زيد : أشار إلى يوم القيامة . وقال قتادة والحسن في اللغة أشار إلى الآجال التي لهم ، لأن كل واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته . وقال السدي : أشار إلى يوم بدر ، لأنه يوم عرف الكفار فيه صدق وعيد القرآن لهم .
(5/463)

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قوله عز وجل : { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
{ تنزيل } رفع بالابتداء ، والخبر قوله : { من الله } وقالت فرقة : { تنزيل } خبر ابتداء تقديره : هذا تنزيل ، والإشارة إلى القرآن .
وقرأ ابن أبي عبلة : " تنزيلَ " بنصب اللام .
و : { الكتاب } في قوله : { تنزيل الكتاب } قال المفسرون : هو القرآن ويظهر إلي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب ، فإنه أخبر إخباراً مجرداً الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله ، وجعل هذا الإخبار تقدمه وتوطئة لقوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب } .
و : { العزيز } في قدرته . { الحكيم } في ابتداعه . و : { الكتاب } الثاني : هو القرآن لا يحتمل غير ذلك .
وقوله : { بالحق } يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون معناه متضمناً الحق ، أي بالحق فيه وفي أحكامه وأخباره . والثاني : أن يكون { بالحق } بمعنى بالاستحقاق والوجوب وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله .
وقوله تعالى : { فاعبد الله } يحتمل أن تكون الفاء عاطفة جملة من القول على جملة واصلة ، ويحتمل أن يكون كالجواب ، لأن قوله : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } جملة كأنه ابتداء وخبر ، كما لو قال : الكتاب منزل ، وفي الجمل التي هي ابتداء وخبر إبهام ما تشبه به الجزاء ، فجاءت الفاء كالجواب ، كما تقول : زيد قائم فأكرمه ، ونحو هذا :
وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... التقدير : هذه خولان : و : { مخلصاً } حال . و : { الدين } نصب به . ومعنى الآية الأمر بتحقيق النية لله في كل عمل ، و { الدين } هنا يعم المعتقدات وأعمال الجوارح .
وقوله تعالى : { ألا لله الدين الخالص } بمعنى من حقه ومن واجباته لا يقبل غير هذا ، وهذا كقوله : { لله الحمد } [ الجاثية : 36 ] ، أي واجباً ومستحقاً . قال قتادة : { الدين الخالص } ، لا إله إلا الله .
وقوله تعالى : { والذين اتخذوا } رفع بالابتداء ، وخبره في المحذوف المقدر ، تقديره : يقولون ما نعبدهم ، وفي مصحف ابن مسعود : " قالوا ما نعبدهم " ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير . و : { أولياء } يريد بذلك معبودين ، وهذ مقالة شائعة في العرب ، يقول كثير منهم في الجاهلية : الملائكة بنات الله ونحن نعبدهم ليقربونا ، وطائفة منهم قالت ذلك في أصنامهم وأوثانهم . وقال مجاهد : قد قال ذلك قوم من اليهود في عزير ، وقوم من النصارى في عيسى ابن مريم . وفي مصحف أبي بن كعب : " ما نعبدكم " بالكاف " إلا لتقربونا " بالتاء . و { زلفى } بمعنى قربى وتوصلة ، كأنه قال : لتقربونا إلى الله تقريباً ، وكأن هذه الطوائف كلها كانت ترى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله ، فكانت ترى أن تتصل بمخلوقاته .
(5/464)

و { زلفى } عند سيبويه مصدر في موضع الحال ، كأنه ينزل منزلة متزلفين ، والعامل فيه { ليقربونا } هذا مذهب سيبويه وفيه خلاف ، وباقي الآية وعيد في الدنيا والآخرة .
قوله عز وجل :
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيِلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ }
هذه الآية إما أن يكون معناها أن الله لا يهدي الكاذب الكفار في حال كذبه وكفره ، وإما أن يكون لفظها العموم ومعناها الخصوص فيمن ختم الله عليه بالكفر وقضى في الأزل أنه لا يؤمن أبداً ، وإلا فقد وجد الكاذب الكفار قد هدى كثيراً .
وقرأ أنس بن مالك والجحدري : " كذب كفار " بالمبالغة فيهما ، ورويت عن الحسن والأعرج ويحيى بن يعمر ، وهذه المبالغة إشارة إلى المتوغل في الكفر ، القاسي فيه الذي يظن به أنه مختوم عليه .
قوله تعالى : { لو أراد الله أن يتخذ } . معناه : اتخاذ التشريف والتبني ، وعلى هذا يستقيم . قوله تعالى : { لاصطفى مما يخلق } .
وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد فمستحيل أن يتوهم في جهة الله تعالى ، ولا يستقيم عليه معنى قوله : { لاصطفى } وقوله : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } [ مريم : 92 ] لفظ يعم اتخاذ النسل واتخاذ الأصفياء ، فأما الأول فمعقول ، وأما الثاني فمعروف لخبر الشرع ، ومما يدل على أن معنى قوله : أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله : { مما يخلق } أي من موجوداته ومحدثاته . ثم نزه تعالى نفسه تنزيهاً مطلقاً عن جميع ما لا يكون مدحة ، واتصافه تعالى ب { القهار } اتصاف على الإطلاق ، لأن أحداً من البشر إن اتصف بالقهر فمقيد في أشياء قليلة ، وهي في حين قهره لغيره مقهور لله تعالى عن أشياء كثيرة .
وقوله : { بالحق } معناه بالواجب الواقع موقعه الجامع للمصالح .
وقوله : { يكور } معناه يعيد من هذا على هذا ، ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض ، فكأن الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخرة جزء فيستره ، وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول فيستتر فيه ، فيجيء { يكور } على هذا معادلاً لقوله : { يولج } [ الحج : 61 ، لقمان : 29 ، فاطر : 13 ، الحديد : 6 ] ضداً له . وقال أبو عبيدة : هما بمعنى ، وهذا من قوله تقرير لا تحرير ، و " تسخير الشمس " دوامها على الجري واتساق أمرها على ما شاء الله تعالى ، و " الأجل المسمى " يحتمل أن يكون يوم القيامة حين تنفسد البنية ويزول جري هذه الكواكب ، ويحتمل أن يري وقت مغيبها كل يوم وليلة ، ويحتمل أن يريد أوقات رجوعها إلى قوانينها كل شهر في القمر وسنة في الشمس .
(5/465)

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
" النفس الواحدة " المرادة في الآية هي نفس آدم عليه السلام ، قاله قتادة وغيره . ويحتمل أن يكون اسم الجنس .
وقوله تعالى : { ثم جعل } ظاهر اللفظ يقتضي أن جعل الزوجة من النفس هو بعد أن خلق الخلق منها ، وليس الأمر كذلك .
واختلف الناس في تأويل هذا الظاهر ، فقالت فرقة قوله : { خلقكم من نفس واحدة } هو أخذ الذرية من ظهر آدم وذلك شيء كان قبل خلق حواء ، وقالت فرقة : إنما هي لترتيب الأخبار لا لترتيب المعاني . كأنه قال : ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها ، وفي نحو هذا المعنى ينشد هذا البيت [ أبو النواس ] : [ الخفيف ]
قل من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جدُّه
وقالت فرقة قوله : { خلقكم من نفس واحدة } عبارة عن سبق ذلك في علم الله تعالى ، فلما كان ذلك أمراً حتماً واقعاً ولا بد ، حسن أن يخبر عن تلك الحال التي كانت وثيقة ، ثم عطف عليها حالة جعل الزوجة منها ، فجاءت معان مترتبة وإن كان خروج خلق العالم من آدم إلى الوجود إنما يجيء بعد ذلك ، وزوج آدم حواء عليهما السلام ، وخلقت من ضلعه القصيري فيما روي ، ويؤيد هذا الحديث الذي فيه أن المرأة خلقت من ضلع ، فإن ذهبت تقيمه كسرته . وقالت فرقة : خلقت حواء من بقية طين آدم والأول أصح ، وقد تقدم شرح ذلك ، وقوله تعالى : { وأنزل لكم } قيل معناه : أن المخلوق الأول من هذه الأنعام خلق في السماء وأهبط إلى الأرض ، وقالت فرقة : بل لما نزل الأمر بخلقه وإيجاده من عند الله ، وكانت العادة في نعم الله ورحمته وأمطاره وغير ذلك أن يقال فيها إنها من السماء عبر عن هذه ب { أنزل } ، وقالت فرقة : لما كانت الأمطار تنزل وكانت الأعشاب والنبات عن المطر ، وكانت هذه الأنعام عن النبات في سمنها ومعاشها ، قال في هذه { أنزل } فهو على التدريج كما قال الراجز :
أسنمة الآبال في ربابه . ... وكما قال الشاعر [ عمرو بن حبان ] : [ الطويل ]
تعالى الندى في متنه وتحدرا ... وجعلها { ثمانية } ، لأن كل واحد فيه زوج للذكر من فرعه ، وهي الضأن والمعز والبقر والإبل .
وقوله تعالى : { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث } قال ابن زيد ، معناه : يخلقكم في البطون خلقاً من بعد خلق آخر في ظهر آدم وظهور الآباء . وقال مجاهد وعكرمة والسدي : يخلقكم في البطون رتباً خلقاً من بعد خلق على المضغة والعلقة وغير ذلك .
وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف : { يخلقكم } بإدغام القاف في الكاف في جميع القرآن . وقرأ الجمهور : { أُمهاتكم } بضم الهمزة . وقرأ يحيى بن وثاب : بكسرها وهي لغتان .
وقوله : { في ظلمات ثلاث } قالت فرقة : الأولى هي ظهر الأب ، ثم رحم الأم ، ثم المشيمة في البطن . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هي المشيمة والرحم والبطن ، وهذه الآيات كلها هي معتبر وتنبيه لهم على الخالق الصانع الذي لا يستحق العبادة غيره ، وهذا كله في رد أمر الأصنام والإفساد لها . ثم قال تعالى لهم : { ذلكم الله ربكم } وقد قامت على ذلك البراهين واتسقت الأدلة { فأنى تصرفون } ، أي من أي جهة تضلون وبأي سبب؟
(5/466)

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قال ابن عباس : هذه الآية مخاطبة للكفار الذي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم . و " عباده " : هم المؤمنون .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون مخاطبة لجميع الناس ، لأن الله تعالى غني عن جميع الناس وهم فقراء إليه ، وبين بعد البشر عن رضى الله إن كفروا بقوله : { إن تكفروا } .
واختلف المتأولون من أهل السنة في تأويل قوله : { ولا يرضى لعباده الكفر } فقالت فرقة : الرضى بمعنى الإرادة واللام ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن قضى الله له بالإيمان وحتمه له : و " عباده " على هذا ملائكته ومؤمنو البشر والجن ، وهذا يتركب على قول ابن عباس . وقالت فرقة : الكلام عموم صحيح ، والكفر يقع ممن يقع بإرادة الله ، إلا أنه بعد وقوعه لا يرضاه ديناً لهم ، فهذا يتركب على الاحتمال الذي تقدمك آنفاً . ومعنى : لا يرضاه لا يشكره لهم ولا يثيبهم به خيراً ، فالرضى على هذا هو صفة فعل لمعنى القبول ونحوه . وتأمل الإرادة فإنها حقيقة ، إنما هي فيما لم يقع بعد ، والرضى ، فإنما حقيقة فيما قد وقع ، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده ، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا .
وقوله تعالى : { وإن تشكروا يرضه لكم } عموم ، والشكر الحقيقي في ضمنه الإيمان .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الكسائي : " يرضهُ " بضمة على الهاء مشبعة . وقرأ ابن عامر وعاصم " يرضه " بضمة على الهاء غير مشبعة ، واختلف عن نافع وأبي عمرو . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : " يرضهْ " بسكون الهاء ، قال أبو حاتم : وهو غلط لا يجوز ، قال تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا يحمل أحد ذنب أحد ، وأنث " الوازرة " و " الأخرى " لأنه أراد الأنفس . والوزر الثقل ، وهذا خبر مضمنه الحض على أن ينظر كل أحد في خاصة أمره وما ينوبه في ذاته .
ثم أخبرهم تعالى بأن مرجعهم في الآخرة إلى ربهم ، أي إلى ثوابه أو عقابه ، فيوقف كل أحد على أعماله ، لأنه المطلع على نيات الصدور وسائر الأفئدة . و " ذات الصدور " : ما فيه من خبيئة ، ومنه قولهم : الذيب مغبوط بذي بطنه .
(5/467)

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
{ الإنسان } في هذه الآية يراد به الكافر بدلالة ما وصفه به آخراً من اتخاذ الأنداد لله تعالى ، وقوله : { تمتع بكفرك قليلاً } وهذه آية بين تعالى بها على الكفار أنهم على كل حال يلجؤون في حال الضرورات إليه وإن كان ذلك عن غير يقين منهم ولا إيمان فلذلك ليس بمعتد به . و { منيباً } معناه مقارباً مراجعاً بصيرته .
وقوله تعالى : { ثم إذا خوله نعمة } يحتمل أن يريد النعمة في كشف المذكور ، ويحتمل أن يريد نعمة أي نعمة كانت ، واللفظ يعم الوجهين : و { خوله } معناه ملكه وحكمه فيها ابتداء لا مجازاة ، ولا يقال في الجزاء خول ، ومنه الخول ، ومنه قول زهير :
هنالك أن يستخولوا المال يخولوا ... هذه الرواية الواحدة ، ويروى يستخبلوا .
وقوله تعالى : { نسي ما كان يدعو إليه من قبل } قالت فرقة : { مصدرية } ، والمعنى نسي دعاءه إليه في حال الضرر ورجع إلى كفره . وقالت فرقة : بمعنى الذي ، والمراد بها الله تعالى ، وهذا كنحو قوله : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } [ الكافرون : 3 - 5 ] وقد تقع " ما " مكان " من " فيما لا يحصى كثرة من كلامهم ، ويحتمل أن تكون { ما } نافية ، ويكون قوله : { نسي } كلاماً تاماً ، ثم نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصاً لله ومقصوداً به من قبل النعمة ، أي في حال الضرر ، ويحتمل أن تكون { ما } نافية ويكون قوله : { من قبل } يريد به : من قبل الضرر ، فكأنه يقول : ولم يكن هذا الكافر يدعو في سائر زمنه قبل الضرر ، بل ألجأه ضرره إلى الدعاء . والأنداد : الأضداد التي تضاد وتزاحم وتعارض بعضها بعضاً . قال مجاهد : المراد من الرجال يطيعونهم في معصية الله تعالى . وقال غيره : المراد الأوثان .
وقرأ الجمهور : " ليُضل " بضم الياء ، وقرأها الباقون : أبو عمرو وعيسى وابن كثير وشبل ( بفتحها ) ثم أمر تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة التهديد قولاً يخاطب به واحداً منهم : { تمتع بكفرك } أي تلذذ به واصنع ما شئت ، والقليل : هو عمر هذا المخطاب ، ثم أخبره أنه { من أصحاب النار } ، أي من سكانها والمخلدين فيها .
(5/468)

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة : " أمَن " بتخفيف الميم ، وهي قراءة أهل مكة والأعمش وعيسى وشيبة بن نصاح ، ورويت عن الحسن ، وضعفها الأخفش وأبو حاتم . وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي والحسن والأعرج وقتادة وأبو جعفر : " أمّن " بتشديد الميم ، فأما القراءة الأولى فلها وجهان ، أحدهما : وهو الأظهر أن الألف تقرير واستفهام ، وكأنه يقول : أهذا القانت خير أم هذا المذكور الذي يتمتع بكفره قليلاً وهو من أصحاب النار؟ وفي الكلام حذف يدل عليه سياق الآيات مع قوله آخراً : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ، ونظيره قول الشاعر [ امرىء القيس ] : [ الطويل ]
فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
ويوقف على هذا التأويل على قوله : { رحمة ربه } . والوجه الثاني : أن يكون الألف نداء ، والخطاب لأهل هذه الأوصاف ، كأنه يقول : أصحاب هذه الصفات { قل هي يستوي } فهذا السؤال ب { هل } هو للقانت ، ولا يوقف على التأويل على قوله : { رحمة ربه } ، وهذا معنى صحيح ، إلا أنه أجنبي من معنى الآيات قبله وبعده ، وضعفه أبو علي الفارسي . وقال مكي : إنه لا يجوز عند سيبويه ، لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهم وليس كما قال مكي ، أما مذهب سيبويه في أن حرف النداء لا يسقط مع الميم ، فنعم ، لأنه يقع الإلباس الكثير بذلك ، وأما أن هذا الموضع سقط فيه حرف النداء فلا ، والألف ثابتة فيه ظاهرة ، وأما القراءة بتشديد الميم فإنها : " أم " دخلت على : " من " والكلام على هذه القراءة لا يحتمل إلا المعادلة بين صنفين ، فيحتمل أن يكون ما يعادل " أم " متقدماً في التقدير ، كأنه يقول : أهذا الكافر خير أم من ، ويحتمل أن تكون " أم " قد ابتدأ بها بعد إضراب مقدر ويكون المعادل في آخر الكلام ، والأول أبين .
والقانت : المطيع ، وبهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه ، والقنوت في كلام العرب : يقع على القراءة وعلى طول القيام في الصلاة ، وبهذا فسرها ابن عمر رضي الله عنه ، وروي عن ابن عباس أنه قال : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فليره الله في سواد الليل ساجداً أو قائماً ، ويقع القنوت على الدعاء وعلى الصمت عبادة . وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن القنوت : الطاعة . وقال جابر بن عبد الله : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ فقال : " طول القنوت " والآناء : الساعات ، واحدها : أني كمعى ومنه قولهم : لن يعدو شيء أناه ، ومنه قوله تعالى : { غير ناظرين إناء } [ الأحزاب : 53 ] على بعض التأويلات في ذلك ويقال في واحدها أيضاً : أنى على وزن قفى ، ويقال فيه أيضاً : إني بكسر الهمزة وسكون النون ، ومنه قول الهذلي : [ البسيط ]
(5/469)

حلو ومر كعطف القدح مرته ... في كل إني حداه الليل ينتعل
وقرأ الضحاك : " ساجدٌ وقائمٌ " بالرفع فيهما .
وقوله تعالى : { يحذر الآخرة } معناه يحذر حالها وهولها . وقرأ سعيد بن جبير : " يحذر عذاب الآخرة " و { أولو } معناه أصحاب الألباب ، واحدهم : ذو .
وقرأ جمهور القراء : " قل يا عبادي " بفتح الياء . وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش : " يا عبادي " بياء ساكنة . وقرأ أبو عمرو أيضاً وعاصم والأعمش وابن كثير : " يا عباد " بغير ياء في الوصل .
ويروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة . ووعد تعالى بقوله : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } ويحتمل أن يكون قوله : { في هذه الدنيا } ، متعلقاً ب { أحسنوا } ، فكأنه يريد أن الذين يحسنون في الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة والنعيم ، قاله مقاتل ، ويحتمل أن يريد : أن الذين يحسنون لهم حسنة في الدنيا وهي العاقبة والظهور وولاية الله تعالى ، قاله السدي . وكان قياس قوله أن يكون في هذه الدنيا متأخراً ويجوز تقديمه ، والأول أرجح أن الحسنة هي في الآخرة . { وأرض الله } يريد بها البلاد المجاورة التي تقتضيها القصة التي في الكلام فيها ، وهذا حض على الهجرة ، ولذلك وصف الله الأرض بالسعة . وقال قوم : أراد ب " الأرض " هنا الجنة ، وفي هذا القول تحكم لا دليل عليه .
ثم وعد تعالى على الصبر على المكاره والخروج عن الوطن ونصرة الدين وجميع الطاعات : بأن الأجر يوفى { بغير حساب } ، وهذا يحتمل معنيين ، أحدهما : أن الصابر يوفى أجره ثم لا يحاسب عن نعيم ولا يتابع بذنوب ، فيقع { الصابرون } في هذه الآية على الجماعة التي ذكرها النبي عليه السلام أنها تدخل الجنة دون حساب في قوله : " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون وجوههم على صورة القمر ليلة البدر " الحديث على اختلاف ترتيباته . والمعنى الثاني : أن أجور الصابرين توفى بغير حصر ولا وعد ، بل جزافاً ، وهذه استعارة للكثرة التي لا تحصى ، ومنه قول الشاعر [ طويس المغني ] : [ الكامل ]
ما تمنعي يقضى فقد تعطينه ... في النوم غير مسرد محسوب
وإلى هذا التأويل ذهب جمهور المفسرين حتى قال قتادة : ليس ثم والله مكيال ولا ميزان ، وفي بعض الحديث أنه لما نزلت : { والله يضاعف لمن يشاء } [ البقرة : 261 ] قال النبي عليه السلام : اللهم زد أمتي فنزلت بعد ذلك : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } [ البقرة : 245 ] ، فقال : اللهم زد أمتي حتى أنزلت : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } فقال : رضيت يا رب .
(5/470)

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية بأن يصدع للكفار فيما أمر به من عبادة ربه .
وقوله : { وأمرت } لأن معناه : وأمرت بهذا الذي ذكرت لكي أكون أول من أسلم من أهل عصري وزمني ، فهذه نعمة من الله عليه وتنبيه منه .
وقوله : { أخاف إن عصيت } فعل معلق بشرط وهو العصيان ، وقد علم أنه عليه السلام معصوم منه ، ولكنه خطاب للأمة يعمهم حكمه ويحفهم وعيده .
وقوله تعالى { قل الله أعبد } تأكيد للمعنى الأول وإعلام بامتثاله كله للأمر ، وهذا كله نزل قبل القتال لأنها موادعات .
وقوله : { فاعبدوا ما شئتم من دونه } صيغة أمر على جهة التهديد كنحو قوله : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وقوله : { تمتع بكفرك } [ الزمر : 8 ] ، وهذا كثير ، و { الذين } في قوله : { الذين خسروا أنفسهم } في موضع رفع خبر ، لأن قوله : { وأهليهم } قيل معناه أنهم خسروا الأهل الذي كان يكون لهم لو كانوا من أهل الجنة ، فهذا كما لو قال : خسروا أنفسهم ونعيمهم ، أي الذي كان يكون بهم ، وقيل أراد الأنفس والأهلين الذين كانوا في الدنيا ، لأنهم صاروا في عذاب النار ، ليس لهم نفوس مستقرة ولا بدل من أهل الدنيا ، ومن له في الجنة قد صار له إما أهله وإما غيرهم على الاختلاف فيما يؤثر في ذلك فهو على كل حال لا خسران معه بتة .
(5/471)

لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
هذه صفة حال أهل جهنم . والظلة : ما غشي وغم كالسحابة وسقف البيت ونحوه ، فأما ما فوقهم فكونه ظلة بين ، وأما ما تحتهم فقالت فرقة : سمي ظلة لأنه يتلهب ويصعد مما تحتهم شيء كثير ولهب حتى يكون ظلة ، فإن لم يكن فوقهم شيء لكفى فرع الذي تحتهم في أن يكون ظلة ، وقالت فرقة : جعل ما تحتهم ظلة ، لأنه فوق آخرين ، وهكذا هي حالهم إلا الطبقة الأخيرة التي في القعر .
وقوله : { عباده } يريد جميع العالم خوفهم الله النار وحذرهم منها ، فمن هدي وآمن نجا ، ومن كفر حصل فيما خوف منه . واختلفت القراءة في قوله : " عباد " وقد تقدم نظيره .
وقوله تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت } الآية ، قال ابن زيد : إن سبب نزولها زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري ، والإشارة إليهم ، وقال ابن إسحاق : الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير ، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاؤوه ، فقالوا أسلمت؟ قال نعم ، وذكرهم بالله فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم هذه الآية ، وهي على كل حال عامة في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم حكمها . و { الطاغوت } : كل ما يعبد من دون الله . و { الطاغوت } أيضاً : الشيطان ، وبه فسر هنا مجاهد والسدي وابن زيد ، وأوقعه هنا على جماعة الشياطين ، ولذلك أنث الضمير بعد .
وقوله تعالى : { الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه } كلام عام في جميع الأقوال ، وإنما القصد الثناء على هؤلاء ببصائر هي لهم وقوام في نظرهم حتى أنهم إذا سمعوا قولاً ميزوه واتبعوا أحسنه .
واختلف المفسرون في العبارة عن هذا ، فقالت فرقة : أحسن القول كتاب الله ، أي إذا سمعوا الأقاويل وسمعوا القرآن اتبعوا القرآن . وقالت فرقة : القول هو القرآن و { أحسنه } ما فيه من عفو وصفح واحتمال على صبر ونحو ذلك . وقال قتادة : أحسن القول طاعة الله ، وهذه أمثلة وما قلناه أولاً يعمها .
(5/472)

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
أسقط العلامة التي في الفعل المسند إلى الكلمة لوجهين : أحدهما الحائل الذي بين الفعل والفاعل ، ولو كان متصلاً به لم يحسن ذلك ، والثاني أن الكلمة غير مؤنث حقيقي ، وهذا أخف وأجوز من قولهم : حضر القاضي يوماً امرأة ، لأن التأنيث هنا حقيقي . وقالت فرقة : في هذا الكلام محذوف أختصره لدلالة الظاهرة عليه تقديراً : { أفمن حق عليه كلمة العذاب } تتأسف أنت عليه أو نحو هذا من التقدير ، ثم استأنف توقيف النبي صلى الله عليه وسلم على أنه يريد أن ينقذ من في النار ، أي ليس هذا إليك . وقالت فرقة : الألف في قوله : { أفأنت } إنما هي مؤكدة زادها لطول ، وإنما معنى الآية : " أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟ " لكنه زاد الألف الثانية توكيداً للأمر ، وأظهر الضمير العائد تشهيراً لهؤلاء القوم وإظهاراً لخسة منازلهم ، وهذا كقول الشاعر [ عدي بن زيد العبادي ] : [ الخفيف ]
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... فإنما أظهر الضمير تنبيهاً على عظم الموت ، وهذا كثير ، ثم استفتح إخباراً آخر ب { لكن } وهذه معادلة وتخصيص على التقوى لمن فكر وازدجر .
وقوله تعالى : { من تحتها } أي من تحت الغرف ، وعادلت { غرف من فوقها غرف } ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم . والغرف : ما كان من المساكين مرتفعاً عن الأرض ، في الحديث : " إن أهل الجنة ليتراءون الغرف من فوقهم كما يتراءون الكواكب الذي في الأفق " و : { وعدَ الله } نصب على المصدر ، ونصبه إما بفعل مضمر من لفظه ، وإما بما تضمن الكلام قبل من معنى الوعد على الاختلاف الذي للنحاة في ذلك . ثم وقف نبيه صلى الله عليه وسلم على معتبر من مخلوقاته ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكل بشر داخل معه في معناه . وقال الطبري وغيره : أشار إلى ماء المطر ، وقالوا : العيون منه ، ودليل ذلك أنها تنماع عن وجوده وتيبس عند فقده . وقال الحسن بن مسلم بن يناق ، والإشارة إلى العيون وليست العيون من المطر ، ولكن ماؤها نازل من السماء . قال الشعبي : وكل ماء عذب في الأرض فمن السماء نزل .
قال القاضي أبو محمد : والقولان متقاربان : و : { سلكه } معناه : أجراه وأدخله ، ومنه قول الشاعر [ البسيط ]
حتى سلكن الشوى منهن في مسك ... من نسل جوابه الآفاق مهداج
ومنه قول امرىء القيس : [ السريع ]
وواحد الينابيع وهو العين بني لها بناء مبالغة من النبع . والزرع هنا واقع على كل ما يزرع . وقالت فرقة : { ألوانه } أعراضه من الحمرة والصفرة وغير ذلك . وقالت فرقة : { ألوانه } أنواعه من القمح والأرز . والذرة وغير ذلك . و : { يهيج } ييبس ، هاج النبات والزرع إذا يبس ، ومنه قول علي رضي الله عنه في الحيث الذي في غريب ابن قتيبة : ذمتي رهينة وأنا به زعيم . أي لا يهيج عن التقوى زرع قوم ، ولا ييبس على التقوى سنخ أصل ، والحديث . والحطام : اليابس المتفتت . ومعنى قوله : { لذكرى } أي للبعث من القبور وإحياء الموتى على ما يوجبه هذا المثال المذكور .
(5/473)

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
روي أن هذه الآية : { أفمن شرح الله صدره للإسلام } آية نزلت في علي وحمزة ، وأبي لهب وابنه هما اللذان كانا من القاسية قلوبهم ، وفي الكلام محذوف يدل الظاهر عليه ، تقديره ، أفمن شرح الله صدره كالقاسي القلب المعرض عن أمر الله . وشرح الصدر : استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله . و " النور " هداية الله تعالى ، وهي أشبه شيء بالضوء . قال ابن مسعود : قلنا يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال : " إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح " ، قالوا وما علامة ذلك؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت قبل الموت " . و " القسوة " : شدة القلب ، وهي مأخوذة من قسوة الحجر ، شبه قلب الكافر به في ضلالته وقلة انفعاله للوعظ . وقال مالك بن دينار : ما ضرب العبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب ، ويدل قوله : { فويل للقاسية } على المحذوف المقدر .
وقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } يريد به القرآن ، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قوماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار الدهر ، فنزلت الآية في ذلك .
وقوله : { متشابهاً } معناه : مستوياً لا تناقض فيه ولا تدافع ، بل يشبه بعضه بعضاً في وصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني ، إذ هي اليقين في العقائد في الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه .
وقوله : { مثاني } معناه : موضع تثنية للقصص والأقضية ، والمواعظ شتى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد . قال ابن عباس : ثنى فيه الأمر مراراً . ولا ينصرف { مثاني } لأنه جمع لا نظير له في الواحد .
وقوله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } عبارة عن قفّ شعر الإنسان عندما يداخله خوف ولين قلب عن سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه ، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع ، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فرقت القلوب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة " وقال العباس بن عبد المطلب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقها " وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن أقواماً اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال ابن عمر : وقد رئي ساقطاً عند سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله وما نسقط ، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم . وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذي يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه ثم يقرأ القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق .
وقوله : { ذلك هدى الله } يحتمل أن يشير إلى القرآن ، أي ذلك الذي هذه صفته هدى الله ، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود ، أي ذلك أمارة هدى الله ، ومن جعل { تقشعر } في موضع الصفة لم يقف على { مثاني } ، ومن جعله مستأنفاً وإخباراً منقطعاً وقف على { مثاني } وباقي الآية بين .
(5/474)

أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
هذا تقرير بمعنى التعجيب ، والمعنى : { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } المنعمين في الجنة .
واختلف المتأولون في قوله : { يتقي بوجهه } فقال مجاهد : يخر على وجهه في النار . وقالت فرقة : ذلك لما روي أن الكافر يلقى في النار مكتوفاً مربوطة يداه إلى رجليه مع عنقه ويكب على وجهه ، فليس له شيء يتقي به إلا الوجه . وقالت فرقة : المعنى صفة كثرة ما ينالهم من العذاب ، وذلك أنه يتقيه بجميع جوارحه ولا يزال العذاب يتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه وفي حواسه ، فإذ بلغ به العذاب إلى هذه الغاية ظهر أنه لا متجاوز بعدها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة ، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر : [ الكامل ]
يلقى السيوف بوجهه وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر
لأنه إنما أراد عظيم جرأته عليها فهو يلقاها بكل محن وبكل شيء منه حتى بوجهه وبنحره .
وقوله تعالى : { ذوقوا } عبارة عن باشروا ، وهنا محذوف تقديره : جزاء { ما كنتم تكسبون } ، ثم مثل لقريش بالأمم السالفة ، ثم أخبر بما نال تلك الأمم من كونها في الدنيا أحاديث ملعنة ، ولا خزي أعظم من هذا مع ما نال نفوسهم من الألم والذل والكرب ، ثم أخبر أن ما أعد لهم من عذاب الآخرة أكبر من هذا كله الذي كان في الدنيا .
وقوله : { قرآناً } قالت فرقة : هو نصب على الحال ، وقالت فرقة : هو نصب على المصدر . و : { عربياً } حال ، وقالت فرقة : نصب على التوطئة للحال ، والحال قوله : { عربياً } ونفى عنه العوج لأنه لا اختلاف فيه ولا تناقض ولا مغمز بوجه .
واختلفت عبارة المفسرين ، فقال عثمان بن عفان : المعنى غير متضاد ، قال ابن عباس : غير مختلف وقرأ مجاهد : غير ذي لبس . وقال السدي : غير مخلوق . وقال بكر المزني : غير ذي لحن . والعِوج بكسر العين في الأمر والمعنى وبفتحها في الأشخاص .
(5/475)

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
لما ذكر عز وجل أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملاً جاء بعد ذلك بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطراً وهو التوحيد ، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان والشياطين لرجال عدة في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة ، فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل ، فهو أبداً ناصب ، فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها ، ومتى أرضى صنماً منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر ، فهو أبداً تعب في ضلال ، وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك ، ومثل تعالى المؤمن بالله وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدته وقد ساس مولاه ، فالمولى يغفر زلته ويشكره على إعادة عمله .
وقوله : { ضرب } مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه ، ومنه قولهم : هذا ضرب هذا ، أي شبهه . و : { مثلاً } مفعول ب { ضرب } ، و : { رجلاً } نصب على البدل . قال الكسائي : وإن شئت على إسقاط الخافض . أي مثلاً لرجل أو في رجل ، وفي هذا نظر ، و : { متشاكسون } معناه : لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج ومتابعة ومحاذقة ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
خلقت شكساً للأعادي مشكسا ... أكوي السريين وأحسن النسا
من شاء من حر الجحيم استقبسا ... وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : " سالماً " ، على اسم الفاعل بمعنى سلم من الشركة فيه . قال أبو عمرو معناه : خالصاً ، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والجحدري والزهري والحسن بخلاف عنه . وقرأ الباقون : " سَلَماً " ، بفتح السن اللام ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وأبي رجاء وطلحة والحسن بخلاف . وقرأ سعيد بن جبير : " سِلْماً " ، بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدران وصف بهما الرجل بمعنى خالصة وأمر قد سلم له .
ثم وقف الكفار بقوله : { هل يستويان مثلاً } ونصب { مثلاً } على التمييز ، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان ، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا ، فقال : { الحمد لله } أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم . ثم قال تعالى : { بل أكثرهم لا يعلمون } فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى ، تقديره : الحمد لله على ظهور الحجة ، وأن الأمر ليس كما يقولون { بل أكثرهم لا يعلمون } . و " أكثر " في هذه الآية على بابها ، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به ورفض الأصنام كورقة وزيد وقس . ثم ابتدأ القول معهم غرضاً آخر من الوعيد يوم القيامة والخصوم ومن التحذير من حال الكذبة على الله المكذبين بالصدق ، فقدم تعالى لذلك توطئة مضمنها وعظ النفوس وتهيئتها لقبول الكلام وحذف التوعد ، وهذا كما تريد أن تنهى إنساناً عن معاصيه أو تأمره بخير فتفتتح كلامك بأن تقول : كلنا يفنى ولا بد للجميع من الموت ، أو كل من عليها فان ، ونحو هذا مما توقن به نفس الذي تحاور ، ثم بعد هذا تورد قولك ، فأخبر تعالى أن الجميع " ميت " .
(5/476)

وهذه قراءة الجمهور ، وقرأها " مائت " و " مايتون " بألف ابن الزبير وابن محيصن وابن أبي إسحاق واليماني وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة . والضمير في { إنهم } لجميع العالم ، دخل رجل على صلة بن أشيم فنعى إليه أخاه ، وبين يدي صلة طعام فقال صلة للرجل : ادن فكل ، فإن أخي قد نعي إليَّ منذ زمان ، قال الله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } والضمير في { إنكم } قيل هو عام فيختصم يوم القيامة المؤمنون والكافرون فيما كان من ظلم الكافرين لهم في كل موطن ظلموا فيه ، ومن هذا قول علي بن أبي طالب : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الرحمن ، فيختصم علي وحمزة وعبيدة بن الحارث مع عتبه وشيبة والوليد ، ويختصم أيضاً المؤمنون بعضهم مع بعض في ظلاماتهم ، قاله أبو العالية وغيره . وقال الزبير بن العوام للنبي عليه السلام : أيكتب علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال نعم ، حتى يؤدى إلى ذي كل حق حقه . وقد قال عبد الله بن عمر لما نزلت هذه الآية : كيف نختصم ونحن أخوان؟ فلما قتل عثمان وضرب بعضنا وجوه بعض بالسيوف ، قلنا هذا الخصام الذي وعدنا ربنا . ويختصم أيضاً على ما روي : الروح مع الجسد ، في أن يذنب كل واحد منهما صاحبه ويجعل المعصية في حيزه ، فيحكم الله تعالى بشركتهما في ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى الآية عندي أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في معنى الشريعة وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم .
ثو وقفهم توقيفاً معناه نفي الموقف عليه بقوله : { فمن أظلم ممن } أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، والإشارة بهذا الكذب بقولهم : إن لله صاحبة وولداً وقولهم : إن كذا حرام ، وإن كان حلال افتراء على الله ، وكذبوا أيضاً بالصدق ، وذلك تكذيبهم أقوال محمد عليه السلام عن الله تعالى ما كان من ذلك معجزاً أو غير معجز . ثم توعدهم تعالى تواعداً فيه احتقارهم بقوله على وجه التوقيف : { أليس في جنهم مثوى للكفارين } ، والمثوى موضع الإقامة .
(5/477)

وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
قوله تعالى : { والذي جاء بالصدق } معادل لقوله : { فمن أظلم ممن كذب } [ الزمر : 32 ] { فمن } [ الزمر : 32 ] هنالك للجميع والعموم ، فكذلك هاهنا هي للجنس أيضاً ، كأنه قال : والفريق الذي جاء بعضه بالصدق وصدق بعضه ، ويستقيم المعنى واللفظ على هذا الترتيب . وفي قراءة ابن مسعود : والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به . و " الصدق " هنا : القرآن وأنباؤه والشرع بجملته . وقالت فرقة : { الذي } يراد به الذين ، وحذفت النون لطول الكلام ، وهذا غير جيد ، وتركيب جاء عليه يرد ذلك ، وليس هذا كقول الفرزدق :
إن عميَّ اللذا قتلا الملوك ... ونظير الآية قول الشاعر [ أشهب بن رملية ] : [ الطويل ]
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هُم القوم كل القوم يا أم خالد
وقال ابن عباس : { والذي جاء بالصدق } هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي صدق به ، وقالت فرقة من المفسرين : " الذي جاء " هو جبريل ، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم . وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي وجماعة " الذي جاء " هو محمد عليه السلام ، والذي صدق هو أبو بكر . وقال أبو الأسود وجماعة منهم مجاهد : الذي صدق هو علي بن أبي طالب وقال قتادة وابن زيد : " الذي جاء " هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي صدق به هم المؤمنون . قال مجاهد هم أهل القرآن . وقالت فرقة : بالعموم الذي ذكرناه أولاً ، وهو أصوب الأقوال .
وقرأ أبو صالح ومحمد بن جحادة وعكرمة بن سليمان : " وصدَق به " بتخفيف الدال ، بمعنى استحق به اسم الصدق ، فعلى هذه القراءة يكون إسناد الأفعال كلها إلى محمد عليه السلام ، وكأن أمته في ضمن القول ، وهو الذي يحسن { أولئك هم المتقون } قال ابن عباس : اتقوا الشرك .
واللام في قوله : { ليكفر } يحتمل أن تتعلق بقوله : { المحسنين } ، أي الذين أحسنوا لكي يكفر ، وقاله ابن زيد . ويحتمل أن تتعلق بفعل مضمر مقطوع مما قبله ، كأنك قلت : يسرهم الله لذلك ليكفر ، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير ، واستدلوا على أن { عملوا } هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام .
وقوله تعالى : { أليس الله بكاف عبده } تقوية لنفس النبي عليه السلام ، لأن كفار قريش كانت خوفته من الأصنام ، وقالوا يا محمد أنت تسبها ونخاف أن تصيبك بجنون أو علة ، فنزلت الآية في ذلك .
وقرأ حمزة والكسائي : " عباده " يريد الأنبياء المختصين به ، وأنت أحدهم ، فيدخل في ذلك المطيعون من المؤمنين والمتوكلون على الله ، وهذه قراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش . وقرأ الباقون : " عبده " وهو اسم جنس ، وهي قراءة الحسن وشيبة وأهل المدينة ويقوي أن الإشارة إلى محمد عليه السلام قوله : { ويخوفونك } .
وقوله : { من دونه } يريد بالذين يعبدون من دونه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى كسر العزى ، فقال سادنها : يا خالد ، إني أخاف عليك منها ، فلها قوة لا يقوم لها شيء ، فأخذ خالد الفأس فهشم به وجهها وانصرف . ثم قرر تعالى الهداية والإضلال من عنده بالخلق والاختراع ، وأن ما أراد من ذلك لا راد له . ثم توعدهم بعزته وانتقامه ، فكان ذلك ، وانتقم منهم يوم بدر وما بعده .
(5/478)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
هذا ابتداء احتجاج عليهم بحجة أخرى ، وجملتها أن وقفوا على الخالق المخترع ، فإذا قالو إنه الله لم يبق لهم في الأصنام غرض إلا أن يقولوا إنها تنفع وتضر ، فلما تقعد من قولهم إن الله هو الخالق ، قيل لهم { أفرأيتم } هؤلاء إذا أراد الله أمراً بهم قدرتم على نقضه؟ وحذف الجواب عن هذا ، لأنه من البين أنه لا يجيب أحد إلا بأنه لا قدرة بالأصنام على شيء من ذلك .
وقرأ : " إن أرادنيَ " بياء مفتوحة جمهور القراء والناس . وقرأ الأعمش : { أرادني الله } بحذف الياء في الوصل ، وروى خارجة " إن أراد " بغير ياء .
وقرأ جمهور القراء والأعرج وأبو جعفر والأعمش وعيسى وابن وثاب : " كاشفاتُ ضرِّه " بالإضافة . وقرأ أبو عمر وأبو بكر عن عاصم : " كاشفاتٌ ضرَّه " بالتنوين والنصب في الراء ، وهي قراءة شيبة والحسن وعيسى بخلاف عنه وعمرو بن عبيد ، وهذا هو الوجه فيما لم يقع بعد ، وكذلك الخلاف في : { ممسكات رحمته } .
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالاتكال على الله ، وأنه حسبه من كل شيء ومن كل ناصر ، ثم أمره بتوعدهم في قوله : { اعملو على مكانتكم إني عامل } ما رأيتموه متمكناً لكم على حالتكم التي استقر رأيكم عليها .
وقرأ الجمهور : " مكانتكم " بالإفراد . وقرأ " مكاناتكم " بالجمع : الحسن وعاصم .
وقوله : { اعملوا } لفظ بمعنى الوعيد . و " العذاب المخزي " : هو عذاب الدنيا يوم بدر وغيره .
و " العذاب المقيم " : هو عذاب الآخرة ، أعاذنا الله تعالى منه برحمته .
(5/479)

إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
هذا إعلام بعلو مكانة محمد عليه السلام واصطفاء ربه له . و { الكتاب } القرآن .
وقوله : { بالحق } يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يريد مضمناً الحق في أخباره وأحكامه ، والآخر : أن يريد أنه أنزله بالواجب من إنزاله وبالاستحقاق لذلك لما فيه من مصلحة العالم وهداية الناس ، وكأن هذا الذي فعل الله تعالى من إنزال كتاب إلى عبيده هو إقامة حجة عليهم ، وبقي تكسبهم بعد إليهم ، { فمن اهتدى فلنفسه } عمل وسعى ، { ومن ضل فعليها } جنى ، والهدى والضلال إنما لله تعالى فيهما خلق واختراع ، وللعبد تكسب ، عليه يقع الثواب أو العقاب . وأخبر نبيه أنه ليس بوكيل عليهم ولا مسيطر ، والوكيل : القائم على الأمر حتى يكمله ، ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبر تدل الناظر على الوحدانية وأن ذلك لا شرك فيه لصنم وهي حالة التوفي ، وذلك أن الله تعالى ما توفاه على الكمال فهو الذي يموت ، وما توفاه متوفياً غير مكمل فهو الذي يكون في النوم ، قال ابن زيد : النوم وفاة ، والموت وفاة . وكثرت فرقة في هذه الآية وهذا المعنى . ففرقت بين النفس والروح ، وفرق قوم أيضاً بين نفس التمييز ونفس التخيل ، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي غلبة ظن . وحقيقة الأمر في هذا هي مما استأثر الله به وغيبه عن عباده في قوله : { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] ويكفيك أن في هذه الآية { يتوفى الأنفس } ، وفي الحديث الصحيح : " إن الله قبض أرواحنا حين شاء وردها علينا حين شاء " في حديث بلال في الوادي ، فقد نطقت الشريعة بقبض الروح والنفس في النوم وقد قال الله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] فظاهر أن التفصيل والخوض في هذا كله عناء وإن كان قد تعرض القول في هذا ونحوه أئمة ، ذكره الثعلبي وغيره عن ابن عباس أنه قال : في ابن آدم نفس بها العقل والتمييز ، وفيه روح به النفس والتحرك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه . والأجل المسمى في هذه الآية : هو عمر كل إنسان .
وقرأ جمهور القراء " قَضى عليها " بفتح القاف على بناء الفعل للفاعل . وقرأ حمزة والكسائي " قُضي " بضم القاف على بنائه للمفعول ، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى . ثم أحال أهل الفكرة على النظر في هذا ونحوه فأنه من البين أن هذه القدرة لا يملكها ويصرفها إلا الواحد الصمد ، لا رب غيره .
(5/480)

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
{ أم } هنا مقطوعة مما قبلها ، وهي مقدرة بالألف وبل ، وهذا تقرير وتوبيخ ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوقفهم على الأمر وعلى أنهم يرضون بهذا مع كون الأصنام بصورة كذا وكذا من عدم الملك والعقل . والواو في قوله : { أو لو } واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام ، ومتى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت التقرير .
ثم أمره بأن يخبر بأن جميع الشفاعة إنما هو لله تعالى . و : { جميعاً } نصب على الحال ، والمعنى ان الله تعالى يشفع ثم لا يشفع أحد قبل شفاعته إلا بإذنه ، فمن حيث شفاعة غيره موقوفة على إذنه بالشفاعة كلها له ومن عنده .
وقوله تعالى : { وإذا ذكر الله وحده } الآية ، قال مجاهد وغيره : نزلت في قراءة النبي عليه السلام سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار ، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته ، فقال : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، إنهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهم لترتجى } [ النجم : 19 ] فاستبشر الكفار بذلك وسروا ، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان ، أنفوا واستكبروا و { اشمأزت } نفوسهم ، ومعناه تقبضت كبراً أو أنفة وكراهية ونفوراً ، ومنه قول عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولته عشوزنة زبونا
و : { الذين من دونه } يريد الذين يعبدون من دونه ، وجاءت العبارة في هذه الآية عن الأصنام كما يجيء عمن يعقل من حيث صارت في حيز من يعقل ، ونسب إليها الضر والنفع والألوهية ، ونفي ذلك عنها فعوملت معاملة من يعقل . و : { وحده } منصوب عند سيبويه على المصدر ، وعند الفراء على الحال .
(5/481)

قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
أمر الله تعالى نبيه بالدعاء ورد الحكم إلى عدله ، ومعنى هذا الأمر تضمن الإجابة ، و { اللهم } عند سيبويه منادى ، وكذلك عند الكوفيين ، إلا أنه خالفهم في هذه الميم المشددة . فقال سيبويه : هي عوض من حرف النداء المحذوف إيجازاً ، وهي دلالة على أن ثم ما حذف . وقال الكوفيون : بل هو فعل اتصل بالمكتوبة وهو : أم ، ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ، فكأن معنى { اللهم } : بالله أم بفضلك ورحمتك .
و : { فاطر } منادى مضاف ، أي { فاطر السماوات } . و { الغيب } : ما غاب عن البشر . و { الشهادة } : ما شاهدوه : ثم أخبر تعالى عن سوء حال الكفرة يوم القيامة ، وأن ما ينزل بهم لو قدروا على الافتداء منه بضعف الدنيا بأسرها لفعلوا .
وقوله : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة متنوعة حسب ضلالتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه ، فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة وقصرت به حالاتهم ظهر لكل واحد ما كان يظن . وقال سفيان الثوري : ويل لأهل الرياء من هذه الآية . وقال عكرمة بن عمار جزع ابن المنكدر عند الموت فقيل له ما هذا؟ فقال أخاف هذه الآية { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } . { وحاق } معناه : نزل وثبت ولزم .
وقوله : { ما كانوا } هو على حذف مضاف تقديره : { وحاق بهم } جزاء { ما كانوا به يستهزئون } .
(5/482)

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
هذه حجة تلزم عباد الأوثان التناقض في أعمالهم ، وذلك أنهم يعبدون الأوثان ويعتقدون تعظيمها ، فإذا أزفت آزفة ونالت شدة نبذوها ونسوها ودعوا الخالق المخترع رب السماوات والأرض . و : { الإنسان } في هذه الآية للجنس . و : { خولناه } معناه : ملكناه . قال الزجاج وغيره : التخويل : العطاء عن غير مجازاة . والنعمة هنا : عامة في جميع ما يسديه الله إلى العبد ، فمن ذلك إزالة الضر المذكور ، ومن ذلك الصحة والأمن والمال ، وتقوى الإشارة إليه في الآية بقوله : { إنما أوتيته على علم } وبقوله آخراً { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } ، وبذكر الكسب ، وكذلك الضمير في : { أوتيته } وذلك يحتمل وجوهاً ، منها : أن يريد بالنعمة المال كما قدمناه ، ومنها أن يعيد الضمير على المذكور ، إذ اسم النعمة يعم ما هو مذكر وما هو مؤنث ، ومنها : أن يكون " ما " في قوله : { إنما } بمعنى الذي ، وعلى الوجهين الأولين كافة .
وقوله : { على علم } في موضع نصب على الحال مع أن تكون " ما " كافة ، وأما إذا كانت بمعنى الذي ، ف { على علم } في موضع خبر " إن " ودال على الخبر المحذوف ، كأنه قال : هو على علم ، يحتمل أن يريد على علم مني بوجه المكاسب والتجارات وغير ذلك ، قاله قتادة . ففي هذا التأويل أعجاب بالنفس وتعاط مفرط ونحو هذا ، ويحتمل أن يريد على علم من الله في ، وشيء سبق لي ، واستحقاق حزته عند الله لا يضرني معه شيء ، ففي هذا التأويل اغترار بالله تعالى وعجز وتمن على الله . ثم قال تعالى : { بل هو فتنة } أي ليس الأمر كما قال ، بل هذه الفعلة به فتنة له وابتلاء . ثم أخبر تعالى عمن سلف من الكفرة أنهم قالوا هذه المقالة كقارون وغيره ، وأنهم ما أغنى عنهم كسبهم واحتجانهم للأموال ، فكذلك لا يغني عن هؤلاء .
ثم ذكر تعالى على جهة التوعد لهؤلاء في نفس المثال أن أولئك أصابهم { سيئات ما كسبوا } وأن الذي ظلموا بالكفر من هؤلاء المعاصرين لك { سيصيبهم سيئات ما كسبوا } ( وأن الذين ظلموا بالكفر ما أصاب المتقدمين ) وهذا خبر من الله تعالى أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره . و : { معجزين } معناه مفلتين وناجين بأنفسهم . ثم قرر على الحقيقة في أمر الكسب وسعة النعم فقال : { أولم يعلموا أن الله } هو الذي { يبسط الرزق } لقوم ويضيقه على قوم بمشيئته وسابق علمه ، وليس ذلك لكيس أحد ولا لعجزه . { ويقدر } معناه : يضيق كما قال : { ومن قدر عليه رزقه } [ الطلاق : 7 ] .
(5/483)

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة في كافر ومؤمن ، أي إن توبة الكافر تمحو ذنوبه ، وتوبة العاصي تمحو ذنبه . واختلف هل يكون في المشيئة أو هو مغفور له ولا بد؟ فقالت فرقة من أهل السنة : هو مغفور له ولا بد ، وهذا مقتضى ظواهر القرآن ، وقالت فرقة : التائب في المشيئة ، لكن يغلب الرجاء في ناحيته ، والعاصي في المشيئة ، لكن يغلب الخوف في ناحيته .
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية ، فقال عطاء بن يسار : نزلت في وحشي قاتل حمزة . وقال قتادة والسدي وابن أبي إسحاق : نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنهم قريش فافتتنوا ، ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم فنزلت الآية فيهم ، منهم الوليد بن الوليد ، وهشام بن العاصي ، وهذا قول عمر بن الخطاب وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي الحديث . وقالت فرقة : نزلت في قوم كفار من أهل الجاهلية ، قالوا : وما ينفعنا الإسلام ونحن قد زنينا وقتلنا الناس وأتينا كل كبيرة فنزلت الآية فيهم . وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر : هذه أرجى آية في القرآن . وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : " ما أحب أن لي الدنيا بما فيها بهذه الآية " ، { يا عبادي } و : { أسرفوا } معناه : أفرطوا وتعدوا الطور . والقنط . أعظم اليأس .
وقرأ نافع وجمهور الناس : " تقَنطوا " بفتح النون . قال أبو حاتم : يلزمهم أن يقرؤوا : { من بعد ما قنطوا } [ الشورى : 28 ] بالكسر ، ولم يقرأ به أحد . وقرأ الأشهب العقيلي بضم النون . وقرأ أبوعمرو وابن وثاب بكسرها ، وهي لغات .
وقوله : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } عموم بمعنى الخصوص ، لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعاً ، وهي أيضاً في المعاصي مقيدة بالمشيئة . و { جميعاً } نصب هلى الحال . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : " إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي " . وقرأ ابن مسعود : " إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء " . { وأنيبوا } معناه : ارجعوا وميلوا بنفوسكم ، والإنابة : الرجوع بالنفس إلى الشيء .
وقوله : { من قبل أن يأتيكم العذاب } توعد بعذاب الدنيا والآخرة .
وقوله تعالى : { واتبعوا أحسن } معناه : أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيرة وأوامر ونواهي منجية وعدات على الطاعات والبر وحدوداً على المعاصي ووعيداً على بعضها ، فالأحسن أن يسلك أن يسلك الإنسان طريق التفهم والتحصيل ، وطريق الطاعة والانتهاء والعفو في الأمور ونحو ذلك ، فهو أحسن من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية فيجد أو يقع تحت الوعيد ، فهذا المعنى هو المقصود ب { أحسن } ، وليس المعنى أن بعض القرآن أحسن من بعض من حيث هو قرآن ، وإنما هو أحسن كله بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يلقى من عواقبها . قال السدي : الأحسن هو ما أمر الله تعالى به في كتابه . و : { بغتة } معناه : فجأة وعلى غير موعد . و : { تشعرون } مشتق من الشعار .
(5/484)

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
{ أن } في هذه الآية مفعول من أجله أي أنيبوا وأسلموا من أجل أن تقول .
وقرأ جمهور الناس : " يا حسرتى " والأصل " يا حسرتي " ، ومن العرب من يرد ياء الإضافة ألفاً فيقول : يا غلاماً ويا جاراً . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : " يا حسرتايَ " بفتح الياء ، ورويت عنه بسكون الياء ، قال أبو الفتح : جمع بين العوض والمعوض منه . وروى ابن جماز عن أبي جعفر : " يا حسرتي " بكسر التاء وسكون الياء . قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل ، أي هذا وقتك وزمانك فاحضري . و : { فرطت } معناه : قصرت في اللازم .
وقوله تعالى : { في جنب الله } معناه : في مقاصدي إلى الله وفي جهة طاعته ، أي في تضييع شريعته والإيمان به . والجنب : يعبر به عن هذا ونحوه . ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
أفي جنب بكر قطعتني ملامة ... لعمري لقد طالت ملامتها بيا
ومنه قول الآخر :
الناس جنب والأمير جنب ... وقال مجاهد : { في جنب الله } أي في أمر الله . وقول الكافر : { وإن كنت لمن الساخرين } ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى . والسخر : الاستهزاء .
وقوله : { أو تقول } في الموضعين عطف على قوله : { أن تقول } الأول . و : { كرة } مصدر من كر يكر . وقوله : { فأكون } نصب بأن مضمرة مقدرة ، وهو عطف على قول : { كرة } والمراد : لو أن لي كرة فكونا ، فلذلك احتيج إلى : ليكون مع الفعل بتأويل المصدر ، ونحوه قول الشاعر أنشده الفراء : [ الطويل ]
فما لك منها غير ذكرى وحسبة ... وتسأل عن ركبانها أين يمموا
وقد قرر بعض الناس الكلام : أنه لي أن أكر فأكون ، ذكره الطبري ، وهذا الكون في هذه الآية داخل في التمني .
وقوله : { بلى } جواب لنفي مقدر في قوله : هذه النفس كأنها قالت : فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر ، أو قالت : فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا ، وحق { بلى } أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، وقرأ جمهور الناس " جاءتكَ " بفتح الكاف ، وبفتح التاء من قوله : " فكذبتَ " و " استكبرتَ وكنتَ " على مخاطبة الكافر ذي النفس . وقرأ ابن يعمر والجحدري بكسر الكاف والتاء في الثلاثة على خطاب النفس المذكورة . قال أبو حاتم : روتها أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ الأعمش : " بلى قد جاءته " بالهاء .
ثم خاطب تعالى نبيه بخبر يراه يوم القيامة من حالة الكفار ، في ضمن هذا الخبر وعيد بين لمعاصريه .
وقوله : { ترى } هو من رؤية العين ، وكذبهم على الله : هو في أن جعلوا لله البنات والصاحبة ، وشرعوا ما لم يأذن به إلى غير ذلك .
وقوله : { وجوههم مسودة } جملة في موضع الحال ، وظاهر الآية : أن لون وجوههم يتغير ويسود حقيقة ، ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز ، وعبر بالسواد عن أن يراد به وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم . والمثوى : موضع الثواء والإقامة . والمتكبر : رافع نفسه إلى فوق حقه ، وقال النبي عليه السلام : " الكبر سفه وغمط الناس أي احتقارهم "
(5/485)

وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)
ذكر الله تعالى المتقين ونجاتهم ليعادل بذلك ما تقدم من ذكر الكفرة ، وفي ذلك ترغيب في حالة المتقين ، لأن الأشياء تتبين بأضدادها .
وقرأ جمهور القراء : " بمفازتهم " وذلك على اسم الجنس ، وهو مصدر من الفوز . وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكسر عن عاصم : " بمفازاتهم " على الجمع من حيث النجاة أنواع ، الأسباب مختلفة وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن والأعمش ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره : وينجي الله الذين اتقوا بأسباب أو بدواعي مفازاتهم . قال السدي : { بمفازتهم } بفضائلهم . وقال ابن زيد بأعمالهم .
وقوله تعالى : { الله خالق كل شيء } كلام مستأنف دال على الوحدانية ، وهو عموم معناه الخصوص . والوكيل : القائم على الأمر ، الزعيم بإكماله وتتميمه . والمقاليد : المفاتيح ، وقال ابن عباس ، واحدها مقلاد ، مثل مفتاح ، وفي كتاب الزهراوي : واحد المقاليد : إقليد ، وهذه استعارة كما تقول بيدك يا فلان مفتاح هذا الأمر ، إذا كان قديراً على السعي فيه . وقال السدي : المقاليد الخزائن ، وهذه عبارة غير جيدة ، ويشبه أن يقول قائل : المقاليد إشارة إلى الخزائن أو دالة عليها فيسوغ هذا القول ، كما أن الخزائن أيضاً في جهة الله إنما تجيء استعارة ، بمعنى اتساع قدرته ، وأنه يبتدع ويخترع ، ويشبه أن يقال فيما قد أوجد من المخلوقات كالريح والماء وغير ذلك إنها في خزائنه ، وهذا كله بتجوز على جهة التقريب والتفهيم للسامعين ، وقد ورد القرآن بذكر الخزائن ، ووقعت في الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : " وما فتح الليلة من الخزائن " والحقيقة في هذا غير بعيدة ، لكنه ليس باختزان حاجة ولا قلة قدرة كما هو اختزان البشر . وقال عثمان رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن { مقاليد السماوات والأرض } فقال : " لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول لا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير " .
وقوله : { أفغير } منصوب ب { أعبد } ، كأنه قال : أفغير الله أعبد فيما تأمروني؟ ويجوز أن يكون نصبه ب { تأمروني } على إسقاط أن ، تقديره أفغير الله تأمروني أن أعبد .
وقرأت فرقة : " تأمرونني " بنونين ، وهذا هوا الأصل . وقرأ ابن كثير : " تأمرونِّيَ " بنون مشددة مكسورة وياء مفتوحة . وقرأ ابن عامر : " تأمروني " بياء ساكنة ونون مكسورة خفيفة ، وهذا على حذف النون الواحدة وهي الموطئة لياء المتكلم ، ولا يجوز حذف النون الأولى وهو لحن لأنها علامة رفع الفعل ، وفتح نافع ، الياء على الحذف فقرأ : " تأمروني " وقرأ الباقون بشد النون وبسكون الياء .
وقوله تعالى : { ولقد أوحي إليك } الآية ، قالت فرقة : في الآية تقديم وتأخير كأنه قال : " لقد أوحي إليك لئن اشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك " ، وقالت فرقة : الآية على وجهها ، المعنى : " ولقد أوحي إلى كل نبي لئن أشركت ليحبطن عملك " . وحبط : معناه : بطل وسقط ، وبهذه الآية بطلت أعمال المرتد من صلاته وحجه وغير ذلك .
(5/486)

بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
المكتوبة : نصب بقوله : { فاعبد } . وقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } معناه : وما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه بصفاته ، ولا نفوا عنه ما لا يليق به .
واختلف الناس في المعنى بالضمير في قوله : { قدروا } قال ابن عباس : نزل ذلك في كفار قريش الذين كانت هذه الآيات كلها محاورة لهم ورداً عليهم . وقالت فرقة : نزلت الآية في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله ، فألحدوا وجسموا وأتوا كل تخليط ، فنزلت الآية فيهم ، وفي الحديث الصحيح : أنه جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه ، فقال له النبي عليه السلام حدثنا ، فقال : إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع ، والماء الشجر على أصبع ، وجمع الخلائق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً له ، ثم قرأ هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : فرسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل بالآية ، وقد كانت نزلت . وقوله في الحديث : تصديقاً له ، أي في أنه لم يقل إلا ما رأى في كتب اليهود ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر المعنى ، لأن التجسيم فيه ظاهر واليهود معروفون باعتقاده ، ولا يحسنون حمله على تأويله من أن الأصبع عبارة عن القدرة ، أو من أنها أصبع خلق يخلق لذلك ، ويعضدها تنكير الأصبع .
وروى سعيد بن المسيب أن سبب نزول الآية أن طائفة من اليهود جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ، هذا الله خلق الأشياء ، فمن خلق الله؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساورهم ، ونزلت الآية في ذلك .
وقرأ جمهور الناس : " قدْره " بسكون الدال ، وقرأ الأعمش : بفتح الدال . وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمرو وأبو نوفل : " وما قدّروا " بشد الدال " حق قدَره " بفتح الدال .
وقوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } معناه : في قبضته . وقال ابن عمر ما معناه : أن الأرض في قبضة اليد الواحد ، { والسماوات مطويات } باليمين الأخرى ، لأنه كلتا يديه يمين ، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : الأرض جميعاً قبضته ، والسماوات وكل ذلك بيمينه .
وقرأ عيسى بن عمر : " مطوياتٍ " بكسر التاء المنونة ، والناس على رفعها .
وعلى كل وجه ، ف " اليمين " هنا و " القبضة " وكل ما ورد : عبارة عن القدرة والقوة ، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل ، وما ذهب إليه القاضي من أنها صفات زائدة على صفات الذات قول ضعيف ، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحضنها العلم .
(5/487)

قال عز وجل : { سبحانه وتعالى عما يشركون } . أي هو منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به . ثم ذكر تعالى النفخ في الصور ليصعق الأحياء من أهل الدنيا والسماء ، وفي بعض الأحاديث من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قبل هذه الصعقة الفزع ولم تتضمنها هذه الآية . و : " صعق " في هذه الآية معناه : خر ميتاً . و : { الصور } القرن ، ولا يتصور هنا غير هذا ، ومن يقول { الصور } جمع صورة ، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث .
وقرأ قتادة : " في الصوَر " بفتح الواو ، وهي جمع صورة .
وقوله : { إلا من شاء الله } قال السدي : استثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، ثم أماتهم بعد هذه الحال ، وروي ذلك عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : استثنى الأنبياء : وقال ابن جبير : استثنى الشهداء .
وقوله : { ثم نفخ فيه أخرى } هي نفخة البعث . وروي أن بين النفختين أربعين ، لا يدري أبو هريرة سنة أو يوماً أو شهراً أو ساعة . وباقي الآية بين .
(5/488)

وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
{ أشرقت } معناه : أضاءت وعظم نورها ، يقال شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت .
وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير : " أشرِقت " بضم الهمزة وكسر الراء على بناء الفعل للمفعول ، وهذا إنما يترتب في فعل يتعدى ، فهذا على أن يقال : أشرق البيت ، وأشرقه السراج ، فيكون الفعل متجاوزاً أو غير متجاوز بلفظ واحد كرجع ورجعته ووقف ووقفته ، ومن المتعدي من ذلك يقال أشرقت الأرض : و : { الأرض } في هذه الآية : الأرض المبدلة من الأرض المعروفة .
وقوله : { بنور ربها } إضافة خلق إلى خالق ، أي بنور الله تعالى ، و : { الكتاب } كتاب حساب الخلائق ، ووحده على اسم الجنس ، لأن كل أحد له كتاب على حدة . وقالت فرقة : وضع اللوح المحفوظ ، وهذا شاذ وليس فيه معنى التوعد وهو مقصد الآية .
وقوله : { وجيء بالنبيين } أي ليشهدوا على أممهم .
وقوله : { والشهداء } قيل هو جمع شاهد ، والمراد أمة محمد الذين جعلهم الله شهداء على الناس . وقال السدي : { الشهداء } جمع شهيد في سبيل الله ، وهذا أيضاً يزول عنه معنى التوعد ، ويحتمل أن يريد بقوله : { والشهداء } الأنبياء أنفسهم ، عطف الصفة على الصفة بالواو ، كما تقول : جاء زيد الكريم والعاقل . وقال زيد بن أسلم : { الشهداء } : الحفظة . والضمير في قوله : { بينهم } عائد على العالم بأجمعه . إذ الآية تدل عليهم . و : { لا يظلمون } معناه : لا يوضع شيء من أمورهم غير موضعه . { ووفيت } معناه : جوزيت كملاً ، وفي هذا وعيد صرح عنه قوله : { وهو أعلم بما يفعلون } .
وقرأ الجمهور : { وسيق } وجيء بكسر أوله . وقرأها ونظائرها بإشمام الضم : الحسن وابن وثاب وعاصم والأعمش . و : { زمراً } معناه : جماعات متفرقة ، واحدها زمرة .
وقوله : { فتحت } جواب { إذا } ، والكلام هنا يقضي أن فتحها إنما يكون بعد مجيئهم ، وفي وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم ، وهكذا هي حال السجون ومواضع الثقاف والعذاب بخلاف قوله : في أهل الجنة : { وفتحت } [ الزمر : 73 ] بالواو مؤذنة بأنهم يجدونها مفتوحة كمنازل الأفراح .
وقرأ الجمهور : " فتّحت " بشد التاء في الموضعين ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيفها ، وهي قراءة طلحة والأعمش : ثم ذكر تعالى توقيف الخزنة لهم على مجيء الرسل .
وقرأ الجمهور : " يأتكم " بالياء من تحت . وقرأ الأعرج : " تأتكم " بتاء من فوق .
وقوله : { منكم } أعظم من الحجة ، أي رسل من جنسكم لا يصعب عليكم مراميهم ولا فهم أقوالهم . وقولهم : { بلى } جواب على التقرير على نفي أمر ، ولا يجوز هنا الجواب بنعم ، لأنهم كانوا يقولون : نعم لم يأتنا ، وهكذا كان يترتب المعنى ، ثم لا يجدوا حجة إلا أن كلمة العذاب حقت عليهم ، أي الكلمة المقتضية من الله تعالى تخليدهم في النار ، وهي عبارة عن قضائه السابق لهم بذلك ، وهي التي في قوله تعالى لإبليس { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ ص : 85 ] والمثوى : موضع الإقامة .
(5/489)

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
قوله : { الذين اتقوا ربهم } لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذي اتقوا الشرك ، لأن الذين لم يتقوا المعاصي قد يساق منهم زمر وهم الذي سبق لهم أن يغفر الله لهم من أهل المشيئة ، وأيضاً فالذين يدخلون النار ثم يخرجون منها قد يساقون زمراً إلى الجنة بعد ذلك فيصيرون من أهل هذه الآية ، والواو في قوله : { وفتحت } مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها ، وقد قالت فرقة : هي زائدة . وجواب { إذا } ، { فتحت } ، وقال الزجاج عن المبرد : جواب { إذا } محذوف ، تقديره بعد قوله : { خالدين } فيها سعدوا . وقال الخليل : الجواب محذوف تقديره : حتى جاؤوها وفتحت أبوابها ، وهذا كما قدر الخليل قول الله تعالى :
{ فلما أسلما وتله للجبين } [ الصافات : 103 ] وكما قدر أيضاً قول امرىء القيس : [ الطويل ]
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... أي أجزنا وانتحى . وقال قوم : أشار إليهم ابن الأنباري وضعف قولهم : هذه واو الثمانية مستوعباً في سورة الكهف ، وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود فهي كالأولى . و { سلام عليكم } تحية . ويحتمل أن يريد أنهم قالوا لهم سلام عليكم وأمنة لكم . و : { طبتم } معناه : أعمالاً ومعتقداً ومستقراً وجزاء .
وقوله تعالى حكاية عنهم : { وأورثنا الأرض } يريد أرض الجنة ، قاله قتادة وابن زيد والسدي والوراثة هنا مستعارة ، لأن حقيقة الميراث أن يكون تصيير شيء إلى إنسان بعد موت إنسان ، وهؤلاء إنما ورثوا مواضع أهل أن لو كانوا مؤمنين . و : { نتبوأ } معناه : نتخذ أمكنة ومساكن .
ثم وصف حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به ، وقال قوم : واحد { حافين } حاف . وقالت فرقة : لا واحد لقوله : { حافين } لأن الواحد لا يكون حافاً ، إذ الحفوف الإحداق بالشيء ، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب ، ومنه قول الشاعر [ ابن هرمة ] : [ الطويل ]
له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل
أي عن جانبيه . وقالت فرقة : { من } في قوله : { من حول } زائدة ، والصواب أنها لابتداء الغاية .
وقوله : { يسبحون بحمد ربهم } قالت فرقة : معناه : أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله . وقالت فرقة : تسبيحهم هو بترديد حمد الله وتكراره . قال الثعلبي : متلذذين لا متعبدين ولا مكلفين .
وقوله : { وقيل الحمد لله رب العالمين } ختم للأمر ، وقول جزم عند فصل القضاء ، أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه ، ومن هذه الآية جعلت { الحمد لله رب العالمين } خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم . وقال قتادة : فتح الله أول الخلق بالحمد ، فقال : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } [ الأنعام : 1 ] وختم القيامة بالحمد في هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وجعل الله { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 1 ] فاتحة كتابه ، فبه يبدأ كل أمر وبه يختم ، وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن كما قال الشاعر : [ الطويل ]
وآخر شيء أنت في كل ضجعة ... وأول شيء أنت عند هبوبي
(5/490)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتلك الأقوال كلها تترتب في قوله : { حم } ويختص هذا الموضع بقول آخر ، قاله الضحاك . والكسائي : إن { حم } هجاء " حُمَّ " بضم الحاء وشد الميم المفتوحة ، كأنه يقول : حُمَّ الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله . وقال ابن عباس : { الر } [ يونس : 1 ، هود : 1 ، إبراهيم : 1 ، يوسف : 1 ، الحجر : 1 ] و : { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] و : { ن } [ القلم : 1 ] هي حروف الرحمن مقطعة في سور ، وقال القرظي أقسم الله بحلمه وملكه . وسأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن : { حم } ما هو؟ فقال بدء أسماء وفواتح سور .
وقرأ ابن كثير : فتح الحاء ، وروي عن أبي عمرو : كسر الحاء على الإمالة ، وروي عن نافع : الفتح ، وروي عنه : الوسط بينهما ، وكذلك اختلف عن عاصم ، وروي عن عيسى كسر الحاء على الإمالة ، وقرأ جمهور الناس : " حَمْ " بفتح الحاء وسكون الميم ، وقرأ عيسى بن عمر أيضاً { حم } بفتح الحاء وفتح الميم الأخيرة في النطق ، ولذلك وجهان : أحدهما التحريك للالتقاء مع الياء الساكنة ، والآخر : حركة إعراب ، وذلك نصب بفعل مقدر تقديره : " اقرأ حم " ، وهذا على أن تجري مجرى الأسماء ، الحجة منه قول شريح بن أوفى العبسي : [ الطويل ]
يذكرني حم والرمح شاجر ... فهلا تلا حم قبل التقدم
وقول الكميت : [ الطويل ]
وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقيّ ومعرب
وقرأ أبو السمال : { حم } بفتح الحاء وكسر الميم الآخرة ، وذلك لالتقاء الساكنين .
و : { حم } آية : و : { تنزيل } رفع بالابتداء ، والخبر في قوله : { من الله } وعلى القول بأن { حم } إشارة إلى حروف المعجم يكون قوله : { حم } خبر ابتداء : و : { الكتاب } القرآن .
وقوله : { غافر } بدل من المكتوبة ، وإن أردت ب { غافر } المضي ، أي غفرانه في الدنيا وقضاؤه بالغفران وستره على المذنبين ، فيجوز أن يكون { غافر } صفة ، لأن إضافته إلى المعرفة تكون محضة ، وهذا مترجح جداً ، وإذا أردت ب { غافر } الاستقبال أو غفرانه يوم القيامة فالإضافة غير محضة ، و : { غافر } نكرة فلا يكون نعتاً ، لأن المعرفة لا تنعت بالنكرة ، وفي هذا نظر . وقال الزجاج : { غافر } { وقابل } صفتان . و : { شديد العقاب } بدل ، و : { الذنب } اسم الجنس . وأما { التوب } فيحتمل أن يكون مصدراً كالعوم والنوم فيكون اسم جنس ، ويحتمل أن يكون جمع توبة كتمرة وتمر ، وساعة وساع . وقبول التوبة من الكافر مقطوع لإخبار الله تعالى ، وقبول التوبة من العاصي في وجوبها قولان لأهل السنة ، وحكى الطبري عن أبي بكر بن عياش أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : إني قتلت ، فهل لي من توبة؟ فقال نعم ، اعمل ولا تيأس ، ثم قرأ هذه الآيات إلى { قابل التوب } .
(5/491)

و { شديد العقاب } : صفة ، وقيل بدل . ثم عقب هذا الوعيد بوعد ثان في قوله : { ذي الطول } أي ذي التطول والمن بكل نعمة فلا خير إلا منه ، فترتب في الآية بين وعدين ، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه .
قال القاضي أبو محمد : سمعت هذه النزعة من أبي رضي الله عنه ، وهي نحو من قول عمر رضي الله عنه : لن يغلب عسر يسريين يريد في قوله تعالى { فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً } [ الشرح : 5- 6 ] .
و : { الطول } الإنعام ، ومنه : حليت بطائل . وحكى الثعلبي عن أهل الإشارة أنه تعالى : { غافر الذنب } فضلاً ، { وقابل التوب } وعداً ، و { شديد العقاب } عدلاً . وقال ابن عباس : { الطول } : السعة والغنى ، ثم صدع بالتوحيد في قوله : { لا إله إلا هو } . وبالبعث والحشر في قوله : { إليه المصير } .
وقوله : { ما يجادل في آيات الله } يريد جدالاً باطلاً ، لأن الجدال فيها يقع من المؤمنين لكن في إثباتها وشرحها .
وقوله : { فلا يغررك } أنزله منزلة : " فلا يحزنك ولا يهمنك " ، لتدل الآية على أنهم ينبغي أن لا يغتروا بإملاء الله تعالى لهم ، فالخطاب له والإشارة إلى من يقع منه الاغترار ، ويحتمل أن يكون { يغررك } بمعنى تظن أن وراء تقلبهم وإمهالهم خيراً لهم فتقول عسى أن لا يعذبوا وحل الفعل من الإدغام لسكون الحرف الثاني ، وحيث هما متحركان لا يجوز الحل ، لا تقول زيد يغررك . و : { تقلبهم في البلاد } عبارة عن تمتعهم بالمساكين والمزارع والأسفار وغير ذلك . ثم مثل لهم بمن تقدمهم من الأمم ، أي كما حل بأولئك كذلك ينزل بهؤلاء . { الأحزاب } : يريد بهم عاداً وثمود أو أهل مدين وغيرهم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " برسولها " ، رداً على الأمة ، وضمير الجماعة هو على معنى الأمة لا على لفظها .
وقوله : { ليأخذوه } معناه ليهلكوه كما قال تعالى : { فأخذتهم } والعرب تقول للقتيل : أخيذ ، وللأسير كذلك ، ومنه قولهم : أكذب من الأخيذ الصبحان . وقال قتادة : { ليأخذوه } معناه : ليقتلوه . و { ليدحضوا } معناه : ليزلقوا وليذهبوا ، والمدحضة المزلة والمزلقة .
وقوله : { فكيف كان عقاب } تعجيب وتعظيم ، وليس باستفهام عن كيفية وقوع الأمر .
(5/492)

وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " كذلك سبقت كلمة " . والمعنى : كما أخذت أولئك المذكورين فأهلكتهم فكذلك حقت كلماتي على جميع الكفار من تقدم منهم ومن تأخر أنهم أهل النار وسكانها .
وقرأ نافع وابن عامر : " كلمات " على الجمع ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وابن نصاح وقرأ الباقون : " كلمة " على الإفراد وهي للجنس ، وهي قراءة أبي رجاء وقتادة ، وهذه كلها عبارة عن ختم القضاء عليهم .
وقوله : { أنهم } بدل من { كلمة } .
ثم أخبر تعالى بخبر يتضمن تشريف المؤمنين ويعظم الرجاء لهم ، وهو أن الملائكة الحاملين للعرش والذين حول العرش ، وهؤلاء أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين ويسألون الله لهم الرحمة والجنة ، وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية : { كان على ربك وعداً مسوؤلاً } [ الفرقان : 16 ] أي سألته الملائكة ، وفسر في هذه الآية المجمل الذي في قوله تعالى في غير هذه الآية { ويستغفرون لمن في الأرض } [ الشورى : 5 ] لأنه معلوم أن الملائكة لاتستغفر لكافر ، وقد يجو أن يقال معنى ذلك أنهم يستغفرون للكفار ، بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم بعد ذلك ، وعلى هذا النحو هو استغفار إبراهيم لأبيه واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين . وبلغني أن رجلاً قال لبعض الصالحين ادع لي واستغفر لي ، فقال له : تب واتبع سبيل الله يستغفر لك من هوخير مني ، وتلا هذه الآية . وقال مطرف بن الشخير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغش العباد للعباد الشياطين ، وتلا هذه الآية . وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة " وقرأت فرقة : " العُرش " بضم العين ، والجمهور على فتحها .
وقوله تعالى : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } نصب الرحمة على التمييز وفيه حذف تقديره : يقولون ، ومعناه : وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، وهذا نحو قولهم : تفقأت شحماً وتصببت عرقاً وطبت نفساً . وسبيل الله المتبعة : هي الشرائع .
وقرأ جمهور الناس : " جنات عدن " على جمع الجنات . وقرأ الأعمش في رواية المفضل : " جنة عدن " على الإفراد ، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود . والعدن : الإقامة .
وقوله : { ومن يصلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } روي عن سعيد بن جبير في تفسير ذلك : أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول : أي أبي؟ أين أمي؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحهم ولتنبيهه عليهم وطلبه إياهم ، وهذه دعوة الملائكة : وقرأ عيسى بن عمر : " وذريتهم " بالإفراد .
وقوله : { وقهم } أصله أوقهم ، حذفت الواو اتباعاً لحذفها في المستقبل ، واستغني عن ألف الوصل لتحرك القاف ، ومعناه : اجعل لهم وقاية تقيهم { السيئات } ، واللفظ يحتمل أن يكون الدعاء في دفع العذاب اللاحق من { السيئات } ، فيكون في اللفظ على هذا حذف مضاف ، كأنه قال : وقهم جزاء السيئات .
(5/493)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
ثم أخبر تعالى بحال الكفار وجعل ذلك عقب حال المؤمنين ليبين الفرق ، وروي أن هذه الحال تكون للكفار عند دخولهم النار ، فإنهم إذا أدخلوا فيها مقتوا أنفسهم ، أي مقت بعضهم بعضاً . ويحتمل أن يمقت كل واحد نفسه ، فإن العبارة تحتمل المعنيين ، والمقت هو احتقار وبغض عن ذنب وريبة . هذا حده ، وإذا مقت الكفار أنفسم نادتهم ملائكة العذاب على جهة التوبيخ ، فيقولون لهم : مقت الله إياكم في الدنيا إذ كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون { أكبر من مقتكم أنفسكم } اليوم ، هذا هو معنى الآية ، وبه فسر مجاهد وقتادة وابن زيد . وأضاف المصدر إلى الفاعل في قوله : { لمقت الله } والمفعول محذوف لأن القول يقتضيه . واللام في قوله : { لمقت } يحتمل أن تكون لام ابتداء ، ويحتمل أن تكون لام القسم ، وهذا أصوب . و : { أكبر } خبر الابتداء ، والعامل في : { إذ } فعل مضمر تقديره : مقتكم إذ ، وقدره قوم اذكروا ، وذلك ضعيف يحل ربط الكلام ، اللهم إلا أن يقدر أن مقت الله لهم هو في الآخرة ، وأنه أكبر من مقتهم أنفسهم ، فيصح أن يقدر المضمر اذكروا ، ولا يجوز أن يعمل فيه قوله : { لمقت } لأن خبر الابتداء قد حال بين المقت و { إذ } ، وهي في صلته ، ولا يجوز ذلك .
واختلف المفسرون في معنى قولهم : { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين } فقال ابن عباس وقتادة والضحاك وأبو مالك : أرادوا موته كونهم ماء في الأصلاب ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم الموت ثم أحياهم يوم القيامة ، قالوا وهي كالتي في سورة البقرة : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } [ البقرة : 28 ] . وقال ابن زيد : أرادوا أنه أحياهم نسماً عند أخذ العهد عليهم قت أخذهم من صلب آدم ثم أماتهم بعد ذلك ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم ثم أحياهم ، وهذا قول ضعيف ، لأن الإحياء فيه ثلاث مرات . وقال السدي : أرادوا أنه أحياهم في الدنيا ثم أماتهم تم أحياهم في القبر وقت سؤال منكر ونكير ، ثم أماتهم فيه ثم أحياهم في الحشر ، وهذا أيضاً يدخله الاعتراض الذي في القول قبله ، والأول أثبت الأقوال . وقال محمد بن كعب القرظي : أرادوا أن الكافر في الدنيا هو حي الجسد ميت القلب فكأن حالهم في الدنيا جمعت إحياء وإماتة ، ثم أماتهم حقيقة ثم أحياهم بالبعث .
والخلاف في هذه الآية مقول كله في آية سورة البقرة ، وهذه الآية يظهر منها أن معناها منقطع من معنى قوله تعالى : { إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } وليس الأمر كذلك ، بل الآيتان متصلتا المعنى ، وذلك أن كفرهم في الدنيا كان أيضاً بإنكارهم البعث واعتقادهم أنه لا حشر ولا عذاب ، ومقتهم أنفسهم إنما عظمه ، لأن هذا المعتقد كذبهم ، فلما تقرر مقتهم لأنفسهم ورأوا خزياً طويلاً عريضاً رجعوا إلى المعنى الذي كان كفرهم به وهو البعث وخرج الوجود مقترناً بعذابهم فأقروا به على أتم وجوهه ، أي قد كنا كفرنا بإنكارنا البعث ونحن اليوم نقر أنك أحييتنا اثنتين وأمتنا اثنتين ، كأنهم قصدوا تعظيم قدرته تعالى واسترضاءه بذلك ، ثم قالوا عقب هذا الإقرار طمعاً منهم ، فها نحن معترفون بذنوبنا { فهل إلى خروج من سبيل } ؟ وهذا كما تكلف إنساناً أن يقر لك بحق وهو ينكرك ، فإذا رأى الغلبة وضرع أقر بذلك الأمر متمماً أوفى مما كنت تطلب به أولاً ، وفيما بعد قولهم : { فهل إلى خروج من سبيل } محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر ، تقديره : لا إسعاف لطلبتكم أو نحو هذا من الرد والزجر .
(5/494)

وقوله تعالى : { ذلكم } يحتمل أن يكون إشارة إلى العذاب الذي هم فيه ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقت الله إياهم ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقتهم أنفسهم ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى المنع والزجر والإهانة التي قلنا إنها مقدرة محذوفة الذكر لدلالة ظاهر القول عليها ، ويحتمل أن تكون المخاطبة ب { ذلكم } لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم فى الدنيا ، ويحتمل أن تكون في الآخرة للكفار عامة . وقوله : { إذا دعي الله وحده } معناه : بحالة توحيد ونفي لما سواه من الآلهة والأنداد .
وقوله : { وإن يشرك به } أي إذا ذكرت اللات والعزى وغيرهما صدقتم واستقرت نفوسكم ، فالحكم اليوم بعذابكم وتخليدكم في النار ، لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في الألوهية . و : { العلي الكبير } صفتا مدح لا في المكان ومضادة السفل والصغر .
(5/495)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
هذه ابتداء مخاطبة في معنى توحيد الله تعالى وتبيين علامات ذلك ، وآيات الله : تعم آيات قدرته وآيات قرآنه والمعجزات الظاهرة على أيدي رسله . وتنزيل الرزق : هو في تنزيل المطر وفي تنزيل القضاء والحكم ، قيل ما يناله المرء في تجارة وغير ذلك وقرأ جمهور الناس : " ويُنْزِل " بالتخفيف . وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وجماعة : " وينَزِّل " بفتح النون وشد الزاي .
وقوله تعالى : { وما يتذكر إلا من ينيب } معناه : وما يتذكر تذكراً يعتد به وينفع صاحبه ، لأنا نجد من لا ينيب يتذكر ، لكن لما كان ذلك غير نافع عد كأنه لم يكن .
وقوله : { فادعوا الله } مخاطبة للمؤمنين أصحاب محمد عليه السلام . " وادعوا " : معناه : اعبدوا .
وقوله تعالى : { رفيع الدرجات } صفاته العلى ، وعبر بما يقرب لأفهام السامعين ، ويحتمل أن يريد ب { رفيع الدرجات } التي يعطيها للمؤمنين ويتفضل بها على عباده المخلصين في جنة . و : { العرش } هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السماوات السبع والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض .
وقوله تعالى : { يلقي الروح } قال الضحاك : { الروح } هنا هو الوحي القرآن وغيره مما لم يتل . وقال قتادة والسدي : { الروح } النبوءة ومكانتها كما قال تعالى : { روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] ويسمى هذا روحاً لأنه يحيي به الأمم والأزمان كما يحيي الجسد بروحه ، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عاماً لكل ما ينعم الله به على عباده المعتدين في تفهيمه الإيمان والمعتقدات الشريفة . والمنذر على هذا التأويل : هو الله تعالى . قال الزجاج : { الروح } : كل ما به حياة الناس ، وكل مهتد حي ، وكل ضال كالميت .
وقوله : { من أمره } إن جعلته جنساً للأمور ف { من } للتبعيض أو لابتداء الغاية ، وإن جعلنا الأمر من معنى الكلام : ف { من } إما لابتداء الغاية ، وإما بمعنى الباء ، ولا تكون للتبعيض بتة وقرأ أبي بن كعب : وجماعة : " لينذِر " بالياء وكسر الذال ، وفي الفعل ضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى ، ويحتمل أن يعود على { الروح } ، ويحتمل أن يعود على { من } في قوله : { من يشاء } . وقرأ محمد بن السميفع اليماني : " لينذَر " بالياء وفتح الذال ، وضم الميم من " يومُ " وجعل اليوم منذراً على الاتساع . وقرا جمهور الناس : " لتنذر " بالتاء على مخاطبة محمد عليه السلام ، ويومَ " بالنصب .
وقرأ أبو عمرو ونافع وجماعة : " التلاق " دون ياء . وقرأ أبو عمرو أيضاً وعيسى ويعقوب : " التلاقي " بالياء ، والخلاف فيها كالخلاف الذي مر في { التنادي } [ غافر : 32 ] ، ومعناه : تلاقي جميع العالم بعضهم ببعض ، وذلك أمر لم يتفق قبل ذلك اليوم ، وقال السدي : معناه : تلاقي أهل السماء وأهل الأرض ، وقيل معناه تلاقي الناس مع بارئهم ، وهذا المعنى الأخير هو أشدها تخويفاً ، وقيل يلتقي المرء وعمله .
(5/496)

وقوله تعالى : { يوم هم بارزون } معناه في براز من الأرض ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي ، ونصب { يوم } على البدل من الأول فهو نصب المفعول ، ويحتمل أن ينصب على الظرف ويكون العامل فيه قوله : { لا يخفى } وهي حركة إعراب لا حركة بناء ، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن كيومئذ ، وكقول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الطويل ]
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألمّا أصحُ والشيب وارع
وكقوله تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين } [ المائدة : 119 ] وأما في هذه الآية فالجملة أمر متمكن كما تقول : جئت يوم زيد فلا يجوز البناء ، وتأمل .
وقوله تعالى : { لا يخفى على الله منهم } أي من بواطنهم وسرائرهم ودعوات صدورهم ، وفي مصحف أبي بن كعب : " لا يخفى عليه منهم شيء " بضمير بدل المكتوبة .
وقوله تعالى : { لمن الملك اليوم } روي أن الله تعالى يقرر هذا التقدير ويسكت العالم هيبة وجزعاً ، فيجيب هو نفسه قوله : { لله الواحد القهار } قال الحسن بن أبي الحسن هو تعالى السائل وهو المجيب . وقال ابن مسعود : أنه تعالى يقرر فيجيب العالم بذلك ، وقيل ينادي بالتقرير ملك فيجيب الناس .
قال القاضي أبو محمد : وإذا تأمل المؤمن أنه لا حول لمخلوق ولا قوة إلا بالله ، فالزمان كله وأيام الدهر أجمع إنما الملك فيها { لله الواحد القهار } ، لكن ظهور ذلك للكفرة والجهلة يتضح يوم القيامة ، وإذا تأمل تسخير أهل السماوات وعبادتهم ونفوذ القضاء في الأرض فأي ملك لغير الله عز وجل .
ثم يعلم تعالى أهل الموقف بأنه يوم المجازاة بالأعمال صالحها وسيئها ، وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبيد ، وأنه يوم لا يوضع فيه أمر غير موضعه ، وذلك قوله : { لا ظلم اليوم } . ثم أخبرهم عن نفسه بسرعة الحساب ، وتلك عبارة عن إحاطته بالأشياء علماً ، فهو يحاسب الخلائق في ساعة واحدة كما يرزقهم ، لأنه لا يحتاج إلى عد وفكرة ، لا رب غيره ، وروي أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار .
(5/497)

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالإنذار للعالم والتحذير من يوم القيامة وأهواله ، وهو الذي أراد ب { يوم الآزفة } ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد : ومعنى { الآزفة } : القريبة ، من أزف الشيء إذا قرب ، و { الآزفة } في الآية صفة لمحذوف قد علم واستقر في النفوس هوله ، فعبر عنه بالقرب تخويفاً ، والتقدير : يوم الساعة الآزفة أو الطامة الآزفة ونحو هذا فكما لو قال : وأنذرهم الساعة لعلم هولها بما استقر في النفوس من أمرها ، فكذلك علم هنا إذا جاء بصفتها التي تقتضي حلولها واقترابها .
وقوله : { إذ القلوب لدى الحناجر } معناه : عند الحناجر ، أي قد صعدت من شدة الهول والجزع ، وهذا أمر يحتمل أن يكون حقيقة يوم القيامة من انتقال قلوب البشر إلى حناجرهم وتبقى حياتهم ، بخلاف الدنيا التي لا تبقى فيها لأحد مع تنقل قلبه حياة ، ويحتمل أن يكون تجوزاً عبر عما يجده الإنسان من الجزع وصعود نفسه وتضايق حنجرته بصعود القلب ، وهذا كما تقول العرب : كادت نفسي أن تخرج ، وهذا المعنى يجده المفرط الجزع كالذي يقرب للقتل ونحو .
وقوله : { كاظمين } حال مما أبدل منه قوله : { إذ القلوب لدى الحناجر } أو مما تتضاف إليه القلوب ، لأن المراد إذ قلوب الناس لدى حناجرهم ، وهذا كقوله تعالى : { تشخص فيه الأبصار مهطعين إلى الداع } [ القمر : 8 ] أراد تشخص فيه أبصارهم ، والكاظم : الذي يرد غيظه وجزعه في صدره ، فمعنى الآية أنهم يطمعون برد ما يجدونه في الحناجر والحال تغالبهم . ثم أخبرهم تعالى أن الظالمين ظلم الكفر في تلك الحال ليس لهم حميم ، أي قريب يحتم لهم ويتعصب ، ولا لهم شفيع يطاع فيهم ، وإن هم بعضهم بالشفاعة لبعض فهي شفاعة لا تقبل ، وقد روي أن بعض الكفرة يقولون لإبليس يوم القيامة : اشفع لنا ، فيقوم ليشفع ، فتبدو منه أنتن ريح يؤذي بها أهل المحشر ، ثم ينحصر ويكع ويخزى . و : { يطاع } في موضع الصفة ل { شفيع } ، لأن التقدير : ولا شفيع يطاع ، وموضع { يطاع } يحتمل أن يكون خفضاً حملاً على اللفظ ، ويحتمل أن يكون رفعاً عطفاً على الموضع قبل دخول { من } .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية كلها عندي اعتراض في الكلام بليغ .
وقوله : { يعلم خائنة الأعين } متصل بقوله : { سريع الحساب } [ غافر : 17 ] لأن سرعة حسابه تعالى للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكرة ولا لشيء مما يحتاجه الحاسبون . وقالت فرقة : { يعلم } متصل بقوله : { لا يخفى على الله منهم شيء } [ غافر : 16 ] ، وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه بعد الآية وكثرة الحائل . والخائنة : مصدر كالخيانة ، ويحتمل في الآية أن يكون { خائنة } اسم فاعل ، كما تقول : ناظرة الأعين إذا خانت في نظرها .
(5/498)

وهذه الآية عبارة عن علم الله تعالى بجميع الخفيات ، فمن ذلك كسر الجفون والغمز بالعين أو النظرة التي تفهم معنى ، أو يريد بها صاحبها معنى ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه عبد الله بن أبي سرح ليسلم بعد ردته بشفاعة عثمان ، فتلكأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بايعه ، ثم قال عليه السلام لأصحابه : " هلا قام إليه رجل حين تلكأت عليه فضرب عنقه؟ " ، فقالو يا رسول الله : ألا أومأت إلينا؟ فقال عليه السلام : " ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين " وفي بعض الكتب المنزلة من قول الله عز وجل : أنا مرصاد الهمم ، أنا العالم بمجال الفكر وكسر الجفون . وقال مجاهد : { خائنة الأعين } : مسارقة النظر إلى ما لا يجوز : ثم قوى تعالى هذه الأخبار بأنه يعلم ما تخفي الصدور مما لم يظهر على عين ولا غيرها ، ومثل المفسرون في هذه الآية بنظر رجل إلى امرأة هي حرمة لغيره ، فقالوا { خائنة الأعين } : هي النظرة الثانية . { وما تخفي الصدور } : أي عند النظرة الأولى التي لا يمكن المرء دفعها ، وهذا المثال جزء من { خائنة الأعين } .
ثم قدح في جهة الأصنام ، فأعلم أنه لا رب غيره { يقضي بالحق } ، أي يجازي الحسنة بعشر والسيئة بمثل ، وينصف المظلوم من الظالم إلى غير ذلك من أقضية الحق والعدل ، والأصنام لا تقضي بشيء ولا تنفذ أمراً . و : { يدعون } معناه : يعبدون .
وقرأ جمهور القراء : " يدعون " بالياء على ذكر الغائب . وقرأ نافع بخلاف عنه . وأبو جعفر وشيبة : " تدعون " بالتاء على معنى قل لهم يا محمد : والذين تدعون أنتم .
ثم ذكر تعالى لنفسه صفتين بين عرو الأوثان عنهما وهي في جهة الله تعالى عبارة عن الإدراك على إطلاقه ، ثم أحال كفار قريش وهم أصحاب الضمير في { يسيروا } على الاعتبار بالأمم القديمة التي كذبت أنبياءها فأهلكها الله تعالى .
وقوله : { فينظروا } يحتمل أن يجعل في موضع نصب جواب الاستفهام ، ويحتمل أن يكون مجزوماً عطفاً على { يسيروا } . و : { كيف } في قوله : { كيف كان عاقبة } خبر { كان } مقدم ، وفي { كيف } ضمير ، وهذا مع أن تكون { كان } الناقصة . وأما إن جعلت تامة بمعنى حدث ووقع ، ف { كيف } ظرف ملغى لا ضمير فيه .
وقرأ ابن عامر وحده : " أشد منكم " بالكاف ، وكذلك هي في مصاحف الشام ، وذلك على الخروج من غيبة إلى الخطاب . وقرأ الباقون : " أشد منهم " وكذلك هي في سائر المصاحف ، وذلك أوفق لتناسب ذكر الغيب .
والآثار في ذلك : هي المباني والمآثر والصيت الدنياوي ، وذنوبهم كانت تكذيب الأنبياء ، والواقي : الساتر المانع ، مأخوذ من الوقاية .
(5/499)

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
قوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى أخذه إياهم بذنوبهم وإن لم يكن لهم منه واق . ثم ذكر تعالى أن السبب في إهلاكهم هو ما قريش عليه من أن جاءهم رسول من الله ببينات من المعجزات والبراهين فكفروا به ، وذكر أن الله تعالى أخذهم ، ووصف نفسه تعالى بالقوة وشدة العقاب ، وهذا كله بيان في وعيد قريش .
ثم ابتدأ تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملإه ، وهي قصة فيها للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية وأسوة ، وفيها لقريش والكفار به وعيد ومثال يخافون منه أن يحل بهم ما حل بأولئك من النقمة ، وفيها للمؤمنين وعد ورجاء في النصر والظفر وحمد عاقبة الصبر ، وآيات موسى عليه السلام كثيرة عظمها ، والذي عرضه على جهة التحدي بالعصا واليد ، ووقعت المعارضة في العصا وحدها ثم انفصلت القضية عن إيمان السحرة وغلبة الكافرين . والسلطان : البرهان .
وقرأ عيسى بن عمر : " سلُطان " بضم اللام ، والناس على سكونها .
وخص تعالى { هامان وقارون } بالذكر تنبيهاً على مكانهما من الكفر ، ولكونهما أشهر رجال فرعون وقيل إن قارون هذا ليس بقارون بني إسرائيل ، وقيل هو ذلك ، ولكنه كان منقطعاً إلى فرعون خادماً مستعيناً معه .
وقوله : { ساحر } أي في أمر العصا . و : { كذاب } في قوله : إني رسول من الله .
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لما جاءهم موسى بالنبوة والحق من عند الله ، قال هؤلاء الثلاثة وأجمع رأيهم على أن يقتل أبناء بني إسرائيل أتباع موسى وشبانهم وأهل القوة منهم ، وأن يستحي النساء للخدمة والاسترقاق ، وهذا رجوع منهم إلى نحو القتل الأول الذي كان قبل ميلاد موسى ، ولكن هذا الأخير لم تتم فيه عزمة ، ولا أعانهم الله تعالى على شيء منه . قال قتادة : هذا قتل غير الأول الذي كان حذر المولود ، وسموا من ذكرنا من بني إسرائيل أبناء ، كما تقول لأنجاد القبيلة أو المدينة وأهل الظهور فيها : هؤلاء أبناء فلانة .
وقوله تعالى : { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } عبارة وجيزة تعطي قوتها أن هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل ولا نجحت لهم فيه سعاية ، بل أضل الله سعيهم وكيدهم .
(5/500)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى عليه السلام انهد ركنه واضطربت معتقدات أصحابه ، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره ، وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما ، في هذه الآية على ذلك دليلان ، أحدهما قوله : { ذروني } فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنقاذ أوامرهم . والدليل الثاني : مقالة المؤمن وما صدع به ، وأن مكاشفته لفرعون أكثر من مسايرته ، وحكمه بنبوة موسى أظهر من توريته في أمره . وأما فرعون فإنما لجأ إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي ، ومن ذلك قوله : { ذروني أقتل موسى وليدع ربه } أي إني لا أبالي عن رب موسى ، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم فقال : { إني أخاف أن يبدل دينكم } . والدين : السلطان ، ومنه قول زهير :
لئن حللت بجوٍّ من بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : " وأن " . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : " أو أن " ، ورجحها أبو عبيد بزيادة الحرف ، فعلى الأولى خاف أمرين ، وعلى الثانية : خاف أحد أمرين .
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن وقتادة والجحدري وأبو رجاء ومجاهد وسعيد بن المسيب ومالك بن أنس : " يُظهِر " بضم الياء وكسر الهاء . " الفسادَ " نصيباً . وقرأ ابن كثير وابن عامر : " يَظهرَ " بفتح الياء والهاء " الفسادُ " بالرفع على إسناد الفعل إليه ، وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم والأعرج وعيسى والأعمش وابن وثاب . وروي عن الأعمش أنه قرأ : " ويظهرُ في الأرض الفساد " برفع الراء . وفي مصحف ابن مسعود : " ويظهر " بفتح الراء .
ولما سمع موسى عليه السلام مقالة فرعون -لأنه كان معه في مجلس واحد- دعا وقال : { إني عذت بربي وربكم } الآية . وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر ببيان الذال . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : { عذت } بالإدغام ، واختلف عن نافع ، وفي مصحف أبي بن كعب : " عت " ، على الإدغام في الخط ثم حكى مقالة رجل مؤمن من آل فرعون وشرفه بالذكر ، وخلد ثناءه في الأمم ، سمعت أبي رضي الله عنه يقول : سمعت أبا الفضل الجوهري على المنبر وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة ، فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وأنشد [ عدي بن زيد ] : [ الطويل ]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتد
ماذا تريدون من قوم قرنهم الله بنبيه صلى الله عليه وسلم وخصهم بمشاهدته وتلقي الوحي منه؟ وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره ، فجعله الله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه جرد سيفه بمكة وقال : والله لا عبد الله سراً بعد اليوم .
(6/1)

وقرأت فرقة : " رجْل " بسكون الجيم ، كعضد وعضد ، وسبع وسبع ، وقراءة الجمهور بضم الجيم واختلف الناس في هذا الرجل ، فقال السدي وغيره : كان من آل فرعون وأهله ، وكان يكتم إيمانه ، ف { يكتم } على هذا في موضع الصفة دون تقديم وتأخير ، وقال مقاتل : كان ابن عم فرعون . وقالت فرقة : لم يكن من أهل فرعون . ( وقالت فرقة : لم يكن من أهل فرعون ) . بل من بني إسرائيل ، وإنما المعنى : وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، والأول أصح ، ولم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتكلم بمثل هذا عند فرعون ، ويحتمل أن يكون من غير القبط ، ويقال فيه من آل فرعون ، إذ كان في الظاهر على دينه ومن أتباعه ، وهذا كما قال أراكة الثقفي يرثي أخاه ويتعزى برسول الله صلى الله عليه وسلم : [ الطويل ]
فلا تبك مْيتاً بعد مْيت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
يعني المسلمين إذ كانوا في طاعة أبي بكر الصديق .
وقوله : { أن يقول } مفعول من أجله ، أي لأجل أن يقول : وجلح معهم هذا المؤمن في هذه المقالات ثم غالطهم بعد في أن جعله في احتمال الصدق والكذب ، وأراهم أنها نصيحة ، وحذفت النون من : { يك } تخفيفاً على ما قال سيبويه وتشبيهاً بالنون في تفعلون وتفعلان على مذهب المبرد ، وتشبيهاً بحرف العلة الياء والواو على مذهب أبي علي الفارسي وقال : كأن الجازم دخل على " يكن " وهي مجزومة بعد فأشبهت النون الياء من يقضي والواو من يدعو ، لأن خفتها على اللسان سواء .
واختلف المتأولون في قوله : { يصبكم بعض الذي يعدكم } فقال أبو عبيدة وغيره : { بعض } بمعنى كل ، وأنشدوا قول القطامي عمرو بن شييم : [ البسيط ]
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقال الزجاج : هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر ، وليس فيه نفي إضافة الكل . وقالت فرقة ، أراد : يصبكم بعض العذاب الذي يذكر ، وذلك كاف في هلاككم ، ويظهر إلي أن المعنى : يصبكم القسم الواحد مما يعد به ، وذلك هو بعض ما يعد ، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم وإن كفروا بالعذاب فإن كان صادقاً فالعذاب بعض ما وعد به . وقالت فرقة : أراد ببعض ما يعدكم عذاب الدنيا ، لأنه بعض عذاب الآخرة ، أي وتصيرون بعد ذلك إلى الباقي وفي البعض كفاية في الإهلاك ، ثم وعظهم هذا المؤمن بقوله : { إن الله لايهدي من هو مسرف كذاب } قال السدي : معناه : مسرف بالقتل . وقال قتادة : مسرف بالكفر .
(6/2)

يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
قول هذا المؤمن : { يا قوم لكم الملك اليوم } استنزال لهم ووعظ لهم من جهة شهواتهم وتحذير من زوال ترفتهم ونصيحة لهم في أمر دنياهم .
وقوله : { في الأرض } يريد في أرض مصر وما والاها من مملكتهم . ثم قررهم على من هو الناصر لهم من بأس الله ، وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون ، ولذلك استكان هو ورجع يقول : { ما أريكم إلا ما أرى } كما تقول لمن لا تحكم له .
وقوله : { أريكم } من رأى قد عدي بالهمزة ، فللفعل مفعولان أحدهما الضمير في { أريكم } والآخر ما في قوله : { إلا ما } وكأن الكلام أراكم ما أرى ، ثم أدخل في صدر الكلام { ما } النافية وقلب معناها ب { إلا } الموجبة تخصيصاً وتأكيداً للأمر ، وهذا كما تقول : قام زيد ، فإذا قلت : ما قام إلا زيد أفدت تخصيصه وتأكيد أمره . و { أرى } متعدية إلى مفعول واحد وهو الضمير الذي فيه العائد على { ما } ، تقديره : إلا ما أراه ، وحذف هذا المفعول من الصفة حسن لطول الصلة .
وقرأ الجمهور : { الرشاد } مصدر رشد ، وفي قراءة معاذ بن جبل : " سبيل الرشّاد " بشد الشين ، قال أبو الفتح : وهو اسم فاعل في بنيته مبالغة وهو من الفعل الثلاثي رشد فهو كعباد من عبد . وقال النحاس : هو لحن وتوهمه من الفعل الرباعي وقوله مردود . قال أبو حاتم : كان معاذ بن جبل يفسرها سبيل الله . ويبعد عندي هذا على معاذ رضي الله عنه ، وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله ، ويقلق بناء اللفظة على هذا التأويل .
واختلف الناس من المراد بقوله : { وقال الذي آمن } فقال جمهور المفسرين : هو المؤمن المذكور أولاً ، قص الله تعالى أقاويله إلى آخر الآيات . وقالت فرقة : بل كلام ذلك المؤمن قديم ، وإنما أرد تعالى ب { الذي آمن } موسى عليه السلام ، واحتجت هذه الفرقة بقوة كلامه ، وأنه جلح معه بالإيمان وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك ، ولم يكن كلام الأول إلا بملاينة لهم .
وقوله : { مثل يوم الإحزاب } مثل يوم من أيامهم ، لأن عذابهم لم يكن في واحد ولا عصر واحد . و { الأحزاب } : المتحزبون على أنبياء الله تعالى ، و { مثل } الثاني بدل من الأول . والدأب . العادة .
وقوله : { وما الله يريد ظلماً للعباد } أي من نفسه أن يظلمهم هو عز وجل ، فالإرادة هنا على بابها ، لأن الظلم منه لا يقع البتة ، وليس معنى الآية أن الله لا يريد ظلم بعض العباد لبعض ، والبرهان وقوعه ، ومحال أن يقع ما لا يريده الله تعالى .
وقوله : { يوم التنادي } معناه ينادي قوم قوماً ويناديهم الآخرون . واختلف المتأولون في { التنادي } المشار إليه ، فقال قتادة : هو نداء أهل الجنة أهل النار
(6/3)

{ فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً } [ الأعراف : 44 ] ، ونداء أهل النار لهم : { أفيضوا علينا من الماء } [ الأعراف : 50 ] . وقالت فرقة : بل هو النداء الذي يتضمنه قوله تعالى : { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } [ الإسراء : 71 ] . وقال ابن عباس وغيره : هو التنادي الذي يكون بالناس عند النفخ في الصور نفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضاً ، وروي هذا التأويل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة ، ولها أجوبة بنداء وهي كثيرة منها ما ذكرناه ، ومنها " يا أهل النار خلود لا موت " ، ومنها " يا أهل الجنة خلود لا موت " ، ومنها نداء أهل الغدرات والنداء { لمقت الله } [ غافر : 10 ] ، والنداء { لمن الملك اليوم } [ غافر : 16 ] إلى غير ذلك .
وقرأت فرقة : " التنادْ " بسكون الدال في الوصل ، وهذا على إجرائهم الوصل مجرى الوقف في غير ما موضع ، وقرأ نافع وابن كثير : " التنادي " بالياء في الوصل والوقف وهذا على الأصل . وقرأ الباقون " التناد " بغير يا فيهما ، وروي ذلك عن نافع وابن كثير ، وحذفت الياء مع الألف واللام حملاً على حذفها مع معاقبها وهو التنوين . وقال سيبويه : حذفت الياء تخفيفاً . وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح والكلبي : " التنادّ " بشد الدال ، وهذا معنى آخر ليس من النداء ، بل هو من ند البعير إذا هرب ، وبهذا المعنى فسر ابن عباس والسدي هذه الآية ، وروت هذه الفرقة في هذا المعنى حديثاً أن الله تعالى إذا طوى السماوات نزلت ملائكة كل سماء فكانت صفاً بعد صف مستديرة بالأرض التي عليها الناس للحساب ، فإذا رأى العالم هو القيامة وأخرجت جهنم عنقها إلى أصحابها فر الكفار وندوا مدبرين إلى كل جهة فتردهم الملائكة إلى المحشر خاسئين لا عاصم لهم ، قالت هذه الفرقة ، ومصداق هذا الحديث في كتاب الله تعالى قوله : { والملك على أرجائها } [ الحاقة : 17 ] وقوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } [ الفجر : 22 ] وقوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ، لا تنفذون إلا بسلطان } [ الرحمن : 33 ] .
وقوله تعالى : { يوم تولون مدبرين } معناه : على بعض الأقاويل في التنادي تفرون هروباً من المفزع وعلى بعضها تفرون مدبرين إلى النار . والعاصم : المنجي .
(6/4)

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
قد قدمنا ذكر الخلاف في هذه الأقوال كلها ، هل هي من قول مؤمني آل فرعون أو من قول موسى عليه السلام : وقالت فرقة من المتأولين منه الطبري : { يوسف } المذكور هو يوسف بن يعقوب صلى الله عليه . وقالت فرقة : بل هو حفيده يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب . و " البينات " التي جاء بها يوسف لم تعين لنا حتى نقف على معجزاته . وروي عن وهب بن منبه أن فرعون موسى لقي يوسف ، وأن هذا التقريع له كان . وروى أشهب عن مالك أن بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة . وقالت فرقة : بل هو فرعون آخر .
وقوله : { قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً } حكاية لرتبه قولهم لأنهم إنما أرادوا أن يجيء بعد هذا من يدعي مثل ما ادعى ولم يقر أولئك قط برسالة الأول ولا الآخر ، ولا بأن الله يبعث الرسل فحكى رتبة قولهم ، وجاءت عبارتهم مشنعة عليهم ، ولذلك قال بإثر هذا : { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } أي كما صيركم من الكفر والضلالة في هذا الحد فنحو ذلك هو إضلاله لصنعكم أهل السرف في الأمور وتعدي الطور والارتياب بالحقائق . وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود : " قلتم لن يبعث الله " ، ثم أنحى لهم على قوم صفتهم موجودة في قوم فرعون ، فكأنه أرادهم فزال عن مخاطبتهم حسن أدب واستجلاباً ، فقال { الذين يجادلون في آيات الله } أي بالإبطال لها والرد بغير برهان ولا حجة أتتهم من عند الله كبر مقت جدالهم عند الله ، فاختصر ذكر الجدال لدلالة تقدم ذكره عليه ، ورد الفاعل ب { كبر } نصيباً على التمييز كقولك : تفقأت شحماً وتصببت عرقاً . و : { يطبع } معناه . يختم بالضلال ويحجب عن الهدى .
وقرأ أبو عمرو وحده الأعرج بخلاف عنه " على كلِّ قلب " بالتنوين " متكبراً " على الصفة . وقرأ الباقون : " على كلِّ قلبِ " بغير تنوين وبإضافته إلى " متكبرٍ " . قال أبو علي : المعنى يطبع الله على القلوب إذ كانت قلباً قلباً من كل متكبر ، ويؤكد ذلك أن في مصحف عبد الله بن مسعود : " على قلب كل متكبر جبار " .
قال القاضي أبو محمد : ويتجه أن يكون المراد عموم قلب المتكبر الجبار بالطبع أي لا ذرة فيه من إيمان ولا مقاربة فهي عبارة عن شدة إظلامه .
(6/5)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
ذكر الله عز وجل مقالة فرعون حين أعيته الحيل في مقاومة موسى عليه السلام بحجة ، وظهر لجميع المشاهدين أن ما يدعو إليه موسى من عبادة إله السماء حق ، فنادى فرعون هامان وهو زيره والناظر في أموره ، فأمره أن يبني له بناء عالياً نحو السماء . و " الصرح " كل بناء عظيم شنيع القدر ، مأخوذ من الظهور والصراحة ، ومنه قولهم : صريح النسب ، وصرح بقوله ، فيورى أن هامان طبخ الآجر لهذا الصرح ولم يطبخ قبله ، وبناه ارتفاع مائة ذراع فعبث الله جبريل فمسحه بجناحه فكسره ثلاث كسر ، تفرقت اثنتان ووقعت ثالثة في البحر . وروي أن هامان لم يكن من القبط ، وقيل : كان منهم . و : { الأسباب } الطرق ، قاله السدي . وقال قتادة : أراد الأبواب وقيل : عنى لعله يجد مع قربه من السماء سبباً يتعلق به .
وقرأ الجمهور : " فأطلع " بالرفع عطفاً على " أبلغ " ، وقرأ حفص عن عاصم والأعرج : " فأطلعَ " بالنصب بالفاء في جواب التمني .
ولما قال فرعون بمحضر من ملإه { فأطلع إلى إله موسى } اقتضى كلامه الإقرار ب { إله موسى } ، فاستدرك ذلك استدراكاً قلقاً بقوله : { وإني لأظنه كاذباً } ، ثم قال تعالى : { وكذلك زين } أي إنه كما تخرق فرعون في بناء الصرح والأخذ في هذه الفنون المقصرة كذلك جرى جميع أمره . و : { زين } أي زين الشيطان سوء عمله في كل أفعاله .
وقرأ الجمهور : " وصد عن السبيل " بفتح الصاد بإسناد الفعل إلى فرعون . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وجماعة : " وصُدَّ " بضم الصاد وفتح الدال المشددة عطفاً على { زين } وحملاً عليه . وقرأ يحيى بن وثاب : " وصِد " بكسر الصاد على معنى صد ، أصله ، صدد ، فنقلت الحركة ثم أدغمت الدال في الدال . وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد ورفع الدال المشددة وتنوينها عطفاً على قوله : { سوء عمله } .
و : { السبيل } سبيل الشرع والإيمان و { التباب } : الخسران ، ومنه : { تبت يدا أبي لهب } [ المسد : 1 ] وبه فسر مجاهد وقتادة . وتب فرعون ظاهر ، لأنه خسر ماله في الصرح وغيره ، وخسر ملكه وخسر نفسه وخلد في جهنم ، ثم وعظ الذي آمن فدعا إلى اتباع أمر الله .
وقوله : { اتبعون أهدكم } يقوي أن المتكلم موسى ، وإن كان الآخر يحتمل أن يقول ذلك ، أي اتبعوني في اتباعي موسى ، ثم زهد في الدنيا وأخبر أنه شيء يتمتع به قليلاً ، ورغب في الآخرة إذ هي دار الاستقرار .
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو رجاء وشيبة والأعمش : " يَدخُلون " بفتح الياء وضم الخاء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والأعرج والحسن وأبو جعفر وعيسى : " يُدخَلون " بضم الياء وفتح الخاء .
(6/6)

وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
قد تقدم ذكر الخلاف هل هذه المقالة لموسى أو لمؤمن آل فرعون . والدعاء إلى طاعة الله وعبادته وتوحيده هو الدعاء إلى سبب النجاة فجعله دعاء إلى النجاة اختصاراً واقتضاباً . وكذلك دعاؤهم إياه إلى الكفر واتباع دنيهم : هو دعاء إلى سبب دخول النار ، فجعله دعاء إلى النار اختصاراً ، ثم بين عليهم ما بين الدعوتين من البون في أن الواحدة شرك وكفر ، والأخرى دعوة إلى الإسناد إلى عزة الله وغفرانه .
وقوله : { ما ليس لي به علم } ليس معناه أني جاهل به ، بل معناه العلم بأن الأوثان وفرعون وغيره ليس لهم مدخل في الألوهية ، وليس لأحد من البشر علم بوجه من وجوه النظر بأن لهم في الألوهية مدخلاً ، بل العلم اليقين بغير ذلك من حدوثهم متحصل ، و : { لا جرم } مذهب سيبويه والخليل أنها { لا } النافية دخلت على { جرم } ، ومعنى : { جرم } ثبت ووجب ، ومن ذلك جرم بمعنى كسب ، ومنه قول الشاعر [ أبو اسماء بن الضريبة ] : [ الكامل ]
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها من أن يغضبوا
أي أوجبت لهم ذلك وثبتته لهم ، فكأنه الكلام نفي للكلام المردود عليه ب { لا } ، وإثبات للمستأنف ب { جرم } و " أن " على هذا النظر في موضع رفع ب { جرم } ، وكذلك { أن } الثانية والثالثة ، ومذهب جماعة من أهل اللسان أن { لا جرم } بمعنى لا بد ولا محالة ف { أن } على هذا النظر في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، أي لا محالة بأن ما . و " ما " بمعنى الذي واقعة على الأصنام وما عبدوه من دون الله .
وقوله : { ليس له دعوة } أي قدر وحق يجب أن يدعى أحد إليه ، فكأنه تدعونني إلى ما لا غناء له وبين أيدينا خطب جليل من الرد إلى الله . وأهل الإسراف والشرك . هم أصحاب النار بالخلود فيها والملازمة ، أي فكيف أطيعكم مع هذه الأمور الحقائق ، في طاعتكم رفض العمل بحسبها والخوف . قال ابن مسعود ومجاهد : المسرفون : سفاكو الدماء بغير حلها . وقال قتادة : هم المشركون . ثم توعدهم بأنهم سيذكرون قوله عن حلول العذاب بهم ، وسوف بالسين . إذ الأمر محتمل أن يخرج الوعيد في الدنيا أو في الآخرة ، وهذا تأويل ابن زيد . وروى اليزيدي وغيره عن أبي عمرو فتح الياء من : " أمريَ " ، والضمير في : { وقاه } يحتمل أن يعود على موسى ، ويحتمل أن يعود على مؤمن آل فرعون ، وقال قائلو ذلك : إن ذلك المؤمن نجا مع موسى عليه السلام في البحر ، وفر في جملة من فر معه من المتبعين .
وقرأ عاصم : { فوقاه الله } بالإمالة .
{ وحاق } معناه : نزل ، وهي مستعملة في المكروه . و : { سوء العذاب } الغرق وما بعده من النار وعذابها .
(6/7)

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
قوله : { النار } رفع على البدل من قوله : { سوء } [ غافر : 45 ] . وقالت فرقة : { النار } رفع بالابتداء وخبره : { يعرضون } . وقالت فرقة : هذا الغدو والشعي هو في الدنيا ، أي في كل غدو وعشي من أيام الدنيا يعرض آل فرعون على النار . وروي في ذلك عن الهزيل بن شرحبيل والسدي : أن أرواحهم في أجواف الطير سود تروح بهم وتغدو إلى النار ، وقاله الأوزاعي حين قال له رجل : إني رأيت طيوراً بيضاً تغدو من البحر ثم ترجع بالعشي سوداً مثلها ، فقال الأوزاعي : تلك هي التي في حواصلها أرواح آل فرعون يحترق رياشها وتسود بالعرض على النار . وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : أراد أنهم يعرضون في الآخرة على النار على تقدير ما بين الغدو والعشي ، إذا لا غدو ولا عشي في الآخرة ، وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا وقوله : { ويوم تقوم الساعة } يحتمل أن يكون { يوم } عطفاً على { عشياً } ، والعامل فيه { يعرضون } ، ويحتمل أن يكون كلاماً مقطوعاً والعامل في : { يوم } { ادخلوا } ، والتقدير : على كل قول يقال ادخلوا .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعرج وأبو جعفر وشيبة والأعمش وابن وثاب وطلحة : " أدخلوا " بقطع الألف . وقرأ علي بن أبي طالب وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم والحسن وقتادة : " ادخلوا " بصلة الألف على الأمر ل { آل فرعون } على هذه القراءة منادى مضاف . و : { أشد } نصب على ظرفية .
والضمير في قوله : { يتحاجون } لجميع كفار الأمم ، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون ، والعامل في { إذ } ، فعل مضمر تقديره : واذكر . قال الطبري : { وإذ } هذه عطف على قوله : { إذ القلوب لدى الحناجر } [ غافر : 18 ] وهذا بعيد .
قال القاضي أبو محمد : والمحاجة : التحاور بالحجة والخصومة .
و : { الضعفاء } يريد في القدر والمنزلة في الدنيا . و : { الذين استكبروا } هم أشراف الكفار وكبراؤهم ، ولم يصفهم بالكبر إلا من حيث استكبروا ، لأنهم من أنفسهم كبراء ، ولو كانوا كذلك في أنفسهم لكانت صفته الكبر أو نحوه مما يوجب الصفة لهم . و " تبع " : قيل هو جمع واحد تابع ، كغائب وغيب ، وقيل هو مفرد يوصف به الجمع ، كعدل وزور وغيره .
وقوله : { مغنون عنا } أي يحملون عنا كله ومشقته ، فأخبرهم المستكبرون أن الأمر قد انجزم بحصول الكل منهم فيها وأن حكم الله تعالى قد استمر بذلك .
وقوله : { كل فيها } ابتداء وخبر ، والجملة موضع خبر " إن " .
وقرأ ابن السميفع : " إنا كلاًّ " ، بالنصب على التأكيد .
ثم قال جميع من في النار لخزنتها وزبانيتها : { ادعوا ربكم } عسى أن يخفف عنا مقدار يوم من أيام الدنيا من العذاب ، فراجعتهم الخزنة على معنى التوبيخ لهم . والتقرير : { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } فأقر الكفار عند ذلك وقالوا { بلى } ، أي قد كان ذلك ، فقال لهم الخزنة عند ذلك : فادعوا أنتم إذاً ، وعلى هذا معنى الهزء بهم ، فادعوا أيها الكافرون الذين لا معنى لدعائهم ، وقالت فرقة : { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } هو من قول الخزنة . وقالت فرقة : هو من قول الله تعالى إخباراً منه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجاءت هذه الأفعال على صيغة المضي ، قال الناس الذين استكبروا وقال للذين في النار ، لأنها وصف حال متيقنة الوقوع فحسن ذلك فيها .
(6/8)

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
أخبر الله تعالى أنه ينصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، قال بعض المفسرين : وهذا خاص فيما أظهره الله على أمته كنوح وموسى ومحمد وليس بعام ، لأنا نجد من الأنبياء من قتله قومه كيحيى ولم ينصر عليهم ، وقال السدي : الخبر عام على وجهه ، وذلك أن نصرة الرسل واقعة ولا بد ، إما في حياة الرسول المنصور كنوح وموسى ، وإما فيما يأتي من الزمان بعد موته ، ألا ترى إلى ما صنع الله ببني إسرائيل بعد قتلهم يحيى من تسليط بختنصر عليهم حتى انتصر ليحيى ، ونصر المؤمنين داخل في نصر الرسل ، وأيضاً فقد جعل الله للؤمنين الفضلاء وداً ووهبهم نصراً إذ ظلموا وحضت الشريعة على نصرهم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " من رد عن أخيه المسلم في عرضه ، كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم " ، وقوله عليه السلام : " من حمى مؤمناً من منافق يغتابه ، بعث الله ملكاً يحميه يوم القيامة " .
وقوله تعالى : { ويوم يقوم الأشهاد } يريد يوم القيامة .
وقرأ الأعرج وأبو عمرو بخلاف " تقوم " بالتاء . وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة : " يقوم " بالياء . و { الأشهاد } : جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب . وقالت فرقة : أشهاد : جمع شهيد ، كشريف وأشراف .
و : { يوم لا ينفع } بدل من الأول . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وعيسى وأهل مكة " لا تنفع " بالتاء من فوق . وقرأ الباقون : " لا ينفع " بالياء ، وهي قراءة جعفر وطلحة وعاصم وأبي رجاء ، وهذا لأن تأنيث المعذرة غير حقيقي ، وأن الحائل قد وقع ، والمعذرة : مصدر يقع كالعذر . و : { اللعنة } : الإبعاد . و : { سوء الدار } فيه حذف مضاف تقديره : سوء عاقبة الدار .
ثم أخبر تعالى بقصة موسى وما أتاه من النبوة تأنيساً لمحمد عليه السلام ، وضرب أسوة وتذكيراً لما كانت العرب تعرفه من أمر موسى ، فيبين ذلك أن محمداً ليس ببدع من الرسل . و : { الهدى } النبوة والحكمة ، والتوراة تعم جميع ذلك .
وقوله : { وأورثنا } عبر عن ذلك بالوراثة إذ كانت طائفة بني إسرائيل قرناً بعد قرن تصير فيها التوراة إماماً ، فكان بعضهم يرثها عن بعض وتجيء التوراة في حق الصدر الأول منهم على تجوز . و : { الكتاب } التوراة . ثم أمر نبيه عليه السلام بالصبر وانتظار إنجاز الوعد أي فستكون عاقبة أمرك كعاقبة أمره . وقال الكلبي : نسخت آية القتال الصبر حيث وقع .
وقوله تعالى : { واستغفر لذنبك } يحتمل أن يكون ذلك قبل إعلام الله إياه إنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، لأن آية هذه السورة مكية ، وآية سورة الفتح مدنية متأخرة ، ويحتمل أن يكون الخطاب في هذه الآية له والمراد أمته ، أي إنه إذا أمر بهذا فغيره أحرى بامتثاله .
(6/9)

{ والإبكار } والبكر : بمعنى واحد . وقال الطبري : { الإبكار } من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس . وحكي عن قوم أنه من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى . وقال الحسن : { بالعشي } ، يريد صلاة العصر { والإبكار } : يريد به صلاة الصبح .
ثم أخبر تعالى عن أولئك الكفار الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان وهم يريدون بذلك طمسها والرد في وجهها أنهم ليسوا على شيء ، بل في صدورهم وضمائرهم كبر وأنفة عليك حسداً منهم على الفضل الذي آتاك الله ، ثم نفى أن يكونوا يبلغون آمالهم بحسب ذلك الكبر فقال : { ما هم ببالغيه } وهنا حذف مضاف تقديره : ببالغي إرادتهم فيه ، وفي هذا النفي الذي تضمن أنهم لا يبلغون أملاً تأنيس لمحمد عليه السلام . ثم أمره تعالى الاستعاذة بالله في كل أمره من كل مستعاذ منه ، لأن الله يسمع أقواله وأقوال مخالفيه . وهو بصير بمقاصدهم ونياتهم ، ويجازي كلاًّ بما يستوجبه ، ( والمقصد بأن يستعاذ منه عند قوم الكبر المذكور ) ، كأنه قال : هؤلاء لهم كبر لا يبغون منه أملاً ، { فاستعذ بالله } من حالهم . وذكر الثعلبي : أن هذه الاستعاذة هي من الدجال وفتنته ، والأظهر ما قدمناه من العموم في كل مستعاذ منه .
(6/10)

لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
قوله تعالى : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } توبيخ لهؤلاء الكفرة المتكبرين ، كأنه قال : مخلوقات الله أكبر وأجل قدراً من خلق البشر ، فما لأحد منهم يتكبر على خالقه ، ويحتمل أن يكون الكلام في معنى البعث والإعادة ، فأعلم أن الذي خلق السماوات والأرض قوي قادر على خلق الناس تارة أخرى . والخلق على هذا التأويل مصدر مضاف إلى المفعول . وقال النقاش : المعنى مما يخلق الناس ، إذ هم في الحقيقة لا يخلقون شيئاً ، فالخلق في قوله : { من خلق الناس } مضاف إلى الفاعل على هذا التأويل .
وقوله : { ولكن أكثر الناس } يقتضي أن الأقل منهم يعلم ذلك ، ولذلك مثل الأكثر الجاهل : ب { الأعمى } ، والأقل العالم : ب { البصير } ، وجعل : { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعادلهم قوله : { ولا المسيء } وهو اسم جنس يعم المسيئين ، وأخبر تعالى أن هؤلاء لا يستوون ، فكذلك الأكثر الجهلاء من الناس لا يستوون مع الأقل الذين يعلمون .
وقرأ أكثر القراء والأعرج وأبو جعفر وشيبة والحسن : " يتذكرون " بالياء على الكناية عن الغائب . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وقتادة وطلحة وعيسى وأبو عبد الرحمن : " تتذكرون " بالتاء من فوق على المخاطبة . والمعنى : قل لهم يا محمد . ثم جزم الإخبار بأن الساعة آتية ، وهي القيامة المتضمنة للبعث من القبور والحساب بين يدي الله تعالى ، واقترن الجمع إلى الجنة وإلى النار .
وقوله تعالى : { لا ريب فيها } ، أي في نفسها وذاتها ، وإن وجد من العالم من يرتاب فيها فليست فيها في نفسها ريبة .
وقوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } آية تفضل ونعمة ووعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالإجابة عند الدعاء ، وهذا الوعد مقيد بشرط المشيئة لمن شاء تعالى ، لا أن الاستجابة عليه حتم لكل داع ، لا سيما لمن تعدى في دعائه ، فقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء الذي قال : اللهم أعطني القصر الأبيض الذي عن يمين الجنة . وقالت فرقة : معنى : { ادعوني } و { استجب } ، معناه : بالثواب والنصر ، ويدل على هذا التأويل قوله : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } ويحتج له لحديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء هو العبادة " وقرأ هذه الآية . وقال ابن عباس : المعنى : وحدوني أغفر لكم . وقيل للثوري : ادع الله ، فقال : إن ترك الذنوب هو الدعاء .
وقرأ ابن كثير وأبو جعفر : " سيُدخَلون " بضم الياء وفتح الخاء . وقرأ نافع وحمزة والكسائي وابن عامر والحسن وشيبة : بفتح الياء وضم الخاء ، واختلف عن أبي عمرو وعن عاصم . والداخر : هو الصاغر الذليل .
(6/11)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
هذا تنبيه من الله تعالى على آيات ، وعبر ، متى تأملها العاقل أدته إلى توحيد الله والإقرار بربوبيته .
وقوله تعالى : { والنهار مبصراً } مجازه يبصر فيه ، كما تقول : نهار صائم ، وليل قائم .
وقوله تعالى : { خالق كل شيء } مخلوق ، وما يستحيل أن يكون مخلوقاً كالقرآن والصفات فليس يدخل في هذا العموم ، وهذا كما قال تعالى : { تدمر كل شيء } [ الأحقاف : 25 ] معناه كل شيء مبعوث لتدميره .
وقرأت فرقة : " تؤفكون " بالتاء ، وقرأت فرقة : " يؤفكون " بالياء ، والمعنى في القراءة الأولى قل لهم .
و : { تؤفكون } معناه : تصرفون على طريق النظر والهدى ، وهذا تقرير بمعنى التوبيخ والتقريع ، ثم قال لنبيه : { كذلك يؤفك } أي على هذه الهيئة وبهذه الصفة صرف الله تعالى الكفار الجاحدين بآيات الله من الأمم المتقدمة على طريق الهدى ، ثم بين تعالى نعمته في أن جعل { الأرض قراراً } ومهاداً للعباد ، { والسماء بناء } وسقفاً .
وقرأ الناس : " صُوركم " بضم الصاد . وقرأ أبو رزين : " صِوركم " بكسر الصاد . وقرأت فرقة : " صوركم " بكسر الواو على نحو بسرة وبسر .
وقوله تعالى : { من الطيبات } يريد من المستلذات طعماً ولباساً ومكاسب وغير ذلك ، ومتى جاء ذكر { الطيبات } بقرينة { رزقكم } ونحو فهو المستلذ ، ومتى جاء بقرينة تحليل أو تحريم كما قال تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] وكما قال : { ويحل لهم الطيبات } [ الأعراف : 157 ] والطيبات في مثل هذا : الحلال ، وعلى هذا النظر يخرج مذهب مالك رحمه الله في الطيبات والخبائث ، وقول الشافعي رحمه الله : إن الطيبات هي المستلذات ، والخبائث ، هي المستقذرات ضعيف ينكسر بمستلذات محرمة ومستقذرات محللة لا رد له في صدرها ، وأما حيث وقعت الطيبات مع الرزق فإنما هي تعديد نعمة فيما يستحسنه البشر ، لا سيما هذه الآية التي هي مخاطبة لكفار ، فإنما عددت عليه النعمة التي يعتقدونها نعمة ، وباقي الآية بين .
(6/12)

هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
لما سددت الآيات صفات الله تعالى التي تبين فساد حال الأصنام كان من أبينها أن الأصنام موات جماد ، وأنه عز وجل الحي القيوم ، وصدور الأمور من لدنه ، وإيجاد الأشياء وتدبير الأمر دليل قاطع على أنه حي لا إله إلا هو .
وقوله : { فادعوه مخلصين له الدين ، الحمد لله رب العالمين } كلام متصل مقتضاه : ادعوه مخلصين بالجهد ، وبهذه الألفاظ قال ابن عباس : من قال لا إله إلا الله ، فليقل على أثرها : { الحمد لله رب العالمين } . وقال نحو هذا سعيد بن جبير ثم قرأ هذه الآية .
ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يصدع بأنه نهي عن عبادة الأصنام التي عبدها الكفار من دون الله ، ووقع النهي لما جاءه الوحي والهدي من ربه تعالى ، وأمر بالإسلام الذي هو الإيمان والأعمال . وقوله : { لرب العالمين } أي إن استسلم لرب العالمين واخضع له بالطاعة .
ثم بين تعالى أمر الوحدانية والألوهية بالعبرة في ابن آدم وتدريج خلقه ، فأوله خلق آدم عليه السلام من تراب من طين لازب ، فجعل البشر من التراب كما كان منسلاً من الخلوق من التراب . وقوله تعالى : { من نطفة } إشارة إلى التناسل من آدم فمن بعده . والنطفة : الماء الذي خلق المرء منه . والعلقة : الدم الذي يصير من النطفة . والطفل هنا : اسم جنس . وبلوغ الأشد : اختلف فيه : فقيل ثلاثون ، وقيل ستة وثلاثون ، وقيل أربعون : وقيل ستة وأربعون ، وقيل عشرون ، وقيل ثمانية عشر ، وقيل خمسة عشر ، وهذه الأقوال الأخيرة ضعيفة في الأشد .
وقوله تعالى : { ومنكم من يتوفى من قبل } عبارة تتردد في الأدراج المذكورة كلها ، فمن الناس من يموت قبل أن يخرج طفلاً ، وآخرون قبل الأشد ، وآخرون قبل الشيخوخة .
وقوله : { ولتبلغوا أجلاً مسمى } أي هذه الأصناف كلها مخلوقة ميسرة ليبلغ كل واحد منها أجلاً مسمى لا يتعداه ولا يتخطاه ولتكون معتبراً . { ولعلكم } أيها البشر { تعقلون } الحقائق إذا نظرتم في هذا وتدبرتم حكمة الله تعالى .
(6/13)

هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
قوله تعالى : { فإذا قضى أمراً } عبارة عن إنقاذ الإيجاد ، وإخراج المخلوق من العدم وإيجاد الموجودات هو بالقدرة ، واقتران الأمر بذلك : هو عظمة في الملك وتخضيع للمخلوقات وإظهار للقدرة بإيجاده ، والأمر للموجد إنما يكون في حين تلبس القدرة بإيجاده لا قبل ذلك ، لأنه حينئذ لا يخاطب في معنى الوجود والكون ولا بعد ذلك ، لأن ما هو كائن لا يقال له { كن } .
وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } ظاهر الآية أنها في الكفار المجادلين في رسالة محمد والكتاب الذي جاء به بدليل قوله : { الذين كذبوا بالكتاب } . وهذا قول ابن زيد والجمهور من المفسرين . وقال محمد بن سيرين وغيره ، قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } هي إشارة إلى أهل الأهواء من الأمة ، وروت هذه الفرقة في نحو هذا حديثاً وقالوا هي في أهل القدر ومن جرى مجراهم ، ويلزم قائلي هذه المقالة أن يجعلوا قوله تعالى : { الذين كذبوا } كلاماً مقطوعاً مستأنفاً في الكفار . { الذين } ابتداء وخبره : { فسوف يعلمون } ، ويحتمل أن يكون خبر الابتداء محذوفاً والفاء متعلقة به .
وقوله تعالى : { إذ الأغلال } يعني يوم القيامة ، والعامل في الظرف { يعلمون } وعبر عن ظرف الاستقبال بظرف لا يقال إلا في الماضي ، وذلك لما تيقن وقوع الأمر حسن تأكيده بالإخراج في صيغة المضي ، وهذا كثير في القرآن كما قال تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم } [ المائدة : 116 ] قال الحسن بن أبي الحسن : لم تجعل السلاسل في أعناق أهل النار ، لأنهم أعجزوا الرب ، لكن لترسبهم إذا أطفاهم اللهب .
وقرأ جمهور الناس : " والسلاسلُ " عطفاً على { الأغلال } . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : " والسلاسلَ " بالنصب " يسحَبون " بفتح الحاء وإسناد الفعل إليهم وإيقاع الفعل على " السلاسل " . وقرأت فرقة " والسلاسلِ " بالخفض على تقدير إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل . فعطف على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ ، إذ ترتيبه فيه قلب ، وهو على حد قول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي . وفي مصحف أبي بن كعب : " وفي السلاسل يسحبون " . و : { يسحبون } معناه يجرون ، والسحب الجر . و { الحميم } : الذائب الشديد الحر من النار ، ومنه يقال للماء السخن : حميم . و : { يسجرون } قال مجاهد معناه : توقد النار بهم ، والعرب تقول : سجرت التنور إذا ملأتها . وقال السدي : { يسجرون } يحرقون .
ثم أخبر تعالى أنهم يوقفون يوم القيامة على جهة التوبيخ والتقريع ، فيقال لهم أين الأصنام التي كنتم تعبدون من دون الله؟ فيقولون : { ضلوا عنا } أي تلفوا لنا وغابوا واضمحلوا ، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون : { بل لم نكن ندعو من قبل شيئاً } وهذا من أشد الاختلاط وأبين الفساد في الدهر والنظر فقال الله تعالى لنبيه : { كذلك يضل الله الكافرين } أي كهذه الصفة المذكورة وبهذا الترتيب .
(6/14)

ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
المعنى يقال للكفار المعذبين { ذلكم } العذاب الذي أنتم فيه { بما كنتم تفرحون } في الدنيا بالمعاصي والكفر . و : { يمرحون } قال مجاهد معناه : الأشر والبطر . وقال ابن عباس : الفخر والخيلاء .
وقوله تعالى : { ادخلوا } معناه : يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر { ادخلوا } ، لأن هذه المخاطبة إنام هي بعد دخولهم وفي الوقت الذي فيه الأغلال في أعناقهم . و : { أبواب جنهم } هي السبعة المؤدية إلى طبقاتها وأدراكها السبعة . والمثوى : موضع الإقامة .
ثم أنس تعالى نبيه ووعده بقوله : { فاصبر إن وعد الله حق } أي في نصرك وإظهار أمرك ، فإن ذلك أمر إما أن ترى بعضه في حياتك فتقر عينك به ، وإما أن تموت قبل ذلك فإلى أمرنا وتعذيبنا يصيرون ويرجعون .
وقرأ الجمهور : " يُرجعون " بضم الياء . وقرأ أبو عبد الرحمن ويعقوب " يَرجعون " بفتح الياء . وقرأ طلحة بن مصرف ويعقوب في رواية الوليد بن حسان : بفتح التاء منقوطة من فوق .
وقوله تعالى : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك } الآية رد على العرب الذين قالوا : إن الله لا يبعث بشراً رسولاً واستبعدوا ذلك .
وقوله تعالى : { منهم من قصصنا } قال النقاش : هم أربعة وعشرون .
وقوله تعالى : { ومنهم من لم نقصص عليك } روي من طريق أنس بن مالك عن النبي عليه السلام أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف رسول . وروي عن سلمان عن النبي عليه السلام قال : " بعث الله أربعة آلاف نبي " وروي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال : بعث الله رسولاً من الحبشة أسود ، وهو الذي يقص على محمد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما ساقه على أن هذا الحبشي مثال لمن لم يقص ، لا أنه هو المقصود وحده ، فإن هذا بعيد .
وقوله تعالى { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } رد على قريش في إنكارهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقولهم إنه كاذب على الله تعالى . والإذن يتضمن علماً وتمكيناً . فإذا اقترن به أمر قوي كما هو في إرسال النبي ، ثم قال تعالى : { فإذا جاء أمر الله } أي إذا أراد الله إرسال رسول وبعثة نبي ، قضى ذلك وأنفذه بالحق ، وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته ، وتحتمل الآية معنى آخر ، وهو أن يريد ب { أمر الله } القيامة ، فتكون الآية توعداً لهم بالآخرة .
(6/15)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
هذه آيات عبر وتعديد نعم . و : { الأنعام } الأزواج الثمانية . ع و : { منها } الأولى للتبعيض ، لأن المركوب ليس كل الأنعام ، بل الإبل خاصة . { ومنها } الثانية لبيان الجنس ، لأن الجميع منها يؤكل . وقال الطبري في هذه الآية : إن { الأنعام } تعم الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وغير ذلك ما ينتفع به في البهائم ، ف { منها } في الموضعين للتبعيض على هذا ، لكنه قول ضعيف ، وإنما الأنعام ، الأزواج الثمانية التي ذكر الله فقط . ثم ذكر تعالى المنافع ذكراً مجملاً ، لأنها أكثر من أن تحصى .
وقوله تعالى : { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } يريد قطع المهامه الطويلة والمشاق البعيدة . و : { الفلك } السفن ، وهو هنا جمع . و : { تحملون } يريد : براً وبحراً . وكرر الحمل عليها ، وقد تقدم ذكر ركوبها لأن المعنى مختلف وفي الأمرين تغاير ، وذلك أن الركوب هو المتعارف فيما قرب واستعمل في القرى والمواطن نظير الأكل منها وسائر المنافع بها ، ثم خصص بعد ذلك السفر الأطوال وحوائج الصدور مع البعد والنوى ، وهذا هو الحمل الذي قرنه بشبيهه من أمر السفن . ثم ذكر تعالى آياته عامة جامعة لكل عبرة وموضع نظر ، وهذا غير منحصر لاتساعه ، ولأن في كل شيء له آية تدل على وحدانيته ، ثم قررهم على جهة التوبيخ بقوله : { فأي آيات الله تنكرون } . ثم احتج تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من نقمات الله في الكفرة الذين { كانوا أكثر } عدداً { وأشد قوة } أبدان وممالك ، وأعظم آثاراً في المباني والأفعال من قريش والعرب ، فلم يغن عنهم كسبهم ولا حالهم شيئاً حين جاءهم عذاب الله وأخذه و { ما } في قوله : { فما أغنى عنهم } نافية . قال الطبري : وقيل هي تقرير وتوقيف .
(6/16)

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
الضمير في : { جاءتهم } عائد على الأمم المذكورين الذين جعلوا مثلاً وعبرة . واختلف المفسرون في الضمير في : { فرحوا } على من يعود ، فقال مجاهد وغيره : هو عائد على الأمم المذكورين ، أي بما عندهم من العلم في ظنهم ومعتقدهم من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون . قال ابن زيد : واغتروا بعلمهم في الدنيا والمعايش ، وظنوا أنه لا آخرة ففرحوا ، وهذا كقوله تعالى : { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } [ الروم : 7 ] وقالت فرقة : الضمير في { فرحوا } عائد على الرسل ، وفي هذا الرسل حذف ، وتقديره : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات } كذبوهم ، ففرح الرسل بما عندهم من العلم بالله والثقة به ، وبأنه سينصرهم . { وحاق } معناه : نزل وثبت ، وهي مستعملة في الشر . و { ما } في قوله : { ما كانوا } هو العذاب الذي كانوا يكذبون به ويستهزئون بأمره ، والضمير في { بهم } عائد على الكفار بلا خلاف . ثم حكى حالة بعضهم ممن آمن بعد تلبس العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك ، وفي ذكر هذا حض للعرب على المبادرة وتخويف من التأني لئلا يدركهم عذاب لا تنفعهم توبة بعد تلبسه بهم . وأما قصة قوم يونس فرأوا العذاب ولم يكن تلبس بهم ، وقد مر تفسيرها مستقصى في سورة يونس عليه السلام . و : { سنة الله } نصب على المصدر . و : { خلت } معناه : مضت واستمرت وصارت عادة .
وقوله : { هنالك } إشارة إلى أوقات العذاب ، أي ظهر خسرانهم وحضر جزاء كفرهم .
(6/17)

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
تقدم القول في أوائل السور مما يختص به الحواميم ، وأمال الأعمش { حم } [ فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الدخان : 1 ، الزخرف : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] في كلها . و : { تنزيل } خبر الابتداء ، إما على أن يقدر الابتداء ، إما على أن يقدر الابتداء في : { حم } على ما تقتضيه بعض الأقوال إذا جعلت اسماً للسورة أو للقرآن أو إشارة إلى حروف المعجم ، وإما على أن يكون التقدير : هذا تنزيل ، ويجوز أن يكون { تنزيل } ابتداء وخبره في قوله : { كتاب فصلت } على معنى ذو تنزيل . و : { الرحمن الرحيم } صفتا رجاء ورحمة لله تعالى . و : { فصلت } معناه بينت آياته ، أي فسرت معانيه ففصل بين حلاله وحرامه وزجره وأمره ووعده ووعيده ، وقيل { فصلت } في التنزيل ، أي نزل نجوماً ، لم ينزل مرة واحدة ، وقيل { فصلت } بالمواقف وأنواع أواخر الآي ، ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها كالشعر والسجع . و : { قرآناً } نصب على الحال عند قوم ، وهي مؤكدة ، لأن هذه الحال ليست مما تنتقل . وقالت فرقة : هو نصب على المصدر ، وقالت فرقة : { قرآناً } توطئة للحال . و : { عربياً } حال . وقالت فرقة : { قرآناً } نصب على المدح وهو قول ضعيف .
وقوله تعالى : { لقوم يعلمون } قالت فرقة : معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل وينظرون على طريق نظر ، فكأن القرآن فصلت آياته لهؤلاء ، إذ هم أهل الانتفاع بها ، فخصوا بالذكر تشريفاً ، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له . وقالت فرقة : { يعلمون } متعلق في المعنى بقوله : { عربياً } أي جعلناه بكلام العرب لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب ، وكأن الآية رادة على من زعم أن في كتاب الله ما ليس في كلام العرب ، فالعلم على هذا التأويل أخص من العلم على التأويل الأول ، والأول أشرف معنى ، وبين أنه ليس في القرآن إلا ما هو من كلام العرب إما من أصل لغتها وإما عربته من لغة غيرها ثم ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل .
وقوله : { بشيراً ونذيراً } نعت للقرآن ، أي يبشر من آمن بالجنة ، وينذر من كفر بالنار . والضمير في : { أكثرهم } عائد على القوم المذكورين .
وقوله : { فهم لا يسمعون } نفي لسمعهم النافع الذي يعتد به سمعاً ، ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كل المباعدة وأرادوا أن يؤيسوهم من قبولهم دينهم وهي { قلوبنا في أكنة } جمع كنان وهو باب فعال وأفعلة . والكنان : ما يجمع الشيء ويضمه ويحول بينه وبين غيره ، ومنه : الكن ومنه : كنانة النبل ، وبها فسر مجاهد هذه الآية . و " من " في قوله : { مما } لابتداء الغاية وكذلك هي في قوله : { ومن بيننا } مؤكدة ولابتداء الغاية . والوقر : الثقل في الأذن الذي يمنع السمع .
وقرأ ابن مصرف : " وِقر " بكسر الواو .
(6/18)

والحجاب : الذي أشاروا إليه : هو مخالفته إياهم ودعوته إلى الله دون أصنامهم ، أي هذا أمر يحجبنا عنك ، وهذه مقالة تحتمل أن تكون معها قرينة الجد في المحاورة وتتضمن المباعدة ، ويحتمل أن تكون معها قرينة الهزل والاستخفاف ، وكذلك قوله : { فاعمل إننا عاملون } يحتمل أن يكون القول تهديداً ، ويحتمل أن يكون متاركة محضة .
وقرأ الجمهور : " قل إنما " على الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش : " قل إنما " على المضي والخبر عنه ، وهذا هو الصدع بالتوحيد والرسالة .
وقوله : { قل إنما أنا بشر } قال الحسن : علمه الله تعالى التواضع ، و " إن " في قوله : { إنما } رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله .
وقوله : { فاستقيموا } أي على محجة الهدى وطريق الشرع والتوحيد ، وهذا المعنى مضمن قوله : { إليه } . والويل : الحزن والثبور ، وفسره الطبري وغيره في هذه الآية بقبح أهل النار وما يسيل منهم .
وقوله تعالى : { الذين لا يؤتون الزكاة } قال الحسن وقتادة وغيره : هي زكاة المال . وروي : الزكاة قنطرة الإسلام ، من قطعها نجا ، ومن جانبها هلك . واحتج لهذا التأويل بقول أبي بكر في الزكاة وقت الردة . وقال ابن عباس والجمهور : { الزكاة } في هذه الآية : لا إله إلا الله التوحيد كما قال موسى لفرعون : { هل لك إلى أن تزكى } [ النازعات : 18 ] ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي ، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة ، وإنما هذه زكاة القلب والبدن ، أي تطهيره من الشرك والمعاصي ، وقاله مجاهد والربيع . وقال الضحاك ومقاتل : معنى { الزكاة } هنا : النفقة في الطاعة ، وأعاد الضمير في قوله : { هم كافرون } توكيداً .
(6/19)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
ذكر عز وجل حالة الذين آمنوا معادلاً بذلك حالة الكافرين المذكورين ليبين الفرق . وقوله : { غير ممنون } قال ابن عباس معناه : غير منقوص . وقالت فرقة معناه : غير مقطوع ، يقال مننت الحبل : إذا قطعته . وقال مجاهد معناه : غير محسوب ، لأن كل محسوب محصور ، فهو معد لأن يمن به ، فيظهر في الآية أنه وصفه بعدم المن والأذى من حيث هو من جهة الله تعالى ، فهو شريف لا من فيه ، وأعطيات البشر هي التي يدخلها المن . وقال السدي : نزلت هذه الآية من المرضى والزمنى ، إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون ، ثم أمر تعالى نبيه أن يوقفهم موبخاً على كفرهم بخالق الأرض والسماوات ومخترعها ، ووصف صورة خلقها ومدته ، والحكمة في خلقه هذه المخلوقات في مدة ممتدة مع قدرة الله على إيجادها في حين واحد . وهي إظهار القدرة في ذلك حسب شرف الإيجاد أولاً أولاً . قال قوم : وليعلّم عباده التأني في الأمور والمهل ، وقد تقدم القول غير مرة في نظير قوله : { أئنكم } .
واختلف رواة الحديث في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه خلق الأرض ، فروي عن ابن عباس وغيره : أن أول يوم هو الأحد ، وأن الله تعالى خلق فيه وفي الاثنين : الأرض ، ثم خلق الجبال ونحوها يوم الثلاثاء . قال ابن عباس فمن هنا قيل : هو يوم ثقيل . ثم خلق الشجر والثمار والأنهار يوم الأربعاء ، ومن هنا قيل : هو يوم راحة وتفكر في هذه التي خلقت فيه . ثم خلق السماوات وما فيها يوم الخميس ويوم الجمعة ، وفي آخر ساعة من يوم الجمعة : خلق آدم . وقال السدي : وسمي يوم الجمعة لاجتماع المخلوقات فيه وتكاملها ، فهذه رواية فيها أحاديث مشهورة . ولما لم يخلق تعالى في يوم السبت شيئاً امتنع فيه بنو إسرائيل عن الشغل . ووقع في كتاب مسلم بن الحجاج : أن أول يوم خلق الله فيه التربة يوم السبت ، ثم رتب المخلوقات على ستة أيام ، وجعل الجمعة عارياً من المخلوقات على ستة أيام إلا من آدم وحده . والظاهر من القصص في طينة آدم أن الجمعة التي خلق فيها آدم قد تقدمتها أيام وجمع كثيرة ، وأن هذه الأيام التي خلق الله فيها هذه المخلوقات هي أول الأيام ، لأن بإيجاد الأرض والسماء والشمس وجد اليوم ، وقد يحتمل أن يجعل تعالى قوله : { يومين } على التقدير ، وإن لم تكن الشمس خلقت بعد ، وكأن تفصيل الوقت يعطي أنها الأحد ويوم الاثنين كما ذكر . والأنداد : الأشباه والأمثال ، وهذه إشارة إلى كل ما عبد من الملائكة والأصنام وغير ذلك . قال السدي : أكفاء من الرجال تطيعونهم . والرواسي : هي الجبال الثوابت ، رسا الجبل إذا ثبت .
(6/20)

وقوله تعالى : { وبارك فيها } أي جعلها منبتة للطيبات والأطعمة ، وجعلها طهوراً إلى غير ذلك من وجوه البركة . وفي قراءة ابن مسعود : " وقسم فيها أقواتها " . وفي مصحف عثمان رضي الله عنه : " وقدر " واختلف الناس في معنى قوله : { أقواتها } فقال السدي : هي أقوات البشر وأرزاقهم ، وأضافها إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها . وقال قتادة : هي أقوات الأرض من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها . وروى ابن عباس رضي الله عنه في هذا المعنى حديثاً مرفوعاً فشبهها بالقوت الذي به قوام الحيوان . وقال مجاهد : أراد { أقواتها } من المطر والمياه . وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضاً : أراد بقوله : { أقواتها } خصائصها التي قسمها في البلاد ، فجعل في اليمن أشياء ليست في غيره ، وكذلك في العراق والشام والأندلس وغيرها من الأقطار ليحتاج بعضها إلى بعض ويتقوت من هذه في هذه الملابس والمطعوم ، وهذا نحو القول الأول ، إلا أنه بوجه أعم منه .
وقوله تعالى : { في أربعة أيام } يريد باليومين الأولين ، وهذا كما تقول : بنيت جدار داري في يوم وأكملت جميعها في يومين ، أي بالأول .
وقرأ الحسن البصري وأبو جعفر وجمهور الناس : " سواءً " بالنصب على الحال ، أي سواء هي وما انقضى فيها . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : " سواءٌ " بالرفع ، أي هي سواء . وقرأ الحسن وعيسى وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد : " سواءٍ " بالخفض على نعت الأيام .
واختلف المتأولون في معنى : { للسائلين } فقال قتادة والسدي معناه : سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال عز وجل . وقال ابن زيد وجماعة معناه : مستو مهيأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبر عنهم ب " السائلين " بمعنى الطالبين ، لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به ، فهم في حكم من سأل هذه الأشياء إذ هم أهل حاجة إليها ، ولفظة { سواء } تجري مجرى عدل وزور في أن ترد على المفرد والمذكر والمؤنث .
(6/21)

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{ استوى إلى السماء } معناه بقدرته واختراعه أي إلى خلق السماء وإيجادها .
وقوله تعالى : { وهي دخان } روي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار ، وروي أنه مما أمره الله أن يصعد من الماء ، وهنا لفظ متروك ويدل عليه الظاهر ، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمرها ، وحينئذ قيل لها وللأرض { ائتيا طوعاً أو كرهاً } .
وقرأ الجمهور : " إيتيا " من أتى يأتي " قالتا أتينا " على وزن فعلنا ، وذلك بمعنى إيتيا وإرادتي فيكما ، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : " آيتيا " من آتى يؤتى " قالتا آتينا " على وزن أفعلنا ، وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما ، والإشارة بهذا كله إلى تسخيره وما قدره الله من أعمالها .
وقوله : { أو كرهاً } فيه محذوف ومقتضب ، والتقدير : { ائتيا طوعاً } وإلا أتيتما { كرهاً } . وقوله : { قالتا } أراد الفرقتين المذكورتين ، وجعل السماوات سماء والأرضين أرضاً ، ونحو هذا قول الشاعر : [ الوافر ]
ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا
جعلها فرقتين ، وعبر عنها ب { ائتيا } .
وقوله : { طائعين } لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى الضمير في { طائعين } ذلك المجرى ، وهذا كقوله : { رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] ونحوه .
واختلف الناس في هذه المقالة من السماء والأرض ، فقالت فرقة : نطقت حقيقة ، وجعل الله تعالى لها حياة وإدراكاً يقتضي نطقها . وقالت فرقة : هذا مجاز ، وإنما المعنى أنها ظهر منها من اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة القول { أتينا طائعين } والقول الأول أحسن ، لأنه لا شيء يدفعه وإنما العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر .
وقوله تعالى : { فقضاهن } معناه : صنعهن وأوجدهن ، ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
وقوله تعالى : { وأوحى في كل سماء أمرها } قال مجاهد وقتادة : أوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي بها قوامها وصلاحها . قال السدي وقتادة : ومن الأمور التي هي لغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوه ، وأضاف الأمر إليها من حيث هو فيها ، ثم أخبر تعالى أن الكواكب زين بها السماء الدنيا ، وذلك ظاهر اللفظ وهو بحسب ما يقتضيه حسن البصر .
وقوله تعالى : { وحفظاً } منصوب بإضمار فعل ، أي وحفظناها حفظاً .
وقوله : { ذلك } إشارة إلى جميع ما ذكر ، أو أوجده ، بقدرته وعزته ، وأحكمه بعلمه .
(6/22)

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
المعنى : فإن أعرضت قريش والعرب الذين دعوتهم إلى الله عن هذه الآيات البينة ، فأعلمهم بأنك تحذرهم أن يصيبهم من العذاب الذي أصاب الأمم التي كذبت كما تكذب هي الآن .
وقرأ جمهور الناس : " صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " وقرأ النخعي وأبو عبد الرحمن وابن محيصن " صعقة مثل صعقة " ، فأما هذه القراءة الأخيرة فبينة المعنى ، لأن الصعقة : الهلاك يكون معها في الأحيان قطعة نار ، فشبهت هنا وقعة العذاب بها ، لأن عاداً لم تعذب إلا بريح ، وإنما هذا تشبيه واستعارة ، وبالوقيعة فسر هنا " الصاعقة " ، قال قتادة وغيره . وخص عاداً وثمود بالذكر لوقوف قريش على بلادها في اليمن وفي الحجر في طريق الشام .
وقوله : { من بين أيديهم } أي قد تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود ، وبهذا الاتصال قامت الحجة .
وقوله : { من خلفهم } أي جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تقدم وجودهم في الزمن ، فلذلك قال : { ومن خلفهم } وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمَّتهم خبراً ومباشرة ، ولا يتوجه أن يجعل { ومن خلفهم } عبارة عما أتى بعدهم في الزمن ، لأن ذلك لا يلحقهم منه تقصير ، وأما الطبري فقال : الضمير في قوله : { ومن خلفهم } عائد على الرسل ، والضمير في قوله : { من بين أيديهم } على الأمم ، وتابعه الثعلبي ، وهذا غير قوي لأنه يفرق الضمائر ويشعب المعنى . و { أن } في قوله : { ألا تعبدوا } نصب على إسقاط الخافض ، التقدير : " بأن " . و { تعبدوا } مجزوم على النهي ، ويتوجه أن يكون منصوباً على أن تكون { لا } نافية ، وفيه بعد . وكان من تلك الأمم إنكار بعثة البشر واستدعاء الملائكة ، وهذه أيضاً كانت من مقالات قريش .
وقوله : { فإنا بما أرسلتم به } ليس على جهة الإقرار بأنهم أرسلوا بشيء ، وإنما معناه على زعمكم ودعواكم . ثم وصف حالة القوم ، وأن عاداً طلبوا التكبر ووضعوا أنفسهم فيه بغير حق ، بل بالكفر والمعاصي وغوتهم قوتهم وعظم أبدانهم والنعم فقالوا على جهة التقرير : { من أشد منا قوة } فعرض الله تعالى موضع النظر بقوله : { أو لم يروا } الآية ، وهذا بين في العقل ، فإن للشيء المخترع له المذهب متى شاء هو أقوى منه ، وأخبر تعالى عنهم بجحودهم بآياته المنصوبة للنظر والمنزلة من عنده ، إذ لفظ الآيات يعم ذلك كله في المعنى .
(6/23)

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
روي في الحديث أن الله تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا على عاد منها مقدار حلقة الخاتم ، ولو فتحوا مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا : وروي أن الريح كانت ترفع العير بأوقارها فتطيرها حتى تطرحها في البحر . وقال جابر بن عبد الله والتيمي : حبس عنهم المطر ثلاثة أعوام ، وإذا أراد الله بقوم شراً حبس عنهم المطر وأرسل عليهم الرياح .
واختلف الناس في الصرصر ، فقال قتادة والسدي والضحاك : هو مأخوذ من الصر ، وهو البرد ، والمعنى : ريحاً باردة لها صوت . وقال مجاهد : صرصر : شديدة السموم . وقال الطبري وجماعة من المفسرين : هو من صر يصر إذا صوت صوتاً يشبه الصاد والراء ، وكذلك يجيء صوت الريح في كثير من الأوقات بحسب ما تلقى .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والأعرج وعيسى والنخعي : بسكون الحاء وهو جمع نحس ، يقال يوم نحس ، فهو مصدر يوصف به أحياناً وعلى الصفة به جمع في هذه الآية ، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله : { يوم نحس مستمر } [ القمر : 19 ] . وقال النخعي : { نحسات } وليست ب " نحِسات " بكسر . وقرأ الباقون وأبو جعفر وشيبة وأبو رجاء وقتادة والجحدري والأعمش : " نحِسات " بكسر الحاء ، وهي جمع لنحس على وزن حذر ، فهو صفة لليوم مأخوذ من النحس . وقال الطبري : نحس ونحس لغتان ، وليس كذلك ، بل اللغة الواحدة تجمعهما ، أحدهما مصدر ، والآخر من أمثلة اسم الفاعل ، وأنشد الفراء : [ البسيط ]
أبلغ جذاماً ولخماً أن إخوتهم ... طيا وبهراء قوم نصرهم نحس
وقالت فرقة : إن " نحْسات " بالسكون مخفف من " نحِسات " بالكسر ، والمعنى في هذه اللفظة مشاييم من النحس المعروف ، قاله مجاهد وقتادة والسدي : وقال الضحاك معناه : شديدة ، أي شديدة البرد حتى كان البرد عذاباً لهم . قال أبو علي : وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد :
كأن سلافة عرضت بنحس ... يحيل شفيفها الماء الزلالا
وقال ابن عباس : { نحسات } معناه : متتابعات ، وكانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وعذاب الخزي في الدنيا هو العذاب بسبب الكفر ومخالفة أمر الله ، ولا خزي أعظم من هذا إلا ما في الآخرة من الخلود في النار .
وقرأ جمهور الناس : " ثمودُ " بغير حرف ، وهذا على إرادة القبيلة . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب : " ثمودٌ " بالتنوين والإجراء ، وهذا على إرادة الحي ، وبالصرف كان الأعمش يقرأ في جميع القرآن إلافي قوله : { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } [ الإسراء : 59 ] لأنه في المصحف بغير ألف . وقرأ ابن أبي إسحاق والأعرج بخلاف ، والأعمش وعاصم " ثمودَ " بالنصب ، وهذا على إضمار فعل يدل عليه قوله : { فهديناهم } ، وتقديره عند سيبويه : مهما يكن من شيء فهدينا ثمود هديناهم ، والرفع عنده أوجه ، وروي عن ابن أبي إسحاق والأعمش : " ثموداً " منونة منصوبة ، وروى الفضل عن عاصم الوجهين .
(6/24)

وقوله تعالى : { فهديناهم } معناه : بينّا لهم ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد ، وهذا كما هي الآن شريعة الإسلام مبينة لليهود والنصارى المختلطين لنا ولكنهم يعرضون ويشتغلون بالصد ، فذلك استحباب العمى على الهدى .
وقوله تعالى : { فاستحبوا } عبارة عن تكسبهم في العمى ، وإلا فهو بالاختراع لله تعالى ، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله تعالى : { بما كانوا يكسبون } .
وقوله تعالى : { العذاب الهون } وصف بالمصدر ، والمعنى الذي معه هوان وإذلال ، ثم قرن تعالى بذكرهم ذكر من آمن واتقى ونجاته ليبين الفرق .
(6/25)

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
قوله تعالى : { ويوم } نصب بإضمار فعل تقديره : واذكر يوم .
وقرأ نافع وحده والأعرج وأهل المدينة : " نحشر " بالنون " أعداءَ " بالنصب ، إلا أن الأعرج كسر الشين . وقرأ الباقون : " يُحشر " بالياء المرفوعة ، " أعداءُ " رفعاً ، وهي قراءة الأعمش والحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وقتادة وعيسى وطلحة ونافع فيما روي عنه ، وحجتها { يوزعون } ، و : { أعداء الله } هم الكفار المخالفون لأمره .
و : { يوزعون } قال قتادة والسدي وأهل اللغة ، معناه : يكف أولهم حبساً على آخرتهم ، وفي حديث أبي قحافة يوم الفتح : ذلك الوازع . وقال الحسن البصري : لا بد للقاضي من وزعة . وقال أبو بكر : إني لا أقيد من وزعة الله تعالى . و : { حتى } غاية لهذا الحشر المذكور ، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة ، وذلك عند وصولهم إلى جهنم فإن الله تعالى يستقرهم عند ذلك على أنفسهم ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فينكرون ذلك ويحسبون أن لا شاهد عليهم ، ويظنون السؤال سؤال استفهام واستخبار ، فينطق الله تعالى جوارحهم بالشهادة عليهم ، فروي عن النبي عليه السلام " أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه الأيسر ثم تنطق الجوارح ، " فيقول الكافر : تباً لك أيها الأعضاء ، فعنك كنت أدافع . وفي حديث آخر : " يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام فيتكلم الفخذ والكف . " ثم ذكر الله تعالى محاورتهم لجلودهم في قولهم : { لم شهدتم علينا } أي وعذابنا عذاب لكم .
واختلف الناس ما المراد بالجلود؟ فقال جمهور الناس : هي الجلود المعروفة . وقال عبد الله بن أبي جعفر : كنى بالجلود عن الفروج ، وإياها أراد . وأخبر تعالى أن الجلود ترد جوابهم بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الذي أنطقهم .
وقوله : { أنطق كل شيء } يريد كل ناطق مما هي فيه عادة أو خرق عادة .
قوله عز وجل : { وما كنتم تستترون } يحتمل أن يكون من كلام الجلود ومحاورتها ، ويحتمل أن يكون من كلام الله عز وجل لهم ، أو من كلام ملك يأمره تعالى . وأما المعنى فيحتمل وجهين أحدهما أن يريد : وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر خوف أن يشهد ، أو لأجل أن يشهد ، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم فانهملتم وجاهرتم ، وهذا هو منحى مجاهد . والستر قد يتصرف على هذا المعنى ونحوه ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر
والمعنى الثاني أن يريد : وما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد ، وهذا هو منحى السدي ، كأن المعنى : وما كنتم تدفعون بالاختفاء والستر أن يشهد ، لأن الجوارح لزيمة لكم ، وفي إلزامه إياهم الظن بأن الله تعالى لا يعلم ، هو إلزامهم الكفر والجهل بالله ، وهذا المعتقد يؤدي بصاحبه إلى تكذيب أمر الرسل واحتقار قدرة الإله ، لا رب غيره .
(6/26)

وفي مصحف ابن مسعود : " ولكن زعمتم أن الله " . وحكى الطبري عن قتادة أنه عبر عن { تستترون } ب " تبطنون " ، وذلك تفسير لم ينظر فيه إلى اللفظ ولا ارتباط فيه معه . وذكر الطبري وغيره حديثاً عن عبد الله بن مسعود قال : إني لمستتر بأستار الكعبة إذ دخل ثلاثة نفر قرشيان وثقفي ، أو ثقفيان وقرشي ، قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم بطونهم ، فتحدثوا بحديث ، فقال أحدهم : أترى الله يسمع ما قلنا؟ قال الآخر إنه يسمع إذا رفعنا ، ولا يسمع إذا أخفينا . وقال الآخر : إن كان يسمع منه شيئاً فإنه يسمعه كله ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فنزلت هذه الآية : { وما كنتم تستترون } الآية ، فقرأ حتى بلغ : { وإن تستعتبوا فما هم من المعتبين } [ فصلت : 28 ] . وذكر النقاش أن الثلاثة : صفوان بن أمية وفرقد بن ثمامة وأبو فاطمة . وذكر الثعلبي أن الثقفي : عبد ياليل ، والقرشيان : ختناه ربيعة وصفوان ابنا أمية بن خلف ، ويشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية ، ويشبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها عند إخبار عبد الله إياه ، والله أعلم .
(6/27)

وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
{ ذلكم } رفع بالابتداء ، والإشارة به إلى قوله : { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم } [ فصلت : 22 ] قال قتادة : الظن ظنان : ظن منج ، وظن مهلك .
قال القاضي أبو محمد : فالمنجي : هو أن يظن الموحد العارف بربه أن الله يرحمه والمهلك : ظنون الكفرة الجاهلين على اختلافها ، وفي هذا المعنى ليحيى بن أكثم رؤيا حسنة مؤنسة . و { ظنكم } خبر ابتداء .
وقوله : { أرداكم } يصح أن يكون خبراً بعد خبر ، وجوز الكوفيون أن يكون في موضع الحال ، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالاً إذا اقترن ب " قد " ، تقول رأيت زيداً قد قام ، وقد يجوز تقديرها عندهم وإن لم تظهر . ومعنى : { أرداكم } أهلككم . والردى : الهلاك .
وقوله تعالى : { فإن يصبروا } مخاطبة لمحمد عليه السلام ، والمعنى : فإن يصبروا أو لا يصبروا ، واقتصر لدلالة الظاهر على ما ترك . والمثوى : موضع الإقامة .
وقرأ جمهور الناس : " وإن يَستعتِبوا " بفتح الياء وكسر التاء الأخيرة على إسناد الفعل إليهم . " فما هم من المعتبين " بفتح التاء على معنى : وإن طلبوا العتبى وهي الرضى فما هم ممن يعطوها ويستوجبها . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري : " وإن يُستعتَبوا " بضم الياء وفتح التاء . " فما هم من المعتِبين " بكسر التاء على معنى : وإن طلب منهم خير أو إصلاح فما هم ممن يوجد عنده ، لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما قال عليه السلام : " ليس بعد الموت مستعتب " ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] .
ثم وصف عز وجل حالهم في الدنيا وما أصابهم به حين أعرضوا ، فختم عليهم فقال : { وقيضنا لهم قرناء } أي يسرنا لهم { قرناء } سوء من الشياطين وغواة الإنس .
وقوله : { فزينوا لهم ما بين أيديهم } أي علموهم وقرروا في نفوسهم معتقدات سوء في الأمور التي تقدمتهم من أمر الرسل والنبوات ، ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء إلى غير ذلك مما يقال إنه بين أيديهم ، وذلك كل ما تقدمهم في الزمان واتصل إليهم أثره أو خبره ، وكذلك أعطوهم معتقدات سوء فيما خلفهم وهو كل ما يأتي بعدهم من القيامة والبعث ونحو ذلك مما يقال فيه إنه خلف الإنسان ، فزينوا لهم في هذين كل ما يرديهم ويفضي بهم إلى عذاب جهنم .
وقوله : { وحق عليهم القول } أي سبق القضاء الحتم ، وأمر الله بتعذيبهم في جملة أمم معذبين كفار { من الجن والإنس } وقالت فرقة : { في } بمعنى : مع ، أي مع أمم ، والمعنى يتأدى بالحرفين ، ولا نحتاج أن نجعل حرفاً بمعنى حرف إذ قد أبى ذلك رؤساء البصريين .
قوله عز وجل : { لا تسمعوا لهذا القرآن } .
حكاية لما فعله بعض قريش كأبي جهل ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن في المسجد الحرام ويصغي إليه الناس من مؤمن وكافر ، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك ، فقالوا : متى قرأ محمد فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والإرجاز حتى يخفى صوته ولا يقع الاستماع منه ، وهذا الفعل منهم هو اللغو .
(6/28)

وقال أبو العالية أرادوا : قعوا فيه وعيبوه . واللغو في اللغة : سقط القول الذي لا معنى له ، وهو من الخساسة والبطول في حكم لا معنى له .
وقرأ جمهور الناس : " والغَوا " بفتح الغين وجزم الواو . وقرأ بكر بن حبيب السهمي : " الغُوا " بضم الغين وسكون الواو ، ورويت عن عيسى وابن أبي إسحاق بخلاف عنهما وهما لغتان ، يقال لغا يلغو ، ويقال لغى يلغي ، ويقال أيضاً لغى يلغى ، أصله يفعِل بكسر العين ، فرده حرف الحلق إلى الفتح ، فالقراءة الأولى من يلغى ، والقراءة الثانية من يلغو ، قاله الأخفش .
وقوله : { لعلكم تغلبون } أي تطمسون أمر محمد عليه السلام وتميتون ذكره وتصرفون القلوب عنه ، فهذه الغاية التي تمنوها .
(6/29)

فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
وقوله تعالى : { فلنذيقن } الفاء دخلت على لام القسم ، وهي آية وعيد لقريش . والعذاب الشديد : هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها . والجزاء بأسوأ أعمالهم : هو عذاب الآخرة .
وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى الجزاء المتقدم . . و : { جزاء أعداء الله } خبر الابتداء . و : { النار } بدل من قوله : { جزاء أعداء } ويجوز أن يكون : { ذلك } خبر ابتداء تقديره : الأمر ذلك ، ويكون قوله : { جزاء أعداء } ابتداء ، و : { النار } خبره .
وقوله : { لهم فيها دار الخلد } أي موضع البقاء ومسكن العذاب الدائم ، فالظرفية في قوله : { فيها } متمكنة على هذا التأويل ، ويحتمل أن يكون المعنى : هب لهم دار الخلد ، ففي قوله : { فيها } معنى التجريد كما قال الشاعر :
وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل ... وفي قراءة عبد الله بن مسعود : " ذلك جزاء أعداء الله النار دار الخلد " ، وسقط { لهم فيها } وجحودهم بآيات الله مطرد في علاماته المنصوبة لملقه وفي آيات كتابه المنزلة على نبيه .
ثم ذكر عز وجل مقالة كفار يوم القيامة إذا دخلوا النار فإنهم يرون عظيم ما حل بهم وسوء منقلبهم فتجول أفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم وبادي ضلالتهم فيعظم غيظهم وحنقهم عليه ويودون أن يحصل في أشد عذاب فحينئذ يقولون { ربنا أرنا اللذين أضلانا } ، وظاهر اللفظ يقتضي أن الذي في قولهم : { اللذين } إنما هو للجنس ، أي { أرنا } كل مغوٍ ومضل { من الجن والإنس } ، وهذا قول جماعة من المفسرين . وقال علي بن أبي طالب وقتادة . وطلبوا ولد آدم الذي سن القتل والمعصية من البشر وإبليس الأبالسة من الجن .
قال القاضي أبو محمد : وتأمل هل يصح هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لأن ولد آدم مؤمن عاص ، وهؤلاء إنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود ، وإنما القوي أنهم طلبوا النوعين ، وقد أصلح بعضهم هذا القول بأن قال : يطلب ولد آدم كل عاص دخل النار من أهل الكبائر ، ويطلب إبليس كل كافر ، ولفظ الآية يزحم هذا التأويل ، لأنه يقتضي أن الكفرة إنما طلبوا اللذين أضلا .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي : " أرِنا " بكسر الراء ، وهي رؤية عين ، ولذلك فهو فعل يتعدى إلى مفعولين . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : " أرْنا " بسكون الراء ، فقال هشام بن عمار : هو خطأ . وقال أبو علي : هي مخففة من : { أرنا } كما قالوا : ضحك وفخذ . وقرأ أبو عمرو : بإشمام الراء الكسر ، ورويت عن أهل مكة .
وقوله : { نجعلهما تحت أقدامنا } يريدون في أسفل طبقة من النار ، وهي أشد عذاباً . وهي درك المنافقين .
وقوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } آية وعد للمؤمنين ، قال سفيان بن عبد الله الثقفي ، قلت للنبي عليه السلام : أخبرني بأمر أعتصم به ، فقال :
(6/30)

" قل ربي الله ثم استقم ، " قلت فما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال : هذا .
واختلف الناس في مقتضى قوله : { ثم استقاموا } فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى أن معناه : استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي ، وتلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال : استقاموا والله لله بطاعته ، ولم يروغوا روغان الثعالب .
قال القاضي أبو محمد : ذهب رضي الله عنه إلى حمل الناس على الأتم الأفضل ، وإلا فلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب ألا تنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة وذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة معه إلى أن المعنى { ثم استقاموا } على قولهم : { ربنا الله } ، فلم يختل توحيدهم ولا اضطرب إيمانهم . وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم ، فمن مات عليها فهو ممن استقام . المعنى فهو في أول درجات الاستقامة من الخلود ، فهذا كقوله عليه السلام : " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " وهذا هو المعتقد إن شاء الله ، وذلك أن العصاة من أمة محمد عليه السلام وغيرها فرقتان : فأما من قضى الله بالمغفرة له وترك تعذيبه ، فلا محالة ممن تنزل عليه الملائكة بالبشارة ، وهو إنما استقام على توحيده فقط ، وأما من قضى الله بتعذيبه مرة ثم بإدخاله الجنة ، فلا محالة أنه يلقى جميع ذلك عند موته ويعلمه ، وليس يصح أن يكون حاله كحالة الكافر اليائس من رحمة الله ، وإذ قد كان هذا فقد حصلت له بشارة بأن لا يخاف الخلود ولا يحزن منه وبأنه يصير آخراً إلى الخلود في الجنة ، وهل العصاة المؤمنون إلا تحت الوعد بالجنة ، فهم داخلون فيمن يقال لهم : { أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } ومع هذا كله فلا يختلف أن الموحد المستقيم على الطاعة أتم حالاً وأكمل بشارة ، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعلى نحو ذلك قال سفيان : { استقاموا } ، عملوا بنحو ما قالوا ، وقال الربيع : أعرضوا عما سوى الله . وقال الفضيل زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية ، وبالجملة فكلما كان المرء أشد استعداداً كان أسرع فوزاً بفضل الله تعالى .
وقوله تعالى : { ألا تخافوا ولا تحزنوا } أمنة عامة في كل هم مستأنف ، وتسلية تامة عن كل فائت ماض . وقال مجاهد : المعنى لا تخافون ما تقدمون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم . وفي قراءة ابن مسعود : " الملائكة لا تخافوا " بإسقاط الألف ، بمعنى يقولون لا تخافوا .
(6/31)

نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
المتكلم ب { نحن أولياؤكم } هم الملائكة القائلون : " لا تخافوا ولا تحزنوا " أي يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق نحن كنا أولياءكم في الدنيا ونحن هم في الآخرة . قال السدي المعنى : نحن حفظَتكُم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة ، والضمير في قوله : { فيها } عائد على الآخرة . و : { تدعون } معناه : تطلبون . و : { نزلاً } نصب على المصدر . وقراءة الجمهور : بضم الواو . وقرأ أبو حيوة : بإسكانها .
وقوله تعالى : { ومن أحسن قولاً } الآية ابتداء توصية محمد عليه السلام ، وهو لفظ يعم كل من دعا قديماً وحديثاً إلى الله تعالى وإلى طاعته من الأنبياء والمؤمنين ، والمعنى : لا أحد أحسن قولاً ممن هذه حاله ، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة ، وبين أن حالة محمد عليه السلام كانت كذلك مبرزة إلى تخصيصه بالآية ذهب السدي وابن زيد وابن سيرين . وقال قيس بن أبي حازم وعائشة أم المؤمنين وعكرمة : نزلت هذه الآية في المؤذنين . قال قيس : { وعمل صالحاً } هو الصلاة بين الآذان والإقامة . وذكر النقاش ذلك عن ابن عباس ، ومعنى القول بأنها في المؤذنين أنهم داخلون فيها ، وأما نزولها فبمكة بلا خلاف ولم يكن بمكة آذان وإنما ترتب بالمدينة ، وأن الآذان لمن الدعاء إلى الله تعالى ولكنه جزء منه . والدعاء إلى الله بقوة كجهاد الكفار وردع الطغاة وكف الظلمة وغيره أعظم غناء من تولي الاذان إذ لا مشقة فيه والأصوب أن يعتقد أن الآية نزلت عامة . قال زيد بن علي المعنى : دعا إلى الله بالسيف .
وقرأ الجمهور : " إنني " بنونين . وقرأ ابن أبي عبلة : " إني " بنون واحدة .
وقال فضيل بن رفيدة : كنت مؤذناً في أصحاب ابن مسعود ، فقال لي عاصم بن هبيرة : إذا أكملت الآذان فقل : { إنني من المسلمين } ثم تلا هذه الآية .
ثم وعظ تعالى نبيه عليه السلام ونبهه على أحسن مخاطبة ، فقرر أن الحسنة والسيئة لا تستوي ، أي فالحسنة أفضل ، وكرر في قوله : { ولا السيئة } تأكيداً ليدل على أن المراد : ولا تستوي الحسنة والسيئة ولا السيئة والحسنة ، فحذف اختصاراً ودلت { لا } على هذا الحذف .
وقوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن } آية جمعت مكارم الأخلاق وأنواع الحلم ، والمعنى : ادفع أمورك وما يعرضك مع الناس ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن السير والفعلات ، فمن ذلك بذل السلام ، وحسن الأدب ، وكظم الغيظ ، والسماحة في القضاء والاقتضاء وغير ذلك . قال ابن عباس : إذا فعل المؤمن هذه الفضائل عصمه الله من الشيطان وخضع له عدوه ، وفسر مجاهد وعطاء هذه الآية بالسلام عند اللقاء ، ولا شك أن السلام هو مبدأ الدفع بالتي هي أحسن وهو جزء منه ، ثم قال تعالى : { كأنه ولي حميم } فدخل كاف التشبيه لأن الذي عنده عداوة لا يعود ولياً حميماً ، وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم .
(6/32)

والحميم : هو القريب الذي يحتّم للإنسان . والضمير في قوله : { يلقاها } عائد على هذه الخلق التي يتضمنها قوله : { ادفع بالتي هي أحسن } . وقالت فرقة : المراد : وما يلقى لا إله إلا الله ، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ .
وقوله : { إلا الذين صبروا } مدح بليغ للصبر ، وذلك بينّ للمتأمل ، لأن الصبر للطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها . والحظ العظيم : يحتمل أن يريد من العقل والفضل ، فتكون الآية مدحاً . وروي أن رجلاً شتم أبا بكر الصديق بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فسكت أبو بكر ساعة ، ثم جاش بها لغضب فرد على الرجل ، فقام النبي عليه السلام فاتبعه أبو بكر وقال : يا رسول الله قمت حين انتصرت ، فقال إنه كان يرد عنك ملك ، فلما قربت تنتصر ، ذهب الملك وجاء الشيطان ، فما كنت لأجالسه ، ويحتمل أن يريد : { ذو حظ عظيمٍ } من الجنة وثواب الآخرة ، فتكون الآية وعداً ، وبالجنة فسر قتادة الحظ هنا .
(6/33)

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{ إما } شرط ، وجواب الشرط قوله : { فاستعذ } . والنزغ : فعل الشيطان في قلب أو يد من إلقاء غضب وحقد أو بطش في اليد ، فمن الغضب هذه الآية ، ومن الحقد ، قوله : { نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } [ يوسف : 100 ] ، ومن البطش قول النبي عليه السلام : " لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده فيلقيه في حفرة من حفر النار " .
وندب تعالى في هذه الآية المتقدمة إلى مكارم الخلق في الدفع بالتي هي أحسن ، ثم أثنى على من لقيها ووعده ، وعلم أن خلقة البشر تغلب أحياناً وتثور بهم سورة الغضب ونزغ الشيطان فدلهم على مذهب ذلك وهي الاستعاذة به عز وجل .
ثم عدد آياته لتعبر فيها من صدق عن التوحيد بذكر { الليل والنهار } ، وذكرهما يتضمن ما فيهما من القصر والطول والتداخل والاستواء في مواضع وسائر عبرهما ، وكذلك الشمس والقمر متضمن عجائبهما وحكمة الله فيهما ونفعه عباده بهما . ثم قال تعالى : { لا تسجدوا } لهذه المخلوقات وإن كانت تنفعكم ، لأن النفع منهما إنما هو بتسخير الله إياهما ، فهو الذي ينبغي أن يسجد له . والضمير في : { خلقهن } قالت فرقة : هو عائد على الأيام المتقدم ذكرها . وقالت فرقة : الضمير عائد على الشمس والقمر ، والاثنان جمع ، وجمع ما لا يعقل يؤنث ، فلذلك قال : { خلقهن } .
قال القاضي أبو محمد : ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام ، ساغ أن يعود الضمير مجموعاً .
وقالت فرقة : هو عائد على الأربعة المذكورة ، وشأن ضمير ما لا يعقل إذا كان العدد أقل من العشرة أن يجيء هكذا ، فإذا زاد أفرد مؤنثاً ، تقول الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ومنه : { إن عدة الشهور } [ التوبة : 36 ] ، ومنه قول حسان بن ثابت :
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ... وقال السموأل : [ الطويل ]
ولا عيب فينا غير أن سيوفنا ... بها من قراع الدارعين فلول
وهذا كثير مهيع وإن كان الأمر يوجد متداخلاً بعضه على بعض ، ثم خاطب تعالى بما يتضمن وعيدهم وحقارة أمرهم ، وأن الله تعالى غير محتاج إلى عبادتهم بقوله : { فإن استكبروا } الآية .
وقوله : { فالذين } يعني بهم الملائكة هم صافون يسبحون . و : { عند } في هذه الآية ليست بظرف مكان وإنما هي بمعنى المنزلة والقربة ، كما تقول زيد عند الملك جليل وفي نفسه رفيع . ويروى أن تسبيح الملائكة قد صار لهم كالنفس لابن آدم . و : { يسئمون } معناه : يميلون ثم ذكر تعالى آية منصوبة ليعتبر بها في أمر البعث من القبور ، ويستدل بما شوهد من هذه على ما لم يشاهد بعد من تلك ، وهي آية يراها عياناً كل مفطور على عقل . وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشعث بالجدب وصليم السموم فهي عابسة كما الخاشع عابس يكاد يبكي ، والماء المنزل : هو المطر ، واهتزاز الأرض : هو تخلخل أجزائها بالماء وتشققها للنبات . وربوها : هو انتفاخها بالماء وعلو سطحها به .
وقرأ الجمهور : " وربت " . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : " وربأت " : بألف مهموزة ، ورواها الرؤاسي عن أبي عمرو ، وهو أيضاً بمعنى : علت وارتفعت ، ومنه الربيئة ، وهو الذي يرتفع حتى يرصد للقوم ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية والعبرة ، وذلك إحياء الموتى .
وقوله تعالى : { إنه على كل شيء قدير } عموم ، والشيء في اللغة : الموجود .
(6/34)

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
هذه آية وعيد . والإلحاد : الميل ، وهو هاهنا عن الحق ، ومن الإلحاد : لحد الميت ، لأنه في جانب ، يقال لحد الرجل وألحد بمعنى .
وقرأ الجمهور : " يُلحدون " بضم الياء من ألحد . وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش : " يَلحَدون " بفتح الياء والحاء من لحد .
واختلف المفسرون في الإلحاد الذي أشير إليه ما هو؟ فقال قتادة وغيره : الإلحاد بالتكذيب . وقال مجاهد وغيره : الإلحاد بالمكاء والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه . وقال ابن عباس : إلحادهم هو أن يوضع الكلام غير موضعه ، ولفظة الإلحاد تعم هذا كله .
وقوله : { لا يخفون علينا } أي فنحن بالمرصاد لهم وسنعذبهم ، ثم قرر على هذين القسمين أنهما خير ، وهذا التقرير هم المراد به ، أي فقل لهم يا محمد { أفمن } . قال مقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل وعثمان بن عفان ، وقيل في عمار بن ياسر ، وحسن التفضيل هنا بين الإلقاء في النار والأمن يوم القيامة وإن كانا لا يشتركان في صفة الخير من حيث كان الكلام تقريراً لا مجرد خبر ، لأن المقرر قد يقرر خصمه على قسمين : أحدهما بين الفساد حتى يرى جوابه ، فعساه يقع في الفاسد المعنى فيبين جهله ، وقد تقدم نظير هذه الآية واستيعاب القول في هذا المعنى ، ولا يتجه هنا أن يقال خاطب على معتقدهم كما يتجه ذلك في قوله : { خير مستقراً } [ الفرقان : 24 ] فتأمله .
وقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } وعيد في صيغة الأمر بإجماع من أهل العلم ، ودليل الوعيد ومبينه قوله : { إنه بما تعملون بصير } .
ثم قال تعالى : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } . يريد قريشاً . و " الذكر " : القرآن بإجماع . واختلف الناس في الخبر عنهم أين هو؟ فقالت فرقة : هو في قوله : { أولئك ينادون من مكان بعيد } [ فصلت : 44 ] ذكر النقاش أن بلال بن أبي بردة سأل عن هذا في مجلسه وقال : لم أجد لها نفاذاً ، فقال له أبو عمرو بن العلاء : إنه منك لقريب { أولئك ينادون } [ فصلت : 44 ] . ويرد هذا النظر كثرة الحائل ، وإن هنالك قوماً قد ذكروا بحسن رد قوله : { أولئك ينادون } [ فصلت : 44 ] عليهم . وقالت فرقة : الخبر مضمر تقديره : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } هلكوا أو ضلوا . وقال بعض نحويي الكوفة الجواب في قوله : { وإنه لكتاب عزيز } حكى ذلك الطبري ، وهو ضعيف لا يتجه ، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن هذا ، فقال عمرو معناه في التفسير : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } كفروا به { وإنه لكتاب } ، فقال عيسى بن عمر : أجدت يا أبا عثمان .
قال القاضي أبو محمد : والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر ، ولكنه عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدره هؤلاء فيه ، وإنما هو بعد { حكيم حميد } وهو أشد إظهاراً لمذمة الكفار به ، وذلك أن قوله : { وإنه لكتاب } داخل في صفة الذكر المكذب به ، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه ، وهذا كما تقول : تخالف زيداً وهو العالم الودود الذي من شأنه ومن أمره ، فهذه كلها أوصاف .
(6/35)

ووصف تعالى الكتاب بالعزة ، لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه ، وهو محفوظ من الله تعالى ، قال ابن عباس : معناه كريم على الله تعالى ، قال مقاتل : منيع من الشيطان . قال السدي : غير مخلوق .
وقوله : { لا يأتيه الباطل } قال قتادة والسدي : يريد الشيطان ، وظاهر اللفظ يعم الشيطان وأن يجيء أمر يبطل منه شيئاً .
وقوله : { من بين يديه } معناه ليس فيما تقدمه من الكتب ما يبطل شيئاً منه . وقوله : { ولا من خلفه } أي ليس يأتي بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل أشياء منه ، والمراد باللفظ على الجملة : لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات . وقوله : { تنزيل } خبر ابتداء ، أي هو تنزيل .
وقوله : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون تسلية للنبي عليه السلام عن مقالات قومه ، أي ما تلقى يا محمد من المكروه منهم ، ولا يقولون لك من الأقوال المؤلمة إلا ما قد قيل ولقي به من تقدمك من الرسل ، فلتتأسَّ بهم ولتمض لأمر الله ولا يهمنك شأنهم . والمعنى الثاني : أن تكون الآية تخليصاً لمعاني الشرع ، أي ما يقال لك من الوحي وتخاطب به من جهة الله تعالى إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، ثم فسر ذلك الذي قيل لجميعهم وهو { إن ربك لذو مغفرة } للطائعين { وذو عقاب } للكافرين . وفي هذه الكلمات جماع النهي والزجر الموعظة ، وإليها يرجع كل نظر .
(6/36)

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
الأعجمي : هو الذي لا يفصح عربياً كان أو غير عربي ، والعجمي : الذي ليس من العرب فصيحاً كان أو غير فصيح ، وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل الحروف التي وقعت في القرآن ، وهي مما عرِّب من كلام العجم : كالسجين والاستبرق ونحوه ، فقال عز وجل : ولو جعلنا هذا القرآن أعجمياً لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته .
واختلف القراء في قوله : { اعجمي وعربي } فقراءة الجمهور على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش : " أأعجمي " بهمزتين ، وكأنهم كانوا ينكرون ذلك فيقولون : لولا بين أأعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن ، وتأول ابن جبير أن معنى قولهم : أتجيئنا عجمة ونحن عرب؟ ما لنا وللعجمة؟ وقرأ الحسن البصري وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما : " أعْجمي وعربي " دون استفهام وبسكون العين ، كأنهم قالوا عجمة وإعراب ، إن هذا لشاذ ، أو كأنهم قالوا لولا فصل فصلين ، فكان بعضه أعجمياً يفهمه العجم ، وبعضه عربياً يفهمه العرب ، وهذا تأويل لابن جبير أيضاً . وقرأ عمرو بن ميمون : " أعَجمي " بهمزة واحدة دون مد وبفتح العين ، فأخبر الله تعالى عنهم أنه لو كان على أي وجه تخيل لكان لهم قول واعتراض فاسد ، هذا مقصد الكلام .
وأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم : إن القرآن { هدى وشفاء } للمؤمنين المبصرين للحقائق ، وأنه على الذين لا يؤمنون ولا يصرفون نظرهم وحواسهم في المصنوعات عمي ، لأنهم { في آذانهم وقر } وعلى قلوبهم أقفال وعلى أعينهم غشاوة .
واختلف الناس في قوله : { وهو عليهم } فقالت فرقة : يريد ب { هو } القرآن . وقالت فرقة : { وهو } يريد به الوقر . والوقر : الثقل في الآذن المانع من السمع ، وهذه كلها استعارات ، أي هم لما لم يفهموا ولا حصلوا كالأعمى وصاحب الوقر .
وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاصي : " وهو عليهم عمٍ " بكسر الميم وتنوينه . وقال يعقوب : لا أدري أنونوا أم فتحوا الياء على الفعل الماضي؟ وبغير ياء رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتة عن ابن عباس .
وهذه القراءة أيضاً فيها استعارة ، وكذلك قوله تعالى : { أولئك ينادون } يحتمل معنيين ، وكلاهما مفعول للمفسرين : أحدهما أنها استعارة لقلة فهمهم ، شبههم بالرجل ينادى على بعد يسمع منه الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه ، وهذا تأويل مجاهد ، والآخر أن الكلام على الحقيقة وأن معناه أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف ، فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب ، وهذا تأويل الضحاك بن مزاحم . ثم ضرب تعالى أمر موسى مثلاً للنبي عليه السلام ولقريش ، أي فعل أولئك كأفعال هؤلاء حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء ، والكلمة السابقة هي : حتم الله تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة ، والضمير في قولهم : { لفي شك منه } يحتمل أن يعود على موسى أو على كتابه .
وقوله تعالى : { من عمل صالحاً } الآية نصيحة بينة للعالم وتحذير وترجية وصدع بين الله تعالى لا يجعل شيئاً من عقوبات عبيده في غير موضعها ، بل هو العادل المتفضل الذي يجازي كل عبد بتكسبه .
(6/37)

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
المعنى : أن وقت علم الساعة ومجيئها يرده كل مؤمن متكلم فيه إلى الله عز وجل . وذكر تعالى الثمار وخروجها من الأكمام وحمل الإناث مثالاً لجميع الأشياء ، إذ كل شيء خفي فهو في حكم هذين .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وطلحة والأعمش : " من ثمرة " بالإفراد على أنه اسم جنس . وقرأ نافع وابن عامر : " ثمرات " بالجمع ، واختلف عن عاصم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والأعرج والحسن بخلاف ، وفي مصحف عبد الله : " في ثمرة من أكمامها " . والأكمام : جمع كم ، وهو غلاف التمر قبل ظهوره .
وقوله تعالى : { ويوم يناديهم } تقديره : واذكر يوم يناديهم والضمير في : { يناديهم } ظاهره والأسبق فيه أنه يريد به الكفار عبدة الأوثان . ويحتمل أن يريد به كل من عبد من دون الله من إنسان وغيره ، وفي هذا ضعف ، وإنما الضمير في قوله : { وضل عنهم } فلا احتمال لعودته إلا على الكفار . و : { آنذاك } قال ابن عباس وغيره معناه : أعلمناك { ما منا من شهيد } ولا من يشهد بأن لك شريكاً . { وضل عنهم } أي نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة والأصنام ، ويحتمل أن يريد : { وضل عنهم } الأصنام ، أي تلفت لهم فلم يجدوا منها نصراً وتلاشى لهم أمرها .
وقوله : { وظنوا } يحتمل أن يكون متصلاً بما قبله ويكون الوقف عليه ، ويكون قوله : { ما لهم من محيص } استئناف نفي أن يكون لهم منجى أو موضع روغان ، يقول : حاص الرجل : إذا راغ يطلب النجاة من شيء ، ومنه الحديث : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، ويكون الظن على هذا التأويل على بابه ، أي ظنوا أن هذه المقالة : { ما منا من شهيد } منجاة لهم ، أو أمر يموهون به ، ويحتمل أن يكون الوقف في قوله : { من قبل } ، ويكون : { وظنوا } منصلاً بقوله : { ما لهم من محيص } أي ظنوا ذلك ، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين وبه فسر السدي ، وهذه عبارة يطلقها أهل اللسان على الظن ، ولست تجد ذلك إلا فيما علم علماً قوياً وتقرر في النفس ولم يتلبس به بعد ، وإلا فمتى تلبس بالشيء وحصل تحت إدراك الحواس فلست تجدهم يوقعون عليه لفظة الظن .
وقوله تعالى : { لا يسئم الإنسان } آيات نزلت في كفار قريش ، قيل في الوليد بن المغيرة ، وقيل في عتبة بن ربيعة ، وجل الآية يعطي أنها نزلت في كفار وإن كان أولها يتضمن خلقاً ربما شارك فيه بعض المؤمنين . و : { دعاء الخير } إضافته المصدر إلى المفعول ، والفاعل محذوف تقديره : من دعاء الخير هو . وفي مصحف ابن مسعود : " من دعاء بالخير " . و { الخير } في هذه الآية : المال والصحة ، وبذلك تليق الآية بالكافر ، وإن قدرناه خير الآخرة فهي للمؤمن ، وأما اليأس والقنط على الإطلاق فمن صفة الكافر وحده .
(6/38)

وقوله تعالى : { ليقولن هذا لي } أي بعلمي وبما سعيت ، ولا يرى أن النعم إنما هي بتفضل من الله تعالى : { وما أظن الساعة قائمة } قول بيّن فيه الجحد والكفر . ثم يقول هذا الكافر ، ولئن كان ثم رجوع كما تقولون ، لتكونن لي حال ترضيني من غنى ومال وبنين ، فتوعدهم الله تعالى بأنه سيعرفهم بأعمالهم الخبيثة مع إذاقتهم العذاب عليها ، فهذا عذاب وخزي . وغلظ العذاب شدته وصعوبته . وقال الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : للكافر أمنيتان ، أما في دنياه فهذه : { إن لي عنده للحسنى } . وأما في آخرته : { فيا ليتني كنت تراباً } [ النبأ : 40 ] .
قال القاضي أبو محمد : والأماني على الله تعالى وترك الجد في الطاعة مذموم لكل أحد ، فقد قال عليه السلام : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله .
(6/39)

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
ذكر الله تعالى الخلق الذميمة من الإنسان جملة ، وهي في الكفار بينه متمكنة ، وأما المؤمن في الأغلب فيشكر عند النعمة ، وكثيراً ما يصبر عند الشدة .
وقرأ جمهور والناس : " ونأى بجانبه " الهمزة عين الفعل . وقرأ ابن عامر : " وناء " الهمزة لام الفعل ، وهي قراءة أبي جعفر ، والمعنى فيهما واحد . قال أبو علي : ناء قلب ابن آدم فعل فلع ، ومنه قول الشاعر [ كثير ] : [ الطويل ]
وكل خليل راءني فهو قائل ... من اجلك هذا هامة اليوم أو غد
ومنه قول الآخر : [ الطويل ]
وقد شاءني أهل السباق وأمعنوا ... { ونأى } معناه : بعد ولم يمل إلى شكر ولا طاعة .
وقوله : { فذو دعاء عريض } أي طويل أيضاً ، فاستغنى بالصفة الواحدة عن لزيمتها ، إذ العرض يقتضي الطول ويتضمنه ، ولم يقل طويل ، لأن الطويل قد لا يكون عريضاً ، ف { عريض } أدل على الكثرة . ثم أمر تعالى نبيه أن يقف قريشاً على هذا الاحتجاج وموضع تغريرهم بأنفسهم فقال : { أرأيتم إن كان } هذا الشرع { من عند الله } وبأمره وخالفتموه أنتم ، ألستم على هلكة من قبل الله تعالى ، فمن أضل ممن يبقى على مثل هذا الغرر مع الله ، وهذا هو الشقاق ، ثم وعد تعالى نبيه عليه السلام بأنه سيري الكفار آياته .
واختلف المتأولون في معنى قوله : { في الآفاق وفي أنفسهم } فقال المنهال والسدي وجماعة : هو وعد بما يفتحه الله تعالى على رسوله من الأقطار حول مكة ، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر ونحوها . { وفي أنفسهم } أراد به فتح مكة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل حسن ينتظم الإعلام بغيب ظهر وجوده بعد كذلك ويجري معه لفظ الاستئناف الذي في الفعل .
وقال الضحاك وقتادة : { سنريهم آياتنا في الآفاق } هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديماً { وفي أنفسهم } يوم بدر ، وقال ابن زيد وعطاء : { الآفاق } : آفاق السماء . وأراد : الآيات : في الشمس والقمر والرياح وغير لك . { وفي أنفسهم } عبرة الإنسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك ، وهذه آيات قد كانت مرئية ، فليس هذا المعنى يجري مع قوله : " سنري " والتأويل الأول أرجحها ، والله أعلم . والضمير في قوله تعالى : { أنه الحق } عائد على الشرع والقرآن ، فبإظهار الله إياه وفتح البلاد عليه تبين لهم أنه الحق .
ثم قال تعالى وعداً لنبيه عليه السلام : { أولم يكف بربك } والتقدير : أولم يكف ربك ، والباء زائدة للتأكيد ، وأنه يحتمل أن يكون في موضع رفع على البدل من الموضع ، إذ التقدير : أولم يكف ربك ، ويحتمل أن يكون في موضع خفض على البدل من اللفظ ، وهذا كله بدل الاشتمال ، ويصح أن يكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، أي لأنه على كل شيء شهيد .
(6/40)

وقرأ الجمهور : " أنه " بفتح الألف ، وقرأ بعض الناس " إنه " بكسرها على الاعتراض أثناء القول .
وقوله : { ألا } استفتاح يقتضي إقبال السامع على ما يقال له ، فاستفتح الإخبار على أنهم في شك وريب وضلال أداهم إلى الشك في البعث .
وقرأ جمهور الناس : " في مِرية " بكسر الميم . وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن : " في مُرية " بضم الميم ، والمعنى واحد ، ثم استفتح الإخبار بإحاطته بكل شيء على معنى الوعيد لهم ، وإحاطته تعالى هي بالقدرة والسلطان ، لا إله إلا هو ، العزيز الحكيم .
نجز تفسير سورة { حم } السجدة ، والحمد لله رب العالمين .
(6/41)

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
فصلت : { حم } من : { عسق } ، ولم يفعل ذلك ب { كهيعص } [ مريم : 1 ] لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها .
وقرأ الجمهور : " حم عسق " . وقرأ ابن مسعود وابن عباس : " حم سق " بسقوط عين ، والأقوال في هذه كالأقوال في أوائل السور . وروى حذيفة في هذا حديثاً مضمنه : أنه سيكون في هذه الأمة مدينتان يشقهما نهر بالمشرق ، تهلك إحداهما ليلاً ثم تصبح الأخرى سالمة ، فيجتمع فيها جبابرة المدينتين متعجبين من سلامتها ، فتهلك من الليلة القابلة ، وأن { حم } معناه : حم هذه الأمر . وعين : معناه عدلاً من الله . وسين : سيكون ذلك . وقاف : معناه يقع ذلك بهم . وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يستفيد علم الفتن والحروب من هذه الأحرف التي في أوائل السور . والكاف في قوله : { كذلك } نعت لمصدر محذوف ، والإشارة بذلك تختلف بحسب الأقوال في الحروف .
وقرأ جمهور القراء : " يوحي " بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي جعفر والجحدري وعيسى وطلحة والأعمش . وقرأ أبو حيوة والأعشى عن أبي بكر عن عاصم : " نوحي " : بنون العظمة ، ويكون قوله : { الله } ابتداء وخبره : { العزيز } ويحتمل أن يكون خبره : { له ما في السماوات } . وقرأ ابن كثير وحده : " يوحَى " بالياء وفتح الحاء على بناء الفعل للمفعول ، وهي قراءة مجاهد ، والتقدير : يوحى إليك القرآن يوحيه الله ، وكما قال الشاعر :
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومنه قوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال } [ النور : 36 ] .
وقوله تعالى : { وإلى الذين من قبلك } يريد من الأنبياء الذين نزلت عليهم الكتب .
وقوله تعالى : { له ما في السماوات } أي الملك والخلق والاختراع . و : { العلي } من علو القدر والسلطان . و : { العظيم } كذلك ، وليس بعلو مسافة ولا عظم جرم ، تعالى الله عن ذلك وقرأ نافع والكسائي : " يكاد " بالياء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وعاصم : " تكاد " بالتاء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ونافع وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وقتادة : " يتفطرون " من التفطر ، وهو مطاوع فطرت . وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن والأعرج وأبو رجاء والجحدري : " ينفطرون " من الإفطار وهو مطاوع فطر ، والمعنى فيهما : يتصدعن ويتشققن من سرعة جريهن خضوعاً وخشية من سلطان الله تعالى وتعظيماً له وطاعة ، وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه مردود ، لأن الله تعالى لا يوصف به .
وقوله : { من فوقهن } أي من أعلاهن . وقال الأخفش علي بن سليمان : الضمير للكفار .
قال القاضي أبو محمد : المعنى من فوق الفرق والجماعات الملحدة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات يتفطرن ، فهذه الآية على هذا كالآية التي في :
(6/42)

{ كهيعص } [ مريم : 1 ] . وقالت فرقة معناه : من فوق الأرضين ، إذ قد جرى ذكر الأرض ، وذكر الزجاج أنه قرئ " يتفطرن ممن فوقهن " .
وقوله تعالى : { يسبحون بحمد ربهم } قيل معناه : يقولون سبحان الله ، وقيل معناه : يصلون لربهم .
وقوله تعالى : { ويستغفرون لمن في الأرض } قالت فرقة : هذا منسوخ بقوله تعالى : في آية أخرى : { ويستغفرون للذين آمنوا } [ غافر : 7 ] وهذا قول ضعيف ، لأن النسخ في الإخبار لا يتصور . وقال السدي ما معناه : إن ظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص في المؤمن ، فكأنه قال : { ويستغفرون لمن في الأرض } من المؤمنين ، إذ الكفار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . وقالت فرقة : بل هي على عمومها ، لكن استغفار الملائكة ليس بطلب غفران الله تعالى للكفرة على أن يبقوا كفرة ، وإنما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي إلى الغفران لهم ، وكأن الملائكة تقول : اللهم اهد أهل الأرض واغفر لهم . ويؤيد هذا التأويل تأكيده صفة الغفران والرحمة لنفسه بالاستفتاح ، وذلك قوله : { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } أي لما كان الاستغفار لجميع من في الأرض يبعد أن يجاب ، رجا عز وجل بأن استفتح الكلام تهيئة لنفس السامع فقال : { ألا إن الله } هو الذي يطلب هذا منه ، إذ هذه أوصافه ، وهو أهل المغفرة .
(6/43)

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفار وإزالة عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع الكلف سوى التبليغ فقط ، لئلا يهتم بعدم إيمان قريش وغيرهم ، فقال تعالى لنبيه : إن الذين اتخذوا الأصنام والأوثان أولياء من دون الله ، الله هو الحفيظ عليهم كفرهم ، المحصي لأعمالهم ، المجازي لهم عليها بعذاب الآخرة ، وأنت فلست بوكيل عليهم ولا ملازم لأمرهم حتى يؤمنوا . والوكيل : المقيم على الأمر ، وما في هذا اللفظ من موادعة فهو منسوخ بآية السيف ، ثم قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك } أي وكما قضينا أمرك هكذا وأمضيناه في هذه الصورة ، كذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً مبيناً لهم ، لا يحتاجون معه إلى آخر سواه ولا محتج غيره ، إذ فهمه متأت لهم ولم يكلفك إلا إنذاراً من ذكر . و : { أم القرى } مكة ، والمراد أهل مكة ، ولذلك عطف { من } ، وهي في الأغلب لمن يعقل . و : { يوم الجمع } هو يوم القيامة ، واقتصر في { تنذر } على المفعول الأول ، لأن المعنى : وتنذر أهل أم القرى العذاب ، وتنذر الناس يوم الجمع ، أي تخوفهم إياه لما فيه من عذاب من كفر ، وسمي { يوم الجمع } لاجتماع أهل الأرض فيه بأهل السماء ، أو لاجتماع بني آدم للعرض .
وقوله : { لا ريب فيه } أي في نفسه وذاته ، وارتياب الكفار به : لا يعتد به .
وقوله : { فريق } مرتفع على خبر الابتداء المضمر ، كأنه قال : هم فريق في الجنة ، وفريق في السعير . ثم قوى تعالى تسلية نبيه عليه السلام بأن عرفه أن الأمر موقوف على مشيئة الله من إيمانهم أو كفرهم ، وأنه لو أراد كونهم أمة واحدة لجمعهم عليه ، ولكنه يدخل من سبقت له السعادة عنده في رحمته ، وييسره في الدنيا لعمل أهل السعادة ، وأن الظالمين بالكفر الميسرين لعمل الشقوة ما لهم من وليٍّ ولا نصير .
وقوله : { أم اتخذوا } كلام منقطع مما قبله ، وليست معادلة ، ولكن الكلام : كأنه أضرب عن حجة لهم أو مقالة مقررة فقال : " بل اتخذوا " هذا مشهور قول النحويين في مثل هذا ، وذهب بعضهم إلى أن { أم } هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقدير إضراب ، ثم أثبت الحكم بأنه عز وجل هو الولي الذي تنفع ولايته ، وأنه هو الذي يحيي الموتى ويحشرهم إلى الآخرة ويبعثهم من قبورهم ، وأن قدرته على كل شيء تعطي هذا وتقتضيه .
(6/44)

وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
المعنى : قل لهم يا محمد : { وما اختلفتم فيه } أيها الناس من تكذيب وتصديق وإيمان وكفر وغير ذلك ، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليست إلي ولا بيدي ، وإنما ذلك { إلى الله } الذي صفاته ما ذكر من إحياء الموتى والقدرة على كل شيء ، ثم قال : ذلكم الله ربي وعليه توكلي وإليه إنابتي ورجوعي ، وهو { فاطر السماوات والأرض } ، أي مخترعها وخالقها شق بعضها من بعض .
وقوله تعالى : { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يريد : زوج الإنسان الأنثى ، وبهذه النعمة اتفق الذرء ، وليست الأزواج هاهنا الأنواع ، وأما الأزواج المذكورة مع الأنعام ، فالظاهر أيضاً والمتسق : أنه يريد : إناث الذكران ، ويحتمل أن يريد الأنواع ، والأول أظهر .
وقوله : { يذرؤكم } أي يخلقكم نسلاً بعد نسل وقرناً بعد قرن ، قاله مجاهد والناس ، فلفظة ذرأ : تزيد على لفظة : خلق معنى آخر ليس في خلق ، وهو توالي الطبقات على مر الزمان .
وقوله : { فيه } الضمير عائد على الجعل الذي يتضمنه قوله : { جعل لكم } ، وهذا كما تقول : كلمت زيداً كلاماً أكرمته فيه . وقال القتبي : الضمير للتزويج ، ولفظة : " في " مشتركة على معان ، وإن كان أصلها الوعاء وإليه يردها النظر في كل وجه .
وقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } الكاف مؤكدة للتشبيه ، فبقي التشبيه أوكد ما يكون ، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمرو ، فأذا أردت المبالغة التامة قلت : زيد كمثل عمرو ، ومن هذا قول أوس بن حجر : [ المتقارب ]
وقتلى كمثل جذوع النخي ... ل يغشاهمُ سيل منهمر
ومنه قول الآخر : [ البسيط ]
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهمُ ... ما إن كمثلهم في الناس من أحد
فجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وتفترق الآية مع هذه الشواهد متى أردت أن تتبع بذهنك هذا اللفظ فتقدر للجزوع مثلاً موجوداً وتشبه القتل بذلك المثل أمكنك أو لا يمكنك هذا في جهة الله تعالى إلا أن تجعل المثل ما يتحصل في الذهن من العلم بالله تعالى ، إذ المثل والمثال واحد ، وذهب الطبري وغيره إلى أن المعنى : ليس كهو شيء . وقالوا لفظة مثل في الآية توكيد أو واقعة موقع هو .
قال القاضي أبو محمد : ومما يؤيد دخول الكاف تأكيداً أنها قد تدخل على الكاف نفسها ، وأنشد سيبويه :
وصاليات ككما يؤثفين ... والمقاليد : المفاتيح ، قاله ابن عباس والحسن ، وقال مجاهد : أصلها بالفارسية ، وهي هاهنا استعارة لوقع كل أمر تحت قدرته . وقال السدي : المقاليد : الخزائن ، وفي العبارة على هذا حذف مضاف ، قال قتادة : من ملك مقالد خزائن ، فالخزائن في ملكه ، وبسط الرزق وقدره بيّن ، وقد مضى تفسيره .
(6/45)

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
المعنى : { شرع لكم } وبين من المعتقدات والتوحيد { ما وصى به نوحاً } قبل .
وقوله : { والذي } عطف على { ما } ، وكذلك ما ذكر بعد من إقامة الدين مشروع اتفقت النبوات فيه ، وذلك في المعتقدات أو في جملة أمرها من أن كل نبوة فإنما مضمنها معتقدات وأحكام ، فيجيء المعنى على هذا : شرع لكم شرعة هي كشرعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام في أنها ذات المعتقدات المشهورة التي هي في كل نبوءة وذات أحكام كما كانت تلك كلها ، وعلى هذا يتخرج ما حكاه الطبري عن قتادة قال : { ما وصى به نوحاً } يريد الحلال والحرام ، وعليه روي أن نوحاً أول من أتى بتحريم البنات والأمهات . وأما الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة ، وهي المراد في قوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ]
و { أن } في قوله : { أن أقيموا } يجوز أن تكون في موضع نصب بدلاً من { ما } ، ويجوز في موضع خفض بدلاً من الضمير في { به } ، وفي موضع رفع على خبر ابتداء تقديره : ذلك أن ، و { أن } تكون مفسرة بمعنى : أي ، لا موضع لها من الإعراب ، وإقامة الدين هو توحيد الله تعالى ورفض سواه .
وقوله : { ولا تفرقوا } نهي عن المهلك من تفرق الأنحاء والمذاهب ، والخير كله في الإلفة واجتماع الكلمة . ثم أخبر تعالى نبيه بصعوبة موقع هذه الدعوة إلى إقامة الدين على المشركين بالله العابدين الأصنام . قال قتادة : كبّرت عليهم : لا إله إلا الله ، وأبى الله إلا نصرها ، ثم سلاه عنهم بقوله : { الله يجتبي } أي يختار ويصطفي ، قاله مجاهد وغيره : و : { ينيب } معناه يرجع عن الكفر ويحرص على الخير ويطلبه .
وقوله : { ولا تتفرقوا } عبارة يجمع خطابها كفار العرب واليهود والنصارى وكل مدعو إلى الإسلام ، فلذلك حسن أن يقال : ما تفرقوا ، يعني بذلك أوائل اليهود والنصارى . والعلم الذي جاءهم : هو ما كان حصل في نفوسهم من علم كتب الله تعالى فبغى بعضهم على بعض ، أداهم ذلك إلى اختلاف الرأي وافتراق الكلمة والكلمة السابقة : قال المفسرون : هي حتمه تعالى القضاء بأن مجازاتهم إنما تقع في الآخرة ، فلولا ذلك لفصل بينهم في الدنيا وغلب المحق على المبطل .
وقوله تعالى : { وإن الذين أورثوا الكتاب } إشارة إلى معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، وقيل هي إشارة إلى العرب . و { الكتاب } : هو القرآن . والضمير في قوله : { لفي شك } يحتمل أن يعود على { الكتاب } ، أو على محمد ، أو على الأجل المسمى ، أي في شك من البعث على قول من رأى الإشارة إلى العرب ، ووصف الشك ب { مريب } مبالغة فيه .
(6/46)

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
اللام في قوله : { فلذلك } قالت فرقة : هي بمنزلة إلى ، كما قال تعالى : { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] أي إليها ، كأنه قال : فإلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد { فادع } ، وقالت فرقة : بل هي بمعنى من أجل كأنه قال : فمن أجل أن الأمر كذا ولكونه كذا { فادع } أنت إلى ربك وبلغ ما أرسلت به . وخوطب عليه السلام بأمر الاستقامة ، وقد كان مستقيماً ، بمعنى : دم على استقامتك ، وهكذا الشأن في كل مأمور بشيء هو متلبس به إنما معناه الدوام ، وهذه الآية ونحوها كانت نصب عين النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت شديدة الموقع من نفسه ، أعني قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] لأنها جملة تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوءة ، وفي هذا المعنى قال عليه السلام : " شيبتني هود وأخواتها " ، فقيل له : لم ذلك؟ فقال : لأن فيها { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله تعالى وقال هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا .
وقوله تعالى : { ولا تتبع أهواءهم } يعني قريشاً فيما كانوا يهوونه من أن يعظم آلهتهم وغير ذلك ، ثم أمره تعالى أن يؤمن بالكتب المنزلة قبله من عند الله ، وهو أمر يعم سائر أمته .
وقوله تعالى : { وأمرت لأعدل بينكم } قالت فرقة : اللام في { لأعدل } بمعنى : أن ، التقدير : بأن أعدل بينكم . وقالت فرقة المعنى : وأمرت بما أمرت به من التبليغ والشرع لكي أعدل بينكم ، فحذف من الكلام ما يدل الظاهر عليه .
وقوله : { ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم } إلى آخر الآية منسوخ ما فيه من موادعة بآية السيف .
وقوله : { لا حجة بيننا وبينكم } أي لا جدال ولا مناظرة ، قد وضح الحق وأنتم تعاندون ، وفي قوله تعالى : { الله يجمع بيننا } وعيد .
وقوله : { والذين يحاجون في الله } قال ابن عباس ومجاهد إنها نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومجادلتهم بأن قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، فديننا أفضل ، فنزلت الآية في ذلك ، وقيل بل نزلت في قريش لأنها كانت أبداً تحاول هذا المعنى وتطمع في رد الجاهلية و : { يحاجون في الله } معناه في توحيد الله ، أي يحاجون فيه بالإبطال والإلحاد وما أشبه ، والضمير في : { له } يحتمل أن يعود على { الله } تعالى ، أي بعد ما دخل في دينه ، ويحتمل أن يعود على الدين والشرع ، ويحتمل أن يعود على محمد عليه السلام . و : { داحضة } معناه : زاهقة . والدحض : الزلق ، وباقي الآية بيّن .
(6/47)

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
لما أنحى القول على الذين يحاجون في توحيد الله ويرومون إطفاء نوره ، صدع في هذه الآية بصفة من أنزل الكتاب الهادي للناس . و : { الكتاب } هنا اسم جنس يعم جميع الكتب المنزلة .
وقوله : { بالحق } يحتمل أن يكون المعنى بأن كان ذلك حقاً واجباً للمصلحة والهدى ، ويحتمل أن يكون المعنى مضمناً الحق ، أي بالحق في أحكامه وأوامره . و { الميزان } هنا العدل ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والناس . وحكى الثعلبي عن مجاهد أنه قال : هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس .
قال القاضي أبو محمد : ولا شك أنه داخل في العدل وجزء منه وكل شيء من الأمور ، فالعدل فيه إنما هو بوزن وتقدير مستقيم ، فيحتاج في الأجرام إلى آلة ، وهي العمود والكفتان التي بأيدي البشر ، ويحتاج في المعاني إلى هيئات في النفوس وفهوم توازن بين الأشياء .
وقوله : { وما يدريك ، لعل الساعة قريب } وعيد للمشركين ، أي فانظر في أي غورهم وجاء لفظ : { قريب } مذكراً من حيث تأنيث الساعة غير حقيقي ، وإذ هي بمعنى الوقت .
ثم وصف تعالى حال الجهلة الكاذبين بها ، فهم لذلك يستعجلون بها ، أي يطلبون تعجيلها ليبين العجز ممن يحققها ، فالمصدق بها مشفق خائف ، والمكذب مستعجل مقيم لحجته على تكذيبه بذلك المستعجل به . ثم استفتح الإخبار عن الممارين في الساعة بأنهم في ضلال قد بعد بهم ، فرجوعهم عنه صعب متعذر ، وفي هذا الاستفتاح مبالغة وتأكيد وتهيئة لنفس السامع ، ثم رجى تبارك وتعالى عباده بقوله : { الله لطيف بعباده } ، و : { لطيف } هنا بمعنى : رفيق متحف ، والعباد هنا : المؤمنون ومن سبق له الخلود في الجنة ، وذلك أن الأعمال بخواتمها ، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة ، وأما الإنعام على الكافرين في الدنيا فليس بلطف بهم ، بل هو إملاء واستدراج . وقال الجنيد : لطف بأوليائه حتى عرفوه ولو لطف بالكفار لما جحدوه ، وقيل : { لطيف } معناه في أن نشر عنهم المناقب ، وستر عليهم المثالب . وقيل هو الذي لا يخاف إلا عدله ، ولا يرجى إلا فضله .
وقوله : { من كان يريد } معناه : إرادة مستعد عامل عارف ، لا إرادة متمن لم يدر نفسه . والحرث في هذه الآية : عبارة عن السعي والتكسب والإعداد .
ولما كان حرث الأرض أصلاً من أصول المكاسب استعير لكل متكسب ، ومنه قول ابن عمر : احرث لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً .
وقوله تعالى : { نزد في حرثه } وعد منتجز .
وقوله في : { حرث الدنيا نؤته منها } معناه : ما شئنا ولمن شئنا ، فرب ممتحن مضيق عليه حريص على حرث الدنيا مريد له لا يحس بغيره ، نعوذ بالله من ذلك ، وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى أن يكون له نصيب في الآخرة .
وقرأ سلام : " نؤتهُ " برفع الهاء وهي لغة لأهل الحجاز ، ومثله قراءتهم : { فخسفنا به وبداره الأرض } [ القصص : 81 ] برفع الهاء فيهما .
(6/48)

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{ أم } هذه هي منقطعة لا معادلة ، وهي بتقدير بل وألف الاستفهام . والشركاء في هذه الآية : يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم ، ويكون الضمير في { لهم } للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي شرع الشركاء لهم ما لم يأذن به الله ، فالاشتراك ها هنا هو في الكفر والغواية ، وليس بشركة الإشراك بالله ، ويحتمل أن يكون المراد ب " الشركاء " : الأصنام والأوثان على معنى : أم لهم أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيته ، ويكون الضمير : في : { شرعوا } لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم . والضمير في : { لهم } للأصنام الشركاء ، أي شرع هؤلاء الكفار لأصنامهم وأوثانهم ما لم يأذن به الله ، و : { شرعوا } معناه : أثبتوا ونهجوا ورسموا . و { الدين } هنا العوائد والأحكام والسيرة ، ويدخل في ذلك أيضاً المعتقدات ، لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعاً ، فأما في المعتقدات فقولهم إن الأصنام آلهة ، وقولهم إنهم يعبدون الأصنام زلفى وغير ذلك ، وأما في الأحكام فكالبحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك من السوائب ونحوها ، والإذن في هذه الآية الأمر . و { كلمة الفصل } : هي ما سبق من قضاء الله تعالى بأنه يؤخر عقابهم إلى الآخرة والقضاء بينهم : هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم .
وقرأ جمهور الناس : " وإن الظالمين " بكسر الهمزة على القطع والاستئناف . وقرأ مسلم بن جندب " وأن الظالمين " بفتح الهمزة ، وهي في موضع رفع عطف على : { كلمة } المعنى : وأن الظالمين لهم في الآخرة عذاب .
وقوله : { ترى الظالمين } هي رؤية بصر ، و { الظالمين } مفعول ، و : { مشفقين } حال وليس لهم في هذا الإشفاق مدح ، لأنهم إنما أشفقوا حين نزل بهم ووقع ، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة كما تقدم .
وقوله تعالى : { وهو واقع بهم } جملة في موضع الحال . والروضات : المواضع المؤنفة النظرة ، وهي مرتفعة في الأغلب من الاستعمال ، وهي الممدوحة عند العرب وغيرهم ، ومن ذلك قوله تعالى { كمثل جنة بربوة } [ البقرة : 265 ] ومن ذلك تفضيلهم روضات الحزن لجودة هوائها . قال الطبري : ولا تقول العرب لموضع الأشجار رياض .
وقوله تعالى : { ذلك الذي يبشر الله عباده } إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى : { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً } [ الأحزاب : 47 ] .
وقرأ جمهور الناس : " يُبشِّرهم " بضم الياء وفتح الباء وشد الشين المكسورة ، وذلك على التعدية بالتضعيف . وقرأ مجاهد وحميد : " يُبْشِر " بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين على التعدية بالهمزة . قرأ ابن مسعود وابن يعمر وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة : " يَبشُر " بفتح الياء وضم الشين ، ورويت عن ابن كثير . وقال الجحدري في تفسيرها ترى النضرة في الوجوه .
وقوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه إلا المودة في القربى } اختلف الناس في معناه ، فقال له ابن عباس وغيره : هي آية مكية نزلت في صدر الإسلام ومعناها استكفاف شر الكفار ودفع أذاهم أي ما أسألكم على القرآن والدين والدعاء إلى الله إلا أن تودوني لقرابة هي بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم .
(6/49)

قال ابن عباس وابن إسحاق وقتادة : ولم يكن في قريش بطن إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نسب أو صهر ، فالآية على هذا هي استعطاف ما ، ودفع أذى وطلب سلامة منهم ، وذلك كله منسوخ بآية السيف ، ويحتمل على هذا التأويل أن يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم ، أي لا أسألكم غرامة ولا شيئاً إلا أن تودوني لقرابتي منكم وأن تكونوا أولى بي من غيركم . وقال مجاهد : المعنى إلا أن تصلوا رحمي باتباعي . وقال ابن عباس أيضاً ما يقتضي أنها مدنية ، وسببها أن قوماً من شباب الأنصار فاخروا المهاجرين ومالوا بالقول على قريش ، فنزلت الآية في ذلك على معنى إلا أن تودوني فتراعونني في قرابتي وتحفظونني فيهم ، وقال بهذا المعنى في الآية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيراً ، وهو تأويل ابن جبير وعمرو بن شعيب ، وعلى هذا التأويل قال ابن عباس ، قيل يا رسول الله ، من قرابتك الذين أُمرنا بمودتهم؟ فقال : علي وفاطمة وابناهما ، وقيل هو ولد عبد المطلب .
قال القاضي أبو محمد : وقريش كلها عندي قربى وإن كانت تتفاضل ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ومن مات على بغضهم لم يشم رائحة الجنة " وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي : سبب هذه الآية أن الأنصار جمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالاً وساقته إليه فرده عليهم ونزلت الآية في ذلك . وقال ابن عباس أيضاً ، معنى الآية : من قربى الطاعة والتزلف إلى الله تعالى : كأنه قال : إلا أن تودوني ، لأني أقربكم من الله ، وأريد هدايتكم وأدعوكم إليها . وقال الحسن بن أبي الحسن معناه : إلا أن يتوددوا إلى الله بالتقرب إليه . وقال عبد الله بن القاسم في كتاب الطبري معنى الآية : إلا أن تتوددوا بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم ، فالآية على هذا أمر بصلة الرحم . وذكر النقاش عن ابن عباس ومقاتل والكلبي والسدي أن الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة سبأ { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } [ سبأ : 47 ] والصواب أنها محكمة ، وعلى كل قول فالاستثناء منقطع ، و : { إلا } بمعنى : لكن . و : { يقترف } معناه يكتسب ، ورجل قرفة : إذا كان محتالاً كسوباً .
وقرأت فرقة " يزد " على إسناد الفعل إلى الله تعالى ، وقرأ جمهور الناس : " نزد " على نون العظمة ، وزيادة الحسن هو التضعيف الذي وعد الله تعالى به مؤمني عباده ، قاله الحسن بن أبي الحسن . و : { غفور } معناه : ساتر عيوب عبيده . و : { شكور } معناه : مجاز على الدقيقة من الخير لا يضيع عنده لعامل عمل .
(6/50)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
{ أم } هذه أيضاً منقطعة مضمنة إضراباً عن كلام متقدم وتقريراً على هذه المقالة منهم .
وقوله تعالى : { فإن يشأ الله يختم } معناه في قول قتادة وفرقة من المفسرين : ينسيك القرآن ، والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها ، وذلك كأنه يقول : وكيف يصح أن تكون مفترياً وأنت من الله بمرأى ومسمع ، وهو قادر لو شاء على أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك ، فمقصد اللفظ هذا المعنى وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصاراً واقتصاراً . وقال مجاهد في كتاب الثعلبي وغيره ، المعنى : { فإن يشأ الله يختم على قلبك } بالصبر لأذى الكفار ويربط عليه بالجلد ، فهذا تأويل لا يتضمن الرد على مقالتهم .
وقوله تعالى : { ويمح } فعل مستقبل خبر من الله أنه يمحو الباطل ولا بد إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وهذا بحسب نازلة . وكتبت { يمح } في المصحف بحاء مرسلة كما كتبوا : { ويدع الإنسان } [ الإسراء : 11 ] إلى غير ذلك مما ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار .
وقوله : { بكلماته } معناه : بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء بالكلمات المعاني القائمة التي لا تبديل لها .
وقوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } خبر مضمنه وعيد . ثم ذكر النعمة في تفضله بقبول التوبة عن عباده ، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمنه وأعماله مقطوع به بهذه الآية ، وأما ما سلف من أعماله فينقسم : فأما التوبة من الكفر فماحية كل ما تقدمها من مظالم العباد الفانية ، وأما التوبة من المعاصي فلأهل السنة قولان ، هل تذهب المعاصي السالفة للعبد بينه وبين خالقه؟ فقالت فرقة : هي مذهبة لها ، وقالت فرقة : هي في مشيئة الله تعالى ، وأجمعوا على أنها لا تذهب مظالم العباد .
وحقيقة التوبة : الإقلاع عن المعاصي والإقبال والرجوع إلى الطاعات ، ويلزمها الندم على ما فات ، والعزم على ملازمة الخيرات . وقال سري السقطي : والتوبة : العزم على ترك الذنوب ، والإقبال بالقلب إلى علام الغيوب . وقال يحيى بن معاذ : التائب من كسر شبابه على رأسه وكسر الدنيا على رأس الشيطان ولزم الفطام حتى أتاه الحمام .
وقوله تعالى : { عن عباده } بمعنى : من عباده ، وكأنه قال : التوبة الصادرة عن عباده .
وقرأ جمهور القراء والأعرج وأبو جعفر والجحدري وقتادة : " يفعلون " بالياء على الكناية عن غائب . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وعلقمة : " تفعلون " بالتاء على المخاطبة ، وفي الآية توعد .
وقوله تعالى : { ويستجيب } قال الزجاج وغيره معناه : يجيب ، والعرب تقول : أجاب واستجاب بمعنى ومنه قول الشاعر [ كعب بن سعد الغنوي ] : [ الطويل ]
وداع دعا يا من يجيب الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
و : { الذين } على هذاا لقول مفعول ب { يستجيب } ، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل ونحوه عن ابن عباس ، وقالت فرقة المعنى : ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة .
(6/51)

ودل قوله : { ويزيدهم من فضله } على أن المعنى فيجيبهم ، وحملت هذه الفرقة استجاب على المعهود من باب استفعل ، أي طلب الشيء . و : { الذين } على هذا القول فاعل ب { يستجيب } . وقالت فرقة : المعنى ويجيب المؤمنون ربهم ، ف { الذين } : فاعل بمعنى يجيبون دعوة شرعه ورسالته . والزيادة من فضله : هي تضعيف الحسنات ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هي قبول الشفعات في المذنبين والرضوان " .
وقوله تعالى : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } قال عمرو بن حريث وغيره إنها نزلت لأن قوماً من أهل الصفة طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق ، فأعلمهم الله تعالى أنه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم لكان سبب بغيهم وإفسادهم ، ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة في كل أحد ، وله بعبيده خبرة وبصر بأخلاقهم ومصالحهم ، فهو ينزل لهم من الرزق القدر الذي به صلاحهم ، فرب إنسان لا يصلح وتكتف عاديته إلا بالفقر وآخر بالغنى . وروى أنس بن مالك في هذا المعنى التقسم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال أنس : اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى ، فلا تفقرني . وقال خباب بن الأرتّ : فينا نزلت : { ولو بسط الله الرزق } الآية ، لأنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت الآية .
(6/52)

وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
هذه تعديد نعمة الله تعالى الدالة على وحدانيته ، وأنه الإله الذي يستحق أن يعبد دون سواه من الأنداد .
وقرأ " يُنَزِّل " مثقلة جمهور القراء ، وقرأها " يُنْزِل " مخففة ابن وثاب والأعمش ، ورويت عن أبي عمرو ، ورجحها أبو حاتم ، وقرأ جمهور الناس : " قنَطوا " بفتح النون ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش : بكسر النون ، وقد تقدم ذكرها وهما لغتان : قنَط ، وقنِط ، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له : أجدبت الأرض وقنط الناس ، فقال : مطروا إذاً ، بمعنى أن الفرج عند الشدة ، واختلف المتأولون في قوله تعالى : { وينشر رحمته } فقالت فرقة : أراد بالرحمة المطر ، وعدد النعمة بعينها بلفظتين : الثاني منهما يؤكد الأول . وقالت فرقة : الرحمة في هذا الموضع الشمس ، فذلك تعديد نعمة غير الأولى ، وذلك أن المطر إذا ألم بعد القنط حسن موقعه ، فإذا دام سئم ، فتجيء الشمس بعده عظيمة الموضع .
وقوله تعالى : { وهو الولي الحميد } أي من هذه أفعاله فهو الذي ينفع إذا والى وتحمد أفعاله ونعمه ، لا كالذي لا يضر ولا ينفع من أوثانكم . ثم ذكر تعالى الآية الكبرى ، الصنعة الدالة على الصانع ، وذلك { خلق السماوات والأرض } .
وقوله تعالى : { وما بث فيهما } يتخرج على وجوه ، منها أن يريد إحداهما فيذكر الاثنين كما قال : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] وذلك إنما يخرج من الملح وحده ، ومنها أن يكون تعالى قد خلق السماوات وبث دواب لا نعلمها نحن ، ومنها أن يريد الحيوانات التي توجد في السحاب ، وقد يقع أحياناً كالضفادع ونحوها ، فإن السحاب داخل في اسم السماء . وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال في تفسير : { وما بث فيهما من دابة } هم الناس والملائكة ، وبعيد غير جار على عرف اللغة أن تقع الدابة على الملائكة .
وقوله تعالى : { وهو على جمعهم } يريد القيامة عند الحشر من القبور وقوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة } قرأ جمهور القراء : " فبما " بفاء ، وكذلك هي في جل المصاحف . وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة : " بما " دون فاء . وحكى الزجاج أن أبا جعفر وحده من المدنيين أثبت الفاء . قال أبو علي الفارسي : " أصاب " ، من قوله : " وما أصاب " يحتمل أن يكون في موضع جزم ، وتكون { ما } شرطية ، وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه ، وجوز حذفها أبو الحسن الأخفش وبعض البغداديين على أنها مرادة في المعنى ، ويحتمل أن يكون " أصاب " صلة لما ، وتكون { ما } بمعنى الذي ، وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها ، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم ، أي لولا كسبكم ما أصابتكم مصيبة ، والمصيبة إنما هي بسبب كسب الأيدي ، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم ، ويجوز أن يعرى منه ، وأما في هذه الآية فالتلازم مطرد مع الثبوت والحذف .
(6/53)

وأما معنى الآية فاختلف الناس فيه ، فقالت فرقة : هي إخبار من الله تعالى بأن الرزايا والمصائب في الدنيا إنما هي مجازاة من الله تعالى على ذنوب المرء وخطاياه ، وأن الله تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه بمصيبة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر " وقال عمران بن حصين وقد سئل عن مرضه إن أحبه إلي أحبه إلى الله ، وهذا بما كسبت يداي ، وعفو ربي كثير . وقال مرة الهمداني : رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت ما هذا؟ قال هذا بما كسبت يدي { ويعفو عن كثير } ، وقيل لأبي سليمان الداراني : ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء إليهم؟ فقال لأنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم . وروي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله أكرم من أن يثني على عبده العقوبة إذا أصابته في الدنيا بما كسبت يداه " . وقال الحسن بن أبي الحسن ، معنى الآية في الحدود : أي ما أصابكم من حد من حدود الله ، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه ، فإنما هي بكسب أيديكم { ويعفو عن كثير } ، فستره على العبد حتى لا يحد عليه . ثم أخبر عن قصور ابن آدم وضعفه وأنه في قبضة القدرة ، لا يعجز طلب ربه ، ولا يمكنه الفرار منه و { الجواري } جمع جارية ، وهي السفينة .
وقرأ : " الجواري " بالياء نافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة ، ومنهم من أثبتها في الوصل ووقف على الراء . وقرأ أيضاً عاصم بحذف الياء في وصل ووقف . وقال أبو حاتم : نحن نثبتها في كل حال .
و : " الأعلام " الجبال ، ومنه قول الخنساء : [ البسيط ]
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
ومنه المثل : إذا قطعن علماً بدا علم فجري السفن في الماء آية عظيمة ، وتسخير الريح لذلك نعمة منه تعالى ، وهو تعالى لو شاء أن يديم سكون الريح عنها لركدت أي أقامت وقرت ولم يتم منها غرض .
وقرأ أبو عمرو وعاصم " الريح " واحدة . وقرأ : " الرياح " نافع وابن كثير والحسن .
وقرأ الجمهور : " فيظلَلن " بفتح اللام . وقرأ قتادة : " فيظلِلن " بكسر اللام .
وباقي الآية فيه الموعظة وتشريف الصبار الشكور بالتخصيص ، والصبر والشكر فيهما الخير كله ، ولا يكونان إلا في عالم .
(6/54)

أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
أوبقت الرجل إذا أنشبته في أمر يهلك فيه ، فالإيباق في السفن هو تغريقها ، والضمير في : { كسبوا } هو لركابها من البشر ، أي بذنوب البشر . ثم ذكر تعالى ثانية : { ويعف عن كثير } مبالغة وإيضاحاً .
وقرأ نافع وابن عامر والأعرج وأبو جعفر وشيبة : " ويعلمُ " بالرفع على القطع والاستئناف ، وحسن ذلك إذا جاء بعد الجزاء . وقرأ الباقون والجمهور : " ويعلمَ " بالنصب على تقدير : أن ، وهذه الواو نحو التي يسميها الكوفيون واو الصرف ، لأن حقيقة واو الصرف هي التي يريد بها عطف فعل على اسم ، فيقدر أن لتكون مع الفعل بتأويل المصدر فيحسن عطفه على اسم ، وذلك نحو قول الشاعر : [ الطويل ]
تقضي لبانات ويسأم سائم ... فكأنه أراد : وسآمة سائم ، فقدر : وأن يسأم لتكون ذلك بتأويل المصدر الذي هو سآمة قال أبو علي : حسن النصب إذ كان قبله شرط وجزاء ، وكل واحد منهما غير واجب وقوله تعالى : { ما لهم من محيص } هو معلموهم الذي أراد أن يعلمه المجادلون في آياته عز وجل . والمحيص : المنجي وموضوع الروغان ، يقال حاص إذا راغ ، وفي حديث هرقل : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، ثم وعظ تعالى عباده وحقر عندهم أمر الدنيا وشأنها ورغبهم فيما عنده من نعيمهم والمنزلة الرفيعة لديه ، وعظم قدر ذلك في قوله : { فما أوتيتم } الآية .
وقوله : { والذين يجتنبون } عطف على قوله : { الذين آمنوا } . وقرأ جمهور الناس : " كبائر " على الجمع . قال الحسن : هي كل ما توعد فيه بالنار . وقال الضحاك : أو كان فيه حد من الحدود . وقال ابن مسعود : الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية . وقال علي وابن عباس : هي كل ما ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم : " كبير " على الإفراد الذي هو اسم الجنس . وقال ابن عباس : كبير الإثم : هو الشرك . { والفواحش } قال السدي : الزنا . وقال مقاتل : موجبات الحدود ، ويحتمل أن يكون كبير اسم جنس بمعنى كبائر ، فتدخل موبقات السبع على ما قد تفسر من أمرها في غير هذه .
وقوله تعالى : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } حض على كسر الغضب والتدرب في إطفائه ، إذ هو جمهرة من جهنم وباب من أبوابها ، " وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب . قال : زدني : قال : لا تغضب ومن جاهد هذا العارض من نفسه حتى غلبه فقد كفي هماً عظيماً في دنياه وآخرته " .
وقوله تعالى : { والذين استجابوا } مدح لكل من آمن بالله وقبل شرعه ، ومدح تعالى القوم الذين أمرهم شورى بينهم ، لأن في ذلك اجتماع الكلمة والتحاب واتصال الأيدي والتعاضد على الخير ، وفي الحديث : " ما تشاور قوم إلا هدوا لأحسن ما بحضرتهم " .
وقوله : { ومما رزقناهم ينفقون } معناه في سبيل الله وبرسم الشرع وعلى حدوده ، وفي القوام الذي مدحه تعالى في غير هذه الآية . وقال ابن زيد قوله تعالى : { والذين استجابوا لربهم } الآية نزلت في الأنصار ، والظاهر أن الله تعالى مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائناً من كان ، وهل حصل الأنصار في هذه الصفة إلا بعد سبق المهاجرين لها رضي الله تعالى عن جميعهم بمنه .
(6/55)

وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
مدح الله تعالى في هذه الآية قوماً بالانتصار من البغي ، ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا : الانتصار بالواجب تغيير منكر ، ومن لم ينتصر مع إمكان الانتصار فقد ترك تغيير المنكر واختلف الناس في المراد بالآية بعد اتفاقهم على أن من بغي عليه وظلم فجائز له أن ينتصر بيد الحق وحاكم المسلمين ، فقال مقاتل : الآية في المجروح ينتصف من الجارح بالقصاص . وقالت فرقة : إنها نزلت في بغي المشرك على المؤمن ، فأباح الله لهم الانتصار منهم دون تعدٍّ ، وجعل العفو والإصلاح مقروناً بأجر ، ثم نسخ ذلك بآية السيف ، وقالت هذه الفرقة وهي الجمهور؛ إن المؤمن إذا بغى على مؤمن وظلمه ، فلا يجوز للآخر أن ينتصف منه بنفسه ويجازيه على ظلمه ، مثال ذلك : أن يخون الإنسان آخر ثم يتمكن الإنسان من خيانته ، فمذهب مالك رحمه الله أن لا يفعل ، وهو مذهب جماعة عظيمة معه ، ولم يروا هذه الآية من هذا المعنى ، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " . وهذا القول أنزه وأقرب إلى الله تعالى . وقالت طائفة من أهل العلم : هذه الآية عامة في المشركين والمؤمنين ، ومن بغي عليه وظلم فجائز له أن ينتصف لنفسه ويخون من خانه في المال حتى ينتصر منه ، وقالوا إن الحديث : " ولا تخن من خانك " ، إنما هو في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يزني بحرمة من زنا بحرمته؟ فقال له النبي عليه السلام : ذلك يريد به الزنا ، وكذلك ورد الحديث في معنى الزنا ، ذكر ذلك الرواة ، أما أن عمومه ينسحب في كل شيء .
وقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيئة } قال الزجاج : سمى العقوبة باسم الذنب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إذا أخذنا السيئة في حق الله تعالى بمعنى المعصية ، وذلك أن المجازاة من الله تعالى ليست سيئة إلا بأن سميت باسم موجبتها ، وأما إن أخذنا السيئة بمعنى المعصية في حق البشر ، أي يسوء هذا هذا ويسوء الآخر ، فلسنا نحتاج إلى أن نقول سمى العقوبة باسم الذنب ، بل الفعل الأول والآخر { سيئة } وقال ابن أبي نجيح والسدي معنى الآية : أن الرجل إذا شتم بشتمة فله أن يردها بعينها دون أن يتعدى . قال الحسن بن أبي الحسن : ما لم يكن حداً أو عوراء جداً واللام في قوله : { لمن انتصر } لام التقاء القسم .
وقوله : { من سبيل } يريد { من سبيل } حرج ولا سبيل حكم ، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار ، والخلاف فيه هل هو بين المؤمن والمشرك ، أو بين المؤمنين على ما تقدم .
(6/56)

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
المعنى إنما سبيل الحكم والإثم { على الذين يظلمون الناس } ، أي الذين يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد وباللسان . والبغي بغير الحق وهو نوع من أنواع الظلم ، خصه بالذكر تنبيهاً على شدته وسوء حال صاحبه ، ثم توعدهم تعالى بالعذاب الأليم في الآخرة .
وقوله تعالى : { إنما السبيل } وقوله : { أليم } اعتراض بين الكلامين ، ثم عاد في قوله : { ولمن صبر } إلى الكلام الأول ، كأنه قال : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ولمن صبر وغفر . واللام في قوله : { ولمن صبر } يصح أن تكون لام القسم ، ويصح أن تكون لام الابتداء . و " من " ابتداء . وخبره في قوله : { إن ذلك } . و : { عزم الأمور } محكها ومتقنها والحميد العاقبة منها . ومن رأى أن هذه الآية هي فيما بين المؤمنين والمشركين وأن الضمير للمشركين كان أفضل ، قال إن الآية نسخت بآية السيف ، ومن رأى أن الآية إنما هي بين المؤمنين ، قال هي محكمة ، والصبر والغفران أفضل إجماعاً ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة نادى مناد ، من كان له على الله أجر فليقم ، فيقوم عنق من الناس كثير ، فيقال ما أجركم؟ فيقولون : نحن الذين عفونا ظلمنا في الدنيا " .
وقوله تعالى : { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } تحقير لأمر الكفرة فلا يبال بهم أحد من المؤمنين ، فقد أضارهم كفرهم وإضلال الله إياهم إلى ما لا فلاح لهم معه . ثم وصف تعالى لنبيه عليه السلام حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب فاجتزى من صفتهم وصفة حالتهم بأنهم يقولون { هل إلى مرد من سبيل } ، وهذه المقالة تدل على سوء ما أطلعوا عليه ، والمراد موضوع الرد إلى الدنيا ، والمعنى الذي قصدوه أن يكون رد فيكون منهم استدراك للعمل والإيمان . والرؤية في هذه الآية : رؤية عين . والضمير في قوله : { عليها } عائد على النار ، وعاد الضمير مع أنها لم يتقدم لها ذكر من حيث دل عليها قوله : { رأوا العذاب } وقوله : { من الذل } يحتمل أن يتعلق ب { خاشعين } ويحتمل أن يتعلق بما بعده من قوله : { ينظرون } .
وقرأ طلحة بن مصرف : " من الذِل " بكسر الذال .
والخشوع : الاستكانة ، وقد يكون محموداً ، وما يخرجه إلى حالة الذم قوله : { من الذل } فيقوى على هذا تعلق : { من } ب : { خاشعين } .
وقوله : { من طرف خفي } يحتمل ثلاثة معان . قال ابن عباس : خفي ذليل .
قال القاضي أبو محمد : لما كان نظرهم ضعيفاً ولحظهم بمهانة وصفه بالخفاء ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [ جرير بن عطية ] :
فغض الطرف إنك من نمير ... وقال قوم فيما حكى الطبري : لما كانوا يحشرون عمياً وكان نظرهم بعيون قلوبهم جعله طرفاً خفياً ، أي لا يبدو نظرهم ، وفي هذا التأويل تكلف .
(6/57)

وقال قتادة والسدي : المعنى يسارقون النظر لما كانوا من الهم وسوء الحال لا يستطيعون النظر بجميع العين ، وإنما ينظرون من بعضها . قال : { من طرف خفي } أي قليل . ف " الطرف " هنا على هذا التأويل يحتمل أن يكون مصدراً ، أي يطرف طرفاً خفياً . وقول : { الذين آمنوا } هو في يوم القيامة عندما عاينوا حال الكفار وسوء منقلبهم . وخسران الأهلين : يحتمل أن يراد به أهلوهم الذين كانوا في الدنيا ، ويحتمل أن يراد به أهلوهم الذين كانوا يكونون لهم في الجنة أن لو دخلوها .
وقوله تعالى : { ألا إن الظالمين في عذاب مقيم } يحتمل أن يكون من قول المؤمنين يومئذ حكاه الله عنهم ، ويحتمل أن يكون استئنافاً من قول الله تعالى وإخباره لمحمد عليه السلام .
(6/58)

وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
قوله تعالى : { وما كان لهم من أولياء } إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها واعتقدت ذلك ديناً ، المعنى : فما بالهم يوالون هذه التي لا تضر ولا تنفع ، ولكن من يضلل الله { فما له من سبيل } هدى ونجاة ، ثم أمر تعالى نبيه أن يأمرهم بالاستجابة لدعوة الله وشريعته ، وحذرهم إتيان يوم القيامة الذي لا يرد أحد بعده إلى عمل ، والذي لا ملجأ ولا منجا لأحد فيه إلا إلى العلم بالله تعالى والعمل الصالح في الدنيا ، فأخبرهم أنه لا ملجأ لهم ولا نكير . والنكير مصدر بمعنى الإنكار وهو بمنزلة عديدة الحي ونحوه من المصادر ، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل من نكر ، وإن كان المعنى يبعد به ، لأن نكر إنما معناه لم يميز وظن الأمر غير ما عهده .
وقوله تعالى : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً } تأنيس لمحمد عليه السلام وإزالة لهمه بهم ، وأعلمه أنه ليس عليه إلا البلاغ وتوصيل الحجة ، ثم جاءت عبارة في باقي الآية هي بمنزلة ما يقول ، والقوم قوم عتو وتناقض أخلاق واضطراب ، إذا أذيقوا رحمة فرحوا بها وبطروا ، وإن أصابت سيئة أي مصيبة تسوءهم في أجسامهم أي في نفوسهم ، وذلك بذنوبهم وقبيح فعلهم فإنهم كفر عند ذلك غير صبر . وعبر ب { الإنسان } الذي هو اسم عام ليدخل في الآية والمذمة جميع الكفرة من المجاورين يومئذ ومن غيرهم ، وجمع الضمير في قوله : { تصبهم } وهو عائد على لفظ { الإنسان } من حيث هو اسم جنس يعم كثيراً .
(6/59)

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
الآية الأولى آية اعتبار دال على القدرة والملك المحيط بالجميع ، وأن مشيئته تبارك وتعالى نافذة في جميع خلقه وفي كل أمرهم ، وهذا لا مدخل لصنم فيه ، فإن الذي يخلق ما يشاء ويخترع ، فإنما هو الله تبارك وتعالى ، وهو الذي يقسم الخلق فيهب الإناث لمن يشاء ، أي يجعل بنيه نساء ، ويهب الذكور لمن يشاء على هذا الحد ، أو ينوعهم مرة يهب ذكراً ويهب أنثى ، وذلك معنى قوله تعالى : { أو يزوجهم } . وقال محمد بن الحنفية : يريد بقوله تعالى : { أو يزوجهم } التوأم ، أي يجعل في بطنٍ زوجاً من الذرية ذكراً وأنثى . والعقيم : الذي لا يولد له ، وهذا كله مدبر بالعلم والقدرة ، وهذه الآية تقضي بفساد وجود الخنثى المشكل . وبدئ في هذه الآية بذكر الإناث تأنيساً بهن وتشريفاً لهن ليتهمم بصونهن والإحسان إليهن ، وقال النبي عليه السلام : " من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له حجاباً من النار " . وقال واثلة بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر ، لأن الله تعالى بدأ بالإناث ، حكاه الثعلبي . وقال إسحاق بن بشر : نزلت هذه الآية في الأنبياء ثم عمت ، فلوط أبو البنات لم يولد له ذكر ، وإبراهيم ضده ، ومحمد عليه السلام ولد له الصنفان ، ويحيى بن زكرياء عقيم .
وقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله } الآية نزلت بسبب خوض كان للكفار في معنى تكليم الله موسى ونحو ذلك ، ذهبت قريش واليهود في ذلك إلى تجسيم ونحوه ، فنزلت الآية مبينة صورة تكليم الله عباده كيف هو ، فبين الله أنه لا يكون لأحد من الأنبياء ولا ينبغي له ولا يمكن فيه أن يكلمه الله إلا بأن يوحي إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام . قال مجاهد ، والنفث في القلب . وقال النقاش : أو وحي في منام؟ قال إبراهيم النخعي : كان من الأنبياء من يخط له في الأرض ونحو هذا ، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزاً كموسى عليه السلام ، وهذا معنى : { من وراء حجاب } أي من خفاء عن المتكلم لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه ، وليس كالحجاب في الشاهد ، أو بأن يرسل إليه ملكاً يشافهه بوحي الله تعالى . وقرأ جمهور القراء والناس : " أو يرسلَ " بالنصب " فيوحيَ " بالنصب أيضاً . وقرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة : " أو يرسلُ " بالرفع " فيوحيَ " بالنصب أيضاً . وقرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة : " أو يرسلُ " بالرفع " فيوحي " بسكون الياء ورفع الفعل . فأما القراءة الأولى فقال سيبويه : سألت الخليل عنها فقال : هي محمولة على { أن } غير التي في قوله : { أن يكلمه الله } لأن المعنى كان يفسد لو عطف على هذه ، وإنما التقدير في قوله : { وحياً } إلا أن يوحي وحياً .
(6/60)

وقوله : { من وراء حجاب } ، { من } متعلقة بفعل يدل ظاهر الكلام عليه ، تقديره : أو يكلمه من وراء حجاب ، ثم عطف : " أو يرسل " على هذا الفعل المقدر .
وأما القراءة الثانية فعلى أن " يرسل " في موضع الحال أو على القطع ، كأنه قال : أو هو يرسل ، وكذلك يكون قوله : { إلا وحياً } مصدر في موضع الحال ، كما تقول : أتيتك ركضاً وعدواً ، وكذلك قوله : { من وراء حجاب } في موضع الحال كما هو قوله : { ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين } [ آل عمران : 46 ] في موضع الحال ، فكذلك { من } [ آل عمران : 46 ] وما عملت فيه هذه الآية أيضاً ، ثم عطف قوله : " أو يرسلَ " على هذه الحال المتقدمة . وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم ، وأن الحالف المرسل حانث إذا حلف أن لا يكلم إنساناً فأرسل إليه وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه .
وقوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك } المعنى وبهذه الطرق ومن هذا الجنس أوحينا إليك أو بالرسل . والروح في هذه الآية : القرآن وهدى الشريعة سماه { روحاً } من حيث يحيي به البشر والعالم ، كما يحيي الجسد بالروح ، فهذا على جهة التشبيه .
وقوله تعالى : { من أمرنا } أي واحد من أمورنا ، ويحتمل أن يكون الأمر بمعنى الكلام ، و { من } لابتداء الغاية .
وقوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } توقيف على مقدار النعمة . والضمير في { جعلناه } عائد على الكتاب ، و . { يهدي } بمعنى يرشد .
وقرأ جمهور الناس : " وإنك لتَهدي " بفتح التاء وكسر الدال . وقرأ حوشب : " تُهدَى " بضم التاء وفتح الدال على بناء الفعل للمفعول ، وفي حرف أبي : " لتدعو " ، وهي تعضد قراءة الجمهور . وقرأ ابن السميفع وعاصم والجحدري : " لتُهدِي " بضم التاء وكسر الدال .
وقوله : { صراط الله } يعني صراط شرع الله ورحمته وجنته ، فبهذا الوجه ونحوه من التقدير أضيف الصراط إلى الله تعالى . واستفتح القول في الإخبار بصيرورة الأمور إلى الله تعالى مبالغة وتحقيقاً وتثبيتاً ، والأمور صائرة على الدوام إلى الله تعالى ، ولكن جاءت هذه العبارة مستقبلة تقريباً لمن في ذهنه أن شيئاً من الأمور إلى البشر . وقال سهيل من أبي الجعد : احترق مصحف فلم يبق منه إلا قوله : { ألا إلى الله تصير الأمور } .
(6/61)

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
تقدم القول في الحروف في أوائل السور .
وقوله : { والكتاب } خفض بواو القسم . و : { المبين } يحتمل أن يكون من أبان الذي هو بمعنى بان ، أي ظهر ، فلا يحتاج إلى مفعول ، ويحتمل أن يكون معدى من بان ، فهذا لا بد من مفعول تقديره : المبين الهدى أو الشرع ونحوه .
وقوله تعالى : { إنا جعلناه } معناه : سميناه وصيرناه ، وهو إخبار عليه وقع القسم ، والضمير في : { جعلناه } عائد على : { الكتاب } ، و : { عربياً } معناه : بلسانكم لئلا يبقى لكم عذر .
وقوله : { لعلكم تعقلون } ترج بحسب معتقد البشر ، أي إذا أبصر المبصر من البشر هذا الفعل منا ترجى منه أن يعقل الكلام ويفهم .
وقوله تعالى : { وإنه } عطف على قوله : { إنا جعلناه } وهذا الإخبار الثاني واقع أيضاً تحت القسم . و : { أم الكتاب } اللوح المحفوظ ، وهذا فيه تشريف للقرآن وترفيع .
واختلف المتأولون كيف هو في { أم الكتاب } ، فقال عكرمة وقتادة والسدي وعطية بن سعيد : القرآن بأجمعه فيه منسوخ ، ومنه كان جبريل عليه السلام ينزل ، وهنالك هو علي حكيم . وقال جمهور الناس : إنما في اللوح المحفوظ ذكره ودرجته ومكانته من العلو والحكمة .
وقرأ جمهور الناس : " في أُم " بضم الهمزة ، وقرأها بكسر الهمزة يوسف والي العراق وعيسى بن عمر .
وقوله : { أفنضرب } بمعنى : أفنترك ، تقول العرب أضربت عن كذا وضربت إذا أعرضت وتركته . و : { الذكر } هنا الدعاء إلى الله والتذكير بعذابه والتخويف من عقابه ، وقال أبو صالح : { الذكر } هنا هو العذاب نفسه ، وقال الضحاك ومجاهد : { الذكر } القرآن .
وقوله تعالى : { صفحاً } انتصابه كانتصاب { صنع الله } [ النمل : 88 ] ، فيحتمل أن يكون بمعنى العفو والغفر للذنب ، فكأنه يقول : أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفواً عنكم وغفراً لإجرامكم إذ كنتم أو من أجل أن كنتم قوماً مسرفين ، أي هذا لا يصلح ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد ، ويحتمل قوله : { صفحاً } أن يكون بمعنى مغفولاً عنه ، أي نتركه يمر لا تؤخذون بقبوله ولا بتدبر ولا تنبهون عليه ، وهذا المعنى نظير قول الشاعر : [ الطويل ]
تمر الصبا صفحاً بساكن ذي الغضا ... ويصدع قلبي إن يهب هبوبها
أي تمر مغفولاً عنها ، فكأن هذا المعنى : أفنترككم سدى ، وهذا هو منحى قتادة وغيره ، ومن اللفظة قول كثير : [ الطويل ]
صفوحاً فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت
وقرأ السميط بن عمرو السدوسي : " صُفحاً " بضم الصاد . وقرأ نافع وحمزة والكسائي : " إن كنتم " بكسر الألف ، وهو جزاء دل ما تقدم على جوابه . وقرأ الباقون والأعرج وقتادة : " أن كنتم " بفتح الألف . بمعنى من أجل أن ، وفي قراءة ابن مسعود : " إذ كنتم " . والإسراف في الآية : هو الكفر والضلال البعيد في عبادة غير الله عز وجل والتشريك به .
(6/62)

وقوله تعالى : { وكم أرسلنا من نبي في الأولين } الآيات تسلية لمحمد عليه السلام ، وذكر إسوة له ووعيد لهم وتهديد بأن يصيبهم ما أصاب من هو أشد بطشاً . والأولون : هم الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، والضمير في قوله : { كانوا يستهزئون } ظاهره العموم والمراد به الخصوص فيمن استهزأ ، وإلا فقد كان في الأولين من لم يستهزئ ، والضمير في : { منهم } عائد على قريش .
وقوله تعالى : { ومضى مثل الأولين } أي سلف أمرهم وسنتهم ، وصاروا عبرة عابر الدهر .
وقوله تعالى : { ولئن سألتهم } الآية ابتداء احتجاج على قريش يوجب عليهم التناقض في أمرهم ، وذلك أنهم يقرون أن الخالق الموجد لهم وللسماوات والأرض هو الله تعالى ، وهم مع ذلك يعبدون أصناماً ويدعونها آلهتهم ، ومقتضى جواب قريش أن يقولوا " خلقهن الله " فلما ذكر تعالى المعنى جاءت العبارة عن الله ب { العزيز العليم } ليكون ذلك توطئة لما عدد بعد من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش .
(6/63)

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
هذه أوصاف فعل ، وهي نعم من الله تعالى على البشر ، تقوم بها الحجة على كل كافر مشرك بالله تعالى .
وقوله : { الذي جعل لكم } ليس من قول المسؤولين ، بل هو ابتداء إخبار من الله تعالى .
وقرأ جمهور الناس : " مهاداً " وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش : " مهداً " ، والمعنى واحد ، أي يتمهد ويتصرف فيها .
والسبل : الطرق . و : { تهتدون } معناه في المقاصد من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر ، ويحتمل أن يريد : { تهتدون } بالنظر والاعتبار .
وقوله تعالى : { من السماء } هو المطر بإجماع ، واختلف المتأولون في معنى قوله : { بقدر } فقالت فرقة معناه : بقضاء وحتم في الأزل . وقال آخرون المعنى : بقدر في الكفاية للصلاح لا إكثار فيفسد ولا قلة فيقصر ، بل غيثاً مغيثاً سبيلاً نافعاً . وقالت فرقة معناه : بتقدير وتحرير ، أي قدراً معلوماً ، ثم اختلف قائلو هذه المقالة ، فقال بعضهم : ينزل كل عام ماء قدراً واحداً لا يفضل عام عاماً ، لكن يكثر مرة هنا ومرة هاهنا . وقالت فرقة : بل ينزل الله تقديراً ما في عام ، وينزل في آخر تقديراً آخر بحسب ما سبق به قضاؤه ، لا إله غيره . و : { أنشرنا } معناه : أحيينا ، يقال : نشر الميت ، وأنشره الله . و : { بلدة } اسم جنس ، ووصفها ب { ميتاً } دون ضمير من حيث هي واقعة موقع قطر ونحوه ، إذ التأنيث فيها غير حقيقي .
وقرأ الجمهور : " ميْتاً " بسكون الياء . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : " ميِّتاً " بياء مكسورة مشددة ، وهي قراءة عيسى بن عمر ، والأول أرجح لشبه لفظها : بزور ، وعدل ، فحسن وصف المؤنث بها .
وقرأ أكثر السبعة والأعرج وأبو جعفر : " كذلك تُخرَجون " بضم التاء وفتح الراء . وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وعبد الله بن جبير المصيح : " وكذلك تَخرُجون " بفتح التاء وضم الراء .
و : { الأزواج } الأنواع من كل شيء ، و { من } في قوله : { من الفلك } للتبعيض ، وذلك أنه لا يركب من الأنعام غير الإبل ، وتدخل الخيل والبغال والحمير فيما يركب بالمعنى . واللام في قوله : { لتستووا } لام الأمر ، ويحتمل أن تكون لام كي ، و { ما } في قوله : { ما تركبون } واقعة على النوع المركوب ، والضمير في : { ظهوره } عائد على النوع الذي وقعت عليه { ما } .
وقد بينت آية ما يقال عند ركوب الفلك ، وهو : { باسم الله مجراها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم } [ هود : 41 ] وإنما هذه خاصة فيما يركب من الحيوان ، ويقال ( - ) عند النزول منها : اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين . والسنة للراكب إذا ركب أن يقول : الحمد لله على نعمة الإسلام ، أو على النعمة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو على النعمة في كل حال ، وقد روي هذا اللفظ عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { سبحان الذي } الآية ، وركب أبو مجلز لاحق بن حميد وقال : " سبحان الله " الآية ، ولم يذكر نعمة ، وسمعه الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال : ما هكذا أمرتم ، قال أبو مجلز ، فقلت له : كيف أقول؟ قال : قل الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، أو نحو هذا ، ثم تقول بعد ذلك : { سبحان الذي } الآية ، وكان طاوس إذا ركب قال : اللهم هذا من منك وفضلك ، ثم يقول : { سبحان الذي } الآية ، وإن قدرنا أن ذكر النعمة هو بالقلب والتذكير بدأ الراكب : ب { سبحان الذي سخر } ، وهو يرى نعمة الله في ذلك وفي سواه .
(6/64)

والمقرن : الغالب الضابط المستولي على الأمر المطيق له . وروي أن بعض الأعراب ركب جملاً فقيل له قل : { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } فقال : أما والله إني لمقرن تياه ، فضرب به الجمل فوقصه فقتله .
وقوله : { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أمر بالإقرار بالبعث وترداد القول به ، وذلك داعية إلى استشعار النظر فيه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا ركب ولم يقل هذه الآية جاءه الشيطان فقال : " تغنه ، فإن اكن يحسن غنى ، وإلا قال له تمنه ، فيتمنى الأباطيل ويقطع زمنه بذلك " .
(6/65)

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
الضمير في : { جعلوا } لكفار قريش والعرب ، والضمير في : { له } لله تعالى : والجزء : القطع من الشيء ، وهو بعض الكل ، فكأنهم جعلوا جزءاً من عباده نصيباً له وحظاً ، وذلك في قول كثير من المتأولين قول العرب : الملائكة بنات الله ، وقال بعض أهل اللغة الجزء : الإناث ، يقال أجزأت المرأة إذا ولدت أنثى ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
إن أجزأتْ حرة يوماً فلا عجب ... قد تجزئ المرأة المذكار أحيانا
وقد قيل في هذا البيت إنه بيت موضوع . وقال قتادة : المراد بالجزء : الأصنام وفرعون وغيره ممن عبد من دون الله ، أي جزءاً نداً ، فعلى هذا التأويل فتعقيب الكفرة في فصلين في أمر الأصنام وفي أمر الملائكة ، وعلى هذا التأويل الأول فالآية كلها في أمر الملائكة .
وقوله تعالى : { إن الإنسان لكفور } أي بلفظ الجنس العام ، والمراد بعض الإنسان ، وهو هؤلاء الجاعلون ومن أشبههم . و : { مبين } في هذا الموضع غير متعد .
وقوله تعالى : { أم اتخذ } إضراب وتقرير ، وهذه حجة بالغة عليهم . إذ المحمود من الأولاد والمحبوب قد خوله الله بني آدم ، فكيف يتخذ هو لنفسه النصيب الأدنى . { وأصفاكم } معناه : خصكم وجعل ذلك صفوة لكم ، ثم قامت الحجة عليهم في هذا المعنى وبانت بقوله تعالى : { وإذا بشر } الآية . و؛ { مسوداً } خبر : { ظل } . والكظيم : الممتلئ غيظاً الذي قد رد غيظه إلى جوفه ، فهو يتجرعه ويروم رده ، وهذا محسوس عند الغيظ ، ثم زاد توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله : { أو من ينشأ } . و : { من } في موضع نصب بفعل يدل عليه : { جعلوا } كأنه قال : أو من ينشأ في الحلية وهو الذي خصصتم به الله ونحو هذا ، والمراد به : { من } النساء ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ، و : { ينشأ } معناه : ينبت ويكبر .
وقرأ جمهور القراء : " يَنشأ " بفتح الياء . وقرأ ابن عباس وقتادة : " يُنشىء " بضم الياء على تعدية الفعل بالهمزة . وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص : " يُنشأ " بضم الياء وفتح الشين على تعدية الفعل بالتضعيف ، وهي قراءة ابن عباس أيضاً والحسن ومجاهد ، وفي مصحف ابن مسعود : " أومن لا ينشأ إلا في الحلية " .
و : { الحلية } الحلي من الذهب والفضة والأحجار . و : { الخصام } المحاجة ومجاذبة المحاورة ، وقل ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني ، وفي مصحف ابن مسعود : " وهو في الكلام غير مبين " . و : { مبين } في هذه الآية متعد ، والتقدير { غير مبين } غرضاً أو منزعاً ونحو هذا . وقال ابن زيد : المراد ب : { من ينشأ في الحلية } الآية : الأصنام والأوثان ، لأنهم كانوا يتخذون كثيراً منها من الذهب والفضة ، وكانوا يجعلون الحلي على كثير منها .
ولما فرغ تعنيفهم على ما أتوا في جهة الله تعالى بقولهم : الملائكة بنات الله ، بين تعالى فساداً في مقالتهم بعينها من جهة أخرى من الفساد ، وذلك شنيع قولهم في عباد الله مختصين مقربين أنهم إناث .
(6/66)

وقرأ أكثر السبعة وابن عباس وابن مسعود وابن جبير وعلقمة : " عباد الرحمن إناثاً " . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه : " عند الرحمن إناثاً " وهذه القراءة أدل على رفع المنزلة وقربها في التكرمة كما قيل : ملك مقرب ، وقد يتصرف المعنيان في كتاب الله تعالى في وصف الملائكة في غير هذه الآية فقال تعالى : { بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] ، وقال تعالى في أخرى : { فالذين عند ربك } [ فصلت : 38 ] ، وفي مصحف ابن مسعود : " وجعلوا الملائكة عبد الرحمن إناثاً " .
وقرأ نافع وحده " أَأُشهدوا " بالهمزتين وبلا مد بينهما ، وبفتح الأولى وضم الثانية وتسهيلها بين الهمزة والواو ، ورواها المفضل عن عاصم بتحقيق الهمزتين . وقرأ المسيبي عن نافع بمد بين الهمزتين . وقرأ أبو عمرو ونافع أيضاً وعلي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد : " أ . شهدوا " بتسهيل الثانية بلا مد . وقرأ جماعة من القراء بالتسهيل في الثانية ومدة بينهما . وقرأ آخرون : " أشهدوا " بهمزة واحدة بغير استفهام ، وهي قراءة الزهري ، وهي صفة الإناث ، أي مشهداً خلقهم .
ومعنى الآية : التوبيخ وإظهار فساد عقولهم ، وادعائهم وأنها مجردة من الحجة ، وهذا نظير الآية الرادة على المنجمين وأهل البضائع ، وهي قوله تعالى : { ما أشهدتم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم } [ الكهف : 51 ] الآية .
وقرأ جمهور الناس : " ستُكتب شهادتُهم " برفع الشهادة وبناء الفعل للمفعول . وقرأ الأعرج وابن عباس وأبو جعفر وأبو حيوة . " سنكتب " بنون الجمع " شهادتَهم " بالنصب وقرأت فرقة : " سيكتب " بالياء على معنى : سيكتب الله " شهادتَهم " بالنصب . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : " ستُكتب شهاداتُهم " على بناء الفعل للمفعول وجمع الشهادات .
وفي قوله تعالى : { ويسألون } وعيد مفصح . و : { أشهدوا } في هذه الآية معناه : أحضروا وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدى .
(6/67)

وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
ذكر الله تعالى احتجاج الكفار لمذهبهم ليبين فساد منزعهم ، وذلك أنهم جعلوا إمهال الله لهم وإنعامه عليهم وهم يعبدون الأصنام ، دليلاً على أنه يرضى عبادة الأصنام ديناً ، وأن ذلك كالأمر به ، فنفى الله عن الكفرة أن يكون لهم علم بهذا وليس عندهم كتاب منزل يقتضي ذلك ، وإنما هم يظنون و { يخرصون } ويخمنون ، وهذا هو الخرص والتخرص .
وقرأ جمهور الناس : " على أُمة " بضم الهمزة ، وهي بمعنى الملة والديانة ، والآية على هذا تعيب عليهم التقليد . وقرأ مجاهد والعبدري وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : " على إمة " بكسر الهمزة وهي بمعنى النعمة ، ومنه قول الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بإمته يعطي القطوط ويافق
ومنه قول عدي بن زيد : [ الخفيف ]
ثم بعد الفلاح والملك والإمّ ... ة وارتهم هناك القبور
فالآية على هذا استمرار في احتجاجهم ، لأنهم يقولون : وجدنا آباءنا في نعمة من الله وهم يعبدون الأصنام ، فذلك دليل رضاه عنهم ، وكذلك اهتدينا نحن بذلك { على آثارهم } . وذكر الطبري عن قوم : أن الأمة الطريقة ، مصدر من قولك : أممت كذا أمة ثم ضرب تعالى المثل لنبيه محمد عليه السلام وجعل له الإسوة فيمن مضى من النذر والرسل ، وذلك أن المترفين من قومهم وهم أهل التنعم والمال قد قابلوهم بمثل هذه المقالة .
وقرأ جمهور القراء : " قل أولو " والمعنى : فقلنا للنذير قل . وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم : " قال أو لو " ، ففي " قال " ضمير بعود على النذير . وباقي الآية يدل على أن : " قل " في قراءة من قرأها ليست بأمر لمحمد عليه السلام ، وإنما هي حكاية لما أمر به النذير .
وقوله تعالى : { أو لو } هي ألف الاستفهام دخلت على واو عطف جملة كلام على جملة متقدمة ، و { لو } في هذا الموضع كأنها شرطية بمعنى أن ، كأن معنى الآية : وإن جئتكم بأبين وأوضح مما كان آباؤكم عليه فيصح لجاجكم وتقليدكم ، فأجاب الكفار حينئذ لرسلهم : { إنا بما أرسلتم به كافرون } .
وفي قوله تعالى : { فانتقمنا منهم } الآية وعيد لقريش وضرب مثل بمن سلف من الأمم المعذبة المكذبة بأنبيائها كما كذبت هي بمحمد عليه السلام .
وقرأ جمهور الناس : " أو لو جئتكم " وقرأ أبو جعفر وأبو شيخ وخالد : " أو لو جئناكم " . وقرأ الأعمش : " أو لو أتيتم " .
(6/68)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
المعنى : واذكر إذا قال إبراهيم ، ولما ضرب تعالى المثل لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنذر وجعلهم إسوة له ، خص إبراهيم بالذكر لعظم منزلته ، وذكر محمداً صلى الله عليه وسلم بمنابذة إبراهيم عليه السلام لقومه ، أي فافعل أنت فعله وتجلد جلده . و : { براء } صفة تجري على الواحد والاثنين والجميع كعدل وزور .
وقرأ جمهور الناس : " بَرَاء " بفتح الباء . وقرأت فرقة : " بُراء " بضم الباء . وفي مصحف عبد الله وقراءة الأعمش : " إني " بنون واحدة " برئ " قال الفراء : ومن الناس من يكتب شكل الهمزة المخففة ألفاً في كل موضع ، ولا يراعي حركة ما قبلها ، قال : فربما كان خط مصحف عبد الله بألف كما في مصحف الجماعة ، لكن كان يلفظ بها : " برئ " بكسر الراء .
وقوله : { إلا الذي فطرني } قالت فرقة : الاستثناء متصل ، وكانوا يعرفون الله ويعظمونه ، إلا أنهم كانوا يشركون معه أصنامهم ، فكأن إبراهيم قال لهم : أنا لا أوافقكم إلا على عبادة الله الفاطر . وقالت فرقة : الاستثناء منقطع ، والمعنى : لكن الذي فطرني معبودي ، وعلى هذا فلم يكونوا يعبدون الله إلا قليلاً ولا كثيراً ، وعلل إبراهيم لقومه عبادته بأنه الهادي المنجي من العذاب ، وفي هذا استدعاء لهم وترغيب في الله وتطميع برحمته ، والضمير في قوله : { وجعلها كلمة } قالت فرقة : ذلك عائد على كلمته بالتوحيد في قوله : { إنني براء } وقال مجاهد وقتادة والسدي ، ذلك مراد به : لا إله إلا الله ، وعاد الضمير عليها وإن كانت لم يجر لها ذكر ، لأن اللفظ يتضمنها . وقال ابن زيد : المراد بذلك : الإسلام ولفظته ، وذلك قوله عليه السلام : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } [ البقرة : 128 ] وقوله : { إذ قال له ربه أسلم ، قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وقول الله تعالى { هو سماكم المسلمين من قبل } [ الحج : 78 ] . والعقب : الذرية وولد الولد ما امتد فرعهم .
قوله عز وجل : { بل متعت } الآية ، كلام متصل بما قبله ، لأنه لما قال في عقبه ، وكانت قريش من عقبه ، اقتضى الكلام أن يقدر فيه لكن هؤلاء ليسوا ممن بقيت الكلمة فيهم بل متعتهم . والمعنى في الآية : بل أمهلت هؤلاء ومتعتهم بالنعمة مع كفرهم حتى جاءهم الحق والرسول ، وذلك هو شرع الإسلام والرسول : محمد عليه السلام .
و : " متعتُ " بضم التاء هي قراءة البجمهور . وقرأ قتادة : " متعتَ " بفتح التاء الأخيرة على معنى : قل يا رب متعت ، ورواها يعقوب عن نافع . وقرأ الأعمش : " بل متعنا " ، وهي تعضد قراءة الجمهور . و : { مبين } في هذه الآية يحتمل التعدي وترك التعدي .
ثم أخبر تعالى عنهم على جهة التقريع بأنهم { قالوا } للقرآن : { هذا سحر } وأنهم كفروا به ، وإنما جعلوه بزعمهم سحراً من حيث كان عندهم يفرق بين المرء وولده وزوجه ، فجعلوه لذلك كالسحر ، ولم ينظروا إلى الفرق في أن المفارق بالقرآن يفارق عن بصيرة في الدين ، والمفارق بالسحر يفارق عن خلل في ذهنه .
(6/69)

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
الضمير في { قالوا } لقريش ، وذلك أنهم استبعدوا أولاً أن يرسل الله بشراً ، فلما تقرر أمر موسى وعيسى وإبراهيم ولم يكن لهم في ذلك مدفع ، رجعوا يناقضون فيما يخض محمداً عليه السلام بعينه ، فقالوا : لم كان محمد ولم يكن نزول الشرع { على رجل } من إحدى الفرقتين { عظيم } ، وقدر المبرد قولهم على رجل من رجلين من القريتين ، والقريتان : مكة والطائف ، ورجل مكة الذي أشاروا إليه : قال ابن عباس وقتادة هو : الوليد بن المغيرة المخزومي . وقال مجاهد هو : عتبة بن ربيعة . وقال قتادة : بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه . ورجل الطائف قال قتادة هو : عروة بن مسعود . وقال ابن عباس : حبيب بن عبد بن عمير . وقال مجاهد : كنانة بن عبد ياليل .
قال القاضي أبو محمد : وإنما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسن والقدم ، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حينئذ أعظم من هؤلاء ، لكن لما عظم أولئك قبل مدة النبي وفي صباه استمر ذلك لهم .
ثم وقف على جهة التوبيخ لهم بقوله : { أهم يقسمون رحمة ربك } المعنى على اختيارهم وإرادتهم تنقسم الفضائل والمكانة عند الله . والرحمة : اسم يعم جميع هذا . ثم أخبر تعالى خبراً جازماً بأنه قاسم المعايش والدرجات في الدنيا ليسخر بعض الناس بعضاً ، المعنى فإذا كان اهتمامنا بهم أن نقسم هذا الحقير الفاني ، فأحرى أن نقسم الأهم الخطير .
وفي قوله تعالى : { نحن قسمنا بينهم معيشتهم } تزهيد في السعايات ، وعون على التوكل على الله تعالى ، ولله در القائل : [ الرجز ]
لما أتى نحن قسمنا بينهم زال المرا ... وقرأ الجمهور : " معيشتهم " . وقرأ ابن مسعود والأعمش : " معائشهم " .
وقرأ جمهور الناس " سُخرياً " بضم السين . وقرأ أبو رجاء وابن محيصن : " سِخرياً " بكسر السين ، وهما لغتان في معنى التسخير ، ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية .
وقوله تعالى : { ورحمة ربك خير مما يجمعون } قال قتادة والسدي : يعني الجنة .
قال القاضي أبو محمد : لا شك أن الجنة هي الغاية ، ورحمة الله في الدنيا بالهداية ، والإيمان خير من كل مال ، وهذا اللفظ تحقير للدنيا ، ثم استمر القول في تحقيرها بقوله : { ولولا أن يكون للناس } الآية ، وذلك أن معنى الآية : أن الله تعالى أبقى على عبيده وأنعم بمراعاة بقاء الخير والإيمان وشاء حفظه على طائفة منهم بقية الدهر ، ولولا كراهية أن يكون الناس كفاراً كلهم وأهل حب في الدنيا وتجرد لها لوسع على الكفار غاية التوسعة ومكنهم من الدنيا ، إذ حقارتهم عنده تقتضي ذلك ، لأنها لا قدر لها ولا وزن لفنائها وذهاب رسومها ، فقوله : { أمة واحدة } معناه : في الكفر ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي ، ومن هذا المعنى قول النبي عليه السلام :
(6/70)

" لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " ثم يتركب معنى الآية على معنى هذا الحديث . واللام في قوله : { لكن يكفر بالرحمن } لام الملك . واللام في قوله : { لبيوتهم } لام تخصيص ، كما تقول : هذا الكساء لزيد لدابته ، أي هو لدابته حلس ولزيد ملك . قال المهدوي : ودلت هذه الآية على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو ، إذ هو منسوب إلى البيوت ، وهذا تفقه واهن .
وقرأ جمهور القراء : " سقُفا " بضم السين والقاف . وقرأ مجاهد : " سَقْفاً " بضم السين وسكون القاف على الإفراد .
والمعارج : الأدراج التي يطلع عليها ، قاله ابن عباس وقتادة والناس . وقرأ طلحة : " معاريج " بزيادة ياء . و : { يظهرون } معناه يعلون ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها : والشمس في حجرتها لم تظهر . والسرر : جمع سرير .
واختلف الناس في الزخرف ، فقال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : الزخرف : الذهب نفسه وروي عن النبي عليه السلام أنه قال : " إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان " .
قال القاضي أبو محمد : الحسن أحمر ، والشهوات تتبعه .
وقال ابن زيد : الزخرف أثاث البيت وما يتخذ له من الستور والنمارق ونحوه . وقالت فرقة الزخرف : التزاويق والنقش ونحوه من التزيين وشاهد هذا القول : { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت } [ يونس : 24 ] .
وقرأ جمهور القراء : " وإن كل ذلك لمَا " بتخفيف الميم من " لمَا " ف " إنْ " مخففة من الثقيلة ، واللام في : " لمَا " داخلة لتفصل بين النفي والإيجاب . وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه ، والحسن وطلحة والأعمش وعيسى : " لمَّا متاع " بتشديد الميم من " لمّا " فإن " لمّا " نافية بمعنى ما . و { لما } : بمعنى : إلا ، وقد حكى سيبويه نشدتك الله لما فعلت ، وحمله على إلا . وفي مصحف أبي بن كعب : " وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا " . وقرأ أبو رجاء : " لِمَا " بكسر اللام وتخفيف ، الميم ، ف " ما " بمعنى الذي ، والعائد عليها محذوف ، والتقدير : وإن كل ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا .
وفي قوله تعالى : { والآخرة عند ربك للمتقين } وعد كريم وتحريض على التقوى ، إذ في الآخرة هو التباين في المنازل .
(6/71)

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
{ من } في قوله : { ومن يعش } شرطية ، وعشى يعشو ، معناه : قل الإبصار منه كالذي يعتري في الليل ، وكذلك هو الأعشى من الرجال ، ويقال أيضاً : عشى الرجل يعشي عشاء إذا فسد بصره فلم ير ، أو لم ير إلا قليلاً .
وقرأ قتادة ويحيى بن سلام البصري : " ومن يعشَ " بفتح الشين ، وهي من قولهم : عشى يعشي ، والأكثر عشى يعشو ، ومنه قول الشاعر [ الحطيئة ] : [ الطويل ]
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
وفي شعر آخر [ عبد الله بن الحر ] :
تجد حطباً جزلاً وجمراً تأججا ... وقرأ الأعمش : " ومن يعش عن الرحمن " ، وسقط : { ذكر } .
فالمعنى في الآية : ومن يقل نظره في شرع الله ويغمض جفونه عن النظر في ذكر الرحمن ، أي فيما ذكر به عباده ، فالمصدر إلى الفاعل ، { نقيض له شيطاناً } أي نيسر له ونعد ، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح ، وهذا كما يقال : إن الله يعاقب على المعصية بالتزيد في المعاصي ، ويجازي على الحسنة بالتزيد من الحسنات ، وقد روي هذا المعنى مرفوعاً .
وقرأ الجمهور : " نقيض " بالنون . وقرأ الأعمش : " يقيض " ، بالياء " شيطاناً " ، أي يقيض الله . وقرأ ابن عباس : " يُقيَّض له شيطانٌ " ، بفتح الياء الثانية وشدها ورفع النون من " شيطانٌ " .
والضمير في قوله : { وإنهم } عائد على الشياطين . وفي : { يصدونهم } على الكفار . و : { السبيل } هي سبيل الهدى والفوز . والضمير في : { يحسبون } للكفار .
وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وقتادة والزهري والجحدري : " حتى إذا جاءانا " على التثنية ، يريد العاشي والقرين ، قاله سعيد الجريري وقتادة . وقرأ أبو عمرو والحسن وابن محيصن والأعرج وعيسى والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي : " جاءنا " يريد العاشي وحده . وفاعل : { قال } هو العاشي .
وقوله : { بعد المشرقين } يحتمل ثلاثة معان ، أحدهما : أن يريد بعد المشرق من المغرب ، فسماهما مشرقين ، كما يقال : القمران والعمران ، قال الفرزدق :
لما قمراها والنجوم الطوالع ... والثاني : أن يريد مشرق الشمس في أطول يوم ، ومشرقها في أقصر يوم ، فكأنه أخذ نهايتي المشارق . والثالث : أن يريد { بعد المشرقين } من المغربين ، فاكتفى بذكر { المشرقين } .
وقوله تعالى : { ولن ينفعكم اليوم } الآية حكاية عن مقالة تقال لهم يوم القيامة ، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي ، لأنه يوقفهم بها على أنهم لا ينفعهم التأسي ، وذلك لعظم المصيبة وطول العذاب واستمرار مدته ، إذ التأسي راحة كل شيء في الدنيا في الأغلب ، ألا ترى إلى قول الخنساء : [ الوافر ]
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
فهذا التأسي قد كفاها مؤونة قتل النفس ، فنفى الله تعالى عنهم الانتفاع بالتأسي ، وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير ، وفاعل قوله : { ينفعكم } الاشتراك .
وقرأ جمهور القراء : " أنكم " بفتح الألف . وقرأ ابن عامر وحده : " إنكم " بكسر الألف ، وقد يجوز أن يكون الفاعل { ينفعكم } التبري الذي يدل عليه قوله : { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } وعلى هذا يكون " أنكم " في موضع نصب على المفعول من أجله ، وتخرج الآية على معنى نفي الأسوة .
(6/72)

أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
لما ذكر تعالى حال الكفرة في الآخرة وما يقال لهم وهم في العذاب ، اقتضى ذلك أن تشفق النفوس ، وأن ينظر كل سامع لنفسه ويسعى في خلاصها ، فلما كانت قريش مع هذا الذي سمعت لم تزل عن عتوها وإعراضها عن أمر الله ، رجعت المخاطبة إلى محمد عليه السلام على جهة التسلية له عنهم وشبههم ب { الصم } و { العمي } ، إذ كانت حواسهم لا تفيد شيئاً .
وقوله : { ومن كان في ضلال مبين } يريد بذلك قريشاً بأنفسهم ، ولذلك لم يقل : " من كان " بل جاء بالواو العاطفة ، كأنه يقول : وهؤلاء ، ويؤيد ذلك أيضاً عود الضمير عليهم في قوله : { فإنا منهم } ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله : { ومن كان } .
وقوله تعالى : { فإما نذهبن بك } الآية تتضمن وعيداً واقعاً ، وذهب جمهور العلماء إلى أن المتوعدين هم الكفار ، وأن الله تعالى أرى نبيه الذي توعدهم في بدر والفتح وغير ذلك ، وذهب الحسن وقتادة إلى أن المتوعدين هم في هذه الأمة ، وأن الله تعالى أكرم نبيه على أن ينتقم منهم بحضرته وفي حياته ، فوقعت النقمة منهم بعد أن ذهب به ، وذلك في الفتن الحادثة في صدر الإسلام مع الخوارج وغيرهم ، قال الحسن وقتادة : أكرم الله نبيه على أن يرى في أمته ما يكره كما رأى الأنبياء ، فكانت بعد ذهابه صلى الله عليه وسلم ، وقد روي حديث عن جابر بن عبد الله أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { فإنا منهم منتقمون } فقال : بعلي بن أبي طالب والقول الأول من توعد الكفار أكثر ، ثم أمر تعالى نبيه بالتمسك بما جاء من عند الله من الوحي المتلو وغيره . والصراط : الطريق .
وقرأ الجمهور : " أوحيَ " على بناء الفعل للمفعول . وقرأ الضحاك : " أوحى " على الفعل المبني للفاعل ، أي أوحى الله .
وقوله : { وإنه لذكر لك } يحتمل أن يريد وإنه لشرف وحمد في الدنيا . والقوم : على هذا قريش ثم العرب ، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن زيد . قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل ، فإذا قالوا له : فلمن يكون الأمر بعدك؟ سكت حتى نزلت هذه الآية ، فكان إذا سئل بعد ذلك ، قال لقريش ، فكانت العرب لا تقبل على ذلك حتى قبلته الأنصار وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " وروى أبو موسى الأشعري عنه صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الأمر في قريش ما زالوا ، إذ حكوا عدلوا ، وإذا استرحموا رحموا ، وإذا عاهدوا وفوا ، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " .
(6/73)

وروى معاوية أنه عليه السلام قال : " لا يزال هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدين " . ويحتمل أن يريد وإنه لتذكرة وموعظة ، ف " القوم " على هذا أمة بأجمعها ، وهذا قول الحسن بن أبي الحسن ، وقوله : { وسوف تسئلون } قال ابن عباس وغيره معناه : عن أوامر القرآن ونواهيه : وقال الحسن بن أبي الحسن معناه : عن شكر النعمة فيه ، واللفظ يحتمل هذا كله ويعمه .
واختلف المفسرون في المراد بالسؤال في قوله : { وسئل من أرسلنا } فقالت فرقة ، أراد : أن اسأل جبريل ، ذكر ذلك النقاش ، وفيه بعد . وقال ابن زيد وابن جبير والزهري ، أراد : واسأل الرسل إذا لقيتهم ليلة الإسراء ، أما أن النبي عليه السلام لم يسأل الرسل ليلة الإسراء عن هذا ، لأنه كان أثبت يقيناً من ذلك ولم يكن في شك . وقالت فرقة ، أراد : واسألني ، أو واسألنا عمن أرسلنا ، والأولى على هذا التأويل أن يكون : { من أرسلنا } استفهاماً أمره أن يسأل له ، كأن سؤاله : يا رب من أرسلت قبلي من رسلك؟ أجعلت في رسالته الأمر بآلهة يعبدون؟ ثم ساق السؤال محكي المعنى ، فرد المخاطبة إلى محمد عليه السلام في قوله : { من قبلك } . وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وعطاء ، أراد : وسل تباع من أرسلنا وحملة شرائعهم ، لأن المفهوم أنه لا سبيل إلى سؤاله الرسل إلا بالنظر في آثارهم وكتبهم وسؤال من حفظها .
وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب : " وسئل الذين أرسلنا إليهم رسلنا " ، فهذه القراءة تؤيد هذا المعنى ، وكذلك قوله : { وسئل القرية } [ يوسف : 82 ] مفهوم إنه لا يسأل إلا أهلها ، ومما ينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ النساء : 59 ] فمفهوم أن الرد إنما هو إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وأن المحاور في ذلك إنما هم تباعهم وحفظة الشرع .
وقوله : { يعبدون } أخرج ضميرهم على حد من يعقل مراعاة للفظ الآلهة .
(6/74)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
هذه آية ضرب مثل وإسوة لمحمد عليه السلام بموسى عليه السلام ولكفار قريش بفرعون { وملائه } . والآيات التي أرسل بها موسى وهي التسع المذكورة وغير ذلك مما جاءت به الروايات ، وخص الملأ بالذكر لأنهم يسدون مسد جميع الناس ، ثم وصفهم تعالى بالضحك من آيات موسى ، كما كانت قريش تضحك وتسخر من أخبار محمد عليه السلام ، ثم وصف تعالى صورة عرض الآيات عليهم وإنما كانت شيئاً بعد شيء .
وقوله : { إلا هي أكبر من أختها } عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه ، وذلك أن أول آية عرض موسى هي : العصا واليد ، وكانت أكبر آياته ، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندهم لحينها وتكبر ، لأنهم قد كانوا أنسوا التي قبلها ، فهذا كما قال الشاعر : [ الطويل ]
على أنها تعفو الكلومُ وإنما ... توكل بالأدنى وان جل ما يقضى
وذهب الطبري إلى أن الآيات هي الحجج والبينات . ثم ذكر تعالى أخذهم بالعذاب في العمل والضفادع والدم وغير ذلك ، وهذا كما أخذ قريش بالسنين والدخان .
وقوله : { لعلهم } ترج بحسب معتقد البشر وظنهم . و : { يرجعون } معناه : يتوبون ويقلعون .
وقوله تعالى : { وقالوا يا أيه الساحر } جائز أن يكون قائل ذلك من أعملهم بكفر السحر فيقول : قوله استهزاء وهو يعلم قدر السحر وانحطاط منزلته ، ويكون قوله : { عندك } بمعنى : في زعمك وعلى قولك ، ويحتمل أن يكون القائل ليس من المتمردين الحذاق ويطلق لفظة الساحر لأحد وجهين ، إما لأن السحر كان عند عامتهم علم الوقت ، فكأنه قال : يا أيه العالم ، وإما لأن هذه الاسمية قد كانت انطلقت عندهم على موسى لأول ظهورها ، فاستصحبها هذا القائل في مخاطبة قلة تحرير وغباوة ، ويكون القول على هذا التأويل جداً من القائل ، ويكون قوله : { إنا لمهتدون } بمعنى إن نفعتنا دعوتك ، وهذا التأويل أرجح ، أعني أن كلام هذا القائل مقترن بالجد .
وقرأ ابن عامر وحده : " يا أيُ " بياء مضمومة فقط .
ثم أخبر عنهم أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا ، ولو كان الكلام هزلاً من أوله لما وقع نكث .
(6/75)

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
نداء فرعون يحتمل أن يكون بلسانه في ناديه ، ويحتمل أن يكون بأن أمر من ينادي في الناس ، ومعنى هذه الحجة التي نادى بها أنه أراد أن يبين فضله على موسى ، إذ هو ملك مصر ، وصاحب الأنهار والنعم ، وموسى خامل متقل لا دنيا له ، قال : فلو أن إله موسى يكون حقاً كما يزعم ، لما ترك الأمر هكذا و : { مصر } من بحر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل . و : { الأنهار } التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل وعظمها نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ونهر طولون .
وقوله : { أم أنا خير } قال سيبويه : { أم } هذه المعادلة ، والمعنى : أم أنتم لا تبصرون ، فوضع موضع قوله : أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يبصر عنده ، وهو أنه خير من موسى . و " لا " على هذا النظر نافية . وقالت فرقة : { أفلا تبصرون } أم لا تبصرون ، ثم اقتصر على { أم } لدلالة ظاهر الكلام على المحذوف منه ، وابتدأ قوله : { أنا خير } إخباراً منه ، فقوله : { أفلا } على هذا النظر بمنزلة : هلا ولولا على معنى التخصيص . وقالت فرقة : { أ } بمعنى بل .
وقرأ بعض الناس : " أما أنا خير " ، حكاه الفراء ، وكان مجاهد يقف على { أم } ثم يبتدئ : { أنا خير } . قال قتادة : وفي مصحف أبي بن كعب : " أم أنا خير أم هذا " . و { مهين } معناه ضعيف وقوله : { ولا يكاد يبين } إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة ، وذلك أنها كانت أحدثت في لسانه عقدة ، فلما دعا في أن تحل ليفقه قوله ، أجيبت دعوته ، لكنه بقي أثر كان البيان يقع منه ، لكن فرعون عير به . وقوله : { ولا يكاد يبين } يقتضي أنه كان يبين .
وقرأ أبو جعفر بن علي : " يَبين " بفتح الياء الأولى .
وقوله : { فلولا ألقي عليه } يريد من السماء على معنى التكرمة .
وقراءة الجمهور : " أُلقي " على بناء الفعل للمفعول . وقرأ الضحاك : " أَلقَى " بفتح الهمزة والقاف على بنائه للفاعل " أساورة " نصباً .
وقرأ جمهور القراء : " أساورة " وقرأ حفص عن عاصم : " أسورة " ، وهي قراءة الحسن والأعرج وقتادة وأبي رجاء ومجاهد . وقرأ أبي بن كعب : " أساور " . وفي مصحف ابن مسعود : " أساوير " ، ويقال سوار وأسوار لما يجعل في الذراع من الحلي ، حكى أبو زيد اللغتين وأبو عمرو بن العلاء ، وهو كالقلب ، قاله ابن عباس ، وكانت عادة الرجال يومئذ حبس ذلك والتزيي به . و : { أساورة } جمع أسوار ، ويجوز أن يكون جمع أسورة ، كأسقية وأساقي ، وكذلك : أساور ، جمع أسوار . والهاء في : { أساورة } عوض من الياء المحذوفة ، لأن الجمع إنما هو أساوير كما في مصحف ابن مسعود ، فحذفوا الياء وجعلوا الهاء عوضاً منها ، كما فعلوا ذلك في زنادقة وبطارقة وغير ذلك ، وأساورة : جمع سوار .
(6/76)

وقوله : { مقترنين } أي يحمونه ويشهدون له ويقيمون حجته . ثم أخبر تعالى عن فرعون أنه استخف قومه بهذه المقالة ، أي طلب خفتهم وإجابتهم إلى غرضه ، فأجابوه إلى ذلك وأطاعوه في الكفر لفسقهم ولما كانوا بسبيله من الفساد . و : { آسفونا } معناه : أغضبونا بلا خلاف ، وإغضاب الله تعالى هو أن تعمل الأعمال الخبيثة التي تظهر من أجلها أفعاله الدالة على إرادة السوء بمن شاء . والغضب على هذا صفة فعل ، وهو مما يتردد ، فإذا كان بمعنى ما يظهر من الأفعال ، فهو صفة فعل ، وإذا رد إلى الإرادة فهو صفة ذات ، وفي هذا نظر .
وقرأ جمهور القراء : " سَلَفاً " بفتح السين واللام جمع سالف ، كحارس وحرس . والسلف : هو الفارط من الأمم المتقدم ، أي جعلناهم متقدمين للأمم الكافرة عظة ومثلاً لهم يعتبرون بهم ، أو يقعون فيما وقعوا فيه ، ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام : " يذهب الصالحون أسلافاً " ، وقوله في ولده إبراهيم : " ندفنه عند سلفنا الصالح عثمان بن مظعون " . وقرأ حميد الأعرج وحمزة والكسائي : " سُلُفاً " بضم السين واللام ، وهي قراءة عبد الله وأصحابه وسعد بن عياض وابن كثير ، وهو جمع : سليف . وذكر الطبري عن القاسم بن معن أنه سمع العرب تقول : مضى سلف من الناس ، بمعنى السلف . وقرأ علي بن أبي طالب وحميد الأعرج أيضاً : " سُلَفاً " بضم السين وفتح اللام ، كأنه جمع سلفة ، بمعنى الأمة والقطعة . والآخرون : هو من يأتي من البشر إلى يوم القيامة .
(6/77)

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
روي عن ابن عباس وغيره في تفسير هذه الآية ، أنه لما نزلت : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ، خلقه من تراب ثم قال له كن ، فيكون } [ آل عمران : 59 ] ونزل مع ذلك ذكر عيسى وحاله وكيف خلق من غير فحل ، قالت فرقة : ما يريد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى ، فهذا كان صدورهم من ضربه مثلاً .
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب : " يصُدون " بضم الصاد ، بمعنى : يعرضون . وقرأ الباقون وابن عباس وابن جبير والحسن وعكرمة : " يصِدون " بكسر الصاد ، بمعنى يضحكون ، وأنكر ابن عباس ضم الصاد ، ورويت عن علي بن أبي طالب ، وقال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل " يعرُشون ويعرِشون " .
وقوله تعالى : { آلهتنا } ابتداء معنى ثان ، وذلك أنه لما نزلت { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] جاء عبد الله بن الزعبري ونظراؤه فقالوا : نحن نخصم محمداً : آلهتنا خير أم عيسى؟ وعلموا أن الجواب أن يقال عيسى ، قالوا ، وهذه آية الحصب لنا أو لكل الأمم من الكفار فقال النبي عليه السلام : " بل لكل من تقدم أو تأخر من الكفار ، " فقالوا نحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى ، إذ هو خير منها ، وإذ قد عبد فهو من الحصب إذاً ، فقال : { ما ضربوه لك إلا جدلاً } أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا جدلاً منهم ومغالطة ، ونسوا أن عيسى لم يعبد برضى منه ولا عن إرادة ، ولا له في ذلك ذنب .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : " آءالهتنا " بهمزة استفهام وهمزة بعدها بين بين وألف بعدها . وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : بهمزتين مخففتين بعد الثانية ألف . وقرأ ورش عن نافع : بغير استفهام : " آلهتنا " على مثال الخبر . وقرأ قالون عن نافع : " ءالهتنا " على الاستفهام بهمزة واحدة بعدها مدة . وفي مصحف أبي بن كعب : " خير أم هذا " ، فالإشارة إلى محمد ، وخرجت هذه القراءة على التأويل الأول الذي فسرناه ، وكذلك قالت فرقة ممن قرأ : { أم هو } إن الإرادة محمد عليه السلام ، وهو قول قتادة . وقال ابن زيد والسدي المراد ب { هو } عيسى ، هذا هو المترجح .
والجدال عند العرب : المحاورة بمغالطة أو تحقيق أو ما اتفق من القول إنما المقصد به أن يغلب صاحبه في الظاهر إلا أن يتطلب الحق في نفسه ، وروى أبو أمامة عن النبي عليه السلام أنه قال : " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل " ثم قرأ : { ما ضربوه لك إلا جدلاً } قال أبو أمامة : ورأى عليه السلام قوماً يتنازعون ، فغضب حتى كأنما صب في وجهه الخل ، وقال :
(6/78)

" لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، فما ضل قوم إلا أوتوا الجدل " ثم أخبر تعالى عنهم أنهم أهل خصام ولدد ، وأخبر عن عيسى أنه عبد أنعم الله عليه بالنبوءة والمنزلة العالية ، وجعله مثلاً لبني إسرائيل .
وقوله تعالى : { ولو نشاء } الآية ، أي لا تستغربوا أن يخلق عيسى من غير فحل ، فإن القدرة تقضي ذلك وأكثر منه .
وقوله : { لجعلنا منكم } معناه : لجعلنا بدلاً منكم ، أي لو شاء الله لجعل بدلاً من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون بني آدم فيها . وقال مجاهد وابن عباس : يخلف بعضهم بعضاً . والضمير في قوله : { وإنه لعلم } قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد : الإشارة به إلى عيسى . وقالت فرقة : إلى محمد عليه السلام . وقال الحسن أيضاً وقتادة : إلى القرآن .
وقرأ جمهور الناس : " لعِلْم " بكسر العين وسكون اللام . وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة وأبو هند الغفاري ومجاهد وأبو نضرة ومالك بن دينار والضحاك : " لعَلَم " بفتح العين واللام ، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس : " لَلعلم " بلامين ، الأولى مفتوحة . وقرأ أبي بن كعب : " لذَكر للساعة " .
فمن قال إن الإشارة إلى عيسى حسن مع تأويله علم وعلم أي هو إشعار بالساعة وشرط من أشراطها ، يعني خروجه في آخر الزمان ، وكذلك من قال : الإشارة إلى محمد صلى الله عليه و سلم ، أي هو آخر الآنبياء ، فقد تميزت الساعة به نوعاً وقدراً من التمييز ، وبقي التحديد التام الذي انفرد الله بعلمه ، ومن قال : الإشارة إلى القرآن ، حسن قوله في قراءة من قرأ : " لعِلْم " بكسر العين وسكون اللام ، أي يعلمكم بها وبأهوالها وصفاتها ، وفي قراءة من قرأ : " لذكر " .
وقوله : { فلا تمترن } أي قل لهم يا محمد لا تشكون فيها . وقوله : { هذا صراط مستقيم } إشارة إلى الشرع ، ثم أمره بتحذير العباد من الشيطان وإغوائه ونبههم على عداوته .
(6/79)

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
" البينات " التي جاء بها عيسى عليه السلام هي : إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، إلى غير ذلك . وقال قتادة : الإنجيل . والحكمة : النبوءة قاله السدي وغيره .
وقوله : { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } قال أبو عبيدة : { بعض } بمعنى كل ، وهذا ضعيف ترده اللغة ، ولا حجة له من قول لبيد :
أو يعتلق بعض النفوس حمامها ... لأنه أراد نفسه ونفس من معه ، وذلك بعض النفوس ، وإنما المعنى الذي ذهب إليه الجمهور ، أن الاختلاف بين الناس هو في أمور كثيرة لا تحصى عدداً ، منها أمور أخروية ودينية ، ومنها ما لا مدخل له في الدين ، فكل نبي فإنما يبعث ليبين أمر الأديان والآخرة ، فذلك بعض ما يختلف فيه .
وقوله تعالى : { هذا صراط مستقيم } حكاية عن عيسى عليه السلام إذ أشار إلى شرعه . و : { الأحزاب } المذكورون : قال جمهور المفسرين أراد : اختلف بنو إسرائيل وتحزبوا ، فمنهم من آمن به ، وهو قليل ، وكفر الغير ، وهذا إذا كان معهم حاضراً . وقال قتادة : { الأحزاب } هم الأربعة الذين كان الرأي والمناظرة صرفت إليهم في أمر عيسى عليه السلام . وقال ابن حبيب وغيره : { الأحزاب } النصارى افترقت مذاهبهم فيه بعد رفعه عليه السلام ، فقالت فرقة : هو الله ، وهم اليعقوبية قال الله عز وجل : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة : 17 ] . وقالت فرقة : هو ابن الله ، وهم النسطورية قال الله تعالى فيهم : { وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وقالت فرقة : هو ثالث ثلاثة ، وهم الملكانية قال الله تعالى فيهم : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] .
وقوله تعالى : { من بينهم } بمعنى من تلقائهم ومن أنفسهم ثار شرهم ، ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم . والضمير في : { ينظرون } لقريش ، والمعنى : ينتظرون . و : { بغتة } معناه : فجأة دون مقدمة ولا إنذار بها .
ثم صرف تعالى بعض حال القيامة ، وإنها لهول مطلعها والخوف المطبق بالناس فيها يتعادى ويتباغض كل خليل كان في الدنيا على غير تقى ، لأنه يرى أن الضرر دخل عليه من قبل خليله ، وأما المتقون فيرون أن النفع دخل بهم من بعضهم على بعض ، هذا معنى كلام علي رضي الله عنه .
وقوله : { يا عبادي } المعنى يقال لهم ، أي للمتقين .
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : " يا عباديَ " بفتح الياء ، وهذا هو الأصل . وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر : " يا عبادي " بسكون الياء . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم " يا عباد " بحذف الياء . قال أبو علي : وحذفها أحسن ، لأنه في موضع تنوين وهي قد عاقبته ، فكما يحذف التنوين في الاسم المنادى المفرد ، كذلك تحذف الياء هنا لكونها على حرف ، كما أن التنوين كذلك ، ولأنها لا تنفصل من المضاف كما لا ينفصل التنوين من المنون .
وذكر الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال : سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع ، فينادي مناد : { لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } فيرجوها الناس كلهم ، قال فيتبعها . { الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين } [ الزخرف : 69 ] قال : فييأس منها جميع الكفار .
وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويعقوب : " لا خوفَ " بنصب الفاء من غير تنوين . وقرأ ابن محيصن برفع الفاء من غير تنوين .
(6/80)

الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
{ الذين } نعت للعباد في قوله تعالى : { يا عباد } [ الزخرف : 68 ] . ثم ذكر أمره إياهم بدخول الجنة هم وأزواجهم . و : { تحبرون } معناه : تنعمون وتسرون . والحبرة : السرور . والأكواب : ضرب من الأواني كالأباريق ، إلا أنها لا آذان لها ولا مقابض .
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة : " ما تشتهيه " بإثبات الهاء الأخيرة وكذلك في مصحف المدينة ومصاحف الشام ، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم والجمهور : " ما تشتهي " بحذف الهاء ، وكذلك وقع في أكثر المصاحف وحذفها من الصلة لطول القول حسن ، وكذلك كثر في التنزيل كقوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله } [ الفرقان : 41 ] وفي قوله : { وسلام على عباده الذين اصطفى } [ النمل : 58 ] وغير ذلك ، وفي مصحف ابن مسعود : " ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين " .
وقوله تعالى : { أورثتموها بما كنتم تعملون } ليس المعنى أن الأعمال أوجبت على الله إدخالهم الجنة ، وإنما المعنى : أن حظوظهم منها على قدر أعمالهم ، وأما نفس دخول الجنة وأن يكون من أهلها فبفضل الله وهداه .
(6/81)

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة وما يقال لهم ، عقب ذلك بذكر حال الكفرة من الخلود في النار ولتتضح الأمور التي منها النذارة ، والمجرمون في هذه الآية : الكفار ، بدليل الخلود وما تتضمنه الألفاظ من مخاطبة مالك وغيره . والملبس : المبعد اليائس من الخيرة ، قاله قتادة وغيره .
وقرأ ابن مسعود : " وهم مبلسون " أي في جهنم .
وقوله تعالى : { وما ظلمناهم } أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه ، ولكن هم ظلموا في أن وضعوا العبادة فيمن لا يستوجبها وضعفوا الكفر والتفريط في جنب الله تعالى .
وقرأ الجمهور : " كانوا هم الظالمين " على الفصل . وقرأ ابن مسعود : " هم الظالمون " على الابتداء والخبر ، وأن تكون الجملة خبر " كان " .
ثم ذكر تعالى عن أهل النار أنهم ينادون مالكاً خازن النار ، فيقولون على معنى الرغبة التي هي في صيغة الأمر { ليقض علينا ربك } أي ليمتنا مرة حتى يتكرر عذابنا .
وقرأ النبي عليه السلام على المنبر : " يا مالكٍ " بالكاف ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ ابن مسعود ويحيى والأعمش : " يا مال " بالترخيم ، ورويت عن علي بن أبي طالب ، ورواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والقضاء في هذه الآية بمعنى الموت ، كما قال تعالى : { فوكزه موسى فقضى عليه } [ القصص : 15 ] وروي في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أن مالكاً يقيم بعد سؤالهم ألف سنة ، وقال نوف : مائة سنة ، وقيل : ثمانين سنة . وقال عبد الله بن عمر : وأربعين سنة ، ثم حينئذ يقول لهم : { إنكم ماكثون } .
وقوله : { لقد جئناكم } الآية ، يحتمل أن يكون من قول مالك لأهل النار ، ويكون قوله : { جئناكم } ( على حد ما يدخل أحد جملة الرئيس كناية عن نفسه في فعل الرئيس فيقول غلبناكم وفعلنا بكم ونحو هذا ، ثم ينقطع كلام مالك في قوله : { كارهون } ويحتمل أن يكون قوله : { جئناكم } من قول الله تعالى لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك ، وفي هذا توعد وتخويف فصيح ، بمعنى انظروا كيف تكون حالكم ، ثم تتصل الآية على هذا بما بعدها من أمر قريش .
وقوله تعالى : { أم أبرموا أمراً } من أمور كفرهم وتدبيرهم على عهد محمد صلى الله عليه وسلم كما فعلوا في اجتماعهم على قتله في دار الندوة إلى غير ذلك ، و : { أم } في هذه الآية : المنقطعة .
وقوله : { فإنا مبرمون } أي فإنا محكمو نصره وحمايته . والإبرام : أن تجمع خيطين ثم تفتلهما فتلاً متقناً . والبريم : خيط فيه لونان .
وقوله تعالى : { أم يحسبون } الآية ، قال محمد بن كعب القرظي : نزلت لأن كثيراً من العرب كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يسمع السر ، ومنه حديث الثقفي والقرشيين الذين سمعهم ابن مسعود يقولون عند الكعبة : أترى الله يسمعنا؟ فقال أحدهم : يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا الحديث ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يسمع ، أي يدرك السر والنجوى ، وأن رسله الحفظة من الملائكة يكتبون أعمال البشر مع ذلك ، وتعد للجزاء يوم القيامة .
(6/82)

واختلف المفسرون في قوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين } فقالت فرقة : العابدون : هو من العبادة ، ثم اختلفوا في معنى الآية بعد ذلك ، فقال قتادة والسدي والطبري ، المعنى :
{ قل } لهم { إن كان للرحمن ولد } كما تقولون فأنا أول من يعبده على ذلك ، ولكن ليس به شيء من ذلك تعالى وجل . قال الطبري : فهذا الطاف في الخطاب ، ونحوه قوله : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] .
قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : في مخاطبة الكفار : { أين شركائي } [ النحل : 27 ، القصص : 62-72 ، فصلت : 47 ] .
وقال مجاهد المعنى : إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم . وقال قتادة أيضاً وزهير بن محمد وابن زيد : { إن } نافية بمعنى : ما ، فكأنه قال : ما كان للرحمن ولد . وهنا هو الوقف على هذا التأويل ، ثم يبتدئ قوله : { فأنا أول العابدين } قاله أبو حاتم . وقالت فرقة : العابدون في الآية : من عبد الرجل إذا أنف وأنكر الشيء ، ومنه قول الشاعر :
متى يشأ ذو الود يصرم خليله ... ويعبد عليه لا محالة ظالما
ومنه حديث عثمان وعلي في المرجومة حين قال علي : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } [ الأحقاف : 15 ] قال : فما عبد عثمان أن بعث إليها لترد . والمعنى : إن جعلتم للرحمن ولداً وكان ذلك في قولكم فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك .
وقرأ الجمهور : " وَلَد " بفتح الواو واللام . وقرأ ابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش : " وُلْد " بضم الواو وسكون اللام .
وقرأ أبو عبد الرحمن : " فأنا أول العابدين " وهي على هذا المعنى ، قال أبو حاتم : العبد بكسر الباء : الشديد الغضب . وقال أبو عبيدة معناه : أول الجاحدين ، والعرب تقول : عبدني حقي ، أي جحدني .
(6/83)

سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
لما قال تعالى : { فأنا أول العابدين } [ الزخرف : 81 ] نزه الرب تعالى عن هذه المقالة التي قالوها و : { سبحان } تنزيه . وخص { السماوات والأرض } و { العرش } لأنها عظم المخلوقات .
وقوله تعالى : { فذرهم يخوضوا } مهادنة ما وترك ، وهي مما نسخت بآية السيف وقرأ الجمهور " يلاقوا " وقرأ أبو جعفر وابن محيصن : " حتى يلقوا " . وقال جمهور اليوم الذي توعدهم به هو القيامة . وقال عكرمة وغيره : هو يوم بدر .
وقوله تعالى : { وهو الذي في السماء إله } الآية آية حكم بعظمته وإخبار بألوهيته ، أي هو النافذ أمره .
وقرأ عمر بن الخطاب وجابر بن زيد وأبو شيخ والحكم بن أبي العاصي وبلال بن أبي بردة وابن مسعود ويحيى بن يعمر وأبي بن كعب وابن السميفع : " وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله ، و : { الحكيم } المحكم . { وتبارك } تفاعل من البركة ، أي تزيدت بركاته . و : { السماوات والأرض وما بينهما } حصر لجميع الموجودات المحسوسات . و : { علم الساعة } معناه : علم تحديد قيامها والوقف على تعيينه ، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه ، وإلا فنحن عندنا علم الساعة ، أي إنها واقعة ، وإنها ذات أهوال وبصفات ما ، والمصدر في قوله : { علم الساعة } مضاف إلى المفعول .
وقرأ أكثر القراء : " وإليه يرجعون " بالياء من تحت . وقرأ نافع وأبو عمرو : " تُرجعون " بالتاء من فوق مضمومة .
(6/84)

وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قوله تعالى : { ولا يملك } الآية مخاطبة لمحمد عليه السلام . و : { الذين } هم المعبودون ، والضمير في : { يدعون } هو للكفار الذين عبدوا غير الله عز وجل ، فأعلم تعالى أن من عبد من دون الله فإنه لا يملك شفاعة عند الله يوم القيامة .
وقرأ الجمهور : " يدعون " بالياء من تحت . وقرأ ابن وثاب : " تدعون " ، بالتاء من فوق ، ثم استثنى تعالى من هذه الأخبار ، واختلف الناس في المستثنى ، فقال قتادة : استثنى ممن عبد من دون الله : عيسى وعزيراً والملائكة ، والمعنى فإنهم يملكون شفاعة ، بأن يملكها الله إياهم ، إذ هم ممن شهد بالحق وهم يعلمونه في كل أحوالهم ، فالاستثناء على هذا التأويل متصل وقال مجاهد وغيره : استثنى من في المشفوع فيهم ، فكأنه قال : لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق وهو يعلمه ، أي هو بالتوحيد ، فالاستثناء على هذا التأويل منفصل ، كأنه قال : لكن من يشهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء ، والتأويل الأول أصوب ، والله أعلم . ثم أظهر تعالى عليهم الحجة من أقوالهم وإقرارهم بأن الله هو خالقهم وموجدهم بعد العدم ، ثم وقفهم على جهة التقرير والتوبيخ بقوله : { فأنى يؤفكون } أي فلأي جهة يصرفون .
وقرأ جمهور القراء بالنصب ، وهو مصدر كالقول ، والضمير فيه لمحمد عليه السلام ، وحكى مكي قولاً أنه لعيسى وهو ضعيف ، واختلف الناس في الناصب ، فقالت فرقة هو معطوف على قوله : { سرهم ونجواهم } [ الزخرف : 80 ] . وقالت فرقة العامل فيه { يكتبون } [ الزخرف : 80 ] أي أقوالهم من أفعالهم . { وقيله } . وقالت فرقة : الناصب له ما في قوله : { وعنده علم الساعة } [ الزخرف : 85 ] من قوة الفعل ، أي ويعلم قيله ، ونزل قوله تعالى : { وقيله يا رب } بمنزلة وشكوى محمد واسغاثته من كفرهم وعتوهم . وقرأ عاصم وحمزة وابن وثاب والأعمش : و " قيلهِ " بالخفض عطفاً على { الساعة } [ الزخرف : 85 ] . وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد : " وقيلُه " بالرفع على الابتداء . وخبره في قوله : { يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } أي قيله هذا القول ، أو يكون التقدير : وقيله يا رب مسموع ومتقبل ، ف { يا رب } على هذا منصوب الموضع ب " قيله " وقرأ أبو قلابة : " يا ربَّ " بفتح الباء المشددة ، وأراد يا رب على لغة من يقول : يا غلاماً ، ثم حذف الألف تخفيفاً واتباعاً لخط المصحف .
وقوله : { فاصفح عنهم } موادعة منسوخة بآيات السيف .
وقوله : { سلام } تقديره : وقل أمري سلام ، أي مسالمة . ( وقالت فرقة ) المعنى : وقل سلام عليكم على جهة الموادعة والملاينة ، والنسخ قد أتى على هذا السلام ، فسواء كان تحية أو عبارة عن الموادعة .
وقرأ جمهور القراء : " يعلمون " بالياء . وقرأ نافع وابن عامر في رواية هشام عنه والحسن والأعرج وأبو جعفر : " تعلمون " بالتاء من فوق .
(6/85)

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
تقدم القول في : { حم } . وقوله : { والكتاب المبين } قسم أقسم الله تعالى به . و : { المبين } يحتمل أن يكون من الفعل المتعدي ، أي يبين الهدى والشرع ونحوه ، ويحتمل أن يكون من غير المتعدي ، أي هو مبين في نفسه .
وقوله تعالى : { إنا أنزلناه } يحتمل أن يقع القسم عليه ، ويحتمل أن يكون : { إنا أنزلناه } من وصف الكتاب فلا يحسن وقوع القسم عليه ، وهذا اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ويحسن القسم به ، ويكون الذي وقع القسم عليه : { إنا كنا منذرين } .
واختلف الناس في تعيين الليلة المباركة ، فقال قتادة والحسن : هي ليلة القدر ، وقالوا : إن كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان : التوراة في أوله ، والإنجيل في وسطه ، والزبور في نحو ذلك ونزل القرآن في آخره في ليلة القدر ، ومعنى هذا النزول : أن ابتداء النزول كان في ليلة القدر ، وهذا قول الجمهور . وقالت فرقة : بل أنزله الله جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور ، ومن هنالك كان جبريل يتلقاه . وقال عكرمة وغيره : الليلة المباركة هي النصف من شعبان .
وقوله : { فيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا } معناه : يفصل من غيره ويتخلص ، وروي عن عكرمة في تفسير هذه الآية أن الله تعالى يفصل للملائكة في ليلة النصف من شعبان ، وقال الحسن وعمير مولى غفرة ومجاهد وقتادة : في ليلة القدر كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير ذلك ، ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل . قال هلال بن يساف كان يقال : انتظروا القضاء من شهر رمضان . وروي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الرجل يتزوج ويعرس وقد خرج اسمه في الموتى ، لأن الآجال تقطع في شعبان " .
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش : " يَفرُق " بفتح الياء وضم الراء . و : { حكيم } بمعنى محكم .
وقوله : { أمراً من عندنا } نصب على المصدر . وقوله : { من عندنا } صفة لقوله : { أمراً } .
وقوله : { إنا كنا مرسلين } يحتمل أن يريد الرسل والأنبياء ، ويحتمل أن يريد الرحمة التي ذكر بعد ، وعلى التأويل الأول نصب قوله : { رحمة } على المصدر ، ويحتمل أن يكون نصبها على الحال .
وقوله : { إن كنتم موقنين } تقرير وتثبيت ، أي إن كنت موقناً بهذا يكون يقينك ، كما تقول لإنسان تقيم نفسه : العلم غرضك إن كنت رجلاً .
وقوله : { ربكم ورب آبائكم الأولين } أي مالككم ومالك آبائكم الأولين .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : " ربُّ السماوات " بالرفع على القطع والاستئناف ، وهي قراءة الأعرج وابن أبي إسحاق وأبي جعفر وشيبة . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالكسر على البدل { من ربك } المتقدم ، وهي قراءة ابن محيصن والأعمش . وأما قوله تعالى : " ربُّكم وربُّ " فالجمهور على رفع الباء .
(6/86)

وقرأ الحسن بالكسر ، رواها أبو موسى عن الكسائي .
وقوله تعالى : { بل هم في شك } إضراب قبله نفي مقدر ، كأنه يقول : ليس هؤلاء ممن يؤمن ولا ممن يتبع وصاة ، بل هم في شك يلعبون في أقوالهم وأعمالهم .
واختلف الناس في الدخان الذي أمر الله تعالى بارتقابه ، فقالت فرقة منها علي بن أبي طالب وزيد بن علي وابن عمر وابن عباس والحسن بن أبي الحسن وأبو سعيد الخدري : هو دخان يجيء قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين حتى تكون كأنها مصلية حنيذة . وقالت فرقة منها عبد الله بن مسعود وأبو العالية وإبراهيم النخعي : هو الدخان الذي رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف ، فكان الرجل يرى من الجدب والجوع دخاناً بينه وبين السماء ، وما يأتي من الآيات يقوي هذا التأويل . وقال ابن مسعود : خمس قد مضين ، الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم وذكر الطبري حديثاً عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول آيات الساعة الدخان ، ونزول عيسى ابن مريم ، ونار تخرج من قعر عدن " وضعف الطبري سند هذا الحديث ، واختار قول ابن مسعود رضي الله عنه في الدخان قال : ويحتمل إن صح حديث حذيفة أن يكون قد مر دخان ويأتي دخان .
(6/87)

يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
{ يغشى } معناه : يغطي .
وقوله تعالى : { هذا عذاب أليم } يحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى ، كأنه يعجب منه على نحو من قوله تعالى لما وصف قصة الذبح : { إن هذا لهو البلاء المبين } [ الصافات : 106 ] ، ويحتمل أن يكون { هذا عذاب أليم } من قول الناس ، كأن تقدير الكلام : يقولون هذا عذاب أليم ، ويؤيد هذا التأويل سياقه حكاية عنهم أنهم يقولون { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } ، وعلم الله تعالى أن قولهم في حال الشدة { إنا مؤمنون } إنما هو عن غير حقيقة منهم ، فدل على ذلك بقوله : { أنى لهم الذكرى } ، أي من أين لهم أن يتذكروا وهم قد تركوا الذكرى وراء ظهورهم بأن جاءهم رسول مبين ، وهو محمد عليه السلام فكفروا به . و { تولوا عنه } أي أعرضوا ، وقالوا إنه يعلم هذا الكلام الذي يتلو وأنه { مجنون } ، وإخباره تعالى بأنه يكشف عنهم { العذاب قليلاً } إخبار عن إقامة الحجة عليهم ومبالغة في الإملاء لهم ، ثم أخبرهم بأنهم عائدون إلى الكفر . وقال قتادة : هو توعد بمعاد الآخرة ، ثم أخبرهم بأنه ينتقم منهم بسبب هذا كله في يوم البطشة ، وقدم اليوم وذكره على الذي عمل فيه تهمماً به وتخويفاً منه ، والعامل فيه { منتقمون } ، وقد ضعف البصريون هذا من حيث هو خبر إن ، وأبعدوا أن يعمل خبرها فيما قبلها ، وقالوا العامل فعل مضمر يدل عليه { منتقمون } .
واختلف الناس في يوم { البطشة الكبرى } ، فقال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة : هو يوم القيامة وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس أيضاً وأبي بن كعب ومجاهد : هو يوم بدر .
وقرأ جمهور الناس : " نَبطِش " بفتح النون وكسر الطاء . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : بضم الطاء . وقرأ الحسن أيضاً وأبو رجاء وطلحة بن مصرف : بضم النون وكسر الطاء ، ومعناها : نسلط عليهم من يبطش بهم ، ثم ذكر تعالى قوم فرعون على جهة المثال لقريش .
و : { فتنا } معناه : امتحنا واختبرنا . والرسول الكريم : قال قتادة : هو موسى عليه السلام ، ومعنى الآية يعطي ذلك بلا خلاف وهنا متروك يدل عليه الظاهر ، تقديره قال لهم : { أدوا } هذا ، مأخوذ من الأداء ، كأنه يقول : أن ادفعوا إلي وأعطوني ومكنوني .
واختلف المتأولون في الشيء المؤدى في هذه الآية ما هو؟ فقال مجاهد وابن زيد وقتادة : طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل وإياهم أراد بقوله : { عباد الله } وقال ابن عباس المعنى : اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق ، فقوله : { عباد الله } منادى مضاف ، والمؤدى هي الطاعة والإيمان والأعمال .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر من شرع موسى عليه السلام أنه بعث إلى دعاء فرعون إلى الإيمان ، وأن يرسل بني إسرائيل ، فلما أبى أن يؤمن ، ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل ، وفي إرسالهم هو قوله : { أن أدوا إلى عباد الله } أي بني إسرائيل ، ويقوي ذلك قوله بعد : { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } [ الدخان : 21 ] ، وهذا قريب نص في أنه إنما يطلب بني إسرائيل فقط ، ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى : { فاسر بعبادي } فيظهر أنه إياهم أراد موسى بقوله : { عباد الله } وقوله : { رسول أمين } معناه على وحي الله تعالى أؤديه إلى عباده .
(6/88)

وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
المعنى كانت رسالته وقوله : { أن أدوا } [ الدخان : 18 ] { وأن تعلوا } وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو على الله تعالى وعلى شرعه وعلى رسوله .
وقرأ الجمهور : " إني آتيكم " بكسر الألف على الإخبار المؤكد ، والسلطان : الحجة ، فكأنه قال : لا تكفروا ، فإن الدليل المؤدي إلى الإيمان بيّن . وقرأت فرقة : " أني آتيكم " بفتح الألف . و " أن " في موضع نصب بمعنى : لا تكفروا من أجل أني آتيكم بسلطان مبين ، فكأن مقصد هذا الكلام التوبيخ ، كما تقول لإنسان : لا تغضب ، لأن الحق قيل لك .
وقوله : { وإني عذت } الآية ، كلام قاله موسى عليه السلام لخوف لحقه من فرعون وملئه و : { عذت } معناه : استجرت وتحرمت . وأدغم الدال في التاء الأعرج وأبو عمرو .
واختلف الناس في قوله : { أن ترجمون } فقال قتادة وغيره : أراد الرجم بالحجارة المؤدي إلى القتل . وقال ابن عباس وأبو صالح : أراد الرجم بالقول من السباب والمخالفة ونحوه ، والأول أظهر ، لأنه أعيذ منه ولم يعذ من الآخر ، بل قيل فيه عليه السلام وله .
وقوله : { تؤمنوا لي } بمعنى : تؤمنوا بي . والمعنى : تصدقوا . وقوله : { فاعتزلون } مشاركة صريحة . قال قتادة : أراد خلّوا سبيلي .
وقوله : { فدعا ربه } قبله محذوف من الكلام ، تقديره : فما كفوا عنه ، بل تطرقوا إليه وعتوا عليه وعلى دعوته { فدعا ربه } .
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى " إن هؤلاء " بكسر الألف من " إن " على معنى " قال إن " ، وقرأ جمهور الناس والحسن أيضاً : " أن هؤلاء " بفتح الألف ، والقراءتان حسنتان .
وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم ، وهنا أيضاً محذوف من الكلام تقديره : فقال الله له : { فاسر بعبادي } وهذا هو الأمر الذي أنفذه الله إلى موسى بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل ، وقد تقدم شرحه وقصصه في سورة الأنبياء وغيرها .
وقرأ جمهور الناس : " فاسر " موصولة الألف . وقرأ : " فأسر " بقطع الألف : الحسن وعيسى ، ورويت عن أبي عمرو . وأعلمه تعالى بأنهم { متبعون } ، أي يتبعهم فرعون وجنوده .
واختلف المفسرون في قوله تعالى : { واترك البحر رهواً } . متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة : هو كلام متصل { إنكم متبعون واترك البحر } إذا انفرق لك { رهواً } وقال قتادة وغيره : خوطب به بعد ما اجتاز البحر وخشي أن يدخل فرعون وقومه وراءه ، وأن يخرجوا من المسالك التي خرج منها بنو إسرائيل ، فهم موسى أن يضرب البحر عسى أن يلتئم ويرجع إلى حاله ، فقيل له عند ذلك : { واترك البحر رهواً } .
واختلفت عبارة المفسرين في تفسير الرهو ، فقال مجاهد وعكرمة معناه : يبساً من قوله تعالى : { فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً } [ طه : 77 ] . وقال الضحاك بن مزاحم معناه : دمثاً ليناً .
(6/89)

وقال عكرمة أيضاً : جرداً . وقال ابن زيد : سهلاً . وقال ابن عباس معناه : ساكناً ، أي كما جزته ، وهذا القول الأخير هو الذي تؤيده اللغة ، فإن العيش الواهي هو الذي هو في خفض ودعة وسكون ، حكاه المبرد وغيره . والرهو في اللغة هو هذا المعنى ، ومنه قول عمرو بن شييم القطامي :
يمشون رهواً فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
فإنما معناه : يمشون اتئاداً وسكوناً وتماهلاً . ومنه قول الآخر :
وأمة خرجت رهواً إلى عيد ... أي خرجوا في سكون وتماهل ، فقيل لموسى عليه السلام : اترك البحر ساكناً على حاله من الانفراق ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . والرهو : من أسماء الكركي الطائر ، ولا مدخل له في تفسير هذه الآية ، ويشبه عندي أن سمي رهواً لسكونه ، وأنه أبداً على تماهل .
وقوله : { كم تركوا } الآية ، قبله محذوف تقديره : فغرقوا وقطع الله دابرهم ، ثم أخذ يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة الغبيطة في الدنيا ، و : { كم } خبر للتكثير . والجنات والعيون : روي أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعاً من رشيد إلى أسوان . وأما العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها بالعيون ، ويحتمل أنه كانت ثم عيون ونضبت كما يعتري في كثير من بقاع الأرض .
وقرأ قتادة ومحمد بن السميفع اليماني ونافع في رواية خارجة عنه : " ومُقام " بضم الميم ، أي موضع إقامة . وكذلك قرأ اليماني في كل القرآن إلا في مريم { خير مقاماً } [ مريم : 73 ] فكأن المعنى : { كم تركوا } من موضع حسن كريم في قدره ونفعه . وقرأ جمهور الناس ونافع : " ومَقام " بفتح الميم ، أي موضع قيام ، فعلى هذه القراءة قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير : أراد المنابر . وعلى ضم الميم في : " مُقام " قال قتادة : أراد المواضع الحسان من المساكن وغيرها ، والقول بالمنابر بهي جداً .
والنَعمة بفتح النون : غضارة العيش ولذاذة الحياة ، والنِعمة بكسر النون أعم من هذا ، لأن النعمة بالفتح هي من جملة النعم بالكسر ، وقد تكون الأمراض والآلام والمصائب نعماً ، ولا يقال فيها نَعمة بالفتح . وقرأ أبو رجاء : " ونعمة " بالنصب .
وقرأ جمهور الناس : " فاكهين " بمعنى : ناعمين . والفاكه : الطيب النفس : أو يكون بمعنى أصحاب فاكهة كلابن وتامر . وقرأ أبو رجاء والحسن بخلاف عنه ، وابن القعقاع : " فكهين " ، ومعناه قريب من الأول ، لأن الفكه يستعمل كثيراً في المستخف المستهزئ ، فكأنه هنا يقول : كانوا في هذه النعمة مستخفين بشكرها والمعرفة بقدرها .
وقوله : { كذلك وأورثناها } معناه الأمر كذلك ، وسماها وراثة من حيث كانت أشياء أناس وصلت إلى قوم آخرين من بعد موت الأولين ، وهذه حقيقة الميراث في اللغة وربطها الشرع بالنسب وغيره من أسباب الميراث ، والآخرون من ملك مصر بعد القبط . وقال قتادة : القوم الآخرون ، هم بنو إسرائيل ، وهذا ضعيف ، لأنه لم يرو أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ولا ملكوها قط ، إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشام ، وقد ذكر الثعلبي عن الحسن أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون .
(6/90)

فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
نفت هذه الآية أن تكون السماء والأرض بكت على قوم فرعون ، فاقتضى أن للسماء والأرض بكاء . واختلف المتأولون في معنى ذلك فقال علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد وابن جبير : إن الرجل المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض موضع عبادته أربعين صباحاً ، وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله ، قالوا فلم يكن في قوم فرعون مَن هذه حاله ، فهذا معنى الآية . وقال السدي وعطاء : بكاء السماء : حمرة أطرافها . وقالوا إن السماء احمرت يوم قتل الحسين بن علي ، وكان ذلك بكاء عليه ، وهذا هو معنى الآية .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى الجيد في الآية أنها استعارة باهية فصيحة تتضمن تحقير أمرهم ، وأنهم لم يتغير عن هلاكهم شيء ، وهذا نحو قوله تعالى : { وإن كان مكرهم لتزول } [ إبراهيم : 46 ] على قراءة من قرأ " لِتزولَ " بكسر اللام ونصب الفعل وجعل { إن } [ إبراهيم : 46 ] نافية ، ومثل هذا المعنى قول النبي عليه السلام : " لا ينتطح فيها عنزان " فإنه يتضمن التحقير ، لكن هذه الألفاظ هي بحسب ما قيلت فيه ، وهو قتل المرأة الكافرة التي كانت تؤذي النبي عليه السلام . وعظم قصة فرعون وقومه يجيء بحسبها جمال الوصف وبهاء العبارة في قوله : { فما بكت عليهم السماء والأرض } ومن نحو هذا أن يعكس قول جرير : [ الكامل ]
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
فيقال في تحقير : مات فلان فما خشعت الجبال ، ونحو هذا ، وفي الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال : " ما مات مؤمن في غربة غاب عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض " ثم قرأ هذه الآية ، وقال : " إنهما لا يبكيان على كافر " . ومن التفخيم ببكاء المخلوقات العظام قول يزيد بن مفرغ [ مجزوء الكامل ] :
الريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه
وقول الفرزدق :
فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
و : { منظرين } معناه : مؤخرين وممهلين .
ثم ذكر تعالى نعمته على بني إسرائيل في أنجائهم من فرعون وقومه ، و { العذاب المهين } هو ذبح الأبناء والتسخير في المهن كالبنيان والحفر وغيره .
وفي قراءة ابن مسعود : " من عذاب المهين " ، بسقوط التعريف بالألف واللام من العذاب .
وقوله : { من فرعون } بدل من قوله : { من العذاب } . و : " مِن " بكسر الميم هي قراءة الجمهور . وروى قتادة أن ابن عباس كان يقرأها " مَن " بفتح الميم " فرعونُ " برفع النون .
وقوله : { على علم } أي على شيء سبق عندنا فيهم وثبت في علمنا أنه سينفذ . وقوله : { على العالمين } يريد على جميع الناس ، هذا على التأويل المتقدم في العلم . والمعنى : لقد اخترناها لهذا الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم وخصصناهم بذلك دون العالم ، ويحتمل قوله : { على علم } أن يكون معناه : على علم وفضائل فيهم ، والمعنى : اخترناهم للنبوءات والرسالات ، فيكون قوله : { على العالمين } في هذا التأويل ، معناه : على عالم زمانهم ، وذلك بدليل فضل أمة محمد لهم وعليهم ، وأن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس .
(6/91)

وقوله تعالى : { وآتيناهم من الآيات } لفظ جامع لمعجزات موسى وللعبر التي ظهرت في قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك ، ولما أنعم به على بني إسرائيل من تظليل الغمام والمن والسلوى وغير ذلك ، فإن لفظ { الآيات } يعم جميع هذا . والبلاء في هذا الموضع : الامتحان والاختبار ، وهذا كما قال تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } [ الأنبياء : 35 ] و : { مبين } بمعنى بين .
ثم ذكر تعالى قريشاً وحكى عنهم على جهة الإنكار لقولهم حين أنكروا فيه ما هو جائز في العقل فقال : { إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى } أي ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتتنا ، وما نحن بمبعوثين من القبور ، يقال أنشر الله الميت فنشر هو ، وقول قريش : { فأتوا } مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه من حيث كان النبي عليه السلام مسنداً في أقواله وأفعاله إلى الله تعالى وبواسطة ملك خاطبوه كما تخاطب الجماعة ، وهم يريدونه وربه وملائكته . واستدعاء الكفار في هذه الآية أن يحيي لهم بعض آبائهم وسموا قصياً لكي يسألوهم عما رأوا في آخرتهم ، ولم يستقص في هذه الآية الرد عليهم لبيانه ، ولأنه مبثوث في غير ما آية من كتاب الله ، فإن الله تعالى قد جزم البعث من القبور في أجل مسمى لا يتعداه أحد ، وقد بينت الأمثلة من الأرض الميتة وحال النبات أمر البعث من القبور .
(6/92)

أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
قوله تعالى : { أهم خير } الآية تقرير فيه وعيد ، و : { تبع } ملك حميري ، وكان يقال لكل ملك منهم : { تبع } ، إلا أن المشار إليه في هذه الآية رجل صالح من التبابعة . قال كعب الأحبار : ذم الله تعالى قومه ولم يذمه ، ونهى العلماء عن سبه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق سهل بن سعد : أن تبعاً هذا أسلم وآمن بالله ، وروي أن ذلك كان على يد أهل كتاب كانوا بحضرته . وقال ابن عباس : كان { تبع } نبياً . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أدري أكان { تبع } نبياً أم غير نبي؟ " . وقال ابن جبير : هو الذي كسا الكعبة ، وقد ذكره ابن إسحاق في السيرة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { إنهم كانوا مجرمين } يريد بالكفر . وقرأت فرقة : " أنهم " بفتح الألف . وقرأ الجمهور بكسرها .
وقوله تعالى : { وما خلقنا السماوات } الآية ، إخبار فيه تنبيه وتحذير . وقوله : { إلا بالحق } يريد بالواجب المقتضي للخيرات وفيض الهبات . و : { يوم الفصل } هو يوم القيامة ، وهذا هو الإخبار بالبعث ، وهو أمر جوزه العقل وأثبته الشرع بهذه الآية وغيرها . والمولى في هذه الآية : يعم جميع الموالي من القرابات وموالي العتق وموالي الصداقة .
وقوله : { ولا هم ينصرون } إن كان الضمير يراد به العالم ، فيصح أن يكون من قوله : { إلا من } في موضع نصب على الاستثناء المتصل ، وإن كان الضمير يراد به الكفار فالاستثناء منقطع ، ويصح أن يكون في موضع رفع علة الابتداء والخبر تقديره : فإنه يغني بعضهم عن بعض في الشفاعة ونحوها ، أو يكون تقديره : فإن الله ينصره .
وقوله تعالى : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } روي عن ابن زيد { الأثيم } المشار إليه : أبو جهل ، ثم هي بالمعنى تتناول كل أثيم ، وهو كل فاجر يكتسب الإثم ، وروي عن ابن زيد أن أبا الدرداء أقرأ أعرابياً فكان يقول : " طعام اليتيم " ، فرد عليه أبو الدرداء مراراً فلم يلقن ، فقال له : قل " طعام الفاجر " ، فقرئت كذلك ، وإنما هي على التفسير . و : { شجرة الزقوم } هي الشجرة الملعونة في القرآن ، وهي تنبت في أصل الجحيم ، وهي التي طلعها كأنه رؤوس الشياطين .
وروي أن أبا جهل لما نزلت هذه الآية فيه ، وأشار الناس بها إليه ، جمع عجوة بزبد ودعا إليها ناساً وقال لهم : " تزقموا ، فإن الزقوم هو عجوة يثرب بالزبد ، وهو طعامي الذي حدّث به محمد " ، وإنما قصد بذلك ضرباً من المغالطة والتلبيس على الجهلة .
(6/93)

كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما : " المهل " : دردي الزيت وعكره . وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً : " المهل " ما ذاب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص ونحوه . قال الحسن : كان ابن مسعود على بيت المال لعمر بالكوفة ، فأذاب يوماً فضة مكسرة ، فلما انماعت ، قال : يدخل من بالباب ، فدخلوا ، فقال لهم : هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمهل . والمعنى أن هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنم صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل السخن من الإحراق والإفساد .
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : " تغلي " بالتاء على معنى : تغلي الشجرة ، وهي قراءة عمرو بن ميمون وأبي رزين والحسن والأعرج وابن محيصن وطلحة . وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص : " يغلي " على معنى : يغلي الطعام ، وهي قراءة مجاهد وقتادة والحسن بخلاف عنه . و : { الحميم } : الماء الساخن الذي يتطاير من غليانه .
وقوله تعالى : { خذوه } الآية ، معناه : يقال يومئذ للملائكة عن هذا الأثيم { خذوه فاعتلوه } . والعتل : السَّوق بعنف وإهانة ودفع قوي متصل ، كما يساق أبداً مرتكب الجرائم ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : بضم التاء ، والباقون بكسرها ، وقد روي الضم عن أبي عمرو ، وكذلك روي الوجهان عن الحسن وقتادة والأعرج .
والسواء : الوسط ، وقيل المعظم وذلك متلازم في العظم أبداً من مثل هذا إنما هو في الوسط ، وفي الآية ما يقتضي أن الكافر يصب على رأسه من حميم جهنم ، وهو ما يغلى فيها من ذوب ، وهذا كما في قوله تعالى : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } [ الحج : 19 ] وإلى هذا نظر بعض ولاة المدينة فإنه كان يصب الخمر على رأس الذي شربها أو توجد عنده عقوبة له وأدباً ، ذكر ذلك ابن حبيب في الواضحة .
وقوله تعالى : { ذق ، إنك أنت العزيز الكريم } مخاطبة على معنى هذا التقريع ، ويروى عن قتادة أن أبا جهل لما نزلت : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } [ الدخان : 43-44 ] قال أيتهددني محمد وأنا ما بين جبليها أعزمني وأكرم ، فنزلت هذه الآيات ، وفي آخرها : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } أي على قولك ، وهذا كما قال جرير :
ألم يكن في وسوم قد وسمت بها ... من خان موعظة يا زهرة اليمن
يقولها للشاعر الذي سمى نفسه به ، وذلك في قوله :
أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأعز وأني زهرة اليمن
فجاء بيت جرير على هذا الهزء .
وقرأ الجمهور : " إنك " بكسر الهمزة . وقرأ الكسائي وحده : " أنك " بفتح الألف ، والمعنى واحد في المقصد وإن اختلف المؤخذ إليه ، وبالفتح قرأها على المنبر الحسين بن علي بن أبي طالب أسنده إليه الكسائي وأتبعه فيها .
(6/94)

وقوله تعالى : { إن هذا ما كنتم به تمترون } عبارة عن قول يقال للكفرة عند عذابهم ، أي هذه الآخرة وجهنم التي كنتم تشكون فيها . ثم ذكر تعالى حالة المتقين بعقب ذكر حالة الكافر ليبين الفرق .
وقرأ نافع وابن عامر : " في مُقام " بضم الميم ، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة وقتادة وعبد الله بن عمر بن الخطاب والحسن والأعرج . وقرأ الباقون : " في مَقام " بفتحها ، وهي قراءة أبي رجاء وعيسى ويحيى والأعمش .
و : { أمين } يؤمن فيه الغير ، فكأنه فعيل بمعنى مفعول ، أي مأمون فيه . وكسر عاصم العين من " عِيون " . قال أبو حاتم : وذلك مردود عند العلماء ، ومثله شيوخ وبيوت ، بكسر الشين والباء . والسندس : رقيق الحرير . والاستبرق : خشينه .
وقرأ ابن محيصن : " واستبرقَ " بالوصل وفتح القاف .
وقوله : { متقابلين } وصف لمجالس أهل الجنة ، لأن بعضهم لا يستدبر بعضاً في المجالس ، وقوله : { كذلك وزوجناهم } تقديره : والأمر كذلك .
وقرأ الجمهور : " عين " وهو جمع عيناء . وقرأ ابن مسعود : " عيس " ، وهو جمع عيساء ، وهي أيضاً البيضاء ، وكذلك هي من النوق . وقرأ عكرمة : " بحورِ عين " على ترك التنوين في " حور " وأضافها إلى " عين " . قال أبو الفتح : الإضافة هنا تفيد ما تفيد الصفة ، وروى أبو قرصافة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إخراج القمامة من المسجد من مهور الحور العين " .
وقوله تعالى : { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } معناه : يدعون الخدمة والمتصرفين .
وقوله تعالى : { إلا الموتة الأولى } قدر قوم { إلا } بسوى ، وضعف ذلك الطبري ، وقدرها ببعد ، وليس تضعيفه بصحيح ، بل يصح المعنى بسوى ويتسق ، وأما معنى الآية : فبين أنه نفى عنهم ذوق الموت ، وأنه لا ينالهم من غير ذلك ما تقدم في الدنيا ، والضمير في قوله : { يسرناه } عائد على القرآن . وقوله : { بلسانك } معناه بلغة العرب ولم يرد الجارحة .
وقوله : { فارتقب إنهم مرتقبون } معناه : { فارتقب } نصرنا لك ، { إنهم مرتقبون } فيما يظنون الدوائر عليك ، وفي هذه الآية وعد له ، ووعيد لهم ، وفيها متاركة ، وهذا وما جرى منسوخ بآية السيف .
(6/95)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور . و : { تنزيل } رفع بالابتداء أو على خبر ابتداء مضمر . و : { العزيز } معناه عام في شدة أخذه إذا انتقم ، ودفاعه إذا حمي ونصر وغير ذلك . و : { الحكيم } المحكم للأشياء .
وذكر تبارك الآيات التي في السماوات والأرض مجملة غير مفصلة ، فكأنها إحالة على غوامض تثيرها الفكر ، ويخبر بكثير منها الشرع ، فلذلك جعلها للمؤمنين ، إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق . ثم ذكر تعالى خلق البشر والحيوان ، وكأنه أغمض مما أحال عليه أولاً وأكثر تلخيصاً ، فجعله للموقنين الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين في معتقداتهم . ثم ذكر تعالى اختلاف الليل والنهار والعبرة بالمطر والرياح ، فجعل ذلك { لقوم يعقلون } ، إذ كل عاقل يحصل هذه ويفهم قدرها ، وإن كان هذا النظر ليس بلازم ولا بد فإن اللفظ يعطيه . و : { يبث } معناه : ينشر في الأرض . والدابة : كل حيوان يدب ، أو يمكن فيه أن يدب ، يدخل في ذلك الطير والحوت ، وشاهد الطير قول الشاعر : [ الطويل ]
صواعقها لطيرهن دبيب ... وقول الآخر : [ الطويل ]
دبيب قطا البطحاء في كل منهل ... وشاهد الحوت قول أبي موسى : و قد ألقى البحر دابة مثل الظرب ودواب البحر لفظ مشهور في اللغة .
وقرأ حمزة والكسائي : " آياتٍ " بالنصب في الموضعين الآخرين . وقرأ الباقون والجمهور : " آياتٌ " بالرفع فيهما ، فأما من قرأ بالنصب فحمل " آياتٍ " في الموضعين على نصب { إن } في قوله { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين } ولا يعرض في ذلك العطف على عاملين الذي لا يجيزه سيبويه وكثير من النحويين ، لأنا نقدر { في } معادة في قوله : { واختلاف } وكذلك هي في مصحف ابن مسعود : " وفي اختلاف " ، فكأنه قال على قراءة الجمهور : " وفي اختلاف الليل " ، وذلك أن ذكرها قد تقدم في قوله : { وفي خلقكم } فلما تقدم ذكر الجار جاز حذفه من الثاني ، ويقدر مثبتاً كما قدر سيبويه في قول الشاعر [ أبو دؤاد الأيادي ] : [ المتقارب ]
أكل امرئ تحسبين امرأً ... ونار توقد بالليل نارا
أي وكل نار ، وكما قال الآخر : [ الرجز ]
أوصيت من برة قلباً حرّا ... بالكلب خيراً والحماة شرّا
أي وبالحمأة ، وهذا الاعتراض كله إنما هو في { آيات } الثاني ، لأن الأول قبله حرف الجر ظاهر . وفي قراءة أبي بن كعب وابن مسعود في الثلاثة المواضع : " لآيات " . قال أبو علي : وهذا يدل على أن الكلام محمول على أن في قراءة من أسقط اللامات في الاثنين الآخرين ، وأما من رفع " آياتٌ " في الموضعين فوجهه العطف على موضع { إن } وما عملت فيه ، لأن موضعها رفع بالابتداء ، ووجه آخر وهو أن يكون قوله : { وفي خلقكم وما يبث } مستأنفاً ، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة ، وقال بعض الناس : يجوز أن يكون جملة في موضع الحال فلا تكون غريبة على هذا .
(6/96)

{ واختلاف الليل والنهار } إما بالنور والظلام ، وإما بكونهما خلفة . والرزق المنزل من السماء : هو المطر ، سماه رزقاً بمآله ، لأن جميع ما يرتزق فعن المطر هو . { وتصريف الرياح } هو بكونها صباً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وأيضاً فبكونها مرة رحمة ومرة عذاباً ، قاله قتادة ، وأيضاً بلينها وشدتها وبردها وحرها .
وقرأ طلحة وعيسى : " وتصريف الريح " بالإفراد ، وكذلك في جميع القرآن إلا ما كان فيه مبشرات وخالف عيسى في الحجر فقرأ : { الرياح لواقح } [ الحجر : 22 ] .
وقوله : { تلك آيات الله } إشارة إلى ما ذكر . وقوله : { نتلوها } فيه حذف مضاف ، أي يتلو شأنها وتفسيرها وشرح العبرة لها ، ويحتمل أن يريد ب { آيات الله } القرآن المنزل في هذه المعاني فلا يكون في { نتلوها } حذف مضاف . وقوله : { بالحق } معناه : بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها . وقوله : { فبأي حديث } الآية توبيخ وتقريع ، وفيه قوة التهديد .
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة : " يؤمنون " بالياء من تحت وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم أيضاً والأعمش " تؤمنون " بالتاء على مخاطبة الكفار . وقرأ طلحة بن مصرف : " توقنون " بالتاء من فوق من اليقين .
(6/97)

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
الويل في كلام العرب : المصائب والحزن والشدة من هذه المعاني ، وهي لفظة تستعمل في الدعاء على الإنسان . وروي في بعض الآثار أن في جهنم وادياً اسمه : { ويل } ، وذهب الطبري إلى أنه المراد بالآية ، ومقتضى اللغة أنه الدعاء على أهل الإفك والإثم بالمعاني المتقدمة . والأفاك : الكذاب الذي يقع منه الإفك مراراً . والأثيم : بناء مبالغة ، اسم فاعل من أثم يأثم .
وروي أن سبب هذه الآية أبو جهل ، وقيل النضر بن الحارث ، والصواب أن سببها ما كان المذكوران وغيرهما يفعل ، وأنها تعم كل من دخل تحت الأوصاف المذكورة إلى يوم القيامة : و : { يصر } معناه : يثبت على عقيدته من الكفر .
وقوله : { فبشره بعذاب } حسن ذلك لما أفصح عن العذاب ، ولو كانت البشارة غير مقيدة بشيء لما حصلت إلا على المحاب .
وقرأ جمهور الناس : " وإذا عَلِمَ " بفتح العين وتخفيف اللام ، والمعنى : وإذا أخبر بشيء { من آياتنا } فعلم نفس الخبر لا المعنى الذي تضمنه الخبر ولو علم المعاني التي تضمنها إخبار الشرع وعرف حقائقها لكان مؤمناً . وقرأ قتادة ومطر الوراق " عُلِّم " بضم العين وشد اللام .
وقوله : { أولئك } رد على لفظ كل أفاك ، لأنه اسم جنس له الصفات المذكورة بعد قوله : { من ورائهم جهنم } قال فيه بعض المفسرين معناه : من أمامهم ، وهذا نحو الخلاف الذي في قوله تعالى : { وكان وراءهم ملك } [ الكهف : 79 ] ولحظ قائل هذه المقالة الأمر من حيث تأول أن الإنسان كأنه من عمره يسير إلى جنة أو نار ، فهما أمامه ، وليس لفظ الوراء في اللغة كذلك ، وإنما هو ما يأتي خلف الإنسان ، وإذا اعتبر الأمر بالتقدم أو التأخر في الوجود ، على أن الزمان كالطريق للأشياء استقام الأمر ، فما يأتي بعد الشيء في الزمان فهو وراءه ، فكأن الملك وأخذه السفينة وراء ركوب أولئك إياها ، وجهنم وإحراقها للكفرة يأتي بعد كفرهم وأفعالهم ، وهذا كما تقول : افعل كذا وأنا من ورائك عضداً ، وكما تقول ذلك على التهديد ، أنا من وراء التقصي عليك ، ونحو هذا . وقوله تعالى : { ولا ما اتخذوا } يعني بذلك الأوثان .
وقوله تعالى : { هذا هدى } إشارة إلى القرآن .
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص : " أليمٌ " على النعت ل { عذاب } وهي قراءة ابن محيصن وابن مصرف وأهل مكة . وقرأ الباقون : " أليمٍ " على النعت ل { رجز } وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وشيبة وعيسى والأعمش . والرجز : أشد العذاب .
وقوله : { لهم عذاب } بمنزلة قولك : لهم حظ ، فمن هذه الجهة ومن جهة تغاير اللفظتين حسن قوله : { عذاب من رجز } إذ الرجز هو العذاب .
(6/98)

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
هذه آية عبرة في جريان السفينة في البحر ، وذلك أن الله تعالى سخر هذا المخلوق العظيم لهذا المخلوق الحقير الضعيف .
وقوله : { بأمره } أقام القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر والناس بذلك . والابتغاء من فضل الله : هو بالتجارة في الأغلب ، وكذلك مقاصد البر من حج أو جهاد هي أيضاً ابتغاء فضل ، والتصير فيه هو ابتغاء فضل . وتسخير { ما في السماوات } : هو تسخير الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء والملائكة الموكلة بهذا كله ، ويروى أن بعض الأحبار نزل به ضيف فقدم إليه رغيفاً ، فكأن الضيف احتقره فقال له المضيف : لا تحتقره فإنه لم يستدر حتى تسخر فيه من المخلوقات والملائكة ثلاثمائة وستون بين ما ذكرنا من مخلوقات السماء وبين الملائكة وبين صناع بني آدم الموصلين إلى استدارة الرغيف ، وتسخير ما في الأرض هو تسخير البهائم والمياه والأودية والجبال وغير ذلك . ومعنى قوله : { جميعاً منه } قال ابن عباس : كل إنعام فهو من الله تعالى .
وقرأ جمهور الناس : " منه " وهو وقف جيد . وقرأ مسلمة بن محارب : " مَنُّه " بفتح الميم وشد النون المضمومة بتقدير : هو منه . وقرأ ابن عباس : بكسر الميم وفتح النون المشددة ونصب التاء على المصدر . قال أبو حاتم : سند هذه القراءة إلى ابن عباس مظلم ، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير . وقرأ مسلمة بن محارب أيضاً : " مِنةٌ " بكسر الميم وبالرفع في التاء .
وقوله تعالى : { قل للذين آمنوا يغفروا } الآية ، آية نزلت في صدر الإسلام ، أمر الله المؤمنين فيها أن يتجاوزوا عن الكفار وأن لا يعاقبوهم بذنب ، بل يأخذون أنفسهم بالصبر ، قاله محمد بن كعب القرظي والسدي . قال أكثر الناس : وهذه آية منسوخة بآية القتال وقالت فرقة : الآية محكمة ، والآية تتضمن الغفران عموماً ، فينبغي أن يقال : إن الأمور العظام كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك قد نسخ غفرانه آية السيف والجزية وما أحكمه الشرع لا محالة ، وإن الأمور المحقرة كالجفاء في القول ونحو ذلك يحتمل أن يتقى محكمه ، وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى . وقال ابن عباس لما نزلت : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] قال فنحاص اليهودي . احتاج رب محمد ، فأخذ عمر سيفه ومر ليقتله ، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " إن ربك يقول : { قل للذين آمنوا } " الآية ، فهذا احتجاج بها مع قدم نزولها . وقد ذكر مكي وغيره أنها نزلت بمكة في عمر رضي الله عنه لما أراد أن يبطش بمشرك شتمه . وأما الجزم في قوله : { يغفروا } فهو جواب شرط مقدر تقديره : قل اغفروا فإن يجيبوا يغفروا .
(6/99)

وأخصر عندي من هذا أن { قل } هي بمثابة : أندب المؤمنين إلى الغفر .
وقوله : { أيام الله } قالت فرقة معناه : أيام إنعامه ونصره وتنعيمه في الجنة وغير ذلك ، ف { يرجون } على هذا هو من بابه . وقال مجاهد : { أيام الله } تعالى هي أيام نقمه وعذابه ، ف { يرجون } على هذا هي التي تتنزل منزلة يخافون ، وإنما تنزلت منزلتها من حيث الرجاء والخوف متلازمان لا تجد أحدهما إلا والآخر معه مقترن ، وقد تقدم شرح هذا غير مرة ، وقرأ جمهور القراء " ليجزي " بالياء على معنى : ليجزي الله . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والأعمش وأبو عبد الرحمن وابن وثاب : " لنجزي " بالنون . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بخلاف عنه " ليُجزَى " على بناء الفعل للمفعول " قوماً " ، وهذا على أن يكون التقدير : ليجزي الجزاء قوماً ، وباقي الآية وعيد .
(6/100)

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
لما تقرر في التي قبل هذه أن الله يجزي قوماً بكسبهم ويعاقبهم بذنوبهم واجترامهم ، أكد ذلك بقوله تعالى : { من عمل صالحاً فلنفسه } .
وقوله : { فلنفسه } هي لام الحظ ، لأن الحظوظ والمحاب إنما يستعمل فيها اللام التي هي كلام الملك ، تقول الأمور لزيد متأتية ، وتستعمل في ضد ذلك على ، فتقول : الأمور على فلان مستصعبة ، وتقول : لزيد مال وعليه دين ، وكذلك جاء العمل الصالح في هذه الآية باللام والإشارة ب " على " .
وقوله تعالى : { ثم إلى ربكم ترجعون } معناه إلى قضائه وحكمه ، و { الكتاب } في قوله : { آتينا بني إسرائيل الكتاب } هو التوراة . { والحكم } هو السنة والفقه ، فيقال إنه لم يتسع فقه الأحكام على لسان نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام : { والنبوءة } هي ما تكرر فيهم من الأنبياء .
وقوله تعالى : { ورزقناهم من الطيبات } يعني المستلذات الحلال ، وبهذين تتم النعمة ويحسن تعديدها ، وهذه إشارة إلى المن والسلوى ، وطيبات الشام بعد ، إذ هي الأرض المباركة ، وقد تقدم القول في معنى { الطيبات } ، وتلخيص قول مالك والشافعي في ذلك .
وقوله تعالى : { على العالمين } يريد على عالم زمانهم . والبينات من الأمر : هو الوحي الذي فصلت لهم به الأمور .
ثم أوضح تعالى خطأهم وعظمه بقوله : { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } وذلك أنهم لو اختلفوا اجتهاداً في طلب صواب لكان لهم عذر في الاختلاف ، وإنما اختلفوا بغياً وقد تبينوا الحقائق ، ثم توعدهم تعالى بوقف أمرهم على قضائه بينهم يوم القيامة .
(6/101)

ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
المعنى : { ثم جعلناك على شريعة } ، فلا محالة أنه سيختلف عليك كما تقدم لبني إسرائيل فاتبع شريعتك ، والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ومنه قول الشاعر : [ البسيط ] .
وفي الشرائع من جلان مقتنص ... رث الثياب خفيّ الشخص منسرب
فشريعة الدين هي من ذلك ، كأنها من حيث يرد الناس أمر الحدود ورحمته والقرب منه . وقال قتادة : الشريعة : الفرائض والحدود والأمر والنهي .
وقوله : { من الأمر } يحتمل أن يكون واحد الأمور أي من دون الله ونبواته التي بثها في سالف الزمان ، ويحتمل أن يكون مصدراً من أمر يأمر ، أي على شريعة من الأوامر والنواهي ، فسمى جميع ذلك أمراً . و { الذين لا يعلمون } هم الكفار الذين كانوا يريدون صرف محمد صلى الله عليه وسلم إلى إرادتهم . و : { يغنوا } من الغناء ، أي لن يكون لهم عنك دفاع . ثم حقر تعالى شأن الظالمين مشيراً بذلك إلى كفار قريش ، ووجه التحقير أنه قال : هؤلاء يتولى بعضهم بعضاً ، والمتقون يتولاهم الله ، فخرجوا عن ولاية الله وتبرأت منهم ، ووكلهم الله بعضهم إلى بعض .
وقوله تعالى : { هذا بصائر } يريد القرآن . والبصائر جمع بصيرة ، وهي المعتقد الوثيق في الشيء ، كأنه مصدر من إبصار القلب ، فالقرآن فيه بيانات ينبغي أن تكون بصائر . والبصيرة في كلام العرب : الطريقة من الدم ، ومنه قول الشاعر يصف جده في طلق الثأر وتواني غيره : [ الكامل ]
راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأى
وفسر الناس هذا البيت بطريقة الدم إذ كانت عادة طالب الدم عندهم أن يجعل طريقة من دم خلف ظهره ليعلم بذلك أنه لم يدرك ثأره وأنه يطلبه ، ويظهر فيه أنه يريد بصيرة القلب ، أي قد اطرح هؤلاء بصائرهم وراء ظهورهم .
وقوله تعالى : { أم حسب } الآية قول يقتضي أنه نزل بسبب افتخار كان للكفار على المؤمنين قالوا لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن عليكم فيها كما فضلنا في الدنيا . و : { أم } هذه ليست بمعادلة ، وهي بمعنى بل مع ألف الاستفهام . و : { اجترحوا } معناه : اكتسبوا ، ومنه جوارح الإنسان ، ومنه الجوارح في الصيد ، وتقول العرب : فلان جارحة أهله ، أي كاسبهم .
وقرأ أكثر القراء : " سواءٌ " بالرفع " محياهم ومماتُهم " بالرفع ، وهذا على أن " سواءٌ " رفع بالابتداء " ومحياهم ومماتُهم " خبره . و : { كالذين } في موضع المفعول الثاني ل " نجعل " ، وهذا على أحد معنيين : إما أن يكون الضمير في { محياهم } يختص بالكفار المجترحين ، فتكون الجملة خبراً عن أن حالهم في الزمنين حال سوء . والمعنى الثاني : أن يكون الضمير في { محياهم } يعم الفريقين ، والمعنى : أن محيا هؤلاء ومماتهم سواء ، وهو كريم ، ومحيا الكفار ومماتهم سواء ، وهو غير كريم ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى وذهن السامع يفرقه ، إذ تقدم أبعاد أن يجعل الله هؤلاء كهؤلاء .
(6/102)

قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً ، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مقتضى هذا الكلام أن لفظ الآية خبر ، ويظهر لي أن قوله : { سواء محياهم ومماتهم } داخل في المحسبة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال ، والأول أيضاً جيد .
وقرأ طلحة وعيسى بخلاف عنه : " سواءً " بالنصب ، " محياهم ومماتُهم " بالرفع ، وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون قوله : { كالذين } في موضع المفعول الثاني ل " جعل " كما هو في قراءة الرفع ، وينصب قوله : " سواءً " على الحال من الضمير في : { نجعلهم } . والوجه الثاني أن يكون قوله : { كالذين } في نية التأخير ، ويكون قوله : " سواءً " مفعولاً ثانياً ل " جعل " ، وعلى كلا الوجهين : " محياهم ومماتُهم " مرتفع ب " سواء " على أنه فاعل . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش " سواءً " بالنصب " محياهم ومماتَهم " بالنصب وذلك على الظرف أو على أن يكون " محياهم " بدلاً من الضمير في : { نجعلهم } أي نجعل محياهم ومماتهم سواء ، وهذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال أهل التقوى ، وهي موقف للعارفين فيكون عنده فيه ، وروي عن الربيع بن خيثم أنه كان يردها ليلة جمعاء ، وكذلك عن الفضيل بن عياض ، وكان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ، وقال الثعلبي : كانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين .
قال القاضي أبو محمد : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر بدليل معادلته بالإيمان ، ويحتمل أن تكون المعادلة بن الاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا ما بكى الخائفون رضوان الله عليهم ، وإما مفعولاً { حسب } فقولهم { أن نجعلهم } يسد مسد المفعولين . وقوله : { ساء ما يحكمون } ، { ما } مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم .
(6/103)

وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
{ وخلق الله السماوات والأرض بالحق } معناه : بأن خلقها حق واجب متأكد في نفسه لما فيه من فيض الخيرات ولتدل عليه ولتكون صنعة حاكمة لصانع وقيل لبعض الحكماء : لم خلق الله السماوات والأرض؟ قال ليظهر جوده . واللام في قوله : { لتجزى } يظهر أن تكون لام كي ، فكأن الجزاء من أسباب خلق السماوات ، ويحتمل أن تكون لام الصيرورة أي صار الأمر فيها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون لأن يجازى كل أحد بعلمه وبما اكتسب من خير أو شر .
وقوله تعالى : { أفرأيت } سهل بعض القراء الهمزة وخففها قوم ، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود مخففة ، وفي مصحف أبي بن كعب : " أفرايت " دون همز . وهذه الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم عن المعرضين عن الإيمان ، أي لا تعجل بهم ولا تهتم بأمرهم ، فليس فيهم حيلة لبشر ، لأن الله تعالى أضلهم . وقال ابن جبير : قوله : { إلهه هواه } إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة . وقال قتادة المعنى : لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، لا يخاف الله ، وهذا كما يقال : الهوى إله معبود .
وقرأ الأعرج وابن جبير : " آلهة هواه " على التأنيث في " آلهة " .
وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة ، قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلا ذمة . وقال الشعبي : سمي هوى لهويه بصاحبه . وقال النبي عليه السلام : " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " وقال سهل التستري : هواك دوؤك ، فإن خالفته فدواؤك . وقال سهل : إذا شككت في خير أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . ومن حكمة الشعر في هذا قول القائل :
إذا أنت لم تعص الهوى قادك ال ... هوى إلى كل ما فيه عليك مقال
وقوله تعالى : { على علم } قال ابن عباس المعنى : على علم من الله تعالى سابق . وقالت فرقة : أي على علم من هذا الضال بأن الحق هو الذي يترك ويعرض عنه ، فتكون الآية على هذا من آيات العناد من نحو قوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل : 14 ] وعلى كلا التأويلين : ف { على علم } ، حال .
وقوله تعالى : { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } استعارت كلها ، إذ هو الضال لا ينفعه ما يسمع ولا ما يفهم ولا ما يرى ، فكأنه بهذه الأوصاف المذكورة ، وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها ، لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله : { اتخذ } وفي قوله : { على علم } على التأويل الأخير فيه ، ولو لم ينص على الاكتساب لكان مراداً في المعنى .
وقرأ أكثر القراء " غِشاوة " بكسر الغين . وقرأ عبد الله بن مسعود : " غَشاوة " بفتح الغين وهي لغة ربيعة ، وحكي عن الحسن وعكرمة : " غُشاوة " بضم الغين وهي لغة عكل ، وقرأ حمزة والكسائي : " غَشْوة " بفتح الغين وإسكان الشين .
(6/104)

و قرأ الأعمش وابن مصرف بكسر الغين دون ألف .
وقوله : { من بعد الله } فيه حذف مضاف تقديره : من بعد إضلال الله إياه .
وقرأ عاصم وأراه الجحدري : " تذكرون " بتخفيف الذال . وقرأ جمهور الناس : " تذّكرون " على الخطاب أيضاً بتشديد الذال . وقرأ الأعمش : " تتذكرون " بتاءين .
وقوله تعالى : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا } الآية حكاية مقالة بعض قريش ، وهذه صنيفة دهرية من كفار العرب . ومعنى قولهم : ما في الوجود إلا هذه الحياة التي نحن فيها وليست ثم آخرة ولا بعث .
واختلف المفسرون في معنى قولهم : { نموت ونحيا } فقالت فرقة المعنى : نحن موتى قبل أن نوجد ، ثم نحيا في وقت وجودنا . وقالت فرقة : المعنى : { نموت } حين نحن نطف ودم ، ثم { نحيا } بالأرواح فينا ، وهذا قول قريب من الأول ، ويسقط على القولين ذكر الموت المعروف الذي هو خروج الروح من الجسد ، وهو الأهم في الذكر . وقالت فرقة المعنى نحيا ونموت ، فوقع في اللفظ تقديم وتأخير . وقالت فرقة : الغرض من اللفظ العبارة عن حال النوع ، فكأن النوع بجملته يقول : إنما نحن تموت طائفة وتحيا طائفة دأباً .
وقولهم : { وما يهلكنا إلا الدهر } أي طول الزمان هو الملهك ، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها ، فنفى الله تعالى علمهم بهذا وأعلم انها ظنون وتخرص تفضي بهم إلى الإشراك بالله تعالى . و { الدهر } والزمان تستعمله الغرب بمعنى واحد . وفي قراءة ابن مسعود : " وما يهلكنا إلا دهر يمر " . وقال مجاهد : { الدهر } هنا الزمان ، وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال : " كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار " ، ويفارق هذا الاستعمال قول النبي عليه السلام : " لا تسبوا الدهر ، فإن الله تعالى هو الدهر " وفي حديث آخر : " قال الله تعالى يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار " ومعنى هذا الحديث : فإن الله تعالى يفعل ما تنسبونه إلى الدهر وتسبونه بسبه . وإذا تأملت مثالات هذا في الكلام ظهرت إن شاء الله تعالى .
(6/105)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
الضمير في : { عليهم } عائد على كفار قريش . والآيات : هي آيات القرآن وحروفه بقرينة قوله : { تتلى } وعابت هذه الآية سوء مقاولتهم ، وأنهم جعلوا بدل الحجة التمني المتشطط والطلب لما قد حتم الله أن لا يكون إلا إلى أجل مسمى .
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد ، وعاصم فيما روى هارون وحسين عن أبي بكر عنه " حجتُهم " بالرفع على اسم { كان } والخبر في { أن } . وقرأ جمهور الناس " حجتَهم " بالنصب على مقدم واسم { كان } في { أن } .
وكان بعض قريش قد قال : أحي لنا قصياً فإنه كان شيخ صدق حتى نسأله ، إلى غير ذلك من هذا النحو ، فنزلت الآية في ذلك ، وقالوا لمحمد عليه السلام : { ائتوا } من حيث المخاطبة له ، والمراد هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكر هولهم ، فجاء من ذلك جملة قيل لها { ائتوا } و { إن كنتم } .
ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بالحال السالفة في علم الله التي لا تبدل ، وهي أنه يحيي الخلق ويميتهم بعد ذلك ويحشرهم بعد إماتتهم { إلى يوم القيامة } .
وقوله : { لا ريب فيه } أي في نفسه وذاته . والأكثر الذي لا يعلم هم الكفار والأكثر هنا على بابه .
وقوله تعالى : { ويوم تقوم الساعة } قالت فرقة : العامل في : { يوم } قوله : { يخسر } وجاء قوله : { يومئذ } بدلاً مؤكداً . وقالت فرقة : العامل في : { يوم } فعل يدل عليه الملك ، وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست بالسماء ولا بالأرض ، لأن ذلك يتبدل ، فكأنه قال : { ولله ملك السماوات والأرض } والملك يوم القيامة ، وينفرد { يخسر } بالعمل في قوله : { يومئذ } و : { المبطلون } الداخلون في الباطل .
وقوله تعالى : { وترى كل أمة جاثية كل أمة } وصف حال القيامة وهولها . والأمة : الجماعة العظيمة من الناس التي قد جمعها معنى أو وصف شامل لها . وقال مجاهد : الأمة : الواحد من الناس ، وهذا قلق في اللغة ، وإن قيل في إبراهيم عليه السلام أمة ، وقالها النبي عليه السلام في قس بن ساعدة فذلك تجوز على جهة التشريف والتشبيه . و : { جاثية } معناه على الركب ، قاله مجاهد والضحاك ، وهي هيئة المذنب الخائف المعظم ، وفي الحديث : " فجثا عمر على ركبتيه " . وقال سلمان : في القيامة ساعة قدر عشر سنين يخر الجميع فيها جثاة على الركب .
وقرأ جمهور الناس : " كلُّ أمة " بالرفع على الابتداء . وقرأ يعقوب الحضرمي : " كلَّ أمة تدعى " بالنصب على البدل من " كل " الأولى ، إذ في " كل " الثانية إيضاح موجب الجثو . وقرأ الأعمش : " وترى كل أمة جاثية تدعى " بإسقاط { كل أمة } الثاني .
واختلف المتأولون في قوله : { إلى كتابها } فقالت فرقة : أراد { إلى كتابها } المنزل عليها فتحاكم إليه هل وافقته أو خالفته .
(6/106)

وقالت فرقة : أراد { إلى كتابها } الذي كتبته الحفظة على كل واحد من الأمة ، فباجتماع ذلك قيل له { كتابها } ، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره : يقال لهم اليوم تجزون .
وقوله تعالى : { هذا كتابنا } يحتمل أن تكون الإشارة إلى الكتب المنزلة أو إلى اللوح المحفوظ ، قال مجاهد ومقاتل : يشهد بما سبق فيه من سعادة أو شقاء ، أو تكون الكتب الحفظة وقال ابن قتيبة هي إلى القرآن .
واختلف الناس في قوله تعالى : { نستنسخ } فقالت فرقة معناه : نكتب وحقيقة النسخ وإن كانت أن تنقل خط من أصل ينظر فيه ، فإن أعمال العباد هي في هذا التأويل كالأصل ، فالمعنى : إنا كنا نقيد كل ما عملتم . قال الحسن : هو كتب الحفظة على بني آدم . وروى ابن عباس وغيره حديثاً أن الله تعالى يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس فينقل من الصحف التي رفع الحفظة كل ما هو معد أن يكون عليه ثواب أوعقاب ويلغى الباقي . قالت هذه الفرقة : فهذا هو النسخ من أصل . وقال ابن عباس أيضاً : معنى الآية أن الله تعالى يجعل الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد ثم يمسكونه عندهم ، فتأتي أفعال العباد علىنحو ذلك فتقيد أيضاً ، فذلك هو الاستنساخ . . وكان ابن عباس يقول : ألستم عرباً؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل .
(6/107)

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)
ذكر الله تعالى حال الطائفتين من المؤمنين والكافرين ، وقرن بينهم في الذكر ليبين الأمر في نفس السامع ، فإن الأشياء تتبين بذكر أضدادها ، و { الفوز } : هو نيل البغية .
وقوله تعالى : { وأما الذين كفروا أفلم تكن } فإن التقدير { وأما الذين كفروا } فيقال لهم { أفلم تكن } ، فحذف يقال اختصاراً وبقيت الفاء دالة على الجواب الذي تطلبه { أما } ، ثم قدم عليها ألف الاستفهام من حيث له صدر القول على كل حالة ووقف الله تعالى الكفار على الاستكبار لأنه من شر الخلال .
وقرأ حمزة وحده : " والساعةَ " بالنصب عطفاً على قوله : { وعد الله } ورويت عن أبي عمرو وعيسى والأعمش . وقرأ ابن مسعود : " حق وأن الساعة لا ريب فيها " ، وكذلك قرأ أيضاً الأعمش . وقرأ الباقون : " والساعةُ " رفعاً ، ولذلك وجهان : أحدهما الابتداء والاستئناف ، والآخر العطف على موضع { إن } وما عملت فيه ، لأن التقدير : وعد الله حق ، قاله أبو علي في الحجة . وقال بعض النحاة : لا يعطف على موضع { إن } ، إلا إذا كان العامل الذي عطلته { إن } باقياً ، وكذلك هي على موضع الباء في قوله : فلسنا بالجبال ولا الحديج ، فلما كانت ليس باقية ، جاز العطف على الموضع قبل دخول الباء ، ويظهر نحو هذا النظر من كتاب سيبويه ، ولكن قد ذكرنا ما حكى أبو علي وهو القدوة .
وقولهم : { إن نظن إلا ظناً } معناه : { إن نظن } بعد قبول خبركم { إلا ظناً } وليس يعطينا خبراً .
وقوله تعالى : { وبدا لهم } الآية حكاية حال يوم القيامة . { وحاق } معناه : نزل وأحاط وهي مستعملة في المكروه ، وفي قوله : { ما كانوا } حذف مضاف تقديره : جزاء ما كانوا ، أي عقاب كونهم { يستهزئون } .
(6/108)

وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{ ننساكم } معناه : نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا ، فلم يقع منكم استعداد له ولا تأهب ، فسميت العقوبة في هذه الآية باسم الذنب . والمأوى : الموضع الذي يسكنه الإنسان ويكون فيه عامة أوقاته أو كلها أجمع . و : { آيات الله } لفظ جامع لآيات القرآن وللأدلة التي نصبها الله تعالى لينظر فيها العباد .
وقرأ أكثر القراء : " لا يُخرَجون " بضم الياء المنقوطة من تحت وفتح الراء . وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش والحسن : " يَخرُجون " بإسناد الفعل إليهم بفتح الياء وضم الراء . و : { يستعتبون } تطلب منهم مراجعة إلى عمل صالح .
وقوله تعالى : { فلله الحمد } إلى آخر السورة ، تحميد لله تعالى وتحقيق لألوهيته ، وفي ذلك كسر لأمر الأصنام والأنصاب .
وقراءة الناس : " ربِّ " بالخفض في الثلاثة على الصفة . وقرأ ابن محيصن : بالرفع فيها على معنى هو ربُّ .
و : { الكبرياء } بناء مبالغة ، وفي الحديث : يقول الله تعالى : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني منهما شيئاً قصمته .
(6/109)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
تقدم القول في الحروف المقطعة التي في أوائل السور . و { تنزيل } رفع بالابتداء أو خبر ابتداء مضمر . و : { الكتاب } القرآن . والعزة والإحكام : صفتان مقتضيتان أن من هي له غالب كل من حادّه .
وقوله : { ما خلقنا السماوات } الآية موعظة وزجر ، أي فانتبهوا أيها الناس وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم . وقوله تعالى : { إلا بالحق } معناه بالواجب الحسن الذي قد حق أن يكون ، وب { أجل مسمى } : وقتناه وجعلناه موعداً لفساد هذه البنية وذلك هو يوم القيامة . وقوله تعالى : { عما أُنذروا } " ما " مصدرية ، والمعنى عن الإنذار ، ويحتمل أن تكون " ما " بمعنى الذي ، والتقدير : عن ذكر الذي أنذروا به والتحفظ منه أو نحو هذا .
وقوله تعالى : { قل أرأيتم } يحتمل { أرأيتم } وجهين : أحدهما أن تكون متعدية ، و { ما } مفعولة بها ، ويحتمل أن تكون منبهة لا تتعدى ، وتكون { ما } استفهاماً على معنى التوبيخ . و { تدعون } معناه : تعبدون . قال الفراء : وفي قراءة عبد الله بن مسعود : " قل أرأيتكم من تدعون " . وقوله : { من الأرض } ، { من } ، للتبعيض ، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض .
ثم وقفهم على السماوات هل لهم فيها شرك ، ثم استدعى منهم كتاباً منزلاً قبل القرآن يتضمن عبادة صنم .
وقوله : { أو أثارة } معناه : أو بقية قديمة من علم أحد العلماء يقتضي عبادة الأصنام . وقرأ جمهور الناس : " أو أثارة " على المصدر ، كالشجاعة والسماحة ، وهي البقية من الشيء كأنها أثره .
وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى من علم تستخرجونه فتثيرونه . وقال مجاهد : المعنى هل من أحد يأثر علماً في ذلك . وقال القرظي : هو الإسناد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى : [ السريع ]
إن الذي فيه تماريتما ... بَيِّنٌ للسامع والآثِر
آثراً أي للسند عن غيره ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : فما خلفنا بها ذاكراً ولا آثراً . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة : المعنى وخاصة من علم ، فاشتقاقها من الأثرة ، كأنها قد آثر الله بها من هي عنده ، وقال عبد الله بن العباس : المراد ب " الأثارة " : الخط في التراب ، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر ، وهذا من البقية والأثر ، وروي أن النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال : " كان نبي من الأنبياء يخطه ، فمن وافق خطه فذاك " وظاهر الحديث تقوية أمر الخط في التراب ، وأنه شيء له وجه إذا وفق أحد إليه ، وهكذا تأوله كثير من العلماء . وقالت فرقة : بل معناه الإنكار ، أي أنه كان من فعل نبي قد ذهب ، وذهب الوحي إليه والإلهام في ذلك ، ثم قال : فمن وافق خطه على جهة الإبعاد ، أي أن ذلك لا يمكن ممن ليس بنبي ميسر لذلك ، وهذا كما يسألك أحد فيقول : أيطير الإنسان؟ فتقول : إنما يطير الطائر ، فمن كان له من الناس جناحان طار ، أي أن ذلك لا يكون .
(6/110)

والأثارة تستعمل في بقية الشرف فيقال : لبني فلان أثارة من شرف ، إذا كانت عندهم شواهد قديمة ، وتستعمل في غير ذلك ، ومنه قول الراعي : [ الوافر ]
وذات أثارة أكلت عليه ... نباتاً في أكمتها قصارى
يريد : الأثارة من الشحم ، أي البقية وقرأ عبد الرحمن السلمي فيما حكى الطبري : " أو أَثَرَة " بفتح الهمزة والثاء والراء دون ألف ، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وقتادة وعكرمة وعمرو بن ميمون والأعمش ، وهي واحدة جمعها : أثر كقترة وقتر . وحكى الثعلبي أن عكرمة قرأ : " أو ميراث من علم " . وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي فيما حكى أبو الفتح بسكون الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر ، أي قد قنعت لكم الحجة بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم . وقرأت فرقة : " أُثْرة " بضم الهمزة وسكون الثاء ، وهذه كلها بمعنى : هل عندكم شيء خصكم الله به من علم وآثركم به .
وقوله تعالى : { ومن أضل } الآية توبيخ لعبدة الأصنام ، أي لا أحد أضل ممن هذه صبغته ، وجاءت الكنايات في هذه الآية عن الأصنام كما تجيء عمن يعقل ، وذلك أن الكفار قد أنزلوها منزلة الآلهة وبالمحل الذي دونه البشر ، فخوطبوا على نحو معتقدهم فيها ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " ما لا يستجيب " . والضمير في قوله : { ومن هم عن دعائهم غافلون } هو للأصنام في قول جماعة ، ووصف الأصنام بالغفلة من حيث عاملهم معاملة من يعقل ، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله : { وهم } وفي : { غافلون } للكفار ، أي ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب فلا يتأملون ما عليهم في دعاء من هذه صفته .
وقوله تعالى : { كانوا لهم أعداء } وصف لما يكون يوم القيامة بين الكفار وأصنامهم من التبري والمناكرة ، وقد بين ذلك في غير هذه الآية . وذلك قوله تعالى حكاية عنهم : { تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } [ القصص : 63 ] .
(6/111)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
الآيات المذكورة هي آيات القرآن ، بدليل قوله : { تتلى } وبقول الكفار : { هذا سحر } وإنما قالوا ذلك عن القرآن من حيث قالوا : هو يفرق بين المرء وبين ولده ، وبينه وبين زوجه ، إلى نحو هذا مما يوجد مثله للسحر بالوجه الأخس .
وقوله تعالى : { أم يقولون افتراه } ، { أم } مقطوعة مقدرة ب { بل } وألف الاستفهام . و : { افتراه } معناه : اشتقه واختلقه ، فأمره الله تعالى أن يقول : { إن افتريته } فالله حسبي في ذلك ، وهو كان يعاقبني ولا يمهلني . ثم رجع القول إلى الاستسلام إلى الله تعالى والاستنصار به عليهم وانتظار ما يقتضيه علمه { بما يفيضون فيه } من الباطل ومرادة الحق ، وذلك يقتضي معاقبتهم ، ففي اللفظة تهديد . والضمير في قوله : { فيه } يحتمل أن يعود على القرآن ، ويحتمل العودة على { بما } . والضمير في : { به } عائد على الله تعالى . و : { به } في موضع رفع ، وأفاض الرجل في الحديث والسب ونحوه : إذا خاض فيه واستمر .
وقوله : { وهو الغفور الرحيم } ترجية واستدعاء إلى التوبة ، لأنه في خلال تهديده إياهم بالله تعالى جاءت هاتان الصفتان . ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم بأنه لم يكن { بدعاً من الرسل } ، أي قد جاء غيري قبلي ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة . والبدع والبديع من الأشياء ما لم ير مثله ، ومنه قول ترجمة عدي بن زيد : [ الطويل ]
فما أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً عرت من بعد بؤسى وأسعد
وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة وأبو حيوة : " بدَعاً " بفتح الدال . قال أبو الفتح ، التقدير : ذا بدع فحذف المضاف كما قال [ النابغة الجعدي ] : [ المقارب ]
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
واختلف الناس في قوله : { ما أدري ما يفعل بي ولا بكم } ، فقال ابن عباس وأنس بن مالك والحسن وقتادة وعكرمة : معناه : في الآخرة ، وكان هذا في صدر الإسلام ، ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة ، وبأن الكافرين في نار جهنم ، والحديث الذي وقع في جنازة عثمان بن مظعون يؤيده هذا وهو قوله : " فوالله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " ، وفي بعض الرواية : " به " ، ولا حجة في الحديث على رواية " به " ، والمعنى عندي في هذا القول أنه لم تكشف له الخاتمة فقال لا أدري؟ وأما ان من وافى على الإيمان فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة وإلا فكان للكفار أن يقولوا : وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة ، وقال الحسن أيضاً وجماعة . معنى الآية : { ما أدري ما يفعل بي ولا بكم } في الدنيا من أن أنصر عليكم أو من أن تمكنوا مني ، ونحو هذا من المعنى .
(6/112)

وقالت فرقة : معنى الآية : { ما يفعل بي ولا بكم } من الأوامر والنواهي وما تلزم الشريعة من أعراضها . وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : نزلت الآية في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب ، وروي عن ابن عباس أنه لما تأخر خروج النبي عليه السلام من مكة حين رأى في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وسبخة ، قلق المسلمون لتأخر ذلك ، فنزلت هذه الآية .
وقوله : { إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ } معناه : الاستسلام والتبري من علم المغيبات والوقوف مع النذارة من عذاب الله عز وجل .
(6/113)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
هذه الآية توقيف على الخطر العظيم الذي هم بسبيله في أن يكذبوا بأمر نافع لهم منج من العذاب دون حجة ولا دليل لهم على التكذيب ، فالمعنى كيف حالكم مع الله ، وماذا تنتظرون منه وأنتم قد كفرتم بما جاء من عنده ، وجواب هذا التوقيف محذوف تقديره : أليس قد ظلمتم ، ودل على هذا المقدار قوله تعالى : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } و : { أرأيتم } في هذه الآية يحتمل أن تكون منبهة ، فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولاً ، ويحتمل أن تكون الجملة { كان } وما عملت فيه تسد مسد مفعوليها .
واختلف الناس في المراد ب { الشاهد } فقال الحسن ومجاهد وابن سيرين : هذه الآية مدنية ، والشاهد عبد الله بن سلام . وقوله : { على مثله } الضمير فيه عائد على قول محمد عليه السلام في القرآن أنه من عند الله . وقال الشعبي : الشاهد رجل من بني إسرائيل غير عبد الله بن سلام كان بمكة ، والآية مكية وقال سعد بن أبي وقاص ومجاهد وفرقة : الآية مكية ، والشاهد عبد الله بن سلام ، وهي من الآيات التي تضمنت غيباً أبرزه الوجود ، وقد روي عن عبد الله بن سلام أنه قال : فيَّ نزلت . وقال مسروق بن الأجدع والجمهور : الشاهد موسى بن عمران عليه السلام ، والآية مكية ، ورجحه الطبري .
وقوله : { على مثله } يريد بالمثل : التوراة ، والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن ، أي جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله وشهد أنه من عند الله تعالى .
وقوله : { فآمن } على هذا التأويل ، يعني به تصديق موسى بأمر محمد وتبشيره به ، فذلك إيمان به ، وأما من قال : الشاهد عبد الله بن سلام ، فإيمانه بين ، وكذلك إيمان الإسرائيلي الذي كان بمكة في قول من قاله ، وحكى بعضهم أن الفاعل ب " آمن " ، هو محمد عليه السلام ، وهذا من القائلين بأن الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام ، وإنما اضطر إلى هذا لأنه لم ير وجه إيمان موسى عليه السلام ، ثم قرر تعالى استكبارهم وكفرهم بإيمان هذا المذكور ، فبان ذنبهم وخطؤهم .
وقوله تعالى : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } قال قتادة : هي مقالة قريش ، يريدون عماراً وصهيباً وبلالاً ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي عليه السلام . وقال الزجاج والكلبي وغيره : هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة ، قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة . وقال الثعلبي : هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم . والإفك : الكذب ، ووصفوه بالقدم ، بمعنى أنه في أمور متقادمة ، وهذا كما تقول لرجل حدثك عن أخبار كسرى وقيصر ، هذا حديث قديم ، ويحتمل أن يريدوا أنه إفك قيل قديماً .
(6/114)

وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
الضمير في قوله : { ومن قبله } للقرآن ، و : { كتاب موسى } هو التوراة . وقرأ الكلبي : " كتابَ موسى " بنصب الباء على إضمار أنزل الله أو نحو ذلك . والإمام : خيط البناء ، وكل ما يهتدي ويقتدى به فهو إمام . ونصب { إماماً } على الحال ، { ورحمة } عطف على إمام ، والإشارة بقوله : { وهذا كتاب } إلى القرآن . و : { مصدق } معناه للتوراة التي تضمنت خبره وأمر محمد ، فجاء هو مصدقاً لذلك الإخبار ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " مصدق لما بين يديه لساناً " ، واختلف الناس في نصب قوله : { لساناً } فقالت فرقة من النحاة ، هو منصوب على الحال ، وقالت فرقة : { لساناً } توطئة مؤكدة . و : { عربياً } حال ، وقالت فرقة : { لساناً } مفعول ب { مصدق } ، والمراد على هذا القول باللسان : محمد رسول الله ولسانه ، فكان القرآن بإعجازه وأحواله البارعة يصدق الذي جاء به ، وهذا قول صحيح المعنى جيد وغيره مما قدمناه متجه .
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير فيما روي عنه ، وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو رجاء والناس : " لتنذر " بالتاء ، أي أنت يا محمد ، ورجحها أبو حاتم ، وقرأ الباقون والأعمش " لينذر " أي القرآن و : { الذين ظلموا } هم الكفار الذين جعلوا العبادة في غير موضعها في جهة الأصنام والأوثان .
وقوله : { وبشرى } يجوز أن تكون في موضع رفع عطفاً على قوله : { مصدق } ، ويجوز أن تكون في موضع نصب ، واقعة موقع فعل عطفاً على { لتنذر } أي وتبشر المحسنين ، ولما عبر عن الكفار ب { الذين ظلموا } ، عبر عن المؤمنين ب " المحسنين " لتناسب لفظ الإحسان في مقابلة الظلم . ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع الظلم . ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع عنهم الخوف والحزن ، وذهب كثير من الناس إلى أن معنى الآية : { ثم استقاموا } بالطاعات والأعمال الصالحات . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعنى : { ثم استقاموا } بالدوام على الإيمان وترك الانحراف عنه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا القول أعم رجاء وأوسع ، وإن كان في الجملة المؤمنة من يعذب وينفذ عليه الوعيد ، فهو ممن يخلد في الجنة وينتفي عنه الخوف والحزن الحال بالكفرة ، والخوف هو الهم لما يستقبل ، والحزن هو الهم بما مضى ، وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة ، لأنه حزن لخوف أمر ما .
وقرأ ابن السميفع : " فلا خوفُ " دون تنوين .
وقوله : { جزاء بما كانوا يعملون } ، " ما " واقعة على الجزء الذي هو اكتساب العبد ، وقد جعل الله الأعمال أمارات على صبور العبد ، لا أنها توجب على الله شيئاً .
وقوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه } يريد النوع ، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي ، فهي وصية من الله في عباده .
(6/115)

وقرأ جمهور القراء : " حُسْناً " بضم الحاء وسكون السين ، ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمراً ذا حسن ، فكأن الفعل تسلط عليه مفعولاً ثانياً . وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى : " حَسَناً " بفتح الحاء والسين ، وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبخل والبخل ، ومحتمل ، أن يكون هذا الثاني اسماً لا مصدراً ، أي ألزمناه بهما فعلاً حسناً . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي " إحساناً " ، ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور ، والباء متعلقة ب { وصينا } أو بقوله : " إحساناً " .
وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها ، وعقوقهما كبيرة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين .
قال القاضي أبو محمد : : ولن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد ، فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام : " اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " .
ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب ، والأب في واحدة ، جمعهما الذكر في قوله : { بوالديه } ، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، والربع للأب ، وذلك إذ قال له رجل : يا رسول الله من أبر؟ " قال : أمك ، قال ثم من؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من؟ قال : أباك " وقوله : { كرهاً } معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه ، ويحتمل أن يريد في وقت الحمل ، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه ، وقال مجاهد والحسن وقتادة : المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة .
وقرأ أكثر القراء : " كُرهاً " بضم الكاف . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج : " كَرهاً " بفتح الكاف ، وقرأ بهما معاً مجاهد وأبو رجاء وعيسى . قال أبو علي وغيره : هما بمعنى ، الضم الاسم ، والفتح المصدر . وقالت فرقة : الكره بالضم : المشقة ، والكره بالفتح هو الغلبة والقهر ، وضعفوا على هذا قراءة الفتح . قال بعضهم : لو كان " كَرهاً " لرمت به عن نفسها ، إذ الكره القهر والغلبة ، والقول الذي قدمناه أصوب .
وقرأ جمهور الناس : " وفصاله " وذلك أنها مفاعلة من اثنين ، كأنه فاصل أمه وفاصلته . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري : " وفصله " ، كأن الأم هي التي فصلته .
وقوله : { ثلاثون شهراً } يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة ، لأن في القول حذف مضاف تقديره : ومدة حمله وفصاله ، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً ، وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين ، وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام ، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع ، وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر .
(6/116)

وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر ، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله .
واختلف الناس في الأشد : فقال الشعبي وزيد بن أسلم : البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات . وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر عاماً ، وقيل عشرون عاماً ، وقال ابن عباس وقتادة : ثلاثة وثلاثون عاماً ، وقال الجمهور من النظار : ثلاثة وثلاثون . وقال هلال بن يساف وغيره : أربعون ، وأقوى الأقوال ستة وثلاثون ، ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله : { وبلغ أربعين سنة } .
قال القاضي أبو محمد : وإنما ذكر تعالى الأربعين ، لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته ، وفي الحديث : " إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول : بأبي وجه لا يفلح " وقال أيمن بن خريم الأسدي : [ الطويل ]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... وإن جر أسباب الحياة له العمر
وفي مصحف ابن مسعود : " حتى إذا استوى أشده وبلغ أربعين سنة " وقوله : { أوزعني } معناه : ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك ، ويحتمل أن يكون { أوزعني } بمعنى اجعل حظي ونصيبي ، وهذا من التوزيع والقوم الأوزاع ، ومن قوله توزعوا المال ، ف " أن " على هذا مفعول صريح . وقال ابن عباس { نعمتك } في التوحيد . و : { صالحاً ترضاه } الصلوات . والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية ، وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل ، وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع .
وقال الطبري : وذكر أن هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق ، ثم هي تتناول من بعده ، وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه ، فلذلك قال : { وعلى والدي } ، وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف في ذلك ، وأبو قحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما ، فكانت هذه نعمة عليهما أن ليسا ممن عسا في الكفر ولج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد ، والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح ، وباقي الآية بين إلى قوله : { من المسلمين } .
(6/117)

أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
قوله تعالى : { أولئك } دليل على أن الإشارة بقوله : { ووصينا الإنسان } [ الأحقاف : 15 ] إنما أراد الجنس .
وقرأ جمهور القراء : " يُتَقبَّل " بالياء على بناء الفعل للمفعول وكذلك " يُتجاوز " . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فيهما بالنون التي للعظمة " نتقبل " " أحسنَ " بالنصب " ونتجاوز " وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن جبير والأعمش بخلاف عنه . وقرأ الحسن " يَتقبل " بياء مفتوحة " ويَتجاوز " كذلك ، أي الله تعالى وقوله : { في أصحاب الجنة } يريد الذين سبقت لهم رحمة الله . وقوله : { وعدَ الصدق } نصب على المصدر المؤكد لما قبله .
وقوله تعالى : { والذي قال لوالديه أف لكما } الآية ، { الذي } يعنى به الجنس على حد العموم الذي في الآية التي قبلها في قوله : { ووصينا الإنسان } [ الأحقاف : 15 ] وهذا قول الحسن وجماعة ، ويشبه أن لها سبباً من رجل قال ذلك لأبويه . فلما فرغ من ذكر الموفق عقب بذكر هذا العاق . وقال ابن عباس في كتاب الطبري : هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر ولم يسمِّه .
وقال مروان بن الحكم : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقاله قتادة ، وذلك أنه كان أكبر ولد أبي بكر وشهد بدراً وأحداً مع الكفار ، وقال لأبيه في الحرب :
لم يبق إلا شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلال الشيب
ودعاه إلى المبارزة فكان بمكة على نحو هذه الخلق ، فقيل إن هذه الآية نزلت فيه . وروي أن مروان بن الحكم خطب وهو أمير المدينة فدعا الناس إلى بيعة يزيد ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : جعلتموها هرقلية ، كلما مات هرقل ولي هرقل ، وكلما مات قيصر ولي قيصر ، فقال مروان بن الحكم : خذوه ، فدخل عبد الرحمن بيت عائشة أخته أم المؤمنين ، فقال مروان : إن هذا هو الذي قال الله فيه : { والذي قال لوالديه أف لكما } فسمعته عائشة ، فأنكرت ذلك عليه ، وسبت مروان ، وقالت له : والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي ، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية . وذكر ابن عبد البر أن الذي خطب هو معاوية ، وذلك وهم ، والأصوب أن تكون عامة في أهل هذه الصفات ولم يقصد بها عبد الرحمن ولا غيره من المؤمنين والدليل القاطع على ذلك قوله : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم } وكان عبد الرحمن رحمه الله من أفضل الصحابة ومن الأبطال ، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره .
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة بن مصرف : " أفِّ " بكسر الفاء بغير تنوين ، وذلك فيها علامة تعريف . وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن وشبل وعمرو بن عبيد : " أفَّ " بالفتح ، وهي لغة الكسر والفتح .
(6/118)

وقرأ نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج : " أفٍّ " بالكسر والتنوين ، وذلك علامة تنكير ، وهي كصه وغاق ، وكما تستطعم رجلاً حديثاً غير معين فتقول " إيه " منونة ، فإن كان حديثاً مشاراً إليه قلت " إيهِ " بغير تنوين . و { أف } : أصلها في الأقذار ، كانت العرب إذا رأت قذراً قالت : " أف " ثم صيره الاستعمال يقال في كل ما يكره من الأفعال والأقوال .
وقرأ هشام عن ابن عامر وعاصم وأبو عمرو : " أتعداني " ، وقرأ أبو عمرو ونافع وشيبة والأعرج والحسن وأبو جعفر وقتادة وجمهور القراء " أتعدانني " بنونين ، والقراءة الأولى هي بإدغام النون في النون . وقرأ نافع أيضاً وجماعة : " أتعدانيَ " بنون واحدة وإظهار الياء .
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وأبو رجاء وابن وثاب وجمهور الناس " أن أُخرَج " بضم الهمزة وفتح الراء . وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك . " أَن أَخرُج " بفتح الهمزة وضم الراء . والمعنى أن أخرج من القبر للحشر والمعاد ، وهذا القول منه استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد .
وقوله : { وقد خلت القرون من قبلي } معناه : هلكت ومضت ولم يخرج منهم أحد . وقوله : { وهما } يعني الوالدين ، ويقال استغثت الله واسغثت بالله بمعنى واحد . و : { ويلك } دعاء يقال هنا لمن يحفز ويحرك لأمر ما يستعجل إليه .
وقرأ الأعرج " أن وعد الله " بفتح الهمزة ، والناس على كسرها .
وقوله : { ما هذا إلا أساطير } أي ما هذا القول الذي يتضمن البعث من القبور إلا شيء قد سطره الأولون في كتبهم ، يعني الشرائع ، وظاهر ألفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له ، فنعى الله أقواله تحذيراً من الوقوع في مثلها .
وقوله : { أولئك } ظاهره أنها إشارة إلى جنس يتضمنه قوله : { والذي قال } ، ويحتمل إن كانت الآية في مشار إليه أن يكون قوله : { أولئك } بمعنى صنف هذا المذكور وجنسهم { الذين حق عليهم القول } ، أي قول الله إنه يعذبهم .
وقوله : { قد خلت من قبلهم من الجن والإنس } يقتضي أن { الجن } يموتون كما يموت البشر قرناً بعد قرن ، وقد جاء حديث يقتضي ذلك . وقال الحسن بن أبي الحسن في بعض مجالسه : إن الجن لا يموتون ، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت .
وقوله تعالى : { ولكل درجات } يعني المحسنين والمسيئين . قال ابن زيد : ودرجات المحسنين تذهب علواً ، ودرجات المسيئين تذهب سفلاً .
وقرأ أبو عبد الرحمن : " ولتوفيهم " بالتاء من فوق ، أي الدرجات . وقرأ جمهور الناس : " وليوفيهم " بالياء . وقرأ نافع بخلاف عنه ، وأبو جعفر وشيبة والأعرج وطلحة والأعمش : " ولنوفيهم " بالنون : قال اللؤلؤي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود : " ولنوفينّهم " بنون أولى ونون ثانية مشددة ، وكل امرئ يجني ثمرة عمله من خير أو شر ولا يظلم في مجازاته ، بل يوضع كل أمر موضعه من ثواب أو عقاب .
(6/119)

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
المعنى : واذكر يوم يعرض ، وهذا العرض هو بالمباشرة ، كما تقول عرضت العود على النار والجاني على السوط ، والمعنى : يقال لهم { أذهبتم طيباتكم } .
وقرأ جمهور القراء : " أذهبتم " على الخبر ، حسنت الفاء بعد ذلك . وقرأ ابن كثير والحسن والأعرج وأبو جعفر ومجاهد وابن وثاب . " آذهبتم " بهمزة مطولة على التوبيخ والتقرير الذي هو في لفظ الاستفهام . وقرأ ابن عامر " أأذهبتم " بهمزتين تقريراً .
والتقرير والتوبيخ إخبار بالمعنى ، ولذلك حسنت الفاء وإلا فهي لا تحسن في جواب على حد هذه مع الاستفهام المحض .
والطيبات : الملاذ ، وهذه الآية وإن كانت في الكفار فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمال الطيبات ، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه : أتظنون أنا لا نعرف طيب الطعام ، ذلك لباب البر بصغار المعزى ، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم أنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ذكر هذا في كلامه مع الربيع بن زياد . وقال أيضاً نحو هذا لخالد بن الوليد حين دخل الشام فقدم إليه طعام طيب ، فقال عمر : هذا لنا ، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير؟ فقال خالد : لهم الجنة ، فبكى عمر وقال : لئن كان حظنا في الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بوناً بعيداً . وقال جابر بن عبد الله : اشتريت لحماً بدرهم فرآني عمر ، فقال : أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً اشتراه فأكله؟ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ، وتلا : { أذهبتم } الآية .
و { عذاب الهون } : العذاب الذي اقترن به هوان ، وهذا هو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه ، وهذا بين في عذاب الدنيا ، فعذاب المحدود في معصية كالحرابة ونحوها مقترن بهون ، وعذاب المقتول في حرب لا هون معه ، فالهون والهوان بمعنى؟! .
ثم أمر تعالى نبيه بذكر هود وقومه عاد على جهة المثال لقريش ، وهذه الأخوة هي أخوة القرابة ، لأن هوداً كان من أشراف القبيلة التي هي عاد .
واختلف الناس في هذه " الأحقاف " أين كانت؟ فقال ابن عباس والضحاك : هي جبل بالشام ، وقيل كانت بلاد نخيل ، وقيل هي الرمال بين مهرة وعدن . وقال ابن عباس أيضاً : بين عمان ومهرة . وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني وقال ابن إسحاق هي بين حضرموت وعمان ، والصحيح من الأقوال : أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد . و " الأحقاف " : جمع حقف ، و هو الجبل المستطيل والمعوجّ من الرمل . ( قال الخليل : هي الرمال الأحقاف ) وكثيراً ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى ، لأن الريح تصنع ذلك .
وقوله تعالى : { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه } اعتراض مؤكد مقيم للحجة أثناء قصة هود ، لأن قوله : { ألا تعبدوا إلا الله } هو من نذارة هود . و : { خلت } معناه : مضت إلى الخلاء ومرت أزمانها . وفي مصحف عبد الله : " وقد خلت النذر من قبله وبعده " . وروي أن فيه : " وقد خلت النذر من بين يديه ومن بعده " . و { النذر } : جمع نذير بناء اسم فاعل . وقولهم : { لتأفكنا } معناه : لتصرفنا . وقولهم : { فأتنا بما تعدنا } تصميم على التكذيب وتعجيز منهم له في زعمهم .
(6/120)

قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
المعنى قال لهم هود : إن هذا الوعيد ليس من قبلي ، وإنما الأمر إلى الله وعلم وقته عنده ، وإنما عليَّ أن أبلغ فقط .
وقرأ جمهور الناس : " وأبَلّغكم " بفتح الباء وشد اللام . قال أبو حاتم : وقرأ أبو عمرو في كل القرآن بسكون الباء وتخفيف اللام .
و : { أراكم تجهلون } أي مثل هذا من أمر الله تعالى وتجهلون خلق أنفسكم . والضمير في : { رأوه } يحتمل أن يعود على العذاب ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطارئ عليهم ، وهو الذي فسره قوله : { عارضاً } ، والعارض ما يعرض في الجو من السحاب الممطر ، ومنه قول الأعشى :
يا من رأى عارضاً قد بتُّ أرمقه ... كأنما البرق في حافاته الشعل
وقال ابو عبيدة : العارض الذي في أقطار السماء عشياً ثم يصبح من الغد قد استوى . وروي في معنى قوله : { مستقبل أوديتهم } أن هؤلاء القوم كانوا قد قحطوا مدة فطلع هذا العارض على الهيئة والجهة التي يمطرون بها أبداً ، جاءهم من قبل واد لهم يسمونه المغيث . قال ابن عباس : ففرحوا به و { قالوا هذا عارض ممطرنا } ، وقد كذب هود فيما أوعد به ، فقال لهم هود عليه السلام : ليس الأمر كما رأيتم ، { بل هو ما استعجلتم به } في قولكم : { فأتنا بما تعدنا } [ الأحقاف : 22 ] ثم قال : { ريح فيها عذاب أليم } .
وفي قراءة ابن مسعود : " قال هود بل هو " بإظهار المقدر ، لأن قراءة الجمهور هي كقوله تعالى { يدخلون عليهم من كل باب ، سلام عليكم } [ الرعد : 23 ] أي يقولون سلام . قال الزجاج وقرأ قوم : " ما استُعجِلتم " بضم التاء الأولى وكسر الجيم . و : { ريح } بدل من المبتدأ في قوله : { هو ما } . و : { ممطرنا } هو نعت ل { عارض } وهو نكرة إضافته غير محضة ، لأن التقدير ممطر لنا في المستقبل ، فهو في حكم الانفصال .
وقد مضى في غير هذه السورة قصص الريح التي هبت عليهم ، وأنها كانت تحمل الظعينة كجرادة . و : { تدمر } معناه : تهلك . والدمار : الهلاك ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]
وكان لهم كبكر ثمود لمّا ... رغا دهراً فدمرهم دمارا
وقوله : { كل شيء } ظاهره العموم ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره ، وروي أن هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر .
وقرأ جمهور القراء : " لا ترى " أيها المخاطب . وقرأ عاصم وحمزة : " لا يُرى " بالياء على بناء الفعل للمفعول " مساكنُهم " رفعاً . التقدير : لا يرى شيء منهم ، وهذه قراءة ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن بخلاف عنه ، ومجاهد وعيسى وطلحة . وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجحدري وقتادة وعمرو بن ميمون والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ومالك بن دينار بغير خلاف عنهما خاصة ممن ذكر : " لا تُرى " بالتاء منقوطة من فوق مضمومة " مساكُنهم " رفعاً ، ورويت عن ابن عامر ، وهذا نحو قول ذي الرمة : [ البسيط ]
(6/121)

كأنه جمل وهم وما بقيت ... إلا النجيزة والألواح والعصب
ونحو قوله : [ الطويل ]
فما بقيت إلا الضلوع الجراشع ... وفي هذه القراءة استكراه . وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني : إلا مسكنهم " على الإفراد الذي هو اسم الجنس ، والجمهور على الجمع في اللفظة ، ووجه الإفراد تصغير الشأن وتقريبه كما قال تعالى : { ثم يخرجكم طفلاً } [ غافر : 67 ] .
ثم خاطب تعالى قريشاً على جهة الموعظة بقوله : { ولقد مكناهم في ما إن مكناهم فيه } ف { ما } ، بمعنى الذي ، و { إن } نافية وقعت مكان { ما } ليختلف اللفظ ، ولا تتصل { ما } ب { ما } ، لأن الكلام كأنه قال : في الذي ما مكناكم فيه . ومعنى الآية : ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم ، ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب ، فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم . وقالت فرقة : { إن } شرطية ، والجواب محذوف تقديره : في الذي إن مكناكم فيه طغيتم ، وهذا تنطع في التأويل .
ثم عدد تعالى عليهم نعم الحواس والإدراك ، وأخبر أنها لم تغن حين لم تستعمل على ما يجب . و " ما " : نافية في قوله : { فما أغنى عنهم } ويقوي ذلك دخول { من } في قوله : { من شيء } .
وقالت فرقة : " ما " في قوله : { فما أغنى عنهم } استفهام بمعنى التقرير ، و " { من شيء } على هذا تأكيد ، وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول من في الواجب . { وحاق } معناه : وجب ولزم ، وهو مستعمل في المكاره ، والمعنى جزاء { ما كانوا به يستهزئون } .
(6/122)

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
وقوله : { ولقد أهلكنا ما حولكم } مخاطبة لقريش على جهة التمثيل لهم بمأرب وسدوم وحجر ثمود . وقوله : { وصرفنا الآيات } يعني لهذه القرى المهلكة .
وقوله : { فلولا نصرهم } الآية يعني هلا نصرتهم أصنامهم التي اتخذوها . و : { قرباناً } إما أن يكون المفعول الثاني ب { اتخذوا } و : { آلهة } بدل منه ، وإما أن يكون حالاً . و : { آلهة } المفعول الثاني ، والمفعول الأول هو الضمير العائد على : { الذين } التقدير : اتخذوهم . وقوله تعالى : { بل ضلوا عنهم } معناه : انتلفوا لهم حتى لم يجدوهم في وقت حاجة .
وقوله : { وذلك } الإشارة به تختلف بحسب اختلاف القراءات في قوله : { إفكهم } فقرأ جمهور القراء " إفْكُهم " بكسر الهمزة وسكون الفاء وضم الكاف ، فالإشارة ب { ذلك } على هذه القراءة إلى قولهم في الأصنام إنها آلهة ، وذلك هو اتخاذهم إياها ، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ : " أفَكهم " بفتح الهمزة ، وهي لغة في الإفك ، وهما بمعنى الكذب ، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ : " أفَكهم " بفتح الهمزة : والفاء على الفعل الماضي ، بمعنى صرفهم ، وهي قراءة ابن عباس وأبي عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان . وقرأ أبو عياض أيضاً وعكرمة فيما حتى الثعلبي : " أفّكَهم " بشد الفاء وفتح الهمزة والكاف ، وذلك على تعدية الفعل بالتضعيف . وقرأ عبد الله بن الزبير : " آفَكَهم " بالمد وفتح الفاء والكاف على التعدية بالهمزة . قال الزجاج : معناه جعلهم يأفكون كما يقال أكفرهم . وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب : " آفِكُهم " بفتح الهمزة والمد وكسر الفاء وضم الكاف على وزن فاعل ، بمعنى : صارفهم .
وحكى الفراء أنه يقرأ : " أفَكُهم " بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف ، وهي لغة في الإفك ، والإشارة ب { ذلك } على هذه القراءة التي ليست مصدراً يحتمل أن تكون إلى الأصنام . وقوله : { وما كانوا يفترون } ، ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية فلا يحتاج إلى عائد ، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي ، فهناك عائد محذوف تقديره : يفترونه .
وقوله تعالى : { وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن } ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم . و : { صرفنا } معناه : رددناهم عن حال ما ، يحتمل أنها الاستماع في السماء ، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون ، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء ، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة ، فضاقت الجن ذرعاً بذلك ، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك . واختلف الرواة بعد فقالت فرقة : جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر ، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله ، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ ، وهو يقرأ في صلاة الفجر .
(6/123)

وقالت فرقة : بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك ، ووفد عليه أهل نصيبين منهم .
قال القاضي أبو محمد : والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم ، وهم المتفرقون من أجل الرجم ، وهذا هو قوله تعالى : { قل أوحي إلي } [ الجن : 1 ] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد ، وهو المذكور صرفه في هذه الآية . قال قتادة : صرفوا إليه من نينوى ، أشعر به قبل وروده . وقال الحسن : لم يشعر .
واختلف في عددهم اختلافاً متباعداً فاختصرته لعدم الصحة في ذلك ، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر كانوا تسعة : فيهم زوبعة ، وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إني خارج إلى وفد الجن ، فمن شاء يتبعني " ، فسكت أصحابه ، فقالها ثانية ، فسكتوا ، فقال عبد الله أنا أتبعك ، قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون ، فأدار لي دائرة وقال لي : لا تخرج منها ، ثم ذهب عني ، فسمعت لغطاً ودوياً كدوي النسور الكاسرة . ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زاداً في كل عظم وروثة ، فقال : يا عبد الله ، ما رأيت؟ فأخبرته ، فقال : لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم ، قلت يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : إنهم تدارأوا في قتيل لهم ، فحكمت بالحق . واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود ، وروي عنه ما ذكرنا . وذكر عنه أنه رأى رجالاً من الجن وبهم شبه رجال الزط السود الطوال حين رآهم بالكوفة . وروي عنه أنه قال : ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها .
وقوله : { نفراً } يقتضي أن المصروفين رجالاً لا أنثى فيهم ، والنفر والرهط : القوم الذين لا أنثى فيهم .
وقوله تعالى : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس : " قُضِي " على بناء الفعل للمفعول . . وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز : " قضى " على بناء الفعل للفاعل ، أي قضى محمد القراءة .
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة [ الرحمن ] فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] قالوا : لا بشيء من آلائك نكذب ، ربنا لك الحمد ، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم .
قال القاضي أبو محمد : فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباههم صلى الله على محمد عبده ورسوله .
(6/124)

قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
المعنى : قال هؤلاء المنذرون لما بلغوا قومهم { يا قومنا إنا سمعنا كتاباً } وهو القرآن العظيم ، وخصصوا { موسى } عليه السلام لأحد أمرين : إما لأن هذه الطائفة كانت تدين بدين اليهود ، وإما لأنهم كانوا يعرفون أن موسى قد ذكر محمداً وبشر به ، فأشاروا إلى موسى من حيث كان هذا الأمر مذكوراً في توراته . قال ابن عباس في كتاب الثعلبي : لم يكونوا علموا أمر عيسى عليه السلام ، فلذلك قالوا { من بعد موسى } . وقولهم : { مصدقاً لما بين يديه } يؤيد هذا . و : { ما بين يديه } هي التوراة والإنجيل . و { الحق } و " الطريق المستقيم " هنا بمعنى يتقارب لكن من حيث اختلف اللفظ ، وربما كان { الحق } أعم ، وكأن أحدهما قد يقع في مواضع لا يقع فيها الآخر حسن التكرار . و : { داعي الله } هو محمد عليه السلام ، والضمير في : { به } عائد على الله تعالى .
وقوله : { يغفر } معناه : يغفر الله . { ويجركم } معناه : يمنعكم ويجعل دونكم جوار حفظه حتى لا ينالكم عذاب .
وقوله تعالى : { ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز } الآية ، يحتمل أن يكون من كلام المنذرين ، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى لمحمد عليه السلام ، والمراد بها إسماع الكفار وتعلق اللفظ إلى هذا المعنى من قول الجن : { أجيبوا داعي الله } فلما حكى ذلك قيل ومن لا يفعل هذا فهو بحال كذا ، والمعجز الذاهب في الأرض الذي يبدي عجز طالبه ولا يقدر عليه ، وروي عن ابن عامر : " وليس لهم من دونه " بزيادة ميم .
وقوله تعالى : { أو لم يروا } الضمير لقريش ، وهذه آية مثل واحتجاج ، لأنهم قالوا إن الأجساد لا يمكن أن تبعث ولا تعاد ، وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم . والرؤية في قوله : { أو لم يروا } رؤية القلب .
وقرأ جمهور الناس : " ولم يعْيَ " بسكون العين وفتح الياء الأخيرة . وقرأ الحسن بن أبي الحسن " يعِ " بكسر العين وسكون الياء وذلك على حذف .
والباء في قوله : { بقادر } زائدة مؤكدة ، ومن حيث تقدم نفي في صدر الكلام حسن التأكيد بالباء وإن لم يكن المنفي ما دخلت على عليه كما هي في قولك : ما زيد بقائم كان بدل { أو لم يروا } أوليس الذي خلق .
وقرأ ابن عباس وجمهور الناس : " بقادر " وقرأ الجحدري والأعرج وعيسى وعمرو بن عبيد : " يقدر " بالياء على فعل مستقبل ، ورجحها أبو حاتم وغلط قراءة الجمهور لقلق الباء عنده . وفي مصحف عبد الله بن مسعود " بخلقهن قادر " .
و : { بلى } جواب بعد النفي المتقدم ، فهي إيجاب لما نفي ، والمعنى : بلى رأوا ذلك أن لو نفعهم ووقع في قلوبهم ، ثم استأنف اللفظ الإخبار المؤكد بقوله : { إنه على كل شيء قدير } .
(6/125)

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
المعنى : واذكر يوم ، وهذا وعيد للكفار من قريش وسواهم . والعرض في هذه الآية ، عرض مباشرة ، كما تقولون عرضت الجاني على السوط . والمعنى يقال لهم أليس هذا العذاب حقاً وقد كنتم تكذبون به؟ فيجيبون : { بلى وربنا } ، وذلك تصديق حيث لا ينفع ، وروي عن الحسن أنه قال : إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل ، فيقول لهم المحاور من الملائكة عند ذلك { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي بسبب كفركم .
وقوله تعالى : { فاصبر } الفاء عاطفة هذه الجملة من الوصاة على هذه الجملة من الإخبار عن حال الكفرة في الآخرة ، والمعنى بينهما مرتبط ، أي هذه حالهم مع الله ، فلا تستعجل أنت فيما حملته واصبر له ولا تخف في الله أحداً .
وقوله : { من الرسل } { من } للتبعيض ، والمراد من حفظت له مع قومه شدة ومجاهدة كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلى الله عليهم ، هذا قول عطاء الخراساني وغيره . وقال ابن زيد ما معناه : إن { من } لبيان الجنس . قال : والرسل كلهم { أولو العزم } ، ولكن قوله : { كما صبر أولو العزم } يتضمن رسلاً وغيرهم ، فبين بعد ذلك جنس الرسل خاصة تعظيماً لهم ، ولتكون القدوة المضروبة لمحمد عليه السلام أشرف ، وذكر الثعلبي هذا القول عن علي بن مهدي الطبري . وحكي عن أبي القاسم الحكيم أنه قال : الرسل كلهم أولو عزم إلا يونس عليه السلام وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورين في سورة الأنعام ، لأنه قال بعقب ذكرهم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] . وقال مقاتل هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلاً ، وإبراهيم صبر للناس ، وإسحاق صبر نفسه للذبح ، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال : { فصبر جميل } [ يوسف : 83 ] ، ويوسف على السجن وفي البئر ، وأيوب صبر على البلاء .
قال القاضي أبو محمد : وانظر أن النبي عليه السلام قال في موسى : " يرحم الله موسى ، أوذي بأكثر من هذا فصبر " ولا محالة أن لكل نبي ورسول عزماً وصبراً .
وقوله : { ولا تستعجل لهم } معناه لا تستعجل لهم عذاباً ، فإنهم إليه صائرون ، ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة ، فإنهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة لاحتقارهم ذلك ، لأن المنقضي من الزمان إنما يصير عدماً ، فكثيره الذي ساءت عاقبته كالقليل .
وقرأ أبي بن كعب " ساعة من النهار " . وقرأ جمهور القراء والناس : " بلاغٌ " وذلك يحتمل معاني ، أحدها : أن يكون خبر ابتداء ، المعنى : هذا بلاغ ، وتكون الإشارة بهذا إلى القرآن والشرع ، أي هذا إنذار وتبليغ ، وإما إلى المدة التي تكون كساعة كأنه قال : { لم يلبثوا إلا ساعة } كانت بلاغهم ، وهذا كما تقول : متاع قليل ونحوه من المعنى .
(6/126)

والثاني : أن يكون ابتداء والخبر محذوف . والثالث : ما قاله أبو مجلز فإنه كان يقف على قوله : { ولا تستعجل } ويقول : " بلاغٌ " ابتداء وخبره متقدم في قوله : { لهم } وقدح الناس في هذا القول بكثرة الحائل . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، وعيسى : " بلاغاً " ، وهي قراءة تحتمل المعنيين اللذين في قراءة الرفع ، وليس يدخلها قول أبي مجلز ونصبها بفعل مضمر . وقرأ أبو مجلز وأبو سراج الهذلي : " بلِّغ " ، على الأمر . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : " بلاغٍ " بالخفض نعتاً ل { نهار } .
وقرأ جمهور الناس :
" فهل يُهلَك " على بناء الفعل للمفعول . وقرأ بعضهم فيما حكى هارون : " فهل يَهلِك " ببناء الفعل للفاعل وكسر اللام ، وحكاها أبو عمرو عن الحسن وابن محيصن : " يَهلَك " بفتح الياء واللام . قال أبو الفتح : وهي مرغوب عنها . وروى زيد بن ثابت عن النبي عليه السلام : " فهل يُهلِك " بضم الياء وكسر اللام " إلا القوم الفاسقين " بالنصب .
وفي هذه الألفاظ وعيد محض وإنذار بين ، وذلك أن الله تعالى جعل الحسنة بعشر امثالها والسيئة بمثلها ، وأمر بالطاعة ووعد عليها بالجنة ، ونهى عن الكفر وأوعد عليه بالنار ، فلن يهلك على الله إلا هالك كما قال صلى الله عليه وسلم . قال الثعلبي : يقال إن قوله : { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } أرجى آية في كتاب الله تعالى للمؤمنين .
(6/127)

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
قوله تعالى : { الذين كفروا } الآية ، إشارة إلى أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { والذين آمنوا } الآية إشارة إلى الأنصار أهل المدينة الذين آووه ، وفي الطائفتين نزلت الآيتان ، قاله ابن عباس ومجاهد ، ثم هي بعد تعم كل من دخل تحت ألفاظها . وقوله : { وصدوا } يحتمل أن يريد الفعل المجاوز ، فيكون المعنى : { وصدوا } غيرهم ، ويحتمل أن يكون الفعل غير متعد ، فيكون المعنى : { وصدوا } أنفسهم . و : { سبيل الله } شرعه وطريقه الذي دعا إليه .
وقوله : { أضل أعمالهم } أي أتلفها ، لم يجعل لها غاية خير ولا نفعاً ، وروي أن هذه الآية نزلت بعد بدر ، وأن الإشارة بقوله : { أضل أعمالهم } هي إلى الإنفاق الذي أنفقوه في سفرتهم إلى بدر ، وقيل المراد بالأعمال : أعمالهم البرة في الجاهلية من صلة رحم ونحوه ، واللفظ يعم ذلك .
وقرأ الناس : " نُزّل " بضم النون وشد الزاي . وقرأ الأعمش : " أنزل " معدى بالهمزة وقوله تعالى : { وأصلح بالهم } قال قتادة معناه : وأصلح حالهم . وقرأ ابن عباس " أمرهم " . وقال مجاهد : شأنهم .
وتحرير التفسير في اللفظة أنها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ، فإذا صلح ذلك صلحت حاله ، فكأن اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع ، فقولك : خطر في بالي كذا ، وقولك : أصلح الله بالك : المراد بهما واحد ، ذكره المبرد . والبال : مصدر كالحال والشأن ، ولا يستعمل منها فعل ، وكذلك عرفه أن لا يثنى ولا يجمع ، وقد جاء مجموعاً لكنه شاذ ، فإنهم قالوا بالات .
وقوله تعالى : { ذلك بأن الذين كفروا } الإشارة إلى هذه الأفعال التي ذكر الله أنه فعلها بالكفار وبالمؤمنين . و : { الباطل } الشيطان وكل ما يأمر به ، قاله مجاهد . و : { الحق } هنا هو الشرع ومحمد عليه السلام .
وقوله : { كذلك } يبين أمر كل فرقة ويجعل لها ضربها من القول وصنفها . وضرب المثل مأخوذ من الضريب والضرب الذي هو بمعنى النوع .
(6/128)

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد ، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق . وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه : إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك ، والمن والفداء ثابت ، وقد منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال ، وفادى أسرى بدر ، وقاله الحسن ، وقال : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو . وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلاً برجل ، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال . وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين . وقالت فرقة : هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط ، ففيهم المن والفداء ، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل . وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان . وقوله هنا : { فضرب الرقاب } بمثابة قوله هناك : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وصرح هنا بذكر المن والفداء ، ولم يصرح به هنالك ، وهو مراد متقرر ، وهذا هو القول القوي .
وقوله : { فضرب الرقاب } مصدر بمعنى الفعل ، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره ، والمراد : اقتلوهم بأي وجه أمكن ، وقد زادت آية : { واضربوا منهم كل بنان } [ الأنفال : 12 ] وهي من أنكى ضربات الحرب ، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده ، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها . و : { أثخنتموهم } معناه : بالقتل . والإثخان في القوم : أن يكثر فيهم القتلى والجرحى ، والمعنى : فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر . و : { مناً } و : { فداء } مصدران منصوبان بفعلين مضمرين . وقرأ جمهور الناس : " فداء " . وقرأ شبل عن ابن كثير : " فدى " مقصوراً .
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه : القتل ، أو الاسترقاق ، أو ضرب الجزية ، أو الفداء ، أو المن . ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك .
وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } معناه : حتى تذهب وتزول أثقالها . والأوزار : الأثقال فيها والآلات لها ، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
[ المتقارب ]
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
وقال الثعلبي : وقيل الأوزار في هذه الآية : الآثام ، جمع وزر ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين .
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها { تضع الحرب أوزارها } ، فقال قتادة : حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها . وقال حذاق أهل النظر : حتى تغلبوهم وتقتلوهم .
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها ، فجاء هذا كما تقول : أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد : إنك تفعله دائماً .
(6/129)

وقوله تعالى : { ذلك } تقديره : الأمر ذلك . ثم قال : { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد ، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض .
وقرأ جمهور الناس : " قاتلوا " وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه : " قَتَلوا " بفتح القاف والتاء . وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش : " قُتِلوا " بضم القاف وكسر التاء . وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء : " قُتِّلوا " بضم القاف وكسر التاء وشدها ، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى . وقال قتادة : نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين .
وقوله تعالى : { سيهديهم } أي إلى طريق الجنة ، وقد تقدم القول في إصلاح البال . وروى عباس بن المفضل عن أبي عمرو : " ويدخلهم " بسكون اللام . وفي سورة [ التغابن ] { يوم يجمعكم } [ التغابن : 9 ] وفي سورة [ الإنسان ] { إنما نطعمكم } [ الإنسان : 9 ] بسكون العين والميم .
وقوله تعالى : { عرفها لهم } قال أبو سعيد الخدري وقتادة معناه : بينها لهم ، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها ، وفي نحو هذا المعنى هو قول النبي عليه السلام : " لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا " وقالت فرقة معناه : سماها لهم ورسمها ، كل منزل باسم صاحبه ، فهذا نحو من التعريف . وقالت فرقة معناه : شرفها لهم ورفعها وعلاها ، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها ، ومنه أعراف الخيل . وقال مؤرج وغيره معناه : طيبها مأخوذ من العرف ، ومنه طعام معرف ، أي مطيب . وعرفت القدر : طيبتها بالملح والتابل .
وقوله تعالى : { إن تنصروا الله } فيه حذف مضاف ، أي دين الله ورسوله ، والمعنى : تنصروه بجدكم واتباعكم وإيمانكم { ينصركم } بخلق القوة لكم والجرأة وغير ذلك من المعاون .
وقرأ جمهور الناس : " ويثبّت " بفتح التاء المثلثة وشد الباء . وقرأ المفضل عن عاصم : " ويثْبِت " بسكون الثاء وتخفيف الباء ، وهذا التثبيت هو في مواطن الحرب على الإسلام ، وقيل على الصراط في القيامة .
وقوله تعالى : { فتعساً لهم } معناه : عثاراً وهلاكاً فيه ، وهي لفظة تقال للعاثر إذا أريد به الشر ، ومنه قول الشاعر : [ المنسرح ]
يا سيدي إن عثرت خذ بيدي ... ولا تقل : لا ، ولا تقل تعسا
وقال الأعشى : [ البسيط ]
بذات لوت عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
ومنه قول أم مسطح لما عثرت في مرطها : تعس مسطح . قال ابن السكيت : التعس أن يخر على وجهه . و : { تعساً } مصدر نصبه فعل مضمر .
وقوله تعالى : { كرهوا ما أنزل الله } يريد القرآن . وقوله : { فأحبط أعمالهم } يقتضي أن أعمالهم في كفرهم التي هي بر مقيدة محفوظة ، ولا خلاف أن الكافر له حفظة يكتبون سيئاته .
(6/130)

واختلف الناس في حسناتهم ، فقالت فرقة : هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط . وقالت فرقة : هي محصاة من أجل ثواب الدنيا ، ومن أجل أنه قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام ، وهذا أحد التأويلين في قول النبي عليه السلام لحكيم بن حزام : " أسلمت على ما سلف لك من خير " . فقوم قالوا تأويله : أسلمت على أن يعد لك ما سلف من خير ، وهذا هو التأويل الذي أشرنا إليه . وقالت فرقة معناه : أسلمت على إسقاط ما سلف لك من خير ، إذ قد ثوبت عليه بنعم دنياك . وذكر الطبري أن أعمالهم التي أخبر في هذه الآية بحبطها : عبادتهم الأصنام وكفرهم . ومعنى : { أحبط } جعلها من العمل الذي لا يزكو ولا يعتد به ، فهي لذلك كالذي أحبط .
(6/131)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
قوله تعالى : { أفلم يسيروا } توقيف لقريش وتوبيخ . و : { الذين من قبلهم } يريد : ثمود وقوم لوط وقوم شعيب وأهل السد وغيرهم . والدمار : الإفساد وهدم البناء وإذهاب العمران .
وقوله : { دمر الله عليهم } من ذلك . والضمير في قوله : { أمثالها } يصح أن يعود على العاقبة المذكورة ، ويصح أن يعود على الفعلة التي يتضمنها قوله : { دمر الله عليهم } . وقولهم : { ذلك بأن } ابتداء وخبر في " أن " وما عملت فيه . والمولى : الناصر الموالي ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا " . وقال قتادة : إن هذه الآية نزلت يوم أحد ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال له : " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " .
وقوله تعالى : { ويأكلون كما تأكل الأنعام } أي أكلاً مجرداً من فكرة ونظر ، فالتشبيه بالمعنى إنما وقع فيما عدا الأكل من قلة الفكر وعدم النظر ، فقوله : { كما } في موضع الحال ، وهذا كما تقول لجاهل : يعيش كما تعيش البهيمة ، فأما بمقتضى اللفظ فالجاهل والعالم والبهيمة من حيث لهم عيش فهم سواء ، ولكن معنى كلامك يعيش عديم النظر والفهم كما تعيش البهيمة . والمثوى : موضع الإقامة ، وقد تقدم القول غير مرة في قوله : { وكأين } . وضرب الله تعالى لمكة مثلاً بالقرى المهلكة على عظمها ، كقرية قوم عاد وغيرها . و : { أخرجتك } معناه : وقت الهجرة . ونسب الإخراج إلى القرية حملاً على اللفظ . وقال : { أهلكناهم } حملاً على المعنى . ويقال : إن هذه الآية نزلت إثر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في طريق المدينة . وقيل : نزلت بالمدينة . وقيل : نزلت بمكة عام دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية . وقيل نزلت : عام الفتح وهو مقبل إليها . وهذا كله حكمه حكم المدني .
(6/132)

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
قوله تعالى : { أفمن كان } الآية توقيف وتقرير على شيء متفق عليه وهي معادلة بين هذين الفريقين . وقال قتادة : الإشارة بهذه الآية إلى محمد عليه السلام في أنه الذي هو على بينة وإلى كفار قريش في أنهم الذين زين لهم سوء أعمالهم .
قال القاضي أبو محمد : وبقي اللفظ عاماً لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر وقوله : { على بينة } معناه على قصة واضحة وعقيدة نيرة بينة ، ويحتمل أن يكون المعنى على أمر بين ودين بين ، وألحق الهاء للمبالغة : كعلامة ونسابة . والذي يسند إليه قوله : { زين } الشيطان . واتباع الأهواء : طاعتها كأنها تذهب إلى ناحية والمرء يذهب معها .
واختلف الناس في قوله تعالى : { مثل الجنة } الآية ، فقال النضر بن شميل وغيره : { مثل } معناه صفة ، كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون فيها كذا وكذا ، وقال سيبويه : المعنى فيما يتلى عليكم مثل الجنة . ثم فسر ذلك الذي يتلى بقوله : فيها كذا وكذا .
قال القاضي أبو محمد : والذي ساق أن يجعل { مثل } بمثابة صفة هو أن الممثل به ليس في الآية ، ويظهر أن القصد في التمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه فيها كذا وكذا فإنه يتصور عند ذلك بقاعاً على هذه الصورة وذلك هي { مثل الجنة } ومثالها ، وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، كأنه يقول : { مثل الجنة } ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف . وقرأ علي بن أبي طالب : " مثال الجنة " . وقرأ علي بن أبي طالب أيضاً وابن عباس : " أمثال الجنة " . وعلى هذه التأويلات كلها ففي قوله : { كمن هو خالد } حذف تقديره : أساكن هذه ، أو تقديره : أهؤلاء إشارة إلى المتقين ، ويحتمل عندي أيضاً أن يكون الحذف في صدر الآية . كأنه قال : أمثل أهل الجنة { كمن هو خالد } ، ويكون قوله : { مثل } مستفهماً عنه بغير ألف الاستفهام ، فالمعنى : أمثل أهل الجنة ، وهي بهذه الأوصاف { كمن هو خالد في النار } فتكون الكاف في قوله : { كمن } مؤكدة في التشبيه ، ويجيء قوله : { فيها أنهار } في موضع الحال على هذا التأويل . { وما غير آسن } معناه غير متغير ، قاله ابن عباس وقتادة ، وسواء أنتن أو لم ينتن ، يقال : أسَن الماء : بفتح السين ، وأسِن بكسرها .
وقرأ جمهور القراء : " آسِن " على وزن فاعل . وقرأ ابن كثير : " أسن " ، على وزن فعل ، وهي قراءة أهل مكة ، والأسن أيضاً هو الذي يخشى عليه من ريح منتنة من ماء ، ومنه قول الشاعر :
التارك القرن مصراً أنامله ... يميل في الرمح ميل المائح الأسن
وقال الأخفش : { آسن } لغة : والمعنى الإخبار به عن الحال ، ومن قال : " آسِن " على وزن فاعل ، فهو يريد به أن يكون كذلك في المستقبل فنفى ذلك في الآية .
(6/133)

وقرأت فرقة : " غير يسن " ، بالياء . قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمزة ، قال أبو حاتم عن عوف : كذلك كانت في المصحف : " يسن " ، فغيرها الحجاج .
وقوله : في اللبن { لم يتغير طعمه } نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن وقوله : { لذة للشاربين } جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره و { لذة } نعت على النسب ، أي ذات لذة . وتصفية العسل مذهبة لمومه وضرره . وقوله : { من كل الثمرات } أي من هذه الأنواع ، لكنها بعيدة الشبه ، إذ تلك لا عيب فيها ولا تعب بوجه . وقوله : { ومغفرة من ربهم } معناه : وتنعيم أعطته المغفرة وسببته ، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة ، وقوله : { وسقوا } الضمير عائد على " مَنْ " لأن المراد به جمع .
وقوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك } يعني بذلك المنافقين من أهل المدينة ، وذلك أنهم كانوا يحضرون عند النبي عليه السلام فيسمعون كلامه وتلاوته ، فإذا خرجوا قال بعضهم لمن شاء من المؤمنين الذين عملوا وانتفعوا { ماذا قال آنفاً } فكان منهم من يقول هذا استخفافاً ، أي ما معنى ما قال وما نفعه وما قدره؟ ومنهم من كان يقول ذلك جهالة ونسياناً ، لأنه كان في وقت الكلام مقبلاً على فكرته في أمر دنياه وفي كفره ، فكان القول يمر صفحاً ، فإذا خرج قال : { ماذا قال آنفاً } ، وهذا أيضاً فيه ضرب من الاستخفاف ، لأنه كان يصرح أنه كان يقصد الإعراض وقت الكلام ، ولو لم يكن ذلك بقصد لم يبعد أن يجري على بعض المؤمنين . وروي أن عبد الله بن مسعود وابن عباس ممن سئل هذا السؤال ، حكاه الطبري عن ابن عباس .
وقرأ الجمهور : " آنفاً " على وزن فاعل ، وقرأ ابن كثير وحده : " أنفاً " على وزن فعل ، وهما اسما فاعل من ائتنف ، وجريا على غير فعلهما ، وهذا كما جرى فقير على افتقر ولم يستعمل فقر ، وهذا كثير ، والمفسرون يقولون : " أنفاً " معناه : الساعة الماضية القريبة منا ، وهذا تفسير بالمعنى .
ثم أخبر تعالى أنه { طبع } على قلوب هؤلاء المنافقين الفاعلين لهذا ، وهذا الطبع يحتمل أن يكون حقيقة ، ويحتمل أن يكون استعارة وقد تقدم القول فيه .
(6/134)

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
لما ذكر تعالى المنافقين بما هم أهله من قوله : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم } [ محمد : 16 ] عقب ذلك بذكر المؤمنين ليبين الفرق ، وشرفهم بإسناد فعل الاهتداء إليهم وهي إشارة إلى تكسبهم .
وقوله تعالى : { زادهم هدى } يحتمل أن يكون الفاعل في { زادهم } الله تعالى ، والزيادة في هذا المعنى تكون إما بزيادة التفهيم والأدلة ، وإما بورود الشرائع والنواهي والأخبار فيزيد الاهتداء لتزيد علم ذلك كله والإيمان به وذلك بفضل الله تعالى ، ويحتمل أن يكون الفاعل في : { زادهم } قول المنافقين واضطرابهم ، لأن ذلك مما يتعجب المؤمن منه ويحمد الله على إيمانه ، ويتزيد بصيرة في دينه ، فكأنه قال : المهتدون والمؤمنون زادهم فعل هؤلاء المنافقين هدى ، أي كانت الزيادة بسببه ، فأسند الفعل إليه ، وقالت فرقة : إن هذه الآية نزلت في قوم من النصارى ، آمنوا بمحمد فالفاعل في : { زادهم } محمد عليه السلام كان سبب الزيادة فأسند الفعل إليه . وقوله على هذا القول : { اهتدوا } يريد في إيمانهم بعيسى عليه السلام ثم { زادهم } محمد { هدى } حين آمنوا به . والفاعل في { آتاهم } يتصرف بحسب التأويلات المذكورة ، وأقواها أن الفاعل الله تعالى . { وآتاهم } معناه : أعطاهم ، أي جعلهم متقين له ، فالتقدير : تقواهم إياه . وقرأ الأعمش : " وأنطاهم تقواهم " ، وهي بمعنى أعطاهم ، ورواها محمد بن طلحة عن أبيه . وهي في مصحف عبد الله .
وقوله تعالى : { فهل ينظرون } يريد المنافقين ، والمعنى : { فهل ينظرون } أي هكذا هو الأمر في نفسه وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك ، فإن ما في أنفسهم غير مراعى ، لأنه باطل .
وقرأ جمهور الناس : " أن تأتيهم " ف { أن } بدل من { الساعة } . وقوله تعالى على هذه القراءة . { فقد جاء أشراطها } إخبار مستأنف والفاء عاطفة جملة من الكلام على جملة . وقرأ أهل مكة فيما روى الرؤاسي " إن تأتهم " بكسر الألف وجزم الفعل على الشرط ، والفاء في قوله : { فقد جاء أشراطها } جواب الشرط وليست بعاطفة على القراءة الأولى فثم نحو من معنى الشرط ، و . { بغتة } معناه : فجأة ، وروي عن أبي عمرو " بغَتّة " بفتح الغين وشد التاء . وقوله : { فقد جاء أشراطها } على القراءتين معناه : فينبغي أن يقع الاستعداد والخوف منها لمن جزم ونظر لنفسه . والذي جاء من أشراط الساعة محمد عليه السلام لأنه آخر الأنبياء ، فقد بان من أمر الساعة قدر ما ، وفي الحديث عنه عليه السلام أنه قال : " أنا من أشراط الساعة وقد بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان " . ويقال شرط وشرط : بسكون الراء وتخفيفها ، وأشرط الرجل نفسه : ألزمها أموراً . وقال أوس بن حجر : [ الطويل ]
فأشرط فيها نفسه وهو معصم ... وألقى باسباب له وتوكلا
(6/135)

وقوله تعالى : { فأنى لهم } الآية ، يحتمل أن يكون المعنى : { فأنى لهم } الخلاص أو النجاة { إذ جاءتهم } الذكرى بما كانوا يخبرون به في الدنيا فيكذبون به وجاءهم العذاب مع ذلك . ويحتمل أن يكون المعنى : فأنى لهم ذكراهم وعملهم بحسبها إذا جاءتهم الساعة ، وهذا تأويل قتادة ، نظيره : { وأنى لهم التناوش من مكان بعيد } [ سبإ : 52 ] .
وقوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } الآية إضراب عن أمر هؤلاء المنافقين وذكر الأهم ، والمعنى : دم على علمك ، وهذا هو القانون في كل أمر بشيء هو متلبس به ، وهذا خطاب للنبي عليه السلام ، وكل واحد من الأمة داخل معه فيه . واحتج بهذه الآية من قال من أهل السنة : إن العلم والنظر قبل القول ، والإقرار في مسألة أول الواجبات . وبوب البخاري رحمه الله العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } الآية ، وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإنها صدقة . وقال الطبري وغيره : { متقلبكم } تصرفكم في يقظتكم . { ومثواكم } منامكم . وقال ابن عباس : { متقلبكم } تصرفكم في حياتكم الدنيا . { ومثواكم } في قبوركم وفي آخرتكم .
(6/136)

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله ، وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام ، فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ ، والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى ، فمدح الله المؤمنين بحرصهم . وقولهم : { لولا نزلت سورة } معناه : تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه . ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال .
وقوله : { محكمة } معناه : لا يقع فيها نسخ ، وبهذا الوجه خصص السورة بالأحكام ، وأما الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان ، فالقرآن فيه كله سواء . وقال قتادة : كل سورة فيها القتال فهي محكمة ، وهو أشد القرآن على المنافقين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن ، وليس من تفسير هذه الآية في شيء .
وفي مصحف ابن مسعود : " سورة محدثة " . والمرض الذي في القلوب : استعارة لفساد المعتقد وحقيقة الصحة والمرض في الأجسام ، وتستعار للمعاني ، ونظر الخائف الموله قريب من نظر { المغشي عليه } ، وخسسهم هذا الوصف والتشبيه .
وقوله تعالى : { فأولى لهم } الآية ، " أولى " : وزنه أفعل ، من وليك الشيء يليك . وقالت فرقة وزنه : أفلع ، وفيه قلب ، لأنه مشتق من الويل ، والمشهور من استعمال " أولى " : أنك تقول : هذا أولى بك من هذا ، أي أحق ، وقد تستعمل " أولى " فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول ، فتقول على جهة الزجر والتوعد : أولى لك يا فلان ، وهذه الآية من هذا الباب ، ومنه قوله تعالى : { أولى لك فأولى } [ القيامة : 34-35 ] ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للحسن : أولى لك . وقالت فرقة من المفسرين : " أولى " رفع بالابتداء . و : { طاعة } خبره .
وقالت فرقة من المفسرين : { أولى لهم } ابتداء وخبر ، معناه : الزجر والتوعد . ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله : { طاعة وقول معروف } فقال بعضها ، التقدير : { طاعة وقول معروف } أمثل ، وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه ، وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة ، ففيها بعض التعريف . وقال بعضها التقدير : الأمر { طاعة وقول معروف } ، أي الأمر المرضي لله تعالى . وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة { طاعة وقول معروف } فإذا عزم الأمر كرهوه ، ونحو هذا من التقدير قاله قتادة . وقال أيضاً ما معناه : إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد ب " أولى " . وقوله { لهم } ابتداء كلام ، ف { طاعة } على هذا القول : ابتداء ، وخبره : { لهم } والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة ، فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا .
(6/137)

وقوله : { عزم الأمر } استعارة كما قال :
قد جدت الحرب بكم فجدوا ... ومن هذا الباب : نام ليلك ونحوه .
وقوله : { صدقوا الله } يحتمل أن يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب ، ويحتمل أن يكون من قولك عود صدق ، والمعنى متقارب .
وقوله تعالى : { فهل عسيتم } مخاطبة لهؤلاء { الذين في قلوبهم مرض } أي قل لهم يا محمد .
وقرأ نافع وأهل المدينة " عسِيتم " بكسر السين . وقرأ أبو عمرو والحسن وعاصم وأبو جعفر وشيبة : " عسَيتم " بفتح السين ، والفتح أفصح ، لأنه من عسى التي تصحبها " أن " . والمعنى : فهل عسى أن تفعلوا { إن توليتم } غير { أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } ، وكأن الاستفهام الداخل على عسى غير معناها بعض التغيير كما يغير الاستفهام قولك : أو لو كان كذا وكذا . وقوله : { إن توليتم } معناه : إن أعرضتم عن الحق . وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن .
وقرأ جمهور القراء : " إن توليتم " والمعنى : إن أعرضتم عن الإسلام . وقال كعب الأحبار ومحمد بن كعب القرظي المعنى : إن توليتم أمور الناس من الولاية ، وعلى هذا قيل إنها نزلت في بني هاشم وبني أمية ، ذكره الثعلبي . وروى عبد الله بن مغفل عن النبي عليه السلام : " إن وُليتم " بواو مضمومة ولام مكسورة . قرأ علي بن أبي طالب : " إن تُوُلِّيتم " بضم التاء والواو وكسر اللام المشددة على معنى : إن وليتكم ولاية الجور فملتم إلى دنياهم دون إمام العدل ، أو على معنى : إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وأفعال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والسباء ، فإنما كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم ، وقيل معناها : إن توليكم الناس ووكلكم الله إليهم .
وقرأ جمهور الناس : " وتُقطِّعوا " بضم التاء وشد الطاء المكسورة . وقرأ أبو عمرو : " وتَقطَعوا " بفتح التاء والطاء المخففة ، وهي قراءة سلام ويعقوب .
وقوله تعالى : { أولئك الذين لعنهم الله } إشارة إلى مرضى القلوب المذكورين . و : { لعنهم } معناه : أبعدهم . وقوله : { فأصمهم وأعمى أبصارهم } استعارة لعدم سمعهم فكأنهم عمي وصم .
(6/138)

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
قوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن } توقيف وتوبيخ ، وتدبر القرآن : زعيم بالتبيين والهدى . و : { أم } منقطعة وهي المقدرة ببل وألف الاستفهام .
وقوله تعالى : { أم على قلوب أقفالها } استعارة للرين الذي منعهم الإيمان . وروي أن وفد اليمن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقال الفتى عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويفرجها ، قال عمر : فعظم في عيني ، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي الخلافة فاستعان بذلك الفتى .
وقوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } الآية ، قال قتادة : إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد عليه السلام وتبين لهم الهدى بهذا الوجه ، فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى . وقال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم . والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر . و : { سول } معناه : أرجاهم سولهم وأمانيهم ، وقال أبو الفتح عن أبي علي أنه بمعنى : دلاهم ، مأخوذ من السول : وهو الاسترخاء والتدلي .
وقرأ جمهور القراء : " وأملى لهم " وأمال ابن كثير وشبل وابن مصرف : " أملى " . وفاعل { أملى } هنا : قال الحسن : هو { الشيطان } جعل وعده الكاذب بالبقاء كالإملاء ، وذلك أن الإملاء هو الإبقاء ملاوة من الدهر ، يقال مُلاوة ومَلاوة ومِلاوة بضم الميم وفتحها وكسرها ، وهي القطعة من الزمن ، ومنه الملوان الليل والنهار ، فإذا أملى الشيطان إملاء لا صحة له إلا بطمعهم الكاذب ، ويحتمل أن يكون الفاعل في { أملى } الله عز وجل ، كأنه قال : الشيطان سول لهم وأملى الله لهم . وحقيقة الإملاء إنما هو بيد الله عز وجل ، وهذا هو الأرجح . وقرأ الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش : " وأُملِي لهم " بضم الهمزة وكسر اللام وإرسال ياء المتكلم ، ورواها الخفاف عن أبي عمرو " وأُمليَ " بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول ، وهي قراءة شيبة وابن سيرين والجحدري وعيسى البصري وعيسى الهمذاني ، وهذا يحتمل فاعله من الخلاف ما في القراءة الأولى .
وقوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا } الآية ، قيل إنها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدم ذكرهم في تفسير قوله : { إن الذين ارتدوا } وروي أن قوماً من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلاف عليه بنصر وموازرة ، وذلك قولهم { سنطيعكم في بعض الأمر } .
وقرأ جمهور القراء " أَسرارهم " بفتح الهمزة ، وذلك على جمع سر ، لأن أسرارهم كانت كثيرة . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " إسرارهم " بكسر الهمزة ، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش ، وهو مصدر اسم الجنس .
(6/139)

وقوله تعالى : { فكيف إذا توفتهم } الآية ، يحتمل أن يتوعدوا به على معنيين : أحدهما هذا هلعهم وجزعهم لفرض القتال وفراع الأعداء ، { فكيف } فزعهم وجزعهم { إذا توفتهم الملائكة } ؟ والثاني أن يريد : هذه معاصيهم وعنادهم وكفرهم ، { فكيف } تكون حالهم مع الله { إذا توفتهم الملائكة } ؟ وقال الطبري : المعنى { والله يعلم أسرارهم فكيف } علمه بها { إذا توفتهم الملائكة } . و { الملائكة } هنا : ملك الموت والمصرفون معه . والضمير في : { يضربون } ل { الملائكة } ، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ومن قال إن الضمير في : { يضربون } للكفار الذين يتوفون ، فذلك ضعيف . و : { ما أسخط الله } هو الكفر . والرضوان هنا : الشرع والحق المؤدي إلى رضوان ، وقد تقدم القول في تفسير قوله : { أحبط أعمالهم } .
وقرأ الأعمش : " فكيف إذا توفاهم الملائكة " .
(6/140)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
هذه الآية توبيخ للمنافقين وفضح لهم .
وقوله : { أم حسب } توقيف وهي { أم } المنقطعة ، وتقدم تفسير مرض القلب . وقوله : { أن لن يخرج الله أضغانهم } أي يبديها من مكانها في نفوسهم . والضغن : الحقد . وقوله تعالى : { ولو نشاء لأريناكم } مقاربة في شهرتهم ، ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قرابتهم ، وإن كانوا قد عرفوا ب { لحن القول } وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبيّ والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة . والسيما : العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم . وقال ابن عباس والضحاك : إن الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة . في قوله : { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } [ التوبة : 84 ] وفي قوله : { قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً } [ التوبة : 83 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام ، بل هو لفظ يشير إليهم على الإجمال لا أنه سمى أحداً . وأعظم ما روي في اشتهارهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوماً فأخرجت منهم جماعة من المسجد كأنه وسمهم بهذا لكنهم أقاموا على التبري من ذلك وتمسكوا بلا إله إلا الله فحقنت دماؤهم . وروي عن حذيفة ما يقتضي أن النبي عليه السلام عرفه بهم أو ببعضهم ، وله في ذلك كلام مع عمر رضي الله عنه . ثم أخبر تعالى أنه سيعرفهم { في لحن القول } ، ومعناه في مذهب القول ومنحاه ومقصده ، وهذا هو كما يقول لك إنسان معتقده وتفهم أنت من مقاطع كلامه وهيئته وقرائن أمره أنه على خلاف ما يقول ، وهذا معنى قوله : { في لحن القول } ومن هذا المعنى قول النبي عليه السلام : " فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " الحديث أي أذهب بها في جهات الكلام ، وقد يكون هذا اللحن متفقاً عليه : أن يقول الإنسان قولاً يفهم السامعون منه معنى ، ويفهم الذي اتفق مع المتكلم معنى آخر ، ومنه الحديث الذي قال سعد بن معاذ وابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : عضل والقارة وفي هذا المعنى قول الشاعر [ مالك بن أسماء ] : [ الخفيف ]
وخير الحديث ما كان لحنا ... أي ما فهمه عنك صاحبك وخفي على غيره ، فأخبر الله محمداً رسوله عليه السلام أن أقوالهم المحرفة التي هي على خلاف عقدهم ستتبين له فيعرفهم بها ، واحتج بهذه الآية من جعل في التعريض بالقذف .
وقوله تعالى : { والله يعلم أعمالكم } مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر .
وقرأ جمهور القراء : " ولنبلونكم " بالنون ، وكذلك " نعلم " وكذلك " نبلوا " ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : " وليبلونكم الله " ، وكذلك " يعلم " ويبلو " .
(6/141)

وروى رويس عن يعقوب : " ويبلو " بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم . وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبتلنا ، فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا .
وقوله تعالى : { حتى نعلم المجاهدين } أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم ، وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي ، وإنما المعنى ما ذكرناه .
وقوله تعالى : { وصدوا } يحتمل أن يكون المعنى : { وصدوا } غيرهم ، ويحتمل أن يكون غير متعد ، بمعنى : وصدوهم في أنفسهم .
وقوله : { وشاقوا الرسول } معناه : خالفوه ، فكانوا في شق وهو في شق . وقوله : { من بعد ما تبين لهم الهدى } قالت فرقة : نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل بعد تبينهم لأمر محمد عليه السلام من التوراة . وقالت فرقة : نزلت في قوم من المنافقين حدث النفاق في نفوسهم بعد ما كان الإيمان داخلها . وقال ابن عباس : نزلت في المطعمين سفرة بدر ، و : " تبين الهدى " هو وجوده عند الداعي إليه . وقالت فرقة : بل هي عامة في كل كافر ، وألزمهم أنه قد { تبين لهم الهدى } من حيث كان الهدى بيناً في نفسه ، وهذا كما تقول لإنسان يخالفك في احتجاج على معنى التوبيخ له : أنت تخالف في شيء لا خفاء به عليك ، بمعنى أنه هكذا هو في نفسه . وقوله : { لن يضروا الله } تحقير لهم .
وقوله : { وسيحبط أعمالهم } إما على قول من يرى أن أعمالهم الصالحة من صلة رحم ونحوه تكتب فيجيء هذا الإحباط فيها متمكناً ، وإما على قول من لا يرى ذلك ، فمعنى { وسيحبط أعمالهم } أنها عبارة عن إعدامه أعمالهم وإفسادها ، وأنها لا توجد شيئاً منتفعاً به ، فذلك إحباط على تشبيه واستعارة .
(6/142)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب ، وذلك أنهم أسلموا وقالوا لرسول الله عليه السلام : نحن قد آثرناك على كل شيء وجئناك بنفوسنا وأهلنا ، كأنهم منوا بذلك ، فنزل فيهم : { يمنون عليك أن أسلموا } [ الحجرات : 17 ] ونزلت فيهم هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : فإن كان هذا فالإبطال الذي نهوا عنه ليس بمعنى الإفساد التام ، لأن الإفساد التام لا يكون إلا بالكفر ، وإلا فالحسنات لا تبطلها المعاصي ، وإن كانت الآية عامة على ظاهرها نهي الناس عن إبطال أعمالهم بالكفر ، والإبطال هو الإفساد التام .
وقوله تعالى : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار } روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم قال : يا رسول الله إن حاتماً كانت له أفعال بر فما حاله؟ فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم " هو في النار " ، فبكى عدي وولى ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " أبي وابوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار " ونزلت هذه الآية في ذلك ، وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة .
وقوله تعالى : { فلا تهنوا } معناه : فلا تضعفوا ، من وهن الرجل إذا ضعف .
وقرأ جمهور الناس : " وتدعوا " وقرأ أبو عبد الرحمن : " وتدّعوا " بشد الدال . وقرأ جمهور القراء : " إلى السَلم " بفتح السين . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم : " إلى السِلم " بكسر السين . وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة . وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام ، أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه . وقال قتادة معنى الآية : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ملتئم مع قوله : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } [ الأنفال : 61 ] .
وقوله : { وأنتم الأعلون } يحتمل موضعين أحدهما : أن يكون في موضع الحال ، المعنى : لا تهنوا وأنتم في هذه الحال . والمعنى الثاني : أن يكون إخباراً بنصره ومعونته . و " يتر " ، معناه ينقص ويذهب ، ومنه قوله عليه السلام : " من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر ، والمعنى : لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم . واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الدحل ، وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد ، المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم ، والأول أصح ، وفسر ابن عباس وأصحابه { يتركم } بيظلمكم .
(6/143)

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
قوله تعالى : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } تحقير لأمر الدنيا ، أي فلا تهنوا في الجهاد بسببها ، ووصفها باللعب واللهو هو على أنها وما فيها مما يختص بها لعب ، وإلا ففي الدنيا ما ليس بلعب ولا لهو ، وهو الطاعة وأمر الآخرة وما جرى مجراه .
وقوله تعالى : { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } معناه هذا هوا لمطلوب منكم لا غيره ، لا تسألون أموالكم أن تنفقوها في سبيل الله . وقال سفيان بن عيينة : لا يسألكم كثيراً من أموالكم إحفاء إنما يسألكم غيضاً من فيض ربع العشر فطيبوا أنفسكم ، ثم قال تعالى منبهاً على خلق ابن آدم { إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا } والإحفاء هو أشد السؤال وهو المخجل المخرج ما عند المسؤول كرهاً ، ومنه حفاء الرجل . والتحفي من البحث عن الشيء . وقوله : { تبخلوا } جزم على جواب شرط .
وقرأ جمهور القراء : " ويخرجْ " جزماً على { تبخلوا } . وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : " ويخرجُ " بالرفع على القطع ، بمعنى هو يخرج ، وحكاها أبو حاتم عن عيسى وقرأت فرقة : { و } بالنصب على معنى : يكن بخل وإخراج ، فلما جاءت العبارة بفعل دل على أن التي مع الفعل بتأويل المصدر الذي هو الإخراج ، والفاعل في قوله : { ويخرج } على كل الاختلافات يحتمل أن يكون الله ، ويحتمل أن يكون البخل الذي تضمنه اللفظ ، ويحتمل أن يكون السؤال الذي يتضمنه اللفظ أيضاً . وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب : " يخرج " بفتح الياء " أضغانُكم " رفعاً على أنها فاعلة وروي عنهم : " وتُخرَج " بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله .
وقرأ يعقوب : " ونُخرِج " بضم النون وكسر الراء " أضغانَكم " نصباً . والأضغان كما قلنا معتقدات السوء ، وهذا الذي كان يخاف أن يعتري المسلمين هو الذي تقرب به محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف حين قال له : إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال ثم وقف تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم { ها أنتم هؤلاء } وكرر هاء التنبيه تأكيداً .
وقوله : { عن نفسه } يحتمل معنيين ، أحدهما : فإنما يبخل عن شح نفسه ، والآخر أن يكون بمنزلة على ، لأنك تقول : بخلت عليك وبخلت عنك ، بمعنى : أمسكت عنك .
وقوله تعالى : { والله الغني وأنتم الفقراء } معنى مطرد في قليل الأشياء وكثيرها .
وقوله تعالى : { يستبدل قوماً غيركم } قيل الخطاب لقريش ، والقوم الغير هم أهل المدينة . وقال عبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد : الخطاب لمن حضر المدينة . والقوم الغير : فارس . وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال : " قوم هذا ، لو كان الدين بالثريا لناله رجال من أهل فارس " .
وقوله : { أمثالكم } معناه في الخلاف والتولي والبخل بالأموال ونحو هذا ، وحكى الثعلبي أن القوم الغير : هم الملائكة .
نجز تفسير سورة القتال ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
(6/144)

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
قال قوم فيما حكى الزهراوي { فتحنا لك } يريد به فتح مكة ، وحكاه الثعلبي أيضاً ، ونسبه النقاش إلى الكلبي . وأخبره تعالى به على معنى : قضينا به . والفتاح : القاضي بلغة اليمن ، وقيل المراد : { إنا فتحنا لك } بأن هديناك إلى الإسلام ليغفر . وقال جمهور الناس : والصحيح الذي تعضده قصة الحديبية أن قوله : { إنا فتحنا لك } إنما معناه : إن ما يسر الله لك في تلك الخرجة فتح مبين تستقبله ، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين ، لأنهم كانوا استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي عليه السلام فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت ومذهبه : ما كان في قلوبهم ، ومنه حديث عمر الشهير وما قاله للنبي عليه السلام ولأبي بكر واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو ، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه سهمه وثاب الماء حتى كفى الجيش ، واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم ، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب . وبلغ هديه محله ، قاله الشعبي واستقبل فتح خيبر ، وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً ، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ولم يشركهم فيها أحد .
قال القاضي أبو محمد : وفيه نظر ، لأن أصحاب السفينة مع جعفر بن أبي طالب شاركوهم في القسم ، فينبغي أن يقال لم يشاركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية ، واتفقت في ذلك الوقت ملحمة عظيمة بين الروم وفارس ظهرت فيها الروم ، فكانت من جملة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسر بها هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس وانخضاد الشوكة العظمة من الكفر .
ثم عظم الله أمر نبيه بأن نبأه أنه غفر له { ما تقدم } من ذنبه { وما تأخر } ، فقوله : { ليغفر } هي لام كي ، لكنها تخالفها في المعنى والمراد هنا أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه لك ، فكأنها لام صيرورة ، ولهذا قال عليه السلام : " لقد أنزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا " . وقال الطبري وابن كيسان المعنى : { إنا فتحنا لك } فسبح بحمد ربك واستغفره ليغفر لك ، وبنيا هذه الآية مع قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } [ النصر : 1 ] السورة إلى آخرها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف من وجهين أحدهما : أن سورة ، { إذا جاء نصر الله والفتح } [ النصر : 1 ] إنما نزلت من أخر مدة النبي عليه السلام ناعية له نفسه حسبما قال ابن عباس عندما سأل عمر عن ذلك . والآخر : أن تخصيص النبي عليه السلام بالتشريف كان يذهب ، لأن كل أحد من المؤمنين هو مخاطب بهذا الذي قال الطبري ، أي سبح واستغفر لكي يغفر الله ، ولا يتضمن هذا أن الغفران قد وقع ، وما قدمناه أولاً يقتضي وقوع الغفران للنبي عليه السلام ، ويدل على ذلك قول الصحابة له حين قام حتى تورمت قدماه : أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال :
(6/145)

" أفلا أكون عبداً شكوراً " فهذا نص في أن الغفران قد وقع . وقال منذر بن سعيد المعنى : مجاهدتك بالله المقترنة بالفتح هي ليغفر . وحكى الثعلبي عن الحسن بن الفضل أن المعنى : { إنا فتحنا لك } فاستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات { ليغفر لك } الآية ، وهذا نحو قول الطبري .
وقوله : { ما تقدم من ذنبك وما تأخر } قال سفيان الثوري : { ما تقدم } يريد قبل النبوءة . { وما تأخر } كل شيء لم تعلمه وهذا ضعيف ، وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب البتة ، وأجمع العلماء علىعصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل ، وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل ، واختلفوا هل وقع ذلك من محمد عليه السلام أو لم يقع ، وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني أنه قال : { ما تقدم } هو ذنب آدم وحواء ، أي ببركتك { وما تأخر } هي ذنوب أمتك بدعائك . قال الثعلبي : الإمامية لا تجوز الصغائر على النبي ولا على الإمام ، والآية ترد عليهم . وقال بعضهم : { وما تقدم } هو قوله يوم بدر : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد " . { وما تأخر } هو قوله يوم حنين : " لن نغلب اليوم من قلة " .
قال القاضي أبو محمد : وإتمام النعمة عليه ، هو إظهاره وتغلبه على عدوه والرضوان في الآخرة .
وقوله تعالى : { ويهديك صراطاً مستقيماً } معناه : إلى صراط ، فحذف الجار فتعدى الفعل ، وقد يتعدى هذا بغير حرف جر ، والنصر العزيز : هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه ، والنصر غير العزيز : هو الذي مضمنه الحماية ودفع العدو فقط . وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين : وهي فعلية من السكون هو تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت ، وعلموا أن وعد الله على لسان رسوله حق فازدادوا بذلك إيماناً إلى إيمانهم الأول وكثر تصديقهم . قال ابن عباس : لما آمنوا بالتوحيد زادهم العبادات شيئاً شيئاً . فكانوا يزيدون إيماناً حتى قال لهم : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] فمنحهم أكمل إيمان أهل السماوات والأرض لا إله إلا الله . وفسر ابن عباس { السكينة } بالرحمة .
وقوله : { ولله جنود السماوات والأرض } إشارة إلى تسكين النفوس أيضاً وأن تكون مسلمة ، لأنه ينصر متى شاء وعلى أي صورة شاء مما لا يدبره البشر ، ومن جنده : { السكينة } التي أنزلها في قلوب أصحاب محمد فثبت بصائرهم .
وقوله تعالى : { وكان الله } أي كان ويكون ، فهي دالة على الوجود بهذه الصفة لا معينة وقتاً ماضياً . والعلم والإحكام : صفتان مقتضيتان عزة النصر لمن أراد الموصوف بهما نصره .
(6/146)

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
قوله تعالى : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } [ الفتح : 4 ] معناه : فازدادوا وتلقوا ذلك . فتمكن بعد ذلك قوله : { ليدخل المؤمنين } أي بتكسبهم القبول لما أنزل الله عليهم . ويروى في معنى هذه الآية أنه لما نزلت : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } [ الأحقاف : 9 ] تكلم فيها أهل الكتاب وقالوا : كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به وبالناس معه؟ فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] فلما سمعها المؤمنون ، قالوا : هنيئاً مريئاً ، هذا لك يا رسول الله ، فما لنا؟ فنزلت هذه الآية : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } إلى قوله : { وساءت مصيراً } فعرفه الله تعالى ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين . وذكر النقاش أن رجلاً من عك قال : هذه لك يا رسول الله ، فما لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هي لي ولأمتي كهاتين " وجمع بين أصبعيه .
وقوله : { ويكفر عنهم سيئاتهم } فيه ترتيب الجمل في السرد لا ترتيب وقوع معانيها ، لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة .
وقوله : { الظانين بالله ظن السوء } قيل معناه من قولهم : { لن ينقلب الرسول } [ الفتح : 12 ] ، فكأنهم ظنوا بالله ظن السوء في جهة الرسول والمؤمنين ، وقيل : ظنوا بالله ظن سوء ، إذ هم يعتقدونه بغير صفاته ، فهي ظنون سوء من حيث هي كاذبة مؤدية إلى عذابهم في نار جهنم .
وقوله تعالى : { عليهم دائرة السوء } كأنه يقوي التأويل الآخر ، أي أصابهم ما أرادوه بكم ، وقرأ جمهور القراء : " دائرة السَوء " كالأول ، ورجحها الفراء ، وقال : قل ما تضم العرب السين . قال أبو علي : هما متقاربان ، والفتح أشد مطابقة في اللفظ . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : " ظن السَوء " بفتح السين . و : " دائرة السُوء " بضم السين ، وهو اسم ، أي " دائرة السُوء " الذي أرادوه بكم في ظنهم السوء . وقرأ الحسن : بضم السين في الموضعين ، وروى ذلك عن أبي عمرو ومجاهد ، وسمى المصيبة التي دعا بها عليهم : { دائرة } ، من حيث يقال في الزمان إنه يستدير ، ألا ترى أن السنة والشهر كأنها مستديرات ، تذهب على ترتيب ، وتجيء من حيث هي تقديرات للحركة العظمى ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض } فيقال الأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان دائرة ، لأنها تدور بدوران الزمان ، كأنك تقول : إن أمراً كذا يكون في يوم كذا من سنة كذا ، فمن حيث يدور ذلك اليوم حتى يبرز إلى الوجود تدور هي أيضاً فيه ، وقد قالوا : أربعاء لا تدور ، ومن هذا قول الشاعر : [ الرجز ]
(6/147)

ودائرات الدهر قد تدور ... ومنه قول الآخر : [ الطويل ]
ويعلم أن النائبات تدور ... وهذا كثير ويحسن أن تسمى المصيبة دائرة من حيث كمالها أن تحيط بصاحبها كما يحيط شكل الدائرة على السواء من النقطة ، وقد أشار النقاش إلى هذا المعنى { وغضب الله } تعالى متى قصد به الإرادة فهو صفة ذات ، ومتى قصد به ما يظهر من الأفعال على المغضوب عليه فهي صفة فعل . { ولعنهم } معناه : أبعدهم من رحمته ، وقال تعالى في هذه { وكان الله عزيزاً حكيماً } فذكر صفة العزة من حيث تقدم الانتقام من الكفار ، وفي التي قبل قرن بالحكمة والعلم من حيث وعده بمغيبات ، وقرن باللفظتين ذكر جنود الله تعالى التي منها السكينة ومنها نقمة من المنافقين والمشركين ، فلكل لفظ وجه من المعنى ، وقال ابن المبارك في كتاب النقاش : جنود الله في السماء ، الملائكة ، وفي الأرض الغزاة في سبيل الله . قال عبد الحق : وهذا بعض من كل .
(6/148)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
من جعل الشاهد محصل الشهادة من يوم يحصلها ، فقوله : { شاهداً } حال واقعة . ومن جعل الشاهد مؤدي الشهادة ، فهي حال مستقبلة . وهي التي يسميها النحاة المقدرة ، المعنى : { شاهداً } على الناس بأعمالهم وأقوالهم حين بلغت إليهم الشرع { ومبشراً } معناه : أهل الطاعة برحمة الله { ونذيراً } معناه : أهل الكفر تنذرهم من عذاب الله .
وقرأ جمهور الناس في كل الأمصار : " لتؤمنوا بالله " على مخاطبة الناس ، على معنى قل لهم ، وكذلك الأفعال الثلاثة بعد ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير وابو جعفر : " ليؤمنوا " بالياء على استمرار خطاب محمد عليه السلام ، وكذلك الأفعال الثلاثة بعد . وقرأ الجحدري : " وتَعْزُروه " بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي . وقرأ محمد بن السميفع اليماني وابن عباس : " وتعززوه " بزاءين ، من العزة . وقرأ جعفر بن محمد : " وتَعْزِروه " بفتح التاء وسكون العين وكسر الزاي ومعنى : { تعزروه } تعظموه وتكبروه ، قاله ابن عباس : وقال قتادة معناه : تنصروه بالقتال وقال بعض المتأولين : الضمائر في قوله : { وتعزروه وتوقروه وتسبحوه } هي كلها لله تعالى . وقال الجمهور : { تعزروه وتوقروه } هما للنبي عليه السلام ، { وتسبحوه } هي لله ، وهي صلاة البردين .
وقرأ عمر بن الخطاب : " وتسبحوا الله " ، وفي بعض ما حكى أبو حاتم : " وتسبحون الله " ، بالنون ، وقرأ ابن عباس : " ولتسبحوا الله " . والبكرة : الغدو . والأصيل : العشي .
وقوله تعالى : { إن الذين يبايعونك } يريد في بيعة الرضوان ، وهي بيعة الشجرة حين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأهبة لقتال قريش لما بلغه قتل عثمان بن عفان رسوله إليهم ، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية ، وكان في ألف وأربعمائة رجل . قال النقاش : وقيل كان في ألف وثمانمائة ، وقيل وسبعمائة ، وقيل وستمائة ، وقيل ومائتين .
قال القاضي أبو محمد : وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ، حتى قال سلمة بن الأكوع وغيره : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، وقال عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر .
والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع ، لأن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، وبقي اسم البيعة بعد معاقدة الخلفاء والملوك ، وعلى هذا سمت الخوارج أنفسهم الشراة ، أي اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم . ومعنى : { إنما يبايعون الله } أن صفقتهم إنما يمضيها ويمنح ثمنها الله تعالى .
وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب : { إنما يبايعون الله } . قال أبو الفتح : ذلك على حذف المفعول لدلالة الأول عليه وقربه منه .
(6/149)

وقوله تعالى : { يد الله } قال جمهور المتأولين : اليد ، بمعنى : النعمة ، أي نعمة الله في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها . { فوق أيديهم } التي مدوها لبيعتك . وقال آخرون : { يد الله } هنا ، بمعنى : قوة الله فوق قواهم ، أي في نصرك ونصرهم ، فالآية على هذا تعديد نعمة عليهم مستقبلة مخبر بها ، وعلى التأويل الأول تعديد نعمة حاصلة تشرف بها الأمر . قال النقاش { يد الله } في الثواب .
وقوله : { فمن نكث } أي فمن نقض هذا العهد فإنما يجني على نفسه وإياها يهلك ، فنكثه عليه لا له .
وقرأ جمهور القراء : " بما عاهد عليه الله " بالنصب على التعظيم . وقرأ ابن أبي إسحاق : " ومن أوفى بما عاهد عليه اللهُ " بالرفع ، على أن الله هو المعاهد . وقرأ حفص عن عاصم : " عليهُ " مضمومة الهاء ، وروي ذلك عن ابن أبي إسحاق . والأجر العظيم : الجنة ، لا يفنى نعيمها ولا ينقضي أمرها .
وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي والعامة : " فسيؤتيه " بالياء . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : " فسنؤتيه " بالنون . وفي مصحف ابن مسعود : " فسيؤتيه الله " .
(6/150)

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
{ المخلفون من الأعراب } قال مجاهد وغيره : هم جهينة ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل ، فإنهم في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىعمرته عام الحديبية رأوا أنه يستقبل عدواً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة ، وهم الأحابيش ، ولم يكن تمكن إيمان أولئك الأعراب المجاورين للمدينة فقعدوا عن النبي عليه السلام وتخلفوا ، وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله في هذه الآية ، وأعلم محمد بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كذلك ، قالوا : شغلتنا الأموال والأهلون فاستغفر لنا ، وهذا منهم خبث وإبطال ، فلذلك قال تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } قال الرماني : لا يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة ، ثم قال لنبيه عليه السلام { قل } لهم : { فمن يملك لكم من الله شيئاً } أي من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءاً .
وقرأ جمهور القراء : " إن أراد بكم ضَراً " بفتح الضاد . وقرأ حمزة والكسائي : " ضُراً " بالضم ، ورجحها أبو علي وهما لغتان . وفي مصحف ابن مسعود . " إن أراد بكم سوءاً " . ثم رد عليهم بقوله : { بل كان الله بما تعملون خبيراً } ، ثم فسر لهم العلة التي تخلفوا من أجلها بقوله : { بل ظننتم } الآية ، وفي قراءة عبد الله : " إلى أهلهم " بغير ياء . و : { بوراً } معناه : فاسدين هلكى بسبب فسادهم . والبوار : الهلاك . وبارت السلعة ، مأخوذ من هذا . وبور : يوصف به الجمع والإفراد ، ومنه قول ابن الزبعرى : [ الخفيف ]
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
والبور في لغة أزد عمان : الفاسد ، ومنه قول أبي الدرداء : فأصبح ما جمعوا بوراً ، أي فاسداً ذاهباً ، ومنه قول حسان بن ثابت :
لا ينفع الطول من نوك القلوب وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر البور
وقال الطبري في قوله تعالى : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } يعني به قولهم : { فاستغفر لنا } لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم ، قال وقوله تعالى : { قل فمن يملك } الآية ، معناه : وما ينفعكم استغفاري ، وهل أملك لكم شيئاً والله قد أراد ضركم بسبب معصيتكم كما لا أملك إن أراد بكم النفع في أموالكم وأهليكم .
(6/151)

وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
لما قال لهم : { وكنتم قوماً بوراً } [ الفتح : 12 ] توعدهم بعد ذلك بقوله : { ومن لم يؤمن بالله ورسوله } الآية ، وأنتم هكذا فأنتم ممن أعدت لهم السعير ، وهي النار المؤججة . والمسعر : ما يحرك به النار ، ومنه قوله عليه السلام : " ويل من مسعر حرب " . ثم رجى بقوله تعالى : { ولله ملك السماوات والأرض } ، الآية : لأن القوم لم يكونوا مجاهرين بالكفر ، فلذلك جاء وعيدهم وتوبيخهم ممزوجاً فيه بعض الإمهال والترجية ، لأن الله تعالى قد كان علم منهم أنهم سيؤمنون ، ثم إن الله تعالى أمر نبيه على ما روي بغزو خيبر ووعده بفتحها ، وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود وهم عدو مستضعف ، طلبوا الكون معه رغبة في عرض الدنيا والغنيمة فكان كذلك .
وقوله تعالى : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } معناه : يريدون أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر . وقال عبد الله بن زيد بن أسلم { كلام الله } قوله تعالى : { قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً } [ التوبة : 83 ] وهذا قول ضعيف ، لأن هذه الآية نزلت في رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ، وهذا في آخر عمره ، وآية هذه السورة نزلت سنة الحديبية ، وأيضاً فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه المدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد فضلهم رسول الله بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب ، الحديث المشهور فأمره الله تعالى أن يقول لهم في هذه الغزوة إلى خيبر : { لن تتبعونا } وخص الله بها أهل الحديبية .
وقوله تعالى : { كذلكم قال الله من قبل } يريد وعده قبل باختصاصهم بها ، وقول الأعراب : { بل تحسدوننا } معناه : بل يعز عليكم أن نصيب مغنماً ومالاً ، فرد الله على هذه المقالة بقوله : { بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً } أي لا يفقهون من الأمور مواضع الرشد ، وذلك هو الذي خلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ذلك سبباً إلى منعهم من غزوة خيبر .
وقرأ أبو حيوة : " تحسِدوننا " بكسر السين . وقرأ الجمهور من القراء : " كلام " قال أبو علي : هو أخص بما كان مفيداً حديثاً . وقرأ الكسائي وحمزة وابن مسعود وطلحة وابن وثاب : " كلم " والمعنى فيهما متقارب .
(6/152)

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
أمر الله نبيه عليه السلام بالتقدمة إلى هؤلاء المخلفين بأنهم سيؤمرون بقتال عدو بئيس ، وهذا يدل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ، وإلا فلم يكونوا أهلاً لهذا الأمر ، واختلف الناس من القوم المشار إليهم في قوله : { إلى قوم أولي بأس شديد } فقال عكرمة وابن جبير وقتادة : هم هوازن ومن حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين .
قال القاضي أبو محمد : ويندرج في هذا القول عندي من حورب وغلب في فتح مكة .
وقال كعب : هم الروم الذين خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة . وقال الزهري والكلبي : هم أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة .
وقال منذر بن سعيد : يتركب على هذا القول أن الآية مؤذنة بخلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، يريد لما كشف الغيب أنهما دعوا إلى قتال أهل الردة . وحكى الثعلبي عن رافع بن خديج أنه قال : والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم ، حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا . وقال ابن عباس وابن أبي ليلى : هم الفرس . وقال الحسن : هم فارس والروم . وقال أبو هريرة : هم قوم لم يأتوا بعد ، والقولان الأولان حسنان ، لأنهما الذي كشف الغيب وباقيهما ضعيف . وقال منذر بن سعيد : رفع الله في هذه الجزية ، وليس إلا القتال أو الإسلام ، وهذا لا يوجد إلا في أهل الردة .
قال القاضي أبو محمد : وهو من حورب في فتح مكة . وقرأ الجمهور من القراء : " أو يسلمون " على القطع ، أي أو هم يسلمون دون حرب . وقرأ أبيّ بن كعب فيما حكى الكسائي : " أو يسلموا " بنصب الفعل على تقدير : أو يكون أن يسلموا ، ومثله من الشعر قول امرئ القيس : [ الطويل ]
فقلت له لا تبك عيناك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
يروى : " نموتَ " بالنصب . و " نموتُ " بالرفع ، فالنصب على تقدير : أو يكون أن نموت ، والرفع على القطع ، أو نحن نموت .
وقوله : { فإن تطيعوا } معناه : فيما تدعون إليه ، والعذاب الذي توعدهم : يحتمل أن يريد به عذاب الدنيا ، وأما عذاب الآخرة فبين فيه .
(6/153)

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
لما بالغ عز وجل في عتب هؤلاء المتخلفين من القبائل المجاورة للمدينة لجهينة ومزينة وغفار وأسلم وأشجع ، عقب ذلك بأن عذر أهل الأعذار من العرج والعمى والمرض جملة ورفع الحرج عنهم والضيق والمأثم ، وهذا حكم هؤلاء المعاذير في كل جهاد إلى يوم القيامة ، إلا أن يحزب حازب في حضرة ما ، فالفرض متوجه بحسب الوسع ، ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو وأجرهم فيه مضاعف ، لأن الأعرج أحرى الناس بالصبر وأن لا يفر ، وقد غزا ابن أم مكتوم ، وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية ، وقد خرج النسائي هذا المعنى وذكر ابن أم مكتوم رحمه الله .
وقرأ الجمهور من القراء : " يدخله " بالياء . وقرأ ابن عامر ونافع وأبو جعفر والأعرج والحسن وشيبة وقتادة : " ندخله " بالنون ، وكذلك " نعذبه " و : " يعذبه " .
وقوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } تشريف وإعلام برضاه عنهم حين البيعة ، وبهذا سميت بيعة الرضوان . والرضى بمعنى الإرادة ، فهو صفة ذات . ومن جعل { إذ } مسببة بمعنى لأنهم بايعوا تحت الشجرة ، جاز أن يجعل { رضي } بمعنى إظهار النعم عليهم بسبب بيعتهم ، فالرضى على هذا صفة فعل ، وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها .
وكان سبب هذه المبايعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى مكة رجلاً يبين على قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حرباً ، وإنما جاء معتمراً ، فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي وحمله على جمل يقال له الثعلب ، فلما كلمهم ، عقروا الجمل ، وأرادوا قتل خراش ، فمنعه الأحابيش ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب ، فقال له عمر : يا رسول الله أنا قد علمت فظاظتي على قريش وهم يبغضونني ، وليس هناك من بني عدي بن كعب من يحميني ، ولكن ابعث عثمان بن عفان ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي ، فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره ، حتى إذا جاء قريشاً فأخبرهم ، فقالوا له : إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه ، فقال عثمان : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة ، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وقالوا : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ، ونادى مناديه : أيها الناس ، البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فما تخلف عن البيعة أحد ممن شهد الحديبية إلا الجد بن قيس المنافق ، وحينئذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وقال :
(6/154)

" هذه يد لعثمان ، وهي خير من يد عثمان ثم جاء عثمان بعد ذلك سالماً " .
و { الشجرة } سمرة كانت هنالك ، ذهبت بعد سنين ، فمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فاختلف أصحابه في موضعها ، فقال عمر سيروا هذا التكلف .
وقوله تعالى : { فعلم ما في قلوبهم } قال قوم معناه : من كراهة البيعة على الموت ونحوه وهذا ضعيف ، فيه مذمة للصحابة . وقال الطبري ومنذر بن سعيد معناه : من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص عليه ، وهذا قول حسن ، لكنه من كانت هذه حاله فلا يحتاج إلى نزول ما يسكنه ، أما أنه يحتمل أن يجازى ب { السكينة } والفتح القريب والمغانم .
وقال آخرون معناه : من الهم بالانصراف عن المشركين والأنفة في ذلك على نحو ما خاطب فيه عمر وغيره ، وهذا تأويل حسن يترتب معه نزول { السكينة } والتعريض بالفتح القريب . و { السكينة } هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى والصبر له .
وقرأ الناس : " وأثابهم " قال هارون وقد قرئت : " وأتابهم " بالتاء بنقطتين والفتح القريب : خيبر ، و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف بالمؤمنين إلى المدينة وقد وعده الله بخيبر وخرج إليها لم يلبث ، قال أبو جعفر النحاس ، وقد قيل : الفتح القريب : فتح مكة ، والمغانم الكثيرة : فتح خيبر .
وقرأ يعقوب في رواية رويس : " تأخذونها " على مخاطبتهم بالتاء من فوق . وقرأ الجمهور : " يأخذونها " على الغيبة .
واختلف في عدة المبايعين فقيل : ألف وخمسمائة ، قاله قتادة ، وقيل : وأربعمائة قاله جابر بن عبد الله ، وقيل : وخمسمائة وخمسة وعشرون ، قاله ابن عباس ، وقيل : وثلاثمائة قاله ابن أبي أوفى ، وقيل غير هذا مما ذكرناه من قبل ، وأول من بايع في ذلك رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب قاله الشعبي .
(6/155)

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
قوله تعالى : { وعدكم الله } الآية مخاطبة للمؤمنين ووعد بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة ، قاله مجاهد وغيره .
وقوله : { فعجل لكم هذه } يريد خيبر ، وقال زيد بن أسلم وابنه ، المغانم الكثيرة : خيبر ، و : { هذه } إشارة إلى البيعة والتخلص من أمر قريش ، وقاله ابن عباس : وقوله { وكف أيدي الناس عنكم } يريد من ولي عورة المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين منها ، وذلك أنه كان من أحياء العرب ومن اليهود من يعادي وكانت قد أمكنتهم فرصة فكفهم الله عن ذراري المسلمين وأموالهم ، وهذه للمؤمنين العلامة على أن الله ينصرهم ويلطف لهم ، قاله قتادة . وحكى الثعلبي أنه قال : كف الله غطفان ومن معها عن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاؤوا لنصر أهل خيبر ، وذكره النقاش وقال الثعلبي أيضاً عن بعضهم إنه أراد كف قريش .
وقوله : { وأخرى لم تقدروا عليها } قال عبد الله بن عباس : الإشارة إلى بلاد فارس والروم . وقال الضحاك : الإشارة إلى خيبر . وقال قتادة والحسن : الإشارة إلى مكة ، وهذا هو القول الذي يتسق معه المعنى ويتأيد .
وقوله : { قد أحاط الله بها } معناه بالقدرة والقهر لأهلها ، أي قد سبق في علمه ذلك وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها .
وقوله : { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار } إشارة إلى قريش ومن والاها في تلك السنة ، قاله قتادة ، وفي هذا تقوية لنفوس المؤمنين ، وقال بعض المفسرين : أراد الروم وفارس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وإنما الإشارة إلى العدو الأحضر .
وقوله : { سنة الله } إشارة إلى وقعة بدر ، وقيل إشارة إلى عادة الله من نصر الأنبياء قديماً ، ونصب { سنة } على المصدر ، ويجوز الرفع ولم يقرأ به .
وقوله تعالى : { وهو الذي كف أيديهم } الآية ، روي في سببها أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً ، فلذلك اختصرته فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم خالد بن الوليد وسماه حينئذ سيف الله في جملة من المسلمين ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة ، فسيقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم ، فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب وكف أيدي المسلمين عنهم بالنهي في بيوت مكة وغيرها وذلك هو " بطن مكة " . وقال قتادة : أسر النبي الله صلى الله عليه وسلم هذه الجملة بالحديبية عند عسكره ومن عليهم ، وذلك هو " بطن مكة " . قال النقاش : الحرام كله { مكة } ، والظفر عليهم هو أسر من أسر منهم ، وباقي الآية تحريض على العمل الصالح ، لأن من استشعر أن الله يبصر عمله أصلحه .
وقرأ الجمهور من القراء : " بما تعملون " بالتاء على الخطاب . وقرأ أبو عمرو وحده : " بما يعملون " بالياء على ذكر الكفار وتهددهم .
(6/156)

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
يريد بقوله تعالى : { هم الذين كفروا } أهل مكة الذين تقدم ذكرهم . وقوله { وصدوكم عن المسجد الحرام } هو منعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة عام الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد العمرة وتعظيم البيت ، وخرج معه بمائة بدنة ، قاله النقاش ، وقيل بسبعين ، قاله المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، فلما دنا من مكة ، قال أهل مكة هذا محمد الذي قد حاربنا وقتل فينا ، يريد أن يدخل مكة مراغمة لنا ، والله لا تركناه حتى نموت دون ذلك ، فاجتمعموا لحربه ، واستنجدوا بقبائل من العرب وهم الأحابيش وبعثوا فغوروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم المياه التي تقرب من مكة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية ، وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عثمان ، وبعث أهل مكة إليه رجالاً منهم : عروة بن مسعود ، وبديل بن ورقاء ، وتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك أياماً حتى سفر سهيل بن عمرو ، وبه انعقد الصلح على أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ويعتمر من العام القادم ، فهذا كان صدهم إياه وهو مستوعب في كتب السير ، فلذلك اختصرناه .
وقرأ الجمهور : " والهدْي " بسكون الدال . . وقرأ الأعرج والحسن بن أبي الحسن : " والهدِيّ " بكسر الدال وشد الياء ، وهما لغتان ، وهو معطوف على الضمير في قوله : { وصدوكم } أي وصدوا الهدي . و : { معكوفاً } حال ، ومعناه : محبوساً ، تقول : عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته ، وقد قال أبو علي : إن عكف لا يعرفه متعدياً ، وحكى ابن سيده وغيره : تعديه ، وهذا العكف الذي وقع للهدي كان من قبل المشركين بصدهم ، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم فحبسوا هديهم . و { أن } في قوله : { أن يبلغ } يحتمل أن يعمل فيها الصد ، كأنه قال : وصدوا الهدي كراهة أن أو عن أن ، ويحتمل أن يعمل فيها العكف فتكون مفعولاً من أجله ، أي الهدي المحبوس لأجل { أن يبلغ محله } ، و { محله } مكة .
وذكر الله تعالى العلة في أن صرف المسلمين ولم يمكنهم من دخول مكة في تلك الوجهة ، وهو أنه كان بمكة مؤمنون ومن رجال ونساء خفي إيمانهم ، فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين . قال قتادة : فدفع الله عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين ، وقد يدفع بالمؤمنين عن الكفار .
وقوله تعالى : { لم تعلموهم } صفة للمذكورين . وقوله : { أن تطؤوهم } يحتمل أن تكون { أن } بدلاً من { رجال } ، كأنه قال : ولولا قوم مؤمنون أن تطؤوهم ، أي لولا وطئكم قوماً مؤمنين ، فهو على هذا في موضع رفع ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بدلاً من الضمير في قوله : { لم تعلموهم } كأنه قال : لم تعلموا وطأهم أنه وطء المؤمنين ، والوطء هنا : الإهلاك بالسيف وغيره على وجه التشبيه ، ومنه قول الشاعر [ زهير ] : [ الكامل ]
(6/157)

ووطئتنا وطئاً على حنق ... وطء المقيد ثابت الهرم
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اشدد وطأتك على مضر " ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن آخر وطأة الرب يوم وج بالطائف " لأنها كانت آخر وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيها ذكر هذا المعنى النقاش : و " المعرة " السوء والمكروه اللاصق ، مأخوذ من العر والعرة وهي الجرب الصعب اللازم . واختلف الناس في تعيين هذه المعرة ، فقال ابن زيد : هي المأثم وقال ابن إسحاق : هي الدية .
قال القاضي أبو محمد : وهذان ضعيفان ، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان من أهل الحرب .
وقال الطبري حكاه الثعلبي : هي الكفارة . وقال منذر : المعرة : أن يعيبهم الكفار ويقولوا قتلوا أهل دينهم . وقال بعض المفسرين : هي الملام والقول في ذلك ، وتألم النفس منه في باقي الزمن .
قال القاضي أبو محمد : وهذه أقوال حسان . وجواب { لولا } محذوف تقديره : لمكناكم من دخول مكة وأيدناكم عليهم .
وقرأ الأعمش : " فتنالكم منه معرة " .
واللام في قوله : { ليدخل } يحتمل أن يتعلق بمحذوف من القول ، تقديره : لولا هؤلاء لدخلتم مكة ، لكن شرفنا هؤلاء المؤمنين بأن رحمناهم ودفعنا بسببهم عن مكة { ليدخل الله } : أي ليبين للناظر أن الله تعالى يدخل من يشاء في رحمته ، أو ليقع دخولهم في رحمة الله ودفعه عنهم ، ويحتمل أن تتعلق بالإيمان المتقدم الذكر ، فكأنه قال : ولولا قوم مؤمنون آمنوا ليدخل الله من يشاء في رحمته ، وهذا مذكور ، لكنه ضعيف ، لأن قوله : { من يشاء } يضعف هذا التأويل .
ثم قال تعالى : { لو تزيلوا } أي لو ذهبوا عن مكة ، تقول : أزلت زيداً عن موضعه إزالة ، أي أذهبته ، وليس هذا الفعل من زال يزول ، وقد قيل هو منه .
وقرأ أبو حيوة وقتادة : بألف بعد الزاي ، أي " لو تزايلوا " ، أي ذهب هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء .
وقوله : { منهم } لبيان الجنس إذا كان الضمير في { تزيلوا } للجميع من المؤمنين والكافرين وقال النحاس : وقد قيل إن قوله : { ولولا رجال مؤمنون } الآية . يريد من في أصلاب الكافرين من سيؤمن في غابر الدهر ، وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً . والعامل في قوله : { إذ جعل } قوله : { لعذبنا } ويحتمل أن يكون المعنى : أذكر إذ جعلنا .
(6/158)

و : { الحمية } التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد ، قال الزهري : وحمية سهيل ومن شاهد عقد الصلح في أن منعوا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، ولجوا حتى كتب باسمك اللهم ، وكذلك منعوا أن يثبت : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . ولجوا حتى قال صلى الله عليه وسلم لعلي : " امح واكتب " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث وجعلها تعالى " حمية جاهلية " ، لأنها كانت بغير حجة وفي غير موضعها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جاءهم محارباً لعذرهم في حميتهم ، وإنما جاء معظماً للبيت لا يريد حرباً ، فكانت حميتهم جاهلية صرفاً . والسكينة هي الطمأنينة إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة بوعد الله والطاعة وزوال الأنفة التي لحقت عمر وغيره .
و : { كلمة التقوى } قال الجمهور : هي لا إله إلا الله ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وقال أبو هريرة وعطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقال علي بن أبي طالب : هي لا إله إلا الله والله أكبر ، وحكاه الثعلبي عن ابن عمر .
قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال متقاربة حسان ، لأن هذه الكلمة تقي النار ، فهي { كلمة التقوى } .
وقال الزهري عن المسور ومروان : { كلمة التقوى } المشار إليها هي بسم الله الرحمن الرحيم وهي التي أباها كفار قريش ، فألزمها الله المؤمنين وجعلهم { أحق بها }
قال القاضي أبو محمد : ولا إله إلا الله أحق باسم : { كلمة التقوى } . من : بسم الله الرحمن الرحيم .
وفي مصحف ابن مسعود : " وكانوا أهلها وأحق بها " . والمعنى : كانوا أهلها على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم ، وقيل { أحق بها } من اليهود والنصارى في الدنيا ، وقيل أهلها في الآخرة بالثواب .
وقوله تعالى : { وكان الله بكل شيء عليماً } إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية ، فيروى أنه لما انعقد ، أمن الناس في تلك المدة الحرب والفتنة ، وامتزجوا ، وعلت دعوة الإسلام ، وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب ، وزاد عدد الإسلام أضعاف ما كان قبل ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ويقتضي ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة ، ثم سار إلى مكة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس صلى الله عليه وسلم .
(6/159)

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
روي في تفسير هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه ، بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون . وقال مجاهد : أرى ذلك بالحديبية ، فأخبر الناس بهذه { الرؤيا } ، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك ، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون . لكن ليس في تلك الجهة . وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ، وإنه بهذا أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصد ، وقال المنافقون : وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق } . و : { صدق } هذه تتعدى إلى مفعولين ، تقول صدقت زيداً الحديث . واللام في : { لتدخلن } لام القسم الذي تقتضيه { صدق } لأنها من قبيل تبين وتحقق ، ونحوها مما يعطي القسم .
واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية ، فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه ، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت ، وقال آخرون هو أخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه ، كان ذلك مما يكون ولا بد ، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون ، وقال بعض العلماء : إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم ، إذ قد يموت الإنسان أو يمرض أو يغيب ، وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء ، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة ، إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض . وقال آخرون : استثنى لأجل قوله : { آمنين } لأجل إعلامه بالدخول ، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه ، ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول ، لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين ، فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب . وقال قوم : { إن } بمعنى إذ فكأنه قال : إذ شاء الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن في معناه ، ولكن كون { إن } بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب ، وللناس بعد في هذه الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه ، اختصرت ذكرها ، لأنها لا طائل فيها .
وقرأ ابن مسعود : " إن شاء الله لا تخافون " بدل { آمنين } .
ولما نزلت هذه الآية ، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن ، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت ، وخرجت في العام المقبل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم .
(6/160)

وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين دفع الله بهم . وقوله تعالى : { من دون ذلك } ، أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم .
واختلف الناس في الفتح القريب ، فقال كثير من الصحابة : هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق . أنه الصلح بالحديبية . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أو فتح هو يا رسول الله؟ قال : " نعم " وقال ابن زيد : الفتح القريب : خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها . وقال قوم : الفتح القريب : فتح مكة ، وهذا ضعيف ، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك بعام ، لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه . وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولاً خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر ، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح ، وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة .
وقوله عز وجل : { هو الذي أرسل رسوله } الآية تعظيم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام بأنه يظهره على جميع الأديان . ورأى بعض الناس لفظة : { ليظهره } تقتضي محو غيره به ، فلذلك قالوا : إن هذا الخبر يظهر للوجود عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ، فإنه لا يبقى في وقته غير دين الإسلام وهو قول الطبري والثعلبي . ورأى قوم أن الإظهار هو الإعلاء وإن بقي من الدين الآخر أجزاء ، وهذا موجود الآن في دين الإسلام ، فإنه قد عم أكثر الأرض وظهر على كل دين .
وقوله تعالى : { وكفى بالله شهيداً } معناه : شاهداً ، وذلك يحتمل معنيين : أحدهما شاهداً عندكم بهذا الخبر ومعلماً به . والثاني : شاهداً على هؤلاء الكفار المنكرين أمر محمد الرادين في صدره ومعاقباً لهم بحكم الشهادة ، والآية على هذا وعيد للكفار الذين شاحوا في أن يكتب محمد رسول الله ، فرد عليهم بهذه الآية كلها .
وقوله تعالى : { محمد رسول الله } قال جمهور الناس : هو ابتداء وخبر استوفي فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله : و { الذين معه } ابتداء وخبره : { أشداء } و { رحماء } خبر ثان . وقال قوم من المتأولين : { محمد } " ابتداء " و : { رسول الله } صفة له { والذين } عطف عليه . و : { أشداء } خبر وهؤلاء بوصفهم ، وفي القول الثاني اشترك الجميع في الشدة والرحمة .
(6/161)

قال القاضي أبو محمد : والأول عندي أرجح ، لأنه خبر مضاد لقول الكفار لا نكتب محمد رسول الله .
وقوله : { والذين معه } إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد الحديبية : ب { الذين معه } . و : { أشداء } جمع شديد ، أصله : أشدداء ، أدغم لاجتماع المثلين .
وقرأ الجمهور : " اشداءُ " " رحماءُ " بالرفع ، وروى قرة عن الحسن : " أشداءَ " رحماءَ " بنصبهما قال أبو حاتم : ذلك على الحال والخبر : { تراهم } . قال أبو الفتح : وإن شئت نصبت " أشداءَ " على المدح . وقوله : { تراهم ركعاً سجداً } ، أي ترى هاتين الحالتين كثيراً فيهم . و : { يبتغون } معناه يطلبون . وقرأ عمر وابن عبيد : " ورُضواناً " بضم الراء .
وقوله : { سيماهم } معناه : علامتهم . واختلف الناس في تعيين هذه السيما ، فقال مالك بن أنس : كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب ، كان يبقى على المسح أثره ، وقاله عكرمة . وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية : هو وعد بحالهم يوم القيامة من أن الله تعالى يجعل لهم نوراً { من أثر السجود } .
قال القاضي أبو محمد : كما يجعل غرة من أثر الوضوء الحديث ، ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله : { فضلاً من الله ورضواناً } كأنه قال : علامتهم في تحصيلهم الرضوان يوم القيامة : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } . ويحتمل أن تكون السيما بدلاً من قوله : { فضلاً } . وقال ابن عباس : السمت الحسن : هو السيما ، وهو الخشوع خشوع يبدو على الوجه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه حالة مكثري الصلاة ، لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ، وتقل الضحك وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء .
وقال الحسن بن أبي الحسن وشمر بن عطية : السيما : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجوه من السهر . وقال منصور : سألت مجاهداً : أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل؟ فقال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهو أقسى قلباً من الحجارة . وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : السيما : حسن يعتري وجوه المصلين .
قال القاضي أبو محمد : وذلك لأن الله تعالى يجعل لها في عين الرأي حسناً تابعاً للإجلال الذي في نفسه ، ومتى أجل الإنسان أمراً حسناً عنده منظره ، ومن هذا الحديث الذي في الشهاب : " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد ، سمع شريك بن عبد الله يقول : حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع شريك لما رأى ثابت الزاهد فقال : يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، فظن ثابت أن هذا الكلام متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك .
(6/162)

وقرأ الأعرج : " من إثْر " بسكون الثاء وكسر الهمزة . قال أبو حاتم هما بمعنى . وقرأ قتادة : " من آثار " ، جمعاً .
وقوله تعالى : { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } الآية ، المثل هنا الوصف أو الصفة . وقال بعض المتأولين : التقدير الأمر { ذلك } وتم الكلام . ثم قال : { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال مجاهد وجماعة من المتأولين : المعنى { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } وتم القول ، و : { كزرع } ابتداء تمثيل يختص بالقرآن . وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى : { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة } وتم القول ، ثم ابتدأ { ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال آخرون : المثلان جميعاً هي في التوراة وهي في الإنجيل .
وقوله تعالى : { كزرع } ، هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل : فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء : وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، يقال : أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها ، وأشطأ الزرع : إذا خرج شطأه .
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر : " شَطأ " بفتح الطاء والهمز دون مد ، وقرأ الباقون بسكون الطاء ، وقرأ عيسى بن عمر : " شطاه " بفتح الطاء دون همز ، وقرأ أبو جعفر : " شطه " رمى بالهمزة وفتح الطاء ، ورويت عن نافع وشيبة . وروي عن عيسى : " شطاءه " بالمد والهمز ، وقرأ الجحدري : " شطوه " بالواو . قال أبو الفتح هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشطو إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : الزرع : النبي صلى الله عليه وسلم ، { فآزره } . علي بن أبي طالب رضي الله عنه { فاستغلظ } بأبي بكر ، { فاستوى على سوقه } : بعمر بن الخطاب .
وقوله تعالى : { فآزره } وزنه : أفعله ، أبو الحسن ورجحه أبو علي . وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر : " فأزره " على وزن : فعله دون مد ، ولذلك كله معنيان : أحدهما ساواه طولاً ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
بمحنية قد آزر الضال نبتها ... بجر جيوش غانمين وخيب
أي هو موضع لم يزرع فكمل نبته حتى ساوى شجر الضال ، فالفاعل على هذا المعنى : الشطء والمعنى الثاني : إن آزره وأزره بمعنى : أعانه وقواه ، مأخوذ ذلك من الأزر وشده ، فيحتمل أن يكون الفاعل الشطء ، ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع ، لأن كل واحد منهما يقوي صاحبه وقال ابن مجاهد وغيره " آزره " وزنه : فاعله ، والأول أصوب أن وزنه : أفعله ، ويدلك على ذلك قول الشاعر : [ المنسرح ]
لا مال إلا العطاف تؤزره ... أم ثلاثين وابنة الجبل
(6/163)

وقرأ ابن كثير : " على سؤقه " بالهمز ، وهي لغة ضعيفة ، يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر [ جرير ] :
وجعدة إذا أضاءهما الوقود ... و : { يعجب الزراع } جملة في موضع الحال ، وإذا أعجب { الزراع } ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بالعيوب ولو كان معيباً لم يعجبهم ، وهنا تم المثل .
وقوله تعالى : { ليغيظ بهم الكفار } ابتداء كلام قبله محذوف تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة { ليغيظ بهم الكفار } ، و { الكفار } هنا المشركون . قال الحسن : من غيظ الكفار قول عمر بمكة : لا عبد الله سراً بعد اليوم .
وقوله تعالى : { منهم } هي لبيان الجنس وليست للتبعيض ، لأنه وعد مرجٍّ للجميع .
(6/164)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
كانت عادة العرب وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب ، فمشى بعض الناس ممن لم تتمرن نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم على بعض ذلك ، قال قتادة : فربما قال قوم : لو نزل كذا وكذا في معنى كذا وكذا وينبغي أن يكون كذا ، وأيضاً فإن قوماً ذبحوا ضحاياهم قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، حكاه الحسن بن أبي الحسن ، وقوماً فعلوا في بعض حروبه وغزواته أشياء بآرائهم ، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك ، وحكى الثعلبي عن مسروق أنه قال : دخلت على عائشة في يوم الشك فقالت للجارية : اسقه عسلاً ، فقلت : إني صائم ، فقالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام هذا اليوم ، وفيه نزلت : { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } . وقال ابن زيد : معنى { لا تقدموا } لا تمشوا " بين يدي رسول الله " ، وكذلك بين يدي العلماء فإنهم ورثة الأنبياء . وتقول العرب : تقدمت في كذا وكذا وتقدمت فيه : إذا قلت فيه .
وقرأ الجمهور من القراء : " تُقدِموا " بضم التاء وكسر الدال . وقرأ ابن عباس والضحاك ويعقوب بفتح التاء والدال على معنى : لا تتقدموا ، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد في المشي . والمعنى على ضم التاء { بين يدي } قول الله ورسوله .
وروي أن سبب هذه الآية هو أن وفد بني تميم لما قدم قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله لو أمرت الأقرع بن حابس . وقال عمر بن الخطاب : لا يا رسول الله ، بل أمر القعقاع بن معبد ، فقال له أبو بكر : ما أردت إلى خلافي ، ويروى إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، وارتفعت أصواتهما فنزلت الآية في ذلك . وذهب بعض قائلي هذه المقالة إلى أن قوله : { لا تقدموا } معناه : { لا تقدموا } ولاة ، فهو من تقديم الأمراء ، وعموم اللفظ أحسن ، أي اجعلوه مبدأً في الأقوال والأفعال . و : { سميع } معناه : لأقوالكم . { عليم } معناه : بأفعالكم ومقتضى أقوالكم .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا } الآية هي أيضاً في ذلك الفن المتقدم ، وروى حيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت والعنجهية ، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه في صوته جهارة ، فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج ، وهو كئيب حزين حتى عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فبعث فيه فأنسه وقال له : " امش في الأرض بسطاً فإنك من أهل الجنة " . وقال له مرة : " أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً " فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة يوم مسيلمة .
(6/165)

وفي قراءة ابن مسعود : " لا ترفعوا بأصواتكم " بزيادة الباء .
وقوله : { كجهر بعضكم لبعض } أي كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب ، وكانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم . با محمد يا محمد ، قاله ابن عباس وغيره ، فأمرهم الله بتوقيره ، وأن يدعوه بالرسالة والنبوءة والكلام اللين ، فتلك حالة الموقر ، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم . وبحضرة العالم وفي المساجد ، وفي هذه كلها آثار .
وقوله تعالى : { أن تحبط } مفعول من أجله ، أي مخافة { أن تحبط } ، والحبط : إفساد العمل بعد تقرره ، يقال حبِط بكسر الباء وأحبطه الله ، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافاً واستحقاراً وجرأة فذلك كفر . والحبط معه على حقيقته ، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على طبعه ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك ، فكأنه قال : أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها . ويحتمل أن يكون المعنى : أن تأثموا ويكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم ، فلا تزال معتقداتكم تتجرد القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة . وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقاراً ، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر ، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملاً . وفي قراءة عبد الله بن مسعود : " فتحبط أعمالكم " .
ثم مدح الصنف المخالف لمن تقدم ذكره ، وهم { الذين يغضون أصواتهم } عند النبي صلى الله عليه وسلم . وغض الصوت : خفضه وكسره ، وكذلك البصر ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]
فغض الطرف إنك من نمير ... وروي أن أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ ، لأنه كان لا يسمعه من إخفائه إياه . و : { امتحن الله } معناه اختبر وظهر كما يمتحن الذهب بالنار فيسرها وهيأها للتقوى . وقال عمر بن الخطاب : امتحن للتقوى أذهب عنها الشهوات .
قال القاضي أبو محمد : من غلب شهوته وغضبه ، فذلك الذي { امتحن الله } قلبه للتقوى ، وبذلك تكون الاستقامة .
(6/166)

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قوله تعالى : { إن الذين ينادونك } إلى قوله { رحيم } نزلت في وفد بني تميم حيث كان الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وغيرهم ، وذلك أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي تسعة ، فجعلوا ولم ينتظروا ، فنادوا بجملتهم : يا محمد اخرج إلينا يا محمد اخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير ، فتربص رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إليهم ، فقال له الأقرع بن حابس : يا محمد ، إن مدحي زين وذمي شين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ، ذلك الله تعالى " واجتمع الناس في المسجد ، فقام خطيبهم وفخر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فخطب وذكر الله والإسلام ، فأربى على خطيبهم ، ثم قام شاعرهم فأنشد مفتخراً ، فقام حسان بن ثابت ففخر بالله وبالرسول وبالبسالة ، فكان أشعر من شاعرهم ، فقال بعضهم لبعض : والله إن هذا الرجل لمؤتى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ثم نزلت فيهم هذه الآية .
هذا تلخيص ما تظاهرت به الروايات في هذه الآية ، وقد رواه موسى بن عقبة عن أبي سلمة عن الأقرع بن حابس ، وفي مصحف ابن مسعود : " أكثرهم بنو تميم لا يعقلون " ، و : { الحجرات } : جمع حجرة .
وقرأ جمهور القراء : " الحُجُرات " بضم الحاء والجيم ، وقرأ أبو جعفر القاري وحده : " الحُجَرات " بضم الحاء وفتح الجيم .
وقوله تعالى : { لكان خيراً لهم } يعني في الثواب عند الله وفي انبساط نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم ووده لهم ، وذلك كله خير ، لا محالة أن بعضه انزوى بسبب جفائهم .
وقوله تعالى : { والله غفور رحيم } ترجية لهم وإعلام بقبوله توبة التائب وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ } سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدقاً ، فروي أنه كان معادياً لهم فأراد إذايتهم ، فرجع من بعض طريقه وكذب عليهم ، قاله الضحاك ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنهم منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم ، ونظر في ذلك ، وبعث خالد بن الوليد إليهم ، فورده وفدهم منكرين لذلك ، وروي عن أم سلمة وابن عباس أن الوليد بن عقبة لما قرب منهم خرجوا إليه متلقين له ، فرآهم على بعد ، ففزع منهم ، وظن بهم الشر وانصرف ، فقال ما ذكرناه ، وروي أنه لما قرب منهم بلغه عنهم أنهم قالوا : لا نعطيه الصدقة ولا نعطيه ، فعمل على صحة هذا الخبر وانصرف ، فقال ما ذكرناه فنزلت الآية بهذا السبب ، والوليد على ما ذكر مجاهد هو المشار إليه بالفاسق وحكى الزهراوي قالت أم سلمة : هو الوليد بن عقبة .
(6/167)

قال القاضي أبو محمد : ثم هي باقية فيمن اتصف بهذه الصفة غابر الدهر .
والفسق : الخروج عن نهج الحق ، وهو مراتب متباينة ، كلها مظنة للكذب وموضع تثبت وتبين ، وتأنس القائلون بقبول خبر الواحد بما يقتضيه دليل خطاب هذه الآية ، لأنه يقتضي أن غير الفاسق إذا جاء بنبإ أن يعمل بحسبه ، وهذا ليس باستدلال قوي وليس هذا موضع الكلام على مسألة خبر الواحد .
وقرأ الجمهور من القراء : " فتبينوا " من التبين . وقرأ الحسن وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى : " فتثبتوا " .
و { أن } في قوله : { أن تصيبوا } مفعول من أجله ، كأنه قال : مخافة { أن تصيبوا } . قال قتادة : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزلت هذه الآية : " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " قال منذر بن سعيد هذه الآية ترد على من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول .
قال القاضي أبو محمد : فالمجهول الحال يخشى أن يكون فاسقاً والاحتباط لازم . قال النقاش " تبينوا " أبلغ ، لأنه قد يتثبت من لا يتبين .
وقوله تعالى : { واعلموا أن فيكم رسول الله } توبيخ للكذبة ووعيد للفضيحة ، أي فليفكر الكاذب في أن الله عز وجل يفضحه على لسان رسوله؛ ثم قال : { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } أي لشقيتم وهلكتم ، والعنت : المشقة ، أي لو يطيعكم أيها المؤمنون في كثير مما ترونه باجتهادكم وتقدمكم بين يديه .
وقوله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم } الآية كأنه قال : ولكن الله أنعم بكذا وكذا ، وفي ذلك كفاية وأمر لا تقومون بشكره فلا تتقدموا في الأمور ، واقنعوا بإنعام الله عليكم ، وحبب الله تعالى الإيمان وزينه بأن خلق في قلوب المؤمنين حبه وحسنه ، وكذلك تكريه الكفر والفسق والعصيان ، وحكى الرماني عن الحسن أنه قال : حبب الإيمان بما وصف من الثواب عليه وكره الثلاثة المقابلة للإيمان بما وصف من العقاب عليها .
وقوله تعالى : { أولئك هم الراشدون } رجوع من الخطاب إلى ذكر الغيب ، كأنه قال : ومن فعل هذا وقبله وشكر عليه فأولئك هم الراشدون .
وقوله تعالى : { فضلاً من الله ونعمة } مصدر مؤكد لنفسه ، لأن ما قبله هو بمعناه ، إن التحبيب والتزيين هو نفس الفضل ، وقد يجيء المصدر مؤكداً لما قبله إذا لم يكن هو نفس ما قبله ، كقولك جاءني زيد حقاً ونحوه وكان قتادة رحمه الله يقول : قد قال الله تعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } ، وأنتم والله أسخف الناس رأياً ، وأطيش أحلاماً ، فليتهم رجل نفسه ، ولينتصح كتاب الله تعالى .
(6/168)

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
{ طائفتان } مرفوع بإضمار فعل . والطائفة : الجماعة . وقد تقع على الواحد ، واحتج لذلك بقوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } [ التوبة : 122 ] . ورأى بعض الناس أن يشهد حداً لزناة رجل واحد . فهذه الآية الحكم فيها في الأفراد وفي الجماعات واحد .
واختلف الناس في سبب هذه الآية . فقال أنس بن مالك والجمهور سببها : ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد الله بن أبي ابن سلول حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه . فقال عبد الله بن أبيّ لما غشيه حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك . فرد عليه عبد الله بن رواحة الحديث بطوله . فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد ، ويروى بالحديد . وقال أبو مالك والحسن سببها : أن فرقتين من الأنصار وقع بينهما قتال . فأصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد ونزلت الآية في ذلك وقال السدي : كانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ولها زوج من غيرهم . فوقع بينهما شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه . فوقع قتال نزلت الآية بسببه .
و : { بغت } معناه : طلبت العلو بغير الحق ، ومدافعة الفئة الباغية متوجه في كل حال وأما التهيؤ لقتالها فمع الولاة . وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أمشركون أهل صفين والجمل؟ قال : لا . من الشرك فروا . قيل أفمنافقون؟ قال : لا . لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً . قيل فما حالهم؟ قال : إخواننا بغوا علينا . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " حكم الله في الفئة الباغية أن لا يجهز على جريح . ولا يطلب هارب . ولا يقتل أسير " و : { تفيء } معناه : ترجع . والإقساط : الحكم بالعدل .
وقوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } يريد إخوة الدين . وقرأ الجمهور من القراء : " بين أخويكم " وذلك رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر والجماعة متى فصل الإصلاح فإنما هو بين رجلين رجلين . وقرأ ابن عامر والحسن بخلاف عنه : " بين إخوتكم " .
وقرأ ابن سيرين وزيد بن ثابت وابن مسعود والحسن وعاصم الجحدري وحماد بن سلمة : " بين إخوانكم " . وهي حسنة . لأن الأكثر من جمع الأخ في الدين ونحوه من النسب إخوان . والأكثر في جمعه من النسب إخوة وإخاء . قال الشاعر : [ الطويل ]
وجدتم أخاكم دوننا إذ نسيتم ... وأي بني الإخاء تنبو مناسبه
وقد تتداخل هذه الجموع في كتاب الله . فمنه : { إنما المؤمنون إخوة } أو بيوت إخوانكم فهذا جاء على الأقل من الاستعمال .
(6/169)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
هذه الآيات والتي بعدها نزلت في خلق أهل الجاهلية . وذلك لأنهم كانوا يجرون مع الشهوات نفوسهم لم يقومهم أمر من الله ولا نهي . فكان الرجل يسطو ويهمز ويلمز وينبز بالألقاب ويظن الظنون . فيتكلم بها . ويغتاب ويفتخر بنسبه إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطالة . فنزلت هذه الآية تأديباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم . وذكر بعض الناس لهذه الآيات أسباباً . فمما قيل : إن هذه الآية : { لا يسخر قوم } نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه كان يمشي بالمدينة مسلماً ، فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة ، فعز ذلك عليه وشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال القاضي أبو محمد : والقوي عندي أن هذه الآية نزلت تقويماً كسائر أمر الشرع ولو تتبعت الأسباب لكانت أكثر من أن تحصى .
و : { يسخر } معناه : يستهزئ . والهزء إنما يترتب متى ضعف امرؤ إما لصغر وإما لعلة حادثة ، أو لرزية أو لنقيصة يأتيها ، فنهي المؤمنون عن الاستهزاء في هذه الأمور وغيرها نهياً عاماً ، فقد يكون ذلك المستهزأ به خيراً من الساخر ، والقوم في كلام العرب : واقع على الذكران ، وهو من أسماء الجمع : كالرهط والنفر . وقول من قال : إنه من القيام أو جمع قائم ضعيف ، ومنه قول الشاعر وهو زهير : [ الوافر ]
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وهذه الآية أيضاً تقتضي اختصاص القوم بالذكران ، وقد يكون مع الذكران نساء فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور ، ثم نهى تعالى النساء عمّا نهى عنه الرجال من ذلك .
وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود : " عسوا أن يكونوا " ، " وعسين أن يكن " .
و : { تلمزوا } ، معناه : يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص ونحوه ، وقد يكون اللمز بالقول وبالإشارة ونحوه مما يفهمه آخر ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، وهو مشبه بالهمز بالعود ونحوه مما يقتضي المماسة ، قال الشاعر [ رؤبة ] :
ومن همزنا عزه تبركعا ... وقيل لأعرابي : أتهمز الفأرة؟ فقال الهر يهمزها . وحكى الثعلبي أن اللمز ما كان في المشهد والهمز ما كان في المغيب . وحكى الزهراوي عن علي بن سليمان عَكَّهُ من ذلك فقال : الهمز أن يعيب حضرة واللمز في الغيبة . ومنه قوله تعالى : { ويل لكل همزة لمزة } [ الهمزة : 1 ] ومنه قوله تعالى : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] .
وقرأ الجمهور : " تلمِزوا " بكسر الميم . وقرأ الأعرج والحسن : " تلمُزوا " بضم الميم . قال أبو عمرو بن العلاء : هي عربية . قراءتنا بالضم وأحياناً بالكسر .
وقوله تعالى : { أنفسكم } معناه : بعضكم بعضاً كما قال : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] كأن المؤمنين كنفس واحدة إذ هم إخوة . فهم كما قال صلى الله عليه وسلم :
(6/170)

" كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى " وهم كما قال أيضاً : " كالبنيان يشد بعضه بعضاً " . والتنابز : التلقب والنبز واللقب واحد . أو اللقب : هو ما يعرف به الإنسان من الأسماء التي يكره سماعها . وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم فقال له : يا فلان ، فقيل له : إنه يغضب من هذا الاسم ، ثم دعا آخر كذلك . فنزلت الآية في هذا . وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش . وواصل الأحدب . ونحوه مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد استخفاف وأذى . وقد قال عبد الله بن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور . وأسند النقاش إلى عطاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كنوا أولادكم؟ " قال عطاء : مخافة الألقاب . وقال ابن زيد . معنى : { ولا تنابزوا بالألقاب } أي لا يقول أحد لأحد : يا يهودي بعد إسلامه . ولا يا فاسق بعد توبته . ونحو هذا . وحكى النقاش أن كعب بن مالك وابن أبي حدرد تلاحيا ، فقال له كعب : يا أعرابي . يريد أن يبعده من الهجرة . فقال له الآخر : يا يهودي . يريد لمخالطة الأنصار اليهود في يثرب . فنزلت الآية .
وقوله تعالى : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } يحتمل معنيين : أحدهما : بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم . والثاني : بئس ما يقول الرجل لأخيه : يا فاسق بعد إيمانه . وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسق والإيمان .
قال القاضي أبو محمد : وهذه نزعة اعتزالية .
ثم شدد تعالى عليهم النهي . بأن حكم بظلم من لم يتب ويقلع عن هذه الأشياء التي نهى عنها . ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن . وأن لا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه ، لما في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر . وحكم على بعضه بأنه { إثم } إذ بعضه ليس بإثم . ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير بالناس وحسنه بالله تعالى . والمظنون من شهادات الشهود والمظنون به من أهل الشر . فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن به . وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه : هو أن تظن سوءاً برجل ظاهره الصلاح . بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير . وقال بعض الناس : { إثم } معناه : كذب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث " . وقال بعض الناس . معنى : { إن بعض الظن إثم } أي إذا تكلم الظان أثم . وما لم يتكلم فهو في فسحة . لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الحزم سوء الظن " .
قال القاضي أبو محمد : وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن ويسدون ذرائعه .
(6/171)

قال سلمان الفارسي : إني لأعد غراف قِدْري مخافة الظن . وذكر النقاش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " احترسوا من الناس بسوء الظن . " وكان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه .
وقال ابن مسعود : الأمانة خير من الخاتم . والخاتم خير من ظن السوء .
وقوله : { ولا تجسسوا } أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن . واجتزوا بالظواهر الحسنة .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون : " لا تحسسوا " بالحاء غير منقوطة . وقال بعض الناس : التجسس بالجيم في الشر . والتحسس بالحاء في الخير . وهكذا ورد القرآن ، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال . وقال أبو عمرو بن العلاء : التجسس : ما كان من وراء وراء . والتحسس بالحاء : الدخول والاستعلام . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً " . وذكر الثعلبي حديث حراسة عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف . وذكر أيضاً حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي . وقال زيد بن وهب . قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً؟ فقال : إنا نهينا عن التحسس . فإن يظهر لنا شيء أخذنا به .
{ ولا يغتب } معناه : ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئاً هو فيه يكره سماعه . وروي أن عائشة قالت عن امرأة : ما رأيت أجمل منها إلا أنها قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " اغتبتها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته . وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته " . وفي حديث آخر : " الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره " . قيل : وإن كان حقاً . قال : " إذا قلت باطلاً فذلك هو البهتان " . وقال معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي : إذا مر بك رجل اقطع . فقلت : ذلك الأقطع ، كان ذلك غيب . وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه . والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى يستحل " .
قال القاضي أبو محمد : وقد يموت من اغتيب ، أو يأبى .
وروي أن رجلاً قال لابن سيرين : إني قد اغتبتك فحللني . فقال له ابن سيرين إني لا أحل ما حرم الله . والغيبة مشتقة من غاب يغيب . وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه . ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(6/172)

" أما معاوية فصعلوك لا مال له " . وما يقال في الفسقة أيضاً وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أعن الفاجر ترعون؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه " ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " بئس ابن العشيرة " . ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم . فمنه قول الشاعر [ سويد بن أبي كاهل اليشكري ] : [ الرمل ]
فإذا لاقيته عظّمني ... وإذا يخلو له لحمي رتع
ويروى فيحييني إذا لاقيته .
ومنه قول الآخر : [ المقنع الكندي ] .
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
فوقفهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } فالجواب عن هذا : لا . وهم في حكم من يقولها . فخوطبوا على أنهم قالوا لا . فقيل لهم : { فكرهتموه } وبعد هذا مقدر تقديره : فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا المقدر يعطف قوله : { واتقوا الله } قاله أبو علي الفارسي . وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع . وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل . وهو أحق أن يجاب . لأنه بصير عالم . والطبع أعمى جاهل .
وقرأ الجمهور : " ميْتاً " بسكون الياء . وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد : " ميِّتاً " بكسرها والشد . وقرأ أبو حيوة : " فكُرّهتموه " بضم الكاف وشد الراء .
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أعلم بأنه { تواب رحيم } إبقاء منه تعالى وإمهالاً وتمكيناً من التوبة .
(6/173)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله تعالى : { من ذكر وأنثى } يحتمل أن يريد آدم وحواء . فكأنه قال : إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء . ويحتمل أن يريد الذكر والأنثى اسم الجنس . فكأنه قال : إنا خلقنا كل واحد منكم من ماء ذكر وما أنثى . وقصد هذه الآية التسوية بين الناس . ثم قال تعالى : { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } أي لئلا تفاخروا ويريد بعضكم أن يكون أكرم من بعض . فإن الطريق إلى الكرم غير هذا : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وروى بو بكرة : قيل يا رسول الله : من خير الناس؟ قال : " من طال عمره وحسن عمله " . وفي حديث آخر من خير الناس؟ قال : " آمرهم بالمعروف . وأنهاهم عن المنكر . وأوصلهم للرحم وأتقاهم " . وحكى الزهراوي أن سبب هذه الآية غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح عند النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن فلانة ، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : " إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى " فنزلت هذه الآية ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً ، والشعوب : جمع شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطاً بنسب واحد ، ويتلوه القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الأسرة والفصيلة : وهما قرابة الرجل الأدنون فمضر وربيعة وحمير شعوب ، وقيس وتميم ومذحج ومراد ، قبائل مشبهة بقبائل الرأس ، " لأنها قطع تقابلت " وقريش ومحارب وسليم عمارات ، وبنو قصي وبنو مخزوم بطون ، وبنو هاشم وبنو أمية أفخاذ ، وبنو عبد المطلب أسرة وفصيلة ، وقال ابن جبير : الشعوب : الأفخاذ . وروي عن ابن عباس الشعوب : البطون ، وهذا غير ما تمالأ عليه اللغويون . قال الثعلبي ، وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل . وأما الشعب الذي هو في همدان الذي ينسب إليه الشعبي فهو بطن يقال له الشعب .
قال القاضي أبو محمد : وقيل للأمم التي ليست بعرب : شعوبية ، نسبة إلى الشعوب ، وذلك أن تفصيل أنسابها خفي فلم يعرف أحد منهم إلا بأن يقال : فارسي تركي رومي زناتي . فعرفوا بشعوبهم وهي أعم ما يعبر به عن جماعتهم ، ويقال لهم الشعوبية بفتح الشين ، وهذا من تغيير النسب ، وقد قيل فيهم غير ما ذكرت ، وهذا أولى عندي .
وقرأ الأعمش : " لتتعارفوا " وقرأ عبد الله بن عباس : " لتعرفوا أن " ، على وزن تفعِلوا بكسر العين وفتح الألف من " أن " ، وبإعمال " لتعرفوا " فيها ، ويحتمل على هذه القراءة أن تكون اللام في قوله : " لتعرفوا " لام كي ، ويضطرب معنى الآية مع ذلك ، ويحتمل أن تكون لام الأمر ، وهو أجود في المعنى ، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفاً تقديره : الحق ، وإذا كانت لام كي فكأنه قال : يا أيها الناس أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون لأن تتعارفوا ولأن تعرفوا الحقائق ، وأما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب .
(6/174)

وقرأ ابن مسعود : " لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم " . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يكون أكرم الناس ، فليتق الله " . ثم نبه تعالى على الحذر بقوله : { إن الله عليم خبير } أي بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم في الإيمان ، أي لم تصدقوا بقلوبكم { ولكن قولوا أسلمنا } . والإسلام يقال بمعنيين ، أحدهما : الدين يعم الإيمان والأعمال ، وهو الذي في قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] والذي في قوله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس " والذي في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له : ما الإسلام؟ قال : بأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، والذي في قوله لسعد بن أبي وقاص : " أو مسلماً ، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه " الحديث ، فهذا الإسلام ليس هو في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } والمعنى الثاني للفظ الإسلام : هو الاستسلام والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم ، وهذا هو الإسلام في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } ، و { الإيمان } الذي هو التصديق أخص من الأول وأعم بوجه ، ثم صرح لهم بأن { الإيمان } لم يدخل قلوبهم ثم فتح لهم باب التوبة بقوله : { وإن تطيعوا الله } الآية ، وطاعة الله ورسوله في ضمنها الإيمان والأعمال .
وقرأ جمهور القراء : " لا يلتكم " من لات يليت إذا نقص ، يقال : لاته حقه إذا نقصه منه ، ولت السلطان إذا لم يصدقه فيما سأل عنه . وقرأ أبو عمرو والأعرج والحسن وعمرو : " لا يألتكم " من ألت يألت وهو بمعنى : لات ، وكذلك يقال : ألتِ بكسر اللام يألت ، ويقال أيضاً في معنى لات ، ألت يولت ولم يقرأ بهذه اللغة وباقي الآية ترجية .
(6/175)

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قوله تعالى : { إنما } في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى . وقوله تعالى : { ثم لم يرتابوا } أي لم يشكوا في إيمانهم ولم يداخلهم ريب { وهم الصادقون } ، إذ جاء فعلهم مصدقاً لقولهم ، ثم أمره تعالى بتوبيخهم بقوله : { قل أتعلمون الله بدينكم } ، أي بقولكم : { آمنا } [ الحجرات : 14 ] وهو يعلم منكم خلاف ذلك ، لأنه العليم بكل شيء .
وقوله : { يمنون عليك أن أسلموا } نزلت في بني أسد أيضاً ، وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت محارب خصفة وهوازن غطفان وغيرهم ، فنزلت هذه الآية ، حكاه الطبري وغيره . وقرأ ابن مسعود : " يمنون عليك إسلامهم " . وقوله يحتمل أن يكون مفعولاً صريحاً . ويحتمل أن يكون مفعولاً من أجله .
وقوله : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } بزعمكم إذ تقولون آمنا ، فقد لزمكم أن الله مان عليكم ، ويدلك على هذا المعنى قوله : { إن كنتم صادقين } فتعلق عليهم الحكمان هم ممنون عليهم على الصدق وأهل أن يقولوا أسلمنا من حيث هم كذبة .
وقرأ ابن مسعود : " إذ هداكم " .
وقوله تعالى : { يمن عليكم } يحتمل أن يكون بمعنى : ينعم كما تقول : من الله عليك ، ويحتمل أن يكون بمعنى : يذكر إحسانه فيجيء معادلاً ل { يمنون عليك } ، وقال الناس قديماً : إذا كفرت النعمة حسنت المنة . وإنما المنة المبطلة للصدقة المكروهة ما وقع دون كفر النعمة .
وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة وقتادة وابن وثاب : " تعملون " بالتاء على الخطاب . وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبان : " يعملون " بالياء من تحت على ذكر الغيب .
(6/176)

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
قال ابن عباس : { ق } اسم من أسماء القرآن . وقال أيضاً اسم من أسماء الله تعالى . وقال قتادة والشعبي : هو اسم السورة ، وقال يزيد وعكرمة ومجاهد والضحاك : هم اسم الجبل المحيط بالدنيا ، وهو فيما يزعمون من زمردة خضراء ، منها خضرة السماء وخضرة البحر . و { المجيد } الكريم في أوصافه الذي جمع كل معلوة .
و : { ق } على هذه الأقوال : مقسم به وب { القرآن المجيد } ، وجواب القسم منتظر . واختلف الناس فيه ، فقال ابن كيسان جوابه : { ما يلفظ من قول } [ ق : 18 ] ، وقيل الجواب : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } [ ق : 37 ] وقال الزهراوي عن سعيد الأخفش الجواب : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } وضعفه النحاس ، وقال الكوفيون من النحاة الجواب : { بل عجبوا } ، والمعنى : لقد عجبوا . قال منذر بن سعيد : إن جواب القسم في قوله : { ما يبدل القول لدي } [ ق : 29 ] ، وفي هذه الأقوال تكلف وتحكم على اللسان .
وقال الزجاج والمبرد والأخفش : الجواب مقدر تقديره : { ق } ، { والقرآن المجيد } لتبعثن ، وهذا قول حسن وأحسن منه : أن يكون الجواب الذي يقع عنه الإضراب ب { بل } ، كأنه قال . { ق والقرآن المجيد } ما ردوا أمرك بحجة ، أو ما كذبوك ببرهان ، ونحو هذا مما لا بد لك من تقديره بعد الذي قدر الزجاج ، لأنك إذا قلت الجواب : لتبعثن فلا بد بعد ذلك أن يقدر خبر عنه يقع الإضراب ، وهذا الذي جعلناه جواباً وجاء المقدر أخصر . وقال جماعة من المفسرين في قوله : { ق } إنه حرف دال على الكلمة ، على نحو قول الشاعر [ الوليد بن المغيرة ] : [ الرجز ]
قلت لها قفي فقالت قاف ... واختلفوا بعد ، فقال القرطبي : هو دال على أسماء الله تعالى هي : قادر ، وقاهر ، وقريب ، وقاض ، وقابض ، وقيل المعنى : قضي الأمر من رسالتك ونحوه ، { والقرآن المجيد } ، فجواب القسم في الكلام الذي يدل عليه قاف . وقال قوم المعنى : قف عند أمرنا . وقيل المعنى : قهر هؤلاء الكفرة ، وهذا أيضاً وقع عليه القسم ويحتمل أن يكون المعنى : قيامهم من القبور حق ، { والقرآن المجيد } ، فيكون أول السورة من المعنى الذي اطرد بعد ، وعلى هذه الأقوال فثم كلام مضمر عنه وقع الإضراب ، كأنه قال : ما كذبوك ببرهان ، ونحو هذا مما يليق مظهراً .
وقرأ جمهور من القراء { ق } بسكون الفاء . قال أبو حاتم : ولا يجوز غيرها إلا جواز سوء .
قال القاضي أبو محمد : وهذه القراءة تحسن مع أن يكون { ق } حرفاً دالاً على كلمة . وقرأ الثقفي وعيسى : قاف بفتح الفاء ، وهذه تحسن مع القول بأنها اسم للقرآن أو لله تعالى ، وكذلك قرأ الحسن وابن أبي إسحاق بكسر الفاء ، وهي التي في رتبة التي قبلها في أن الحركة للالتقاء وفي أنها اسم للقرآن .
(6/177)

و { المجيد } الكريم الأوصاف الكثير الخير .
واختلف الناس في الضمير في : { عجبوا } لمن هو فقال جمهور المتأولين : هو لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن كل مفطور عجب من بعثة بشر رسول الله ، لكن المؤمنون نظروا واهتدوا ، والكافرون بقوا في عمايتهم وصموا وحاجوا بذلك العجب ، ولذلك قال تعالى : { فقال الكافرون هذا شيء عجيب } . وقال آخرون بل الضمير في { عجبوا } للكافرين ، وكرر الكلام تأكيداً ومبالغة . والإشارة بهذا يحتمل أن تكون إلى نفس مجيء البشر .
ويحتمل أن تكون إلى القول الذي يتضمنه الإنذار ، وهو الخبر بالبعث ، ويؤيد هذا القول ما يأتي بعد . وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر " إذا " على الخبر دون استفهام ، والعامل { رجع بعيد } ، قال ابن جني ويحتمل أن يكون المعنى " أإذا متنا بعد رجعنا " ، فيدل : ذلك { رجع بعيد } على هذا الفعل الذي هو بعد ويحل محل الجواب لقولهم : " إذا " . والرجع : مصدر رجعته . وقوله { بعيد } في الأوهام والفكر كونه فأخبر الله تعالى رداً على قولهم بأنه يعلم ما تأكل الأرض من ابن آدم وما تبقى منه ، وإن ذلك في الكتاب ، وكذلك يعود في الحشر معلوماً ذلك كله .
و " الحفيظ " : الجامع الذي لم يفته شيء . وقال الرماني : { حفيظ } متبع أن يذهب ببلى ودروس ، وروي في الخبر الثابت : أن الأرض تأكل ابن آدم إلا عجب الذنب ، وهو عظم كالخرجلة ، فمنه يركب ابن آدم ، وحفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة ، وهذا هو " الحق " . وذهب بعض الأصوليين غلى أن الأجساد المبعثرة يجوز أن تكون غير هذه ، وهذا عندي خلاف لظاهر كتاب الله ولو كانت غيرها فكيف كانت تشهد الأيدي والأرجل على الكفرة إلى غير ذلك مما يقتضي أن أجساد الدنيا هي التي تعود . وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور ، المعنى : ما تنقص من لحومهم وأبشارهم وعظامهم . وقال السدي معنى قوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } أي ما يحصل في بطنها من موتاهم ، وهذا قول حسن مضمنه الوعيد .
وقال ابن عباس أيضاً في ما حكى الثعلبي ، ممعناه : قد علمنا ما تنقص أرض الإيمان من الكفرة الذين يدخلون في الإيمان ، وهذا قول أجنبي من المعنى الذي قبل وبعد ، وقيل قوله : { بل كذبوا } مضمر ، عنه وقع الإضراب تقديره : ما أجادوا النظر أو نحو هذا ، والذي يقع عنه الإضراب ب { بل } ، الأغلب فيه أنه منفي تقضي { بل } بفساده ، وقد يكون أمراً موجباً تقضي { بل } بترك القول فيه لا بفساده ، وقرأ الجمهور : " لَمّا " بفتح اللام وشد الميم . وقرأ الجحدري : " لِمَا " بكسر اللام وتخفيف الميم ، قال أبو الفتح : هي كقولهم : أعطيته لما سأل ، وكما في التاريخ : لخمس خلون ، ونحو هذا ، ومنه قوله تعالى :
(6/178)

{ لا يجليها لوقتها } [ الأعراف : 187 ] ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
إذا هبت لقاربها الرياح ... و : " المريج " : معناه : المختلط ، قاله ابن زيد ، أي بعضهم يقول ساحر ، وبعضهم كاهن ، وبعضهم شاعر إلى غير ذلك من تخليطهم ، وكذلك عادت فكرة كل واحد منهم مختلطة في نفسها ، قال ابن عباس : المريج : المنكر . وقال مجاهد : الملتبس ، والمريج المضطرب أيضاً ، وهو قريب من الأول ، ومنه الحديث : مرجت عهود الناس ومنه { مرج البحرين } [ الفرقان : 53 ، الرحمن : 19 ] وقال الشاعر [ أبو دؤاد ] :
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد
ثم دل تعالى على العبرة بقوله : { أفلم ينظروا إلى السماء } الآية ، { وزيناها } معناه : بالنجوم . و " الفروج " الفطور والشقوق خلالها وأثناءها ، قاله مجاهد وغيره ، وحكى النقاش أن هذه الآية تعطي أن السماء مستديرة ، وليس الأمر كما حكي ، إذا تدبر اللفظ وما يقتضي . و " الرواسي " : الجبال . و " الزوج " : النوع . و " البهيج " قال ابن عباس وقتادة وابن زيد هو : الحسن المنظر ، وقوله عز وجل : { تبصرة وذكرى } منصوب على المصدر بفعل مضمر . و : " المنيب " الراجع إلى الحق عن فكرة ونظر . قال قتادة : هو المقبل بقلبه إلى الله وخص هذه الصنيفة بالذكر تشريفاً من حيث هي المنتفعة بالتبصرة والذكرى ، وإلا فهذه المخلوقات هي تبصرة وذكرى لكل بشر . وقال بعض النحويين : { تبصرة وذكرى } مفعولان من أجله ، وهذا يحتمل والأول أرجح .
(6/179)

وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
قوله تعالى : { ماء مباركاً } قيل يعني جميع المطر ، كله يتصف بالبركة وإن ضر بعضه أحياناً ، ففيه مع ذلك الضر الخاص البركة العامة . وقال أبو هريرة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء المطر فسالت الميازيب قال : " لا محل عليكم العام " وقال بعض المفسرين : { ماء مباركاً } يريد به ماء مخصوصاً خالصاً للبركة ينزله الله كل سنة ، وليس كل المطر يتصف بذلك . { وحب الحصيد } الحنطة . و : { باسقات } معناه : طويلات ذاهبات في السماء ، ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة : [ مجزوء الكامل مرفّل ]
يا ابن الذين لمجدهم ... بسقت على قيس فزارهْ
وروى قطبة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : " باصقات " بالصاد ، قال أبو الفتح الأصل : السين وإنما الصاد بدل منه ، لاستعلاء القاف . و " الطلع " أول ظهور التمر في الكفرى وهو أبيض منضد كحب الرمان . فما دام ملتصقاً بعضه ببعض فهو { نضيد } ، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد . و : { رزقاً } نصب على المصدر والضمير في : { به } عائد على المطر . ووصف البلدة ب " ميت " على تقدير القطر والبلد .
وقرأ الناس " ميْتاً " مخففاً ، وقرأ أبو جعفر وخالد " ميّتاً " بالتثقيل .
ثم بين تعالى موضع الشبه فقال : { كذلك الخروج } ، هذه الآيات كلها إنما هي أمثلة وأدلة على البعث . و { الخروج } يريد به من القبور ، { وأصحاب الرس } قوم كان لهم بئر عظيمة وهي { الرس } ، وكل ما لم يطو من بئر أو معدن أو نحوه فهو رسّ . وأنشد أبو عبيدة للنابغة الجعدي :
سبقت إلى قرطبا هل ... تنابلة يحفرون الرساسا
وجاءهم نبي يسمى حنظلة بن صفوان فيما روي فجعلوه في { الرس } وردموا عليه . فأهلكهم الله ، وقال كعب الأحبار في كتاب الزهراوي : { أصحاب الرس } هم أصحاب الأخدود وهذا ضعيف . لأن أصحاب الأخدود لم يكذبوا نبياً ، إنما هو ملك أحرق قوماً . وقال الضحاك { الرس } : بئر قتل فيها صاحب ياسين ، قال منذر وروي عن ابن عباس أنهم قوم عاد .
و { الأيكة } : الشجر الملتف ، وهم قوم شعيب ، والألف واللام من { الأيكة } غير معرفة ، لأن " أيكة " اسم علم كطلحة يقال أيكة وليكة ، فهي كالألف واللام في الشمس والقمر وفي الصفات الغالبة وفي هذا نظر . وقرأ " الأيكة " بالهمز أبو جعفر ونافع وشيبة وطلحة .
{ وقوم تبع } هم حمير و { تبع } - سم فيهم ، يذهب تبع ويجيء تبع ككسرى في الفرس وقيصر في الروم ، وكان أسعد أبو كرب أحد التبابعة رجلاً صالحاً صحب حبرين فتعلم منهما دين موسى عليه السلام ثم إن قومه أنكروا ذلك عليه فندبهم إلى محاجة الحبرين ، فوقعت بينهم مجادلة ، واتفقوا على أن يدخلوا جميعهم النار التي في القربان ، فمن أكلته فهو المبطل ، فدخلوها فاحترق { قوم تبع } ، وخرج الحبران تعرق جباههما ، فهلك القوم المخالفون وآمن سائر { قوم تبع } بدين الحبرين .
(6/180)

وفي الحديث اختلاف كثير . أثبت أصح ذلك على ما في سير ابن هشام . وذكر الطبري عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تلعنوا تبعاً ، فإنه كان قد أسلم " وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن تبعاً كان نبياً .
وقوله تعالى : { كل كذب الرسل } قال سيبويه ، التقدير : كلهم وحذف لدلالة كل عليه إيجازاً . و " الوعيد " الذي حق : هو ما سبق به القضاء من تعذيب الكفرة وإهلاك الأمم المكذبة ، ففي هذا تخويف من كذب محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { أفعيينا } توقيف للكفار وتوبيخ وإقامة للحجة الواضحة عليهم ، وذلك أن جوابهم على هذا التوقيف هو لم يقع عي ، ثم هم مع ذلك في لبس من الإعادة . وهذا تناقض ، ويقال عيى يعيى إذا عجز عن الأمر ويلح به ، ويدغم هذا الفعل الماضي من هذا الفعل ولا يدغم المستقبل منه فيقال عي ، ومنه قول الشاعر [ عبيد بن الأبرص ] :
عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامه
و " الخلق الأول " إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج الملعوم ، وقال الحسن : " الخلق الأول " آدم عليه السلام ، حكاه الرماني ، واللبس : الشك والريب واختلاط النظر . والخلق الجديد : البعث في القبور .
(6/181)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث والجزاء . والخلق : إنشاء الشيء على ترتيب وتقدير حكمي . و : { الإنسان } اسم الجنس . قال بعض المفسرين { الإنسان } هنا آدم عليه السلام و { توسوس } معناه : تتحدث في فكرتها ، وسمي صوت الحلي وسواساً لخفائه ، والوسوسة إنما تستعمل في غير الخير ، وقوله تعالى : { نحن أقرب إليه من حبل الوريد } عبارة عن قدرة الله على العبد ، وكون العبد في قبضة القدرة ، والعلم قد أحيط به ، فالقرب هو بالقدرة والسلطان ، إذ لا ينحجب عن علم الله باطن ولا ظاهر ، وكل قريب من الأجرام فبينه وبين قلب الإنسان حجب . و : { الوريد } عرق كبير في العنق ، يقال : إنهما وريدان عن يمين وشمال . قال الفراء : هو ما بين الحلقوم والعلباوين وقال الحسن : { الوريد } الوتين .
قال الأثرم : هو نهر الجسد هو في القلب الوتين ، وفي الظهر الأبهر ، وفي الذراع والفخذ : الأكحل والنسا وفي الخنصر : إلا سليم ، " والحبل " : اسم مشترك فخصصه بالإضافة إلى { الوريد } ، وليس هذا بإضافة الشيء إلى نفسه بل هي كإضافة الجنس إلى نوعه كما تقول : لا يجوز حي الطير بلحمه .
وأما قوله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان } فقال المفسرون العامل في : { إذ } ، { أقرب } ، ويحتمل عندي أن يكون العامل فيه فعلاً مضمراً تقديره : اذكر { إذ يتلقى المتلقيان } ، ويحسن هذا المعنى ، لأنه أخبر خبراً مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس والقرب بالقدرة والملك ، فلما تم الإخبار ، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر وتبين وروده عند السامع ، فمنها { إذ يتلقى المتلقيان } ، ومنها مجيء سكرة الموت ، ومنها النفخ في الصور ومنها مجيء كل نفس ، و { المتلقيان } : الملكان الموكلان بكل إنسان : ملك اليمين الذي يكتب الحسنات ، وملك الشمال الذي يكتب السيئات . قال الحسن : الحفظة : أربعة ، اثنان بالنهار واثنان بالليل .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد ذلك الحديث ، " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " الحديث بكامله . ويروى أن ملك اليمين أمير على ملك الشمال ، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر تثبت لعله يتوب رواه إبراهيم التيمي وسفيان الثوري .
و { قعيد } معناه : قاعد ، وقال قوم هو بمنزلة أكيل ، فهو بمعنى مقاعد وقال الكوفيون : أراد قعوداً فجعل الواحد موضع الجنس ، والأول أصوب لأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان ، وقال مجاهد : { قعيد } : رصد ومذهب سيبويه أن التقدير عن اليمين قعيد ، فاكتفى بذكر الآخر عن ذكر الأول ومثله عنده قول الشاعر [ كثير عزة ] : [ الطويل ]
وعزة ممطول معنّى غريمها ... ومثله قول الفرزدق : [ الكامل ]
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبى وكان وكنت غير غدور
وهذه الأمثلة كثيرة ، ومذهب المبرد : أن التقدير عن اليمين { قعيد } وعن الشمال فأخر { قعيد } عن مكانه ومذهب الفراء أن لفظ { قعيد } يدل على الاثنين والجمع فلا يحتاج إلى تقدير غير الظاهر وقوله تعالى : { ما يلفظ من قول } قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : يكتب الملكان الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات ، والسيئات ، ويمحو غير ذلك ، وهذا هو ظاهر الآية ، قال أبو الجوزاء ومجاهد : يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه ، وقال عكرمة : المعنى : { ما يلفظ من قول } خير أو شر ، وأما ما خرج من هذا فإنه لا يكتب والأول أصوب ، وروي أن رجلاً قال لجمله : حل ، فقال ملك اليمين لا أكتبها ، وقال ملك الشمال لا أكتبها ، فأوحى الله إلى ملك الشمال أن اكتب ما ترك ملك اليمين ، وروي نحوه عن هشام الحمصي وهذه اللفظة إذا اعتبرت فهي بحسب مشيه ببعيره ، فإن كان في طاعة فحل حسنة ، وإن كان في معصية فهي سيئة والمتوسط بين هذين عسير الوجود ولا بد أن يقترن بكل أحوال المرء قرائن تخلصها للخير أو لخلافه .
(6/182)

وحكى الثعلبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن مقعد الملكين على الثنيتين ، قلمهما اللسان ، ومدادهما الريق " وقال الضحاك والحسن : مقعدهما تحت الشعر ، وكان الحسن يحب أن ينظف غفقته لذلك قال الحسن : حتى إذا مات طويت صحيفته وقيل له يوم القيامة : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] عدل والله عليه من جعله حسيب نفسه . والرقيب : المراقب . والعتيد : الحاضر وقوله : { وجاءت } عطف عندي على قوله : { إذ يتلقى } فالتقدير : وإذ تجيء سكرة الموت ، وجعل الماضي في موضع المستقبل تحقيقاً وتثبيتاً للأمر ، وهذا أحث على الاستعداد واستشعار القرب ، وهذه طريقة العرب في ذلك ، ويبين هذا في قوله : { ونفخ في الصور } { وجاءت كل نفس } فإنها ضرورة بمعنى الاستقبال . وقرأ أبو عمرو : { وجاءت سكرة } بإدغام التاء في السين . و { سكرة الموت } : ما يعتري الإنسان عند نزاعه والناس فيها مختلفة أحوالهم ، لكن لكل واحد سكرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزاعه يقول : " إن للموت لسكرات " .
وقوله : { بالحق } معناه : بلقاء الله وفقد الحياة الدنيا . وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " وجاءت سكرة الحق بالموت " . وقرأها ابن جبير وطلحة ، ويروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قالها كذلك لابنته عائشة وذلك أنها قعدت عند رأسه وهو ينازع فقالت : [ الطويل ]
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
ففتح أبو بكر رضي الله عنه عينه فقال : لا تقولي هكذا ، وقولي : " وجاءت سكرة الحق بالموت " { ذلك ما كنت منه تحيد } . وقد روي هذا الحديث على مشهور القراءة { وجاءت سكرة الموت بالحق } فقال أبو الفتح : إن شئت علقت الباء ب { جاءت } ، كما تقول : جئت بزيد ، وإن شئت كانت بتقدير : ومعها الموت .
(6/183)

واختلف المتأولون في معنى : " وجاءت سكرة الحق بالموت " فقال الطبري وحكاه الثعلبي : " الحق " الله تعالى ، وفي إضافة السكرة إلى اسم الله تعالى بعد وإن كان ذلك سائغاً من حيث هي خلق له ، ولكن فصاحة القرآن ورصفه لا يأتي فيه هذا . وقال بعض المتأولين المعنى : وجاءت سكرة فراق الحياة بالموت وفراق الحياة حق يعرفه الإنسان ويحيد منه بأمله . ومعنى هذا الحيد : أنه يقول : أعيش كذا وكذا ، فمتى فكر في قرب الموت حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمن ، وأيضاً فحذر الموت وتحرزاته ونحو هذا حيد كله . وقد تقدم القول في النفخ في الصور مراراً . و : { يوم الوعيد } هو يوم القيامة وأضافه إلى الوعيد تخويفاً .
وقوله تعالى : { وجاءت كل نفس معها } وقرأ طلحة بن مصرف : " محّها " بالحاء المثقلة . والسائق : الحاث على السير .
واختلف الناس في السائق والشهيد ، فقال عثمان بن عفان ومجاهد وغيره : ملكان موكلان بكل إنسان أحدهما يسوقه والآخر من حفظته يشهد عليه . وقال ابو هريرة : السائق ملك ، والشهيد : العمل وقال منذر بن سعيد : السائق : الملك والشهيد : النبي صلى الله عليه وسلم ، قال وقيل : الشهيد : الكتاب الذي يلقاه منشوراً . وقال بعض النظار : { سائق } ، اسم جنس ، و { شهيد } كذلك ، فالساقة للناس ملائكة يوكلون بذلك ، والشهداء : الحفظة في الدنيا وكل ما يشهد .
وقال ابن عباس والضحاك : السائق ملك ، والشهيد : جوارح الإنسان ، وهذا يبعد على ابن عباس ، لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي .
وقوله تعالى : { كل نفس } يعم الصالحين ، فإنما معناه : وشهيد بخيره ، وشره ، ويقوى في : { شهيد } اسم الجنس ، فتشهد بالخير الملائكة والبقاع ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " وكذلك يشهد بالشر الملائكة والبقاع والجوارح . وقال أبو هريرة : السائق : ملك ، والشهيد : العمل . وقال ابن مسلم : السائق : شيطان . حكاه عنه الثعلبي والقول في كتاب منذر بن سعيد وهو ضعيف .
(6/184)

لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
قرأ الجحدري : " لقد كنتِ " على مخاطبة النفس وكذلك كسر الكافات بعد .
وقال صالح بن كيسان والضحاك وابن عباس معنى قوله : { لقد كنت } أي يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد إذا حصل بين يدي الرحمن وعاين الحقائق التي كان لا يصدق بها في الدنيا ويتغافل عن النظر فيها ، { لقد كنت في غفلة من هذا } ، فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك أي بصيرتك وهذا كما تقول : فلان حديد الذهن والفؤاد ونحوه ، وقال مجاهد : هو بصر العين إذا احتد التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة .
وقال زيد بن أسلم قوله تعالى : { ذلك ما كنت منه تحيد } [ ق : 19 ] وقوله تعالى : { لقد كنت } الآية ، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أنه خوطب بهذا في الدنيا ، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من معرفة هذا القصص والغيب حتى أرسلناك وأنعمنا عليك وعلمناك ، { فبصرك اليوم حديد } ، وهذا التأويل يضعف من وجوه ، أحدها أن الغفلة إنما تنسب أبداً إلى مقصر ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا تقصير له قبل بعثه ولا بعده وثان : أن قوله : بعد هذا : { وقال قرينه } يقتضي أن الضمير إنما يعود على أقرب مذكور ، وهو الذي يقال له { فبصرك اليوم حديد } وإن جعلناه عائداً على ذي النفس في الآية المتقدمة جاء هذا الاعتراض لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الكلامين غير متمكن فتأمله . وثالث : أن معنى توقيف الكافر وتوبيخه على حاله في الدنيا يسقط ، وهو أحرى بالآية وأولى بالرصف ، والوجه عندي ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر .
و : { فكشفنا عنك غطاءك } ، قال ابن عباس : هي الحياة بعد الموت ، وينظر إلى معنى كشف الغطاء قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " .
وقوله تعالى : { وقال قرينه هذا ما لدي عتيد } ، قال جماعة من المفسرين : { قرينه } من زبانية جهنم ، أي قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الإنسان الكافر حاضر عتيد ، ففي هذا تحريض على الكافر واستعجال به . وقال قتادة وابن زيد : { قرينه } الملك الموكل بسوقه ، فكأنه قال : هذا الكافر الذي جعل إلى سوقه ، فهو لدي حاضر . وقال الزهراوي وقيل : { قرينه } شيطانه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وإنما أوقع فيه أن القرين في قوله : { قال قرينه ربنا ما أطغيته } هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف .
ولفظ القرين : اسم جنس ، فسائقه قرين ، وصاحبه من الزبانية قرين ، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين وتحتمله هذه الآية ، أي هذا الذي أحصيته عليه عتيد لدي ، وهو موجب عذابه ، ومماشي الإنسان في طريقه قرين ، وقال الشاعر [ عدي بن زيد العبادي ] : [ الطويل ]
(6/185)

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
والقرين الذي في هذه الآية ، غير القرين الذي في قوله : { قال قرينه ربنا ما أطغيته } إذ المقارنة تكون على أنواع ، وقال بعض العلماء : { قرينه } في هذه الآية : عمله قلباً وجارحاً ، وقوله عز وجل : { ألقيا في جهنم } معناه : يقال { ألقيا في جهنم } . واختلف الناس لم يقال ذلك؟ فقال جماعة من المفسرين : هو قول الملكين من ملائكة العذاب . وقال عبد الرحمن بن زيد في كتاب الزهراوي : هو قول للسائق والشهيد ، وحكى الزهراوي أن المأمور بإلقاء الكافر في النار اثنان ، وعلى هذين القولين لا نظر في قوله : { ألقيا } . وقال مجاهد وجماعة من المتأولين : هو قول للقرين : إما السائق ، وإما الذي هو من الزبانية حسبما تقدم واختلف أهل هذه المقالة في معنى قوله : { ألقيا } وهو مخاطبة لواحد ، فقال المبرد معناه : الق الق ، فإنما أراد تثنية الأمر مبالغة وتأكيداً ، فرد التثنية إلى الضمير اختصاراً كما قال [ امرؤ القيس ] :
لفتك الأمين على نابل ... يريد ارم ارم . وقال بعض المتأولين : " ألقين " فعوض من النون ألف كما تعوض من التنوين . وقال جماعة من أهل العلم بكلام العرب : هذا جرى على عادة العرب ، وذلك أنها كان الغالب عندها أن تترافق في الأسفار ونحوها ثلاثة ، فكل واحد منهم يخاطب اثنين ، فكثر ذلك في أشعارها وكلامها حتى صار عرفاً في المخاطبة ، فاستعمل في الواحد ، ومن هذا قولهم في الأشعار : خليلي ، وصاحبي ، وقفا نبك ونحوه ، وقد جرى المحدثون على هذا الرسم ، فيقول الواحد : حدثنا ، وإن كان سمع وحده ، ونظير هذه الآية في هذا القول قول الزجاج : يا حارسي اضربا عنقه ، وهو دليل على عادة العرب ، ومنه قول الشاعر [ سويد بن كراع العكلي ] : [ الطويل ]
فإن تزجراني بابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعا
وقرأ الحسن بن أبي الحسن : " ألقين " بتنوين الياء و : { كفار } مبالغة . و : { عنيد } معناه : عاند عن الحق أي منحرف عنه .
وقوله تعالى : { مناع للخير } لفظ عام للمال والكلام الحسن والمعاون على الأشياء . وقال قتادة ومجاهد وعكرمة ، معناه : الزكاة المفروضة ، وهذا التخصيص ضعيف ، و : { معتد } معناه : بلسانه ويده . و : { مريب } معناه : متلبس بما يرتاب به ، أراب الرجل : إذا أتى بريبة ودخل فيها . قال الثعلبي قيل نزلت في الوليد بن المغيرة .
وقال الحسن : { مريب } شاك في الله تعالى ودينه .
وقوله تعالى : { الذي جعل } الآية يحتمل أن يكون { الذي } بدلاً من { كفار } ويحتمل أن يكون صفة له من حيث تخصص { كفار } بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه بهذه المعرفة ، ويحتمل أن يكون { الذي } ابتداء وخبره قوله : { فألقياه } ودخلت الفاء في قوله : { فألقياه } للإبهام الذي في { الذي } ، فحصل الشبه بالشرط وفي هذا نظر .
(6/186)

قال القاضي أبو محمد : ويقوى عندي أن يكون { الذي } ابتداء ، ويتضمن القول حينئذ بني آدم والشياطين المغوين لهم في الدنيا ، ولذلك تحرك القرين الشيطان المغوي في الدنيا ، فرام أن يبرئ نفسه ويخلصها بقوله : { ربنا ما أطغيته } لأنه كذب من نفي الإطغاء عن نفس جملة ، والحقيقة أنه أطغاه بالوسوسة والتزين ، وأطغاه الله بالخلق ، والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه ، لا رب غيره ، وبوصف الضلال بالبعيد مبالغة ، أي لتعذر رجوعه إلى الهدى .
وقوله تعالى : { لا تختصموا لدي } معناه : قال الله { لا تختصموا لدي } بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئاً إذ قد استوجب جميعكم النار ، وقد أخبر بأنه تقع الخصومة لديه في الظلامات ونحوها مما فيه اختصاص . واقتضاء فائدة بقوله تعالى : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } [ الزمر : 31 ] ، وجمع الضمير في قوله : { لا تختصموا } يريد بذلك مخاطبة جميع القرناء ، إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط ، وهذا كما يقول الحاكم لخصمين : لا تغلطوا علي ، يريد الخصمين ومن هو في حكمهما . وتقدمته إلى الناس بالوعيد هو ما جاءت به الرسل والكتب من تعظيم الكفرة .
(6/187)

مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
المعنى : قدمت بالوعيد أني أعذب الكفار في ناري ، فلا يبدل قولي ولا ينقص ما أبرمه كلامي ، ثم أزال عز وجل موضع الاعتراض بقوله : { وما أنا بظلام للعبيد } أي هذا عدل فيهم ، لأني أعذرت وأمهلت وأنعمت بالإدراكات وهديت السبيل والنجدين وبعثت الرسل وقال الفراء معنى قوله : { ما يبدل القول لدي } ما يكذب لدي ، لعلمي بجميع الأمور .
قال القاضي أبو محمد : فتكون الإشارة على هذا إلى كذب الذي قال : { ما أطغيته } [ ق : 27 ] وقوله تعالى : { يوم يقول } يجوز أن يعمل في الظرف قوله : { بظلام } ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر .
وقرأ جمهور من القراء وحفص عن عاصم : " نقول " بالنون ، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر والأعمش ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله : " قدمت وما أنا " وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر : " يقول " على معنى يقول الله ، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأهل المدينة ، وقرأ ابن مسعود والحسن والأعمش أيضاً : " يقال " على بناء الفعل للمفعول .
وقوله : { هل امتلأت } تقرير وتوقيف ، واختلف الناس هل وقع هذا التقرير؟ وهي قد امتلأت أو هي لم تمتلئ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين وبحسب ذلك تأولوا قولها : { هل من مزيد } . فمن قال إنها كانت ملأى جعل قولها : { هل من مزيد } على معنى التقرير ونفي المزيد ، أي هل عندي موضع يزاد فيه شيء ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " وهل ترك لنا عقيل منزلاً " وهو تأويل الحسن وعمرو وواصل ، ومن قال : إنها كانت غير ملأى جعل قولها { هل من مزيد } على معنى السؤال والرغبة في الزيادة . قال الرماني وقيل المعنى : وتقول خزنتها ، والقول إنها القائلة أظهر .
واختلف الناس أيضاً في قول جهنم هل هو حقيقة أو مجاز؟ أي حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا فيجري هذا مجرى : شكا إلي جملي طول السرى ، ومجرى قول ذي الرمة : تكلمني أحجاره وملاعبه .
والذي يترجح في قول جهنم : { هل من مزيد } أنها حقيقة وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى وهو قول أنس بن مالك ، وبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله لجهنم هل امتلأت؟ وتقول : { هل من مزيد } حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتقول قط قط ، وينزوي بعضها إلى بعض " واضطرب الناس في معنى هذا الحديث ، وذهبت جماعة من المتكلمين ، إلى أن الجبار اسم جنس ، وأنه يريد المتجبرين من بني آدم ، وروي أن الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخراً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
(6/188)

" إن جلدة الكافر يصير في غلظها أربعون ذراعاً " ويعظم بدنه على هذه النسبة ، وهذا كله من ملء جهنم وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تعالى ، وهذا هو الصحيح ، فإن في الحديث الصحيح : " فيضع رب العالمين فيها قدمه " وتأويل هذا : ان القدم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها ، ومنه قول الله تعالى : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } [ يونس : 2 ] فالقدم هنا ما قدم من شيء ومنه قول الشاعر [ الوضاح الخصي ] : [ المنسرح ]
صل لربك واتخذ قدماً ... ينجيك يوم العثار والزلل
ومنه قول العجاج : [ الرمل ]
وسنى الملك لملك ذي قدم ... أي ذي شرف متقدم ، وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك وعن النضر بن شميل ، وهو قول الأصوليين . وفي كتاب مسلم بن الحجاج : فيضع الجبار فيها رجله ، ومعناه : الجمع الذي أعد لها يقال للجمع الكثير من الناس : رجل تشبيهاً برجل الجراد ، قال الشاعر :
فمر بها رجل من الناس وانزوى ... إليها من الحي اليمانين أرجل .
وملاك النظر في هذا الحديث : أن الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك فلم يبق إلا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السابقة في كلام العرب . و : { أزلفت } معناه : قربت ، و : { غير بعيد } تأكيد وبيان أن هذا التقدير هو في المسافة ، لأن قربت كان يحتمل أن معناه : بالوعد والإخبار ، فرفع الاحتمال بقوله : { غير بعيد } .
وقوله تعالى : { هذا ما توعدون } الآية ، يحتمل أن يكون معناه : يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة هذا هو الذي كنتم توعدون في الدنيا ، ويحتمل أن يكون المعنى خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أي هذا الذي توعدون به أيها الناس { لكل أواب حفيظ } . والأواب : الرجاع إلى الطاعة وإلى مراشد نفسه . وقال ابن عباس وعطاء : الأواب : المسبح لقوله : { يا جبال أوبي معه } [ سبأ : 10 ] . وقال الشعبي ومجاهد : هو الذي يذكر ذنوبه فيستغفر . وقال المحاسبي : هو الراجح بقلبه إلى ربه . وقال عبيد بن عمير : كنا نحدث أنه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله مما جرى في ذلك المجلس وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل . والحفيظ معناه : بأوامر الله فيمتثلها ، أو لنواهيه فيتركها . وقال ابن عباس : { حفيظ } لذنوبه حتى يرجع عنها .
وقوله تعالى : { من خشي } يحتمل أن يكون { من } نعت الأواب أو بدلاً . ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء والخبر يقال لهم { ادخلوها } ، ويحتمل أن تكون شرطية فيكون الجواب يقال لهم ادخلوها . وقوله : { بالغيب } أي غير مشاهد له إنما يصدق رسوله ويسمع كلامه وجاء معناه يوم القيامة . والمنيب الراجع إلى الخير المائل إليه . وقوله تعالى : { ادخلوها } تقديره يقال لهم على ما تقدم . و { بسلام } معناه بأمن وسلامة من جميع الآفات . وقوله تعالى : { ذلك يوم الخلود } معادل لقوله قبل في الكفار
(6/189)

{ ذلك يوم الوعيد } [ ق : 20 ] .
وقوله تعالى : { لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد } خبر بأنهم يعطون آمالهم أجمع . ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعمين ، وكذلك هي مبهمة في قوله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] وقد فسر ذلك الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل ما أطلعتهم عليه " . وقد ذكر الطبري وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة وأشياء ضعيفة ، لأن الله تعالى يقول : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم } [ السجدة : 17 ] وهم يعينونها تكلفاً وتعسفاً . وروي عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن المزيد : النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف .
(6/190)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
{ كم } للتكثير وهي خبرية ، المعنى كثيراً { أهلكنا قبلهم } . والقرن : الأمة من الناس الذين يمر عليهم قدر من الزمن . واختلف الناس في ذلك القدر ، فقال الجمهور : مائة سنة ، وقيل غير هذا ، وقد تقدم القول فيه غير مرة . وشدة البطش : هي كثرة القوة والأموال والملك والصحة والأدهان إلى غير ذلك .
وقرأ جمهور من الناس : " فنقَّبوا " بشد القاف المفتوحة على إسناد الفعل إلى القرون الماضية ، والمعنى : ولجوا البلاد من أنقابها وفي الحديث : " أن على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال " . والمراد تطوفوا ومشوا طماعين في النجاة من الهلكة ومنه قول الشاعر [ امرؤ القيس ] : [ الوافر ]
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
ومنه قول الحارث بن حلزة : [ الخفيف ]
نقبوا في البلاد من حذر الموت ... وجالوا في الأرض كل مجال
وقرأ ابن يعمر وابن عباس ونصر بن سيار وأبو العالية : " فنقِّبوا " بشد القاف المكسورة على الأمر لهؤلاء الحاضرين .
و : { هل من محيص } توقيف وتقرير ، أي لا محيص ، والمحيص : المعدل موضع الحيص وهو الروغان والحياد ، قال قتادة : حاص الكفرة فوجدوا أمر الله منيعاً مدركاً ، وفي صدر البخاري فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب . وقال ابن عبد شمس في وصف ناقته : [ الوافر ]
إذا حاص الدليل رأيت منها ... جنوحاً للطريق على اتساق
وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد عنه : " فنقَبوا " بفتح القاف وتخفيفها هي بمعنى التشديد ، واللفظة أيضاً قد تقال بمعنى البحث والطلب ، تقول : نقب عن كذا اي استقصى عنه ، ومنه نقيب القوم لأنه الذي يبحث عن أمورهم ويباحث عنها ، وهذا عندي تشبيه بالدخول من الأنقاب .
وقوله تعالى : { إن في ذلك } يعني إهلاك من مضى ، والذكرى : التذكرة ، والقلب : عبارة عن العقل إذ هو محله . والمعنى : { لمن كان له قلب } واع ينتفع به . وقال الشبلي معناه : قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين .
وقوله تعالى : { أو ألقى السمع وهو شهيد } معناه : صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبته في سماعها ، فذلك إلقاء له عليها ، ومنه قوله تعالى : { وألقيت عليك محبة مني } [ طه : 39 ] أي أثبتها عليك ، وقال بعض الناس قوله تعالى : { ألقى السمع } ، وقوله : { ضربنا على آذانهم } [ الكهف : 11 ] وقوله : { سقط في أيديهم } [ الأعراف : 149 ] هي كلها مما قل استعمالها الآن وبعدت معانيها .
قال القاضي أبو محمد : وقول هذا القائل ضعيف ، بل هي بينة المعاني ، وقد تقدمت في موضعها .
وقوله تعالى : { وهو شهيد } قال بعض المتأولين : معناه : وهو مشاهد مقبل على الأمر غير معرض ولا منكر في غير ما يسمع . وقال قتادة : هي إشارة إلى أهل الكتاب ، فكأنه قال : إن هذه العبرة التذكرة لمن له فهم فيتدبر الأمر أو لمن سمعها من أهل الكتاب فيشهد بصحتها لعلمه بها من كتابه التوراة وسائر كتب بني إسرائيل : ف { شهيد } على التأويل الأول من المشاهدة ، وعلى التأويل الثاني من الشهادة .
(6/191)

وقرأ السدي : " ألقى السمع " قال ابن جني ألقى السمع منه حكى أبو عمرو الداني أن قراءة السدي ذكرت لعاصم فمقت السدي وقال : أليس الله يقول : { يلقون السمع } [ الشعراء : 223 ] .
وقوله تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض } الآية خبر مضمنه الرد على اليهود الذين قالوا إن الله خلق الأشياء كلها في ستة أيام ثم استراح يوم السبت فنزلت : { وما مسنا من لغوب } واللغوب : الإعياء والنصب والسأم ، يقال لغب الرجل يلغب إذا أعيى .
وقرأ السلمي وطلحة : " لَغوب " بفتح اللام . وتظاهرت الأحاديث بأن خلق الأشياء كان يوم الأحد وفي كتاب مسلم وفي الدلائل لثابت حديث مضمنه : أن ذلك كان يوم السبت وعلى كل قول فأجمعوا على أن آدم خلق يوم الجمعة . فمن قال إن البداءة يوم السبت جعل خلق آدم كخلق بنيه لا يعد مع الجملة الأولى وجعل اليوم الذي كملت المخلوقات عنده يوم الجمعة .
وقوله تعالى : { فاصبر على ما يقولون } قال بعض المفسرين : أراد أهل الكتاب لقولهم ، ثم استراح يوم السبت .
قال القاضي أبو محمد : وهذه المقالات من أهل الكتاب كانت بمكة قبل الهجرة .
وقال النظار من المفسرين قوله تعالى : { فاصبر على ما يقولون } يراد به أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة ، وعم بذلك جميع الأقوال الزائغة من قريش وغيرهم ، وعلى هذا التأويل يجيء قول من قال : الآية منسوخة بآية السيف . { وسبح } معناه : صل بإجماع من المتأولين وقوله : { بحمد ربك } الباء للاقتران أي سبح سبحة يكون معها حمد ومثله " تنبت بالدهن " على بعض الأقوال فيها و : { قبل طلوع الشمس } هي الصبح { وقبل الغروب } هي العصر قاله قتادة وابن زيد والناس ، وقال ابن عباس : { قبل الغروب } هي العصر والظهر { ومن الليل } هي صلاة العشاءين وقال ابن زيد هي العشاء فقط .
وقال مجاهد : هي صلاة الليل وقوله : { وإدبار السجود } قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأبو هريرة والحسن والشعبي وإبراهيم ، ومجاهد والأوزاعي : هي الركعتان بعد المغرب وأسنده الطبري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه روعي إدبار صلاة النهار كما روعي إدبار النجوم في صلاة الليل ، فقيل هي الركعتان مع الفجر . وروي عن ابن عباس أن { إدبار السجود } : الوتر ، حكاه الثعلبي وقال ابن زيد وابن عباس ايضاً ومجاهد : هي النوافل إثر الصلوات وهذا جار مع لفظ الآية ، وقال بعض العلماء العارفين : هي صلاة الليل ، قال الثعلب : وقال بعض العلماء في قوله : { قبل طلوع الشمس } هي ركعتا الفجر { وقبل الغروب } الركعتان قبل المغرب وقال بعض التابعين : رأيت أصحاب محمد يهبون إليها كما يهبون إلى المكتوبة ، وقال قتادة : ما أدركت أحداً يصلي الركعتين قبل المغرب إلا أنساً وأبا برزة .
(6/192)

وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى وشبل وطلحة والأعمش " وإدبار " بكسر الألف وهي مصدر أضيف إليه وقت ، ثم حذف الوقت ، كما قالوا : جئتك مقدم الحاج وخفوق النجم ونحوه ، وقرأ الباقون والحسن والأعرج ، " وأدبار " بفتح الهمزة وهو جمع دبر كطنب وأطناب ، أي وفي " أدبار السجود " أي في أعقابه وقال أوس بن حجر : [ الطويل ]
على دبر الشهر الحرام بأرضنا ... وما حولها جدب سنون تلمع
(6/193)

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
قوله تعالى : { واستمع } بمنزلة ، وانتظر ، وذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء ، لأن كل من فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار ، وقيل لمحمد تحسس وتسمع هذا اليوم وارتقبه ، وهذا كما تقول لمن تعده بورود فتح استمع كذا وكذا ، أي كن منتظراً له مستمعاً ، وعلى هذا فنصب { يوم } إنما هو على المفعول الصريح .
وقرأ ابن كثير : " المنادي " بالياء في الوصل والوقف على الأصل الذي هو ثبوتها ، إذ الكلام غير تام وإنما الحذف ابداً في الفواصل ، والكلام التام تشبيهاً بالفواصل . وقرأ أبو عمرو ونافع ، بالوقف بغير ياء لأن الوقف موضع تغيير ، ألا ترى أنها تبدل من التاء فيه الهاء في نحو طلحة وحمزة ، ويبدل من التنوين الألف ويضعف فيه الحرف كقولك هذا فرج ، ويحذف فيه الحرف في القوافي ، وقرأ الباقون وطلحة والأعمش وعيسى بحذف الياء في الوصل والوقف جميعاً وذلك اتباع لخط المصحف ، وأيضاً فإن الياء تحذف مع التنوين فوجب أن تحذف مع معاقب التنوين وهي الألف واللام .
وقوله تعالى : { من مكان قريب } قيل وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن ملكاً ينادي من السماء : أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة ، هلم إلى الحساب الوقوف بين يدي الله " . وقال كعب الأحبار وقتادة وغيرهما : المكان صخرة بيت المقدس واختلفوا في معنى صفته بالقرب فقال قوم : وصفها بذلك لقربها من النبي صلى الله عليه وسلم أي من مكة . وقال كعب الأحبار : وصفه بالقرب من السماء ، وروي أنها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً ، وهذا الخبر إن كان بوحي ، وألا سبيل للوقوف على صحته . و : { الصيحة } هي صيحة المنادي و : { الخروج } هو من القبور ، و : " يومه " هو يوم القيامة ، و { يوم الخروج } في الدنيا هو يوم العيد قال حسان بن ثابت : [ الكامل ]
ولأنت أحسن إذ برزت لنا ... يوم الخروج بساحة القصر
من درة أغلى الملوك بها ... مما تربَّب حائر البحر
وقوله تعالى : { يوم تشقق } العامل في { يوم } ، { المصير } . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : " تشّقق " بتشديد الشين . وقرأ الباقون : " تشقق " بتخفيف الشين و : { سراعاً } حال قال بعض النحويين وهي من الضمير في قوله : { عنهم } والعامل في الحال { تشقق } وقال بعضهم التقدير : { يوم تشقق الأرض عنهم } يخرجون { سراعاً } فالحال من الضمير في : " يخرجون " ، والعامل " يخرجون " .
وقوله تعالى : { ذلك حشر علينا يسير } كلام معادل لقول الكفرة : { ذلك رجع بعيد } [ ق : 3 ] . وقوله تعالى : { نحن أعلم بما يقولون } وعيد محض للكفرة .
(6/194)

واختلف الناس في معنى قوله : { وما أنت عليهم بجبار } . فقال قتادة : نهى الله عن التجبر وتقدم فيه ، فمعناه : وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت . وقال الطبري وغيره معناه : وما أنت عليهم بمسلط تجبرهم على الإيمان ، ويقال جبرته على كذا ، أي قسرته ف " جبار " بناء مبالغة من جبر وأنشد المفضل : [ الوافر ]
عصينا عزمة الجبار حتى ... صحبنا الخوف إلفاً معلمينا
قال : أراد ب " الجبار " النعمان بن المنذر لولايته ، ويحتمل أن نصب عزمة على المصدر وأراد عصينا مقدمين عزمة جبار ، فمدح نفسه وقومه بالعتو والاستعلاء أخلاق الجاهلية والحياة الدنيا ، وروى ابن عباس أن المؤمنين قالوا : يا رسول الله لو خوفتنا ، فنزلت : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } .
قال القاضي أبو محمد : ولو لم يكن هذا سبباً فإنه لما أعلمه أنه ليس بمسلط على جبرهم ، أمره بالاقتصار على تذكير الخائفين من الناس .
(6/195)

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات تنبيهاً عليها وتشريفاً لها ودلالة على الاعتبار فيها حتى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله تعالى .
{ والذاريات } الرياح بإجماع من المتأولين ، يقال : ذرت الريح وأذرت بمعنى : وفي الرياح معتبر من شدتها حيناً ، ولينها حيناً وكونها مرة رحمة ومرة عذاباً إلى غير ذلك .
و { ذرواً } نصب على المصدر . و : { الحاملات وقراً } قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي السحاب الموقرة بالماء . وقال ابن عباس وغيره هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم . وقال جماعة من العلماء هي أيضاً مع هذا جميع الحيوان الحامل ، وفي جميع ذلك معتبر . و : { وقراً } مفعول صريح ، و : { الجاريات يسراً } قال علي بن أبي طالب وغيره : هي السفن في البحر وقال آخرون : هي السحاب بالريح وقال آخرون : هي الجواري من الكواكب ، واللفظ يقتضي جميع هذا . و { يسراً } نعت لمصدر محذوف وصفات المصادر المحذوفة تعود أحوالاً . و : { يسراً } معناه : بسهولة وقلة تكلف ، و : { المقسمات أمراً } الملائكة والأمر هنا اسم الجنس ، فكأنه قال : والجماعات التي تقسم أمور الملكوت من الأرزاق والآجال والخلق في الأرحام وأمر الرياح والجبال وغير ذلك ، لأن كل هذا إنما هو بملائكة تخدمه ، فالآية تتضمن جميع الملائكة لأنهم كلهم في أمور مختلفة ، وأنث { المقسمات } من حيث أراد الجماعات .
وقال أبو طفيل عامر بن واثلة كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر فقال : لا تسألوني عن آية من كتاب الله أو سنة ماضية إلا قلت ، فقام إليه ابن الكواء فسأله عن هذه ، فقال : { الذاريات } الرياح .
و { الحاملات } السحاب ، و { الجاريات } السفن ، و { المقسمات } الملائكة . ثم قال له سل سؤال تعلم ولا تسأل سؤال تعنت وهذا القسم واقع على قوله : { إنما توعدون لصادق } ، و { توعدون } يحتمل أن يكون من الإيعاد ، ويحتمل أن يكون من الوعد ، وأيها كان فالوصف له بالصدق صحيح و : { صادق } هنا موضوع بدل صدق ، ووضع الاسم موضع المصدر . و : { الدين } الجزاء . وقال مجاهد الحساب ، والأظهر في الآية أنها للكفار وأنها وعيد محض بيوم القيامة .
ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر فقال : { والسماء ذات الحبك } فظاهر لفظة { السماء } أنها لجميع السماوات ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي : هي السماء السابعة . و : { الحُبُك } بضم الحاء والباء : الطرائق التي هي على نظام في الأجرام ، فحبك الرمان والماء : الطرائق التي تصنع فيها الريح الهابة عليها ، ومنه قول زهير :
مكلل بعميم النبت تنسجه ... ريح خريف لضاحي مائه حبك
وحبك الدرع : الطرائق المتصلة في موضع اتصال الحلق بعضها ببعض ، وفي بعض أجنحة الطير حبك على نحو هذا ، ويقال لتكسر الشعر حبك ، وفي الحديث : " أن من ورائكم الكذاب المضل ، وأن من ورائه حبكاً حبكاً "
(6/196)

يعني جعودة شعره فهو يكسره ، ويظهر في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائق في موضع تداخل الخيوط هي حبك ، ويقال نسج الثوب فأجاد حبكه ، فهذه هي الحبك في اللغة . وقال منذر بن سعيد : إن في السماء في تألق جرمها هي هكذا لها حبك ، وذلك لجودة خلقتها وإتقان صنعتها ، ولذلك عبر ابن عباس في تفسير قوله { والسماء ذات الحبك } بأن قال : حبكها حسن خلقتها ، وقال ابن جبير : { الحبك } : الزينة . وقال الحسن : حبكها كواكبها ، وقال ابن زيد : { الحبك } : الشدة ، وحبكت شدت ، وقرأ { سبعاً شداداً } [ النبأ : 12 ] وقال ابن جني : { الحبك } طرائق الغيم ونحو هذا ، وواحد { الحبك } : حباك ، ويقال للظفيرة التي يشد بها حظار القصب ونحوه ، وهي مستطيلة تمنع في ترجيب الغرسات المصطفة حباك وقد يكون واحد { الحبك } حبيكة ، وقال الراجز : [ الوافر ]
كأنما جللها الحواك ، ... طنفسة في وشيها حباك
وقرأ جمهور الناس : " الحُبُك " بضم الحاء والباء . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو مالك الغفاري بضم الحاء وسكون الباء تخفيفاً ، وهي لغة بني تميم كرسل في رسل ، وهي قراءة أبي حيوة وأبي السمال . وقرأ الحسن أيضاً وأبو مالك الغفاري : " الحِبِك " بكسر الحاء والباء على أنها لغة كإبل وإطل .
وقرأ الحسن أيضاً فيما روي عنه : " الحِبْك " بكسر الحاء وسكون الباء كما قالوا على جهة التخفيف : إبل وإطل بسكون الباء والطاء . وقرأ ابن عباس : " الحَبَك " بفتح الحاء والباء . وقرأ الحسن أيضاً فيما روي عنه " الحِبُك " بكسر الحاء وضم الباء وهي لغة شاذة غير متوجهة ، وكأنه أراد كسرهما ثم توهم " الحِبُك " قراءة الضم بعد أن كسر الحاء فضم الباء ، وهذا على تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء . وقرأ عكرمة " الحُبَك " بضم الحاء وفتح الباء جمع حبكة ، وهذه كلها لغات والمعنى ما ذكرناه . والفرس المحبوك الشديد الخلقة الذي له حبك في مواضع من منابت شعره ، وذلك دليل على حسن بنيته .
وقوله تعالى : { إنكم لفي قول مختلف } ، يحتمل أن يكون خطاباً لجميع الناس مؤمن وكافر ، أي اختلفتم بأن قال فريق منكم : آمنا بمحمد وكتابه ، وقال فريق آخر : كفرنا ، وهذا قول قتادة . ويحتمل أن يكون خطاباً للكفرة فقط ، أي : أنتم في جنس من الأقوال مختلف في نفسه ، قوم منكم يقولون : ساحر ، وقوم : كاهن ، وقوم : شاعر ، وقوم : مجنون إلى غير ذلك ، وهذا قول ابن زيد والضمير في : { عنه } قال الحسن وقتادة : هو عائد على محمد أو كتابه وشرعه . و : { يؤفك } معناه : يصرف ، فالمعنى : يصرف عن كتاب الله من صرف ممن غلبت شقاوته ، وكان قتادة يقول : المأفوك منا اليوم عن كتاب الله كثيراً ، ويحتمل أن يعود الضمير على القول ، أي : يصرف بسببه من أراد الإسلام ، بأن يقال له هو سحر ، هو كهانة؛ وهذا حكاه الزهراوي .
(6/197)

ويحتمل أن يعود الضمير في { عنه } على القول ، أي يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته ، وهذا على أن يكون قوله : { إنكم لفي قول مختلف } للكفار فقط .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وجه حسن لا يُخِلُّ به ، إلا أن عُرْفَ الاستعمال في " أَفَكَ " ، إنما هو في الصرف من خير إلى شر ، وتأمل ذلك تجدْها أبداً في المصروفين المذمومين ، وحكى أبو عمرو عن قتادة أنه قرأ " من أَفَكَ " بفتح الهمزة والفاء .
وقوله تعالى : { قتل الخراصون } دعاء عليهم ، كما تقول : قاتلك الله وقتلك الله ، وعقرى حلقى ونحوه ، وقال بعض المفسرين معناه : لعن الخراصون ، وهذا تفسير لا تعطيه اللفظة . والخراص : المخمن القائل بظنه فتحته الكاهن والمرتاب وغيره ممن لا يقين له ، والإشارة إلى مكذبي محمد على كل جهة من طروقهم . والغمرة : ما يغشى الإنسان ويغطيه كغمرة الماء ، والمعنى في غمرة من الجهالة . و : { ساهون } معناه عن أنهم { في غمرة } وعن غير ذلك من وجوه النظر .
وقوله تعالى : { يسألون أيان يوم الدين } معناه : يقولون متى يوم الدين؟ على معنى التكذيب ، وجائز أن يقترن بذلك من بعضهم هزء وأن لا يقترن .
وقرأ السلمي والأعمش : " إيَان " بكسر الهمزة وفتح الياء المخففة .
وقوله تعالى : { يوم هم على النار يفتنون } قال الزجاج : نصبوا { يوم } على الظرف من مقدر تقديره : هو كائن { يوم هم على النار } ونحو هذا ، وقال الخليل وسيبويه : نصبه على البناء لما أضيف إلى غير متمكن . قال بعض النحاة : وهو في موضع رفع على البدل من { يوم الدين } . و : { يفتنون } معناه : يحرقون ويعذبون في النار ، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والجميع ، ومنه قيل للحرة : فتين ، كأن الشمس أحرقت حجارتها .
ومنه قول كعب بن مالك :
معاطي تهوى إليها الحقو ... ق يحسبها من وراءها الفتينا
وفتنت الذهب أحرقته ، ولما كان لا يحرق إلا لمعنى الاختبار قيل لكل اختبار فتنة ، واستعملوا : فتن ، بمعنى اختبر ، وعلى هنا موصلة إلى معنى في ، وفي قوله تعالى : { ذوقوا فتنتكم } معناه : يقال لهم ذوقوا حرقكم وعذابكم ، قاله قتادة وغيره ، والذوق : هنا استعارة ، وهذا إشارة إلى حرقهم واستعجالهم : هو قولهم : { أيان يوم الدين } وغير ذلك من الآيات التي تقتضي استعجالهم على جهة التكذيب منهم .
ولما ذكر تعالى حالة الكفرة وما يلقون من عذاب الله ، عقب ذلك بذكر المتقين وما يلقون من النعيم ليبين الفرق ويتبع الناس طريق الهدى ، والجنات والعيون معروف . والمتقي في الآية مطلق في اتقاء الكفر والمعاصي .
وقوله تعالى : { آخذين } نصب على الحال . وقرأ ابن أبي عبلة : " آخذون " بواو . وقال ابن عباس المعنى : { آخذين } في دنياهم { ما آتاهم ربهم } من أوامره ونواهيه وفرائضه وشرعه ، فالحال على هذا محكية وهي متقدمة في الزمان على كذبهم في جنات وعيون . وقال جماعة من المفسرين معنى قوله : { آخذين ما آتاهم ربهم } أي محصلين لنعم الله التي أعطاهم من جنته ورضوانه ، وهذه حال متصلة في المعنى بكونهم في الجنات . وهذا التأويل أرجح عندي لاستقامة الكلام به . وقوله : { قبل ذلك } يريد في الدنيا محسنين بالطاعة والعمل الصالح .
(6/198)

كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
معنى قوله عز وجل : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } أن نومهم كان قليلاً لاشتغالهم بالصلاة والعبادة ، فالمراد من كل ليلة ، والهجوع : النوم .
وقال الأحنف بن قيس : لست من أهل هذه الآية ، وهذا إنصاف منه . وقيل لبعض التابعين مدح الله قوماً { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } ، ونحن قليل من الليل ما تقوم ، فقال رحم الله عبداً رقد ، إذا نعس ، وأطاع ربه إذا استيقظ . وفسر أنس بن مالك هذه الآية بأنهم كانوا ينتفلون بين المغرب والعشاء ، وقال الربيع بن خيثم ، المعنى : كانوا يصيبون من الليل حظاً . وقال مطرف بن عبد الله ، المعنى : قل ليلة أتت عليهم هجوعها كله ، وقاله ابن أبي نجيح ومجاهد ، فالمراد عند هؤلاء بقوله : { من الليل } أي من الليالي . وظاهر الآية عندي أنهم كانوا يقومون الأكثر من ليلهم ، أي من كل ليلة وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً .
وأما إعراب الآية : فقال الضحاك في كتاب الطبري ما يقتضي أن المعنى { كانوا قليلاً } في عددهم وتم خبر كان ، ثم ابتدأ { من الليل ما يهجعون } ف { ما } : نافية . و { قليلاً } وقف حسن .
وقال بعض النحاة : { ما } زائدة ، و { قليلاً } مفعول مقدم ب { يهجعون } . وقال جمهور النحويين { ما } مصدرية و { قليلاً } خبر " كان " ، والمعنى كانوا قليلاً من الليل هجوعهم . والهجوع مرتفع ب " قليل " على أنه فاعل ، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيره ، وهو الظاهر عندي أن المراد كان هجوعهم من الليل قليلاً . وفسر ابن عمر والضحاك { يستغفرون } ب " يصلون " . وقال الحسن معناه : يدعون في طلب المغفرة ، و " الأسحار " مظنة الاستغفار . ويروى أن أبواب الجنة تفتح سحر كل يوم . وفي قصة يعقوب عليه السلام في قوله : { سوف أستغفر لكم ربي } [ يوسف : 98 ] قال أخر الاستغفار لهم إلى السحر . قال ابن زيد في كتاب الطبري : السحر : السدس الآخر من الليل .
وقوله تعالى : { وفي أموالهم حق } الصحيح أنها محكمة ، وأن هذا الحق هو على وجه الندب ، لا على وجه الفرض ، و : { معلوم } يراد به متعارف ، وكذلك قيام الليل الذي مدح به ليس من الفرائض ، وأكثر ما تقع الفريضة بفعل المندوبات ، وقال منذر بن سعيد : هي الزكاة المفروضة وهذا ضعيف ، لأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة . وقال قوم من المتأولين : كان هذا ثم نسخ بالزكاة ، وهذا غير قوي وما شرع الله عز وجل بمكة قبل الهجرة شيئاً من أخذ الأموال .
واختلف الناس في { المحروم } اختلافاً ، هو عندي تخليط من المتأخرين ، إذ المعنى واحد ، وإنما عبرعلماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالاً وحصرها مكي ثمانية .
(6/199)

و : { المحروم } هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة ، وهو مع ذلك لا يسأل ، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق ، قال الشعبي : أعياني أن أعلم ما { المحروم } ؟ وقال ابن عباس : { المحروم } : المعارف الذي ليس له في الإسلام سهم مال ، فهو ذو الحرفة المحدود . وقال أبو قلابة : جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل ، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هذا { المحروم } . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته من المحرومين ، والمعنى الجامع لهذه الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه ، وإلا فالذي أجيحت ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع ، وبعد هذا مقدر من الكلام تقديره : فكونوا مثلهم أيها الناس وعلى طريقتهم فإن النظر المؤدي إلى ذلك متوجه ، ف { في الأرض آيات } لمن اعتبر وأيقن .
قال القاضي أبو محمد : وهذه إشارة إلى لطائف الحكمة وعجائب الخلقة التي في الأرضين والجبال والمعادن والعيون وغير ذلك . وقرأ قتادة : " آية " على الإفراد .
وقوله تعالى : { وفي أنفسكم } إحالة على النظر في شخص الإنسان فإنه أكثر المخلوقات التي لدينا عبرة لما جعل الله فيه مع كونه من تراب من لطائف الحواس ومن أمر النفس وجهاتها ونطقها ، واتصال هذا الجزء منها بالعقل ، ومن هيئة الأعضاء واستعدادها لتنفع أو تجمل أو تعين . قال ابن زيد : إنما القلب مضغة في جوف ابن آدم جعل الله فيه العقل ، أفيدري أحد ما ذاك العقل؟ وما صفته؟ وكيف هو؟ وقال الرماني : النفس خاصة : الشيء التي لو بطل ما سواها مما ليست مضمنة به لم تبطل ، وهذا تعمق لا أحمده . وقوله : { أفلا تبصرون } توقيف وتوبيخ .
وقوله تعالى : { وفي السماء رزقكم } . قال الضحاك وابن جبير : أراد المطر والثلج . وقال واصل الأحدب ومجاهد : أراد القضاء والقدر ، أي الرزق عند الله يأتي به كيف يشاء ، لا رب غيره . وقرأ ابن محيصن " وفي السماء رازقكم " .
و : { توعدون } يحتمل أن يكون من الوعد ، ويحتمل أن يكون من الوعيد ، والكل في السماء . قال الضحاك المراد : من الجنة والنار . وقال مجاهد المراد : الخير والشر . وقال ابن سيرين المراد : الساعة .
ثم أقسم تعالى بنفسه على صحة هذا القول والخبر وشبهه في اليقين به بالنطق من الإنسان ، وهو عنده في غاية الوضوح ، ولا يمكن أن يقع فيه اللبس ما يقع في الرؤية والسمع ، بل النطق أشد تخلصاً من هذه واختلف القراء في قوله : { مثل ما } ، فقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر " مثلُ " بالرفع ، ورويت عن الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عنهم .
(6/200)

وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأهل المدينة وجل الناس : " مثلَ " بالنصب ، فوجه الأولى الرفع على النعت ، وجاز نعت النكرة بهذا الذي قد أضيف إلى المعرفة من حرث كان لفظ مثل شائعاً عاماً لوجوه كثيرة ، فهو لا تعرفه الإضافة إلى معرفة ، لأنك إذا قلت : رأيت مثل زيد فلم تعرف شيئاً ، لأن وجوه المماثلة كثيرة ، فلما بقي الشياع جرى عليه حكم النكرة فنعتت به النكرة . و { ما } زائدة تعطي تأكيداً ، وإضافة " مثل " هي إلى قوله : { إنكم } . ووجه قراءة النصب أحد ثلاثة وجوه : إما أن يكون مثل قد بني لما أضيف إلى غير متمكن وهو في موضع رفع على الصفة { لحق } ولحقه البناء ، لأن المضاف إليه قد يكسب المضاف بعض صفته كالتأنيث في قوله : شرقت صدر القناة . ونحوه ، وكالتعريف في غلام زيد إلى غير ذلك ، ويجري " مثلَ " حينئذ مجرى { عذاب يومئذ } [ المعارج : 11 ] على قراءة من فتح الميم ، ومنه قول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الطويل ]
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... ومنه قول الآخر : [ البسيط ]
لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت ... ف " غير " فاعلة ولكنه فتحها . والوجه الثاني وهو قول المازني إن " مثلَ " بني لكونه مع { ما } شيئاً واحداً ، وتجيء على هذا في مضمار ويحما وأينما ، ومنه قول حميد بن ثور : [ الطويل ]
ألا هيما مما لقيت وهيما ... وويهاً لمن لم يدر ما هن ويحما
فلولا البناء وجب أن يكون منوناً ، وكذلك قول الشاعر [ حسان بن ثابت ] : [ الطويل ]
فأكرم بنا أماً وأكرم بنا ابن ما ... والوجه الثالث : أن تنصب " مثل " على الحال من قوله : { لحق } وهي حال من نكرة وفيه خلاف لكن جوز ذلك الجرمي ، وأما غيره فيراه حالاً من الذكر المرفوع في قوله { لحق } لأن التقدير { لحق } هو ، وفي هذا نظر . والنطق في هذه الآية : الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني . وروي أن بعض الأعراب الفصحاء سمع هذه الآية فقال : من أحوج الكريم إلى أن يحلف؟ والحكاية وقعت في كتاب الثعلبي وسبل الخيرات متممة عن الأصمعي ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قاتل الله قوماً أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه " وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو فر أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت " وأحاديث الرزق والأشعار فيه كثيرة .
وقوله : { هل أتاك } تقرير لتجتمع نفس المخاطب ، وهذا كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب فتقرره هل سمع منك أم لا؟ فكأنه تقتضي منه أن يقول لا ويستطعمك الحديث . و : { ضيف } اسم جنس يقع للجميع والواحد . وروي أن أضياف إبراهيم هؤلاء : جبريل ومكائيل وإسرافيل وأتباع لهم من الملائكة .
(6/201)

وجعلهم تعالى " مكرمين " إما لأنهم عنده كذلك ، وهذا قول الحسن . وإما من حيث أكرمهم إبراهيم وخدمهم هو وسارة . وذبح لهم العجل . وقيل من حيث رفع مجالسهم و : { سلاماً } منصوب على المصدر كأنهم قالوا : تسلم سلاماً ، أو سلمت سلاماً ، ويتجه فيه أن يعمل فيه { قالوا } على أن نجعل { سلاماً } بمنزلة قولاً . ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا تحية وقولاً معناه : { سلاماً } وهذا قول مجاهد .
وقوله : { سلام } مرتفع على خبر ابتداء . أي أمر { سلام } . أو واجب لكم { سلام } ، أو على الابتداء والخبر محذوف ، كأنه قال : سلام عليكم وإبراهيم عليه السلام قد حيا بأحسن لأن قولهم دعاء وقوله واجب قد تحصل لهم .
وقرأ ابن وثاب والنخعي وحمزة والكسائي وطلحة وابن جبير قال : " سِلْم " بكسر السين وسكون اللام . والمعنى نحن سلم وأنتم سلم .
وقوله : { قوم منكرون } معناه : لا نميزهم ولا عهد لنا بهم . وهذا أيضاً على تقدير : أنتم { قوم منكرون } وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في تلك الأرض وفي ذلك الزمن و : " راغ " معناه مضى إثر حديثه تشبيه بالروغان المعروف ، لأن الرائغ يوهم أنه لم يزل . والعجل : هو الذي حنذه ، والقصة قد مضت مستوعبة في غير هذه السورة ، وروي عن قتادة أن أكثر مال إبراهيم كان البقر وكان مضيافاً . وحسبك أنه أوقف للضيافة أوقافاً تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها .
(6/202)

فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
المعنى { فقربه إليهم } فأمسكوا عنه فقال : { ألا تأكلون } فيروى في الحديث أنهم قالوا : لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه . فقال إبراهيم وأنا لا أبيحه لكم إلا بثمن . قالوا : وما هو؟ قال : أن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عند الفراغ من الأكل . فقال بعضهم لبعض : بحق اتخذه الله خليلاً . فلما استمروا على ترك الأكل { أوجس منهم خيفة } . والوجيس تحسيس النفس وخواطرها في الحذر . وذلك أن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه والطعام حرمة و ذمام . والامتناع منه وحشة . فخشي إبراهيم عليه السلام أن امتناعهم من أكل طعامه إنما هو لشر يريدونه ، فقالوا له : { لا تخف } وعرفوه أنهم ملائكة ، { وبشروه } وبشروا سارة معه { بغلام عليم } . أي عالم في حال تكليفه وتحصيله ، أي سيكون عليماً و : { عليم } بناء مبالغة . وجمهور الناس على أن الغلام هنا إسحاق ابن سارة الذي ذكرت البشارة به في غير موضع . وقال مجاهد ، هذا الغلام هو إسماعيل . والأول أرجح ، وهذا وهم . ويروى أنه إنما عرف كونهم ملائكة استدلالاً من بشارتهم إياه بغيب .
وقوله تعالى : { فأقبلت امرأته } يحتمل أن يكون قربت إليهم من ناحية من نواحي المنزل ، ويحتمل أن يكون هذا الإقبال كما تقول : أقبل فلان يشتمني ، أو يفعل كذا إذا جد في ذلك وتلبس به ، والصرة : الصيحة ، كذا فسره ابن عباس ومجاهد وسفيان والضحاك ، والمصطر الدي يصيح وقال قتادة معناه : في رقة . وقال الطبري قال بعضهم أوه بصياح وتعجب . قال النحاس : وقيل : { في صرة } في جماعة نسوة يتبادرن نظراً إلى الملائكة .
وقوله : { فصكت وجهها } ، معناه : ضربت وجهها ، قال ابن عباس : لطمت ، وهذا مما يفعله الذي يرد عليه أمر يستهوله . وقال سفيان والسدي ومجاهد معناه : ضربت بكفها جبهتها وهذا مستعمل في الناس حتى الآن . وقولها : { عجوز عقيم } ، إما أن يكون تقديره : أنا { عجوز عقيم } فكيف ألد؟ وإما أن يكون التقدير : { عجوز عقيم } تكون منها ولادة ، وقدره الطبري : أتلد { عجوز عقيم } . ويروى أنها كانت لم تلد قط . والعقيم من النساء التي لا تلد ، ومن الرياح التي لا تلقح شجراً ، فهي لا بركة فيها ، وقولهم : { كذلك قال ربك } أي كقولنا الذي أخبرناك قال ربك أن يكون . و : { الحكيم } ذو الحكمة . و : { العليم } معناه بالمصالح وغير ذلك من العلومات ثم قال إبراهيم عليه السلام للملائكة : { فما خطبكم } والخطب : الأمر المهم ، وقل ما يعبر به إلا عن الشدائد والمكاره حتى قالوا : خطوب الزمان ونحو هذا ، فكأنه يقول لهم : ما هذه الطامة التي جئتم لها؟ فأخبروه حينئذ أنهم أرسلوا إلى سدوم قرية لوط بإهلاك أهلها الكفرة العاصين المجرمين . والمجرم : فاعل الجرائم ، وهي صعاب المعاصي : كفر ونحوه واحدتها جريمة .
(6/203)

وقولهم : { لنرسل عليهم } أي لنهلكهم بهذه الحجارة . ومتى اتصلت " أرسل " ب " على " : فهي بمعنى المبالغة في المباشرة والعذاب . ومتى اتصلت ب " إلى " ، فهي أخف . وانظر ذلك تجده مطرداً .
وقوله تعالى : { حجارة من طين } بيان يخرج عن معتاد حجارة البرد التي هي من ماء . ويروى أنه طين طبخ في نار جهنم حتى صار حجارة كالآجر . و : { مسومة } نعت ل { حجارة } ، وقيل معناه متروكة وسومها من الإهلاك والأنصباب . وقيل معناه : معلمة بعلامتها من السيما والسومى وهي العلامة ، أي إنها ليست من حجارة الدنيا ، وقال الزهراوي والرماني ، وقيل معناه : على حجر اسم المضروب به . وقال الرماني وقيل كان عليها أمثال الخواتم . وقال ابن عباس : تسويمها إن كان في الحجارة السود نقط بيض وفي البيض سود . ويحتمل أن يكون المعنى : أنها بجملتها معلومة عند ربك لهذا المعنى معلمة له . لا أن كل واحد منها له علامة خاصة به . والمسرف : الذي يتعدى الطور ، فإذا جاء مطابقاً فهو لأبعد الغايات الكفر فما دونه .
ثم أخبر تعالى أنه أخرج بأمره من كان في قرية لوط { من المؤمنين } منجياً لهم . وأعاد الضمير على القرية . ولم يصرح لها قبل ذلك بذكر لشهرة أمرها . ولأن القوم المجرمين معلوم أنهم في قرية ولا بد . قال المفسرون : ولا فرق بين تقدم ذكر المؤمنين وتأخره ، وإنما هما وصفان ذكرهم أولاً بأحدهما ثم آخر بالثاني . قال الرماني : الآية دالة على أن الإيمان هو الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر إليّ أن في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان ، وذلك أنه ذكره مع الإخراج من القرية ، كأنه يقول : نفذ أمرنا بإخراج كل مؤمن ، ولا يشترط فيه أن يكون عاملاً بالطاعات . بل التصديق بالله فقط .
ثم لما ذكر حال الموحدين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها ، وهي الكاملة التصديق والأعمال ، والبيت من المسلمين : هو بيت لوط ، وكان هو وابنتاه ، وقيل وبنته . وفي كتاب الثعلبي : وقيل لوط وأهل بيته ثلاثة عشر ، وهلكت امرأته فيمن هلك ، وهذه القصة بجملتها ذكرت على جهة المثال لقريش . أي أنهم إذا كفروا وأصابهم مثل ما أصاب هؤلاء المذكورين .
(6/204)

وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)
المعنى : { وتركنا } في القرية المذكورة ، وهي سدوم أثراً من العذاب باقياً مؤرخاً لا يفنى ذكره فهو : { آية } أي علامة على قدرة الله وانتقامه من الكفرة . ويحتمل أن يكون . والمعنى : { وتركنا } في أمرها كما قال : { لقد كان في يوسف } [ يوسف : 7 ] وقال ابن جريج : ترك فيها حجراً منضوداً كثيراً جداً . و : { للذين يخافون العذاب } هم العارفون بالله تعالى .
وقوله تعالى : { وفي موسى } يحتمل أن يكون عطفاً على قوله { فيها } أي وتركنا في موسى وقصته أثراً أيضاً هو آية . ويحتمل أن يكون عطفاً على قوله قيل : { وفي الأرض آيات } [ الذاريات : 20 ] ، { وفي موسى } . و : { فرعون } هو صاحب مصر . والسلطان في هذه الآية الحجة و : { تولى } معناه : فأعرض وأدبر عن أمر الله و : { بركنه } بسلطانه وجنده وشدة أمره . وهو الأمر الذي يركن فرعون إليه ويسند في شدائده . قال ابن زيد : { بركنه } بجموعه قال قتادة : بقومه . وقول فرعون في موسى { ساحر أو مجنون } هو تقسيم ظن أن موسى لا بد أن يكون أحد هذين . وقال أبو عبيدة : { أو } هنا بمعنى الواو . واستشهد ببيت جرير : [ الوافر ]
أثعلبة الفوارس أو رياحاً ... عدلت بهم طهية والخشابا
والخشاب : بيوت في بني تميم ، وقول أبي عبيدة ضعيف لا داعية إليه في هذا الموضع . و : { نبذناهم } معناه : طرحناهم و : { اليم } البحر . وفي مصحف ابن مسعود : " فنبذناه " ، و " المليم " : الذي أتى من المعاصي ونحوها ما يلام عليه وقال أمية بن أبي الصلت : [ الوافر ]
ومن يخذل أخاه فقد ألاما ... وقوله : { وفي عاد } عطف على قوله : { وفي موسى } ، و { عاد } هي قبيلة هود النبي عليه السلام .
و { العقيم } التي لا بركة فيها ولا تلقح شجراً ولا تسوق مطراً . وقال سعيد بن المسيب : كانت ريح الجنوب . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : كانت نكباء . وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه لأنه مردود بقوله صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " و : { تذر } معناه : تدع . وقوله تعالى : { من شيء أتت عليه } يعني مما أذن لها في إهلاكه . و : { الرميم } الفاني المتقطع يبساً أو قدماً من الأشجار والورق والحبال والعظام ، ومنه قوله تعالى { من يحيي العظام وهي رميم } [ يس : 78 ] أي في قوام الرمال وروي أن تلك الريح كانت تهب على الناس فيهم العادي وغيره ، فتنتزع العادي من بين الناس وتذهب به .
وقوله تعالى : { وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } يحتمل أن يريد إذ قيل لهم في أول بعث صالح آمنوا وأطيعوا فتمتعوا متاعاً حسناً إلى آجالكم ، وهو الحين على هذا التأويل وهو قول الحسن حكاه عن الرماني ، ويجيء قوله تعالى : { فعتوا } مرتباً لفظاً في الآية ومعنى في الوجود متأخراً عن القول لهم { تمتعوا } ، ويحتمل أن يريد : إذ قيل لهم بعد عقر الناقة : { تمتعوا } في داركم ثلاثة ، وهي الحين على هذا التأويل وهو قول الفراء ، ويجيء قوله : { فعتوا } غير مرتب المعنى في وجوده ، لأن عتوهم كان قبل أن يقال لهم { تمتعوا } وكأن المعنى فكان من أمرهم قبل هذه المقالة أن عتوا وهو السبب في أن قيل لهم ذلك وعذبوا .
(6/205)

وقرأ جمهور القراء : " الصاعقة " وقرأ الكسائي وهي قراءة عمر وعثمان " الصعقة " ، وهي على القراءتين الصيحة العظيمة ، ومنه يقال للوقعة الشديدة من الرعد : صاعقة . وهي التي تكون معها النار التي يروى في الحديث أنها من المخراق الذي بيد ملك يسوق السحاب .
وقوله : { وهم ينظرون } يحتمل أن يريد فجأة وهم يبصرون بعيونهم حالهم ، وهذا قول الطبري ويحتمل أن يريد : { وهم ينظرون } ذلك في تلك الأيام الثلاثة التي أعلموا به فيها ورأوا علاماته في تلونه ، وهذا قول مجاهد حسبما تقدم تفسيره ، وانتظارهم العذاب هو أشد من العذاب .
(6/206)

فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
قال بعض المفسرين : { من قيام } معناه : ما استطاعوا أن يقوموا من مصارعهم . وقال قتادة وغيره معناه : ما قيام بالأمر ودفعه كما تقول : ما أن له بكذا وكذا قيام ، أي استضلاع وانتهاض .
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم : " وقوم نوح " بالنصب ، وهو عطف إما علىلضمير في قوله : { فأخذتهم } [ الذاريات : 44 ] إذ هو بمنزلة أهلكناهم ، وإما على الضمير في قوله : { فنبذناهم } [ الذاريات : 40 ] ، وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث : " وقومُ نوح " بالرفع وذلك على الابتداء وإضمار الخبر وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : " وقومِ " بالخفض عطفاً على ما تقدم من قوله : { وفي ثمود } [ الذاريات : 43 ] وقد روي النصب عن أبي عمرو .
وقوله : { والسماءَ } نصب بإضمار فعل تقديره : وبنينا السماء بنيناها . والأيد : القوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، ووقعت في المصحف بياءين وذلك على تخفيف الهمز ، وفي هذا نظر .
وقوله : { لموسعون } يحتمل أن يريد : إنا نوسع الأشياء قوة وقدرة كما قال تعالى : { على الموسع قدره } [ البقرة : 236 ] أي الذي يوسع أهله إنفاقاً ، ويحتمل أن يريد : { لموسعون } في بناء السماء ، أي جعلناها واسعة وهذا تأويل ابن زيد وقال الحسن : أوسع الرزق بمطر السماء و " الماهد " المهيئ الموطئ للموضع الذي يتمهد ويفترش .
وقوله تعالى : { ومن كل شيء خلقنا زوجين } أي مصطحبين ومتلازمين ، فقال مجاهد معناه أن هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلالة والأرض والسماء والسواد والبياض والصحة والمرض والكفر والإيمان ونحو هذا ، ورجحه الطبري بأنه دل على القدرة التي توجد الضدين ، بخلاف ما يفعل بطبعه فعلاً واحداً كالتسخين والتبريد . وقال ابن زيد وغيره : هي إشارة غلى الأنثى والذكر من كل حيوان والترجي الذي في قوله : { لعلكم } هو بحسب خلق البشر وعرفها . وقرأ الجمهور " تذّكرون " بشد الذال والإدغام . وقرأ أبي بن كعب : " تتذكرون " بتاءين وخفة الذال .
وقوله : { ففروا } أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله ، وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار لينبه على أن وراء الناس عقاباً وعذاباً وأمراً حقه أن يفر منه ، فجمعت لفظة " فروا " بين التحذير والاستدعاء ، وينظر إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك " الحديث ، قال الحسن بن الفضل : من فر إلى غير الله .
وقوله : { ولا تجعلوا مع الله } الآية نهي عن عبادة الأصنام والشياطين وكل مدعو من دون الله وفائدة تكرار قوله : { إني لكم منه نذير مبين } الإبلاغ وهز النفس وتحكيم التحذير وإعادة الألفاظ بعينها في هذه المعاني بليغة بقرينة شدة الصوت .
وقوله تعالى : { كذلك } تقديره : سيرة الأمم كذلك ، أو الأمر في القديم كذلك . وقوله : { إلا قالوا ساحر أو مجنون } معناه : إلا قال بعض : هذا وبعض : هذا وبعض : الجميع ألا ترى أن قوم نوح لم يقولوا قط : { ساحر } وإنما قالوا : { به جنة } [ سبأ : 8 ] فلما اختلف الفرق جعل الخبر عن ذلك بإدخال أو بين الصفتين ، وليس المعنى أن كل أمة قالت عن نبيها إنه ساحر أو هو مجنون ، فليست هذه كالمتقدمة في فرعون ، بل هذه كأنه قال : إلا قالوا هو ساحر وهو مجنون .
(6/207)

أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
قوله تعالى : { أتواصوا به } توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء على تفرق أزمانهم أي أنهم لم يتواصوا ، لكنهم فعلوا فعل من يتواصى .
والعلة في ذلك أن جميعهم طاغ ، والطاغي : المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله .
وقوله تعالى : { فتول عنهم } أي عن الحرص المفرط عليهم ، وذهاب النفس حسرات ، ويحتمل أن يراد : فقول عن التعب المفرط في دعائهم وضمهم إلى الإسلام فلست بمصيطر عليهم ولست { بملوم } إذ قد بلغت ، فنح نفسك عن الحزن عليهم ، وذكر فقط ، فإن الذكرى نافعة للمؤمنين ولمن قضي له أن يكون منهم في ثاني حال ، وعلى هذا التأويل : فلا نسخ في الآية . إلا في معنى الموادعة التي فيها ، إن آية السيف نسخت جميع الموادعات .
وروى قتادة وذكره الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما نزلت { فتول عنهم فما أنت بملوم } حزن المسلمون وظنوا أنه مر بالتوالي عن الجميع وأن الوحي قد انقطع حتى نزلت : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } فسروا بذلك .
وقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } اختلف الناس في معناه مع إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد أن تقع العبادة من الجميع ، لأنه لو أراد ذلك لم يصح وقوع الأمر بخلاف إرادته ، فقال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما المعنى : ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي ، وليقروا لي بالعبودية فعبر عن ذلك بقوله : { ليعبدون } إذ العبادة هي مضمن الأمر ، وقال زيد بن أسلم وسفيان : المعنى خاص ، والمراد : { وما خلقت } الطائعين من { الجن والإنس } إلا لعبادتي ، ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : " وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدوني " ، وقال ابن عباس أيضاً معنى : { ليعبدون } أي ليتذللوا لي ولقدرتي ، وإن لم يكن ذلك على قوانين الشرع .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا التأويل فجميع الجن والإنس عابد متذلل والكفار كذلك ، ألا تراهم عند القحط والأمراض وغير ذلك . وتحتمل الآية ، أن يكون المعنى : ما خلقت الجن والإنس إلا معدين ليعبدون ، وكأن الآية تعديد نعمة ، أي خلقت لهم حواس وعقولاً وأجساماً منقادة نحو العبادة ، وهذا كما تقول : البقر مخلوقة للحرث ، والخيل للحرب ، وقد يكون منها ما لا يحارب به أصلاً ، فالمعنى أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة ، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك ، ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " . وقوله : " كل مولود يولد على الفطرة " والحديث ، وقوله : { من رزق } أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم .
(6/208)

وقوله : { أن يطمعون } إما أن يكون المعنى أن يطمعوا خلقي فإضيف ذلك إلى الضمير على جهة التجوز ، وهذا قول ابن عباد . وإما أن يكون الإطعام هنا بمعنى النفع على العموم ، كما تقول : أعطيت فلاناً كذا وكذا طعمة ، وأنت قد أعطيته عرضاً أو بلداً يحييه ، ونحو هذا فكأنه قال : ولا أريد أن ينفعوني ، فذكر جزءاً من المنافع وجعله دالاً على الجميع .
وقرأ الجميع : " إن الله هو الرزاق " . وروى أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن يزيد ، قال أبو عمرو الداني عن ابن مسعود قال : أقراني رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أنا الرزاق " وقرأ الجمهور : " إن الله هو الرزاق " وقرأ ابن محيصن " هو الرازق "
وقرأ جمهور القراء : " المتينُ " بالرفع إما على أنه خبر بعد خبر ، أو صفة ل { الرزاق } . وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش " المتينِ " بالخفض على النعت ل { القوة } ، وجاز ذلك من حيث تأنيث { القوة } غير حقيقي . فكأنه قال : ذو الأيد ، أو ذو الحبل ونحوه { فمن جاءه موعظة } [ البقرة : 275 ] وجوز أبو الفتح أن يكون خفض " المتينِ " علىلجواز و : { المتين } : الشديد .
وقوله تعالى : { فإن للذين ظلموا } يريد أهل مكة ، وهذه آية وعيد صراح ، وقرأ الأعمش " فإن للذين كفروا " . والذنوب : الحظ والنصيب ، وأصله من الدلو ، وذلك أن الذنوب هو ملء الدلو من الماء ، وقيل الذنوب : الدلو العظيمة ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
إنا إذا نازلنا غريب ... له ذنوب ولنا ذنوب
فإن أبيتم فلنا القليب ... وهو السجل ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [ الطويل ]
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
فيروى أن الملك لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة ، ومنه قول حسان : [ الطويل ]
لا يبعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب
و { أصحابهم } يريد به من تقدم من الأمم المعذبة . وقوله : { فلا يستعجلون } تحقيق للأمر ، بمعنى هو نازل بهم لا محالة في وقته المحتوم ، فلا يستعجلوه ، وقرأ يحيى بن وثاب : " فلا تستعجلون " بالتاء من فوق .
ثم أوجب تعالى لهم الويل من يومهم الذي يأتي فيه عذابهم . والويل : الشقاء والهم ، وروي أن في جهنم وادياً يسمى : ويلاً . والطبري يذهب أبداً إلى أن التوعد إنما هو به ، وذلك في هذا الموضع قلق ، لأن هذا الويل إنما هو { من يومهم } الذي هو في الدنيا ، و : { من } لابتداء الغاية . وقال جمهور المفسرين : هذا التوعد هو بيوم القيامة . وقال آخرون ذكره الثعلبي هو يوم بدر . وفي : { يوعدون } ضمير عائد ، التقدير : يوعدون به ، أو يوعدونه .
نجز تفسير سورة " الذاريات " والحمد لله رب العالمين كثيراً ، وصلى الله عليه سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعن جميع تابعيه .
(6/209)

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
هذه مخلوقات أقسم الله بها تنبيهاً منها وتشريفاً ، وليكون ذلك سبب النظر فيها والاعتبار بها ، وذلك يؤول إلى التوحيد والمعرفة بحقوق الله .
{ والطور } قال بعض أهل اللغة : كل جبل : طور ، فكأنه أقسم بالجبال ، إذ هو اسم جنس وقال آخرون : " الطور " كل جبل أجرد لا ينبت شجراً . وقال مجاهد في كتاب الطبري : " الطور " الجبل بالسريانية ، وهذا ضعيف ، لأن ما حكاه في العربية يقضي على هذا ، ولا خلاف أن في الشام جبلاً يسمى ب " الطور " ، وهو طور سيناء . وقال نوف البكالي : إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال . إذ قد روي أن الله تعالى أوحى إلىلجبال إني مهبط على أحدكم أمري . يريد رسالة موسى عليه السلام ، فتطاولت كلها إلا الطور فإنه استكان لأمر الله وقال حسبي الله ، فأهبط الله الأمر عليه . ويقال إنه بمدين . وقال مقاتل بن حيان هما طوران . والكتاب المسطور : معناه بإجماع : المكتوب أسطاراً .
واختلف الناس في هذا المكتوب المقسم به ، فقال بعض المفسرين : هو الكتاب المنتسخ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرف منه ما تفعله وتصرفه في العالم .
وقال آخرون : بل أقسم الله تعالى بالقرآن ، فإنه قد كان علم أنه يتخلد { في رق منثور } .
وقال آخرون : أقسم بالكتب القديمة المنزلة : الإنجيل والتوراة والزبور . وقال الفراء فيما حكى الرماني : أقسم بالصحف التي تعطى وتؤخذ يوم القيامة بالأيمان والشمائل . وقال قوم : أقسم بالكتاب الذي فيه أعمال الخلق ، وهو الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
وكتب بعض الناس ، " مصطوراً " بالصاد . والقصد بذلك تشابه النطق بالحروف ، والجمهور على السين . والرق : الورق المعدة للكتب وهي مرققة فلذلك سميت رقاً ، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان . والمنثور : خلاف المطوي ، وقد يحتمل أن يكون نشره بمعنى بشره وترقيقه وصنعته . وقرأ أبو السمال : " في رِق " بكسر الراء .
واختلف الناس في { البيت المعمور } فقال الحسن بن أبي الحسن البصري : هي الكعبة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وعكرمة : هو بيت في السماء يقال له الضراح ، وهو بحيال الكعبة ، ويقال الضريح ، ذكر ذلك الطبري وهو الذي ذكر في حديث الإسراء . قال جبريل عليه السلام : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم وبهذا عمارته . ويروى أنه في السماء السابعة . وقيل في السادسة وقيل إنه مقابل الكعبة لو خر لسقط عليها . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : في كل سماء بيت معمور ، وفي كل أرض كذلك . وهي كلها على خط مع الكعبة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : { والسقف المرفوع } : السماء { والسقف } طول في انحناء ، ومنه أسقف النصارى ، ومنه السقف ، لأن الجدار وسقفه فيهما طول في انحناء .
(6/210)

واختلف الناس في معنى : { المسجور } فقال مجاهد وشمر بن عطية معناه : الموقد ناراً . وروي أن البحر هو جهنم . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليهودي : أين جهنم؟ فقال هي البحر ، فقال علي : ما أظنه إلا صادقاً ، وقرأ : { والبحر المسجور } ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن البحر طبق جهنم " . قال الثعلبي : وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يركبن البحر إلا حاج أو معتمر أو مجاهد فإن تحت البحر ناراً " .
وفي حديث آخر : " فإن البحر نار في نار " . وقال قتادة : { المسجور } المملوء . وهذا معروف في اللغة . ورجحه الطبري بوجود نار البحر كذلك ، وإلى هذا يعود القول الأول لأن قولهم : سجرت التنور معناه : ملأتها بما يحترق ويتقد و : { البحر المسجور } المملوء ماء ، وهكذا هو معرض للعبرة ، ومن هذا قول النمر بن تولب : [ المتقارب ]
إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النبع والسماسما
سقتها رواعد من صي ... ف وإن من خريف فلن يعدما
يصف ثوراً أو عيناً مملوءة ماء ، وقال ابن عباس : هو الذي ذهب ماؤه ف { المسجور } : الفارغ ، ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وقيل يوقد البحر ناراً يوم القيامة فذلك هو سجره . وقال ابن عباس أيضاً : { المسجور } : المحبوس ، ومنه ساجور الكلب : وهو القلادة من عود أو حديد التي تمسكه ، وكذلك لولا أن البحر يمسك لفاض على الأرض . وقال علي بن أبي طالب أيضاً وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : البحر المقسم به هو في السماء تحت العرش ، والجمهور على أنه بحر الدنيا ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وإذا البحار سجرت } [ التكوير : 6 ] .
وقال منذر بن سعيد : إن المعنى هو القسم بجهنم وسماها بحراً لسعتها وتموجها كما قال صلى الله عليه وسلم في الفرس : " وإن وجدناه لبحر " والقسم واقع على قوله : { إن عذاب ربك لواقع } ويريد عذاب الآخرة للكفار . قال قتادة : والعامل في : { يوم } " واقع " ويجوز أن يكون العامل فيه { دافع } ، والأول أبين . وقال مكي : لا يعمل فيه { دافع } . و : { تمور } معناه : تذهب وتجيء بالرياح متقطعة متفتتة ، والغبار الموار : الذي يجتمع ويذهب ويجيء بالريح ، ثم هو كله إلى الذهاب ، ومنه قول الأعرابي :
وغادرت التراب مورا ... يصف سنة قحط . وأنشد معمر بن المثنى بيت الأعشى : [ البسيط ]
مور السحابة لا ريث ولا عجل ... أراد مضيها ، وقال الضحاك : { تمور } تموج . وقال مجاهد : تدور . وقال ابن عباس : تشقق ، وهذه كلها تفاسير بالمعنى ، لأن السماء العلو يعتريها هذا كله ، وسير الجبال هو في أول الأمر ، ثم تتفتت أثناء السير حتى تصير آخراً كالعهن المنفوش والفاء في قوله : { فويل } عاطفة جملة على جملة وهي تتضمن ربط المعنى وتأكيده وإثبات الويل للمكذبين .
(6/211)

والويل : السوء والمشقة والهم الأطول ، ويروى أن في جهنم وادياً يسمى : ويلاً والخوض التخبط في الأباطيل ، يشبه بخوض الماء ، ومنه قوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } [ الأنعام : 68 ] و : { يوم } الثاني بدل من : { يومئذ } و : { يدعون } قال ابن عباس معناه : يدفعون في أعناقهم بشدة وإهانة وتعتعة ، ومنه قوله تعالى : { يدع اليتيم } [ الماعون : 2 ] وفي الكلام محذوف مختصر تقديره : يقال لهم هذه النار ، وإخبارهم بهذا على جهة التوبيخ والتقريع وقرأ أبو رجاء العطاردي : " يوم يدْعَون إلى نار جهنم " من الدعاء بسكون الدال وفتح العين .
(6/212)

أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
لما قيل لهم هذه النار ، وقفوا بعد ذلك على الجهتين التي يمكن منها دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثم سحر يلبس ذات المرء ، وإما أن يكون في بصر النظر اختلال ، وأمرهم بصليها على جهة التقريع ، ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم : { اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } أي عذابكم حتم ، فسواء جزعكم وصبركم لا بد من جزاء أعمالكم . وقوله تعالى : { إن المتقين في جنات } الآية يحتمل أن يكون خطاب أهل النار ، فيكون إخبارهم بذلك زيادة في غمهم وسوء حالهم ، ويحتمل وهو الأظهر أن يكون إخباراً لمحمد صلى الله عليه وسلم ومعاصريه لما فرغ من ذكر عذاب الكفار عقب ذلك بنعيم المتقين ليبين الفرق ويقع التحريض على لإيمان . والمتقون هنا : متقو الشرك . لأنهم لا بد من مصيرهم إلى الجنات ، وكلما زادت الدرجة في التقوى قوي الحصول في حكم الآية ، حتى أن المتقين على الإطلاق هم في حكم الآية قطعاً على الله بحكم خبره الصادق .
وقرأ الجمهور : " فاكهين " ومعناه : فرحين مسرورين . وقال أبو عبيدة : هو من باب لابن وتامر أي لهم فاكهة .
قال القاضي أبو محمد : والمعنى الأول أبرع .
وقرأ خالد فيما حكى أبو حاتم " فاكهين " والفكه والفاكه : المسرور المتنعم .
وقوله : { بما آتاهم ربهم } : أي من إنعامه ورضاه عنهم وقوله : { ووقاهم ربهم عذاب الجحيم } هذا متمكن ومتقي المعاصي الذي لا يدخل النار ويكون متقي الشرك الذي ينفذ عليه الوعيد بمعنى : ووقاهم ربهم عذاب الخلود في الجحيم . ويحتمل أن يكون { الجحيم } من طبقات جهنم ليست بمأوى للعصاة المؤمنين ، بل هي مختصة بالكفرة فهم وإن عذبوا في نار فليسوا في عذاب الجحيم .
وقرأ جمهور الناس : " ووقَاهم " بتخفيف القاف . وقرأ أبو حيوة : " ووقّاهم " بتشديدها على المبالغة ، وذلك كله مشتق من الوقاية ، وهي الحائل بين الشيء وما يضره والمعنى : يقال لهم { كلوا واشربوا } . وقوله : { بما كنتم تعملون } معناه : أن رتب الجنة ونعيمها هو بحسب الأعمال وأما نفس دخولها فهو برحمة الله وتغمده ، والأكل والشرب والتهني ليس من الدخول في شيء ، وأعمال العباد الصالحة لا توجب على الله التنعيم إيجاباً ، لكنه قد جعلها أمارة على من سبق تنعيمه ، وعلق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال . وقوله تعالى : { متكئين } نصب على الحال على حد قوله : { فاكهين } والعامل في هاتين الحالتين الفعل المقدر في قوله : { في جنات } ويجوز غير هذا ، وفي ذلك نظر ، وقرأ أبو السمال : " على سرَر " بفتح الراء الأولى . و : { زوجناهم } معناه : جعلنا لكل فرد منهم زوجاً ، والحور : جمع حوراء ، وهي البيضاء القوية بياض بياض العين وسواد سوادها ، و " العين " جمع عيناء وهي الكبيرة العينين مع جمالهما . وفي قراءة ابن مسعود وإبراهيم النخعي : " وزوجناهم بعيس عين " ، قال أبو الفتح : العيساء البيضاء . وقرأ عكرمة : " وزوجناهم حوراً عيناً " . وحكى أبو عمرو عن عكرمة أنه قرأ " بعيس عين " على إضافة " عيس " إلى " عين " .
(6/213)

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والحسن وقتادة وأهل مكة : " واتبعتهم ذريتهم " " بهم ذريتهم " . وقرأ نافع وأبو جعفر وابن مسعود بخلاف عنه وشيبة والجحدري وعيسى ، " وأتبعناهم ذريتهم " " بهم ذرياتهم " . وروى خارجة عنه مثل قراءة حمزة . وقرأ ابن عامر وابن عباس وعكرمة وابن جبير والضحاك : " واتبعتهم ذريتهم " " بهم ذريتهم " . وقرأ أبو عمرو والأعرج وأبو رجاء والشعبي وابن جبير والضحاك : " وأتبعناهم ذريتهم " " بهم ذريتهم " . فكون الذرية جمعاً في نفسه حسن الإفراد في هذه القراءات ، وكون المعنى يقتضي انتشار أن كثرة حسن جمع الذرية في قراءة " ذرياتهم " .
واختلف الناس في معنى الآية ، قال ابن عباس وابن جبير والجمهور : أخبر الله تعالى أن المؤمنين تتبعهم ذريتهم في الإيمان . فيكونون مؤمنين كآبائهم . وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء ، فإنه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء .
وقد ورد في هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا الحديث تفسير الآية وكذلك وردت أحاديث تقتضي " أن الله تعالى يرحم الآباء رعياً للأبناء الصالحين " . وذهب بعض الناس إلى إخراج هذا المعنى من هذه الآية ، وذلك لا يترتب إلا بأن يجعل اسم الذرية بمثابة نوعهم على نحو قوله تعالى { أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } [ يس : 41 ] وفي هذا نظر . وقال ابن عباس أيضاً والضحاك معنى هذه الآية : أن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين . يعني في الوراثة والدفن في قبور الإسلام وفي أحكام الآخرة في الجنة . وحكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال : الآية في الكبار من الذرية وليس فيها من الصغار شيء . وقال منذر بن سعيد هي في الصغار لا في الكبار . وحكى الطبري قولاً معناه أن الضمير في قوله : { بهم } عائد على ذرية ، والضمير الذي بعده في : { ذريتهم } عائد على { الذين } أي اتبعتهم الكبار وألحقنا نحن الكبار الصغار . وهذا قول مستكره .
وقوله : { بإيمان } هو في موضع الحال . فمن رأى أن الآية في الأبناء الصغار . فالحال من الضمير في قوله : { اتبعتهم } فهو من المفعولين ، ومن رأى أن الآية في الأبناء الكبار فيحتمل أن تكون الحال من المفعولين ، ويحتمل أن تكون من المتبعين الفاعلين ، وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول . لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء . ولفظة { ألحقنا } تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال .
وقرأ جمهور القراء : " أَلتناهم " بفتح الألف من ألَت .
(6/214)

وقرأ ابن كثير وأبو يحيى وشبل : " ألِتناهم " من ألِت بكسر اللام . وقرأ الأعرج : " ألتناهم " على وزن أفعلناهم . وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود : " لتناهم " من لات ، وهي قراءة ابن مصرف . ورواها القواس عن ابن كثير ، وتحتمل قراءة من قرأ : " أَلَتناهم " بالفتح أن تكون من ألات ، فإنه قال : ألات يليت إلاتة . ولات يليت ليتاً . وآلت يولت إيلاتاً ، وألت يألت . وولت يلت ولتاً . وكلها بمعنى نقص ومعنى هذه الآية : أن الله يلحق المقصر بالمحسن ، ولا ينقص المحسن من أجره شيئاً وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور ، ويحتمل قوله تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } بأن يريد من عملهم المحسن والقبيح ، ويكون الضمير في { عملهم } عائد على الأبناء ، وهذا تأويل ابن زيد ، ويحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } ، والرهين المرتهن ، وفي هذه الألفاظ وعيد .
وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه قرأ : " وما لَتناهم " بغير ألف وفتح اللام . قال أبو حاتم : لا تجوز هذه القراءة على وجه من الوجوه . وأمددت الشي : إذا سربت إليه شيئاً آخر يكثره أو يكثر لديه . وقوله : { مما يشتهون } إشارة إلى ما روي من أن المنعم إذا اشتهى لحماً نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها ، وليس يكون في الجنة لحم يخزن ولا يتكلف فيه الذبح والسلخ والطبخ . وبالجملة : لا كلفة في الجنة ، و : { يتنازعون } معناه : يتعاطون ، ومنه قول الأخطل : [ البسيط ]
نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
والكأس : الإناء وفيه الشراب . ولا يقال في فارغ كأس ، قاله الزجاج .
وقرأ جمهور من السبعة وغيرهم " لا لغوٌ " بالرفع " ولا تأثيمٌ " كذلك . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن : " لا لغوَ ولا تأثيمَ " بالنصب على التبرية وعلى الوجهين . فقوله { فيها } هو في موضع الخبر ، وأغنى خبر الأولين عن ذكر خبر الثاني . واللغو : السقط من القول . والتأثيم : يلحق خمر الدنيا في نفس شربها وفي الأفعال التي تكون من شرابها ، وذلك كله مرتفع في الآخرة . و : " اللؤلؤ المكنون " أجمل اللؤلؤ لأن الصون والكن يحسنه . وقال ابن جبير : أراد أنه الذي في الصدف لم تنله الأيدي ، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إذا كان الغلمان كاللؤلؤ المكنون ، فكيف المخدومون؟ قال : " هم كالقمر ليلة البدر " . ثم وصف عنهم أنهم في جملة تنعمهم يتساءلون عن أحوالهم وما قال كل أحد منهم ، وأنهم يتذكرون حال الدنيا وخشيتهم فيها عذاب الآخرة . وحكى الطبري عن ابن عباس قال : تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية . والإشفاق أشد الخشية ورقة القلب .
وقرأ أبو حيوة : " ووقّانا " بشد القاف .
(6/215)

وقراءة الجمهور بتخفيفها . وأمال عيسى الثقفي : " ووقَانا " بتخفيف القاف .
و : { السموم } الحار . قال الرماني : هو الذي يبلغ مسام الإنسان ، وهو النار في هذه الآية . وقد يقال في حر الشمس وفي الريح سموم . وقال الحسن : { السموم } اسم من أسماء جهنم و : { ندعوه } يحتمل أن يريد نعبده ، ويحسن هذا على قراءة من قرأ : " أنه " بفتح الألف . وهي قراءة نافع . بخلاف والكسائي وأبي جعفر والحسن وأبي نوفل أي من أجل أنه . وقرأ باقي السبعة والأعرج وجماعة " أنه " على القطع والاستئناف ، ويحسن مع هذه القراءة أن يكون { ندعوه } بمعنى نعبده . أو بمعنى الدعاء نفسه ، ومن رأى : { ندعوه } بمعنى الدعاء نفسه فيحتمل أن يجعل قوله : " أنه " بالفتح هو نفس الدعاء الذي كان في الدنيا . و : { البر } هو الذي يبر ويحسن ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
جاءت من البيض زعر لا لباس لها ... إلا الدهاس وأم برة وأب
(6/216)

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)
هذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى الله ومتابعة نشر الرسالة ، ثم قال مؤنساً له : { فما أنت } بإنعام الله عليك أو لطفه بك { بكاهن ولا مجنون } . وكانت العرب قد عهدت ملابسة الجن والإنس بهذين الوجهين ، فنسبت محمداً صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فنفى الله تعالى عنه ذلك .
وقوله تعالى : { أم يقولون شاعر } الآية ، روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد صلى الله عليه وسلم حتى قال قائل منهم : { تربصوا به ريب المنون } فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى وغيرهم ، فافترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية في ذلك ، والتربص : الانتظار ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوماً أو يموت حليلها
وأنشد الطبري : [ الطويل ]
لعلها سيهلك عنها زوجها أو ستجنح ... وقوله تعالى : { قل تربصوا } وعيد في صيغة أمر ، و : { المنون } من أسماء الموت ، وبه فسر ابن عباس ، ومن أسماء الدهر أيضاً ، وبه فسر مجاهد وقال الأصمعي : { المنون } واحد لا جمع له وقال الأخفش : هو جمع لا واحد له .
قال القاضي أبو محمد : والريب هنا : الحوادث والمصائب ، لأنها تريب من نزلت به ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ابنته فاطمة حين ذكر أن علياً يتزوج بنت أبي جهل : " إنما فاطمة بضعة مني ، يريبني ما أرابها " . يقال أراب وراب ، ومنه : [ الطويل ]
فقد رابني منها الغداة سفورها ... وقوله الآخر : [ المتقارب ]
وقد رابني قولها يا هناه ... وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتوعدهم بقوله : { قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } وقوله تعالى : { بهذا } يحتمل أن يشير إلى هذه المقالة : هو شاعر ، ويحتمل أن يشير إلى ما هم عليه من الكفر وعبادة الأصنام . والأحلام : العقول . و : { أم } المتكررة في هذه الآية قدرها بعض النحاة بألف الاستفهام ، وقدرها مجاهد ب " بل " . والنظر المحرر في ذلك أن منها ما يتقدر ببل ، والهمزة على حد قول سيبويه في قولهم : إنها لا بل أم شاء ، ومنها ما هي معادلة ، وذلك قوله : { أم هم قوم طاغون } .
وقرأ مجاهد : " بل هم قوم طاغون " وهو معنى قراءة الناس ، إلا أن العبارة ب { أم } خرجت مخرج التوقيف والتوبيخ . وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : ما في سورة " الطور " من { أم } كله استفهام وليست بعطف . و : { تقوله } معناه : قال عن الغير إنه قاله . فهي عبارة عن كذب مخصوص . ثم عجزهم تعالى بقوله : { فليأتوا بحديث مثله } والمماثلة المطلوبة منهم هي في النظم والرصف والإيجاز .
واختلف الناس هل كانت العرب قادرة على الإتيان بمثل القرآن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال شداد : يسمون أهل الصرفة كانت قادرة وصرفت ، وقال الجمهور : لم تكن قط قادرة ولا في قدرة البشر أن يأتي بمثله .
(6/217)

لأن البشر لا يفارق النسيان والسهو والجهل والله تعالى محيط علمه بكل شيء . فإذا ترتبت اللفظة في القرآن ، علم بالإحاطة التي يصلح أن تليها ويحسن معها المعنى وذلك متعذر في البشر ، والهاء في { مثله } عائدة على القرآن .
وقرأ الجحدري " بحديثِ مثلِه " بإضافة الحديث إلى مثل . فالهاء على هذا عائدة على محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء } قال الطبري معناه : أم خلقوا خلق الجماد من غير حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما هي الجمادات عليه . وقال آخرون معناه : خلقوا لغير علة ولا لغير عقاب ولا ثواب . فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون . وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة ، أي لغير علة . ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم : أهم الذين خلقوا الأشياء؟ فهم لذلك يتكبرون ، ثم خصص من الأشياء { السماوات والأرض } لعظمها وشرفها في المخلوقات ، ثم حكم عليهم بأنهم { لا يوقنون } ولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين .
(6/218)

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
قوله تعالى : { أم عندهم خزائن ربك } بمنزلة قوله : أم عندهم الاستغناء عن الله في جميع الأمور ، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله كلها . قال الزهراوي وقيل يريد ب " الخزائن " : العلم ، وهذا قول حسن إذا تأمل وبسط . وقال الرماني : خزائنه تعالى : مقدوراته ، و : " المصيطر " المسلط القاهر ، وبذلك فسر ابن عباس وأصله السين ، ولكن كتبه بعض الناس . وقرأه بالصاد مراعاة للطاء ليتناسب النطق . وحكى أبو عبيدة : تسيطرت علي إذا اتخذتني خولاً . والسلم : السبب الذي يصعد به كان ما كان من خشب أو بناء أو حبال . ومنه قول ابن مقبل : [ البسيط ]
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... تبنى له في السماوات السلاليم
وحكى الرماني قال : لا يقال سلم لما يبنى من الأدراج ، وإنما السلم المشبك ، وبيت الشعر يرد عليه ، والمعنى : ألهم { سلم } إلى السماء { يستمعون فيه } أي عليه ومنه ، وهذه حروف يسد بعضها مسد بعض ، والمعنى : يستمعون الخبر بصحة ما يدعونه فليأتوا بالحجة المبينة في ذلك وقوله تعالى : { أم له البنات } الآية ، معناه : أم هم أهل الفضيلة علينا فيلزم لذلك انتخاؤهم وتكبرهم ، ثم قال تعالى : { أم تسألهم } يا محمد على الإيمان بالله وشرعه أجرة يثقلهم غرمها فهم لذلك يكرهون الدخول فيما يوجب غرامتهم ثم قال تعالى : { أم عندهم } علم { الغيب } فهم يبينون ذلك للناس سنناً وشرعاً يكتبونه وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم . وقيل المعنى : فهم يعلمون متى يموت محمد الذي يتربصون به ، و : { يكتبون } بمعنى يحكمون ، وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون به . ثم قال تعالى : { أم يريدون كيداً } بك وبالشرع ، ثم جزم الخبر بأنهم { هم المكيدون } ، أي المغلوبون ، فسمى غلبتهم { كيداً } إذ كانت عقوبة الكيد . ثم قال تعالى : { أم لهم إله غير الله } يعصمهم ويمنعهم منهم ويدفع في صدر إهلاكهم . ثم نزه تعالى نفسه { عما يشركون } به من الأصنام والأوثان ، وهذه الأشياء التي وقفهم تعالى عليها حصرت جميع المعاني التي توجب الانتخاء والتكبر والبعد من الائتمار ، فوقفهم تعالى عليها أي ليست لهم ولا بقي شيء يوجب ذلك إلا أنهم قوم طاغون . وهذه صفة فيها تكسبهم وإيثارهم فيتعلق بذلك عقابهم . ثم وصفهم تعالى بأنهم على الغاية من العتو والتمسك بالأقوال الباطلة في قوله : { وإن يروا كسفاً } الآية ، وذلك أن قريشاً كان في جملة ما اقترحت به أن تنزل من السماء عليها كسف وهي القطع ، واحدها كسفة ، وتجمع أيضاً على كسف كثمرة وتمر ، قال الرماني : هي التي تكون بقدر ما يكسف ضوء الشمس . فأخبر الله عنهم في هذه الآية أنهم لو رأوا كسفاً { ساقطاً } حسب اقتراحهم لبلغ بهم العتو والجهل والبعد عن الحق أن يغالطوا أنفسهم وغيرهم ويقولوا هذا { سحاب مركوم } . أي كثيف قد تراكم بعضه فوق بعض ، ولهذه الآية نظائر في آيات أخر .
(6/219)

فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
قوله : { فذرهم } وما جرى مجراه من الموادعة منسوخ بآية السيف .
وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو بخلاف عنه " يلقوا " ، والجمهور على " يلاقوا " .
واختلف الناس في اليوم الذي توعدوا به ، فقال بعض المتأولين : هو موتهم واحداً واحداً وهذا على تجوز ، والصعق : التعذب في الجملة وإن كان الاستعمال قد كثر فيه فيما يصيب الإنسان من الصيحة المفرطة ونحوه . ويحتمل أن يكون اليوم الذي توعدوا به يوم بدر ، لأنهم عذبوا فيه ، وقال الجمهور : التوعد بيوم القيامة ، لأن فيه صعقة تعم جميع الخلائق ، لكن لا محالة أن بين صعقة المؤمن وصعقة الكافر فرقاً .
وقرأ جمهور القراء : " يصعِقون " من صعق الرجل بكسر العين . وقرأ أبو عبد الرحمن : " يَصعِقون " بفتح الياء وكسر العين . وقرأ عاصم وابن عامر وأهل مكة في قول شبل : " يُصعقون " بضم الياء ، وذلك من أصعق الرجل غيره . وحكى الأخفش : صُعِق الرجل بضم الصاد وكسر العين .
قال أبو علي : فجائز أن يكون منه فهو مثل يضربون ، قال أبو حاتم : وفتح أهل مكة الياء في قول إسماعيل . و : { يغني } يكون منه غناء ودفاع .
ثم أخبر تعالى بأنهم لهم دون هذا اليوم ، أي قبله عذاب ، واختلف الناس في تعيينه ، فقال ابن عباس وغيره : هو بدر والفتح ونحوه . وقال مجاهد : هو الجوع الذي أصاب قريشاً . وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضاً : هو عذاب القبر ، ونزع ابن عباس وجود عذاب القبر بهذه الآية . وقال ابن زيد : هو مصائب الدنيا في الأجسام وفي الأحبة وفي الأموال ، هي للمؤمنين رحمة وللكافرين عذاب ، وفي قراءة ابن مسعود : دون ذلك قريباً { ولكن } { لا يعلمون } . ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكم الله والمضي على نذارته ووعده بقوله : { فإنك بأعيننا } ، ومعناه بإدراكنا وأعين حفظنا وحيطتنا كما تقول : فلان يرعاه الملك بعين ، وهذه الآية ينبغي أن يقررها كل مؤمن في نفسه ، فإنها تفسح مضايق الدنيا . وقرأ أبو السمال : " بأعينّا " بنون واحدة مشددة .
واختلف الناس في قوله : { وسبح بحمد ربك } فقال أبو الأحوص عوف بن مالك : هو التسبيح المعروف ، أن يقول في كل قيام له سبحان الله وبحمده . وقال عطاء : المعنى : حين تقوم من كل مجلس . وقال ابن زيد : التسبيح هنا هو صلاة النوافل . وقال الضحاك وابن زيد : هذه إشارات إلى الصلاة المفروضة؛ ف { حين تقوم } : الظهر والعصر ، أي { حين تقوم } من نوم القائلة . { ومن الليل } المغرب والعشاء . { وإدبار النجوم } الصحب . ومن قال هي النوافل جعل { إدبار النجوم } : ركعتي الفجر ، وعلى هذا القول جماعة كثيرة ، منهم عمر وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة والحسن رضي الله عنهم . وقد روي مرفوعاً ومن جعله التسبيح المعروف ، جعل قوله : { حين تقوم } مثالاً ، أي حين تقوم وحين تقعد وفي كل تصرفك . وحكى منذر عن الضحاك أن المعنى : { حين تقوم } في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام فقل . " سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدك " ، الحديث .
وقرأ سالم بن أبي الجعد ويعقوب : " وأدبار " بفتح الهمزة بمعنى : وأعقاب ، ومنه قول الشاعر [ قيس بن الملوح ] : [ الطويل ]
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
وقرأ جمهور الناس : " وإدبار " بكسر الهمزة .
(6/220)

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفاً له وتنبيهاً منه ليكون معتبراً فيه حتى تولى العبرة إلى معرفة الله تعالى . وقال الزهري ، المعنى : ورب النجم ، وفي هذا قلق مع لفظ الآية . واختلف المتأولون في تعيين النجم المقسم به فقال ابن عباس ومجاهد والفراء ، وبينه منذر بن سعيد هو الجملة من القرآن إذا تنزلت ، وذلك أنه روي أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً أي أقداراً مقدرة في أوقات ما ، ويجيء { هوى } على هذا التأويل بمعنى : نزل ، وفي هذا الهوى بعد وتحامل على اللغة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] والخلاف في هذا كالخلاف في تلك ، وقال الحسن ومعمر بن المثنى وغيرهما : { النجم } هنا اسم جنس ، أرادوا النجوم إذا هوت ، واختلف قائلو هذه المقالة في معنى : { هوى } فقال جمهور المفسرين : { هوى } إلى الغروب ، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب ، وقال الحسن بن أبي الحسن وأبو حمزة الثمالي { هوى } عند الإنكدار في القيامة فهي بمعنى . قوله : { وإذا الكواكب انتثرت } [ الانفطار : 2 ] وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي هو في الانقضاض في أثر العفرية وهي رجوم الشياطين ، وهذا القول تسعده اللغة ، والتأويلات في { هوى } محتملة ، كلها قوية ومن الشاهد في النجم الذي هو اسم الجنس قول الراعي :
فتاقت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
يصف إهالة صافية ، والمستحيرة : القدر التي يطبخ فيها ، قاله الزجاج . وقال الرماني وغيره : هي شحمة صافية حين ذابت ، وقال مجاهد وسفيان : { النجم } في قسم الآية الثريا ، وسقوطها مع الفجر هو هويها والعرب لا تقول النجم مطلقاً إلا للثريا ، ومنه قول العرب [ مجزوء الرمل ]
طلع النجم عشاء ... فابتغى الراعي كساء
طلع النجم غدية ... فابتغى الراعي شكية
و { هوى } على هذا القول يحتمل الغروب ويحتمل الانكدار ، و { هوى } في اللغة معناه : خرق الهوى ومقصده السفل أو مسيره إن لم يقصده إليه ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
هوى ابني شفا جبل ... فزلّتْ رجله ويده
وقول الشاعر : [ الطويل ]
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لك النبل تهوي ليس فيها نصالها
وقول زهير :
هَوِي الدلو أسلمها الرشاء ... ومنه قولهم للجراد : الهاوي ، ومنه هوى العقاب .
والقسم واقع على قوله : { ما ضل صاحبكم وما غوى } والضلال أبداً يكون من غير قصد من الإنسان إليه . والغي كأنه شيء يكتسبه الإنسان ويريده ، نفى الله تعالى عن نبيه هذين الحالين ، و { غوى } : الرجل يغوي إذا سلك سبيل الفساد والعوج ، ونفى الله تعالى عن نبيه أن يكون ضل في هذه السبيل التي أسلكه الله إياها ، وأثبت له تعالى في الضحى أنه قد كان قبل النبوءة ضالاً بالإضافة إلى حاله من الرشد بعدها .
(6/221)

وقوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } يريد محمداً صلى الله عليه وسلم أنه ليس يستكلم عن هواه ، أي بهواه وشهوته . وقال بعض العلماء : المعنى : وما ينطق القرآن المنزل عن هوى وشهوة ، ونسب النطق إليه من حيث تفهم عنه الأمور كما قال : { هذا كتابنا ينطق } [ الجاثية : 29 ] وأسند الفعل إلى القرآن ولم يتقدم له ذكر لدلالة المعنى عليه .
وقوله : { إن هو إلا وحي يوحى } يراد به القرآن بإجماع ، والوحي : إلقاء المعنى في خفاء ، وهذه عبارة تعم الملك والإلهام والإشارة وكل ما يحفظ من معاني الوحي .
والضمير في قوله : { علمه } يحتمل أن يكون للقرآن ، والأظهر أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم . وأما المعلم فقال قتادة والربيع وابن عباس : هو جبريل عليه السلام ، أي علم محمداً القرآن . وقال الحسن المعلم الشديد القوى هو الله تعالى . و { القوى } جمع قوة ، وهذا في جبريل مكتمن ، ويؤيده قوله تعالى : { ذي قوة عند ذي العرش مكين } [ التكوير : 20 ] . و { ذو مرة } معناه : ذو قوة ، قاله قتادة وابن زيد والربيع ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى " . وأصل المرة من مرائر الحبل ، وهي فتله وإحكام عمله ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
بكل ممر الفتل شد بيذبل ... وقال قوم ممن قال إن ذا المرة جبريل . معنى : { ذو مرة } ذو هيئة حسنة وقال آخرون : بل معناه ذو جسم طويل حسن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف .
و { استوى } مستند إلى الله تعالى في قول الحسن الذي قال : إنه لمتصف : ب { شديد القوى } ، وكذلك يجيء قوله : { وهو بالأفق الأعلى } صفة الله تعالى على معنى وعظمته وقدرته وسلطانه تتلقى نحو " الأفق الأعلى " ، ويجيء المعنى نحو قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] ، ومن قال إن المتصف ب { شديد القوى } هو جبريل عليه السلام قال : إن { استوى } مستند إلى جبريل ، واختلفوا بعد ذلك ، فقال الربيع والزجاج : المعنى : { فاستوى } جبريل في الجو ، وهو إذ ذاك ، { بالأفق الأعلى } إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قد سد الأفق ، له ستمائة جناح ، وحينئذ دنا من محمد حتى كان { قاب قوسين } ، وكذلك هو المراد في هذا القول النزلة الأخرى في صفته العظيمة له ستمائه جناح عند السدرة وقال الطبري والفراء المعنى : { فاستوى } جبريل .
وقوله : { وهو } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم ذكره في الضمير في { علمه } . وفي هذا التأويل العطف على المضمر المرفوع دون أن يؤكد ، وذلك عند النحاة مستقبح ، وأنشد الفراء على قوله : [ الطويل ]
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف
وقد ينعكس هذا الترتيب فيكون " استوى " لمحمد وهو لجبريل عليه السلام ، وأما { الأعلى } فهو عندي لقمة الرأس وما جرى معه .
(6/222)

وقال الحسن وقتادة : هو أفق مشرق الشمس وهذا التخصيص لا دليل عليه . واختلف الناس إلى من استند قوله . { ثم دنا فتدلى } فقال الجمهور : استند إلى جبريل عليه السلام ، أي دنا إلى محمد في الأرض عند حراء . وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء ما يقتضي أنه يستند إلى الله تعالى ، ثم اختلف المتأولون ، فقال مجاهد : كان الدنو إلى جبريل . وقال بعضهم : كان إلى محمد . و : { دنا فتدلى } على هذا القول معه حذف مضاف . أي دنا سلطانه ووحيه وقدره لا الانتقال ، وهذه الأوصاف منتفية في حق الله تعالى . والصحيح عندي أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل ، بدليل قوله : { ولقد رآه نزلة أخرى } [ النجم : 13 ] فإن ذلك يقضي بنزلة متقدمة ، وما روي قط أن محمداً رأى ربه قبل ليلة الإسراء ، أما أن الرؤية بالقلب لا تمنع بحال و { دنا } أعم من : " تدلى " ، فبين تعالى بقوله : { فتدلى } هيئة الدنو كيف كانت ، و : { قاب } معناه : قدر . وقال قتادة وغيره : معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر . وقال الحسن ومجاهد : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض .
وقرأ محمد بن السميفع اليماني : " فكان قيس قوسين " ، والمعنى قريب من { قاب } ، ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام : " لقاب قوس أحدكم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " وفي حديث آخر : " لقاب قوس أحدكم في الجنة " .
وقوله : { أو أدنى } معناه : على مقتضى نظر البشر ، أي لو رآه أحدكم لقال في ذلك قوسان أو أدنى من ذلك ، وقال أبو زيد ليست بهذه القوس ، ولكن قدر الذراعين أو أدنى ، وحكى الزهراوي عن ابن عباس أن القوس في هذه الآية ذراع تقاس به الأطوال ، وذكره الثعلبي وأنه من لغة الحجاز .
وقوله تعالى : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } ، قال ابن عباس المعنى : { فأوحى } الله { إلى عبده } جبريل { ما أوحى } . وفي قوله : { ما أوحى } إبهام على جهة التفخيم والتعظيم ، والذي عرف من ذلك فرض الصلاة ، وقال الحسن المعنى : فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى كالأولى في الإبهام ، وقال ابن زيد المعنى : فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى الله إلى جبريل .
وقوله تعالى : { ما كذب الفؤاد ما رأى } قرأ جمهور القراء بتخفيف الذال على معنى لم يكذب قلب محمد الشيء الذي رأى ، بل صدقه وتحققه نظراً ، و { كذب } يتعدى ، وقال أهل التأويل ومنهم ابن عباس وأبو صالح : رأى محمد الله تعالى بفؤاده . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " جعل الله نور بصري في فؤادي ، فنظرت إليه بفؤادي " .
(6/223)

وقال آخرون من المتأولين المعنى : ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه ، بل صدقه وتحققه ، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى ، وقال ابن عباس فيما روي عنه وعكرمة وكعب الأحبار إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه . بسط الزهراوي هذا الكلام عنهم وأبت ذلك عائشة ، وقالت : أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات ، فقال لي : " هو جبريل فيها كلها " . وقال الحسن المعنى : ما رأى من مقدورات الله وملكوته . وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك؟ قال : " هو نور إني أراه " ، وهذا قول الجمهور ، وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطع بكل تأويل في اللفظ ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن . وقرأ ابن عامر فيما روى عنه هشام : " ما كذّب " بشد الذال ، وهي قراءة أبي رجاء وأبي جعفر وقتادة والجحدري وخالد ، ومعناه بين على بعض ما قلناه ، وقال كعب الأحبار : إن الله تعالى قسم الكلام والرؤية بين موسى ومحمد ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين ، وقالت عائشة رضي الله عنها : لقد وقف شعري من سماع هذا وتلت : { لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] . وذهبت هي وابن مسعود وقتادة وجمهور العلماء إلى أن المرئي هو جبريل عليه السلام في المرتين : في الأرض وعند سدرة المنتهى ليلة الإسراء ، وقد ذكرتها في سورة " سبحان " وهي مشهورة في الكتب الصحاح .
وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر هذه السورة كلها بفتح أواخر آيها وأمال عاصم في رواية أبي بكر : " رأى " . وقرأ نافع وأبو عمرو بين الفتح . وأمال حمزة والكسائي جميع ما في السورة ، وأمال أبو عمرو فيما روى عنه عبيد : " الأعلى " و : " تدلى " .
(6/224)

أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
قوله تعالى : { أفتمارونه } خطاب لقريش ، وهو من الصراء والمعنى أتجادلونه في شيء رآه وأبصره ، وهذه قراءة الجمهور وأهل المدينة ، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وحمزة والكسائي : " أفتَمرونه " بفتح التاء دون ألف بعد الميم ، والمعنى : أفتجدونه؟ وذلك أن قريشاً لما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره في الإسراء مستقصى ، كذبوا واستخفوا حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر عيرهم وغير ذلك مما هو في حديث الإسراء مستقصى ، ورواها سعيد عن النخعي : " أفتُمرونه " بضم التاء ، قال أبو حاتم : وذلك غلط من سعيد . وقوله : { يرى } مستقبلاً والرؤية قد مضت عبارة تعم جميع ما مضى وتشير غلى ما يمكن أن يقع بعد ، وفي هذا نظر .
واختلف الناس في الضمير في قوله : { ولقد رآه } حسبما قدمناه ، فقال ابن عباس وكعب الأحبار : هو عائد على الله ، وقال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع : هو عائد على جبريل . و : { نزلة } معناه : مرة ، ونصبه علىلمصدر في موضع الحال . و : { سدرة المنتهى } هي شجرة نبق ، قال كعب : هي في السماء السابعة ، وروى ذلك مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن مسعود : في السماء السادسة . وقيل لها : { سدرة المنتهى } لأنها إليها ينتهي علم كل عالم ، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى . وقيل سميت بذلك لأنها إليها ينتهي من مات على سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : هم المؤمنون حقاً من كل جيل .
وقيل سميت بذلك ، لأن ما نزل من أمر الله فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة العلو ، وما صعد من الأرض فعندها يتلقى ولا يتجاوزها ملائكة السفل . وروي عن النبي عليه السلام أن الأمة من الأمم تستظل بظل الفنن منها ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رفعت لي { سدرة المنتهى } ، فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة " .
وقوله تعالى : { عندها جنة المأوى } قال الجمهور : أراد أن يعظم مكان السدرة ويشرفه بأن { جنة المأوى } عندها . قال الحسن : وهي الجنة التي وعد بها العالم المؤمن . وقال قتادة وابن عباس بخلاف هي جنة يأوي إليها أرواح الشهداء والمؤمنين ، وليست بالجنة التي وعد بها المؤمنون جنة النعيم ، وهذا يحتاج إلى سند وما أراه يصح عن ابن عباس .
وقرأ علي بن أبي طالب وابن الزبير بخلاف ، وأنس بن مالك بخلاف ، وأبو الدرداء وزر بن حبيش وقتادة ومحمد بن كعب : " جنة المأوى " بالهاء في جنة ، وهو ضمير محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : ستره وضمه إيواء الله تعالى وجميل صنعه به ، يقال : جنه وأجنه ، وردت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا : أجن الله من قرأها .
(6/225)

والجمهور قرأ : " جنة " كالآية الأخرى : { فلهم جنات المأوى نزلاً } [ السجدة : 19 ] وحكى الثعلبي أن معنى " جنة المأوى " : ضمه المبيت والليل .
وقوله : { إذ يغشى السدرة ما يغشى } التعامل في : { إذ } ، { رآه } . المعنى : رآه في هذه الحال . و { ما يغشى } معناه من قدرة الله ، وأنواع الصفات التي يخترعها لها ، وذلك منهم على جهة التفخيم والتعظيم ، وقال مجاهد تبدل أغصانها دراً وياقوتاً ونحوه . وقال ابن مسعود ومسروق ومجاهد : ذلك جراد من ذهب كان يغشاها . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيتها ثم حال دونها فراش الذهب " . وقال الربيع وأبو هريرة : كان تغشاها الملاكة كما تغشى الطير الشجر ، وقيل غير هذا مما هو تكلف في الآية ، لأن الله تعالى أبهم ذلك وهم يريدون شرحه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟ " وقوله تعالى : { ما زاغ الصبر } قال ابن عباس معناه : ما جال هكذا ولا هكذا . وقوله : { وما طغى } معناه : ولا تجاوز المرئي ، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً ، وهذا تحقيق للأمر ونفي لوجود الريب عنه .
وقوله تعالى : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } قال جماعة من أهل التأويل معناه : رأى الكبرى من آيات ربه ، والمعنى { من آيات ربه } التي يمكن أن يراها البشر ، ف { الكبرى } على هذا مفعول ب { رأى } . وقال آخرون المعنى : { لقد رأى } بعضاً { من آيات ربه الكبرى } ، ف { الكبرى } على هذا وصف للآيات ، والجمع مما لا يعقل في المؤنث يوصف أبداً على حد وصف الواحدة . وقال ابن عباس وابن مسعود : رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سد الأفق . وقال ابن زيد : رأى جبريل في صورته التي هو بها في السماوات .
(6/226)

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
قوله تعالى : { أفرأيتم } مخاطبة لقريش ، وهي من رؤية العين ، لأنه أحال على أجرام مرئية ، ولو كانت : أرأيت : التي هي استفتاء لم تتعد . ولما فرغ من ذكر عظمة الله وقدرته ، قال على جهة التوقيف : أرأيتم هذه الأوثان وحقارتها وبعدها عن هذه القدرة والصفات العلية و : { اللات } اسم صنم كانت العرب تعظمه ، قال أبو عبيدة وغيره : كان في الكعبة ، وقال قتادة : كان بالطائف . وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ ، وقول قتادة أرجح يؤيده قول الشاعر : [ المتقارب ]
وفرّت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر
والتاء في : { اللات } لام فعل كالباء من باب ، وقال قوم هي تاء تأنيث ، والتصريف يأبى ذلك ، وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح : " اللاّت " بشد التاء ، وقالوا : كان هذا الصنم حجراً وكان عنده رجل من بهز يلت سويق الحاج على ذلك الحجر ويخدم الأصنام ، فلما مات عبدوا الحجر الذي كان عنده إجلالاً لذلكا لرجل وسموه باسمه ، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير وابن عامر ، { والعزى } : صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها ، قاله سعيد بن جبير وقال ابن مجاهد : كانت شجيرات تعبد ثم ببلاها انتقل أمرها إلى صخرة . و " عزى " مؤنثة عزيز ككبرى وعظمى ، وكانت هذه الأوثان تعظم الوثن منها قبيلة وتعبدها ، ويجيء كل من عز من العرب فيعظمها بتعظيم حاضرها . وقال أبو عبيدة معمر : كانت { العزى } { ومناة } في الكعبة ، وقال ابن زيد : وكانت { العزى } بالطائف ، وقال قتادة : كانت بنخلة وأما { مناة } فكانت بالمشلل من قديد ، وذلك بين مكة والمدينة ، وكانت أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عابداً ، وكانت الأوس والخزرج تهل لها ، ولذلك قال تعالى : { الثالثة الأخرى } فأكدها بهاتين الصفتين ، كما تقول رأيت فلاناً وفلاناً ثم تذكر ثالثاً أجل منهما ، فتقول وفلاناً الآخر الذي من أمره وشأنه .
ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات ، وذلك نص في الآية ، ومنه قول ربيعة بن مكدم : [ الكامل ]
ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وهو التأويل الصحيح في قول الشاعر [ عبيد بن الأبرص ] : [ مجزوء الكامل ]
جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه
وقرأ ابن كثير وحده : " ومناءة " بالهمز والمد وهي لغة فيها ، والأول أشهر وهي قراءة الناس ، ومنها قول جرير : [ الوافر ]
أزيد مناة توعد بابن تيم ... تأمل أين تاه بك الوعيد
ووقف تعالى الكفار على هذه الأوثان وعلى قولهم فيها ، لأنهم كانوا يقولون : هي بنات الله ، فكأنه قال : أرأيتم هذه الأوثان وقولكم هي بنات الله { ألكم الذكر وله الأنثى } ، أي النوع المستحسن المحبوب هو لكم وموجود فيكم؟ والمذموم المستثقل عندكم هو له بزعمكم ، ثم قال تعالى على جهة الإنكار : { تلك إذاً قسمة ضيزى } أي عوجاء ، قاله مجاهد ، وقيل { ضيزى } معناه : جائرة ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقال سفيان معناه : منقوصة ، وقال ابن زيد معناه : مخالفة ، والعرب تقول : ضزته حقه أضيزه ، بمعنى : منعته منه وظلمته فيه ، و : { ضيزى } من هذا التصريف وأصلها فُعلى بضم الفاء ضوزى لأنه القياس ، إذ لا يوجد في الصفات فِعلى بكسر الفاء ، كذا قال سيبويه وغيره ، فإذا كان هذا فهي ضوزى : كسر أولها كما كسر أول عِين وبيض طلباً للتخفيف ، إذ الكسرة والياء أخف من الضمة والواو كما قالوا بيوت وعصى هي في الأصل فعول بضم الفاء ، وتقول العرب : ضزته أضوزه فكان يلزم على هذا التصريف أن يكون ضوزى فعلى ، وفي جميع هذا نظر .
(6/227)

وقرأ ابن كثير : " ضئيزى " بالهمز على أنه مصدر كذكرى ، وقرأ الجمهور بغير همز .
ثم قال تعالى : { إن هي إلا أسماء } يعني أن هذه الأوصاف من أنها إناث وأنها تعبد آلهة ونحو هذا إلا أسماء ، أي تسميات اخترعتموها { أنتم وآباؤكم } لا حقيقة لها ولا أنزل الله تعالى بها برهاناً ولا حجة ، وقرأ عيسى بن عمر : " سلُطان " بضم اللام ، وقرأ هو وابن مسعود وابن عباس وابن وثاب وطلحة والأعمش " إن تتبعون " بالتاء على المخاطبة ، وقرأ أبو عمرو وعاصم ونافع والأعمش أيضاً والجمهور : " يتبعون " بالياء على الحكاية عن الغائب و { الظن } : ميل النفس إلى أحد معتقدين متخالفين دون أن يكون ميلها بحجة ولا برهان وهوى الأنفس : هو إرادتها الملذة لها وإنما تجد هوى النفس أبداً فيترك الأفضل ، لأنها مجبولة بطبعها على حب الملذ ، وإنما يردعها ويسوقها إلى حسن العاقبة العقل والشرع .
وقوله تعالى : { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } اعتراض بين الكلام فيه توبيخ لهم ، لأن سرد القول إنما هو يتبعون ولا { الظن وما تهوى الأنفس } ، { أم للإنسان ما تمنى } ، وقف على جهة التوبيخ والإنكار لحالهم ورأيهم ، ثم اعترض بعد قوله : { وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } جملة في موضع الحال ، والهدى المشار إليه ، ومحمد وشرعه .
وقرأ ابن مسعود وابن عباس : " ولقد جاءكم من ربكم " بالكاف فيهما ، وقال الضحاك إنهما قرآ " ولقد جاءك من ربك " .
و " الإنسان " في قوله : { أم للإنسان } ، اسم الجنس ، كأنه يقول ليست الأشياء بالتمني والشهوات ، إنما الأمر كله لله والأعمال جارية على قانون أمره ونهيه فليس لكم ، أيها الكفرة مرادكم في قولكم هذه آلهتنا وهي تنفعنا وتقربنا زلفى ونحو هذا . وقال ابن زيد والطبري : " الإنسان " هنا : محمد ، بمعنى أنه لم ينل كرامتنا بتأميل ، بل بفضل الله أو بمعنى بل إنه تمنى كرامتنا فنالها ، إذ الكل لله يهب ما شاء ، وهذا لا تقتضيه الآيات ، وإن كان اللفظ يعمه . و : { الآخرة والأولى } الداران ، أي له كل أمرهما ملكاً ومقدوراً وتحت سلطانه .
وقوله تعالى : { وكم من ملك } الآية ، رد على قريش في قولهم : الأوثان شفعاؤنا ، كأنه يقول : هذه حال الملائكة الكرام ، فكيف بأوثانكم ، و { كم } للتكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر : { لا تغني } والغناء حلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء وجمع الضمير في { شفاعتهم } على معنى : { كم } ومعنى الآية : { أن يأذن الله } في أن يشفع لشخص ما ويرضى عنه كما أذن في قوله : { الذين يحملون العرش ومن حوله } [ غافر : 7 ] .
(6/228)

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
{ الذين لا يؤمنون بالآخرة } هم كفار العرب ، وقوله : { ليسمون الملائكة } معناه : ليصفون الملائكة بأوصاف الأنوثة وأخبر تعالى عنهم أنهم لا علم لهم بذلك ، وإنما هي ظنون منهم لا حجة لهم عليها وقرأ ابن مسعود : " من علم إلا اتباع الظن " .
وقوله : { إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } أي في المعتقدات المواضع التي يريد الإنسان أن يحرر ما يعقل ويعتقد فإنها مواضع حقائق لا تنفع الظنون فيها ، وأما في الأحكام وظواهرها فيجتزى فيها بالظنونات ، ثم سلى تعالى نبيه وأمره بالإعراض عن هؤلاء الكفرة ، وما في الآية من موادعتهم منسوخ بآية السيف .
وقوله : { ولم يرد إلا الحياة الدنيا } معناه لا يصدق بغيرها ، فسعيه كله وعمله إنما هو لدنياه .
وقوله تعالى : { ذلك مبلغهم من العلم } معناه هنا انتهى تحصيلهم من المعلومات ، وذلك أن المعلومات منها ما هي معقولات نافعة في الآخرة ، ومنها ما هي أمور فانية وأشخاص بادية كالفلاحة وكثير من الصنائع وطلب الرئاسة على الناس بالمخرقة ، فكلها معلومات ولها علم ومبلغ الكفرة إنما هو في مدة الدنياويات .
وقوله تعالى : { إن ربك هو أعلم } الآية تصل بمعنى التسلية في قوله : { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا } ، وقوله : { إن ربك هو أعلم } الآية ، ووعيد للكفار ووعد للمؤمنين ، وأسند الضلالة والهدى إليهم بكسبهم وإن كان الجميع خلقاً له واختراعاً ، واللام في قوله : { ليجزي } متعلقة بقوله : { ضل } وبقوله : { اهتدى } فكأنه قال : ليصير أمرهم جميعاً إلى أن يجزى .
وقوله : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } اعتراض بين الكلام بليغ ، وقال بعض النحويين اللام متعلقة بما في المعنى من التقدير ، لأن تقديره : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } يضل من يشاء ويهدي من يشاء { ليجزي } والنظر الأول أقل تكلفاً من هذا الإضمار . وقال قوم : اللام متعلقة في أول السورة : { إن هو إلا وحي يوحى } [ النجم : 4 ] وهذا بعيد ، و : { الحسنى } هي الجنة ولا حسنى دونها .
(6/229)

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
قوله : { الذين } نعت ل { الذين } [ النجم : 31 ] المتقدم قبله ، و : { يجتنبون } معناه : يدعون جانباً . وقرأ جمهور القراء والناس : " كبائر الإثم " وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى وحمزة والكسائي : " كبير الإثم " على الإفراد الذي يراد به الجمع وهذا كقوله : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } [ الشعراء : 100 ] ، وكقوله : { وحسن أولئك رفيقاً } [ النساء : 69 ] ونحو هذا .
واختلف الناس في الكبائر ما هي؟ فذهب الجمهور إلى أنها السبع الموبقات التي وردت في الأحاديث وقد مضى القول في ذكرها واختلاف الأحاديث فيها في سورة النساء . وتحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا ، أو توعد بنار في الآخرة ، أو لعنة ونحو هذا خاصاً بها فهي كثيرة العدد ، ولهذا قال ابن عباس حين قيل له أسبع هي؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع . وقال زيد بن أسلم : " كبير الإثم " هنا يراد به : الكفر . و { الفواحش } هي المعاصي المذكورة .
وقوله : { إلا اللمم } هو استثناء يصح أن يكون متصلاً ، وإن قدرته منقطعاً ساغ ذلك ، واختلف في معنى { اللمم } فقال ابن عباس وابن زيد معناه : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام . قال الثعلبي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : إن سبب الآية أن الكفار قالوا للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت الآية وهي مثل قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } [ النساء : 23 ] وقال ابن عباس وغيره : ما ألموا من المعاصي الفلتة والسقطة دون دوام ثم يتوبون منه ، ذكر الطبري عن الحسن أنه قال في اللمة : من الزنا والسرقة والخمر ثم لا يعود .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كالذي قبله ، فكأن هذا التأويل يقتضي الرفق بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى ، إذ الغالب في المؤمنين مواقعة المعاصي ، وعلى هذا أنشدوا وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم : [ الرجز ]
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي وغيرهم : { اللمم } صغار الذنوب التي بين الحدين الدنيا والآخرة وهي ما لا حد فيه ولا وعيد مختصاً بها مذكوراً لها ، وإنما يقال صغار بالإضافة إلى غيرها ، وإلا فهي بالإضافة إلى الناهي عنها كبائر كلها ، ويعضد هذا القول ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا لا محالة ، فزنى العين : النظر ، وزنى اللسان : المنطق ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فإن تقدم فرجه فهو زان ، وإلا فهو اللمم " وروي أن هذه الآية نزلت في نبهان التمار فالناس لا يتخلصون من مواقعة هذه الصغائر ولهم مع ذلك الحسنى إذا اجتنبوا التي هي في نفسها كبائر .
(6/230)

وتظاهر العلماء في هذا القول ، وكثر المائل إليه . وذكر الطبري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه قال : { اللمم } ما دون الشرك ، وهذا عندي لا يصح عن عبد الله بن عمرو . وذكر المهدوي عن ابن عباس والشعبي : { اللمم } ما دون الزنا . وقال نفطويه : { اللمم } ما ليس بمعتاد . وقال الرماني : { اللمم } الهم بالذنب وحديث النفس به دون أن يواقع . وحكى الثعلبي عن سعيد بن المسيب : أنه ما خطر على القلب ، وذلك هو لمة الشيطان . قال الزهراوي وقيل : { اللمم } نظرة الفجأة ، وقاله الحسين بن الفضل . ثم أنس تعالى بعد هذا بقوله : { إن ربك واسع المغفرة } .
وقوله تعالى : { هو أعلم بكم } الآية ، روي عن عائشة أنها نزلت بسبب قوم من اليهود كانوا يعظمون أنفسهم ويقولون للطفل إذا مات لهم هذا صديق عند الله ، ونحو هذا من الأقاويل المتوهمة ، فنزلت الآية فيهم ، ثم هي بالمعنى عامة جميع البشر ، وحكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، وقوله : { أعلم بكم } قال مكي بن أبي طالب في المشكل معناه : هو عالم بكم . وقال جمهور أهل المعاني : بل هو التفضيل بالإطلاق ، أي هو أعلم من الموجودين جملة ، والعامل في { إذ } { أعلم } ، وقال بعض النحاة العامل فيه فعل مضمر تقديره : اذكروا إذ ، والمعنى الأول أبين ، لأن تقديره : فإذا كان علمه قد أحاط بكم وأنتم في هذه الأحوال فأحرى أن يقع بكم وأنتم تعقلون وتجترحون ، والإنشاء من الأرض : يراد به خلق آدم عليه السلام ، ويحتمل أن يراد به إنشاء الغذاء . و : { أجنة } جمع جنين .
وقوله : { فلا تزكوا أنفسكم } ظاهره النهي عن أن يزكي نفسه ، ويحتمل أن يكون نهياً عن أن يزكي بعض الناس بعضاً وإذا كان هذا فإنما ينهى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا والقطع بالتزكية ، ومن ذلك الحديث في عثمان بن مظعون عند موته . وأما تزكية الإمام والقدرة أحداً ليؤتم به أوليتهم الناس بالخير فجائز ، وقد زكى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أبا بكر وغيره ، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة للضرورة إليها ، وأصل التزكية إنما هو التقوى ، والله تعالى هو أعلم بتقوى الناس منكم .
وقوله تعالى : { أفرأيت الذي تولى } الآية ، قال مجاهد وابن زيد وغيرهما نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وذلك أنه سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وجلس إليه ووعظه رسول الله ، فقرب من الإسلام ، وطمع النبي عليه السلام فيه ، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له : أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة ، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال ، فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عما هم به من الإسلام وضل ضلالاً بعيداً ، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح ، فنزلت الآية فيه .
(6/231)

وذكر الثعلبي عن قوم أنها نزلت في عثمان بن عفان في قصة جرت له مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح وذلك كله عندي باطل ، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله ، وقال السدي : نزلت في العاصي بن وائل ، فقوله : { وأعطى قليلاً وأكدى } ، وعلى هذا القول في المال ، وقال مقاتل بن حيان في كتاب الثعلبي المعنى : وأعطى من نفسه قليلاً من قربه من الإيمان ثم { أكدى } أي انقطع ما أعطى ، وهذا بين من اللفظ ، والآخر يحتاج إلى رواية . و : { تولى } معناه : أدبر وأعرض ومعناه عن أمر الله . { وأكدى } معناه : انقطع عطاؤه وهو مشبه بالحافر في الأرض ، فإذا انتهى إلى كدية ، وهي ما صلب من الأرض وقف وانقطع حفره ، وكذلك أجبل الحافر إذ انتهى إلى جبل ، ثم قيل لمن انقطع عمله : أكدى وأجبل .
وقوله تعالى : { أعنده علم الغيب فهو يرى } معناه : أعلم من الغيب أن من تحمل ذنوب آخر فإن المتحمل عنه ينتفع بذلك ، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وهو له فيه بصيرة أم هو جاهل لم ينبأ أي يعلم ما في صحف موسى وهي التوراة وفي صحف إبراهيم وهي كتب نزلت عليه من السماء من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، أي لا تحمل حاملة حمل أخرى ، وإنما يؤخذ كل واحد بذنوب نفسه ، أي فلما كان جاهلاً بهذا وقع في عطاء ماله للذي قال له : إني أتحمل عنك درك الآخرة .
واختلف المفسرون في معنى قوله : { وفى } ما هو الموفى؟ فقال ابن عباس : كانوا قبل إبراهيم يأخذون الولي بالولي في القتل ونحوه فوفى إبراهيم وبلغ هذا الحكم من أنه { لا تزر وازرة وزر أخرى } ، وقال ابن عباس ايضاً والربيع : وفى طاعة الله في أمر ذبح ابنه . وقال الحسن وابن جبير وقتادة وغيره ، وفي تبليغ رسالته والظاهر في ذات ربه ، وقال عكرمة ، وفي هذه العشر الآيات ، { ألا تزر } وما بعدها ، وقال ابن عباس وقتادة وغيره { وفى } ما افترض عليه من الطاعات على وجهها وتكلمت له شعب الإيمان والإسلام فأعطاه الله براءته من النار . قال ابن عباس : وفي شرائع الإسلام ثلاثين سهماً . وقال أبو أمامة ورفعه إلى النبي عليه السلام { وفى } أربع صلوات في كل يوم ، والأقوى من هذه الأقوال كلها القول العام لجميع الطاعات المستوفية لدين الإسلام ، فروي أنها لم تفرض على أحد مكملة فوفاها الأعلى وإبراهيم ومحمد عليهما السلام ومن الحجة لذلك قوله تعالى : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن } [ البقرة : 124 ] .
وقرأ ابن جبير وأبو مالك وابن السميفع : " وفى " مخففة الفاء ، والخلاف فيما وفى به كالخلاف فيما وفاه على القراءة الأولى التي فسرنا ، ورويت القراءة عن النبي عليه السلام ، وقرأها أبو أمامة .
والوزر : الثقل ، وأنث الوزارة إما لأنه أراد النفس وإما أراد المبالغة كعلامة ونسابة وما جرى مجراها و " أن " في قوله : { ألا تزر } مخففة من الثقيلة ، وتقديرها أنه لا تزر ، وحسن الحائل بينها وبين الفعل ان بقي الفعل مرتفعاً ، فهي كقوله : { أن سيكون منكم مرضى } [ المزمل : 20 ] ونحوه ، و " أن " في موضع رفع أو خفض ، كلاهما مرتب .
(6/232)

وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)
قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان } وقوله بعد ذلك { وأنه } ، { وأنه } معطوف كل ذلك على أن المقدرة أولاً في قوله : " أنه لا تزر " وهي كلها بفتح الألف في قراءة الجمهور . وقرأ أبو السمال قعنب " وإن إلى ربك " بكسر الهمزة فيهما وفيما بعدها وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } منسوخ بقوله : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتم } [ الطور : 21 ] وهذا لا يصح عندي على ابن عباس ، لأنه خبر لا ينسخ ، ولأن شروط النسخ ليست هنا ، اللهم إلا أن يتجوز في لفظة النسخ ليفهم سائلاً ، وقال عكرمة : كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمة فلها سعي غيرها ، والدليل حديث سعد بن عبادة قال : يا رسول الله هل لأمي إن تطوعت عنها؟ قال : نعم . وقال الربيع بن أنس : " الإنسان " الذي في هذه الآية هو الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره . وسأل عبد الله بن طاهر بن الحسين والي خراسان الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله : { والله يضاعف لمن يشاء } [ البقرة : 261 ] فقال ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بفضل الله ما شاء الله ، فقبل عبد الله رأس الحسين . وقال الجمهور : الآية محكمة . والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو في اللام من قوله : { للإنسان } فإذا حققت الشيء الذي هو حق الإنسان يقول فيه لي كذا لم يجده إلا سعيه ، وما بعد من رحمة ثم شفاعة أو رعاية أب صالح أو ابن صالح أو تضعيف حسنات أو تغمد بفضل ورحمة دون هذا كله فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو له حقيقة . واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحد عن أحد بعد موته ببدن ولا مال . وفرق بعض العلماء بين البدن والمال ، وهي عندي كلها فضائل للعامل وحسنات تذكر للمعمول عنه . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً بالصدقة عن أمه ، والسعي : التكسب .
وقوله : { يرى } فاعله حاضر والقيامة ، أي يراه الله ومن شاهد الأمر ، وفي عرض الأعمال على الجميع تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة " . وفي قوله : { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين . و : { المنتهى } يحتمل أن يريد به الحشر ، والمصير بعد الموت فهو منتهى بالإضافة إلى الدنيا وإن كان بعده منتهى آخر وهو الجنة أو النار ، ويحتمل أن يريد ب { المنتهى } : الجنة أو النار ، فهو منتهى على الإطلاق ، لكن في الكلام حذف مضاف إلى عذاب ربك أو رحمته .
(6/233)

وقال أبي بن كعب قال النبي عليه السلام في قوله تعالى : { وأن إلى ربك المنتهى } لا فكرة في الرب . وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا ذكر الرب فانتهوا " . وقال أبو هريرة : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى أصحابه فقال : " فيم أنتم " قالوا : نتفكر في الخالق ، فقال : " تفكروا في الخلق ، لا تتفكروا في الخالق ، فإنه لا تحيط به الفكرة " الحديث ، وذكر الضحك والبكاء لأنهما صفتان تجمعان أصنافاً كثيرة من الناس ، إذ الواحدة دليل السرور ، والأخرى دليل الحزن في الدنيا والآخرة ، فنبه تعالى على هاتين الخاصتين اللتين هما للإنسان وحده ، وقال مجاهد المعنى : { أضحك } الله أهل الجنة { وأبكى } أهل النار . وحكى الثعلبي في هذا أقوالاً استعارية كمن قال { أضحك } الأرض بالنبات ، { وأبكى } السماء بالمطر ، ونحوه : و { أمات وأحيا } . وحكى الثعلبي قولاً إنه أحيا بالإيمان وأمات بالكفر . و { الزوجين } في هذه الآية يريد به المصطحبين من الناس من الرجل والمرأة وما ضارع من الحيوان ، والخنثى متميز ولا بد لأحد الجهتين . والنطفة في اللغة : القطعة من الماء كانت يسيرة أو كثيرة . ويراد بها هاهنا ماء الذكران .
وقوله : { تمنى } يحتمل أن يكون من قولك : أمنى الرجل : إذا خرج منه المني ، ويحتمل أن يكون من قولك منى الله الشيء : إذا خلقه ، فكأنه قال : إذا تخلق وتقدر ، و : { النشأة الأخرى } هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البلي في التراب . وقرأ الناس : " النشْأة " بسكون الشين والهمز والقصر ، وقرأ أبو عمرو والأعرج : " النشآة " ممدودة .
{ وأقنى } معناه : أكسب ، يقال : قنبت المال ، أي كسبته ، ثم يعدى بعد ذلك بالهمزة ، وقد يعدى بالتضعيف ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
كم من غني أصاب الدهر ثروته ... ومن فقير يقنّى بعد إقلالِ
وعبر المفسرون عن { أقنى } بعبارات مختلفة . وقال بعضهم : { أقنى } معناه : أكسب ما يقتني ، وقال مجاهد معناه : أغنى وأرضى . وقال حضرمي معناه : أغنى عن نفسه { وأقنى } أفقر عباده إليه . وقال الأخفش : { أقنى } أفقر ، وهذه عبارات لا تقتضيها اللفظة ، والوجه فيها بحسب اللغة أكسب ما يقتني . وقال ابن عباس : { أقنى } قنع . والقناعة خير قنية ، والغنى عرض زائل ، فلله در ابن عباس . و : { الشعرى } نجم في السماء ، قال مجاهد وابن زيد : هو من زمر الجوزاء وهم شعريان ، إحداهما : الغميصاء ، والأخرى العبور ، لأنها عبرت المجرة ، وكانت خزاعة ممن يعبد هذه { الشعرى } ، ومنهم أبو كبشة ، ذكره الزهراوي واسمه عبد العزى ، فلذلك خصت بالذكر ، أي وهو رب هذا المعبود الذي لكم .
وعاد : هم قوم هود ، واختلف في معنى وصفها ب { الأولى } ، فقال ابن زيد والجمهور : ذلك لأنها في وجه الدهر وقديمه ، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة ، وقال الطبري : سميت أولى ، لأن ثم عاداً أخيرة وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال .
(6/234)

قال القاضي أبو محمد : والقول الأول أبين ، لأن هذا الأخير لم يصح . وقال المبرد عاداً الأخيرة هي ثمود ، والدليل قول زهير : [ الطويل ]
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم ... ذكره الزهراوي ، وقيل الأخيرة : الجبارون .
وقرأ ابن كثير وعاصم ، وابن عامر وحمزة ، والكسائي " عاد الأولى " منونة وبهمز . وقرأ نافع فيما روي عنه : " عادا الأولى " بإزالة التنوين والهمز . وهذا كقراءة من قرأ " أحد الله " وكقول الشاعر [ أبو الأسود الدؤلي ] : [ المتقارب ]
ولا ذاكر الله إلا قليلا ... وقرأ قوم : { عاداً الأولى } والنطق بها " عادن الأولى " . واجتمع سكون نون التنوين وسكون لام التعريف فكسرت النون للالتقاء ، ولا فرق بينهما وبين قراءة الجمهور ولا ترك الهمز . وقرأ نافع أيضاً وأبو عمرو بالوصل والإدغام " عاد الولى " بإدغام النون في اللام ونقل حركة الهمزة إلى اللام . وعاب أبو عثمان المازني والمبرد هذه القراءة ، وقال : إن هذا النقل لا يخرج اللام عن حد السكون وحذف ألف الوصل أن تبقى كما تقول العرب إذا نقلت الهمزة من قولهم الأحمر فإنهم يقولون الحمر جاء فكذلك يقال هاهنا " عاداً الولى " ، قال أبو علي : والقراءة سائغة ، وأيضاً فمن العرب من يقول : لحمر جاء فيحذف الألف مع النقل ويعتد بحركة اللام ولا يراها في حكم السكون ، وقرأ نافع فيما روي عنه " عاداً الأولى " بهمز الواو ، ووجه ذلك أنه لما لم يكن بين الواو والضمة حائل تخيل الضمة عليها فهمزها كما تهمز الواو المضمومة ، وكذلك فعل من قرأ : " على سؤقه " ، وكما قال الشاعر [ جرير ] : [ الوافر ]
لحَبّ المؤقدان إلي موسى ... وهي لغة . وقرأ الجمهور : " وثموداً " بالنصب عطفاً على عاد . وقرأ عاصم وحمزة والحسن وعصمة " وثمود " بغير صرف ، وهي في مصحف ابن مسعود بغير ألف بعد الدال .
وقوله : { فما أبقى } ظاهره : { فما أبقى } عليهم ، وتأول ذلك بعضهم { فما أبقى } منهم عيناً تطرف ، وقد قال ذلك الحجاج حين سمع قول من يقول إن ثقيفاً من ثمود فأنكر ذلك وقال : إن الله تعالى قال : { وثموداً فما أبقى } . وهؤلاء يقولون بقي منهم باقية .
(6/235)

وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
نصب { قوم نوح } عطفاً على " ثمود " وقوله : { من قبل } لأنهم كانوا أول أمة كذبت من أهل الأرض ، و { نوح } أول الرسل ، وجعلهم { أظلم وأطغى } : لأنهم سبقوا إلى التكذيب دون اقتداء بأحد قبلهم ، وأيضاً فإنهم كانوا في غاية من العتو ، وكان عمر نوح قد طال في دعائهم ، فكان الرجل يأتي إليه مع ابنه فيقول : أحذرك من هذا الرجل فإنه كذاب ، ولقد حذرني منه أبي وأخبرني أن جدي حذره منه ، فمشت على ذلك أخلافهم ألفاً إلا خمسين عاماً .
و { المؤتفكة } قرية قوم لوط بإجماع من المفسرين ، ومعنى { المؤتفكة } : المنقلبة لأنها أفكت فائتفكت ، ومنه الإفك ، لأنه قلب الحق كذباً ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : " والمؤتفكات أهوى " على الجمع . و { أهوى } معناه : طرحها من هواء عال إلى أسفل ، هذا ما روي من أن جبريل عليه السلام اقتلعها بجناحه حتى بلغ بها قرب السماء ثم حولها قلبها فهبط الجميع واتبعوا حجارة وهي التي غشاها الله تعالى .
وقوله : { فبأي ألاء ربك تتمارى } مخاطبة للإنسان الكافر ، كأنه قيل له : هذا هو الله الذي له هذه الأفاعيل ، وهو خالقك المنعم عليك بكل النعم ، ففي أيها تشك . و : { تتمارى } معناه : تتشكك . وقرأ يعقوب " ربك تتمارى " بتاء واحدة مشددة . وقال أبو مالك الغفاري إن قوله : { ألا تزر } [ النجم : 38 ] إلى قوله : { تتمارى } هو في صحف إبراهيم وموسى .
وقوله : { هذا نذير } يحتمل أن يشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول قتادة وأبي جعفر ومحمد بن كعب القرظي ، ويحتمل أن يشير إلى القرآن ، وهو تأويل قوم ، وقال أبو مالك : الإشارة بهذا النذير إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم . و : { نذير } يحتمل أن يكون بناء اسم فاعل ، ويحتمل أن يكون مصدراً ، ونذر جمع نذير . وقال { الأولى } بمعنى أنه في الرتبة والمنزلة والأوصاف من تلك المتقدمة ، والأشبه أن تكون الإشارة إلى محمد .
وقوله : { أزفت } معناه : قربت القريبة . و : { الآزفة } عبارة عن القيامة بإجماع من المفسرين . وأزف معناه : قرب جداً ، قال كعب بن زهير : [ البسيط ]
بان الشباب وأمسى الشيب قد أزفا ... ولا أرى لشباب ذاهب خلفا
وقوله : { كاشفة } يحتمل أن يكون صفة لمؤنث ، التقدير : حالة { كاشفة } ، أو منة { كاشفة } . قال الرماني أو جماعة ، ويحتمل أن يكون مصدراً كالعاقبة و { خائنة الأعين } [ غافر : 19 ] . ويحتمل أن يكون بمعنى كاشف ، والهاء للمبالغة ، كما قال : { فهل ترى لهم من باقية } [ الحاقة : 8 ] وأما معنى { كاشفة } فقال الطبري والزجاج : هو من كشف السر ، أي ليس من دون الله من يكشف وقتها ويعلمه . وقال الزهراوي عن منذر بن سعيد : هو من كشف الضر ودفعه ، أي ليس من يكشف خطبها وهولها .
(6/236)

وقرأ طلحة : { ليس لها } مما تدعون { من دون الله كاشفة } وهي على الظالمين سوءات الغاشية ، وهذا الحديث هو القرآن .
وقوله : { أفمن } توقيف وتوبيخ . وفي حرف أبيّ وابن مسعود : " تعجبون " " تضحكون " بغير واو العطف ، وفي قوله عز وجل : { ولا تبكون } حض على البكاء عند سماع القرآن . وروى سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن هذا القرآن أنزل يخوف ، فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا " ذكره الثعلبي ، والسامد : اللاعب اللاهي ، وبهذا فسر ابن عباس وغيره من المفسرين . وقال الشاعر [ هذيلة بنت بكر ] : [ مجزوء الكامل ]
قيل قم فانظر إليهم ... ثم دع عنك السمود
وسمد بلغة حمير غنى ، وهو معنى كله قريب من بعض ، وأسند الطبري عن أبي خالد الوالي قال : خرج علينا عليّ ونحن قيام ننتظر الصلاة فقال : ما لي أراكم سامدين .
قال القاضي أبو محمد : يشبه أنه رآهم في أحاديث ونحوه مما يظن أنه غفلة ما . وقد قال إبراهيم كانوا يكرهون أن ينتظروا خروج الإمام قياماً ، وفي الحديث : " إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني " .
ثم أمر تعالى بالسجود وعبادة الله تحذيراً وتخويفاً ، وهاهنا سجدة في قول كثير من أهل العلم ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وردت بها أحاديث صحاح ، وليس يراها مالك رحمه الله ، وقال زيد بن وثاب إنه قرأ بها عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد .
(6/237)

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
{ اقتربت } معناه : قربت إلا أنه أبلغ ، كما أن اقتدر أبلغ من قدر . و : { الساعة } القيامة وأمرها مجهول التحديد لم يعلم ، إلا أنها قربت دون تحديد ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بعثت أنا والساعة كهاتين " ، وأشار بالسبابة والوسطى . وقال أنس : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال : " ما بقي من الدنيا فيما مضى إلا كمثل ما بقي من هذا اليوم " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأرجو أن يؤخر الله أمتي نصف يوم " وهذا منه على جهة الرجاء والظن لم يجزم به خبراً ، فأناب الله به على أمله وأخر أمته أكثر من رجائه ، وكل ما يروى عن عمر الدنيا من التحديد فضعيف واهن .
وقوله : { انشق القمر } إخبار عما وقع في ذلك ، وذكر الثعلبي أنه قيل إن المعنى ينشق القمر يوم القيامة ، وهذا ضعيف الأمة على خلافه ، وذلك أن قريشاً سألت رسول الله آية فقيل مجملة ، وهذا قول الجمهور ، وقيل بل عاينوا شق القمر ، ذكره الثعلبي عن ابن عباس فأراهم الله انشقاق القمر ، فرآه رسول الله وجماعة من المسلمين والكفار ، فقال رسول الله " اشهدوا " وممن قال من الصحابة رأيته : عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأخبر به عبد الله بن عمر وأنس وابن عباس وحذيفة بن اليمان ، وقال المشركون عند ذلك : سحرنا محمد . وقال بعضهم : سحر القمر وقالت قريش استخبروا المسافرين القادمين عليكم ، فما ورد أحد إلا أخبر بانشقاقه وقال ابن مسعود : رأيته انشق فذهبت فرقة وراء جبل حراء ، وقال ابن زيد : كان يرى نصفه على قعيقعان والآخر على أبي قبيس . وقرأ حذيفة : " اقتربت الساعة وقد انشق القمر " ، وذكر الثعلبي عنه أن قراءته : " اقتربت الساعة انشق القمر " دون واو .
وقوله : { وإن يروا } جاء اللفظ مستقبلاً لينتظم ما مضى وما يأتي ، فهو إخبار بأن حالهم هكذا ، واختلفت الناس في معنى : { مستمر } فقال الزجاج قيل معناه : دائم متماد . وقال قتادة ومجاهد والكسائي والفراء معناه : مار ذاهب عن قريب يزول . وقال أبو العالية والضحاك معناه : مشدود من مرائير الحبل كأنه سحر قد أمر ، أي أحكم . ومنه قول الشاعر [ لقيط بن زرارة ] : [ البسيط ]
حتى استمرت على شزر مريرته ... صدق العزيمة لا رتّاً ولا ضرعا
ثم أخبر تعالى بأنهم كذبوا واتبعوا شهواتهم وما يهوون من الأمور لا بدليل ولا بتثبت ، ثم قال على جهة الخبر الجزم ، { وكل أمر مستقر } يقول : وكل شيء إلى غاية فالحق يستقر ظاهراً ثابتاً ، والباطل يستقر زاهقاً ذاهباً .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " وكل مستقرٍ " بجر " مستقر " ، يعني بذلك أشراطها .
(6/238)

والجمهور على كسر القاف من " مستقِر " وقرأ نافع وابن نصاح بفتحها ، قال أبو حاتم : لا وجه لفتح القاف .
و : { الأنباء } جمع نبأ ، ويدخل في هذا جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص ومثلات الأمم الكافرة ، و : { مزدجر } معناه : موضع زجر وانتهاء ، وأصله : مزتجر ، قلبت التاء دالاً ليناسب مخرجها مخرج الزاي ، وكذلك تبدل تاء افتعل من كل فعل أوله زاي كازدلف وازداد ونحوه .
وقوله : { حكمة } مرتفع إما على البدل من { ما } في قوله : { ما فيه } ، وإما على خبر ابتداء تقديره : هذه حكمة و : { بالغة } معناه : يبلغ المقصد بها من وعظ النفوس والبيان لمن له عقل . وقوله : { فما تغني النذر } ، يحتمل أن تكون { ما } نافية ، أي ليس تغني مع عتو هؤلاء الناس ، ويحتمل أن تكون { ما } استفهاماً بمعنى التقرير ، أي فما غناء النذر مع هؤلاء الكفرة ، ثم سلى نبيه بقوله : { فتول عنهم } أي لا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وتم القول في قوله : { عنهم } ثم ابتدأ وعيدهم ، والعامل في { يوم } قوله : { يخرجون } ، و : { خشعاً } حال من الضمير في { يخرجون } وتصرف الفعل يقتضي تقدم الحال ، قال المهدوي : ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في { عنهم } . قال الرماني المعنى : { فتول عنهم } واذكر { يوم } . وقال الحسن المعنى : { فتول عنهم } إلى { يوم } ، وانحذفت الواو من { يدع } لأن كتبة المصحف اتبعوا اللفظ لا ما يقتضيه الهجاء ، وأما حذف الياء من : { الداع } ونحوه ، فقال سيبويه : حذفوه تخفيفاً . وقال أبو علي : حذفت مع الألف واللام إذ هي تحذف مع معاقبهما وهو التنوين .
وقرأ جمهور الناس : " نكُر " بضم الكاف . وقرأ ابن كثير وشبل والحسن : " نكِر " بكسر الكاف ، وقرأ مجاهد والجحدري وأبو قلابة : " نُكِرَ " بكسر الكاف وفتح الراء على أنه فعل مبني للمفعول ، والمعنى في ذلك كله أنه منكور غير معروف ولا مرئي مثله . قال الخليل : النكر : نعت للأمر الشديد والرجل الداهية . وقال مالك بن عوف النصري : [ الرجز ]
أقدم محاج إنه يوم نكر ... مثلي على مثلك يحمى ويكر
ونكر فعل وهو صفة ، وذلك قليل في الصفات ، ومنه مشية سجح وقال الشاعر [ حسان بن ثابت الأنصاري ] : [ البسيط ]
دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحاً ... إن الرجال ذوو عصب وتذكير
ومنه رجل شلل وناقة أجد .
وقرأ جمهور القراء : " خشعاً " وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن وقتادة . وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : " خاشعاً " ، وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري ، وهو إفراد بمعنى الجمع ، ونظيره قول الشاعر [ الحارث بن أوس الإيادي ] : [ الرمل ]
وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد
ورجح أبو حاتم هذه القراءة وذكر أن رجلاً من المتطوعة قال قبل أن يستشهد : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن " خشعاً وخاشعاً " فقال : " خاشعاً " بالألف ، وفي مصحف أبيّ بن كعب وعبد الله : " خاشعة " .
(6/239)

وخص الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح ، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو صلف أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر . و : { الأجداث } جمع جدث وهو القبر ، وشبههم بالجراد المنتشر ، وقد شبههم في أخرى ب { الفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] ، وفيهم من كل هذا شبه ، وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أولاً كالفراش حين يموجون بعض في بعض ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي ، وفي الحديث : إن مريم بنت عمران دعت للجراد فقالت : اللهم اعشها بغير رضاع وتابع بينها بغير شباع .
والمهطع : المسرع في مشيه نحو الشيء مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد ، إما لخوف أو طمع أو نحوه ، و { يقول الكافرون هذا يوم عسر } لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته .
(6/240)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
سوق هذه القصة وعيد لقريش وضرب مثل لهم ، وقوله : { وازدجر } إخبار من الله أنهم زجروا نوحاً بالسب والنجه والتخويف ، قاله ابن زيد وقرأ : { لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين } [ الشعراء : 116 ] ، وذهب مجاهد إلى أن { وازدجر } من كلام { قوم نوح } ، كأنهم قالوا { مجنون وازدجر } ، والمعنى : استطير جنوناً واستعر جنوناً ، وهذا قول فيه تعسف وتحكم .
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم والأعرج والحسن " أني " بفتح الألف ، أي " بأنه " كان دعاءه كان هذا المعنى . وقرأ عاصم أيضاً وابن أبي إسحاق وعيسى " إني " بكسر الألف كأن دعاءه كان هذا اللفظ قال سيبويه : المعنى قال إني .
وذهب جمهور المفسرين إلى أن المعنى أني قد غلبني الكفار بتكذيبهم وتخويفهم ، انتصر لي منهم بأن تهلكهم ، ويحتمل أن يريد : فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك . ويؤيده قول ابن عباس إن المراد بقوله : لمن كان كفر الله تعالى ، فوقعت الإجابة على نحو ما دعا نوح عليه السلام ، وذهبت المتصوفة إلى أن المعنى : إني قد غلبتني نفسي في إفراطي في الدعاء على قومي فانتصر مني يا رب بمعاقبة إن شئت . والقول الأول هو الحق إن شاء الله يدل على ذلك اتصال قوله : { ففتحنا } الآية ، وذلك هو الانتصار في الكفار .
وقرأ جمهور القراء : " ففتَحنا " بتخفيف التاء . وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج : " ففتّحنا " بشدها على المبالغة ورجحها أبو حاتم لقوله تعالى : { مفتحة لهم الأبواب } [ ص : 50 ] ، قال النقاش : يعني بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العبية ، وقال قوم من أهل التأويل : الأبواب حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء . وقال جمهور المفسرين : بل هو مجاز وتشبيه ، لأن المطر كثر كأنه من أبواب . والمنهمر الشديد الوقوع الغزير . قال امرؤ القيس : [ الرمل ]
راح تمْريه الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر
وقرأ الجمهور : " وفجّرنا " بشد الجيم . وقرأ ابن مسعود وأصحابه وابو حيوة عن عاصم " وفجَرنا " بتخفيفها . وقرأ الجمهور " فالتقى الماء " على اسم الجنس الذي يعم ماء السماء وماء العيون . وقرأ الحسن وعلي بن أبي طالب وعاصم الجحدري . " فالتقى الماءان " ويروى عن الحسن : " فالتقى الماوان " .
وقوله : { على أمر قد قدر } قال فيه الجمهور على رتبة وحالة قد قدرت في الأزل وقضيت . وقال جمهور من المتأولين المعنى : على مقادير قد قدرت ورتبت وقت التقائه ، ورووا أن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعاً وكان ماء السماء ينزل عليه بقية أربعين ذراعاً أو نحو هذا لأنه مما اختلفت فيه الروايات ولا خبر يقطع العذر في شيء من هذا التحرير .
(6/241)

وقرأ أبو حيوة : " قدّر " بشد الدال . وذات الألواح والدسر : هي السفينة قيل كانت ألواحها وخشبها من ساج ، والدسر : المسامير ، واحدها : دسار ، وهذا هو قول الجمهور ، وهو عندي من الدفع المتتابع ، لأن المسمار يدفع أبداً حتى يستوي . وقال الحسن وابن عباس أيضاً : الدسر : مقادم السفينة ، لأنها تدسر الماء أي تدفعه والدسر : الدفع . وقال مجاهد وغيره : نطق السفينة . وقال أيضاً : هو أرض السفينة . وقال أيضاً : أضلاع السفينة ، وقد تقدم القول في شرح قصة السفينة مستوعباً ، وجمهور الناس على أنها كانت على هيئة السفن اليوم كجؤجؤ الطائر ، وورد في بعض الكتب أنها كانت مربعة ، طويلة في السماء ، واسعة السفل ، ضيقة العلو ، وكان أعلاها مفتوحاً للهواء والتنفس ، قال : لأن الغرض منها إنما كانت السلامة حتى ينزل الماء ، ولم يكن طلب الجري وقصد المواضع المعينة ، ومع هذه الهيئة فلها مجرى ومرسى ، والله أعلم كيف كانت ، والكل محتمل .
وقوله : { بأعيننا } قال الجمهور معناه : بحفظنا وحفايتنا وتحت نظرنا لأهلها ، فسمى هذه الأشياء أعيناً تشبيهاً ، إذ الحافظ المتحفي من البشر إنما يكون ذلك الأمر نصب عينه ، وقيل المراد من حفظها من الملائكة سماهم عيوناً ، وقال الرماني وقيل إن قوله : { بأعيننا } يريد العيون المفجرة من الأرض .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف .
وقرأ أبو السمال : " بأعينا " مدغمة . وقرأ جمهور الناس : " كُفِر " بضم الكاف وكسر الفاء ، واختلفوا في المعنى فقال ابن عباس ومجاهد : " من " ، يراد بها الله تعالى كأنه قال : غضباً وانتصاراً لله ، أي انتصر لنفسه فأنجى المؤمنين وأغرق الكافرين . وقال مكي وقيل " من " ، يراد بها نوح والمؤمنين ، لأنهم كفروا من حيث كفر بهم فجازاهم الله بالنجاة . وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة : " كَفَر " بفتح الكاف والفاء ، والضمير في : { تركناها } قال مكي بن أبي طالب هو عائد على هذه الفعلة والقصة . وقال قتادة والنقاش وغيره : هو عائد على هذه السفينة ، قالوا وإن الله تعالى أرسلها على الجودي حين تطاولت الجبال وتواضع وهو جبيل بالجزيرة بموضع يقال له باقردى ، وأبقى خشبها هنالك حتى رأت بعضه أوائل هذه الأمة . وقال قتادة : وكم من سفينة كانت بعدها صارت رصودا و : { مدكر } أصله : مذتكر ، أبدلوا من التاء ذالاً ليناسب الدال في النطق ، ثم أدغموا الدال في الدال ، وهي قراءة الناس ، قال أبو حاتم : رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح وقرأ قتادة : " مذكر " بالذال على إدغام الثاني في الأول ، قال أبو حاتم : وذلك رديء ويلزمه أن يقرأ واذكر بعد أمة وتذخرون في بيوتكم .
وقوله تعالى : { فكيف كان عذابي ونذر } توقيف لقريش وتوبيخ ، والنذر : جمع نذير ، المصدر بمعنى كان عاقبة إنذاري لمن لم يجعل به كأنتم أيها القوم .
(6/242)

و : { يسرنا القرآن } معناه : سهلناه وقربناه و " الذكر " : الحفظ عن ظهر قلب ، قال ابن جبير : لم يستظهر من كتب الله سوى القرآن .
قال القاضي أبو محمد : يسر بما فيه من حسن النظم وشرف المعاني فله لوطة بالقلوب ، وامتزاج بالعقول السليمة .
وقوله : { فهل من مدكر } استدعاء وحض على ذكره وحفظه لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس . قال مطرف في قوله تعالى : { فهل من مدكر } هل من طالب علم فيعان عليه .
قال القاضي أبو محمد : الآية تعديد نعمة في أن الله يسر الهدى ولا بخل من قبله ، فلله در من قبل وهدى . وقد تقدم تعليل : { مدكر } .
(6/243)

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
{ عاد } قبيلة وقد تقدم قصصها . وقوله تعالى : { فكيف كان عذابي ونذر } ، " كيف " نصب إما على خبر { كان } وإما على الحال . و : { كان } بمعنى وجد ووقع في هذا الوجه . { ونذر } جمع نذير وهو المصدر . وقرأ ورش وحده : " ونذري " بالياء ، وقرأ الباقون " ونذر " بغير ياء على خط المصحف . و : " الصرصر " قال ابن عباس وقتادة معناه الباردة وهو الصر . وقال جماعة من المفسرين معناه : المصوتة نحو هذين الحرفين مأخوذ من صوت الريح إذا هبت دفعاً ، كأنها تنطق بهذين الحرفين ، الصاد والراء ، وضوعف الفعل كما قالوا : كبكب وكفكف من كب وكب ، وهذا كثير ، ولم يختلف القراء في سكون الحاء من " نحْس " وإضافة اليوم إليه إلا ما روي عن الحسن أنه قرأ : " في يومٍ " بالتنوين و : " نحِس " بكسر الحاء . و { مستمر } معناه : متتابع ، قال قتادة : استمر بهم ذلك النحس حتى بلغهم جهنم . قال الضحاك في كتاب الثعلبي المعنى كان مراً عليهم ، وذكره النقاش عن الحسن ، وروي أن ذلك اليوم الذي كان لهم فيه { نحس مستمر } كان يوم أربعاء ، وورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية : { يوم نحس مستمر } : يوم الأربعاء ، فتأول في ذلك بعض الناس أنه يصحب في الزمن كله ، وهذا عندي ضعيف وإن كان الدولابي أبو بشر قد ذكر حديثاً رواه أبو جعفر المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر " ، ويوجد نحو هذا في كلام الفرس والأعاجم ، وقد وجد ذكر الأربعاء التي لا تدور في شعر لبعض الخراسانيين المولدين ، وذكر الثعلبي عن زر بن حبيش في تفسير هذا اليوم لعاد أنه كل يوم أربعاء لا تدور ، وذكره النقاش عن جعفر بن محمد وقال : كان القمر منحوساً بزحل وهذه نزعة سوء عياذاً بالله أن تصح عن جعفر بن محمد .
وقوله : { تنزع الناس } معناه : تنقلهم من مواضعهم نزعاً فتطرحهم . وروي عن مجاهد : أنها كانت تلقي الرجل على رأسه فيتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه فلذلك حسن التشبيه ب " أعجاز " النخل وذلك أن المنقعر هو الذي ينقلب من قعره . فذلك التشعث والشعب التي لأعجاز النخل ، كان يشبهها ما تقطع وتشعث من شخص الإنسان ، وقال قوم : إنما شبههم ب " أعجاز النخل " لأنهم كانوا يحفرون حفراً ليمتنعوا فيها من الريح ، فكأنه شبه تلك الحفر بعد النزع بحفر أعجاز النخل ، والنخل يذكّر ويؤنث فلذلك قال هنا : { منقعر } وفي غير هذه السورة :
(6/244)

{ خاوية } [ الحاقة : 7 ] والكاف في قوله : { كأنهم أعجاز } في موضع الحال ، قاله الزجاج ، وما روي من خبر الخلجان وغيره وقوتهم ضعيف كله ، وفائدة تكرار قوله : { فكيف كان عذابي ونذر } التخويف وهز الأنفس قال الرماني : لما كان الإنذار أنواعاً ، كرر التذكير والتنبيه ، وفائدة تكرار قوله : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } التأكيد والتحريض وتنبيه الأنفس . وهذا موجود في تكرار الكلام ، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا هل بلغت ، ألا هل بلغت " . ومثل قوله : " ألا وقول الزور ، ألا وقول الزور ، ألا وقول الزور " . وكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثاً ، فهذا كله نحو واحد وإن تنوع ، و : { ثمود } قبيلة صالح عليه السلام وهم أهل الحجر .
وقرأ الجمهور : " أبشراً منا واحداً " ونصب قوله " بشراً " بإضمار " فهل " يدل عليه قوله : { نتبعه } ، و : " واحداً " نعت ل " بشر " . وقرأ أبو السمال : " أبشرٌ منا واحداً نتبعه " ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول ، التقدير : أينبأ بشر ، وإما على الابتداء والخبر في قوله { نتبعه } و : " واحداً " على هذه القراءة إما من الضمير في : { نتبعه } وإما عن المقدر مع : { منا } كأنه يقول : أبشر كائن منا واحداً ، وفي هذا نظر . وحكى أبو عمر والداني قراءة أبي السمال : " أبشر منا واحد " بالرفع فيهما .
وهذه المقالة من ثمود حسد منهم واستبعاد منهم أن يكون نوع المبشر يفضل بعضه بعضاً هذا الفضل فقالوا : أنكون جمعاً ونتبع واحداً ، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله ، يؤتيه من يشاء ، ويفيض نور الهدى من رضيه .
وقوله : { في ضلال } معناه : في أمر متلف مهلك بالإتلاف ، { وسعر } معناه : في احتراق أنفس واستعارها حنقاً وهماً باتباعه ، وقيل في السعر : العناء ، وقاله قتادة . وقيل الجنون ، ومنه قولهم ناقة بمعنى مسعورة ، إذا كانت تفرط في سيرها ، ثم زادوا في التوقي بقولهم : { أألقي الذكر عليه من بيننا } ، و { ألقي } بمعنى أنزل ، وكأنه يتضمن عجلة في الفعل ، والعرب تستعمل هذا الفعل ، ومنه قوله تعالى : { وألقيت عليك محبة مني } [ طه : 39 ] ومنه قوله : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] ، و { الذكر } هنا : الرسالة وما يمكن أن جاءهم به من الحكمة والموعظة ، ثم قالوا : { بل هو كذاب أشر } أي ليس الأمر كما يزعم ، والأشر : البطر والمرح ، فكأنهم رموه بأنه { أشر } ، فأراد العلو عليهم وأن يقتادهم ويتملك طاعتهم فقال الله تعالى لصالح : { سيعلمون غداً } وهذه بالياء من تحت قراءة علي بن أبي طالب وجمهور الناس . وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وابن وثاب وطلحة والأعمش " ستعلمون " بالتاء على معنى قل لهم يا صالح .
وقوله : { غداً } تقريب يريد به الزمان المستقبل ، لا يوماً بعينه ، ونحو المثل : مع اليوم غد .
وقرأ جمهور الناس : " الأشِر " بكسر السين كحذِر بكسر الذال . وقرأ مجاهد فيما ذكر عنه الكسائي : " الأشُر " بضم الشين كحذُر بضم الذال ، وهما بناءان من اسم فاعل . وقرأ أبو حيوة : " الأشَر " بفتح الشين ، كأنه وصف بالمصدر . وقرأ أبو قلابة : " الأشَرّ " بفتح الشين وشد الراء ، وهو الأفعل ، ولا يستعمل بالألف واللام وهو كان الأصل لكنه رفض تخفيفاً وكثرة استعمال .
(6/245)

إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
هذه { الناقة } التي اقترحوها أن تخرج لهم من صخرة صماء من الجبل ، وقد تقدم قصصها ، فأخبر الله تعالى صالحاً على جهة التأنيس أنه يخرج لهم الناقة ابتلاء واختباراً ، ثم أمره بارتقاب الفرج وبالصبر . { واصطبر } أصله : اصتبر . افتعل ، أبدلت التاء طاء لتناسب الصاد . ثم أمره بأن يخبر ثمود { أن الماء قسمة بينهم } : و { الماء } : هو ماء البئر التي كانت لهم ، واختلف المتأولون في معنى هذه القسمة ، فقال جمهور منهم { قسمة بينهم } : و { الماء } : هو ماء البئر التي كانت لهم ، واختلف المتأولون في معنى هذه القسمة ، فقال جمهور منهم { قسمة بينهم } : يتواسونه في اليوم الذي لا ترده الناقة وذلك فيما روي أن الناقة كانت ترد البئر غباً ، وتحتاج جميع مائه يومها ، فنهاهم الله عن أن يستأثر أهل اليوم الذي لا ترد الناقة فيه بيومهم ، وأمرهم بالتواسي مع الذين ترد الناقة في يومهم . وقال آخرون معناه : الماء بين جميعهم وبين الناقة قسمة . و : { محتضر } معناه : محضور مشهود متواسىً فيه ، وقال مجاهد المعنى : { كل شرب } أي من الماء يوماً ومن لبن الناقة يوماً { محتضر } لهم ، فكأنه أنبأهم الله عليهم في ذلك . و : { صاحبهم } هو قدار بن سالف ، وبسببه سمي الجزار القدار لشبه في الفعل ، قال الشاعر [ عدي بن ربيعة ] : [ الكامل ]
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام
وقد تقدم شرح أمر قدار بن سالف . و : " تعاطى " مطاوع عاطى ، فكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وأعطاها بعضهم بعضاً ، فتعاطاها هو وتناول العقر بيده ، قاله ابن عباس ، ويقال للرجل الذي يدخل نفسه في تحمل الأمور الثقال متعاط على الوجه الذي ذكرناه ، والأصل عطا يعطو ، إذا تناول ، ثم يقال : عاطى ، وهو كما تقول : جرى وجارى وتجارى وهذا كثير ، ويروى أنه كان مع شرب وهم التسعة الرهط ، فاحتاجوا ماء فلم يجدوه بسبب ورد الناقة ، فحمله أصحابه على عقرها . ويروى أن ملأ القبيل اجتمع على أن يعقرها ، ورويت أسباب غير هذين ، وقد تقدم ذلك .
والصيحة : يروى أن جبريل عليه السلام صاحها في طرف من منازلهم فتفتتوا وهمدوا { فكانوا كهشيم المحتظر } . والهشيم : ما تفتت وتهشم من الأشياء .
وقرأ جمهور الناس : " كهشيم المحتظِر " بكسر الظاء ، ومعناه : الذي يصنع حظيرة من الرعاء ونحوهم قاله أبو إسحاق السبيعي والضحاك وابن زيد ، وهي مأخوذة من الحظر وهو المنع ، والعرب وأهل البوادي يصنعونها للمواشي وللسكنى أيضاً من الأغصان والشجر المورق والقصب ونحوه ، وهذا كله هشيم يتفتت إما في أول الصنعة ، وإما عند بلى الحظيرة وتساقط أجزائها . وحكى الطبري عن ابن عباس وقتادة أن " المحتظِر " معناه : المحترق .
(6/246)

قال قتادة : كهشيم محرق . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء : " المحتظَر " بفتح الظاء ، ومعناه الموضع الذي احتظر ، فهو مفعل من الحظر ، أو الشيء الذي احتظر به . وقد روي عن سعيد بن جبير أنه فسر : { كهشيم المحتظر } بأن قال : هو التراب الذي سقط من الحائط البالي ، وهذا متوجه ، لأن الحائط حظيرة ، والساقط هشيم . وقال أيضاً هو وغيره : { المحتظر } ، معناه : المحرق بالنار ، كأنه ما في الموضع المحتظر بالنار ، وما ذكرناه عن ابن عباس وقتادة هو على قراءة كسر الظاء ، وفي هذا التأويل بعض البعد . وقال قوم : " المحتظَر " بالفتح الهشيم نفسه وهو مفتعل ، وهو كمسجد الجامع وشبهه .
وقد تقدم قصص قوم لوط . والحاصب : السحاب الرامي بالبرد وغيره ، وشبه تلك الحجارة التي رمى بها قوم لوط به بالكثرة والتوالي ، وهو مأخوذ من الحصباء ، كان السحاب يحصب مقصده ، ومنه قول الفرزدق : [ البسيط ]
مستقبلين شمال الشام تحصبهم ... بحاصب كنديف القطن منثور
وقال ابن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل المدينة : مصروف ، لأنه نكرة لم يرد به يوم بعينه . وقوله : { نعمة } نصب على المصدر ، أي فعلنا ذلك إنعاماً على القوم الذين نجيناهم ، وهذا هو جزاؤنا لمن شكر نعمنا وآمن وأطاع .
(6/247)

وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
المعنى : ولقد أنذر لوط قومه أخذنا إياهم ، و : { بطشتنا } بهم ، أي عذابنا لهم . و : { تماروا } معناه : تشككوا وأهدى بعضهم الشك إلى بعض بتعاطيهم الشبه والضلال . و : { النذر } جمع نذير . وهو المصدر ، ويحتمل أن يراد { بالنذر } هنا وفي قوله : { كذبت قوم لوط بالنذر } [ القمر : 33 ] جمع نذير ، الذي هو اسم الفاعل والضيف : يقع للواحد والجميع ، وقد تقدم ذكر أضيافه وقصصهم مستوعباً .
وقوله : { فطمسنا أعينهم } قال قتادة : هي حقيقة ، جر جبريل شيئاً من جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم . قال أبو عبيدة : مطموسة بجلد كالوجه . وقال ابن عباس والضحاك : هي استعارة وإنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً ، فجعل ذلك كالطمس .
وقوله تعالى : { بكرة } قيل : كان ذلك عند طلوع الفجر ، وأدغم ابن محيصن الدال في الصاد من قوله : { ولقد صبحهم } والجمهور على غير الإدغام . { بكرة } نكرة ، فلذلك صرفت . وقوله : { فذوقوا عذابي } يحتمل أن يكون من قول الله تعالى لهم ، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة ، { ونذر } جمع المصدر ، أي وعاقبة نذري التي كذبتم بها ، وقوله : { مستقر } في صفة العذاب ، لأنه لم يكشف عنهم كاشف ، بل اتصل ذلك بموتهم ، وهم مدة موتهم تحت الأرض معذبون بانتظار جهنم ، ثم يتصل ذلك بعذاب النار ، فهو أمر متصل مستقر ، وكرر { فذوقوا عذابي ونذر } تأكيداً وتوبيخاً ، وروى ورش عن نافع : " نذري " بياء .
و { آل فرعون } : قومه وأتباعه ومنه قول الشاعر [ أراكة الثقفي ] : [ الطويل ]
فلا تبك ميتاً بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
يريد : المسلمين في مواراة النبي عليه السلام ، ويحتمل أن يريد ب { آل فرعون } : قرابته على عرف الآن ، وخصصهم بالذكر ، لأنهم عمدة القوم وكبراؤهم .
وقوله : { كذبوا بآياتنا } يحتمل أن يريد { آل فرعون } المذكورين . و : { أخذناهم } كذلك يريدهم بالضمير ، لأن ذلك الإغراق الذي كان في البحر ، كان بالعزة والقدرة ، ويكون قوله : { بآياتنا } يريد بها : التسع ، ثم أكد بكلها ، ويحتمل أن يكون قوله : { ولقد جاء آل فرعون النذر } كلاماً تاماً ، ثم يكون قوله : { كذبوا بآياتنا كلها } يعود الضمير في { كلها } على جميع من ذكر من الأمم المذكورة .
وقوله تعالى : { أكفاركم } الآية خطاب لقريش ، وفهم على جهة التوبيخ . أثم خصلة من المال أو قوة أبدان وبسطة أو عقول أو غير ذلك ممنا يقتضي أنكم خير من هؤلاء المعذبين لما كذبوا ، فيرجى لكم بذلك الفضل النجاء من العذاب حين كذبتم رسولكم؟ { أم لكم } في كتب الله المنزلة { براءة } من العذاب؟ قاله الضحاك وابن زيد وعكرمة ، ثم قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { أم يقولون } نحن واثقون بجماعتنا منتصرون بقوتنا على جهة الإعجاب والتعاطي؟ سيهزمون ، فلا ينفع جمعهم . وقرأ أبو حيوة " أم تقولون " بالتاء من فوق .
(6/248)

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
هذه عدة من الله تعالى لرسوله أن جمع قريش سيهزم نصرة له ، والجمهور على أن الآية مكية ، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : كنت أقول في نفسي أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع ويقول { سيهزم الجمع ويولون الدبر } .
قال القاضي أبو محمد : فإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر مستشهداً بالآية . وقال قوم : إن الآية نزلت يوم بدر .
وقال أبو حاتم : وقرأ بعض القراء : " سيَهزِم " بفتح الياء وكسر الزاي " الجمعَ " نصباً ، قال أبو عمرو الداني قرأ أبو حيوة : " سنهزِم " بالنون وكسر الزاي " الجمعَ " نصباً . " وتولون " بالتاء من فوق ، ثم تركت هذه الأقوال ، وأضرب عنها تهمماً بأمر الساعة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتل فقال : { بل الساعة موعدهم } . و : { أدهى } أفعل من الداهية : وهي الرزية العظمى تنزل بالمرء . { وأمرّ } من المرارة ، واللفظة ليست هنا مستعارة ، لأنها ليست فيما يذاق .
ثم أخبر تعالى عن المجرمين أنهم في الدنيا في حيرة وإتلاف وفقد هدى وفي الآخرة في احتراق وتسعر من حيث هم صائرون إليه ، قال ابن عباس المعنى : في خسران وجنون ، والسعر الجنون . وأكثر المفسرين على أن { المجرمين } هنا يراد بهم الكفار . وقال قوم المراد ب { المجرمين } : القدرية الذين يقولون إن أفعال العباد ليست بقدر من الله ، وهم المتوعدون بالسحب في جهنم ، والسحب : الجر . وفي قراءة ابن مسعود : " إلى النار " .
وقوله تعالى : { ذوقوا مس } استعارات ، والمعنى : يقال لهم على جهة التوبيخ .
واختلف الناس في قوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ، فقرأ جمهور الناس : " إنا كلَّ " بالنصب ، والمعنى : خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، وليست { خلقناه } في موضع الصفة لشيء ، بل هو فعل دال على الفعل المضمر ، وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق ، إلا ما قام دليل العقل على أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات . وقرأ أبو السمال ورجحه أبو الفتح : " إنا كلُّ " بالرفع على الابتداء ، والخبر : { خلقناه بقدر } .
قال أبو حاتم : هذا هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع جماعة ، وقرأها قوم من أهل السنة بالرفع ، والمعنى عندهم على نحو ما عند الأولى أن كل شيء فهو مخلوق بقدر سابق ، و : { خلقناه } على هذا ليست صفة لشيء ، وهذا مذهب أهل السنة ، ولهم احتجاج قوي بالآية على هذين القولين ، وقالت القدرية وهم الذين يقولون : لا قدر ، والمرء فاعل وحده أفعاله . القراءة " إنا كلُّ شيء خلقناه " برفع " كلُّ " : و { خلقناه } في موضع الصفة ب " كلَّ " ، أي أن أمرنا وشأننا كلُّ شيء خلقناه فهو بقدر وعلى حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك ، فيزيلون بهذا التأويل موضع الحجة عليهم بالآية .
(6/249)

وقال ابن عباس : إني أجد في كتاب الله قوماً { يسحبون في النار على وجوههم } لأنهم كانوا يكذبون بالقدر ، ويقولون : المرء يخلق أفعاله ، وإني لا أراهم ، فلا أدري أشيء مضى قبلنا أم شيء بقي؟ .
وقال أبو هريرة : خاصمت قريش رسول الله في القدر فنزلت هذه الآية ، قال أبو عبد الرحمن السلمي : فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنفه؟ أم في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ، سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى " ، وقال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القدرية يقولون الخير والشر بأيدينا ، ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني " .
وقوله : { إلا واحدة } ، أي : إلا قولة واحدة وهي : كن . وقوله : { كلمح بالبصر } تفهيم للناس بأعجل ما يحسون وفي أشياء أمر الله تعالى أوحى من لمح البصر . والأشياع : الفرق المتشابهة في مذهب ودين ، ونحوه الأول شيعة للآخر ، الآخر شيعة للأول .
ثم أخبر تعالى أن كل أفعال الأمم المهلكة مكتوب محفوظ عليهم إلى يوم الحساب ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك و ابن زيد . و : { مستطر } مفتعل من السطر ، تقول سطرت واستطرت بمعنى ، وروي عن عاصم شد الراء في " مستطرّ " ، قال أبو عمرو : وهذا لا يكون إلا عند الوقف لغة معروفة .
وقرأ جمهور الناس : " ونَهَر " بفتح الهاء والنون ، على أنه اسم الجنس ، يريد به الأنهار ، أو على أنه بمعنى : وسعة في الأرزاق والمنازل ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [ الطويل ]
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
فقوله : " أنهرت " معناه : جعلت فتقها كنهر . وقرأ زهير الفرقبي والأعمش : " ونُهُر " بضم النون والهاء ، على أنه جمع نهار ، إذ لا ليل في الجنة ، وهذا سائغ في اللفظ قلق في المعنى ، ويحتمل أن يكون جمع نهر . وقرأ مجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان : " نهْر " ساكنة الهاء على الإفراد .
وقوله تعالى : { مقعد صدق } يحتمل أن يريد به الصدق الذي هو ضد الكذب ، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به ، ويحتمل أن يكون من قولك : عود صدق ، أي جيد ، ورجل صدق ، أي خبر وخلال حسان .
وقرأ جمهور الناس : " في مقعد " على اسم الجنس . وقرأ عثمان البتي : " في مقاعد " على الجمع . والمليك المقتدر : الله تعالى .
(6/250)

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
{ الرحمن } بناء مبالغة من الرحمة ، وهو اسم اختص الله تعالى بالاتصاف به ، وحكى ابن فورك عن قوم أنهم يجعلون { الرحمن } آية تامة ، كأن التقدير : { الرحمن } ربنا ، قاله الرماني أو أن التقدير : الله { الرحمن } . وقال الجمهور إنما الآية : { الرحمن علم القرآن } فهو جزء آية .
وقوله : { علم القرآن } تعديد نعمة أي هو من به وعلمه الناس ، وخص حفاظه وفهمته بالفضل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " . ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق : أن الله تعالى ذكر { القرآن } في كتابه في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه ، وذكر { الإنسان } على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعاً ، كلها نصت على خلقه ، وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو ، و : { الإنسان } اسم الجنس ، حكاه الزهراوي وغيره . و : { البيان } النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول قاله ابن زيد والجمهور ، وذلك هو الذي فضل الإنسان من سائر الحيوان ، وقال قتادة : هو بيان الحلال والحرام والشرائع ، وهذا جزء من { البيان } العام ، وقال قتادة : { الإنسان } آدم . وقال ابن كيسان : { الإنسان } : محمد صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص لا دليل عليه ، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي علمه الإنسان ، فكأنه قال من ذلك البيان وفيه معتبر كون { الشمس والقمر بحسبان } فحذف هذا كله ، ورفع { الشمسُ } بالابتداء ، وهذا ابتداء تعديد نعم .
واختلف الناس في قوله : { بحسبان } فقال مكي والزهراوي عن قتادة : هو مصدر كالحساب في المعنى وكالغفران والطغيان في الوزن . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى والضحاك : هو جمع حساب ، كشهاب وشهبان ، والمعنى أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات شتى ، وهذا مذهب ابن عباس وأبي مالك وقتادة . وقال ابن زيد لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً ، يريد من مقادير الزمان . وقال مجاهد : " الحسبان " الفلك المستدير ، شبه بحسبان الرحى ، وهو العود المستدير الذي باستدارته تدور المطحنة .
وقوله : { والنجم والشجر يسجدان } قال ابن عباس والسدي وسفيان : { النجم } . النبات الذي لا ساق له ، وسمي نجماً لأنه نجم ، أي ظهر وطلع ، وهو مناسب للشجر نسبة بينة . وقال مجاهد وقتادة والحسن : { النجم } اسم الجنس من نجوم السماء ، والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض ، لأنها في ظاهرهما . وسمي { الشجر } من اشتجار غصونه وهو تداخلها .
واختلف الناس في هذا السجود ، فقال مجاهد : ذلك في النجم بالغروب ونحوه ، وفي الشجر بالظل واستدارته ، وكذلك في النجم على القول الآخر . وقال مجاهد أيضاً ما معناه : أن السجود في هذا كله تجوز ، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل ، ونحوه قول الشاعر [ زيد الخيل ] : [ الطويل ]
(6/251)

ترى الأكم فيها سجداً للحوافر ... وقال : { يسجدان } وهما جمعان ، لأنه راعى اللفظ ، إذ هو مفرد اسم للنوع وهذا كقول الشاعر [ عمير بن شييم القطامي ] : [ الوافر ]
ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا
وقرأ الجمهور : " والسماءَ رفعها " بالنصب عطفاً على الجملة الصغيرة وهي { يسجدان } لأن هذه الجملة من فعل وفاعل وهذه كذلك . وقرأ أبو السمال : " والسماءُ " بالرفع عطفاً على الجملة الكبيرة وهي قوله : { والنجم والشجر يسجدان } لأن هذه الجملة من ابتداء وخبر ، والأخرى كذلك .
وفي مصحف ابن مسعود : " وخفض الميزان " . ومعنى : { وضع } أقر وأثبت ، و { الميزان } : العدل فيما قال الطبري ومجاهد وأكثر الناس . وقال ابن عباس والحسن وقتادة : إنه الميزان المعروف .
قال القاضي أبو محمد : والميزان المعروف جزء من { الميزان } الذي يعبر به عن العدل . ويظهر عندي أن قوله : { وضع الميزان } يريد به العدل .
وقوله : { ألا تطغوا في الميزان } وقوله : { وأقيموا الوزن } وقوله : { ولا تخسروا الميزان } يريد به الميزان المعروف ، وكل ما قيل محتمل سائغ .
وقوله : { ألا تطغوا } نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان . وأما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس . " وأن لا " هو بتقدير لئلا ، أو مفعول من أجله . و : { تطغوا } نصب ، ويحتمل أن تكون " أن " مفسرة ، فيكون { تطغوا } جزماً بالنهي ، وفي مصحف ابن مسعود : " لا تطغوا في الميزان " بغير أن .
وقرأ جمهور الناس : " ولا تُخسروا " من أخسر ، أي نقص وأفسد ، وقال بلال بن أبي بردة " تَخسِروا " بفتح التاء وكسر السين من خسر ، ويقال خسر وأخسر بمعنى : نقص وأفسد ، كجبر وأجبر . وقرأ بلال أيضاً فيما حكى ابن جني : " تَخسَروا " ، بفتح التاء والسين من خسِر : بكسر السين .
واختلف الناس في : " الأنام " فقال ابن عباس فيما روي عنه هم بنو آدم فقط . وقال الحسن بن أبي الحسن : هم الثقلان : الجن والإنس . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وابن زيد والشعبي : هم الحيوان كله . و { الأكمام } في { النخل } موجودة في الموضعين ، فجملة فروع النخلة في أكمام من ليفها ، وطلع النخل كمائم الزهر وبه شبه كم الثوب . { والحب ذو العصف } هو البر والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه وهي العصيفة إذا يبست ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [ البسيط ]
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتيّ الماء مطموم
قال ابن عباس { العصف } التبن ، وتقول العرب : خرجنا نتعصف ، أي يستعجلون عصيفة الزرع .
وقرأ ابن عامر وأبو البرهسم : " والحبَّ " بالنصب عطفاً على { الأرض } " ذا العصف والريحانِ " إلا أن البرهسم خفض النون .
(6/252)

واختلفوا في { الريحان } ، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه : الرزق ، ومنه قول الشاعر وهو النمر بن تولب : [ المتقارب ]
سلام الإله وريحانه ... وجنته وسماء درر
وقال الحسن : هو ريحانكم هذا . وقال ابن جبير : هو كل ما قام على ساق ، وقال ابن زيد وقتادة : { الريحان } هو كل مشموم طيب الريح من النبات . وفي هذا النوع نعمة عظيمة . ففيه الأزهار والمندل والعقاقير وغير ذلك . وقال الفراء : { العصف } فيما يؤكل ، و { الريحان } كل ما لا يؤكل .
وقرأ جمهور الناس : " والحبُّ " بالرفع " ذو العصف والريحان " وهذه قراءة في المعنى كالأولى في الإعراب حسنة الاتساق عطفاً على { فاكهة } . وقرأ حمزة والكسائي وابن محيصن : " والحبَّ " بالرفع " ذو العصف والريحانِ " بخفض " الريحانِ " عطفاً على { العصف } ، كأن الحب هما له على أن { العصف } منه الورق . وكل ما يعصف باليد وبالريح فهو رزق البهائم ، { والريحان } منه الحب فهو رزق الناس ، " والريحان " على هذه القراءة : الرزق : لا يدخل فيه المشموم بتكلف .
{ والريحان } هو من ذوات الواو . قال أبو علي : إما أن يكون ريحان اسماً ووضع موضع المصدر ، وإما أن يكون مصدراً على وزن فعلان ، كالليان وما جرى مجراه أصله : روحان ، أبدلت الواو ياء كما بدلوا الواو ياء في أشاوى وإما أن يكون مصدراً شاذاً في المعتل كما شذ كينونة وبينونة ، فأصله ريوحان ، قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ، فجاء ريحان ، فخفف كما قالوا ميت وميت وهين وهين .
والآلاء : النعم ، واحدها إلى مثل معى وألى مثل قفا ، حكى هذين أبو عبيدة ، وألي مثل أمر وإلي مثل حصن ، حكى هذين الزهراوي . والضمير في قوله : { ربكما } للجن والإنس ، وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله : { للأنام } على ما تقدم من أن المراد به الثقلان ، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 14 ] { وخلق الجان } [ الرحمن : 15 ] فساغ تقديمهما في الضمير اتساعاً . وقال الطبري : يحتمل أن يقال هذا من باب ألقيا في جهنم ويا غلام اضربا عنقه . وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن ، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال : " إن جواب الجن خير من سكوتكم ، أي لما قرأتها على الجن قالوا : لا ، بأيها نكذب يا ربنا " .
(6/253)

{ الرحمن } بناء مبالغة من الرحمة ، وهو اس
(6/254)

ترى الأكم فيها سجداً للحوافر ... وقال : { يسجدان } وهما جمعان ، لأنه راعى اللفظ ، إذ هو مفرد اسم للنوع وهذا كقول الشاعر [ عمير بن شييم القطامي ] : [ الوافر ]
ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا
وقرأ الجمهور : " والسماءَ رفعها " بالنصب عطفاً على الجملة الصغيرة وهي { يسجدان } لأن هذه الجملة من فعل وفاعل وهذه كذلك . وقرأ أبو السمال : " والسماءُ " بالرفع عطفاً على الجملة الكبيرة وهي قوله : { والنجم والشجر يسجدان } لأن هذه الجملة من ابتداء وخبر ، والأخرى كذلك .
وفي مصحف ابن مسعود : " وخفض الميزان " . ومعنى : { وضع } أقر وأثبت ، و { الميزان } : العدل فيما قال الطبري ومجاهد وأكثر الناس . وقال ابن عباس والحسن وقتادة : إنه الميزان المعروف .
قال القاضي أبو محمد : والميزان المعروف جزء من { الميزان } الذي يعبر به عن العدل . ويظهر عندي أن قوله : { وضع الميزان } يريد به العدل .
وقوله : { ألا تطغوا في الميزان } وقوله : { وأقيموا الوزن } وقوله : { ولا تخسروا الميزان } يريد به الميزان المعروف ، وكل ما قيل محتمل سائغ .
وقوله : { ألا تطغوا } نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان . وأما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس . " وأن لا " هو بتقدير لئلا ، أو مفعول من أجله . و : { تطغوا } نصب ، ويحتمل أن تكون " أن " مفسرة ، فيكون { تطغوا } جزماً بالنهي ، وفي مصحف ابن مسعود : " لا تطغوا في الميزان " بغير أن .
وقرأ جمهور الناس : " ولا تُخسروا " من أخسر ، أي نقص وأفسد ، وقال بلال بن أبي بردة " تَخسِروا " بفتح التاء وكسر السين من خسر ، ويقال خسر وأخسر بمعنى : نقص وأفسد ، كجبر وأجبر . وقرأ بلال أيضاً فيما حكى ابن جني : " تَخسَروا " ، بفتح التاء والسين من خسِر : بكسر السين .
واختلف الناس في : " الأنام " فقال ابن عباس فيما روي عنه هم بنو آدم فقط . وقال الحسن بن أبي الحسن : هم الثقلان : الجن والإنس . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وابن زيد والشعبي : هم الحيوان كله . و { الأكمام } في { النخل } موجودة في الموضعين ، فجملة فروع النخلة في أكمام من ليفها ، وطلع النخل كمائم الزهر وبه شبه كم الثوب . { والحب ذو العصف } هو البر والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه وهي العصيفة إذا يبست ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [ البسيط ]
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتيّ الماء مطموم
قال ابن عباس { العصف } التبن ، وتقول العرب : خرجنا نتعصف ، أي يستعجلون عصيفة الزرع .
وقرأ ابن عامر وأبو البرهسم : " والحبَّ " بالنصب عطفاً على { الأرض } " ذا العصف والريحانِ " إلا أن البرهسم خفض النون .
(6/255)

واختلفوا في { الريحان } ، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه : الرزق ، ومنه قول الشاعر وهو النمر بن تولب : [ المتقارب ]
سلام الإله وريحانه ... وجنته وسماء درر
وقال الحسن : هو ريحانكم هذا . وقال ابن جبير : هو كل ما قام على ساق ، وقال ابن زيد وقتادة : { الريحان } هو كل مشموم طيب الريح من النبات . وفي هذا النوع نعمة عظيمة . ففيه الأزهار والمندل والعقاقير وغير ذلك . وقال الفراء : { العصف } فيما يؤكل ، و { الريحان } كل ما لا يؤكل .
وقرأ جمهور الناس : " والحبُّ " بالرفع " ذو العصف والريحان " وهذه قراءة في المعنى كالأولى في الإعراب حسنة الاتساق عطفاً على { فاكهة } . وقرأ حمزة والكسائي وابن محيصن : " والحبَّ " بالرفع " ذو العصف والريحانِ " بخفض " الريحانِ " عطفاً على { العصف } ، كأن الحب هما له على أن { العصف } منه الورق . وكل ما يعصف باليد وبالريح فهو رزق البهائم ، { والريحان } منه الحب فهو رزق الناس ، " والريحان " على هذه القراءة : الرزق : لا يدخل فيه المشموم بتكلف .
{ والريحان } هو من ذوات الواو . قال أبو علي : إما أن يكون ريحان اسماً ووضع موضع المصدر ، وإما أن يكون مصدراً على وزن فعلان ، كالليان وما جرى مجراه أصله : روحان ، أبدلت الواو ياء كما بدلوا الواو ياء في أشاوى وإما أن يكون مصدراً شاذاً في المعتل كما شذ كينونة وبينونة ، فأصله ريوحان ، قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ، فجاء ريحان ، فخفف كما قالوا ميت وميت وهين وهين .
والآلاء : النعم ، واحدها إلى مثل معى وألى مثل قفا ، حكى هذين أبو عبيدة ، وألي مثل أمر وإلي مثل حصن ، حكى هذين الزهراوي . والضمير في قوله : { ربكما } للجن والإنس ، وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله : { للأنام } على ما تقدم من أن المراد به الثقلان ، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 14 ] { وخلق الجان } [ الرحمن : 15 ] فساغ تقديمهما في الضمير اتساعاً . وقال الطبري : يحتمل أن يقال هذا من باب ألقيا في جهنم ويا غلام اضربا عنقه . وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن ، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال : " إن جواب الجن خير من سكوتكم ، أي لما قرأتها على الجن قالوا : لا ، بأيها نكذب يا ربنا " .
(6/256)

{ الرحمن } بناء مبالغة من الرحمة ، وهو اسم اختص الله تعالى بالاتصاف به ، وحكى ابن فورك عن قوم أنهم يجعلون { الرحمن } آية تامة ، كأن التقدير : { الرحمن } ربنا ، قاله الرماني أو أن التقدير : الله { الرحمن } . وقال الجمهور إنما الآية : { الرحمن علم القرآن } فهو جزء آية .
وقوله : { علم القرآن } تعديد نعمة أي هو من به وعلمه الناس ، وخص حفاظه وفهمته بالفضل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " . ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق : أن الله تعالى ذكر { القرآن } في كتابه في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه ، وذكر { الإنسان } على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعاً ، كلها نصت على خلقه ، وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو ، و : { الإنسان } اسم الجنس ، حكاه الزهراوي وغيره . و : { البيان } النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول قاله ابن زيد والجمهور ، وذلك هو الذي فضل الإنسان من سائر الحيوان ، وقال قتادة : هو بيان الحلال والحرام والشرائع ، وهذا جزء من { البيان } العام ، وقال قتادة : { الإنسان } آدم . وقال ابن كيسان : { الإنسان } : محمد صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص لا دليل عليه ، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي علمه الإنسان ، فكأنه قال من ذلك البيان وفيه معتبر كون { الشمس والقمر بحسبان } فحذف هذا كله ، ورفع { الشمسُ } بالابتداء ، وهذا ابتداء تعديد نعم .
واختلف الناس في قوله : { بحسبان } فقال مكي والزهراوي عن قتادة : هو مصدر كالحساب في المعنى وكالغفران والطغيان في الوزن . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى والضحاك : هو جمع حساب ، كشهاب وشهبان ، والمعنى أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات شتى ، وهذا مذهب ابن عباس وأبي مالك وقتادة . وقال ابن زيد لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً ، يريد من مقادير الزمان . وقال مجاهد : " الحسبان " الفلك المستدير ، شبه بحسبان الرحى ، وهو العود المستدير الذي باستدارته تدور المطحنة .
وقوله : { والنجم والشجر يسجدان } قال ابن عباس والسدي وسفيان : { النجم } . النبات الذي لا ساق له ، وسمي نجماً لأنه نجم ، أي ظهر وطلع ، وهو مناسب للشجر نسبة بينة . وقال مجاهد وقتادة والحسن : { النجم } اسم الجنس من نجوم السماء ، والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض ، لأنها في ظاهرهما . وسمي { الشجر } من اشتجار غصونه وهو تداخلها .
واختلف الناس في هذا السجود ، فقال مجاهد : ذلك في النجم بالغروب ونحوه ، وفي الشجر بالظل واستدارته ، وكذلك في النجم على القول الآخر . وقال مجاهد أيضاً ما معناه : أن السجود في هذا كله تجوز ، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل ، ونحوه قول الشاعر [ زيد الخيل ] : [ الطويل ]
(6/257)

ترى الأكم فيها سجداً للحوافر ... وقال : { يسجدان } وهما جمعان ، لأنه راعى اللفظ ، إذ هو مفرد اسم للنوع وهذا كقول الشاعر [ عمير بن شييم القطامي ] : [ الوافر ]
ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا
وقرأ الجمهور : " والسماءَ رفعها " بالنصب عطفاً على الجملة الصغيرة وهي { يسجدان } لأن هذه الجملة من فعل وفاعل وهذه كذلك . وقرأ أبو السمال : " والسماءُ " بالرفع عطفاً على الجملة الكبيرة وهي قوله : { والنجم والشجر يسجدان } لأن هذه الجملة من ابتداء وخبر ، والأخرى كذلك .
وفي مصحف ابن مسعود : " وخفض الميزان " . ومعنى : { وضع } أقر وأثبت ، و { الميزان } : العدل فيما قال الطبري ومجاهد وأكثر الناس . وقال ابن عباس والحسن وقتادة : إنه الميزان المعروف .
قال القاضي أبو محمد : والميزان المعروف جزء من { الميزان } الذي يعبر به عن العدل . ويظهر عندي أن قوله : { وضع الميزان } يريد به العدل .
وقوله : { ألا تطغوا في الميزان } وقوله : { وأقيموا الوزن } وقوله : { ولا تخسروا الميزان } يريد به الميزان المعروف ، وكل ما قيل محتمل سائغ .
وقوله : { ألا تطغوا } نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان . وأما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس . " وأن لا " هو بتقدير لئلا ، أو مفعول من أجله . و : { تطغوا } نصب ، ويحتمل أن تكون " أن " مفسرة ، فيكون { تطغوا } جزماً بالنهي ، وفي مصحف ابن مسعود : " لا تطغوا في الميزان " بغير أن .
وقرأ جمهور الناس : " ولا تُخسروا " من أخسر ، أي نقص وأفسد ، وقال بلال بن أبي بردة " تَخسِروا " بفتح التاء وكسر السين من خسر ، ويقال خسر وأخسر بمعنى : نقص وأفسد ، كجبر وأجبر . وقرأ بلال أيضاً فيما حكى ابن جني : " تَخسَروا " ، بفتح التاء والسين من خسِر : بكسر السين .
واختلف الناس في : " الأنام " فقال ابن عباس فيما روي عنه هم بنو آدم فقط . وقال الحسن بن أبي الحسن : هم الثقلان : الجن والإنس . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وابن زيد والشعبي : هم الحيوان كله . و { الأكمام } في { النخل } موجودة في الموضعين ، فجملة فروع النخلة في أكمام من ليفها ، وطلع النخل كمائم الزهر وبه شبه كم الثوب . { والحب ذو العصف } هو البر والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه وهي العصيفة إذا يبست ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [ البسيط ]
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتيّ الماء مطموم
قال ابن عباس { العصف } التبن ، وتقول العرب : خرجنا نتعصف ، أي يستعجلون عصيفة الزرع .
وقرأ ابن عامر وأبو البرهسم : " والحبَّ " بالنصب عطفاً على { الأرض } " ذا العصف والريحانِ " إلا أن البرهسم خفض النون .
(6/258)

واختلفوا في { الريحان } ، فقال اب
(6/259)

{ الرحمن } بناء مبالغة من الرحمة ، وهو اس
(6/260)

ترى الأكم فيها سجداً للحوافر ... وقال : { يسجدان } وهما جمعان ، لأنه راعى اللفظ ، إذ هو مفرد اسم للنوع وهذا كقول الشاعر [ عمير بن شييم القطامي ] : [ الوافر ]
ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا
وقرأ الجمهور : " والسماءَ رفعها " بالنصب عطفاً على الجملة الصغيرة وهي { يسجدان } لأن هذه الجملة من فعل وفاعل وهذه كذلك . وقرأ أبو السمال : " والسماءُ " بالرفع عطفاً على الجملة الكبيرة وهي قوله : { والنجم والشجر يسجدان } لأن هذه الجملة من ابتداء وخبر ، والأخرى كذلك .
وفي مصحف ابن مسعود : " وخفض الميزان " . ومعنى : { وضع } أقر وأثبت ، و { الميزان } : العدل فيما قال الطبري ومجاهد وأكثر الناس . وقال ابن عباس والحسن وقتادة : إنه الميزان المعروف .
قال القاضي أبو محمد : والميزان المعروف جزء من { الميزان } الذي يعبر به عن العدل . ويظهر عندي أن قوله : { وضع الميزان } يريد به العدل .
وقوله : { ألا تطغوا في الميزان } وقوله : { وأقيموا الوزن } وقوله : { ولا تخسروا الميزان } يريد به الميزان المعروف ، وكل ما قيل محتمل سائغ .
وقوله : { ألا تطغوا } نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان . وأما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس . " وأن لا " هو بتقدير لئلا ، أو مفعول من أجله . و : { تطغوا } نصب ، ويحتمل أن تكون " أن " مفسرة ، فيكون { تطغوا } جزماً بالنهي ، وفي مصحف ابن مسعود : " لا تطغوا في الميزان " بغير أن .
وقرأ جمهور الناس : " ولا تُخسروا " من أخسر ، أي نقص وأفسد ، وقال بلال بن أبي بردة " تَخسِروا " بفتح التاء وكسر السين من خسر ، ويقال خسر وأخسر بمعنى : نقص وأفسد ، كجبر وأجبر . وقرأ بلال أيضاً فيما حكى ابن جني : " تَخسَروا " ، بفتح التاء والسين من خسِر : بكسر السين .
واختلف الناس في : " الأنام " فقال ابن عباس فيما روي عنه هم بنو آدم فقط . وقال الحسن بن أبي الحسن : هم الثقلان : الجن والإنس . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وابن زيد والشعبي : هم الحيوان كله . و { الأكمام } في { النخل } موجودة في الموضعين ، فجملة فروع النخلة في أكمام من ليفها ، وطلع النخل كمائم الزهر وبه شبه كم الثوب . { والحب ذو العصف } هو البر والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه وهي العصيفة إذا يبست ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [ البسيط ]
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتيّ الماء مطموم
قال ابن عباس { العصف } التبن ، وتقول العرب : خرجنا نتعصف ، أي يستعجلون عصيفة الزرع .
وقرأ ابن عامر وأبو البرهسم : " والحبَّ " بالنصب عطفاً على { الأرض } " ذا العصف والريحانِ " إلا أن البرهسم خفض النون .
(6/261)

واختلفوا في { الريحان } ، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه : الرزق ، ومنه قول الشاعر وهو النمر بن تولب : [ المتقارب ]
سلام الإله وريحانه ... وجنته وسماء درر
وقال الحسن : هو ريحانكم هذا . وقال ابن جبير : هو كل ما قام على ساق ، وقال ابن زيد وقتادة : { الريحان } هو كل مشموم طيب الريح من النبات . وفي هذا النوع نعمة عظيمة . ففيه الأزهار والمندل والعقاقير وغير ذلك . وقال الفراء : { العصف } فيما يؤكل ، و { الريحان } كل ما لا يؤكل .
وقرأ جمهور الناس : " والحبُّ " بالرفع " ذو العصف والريحان " وهذه قراءة في المعنى كالأولى في الإعراب حسنة الاتساق عطفاً على { فاكهة } . وقرأ حمزة والكسائي وابن محيصن : " والحبَّ " بالرفع " ذو العصف والريحانِ " بخفض " الريحانِ " عطفاً على { العصف } ، كأن الحب هما له على أن { العصف } منه الورق . وكل ما يعصف باليد وبالريح فهو رزق البهائم ، { والريحان } منه الحب فهو رزق الناس ، " والريحان " على هذه القراءة : الرزق : لا يدخل فيه المشموم بتكلف .
{ والريحان } هو من ذوات الواو . قال أبو علي : إما أن يكون ريحان اسماً ووضع موضع المصدر ، وإما أن يكون مصدراً على وزن فعلان ، كالليان وما جرى مجراه أصله : روحان ، أبدلت الواو ياء كما بدلوا الواو ياء في أشاوى وإما أن يكون مصدراً شاذاً في المعتل كما شذ كينونة وبينونة ، فأصله ريوحان ، قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ، فجاء ريحان ، فخفف كما قالوا ميت وميت وهين وهين .
والآلاء : النعم ، واحدها إلى مثل معى وألى مثل قفا ، حكى هذين أبو عبيدة ، وألي مثل أمر وإلي مثل حصن ، حكى هذين الزهراوي . والضمير في قوله : { ربكما } للجن والإنس ، وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله : { للأنام } على ما تقدم من أن المراد به الثقلان ، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 14 ] { وخلق الجان } [ الرحمن : 15 ] فساغ تقديمهما في الضمير اتساعاً . وقال الطبري : يحتمل أن يقال هذا من باب ألقيا في جهنم ويا غلام اضربا عنقه . وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن ، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال : " إن جواب الجن خير من سكوتكم ، أي لما قرأتها على الجن قالوا : لا ، بأيها نكذب يا ربنا " .
(6/262)

{ الرحمن } بناء مبالغة من الرحمة ، وهو اسم اختص الله تعالى بالاتصاف به ، وحكى ابن فورك عن قوم أنهم يجعلون { الرحمن } آية تامة ، كأن التقدير : { الرحمن } ربنا ، قاله الرماني أو أن التقدير : الله { الرحمن } . وقال الجمهور إنما الآية : { الرحمن علم القرآن } فهو جزء آية .
وقوله : { علم القرآن } تعديد نعمة أي هو من به وعلمه الناس ، وخص حفاظه وفهمته بالفضل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " . ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق : أن الله تعالى ذكر { القرآن } في كتابه في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه ، وذكر { الإنسان } على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعاً ، كلها نصت على خلقه ، وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو ، و : { الإنسان } اسم الجنس ، حكاه الزهراوي وغيره . و : { البيان } النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول قاله ابن زيد والجمهور ، وذلك هو الذي فضل الإنسان من سائر الحيوان ، وقال قتادة : هو بيان الحلال والحرام والشرائع ، وهذا جزء من { البيان } العام ، وقال قتادة : { الإنسان } آدم . وقال ابن كيسان : { الإنسان } : محمد صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص لا دليل عليه ، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي علمه الإنسان ، فكأنه قال من ذلك البيان وفيه معتبر كون { الشمس والقمر بحسبان } فحذف هذا كله ، ورفع { الشمسُ } بالابتداء ، وهذا ابتداء تعديد نعم .
واختلف الناس في قوله : { بحسبان } فقال مكي والزهراوي عن قتادة : هو مصدر كالحساب في المعنى وكالغفران والطغيان في الوزن . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى والضحاك : هو جمع حساب ، كشهاب وشهبان ، والمعنى أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات شتى ، وهذا مذهب ابن عباس وأبي مالك وقتادة . وقال ابن زيد لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً ، يريد من مقادير الزمان . وقال مجاهد : " الحسبان " الفلك المستدير ، شبه بحسبان الرحى ، وهو العود المستدير الذي باستدارته تدور المطحنة .
وقوله : { والنجم والشجر يسجدان } قال ابن عباس والسدي وسفيان : { النجم } . النبات الذي لا ساق له ، وسمي نجماً لأنه نجم ، أي ظهر وطلع ، وهو مناسب للشجر نسبة بينة . وقال مجاهد وقتادة والحسن : { النجم } اسم الجنس من نجوم السماء ، والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض ، لأنها في ظاهرهما . وسمي { الشجر } من اشتجار غصونه وهو تداخلها .
واختلف الناس في هذا السجود ، فقال مجاهد : ذلك في النجم بالغروب ونحوه ، وفي الشجر بالظل واستدارته ، وكذلك في النجم على القول الآخر . وقال مجاهد أيضاً ما معناه : أن السجود في هذا كله تجوز ، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل ، ونحوه قول الشاعر [ زيد الخيل ] : [ الطويل ]
(6/263)

ترى الأكم فيها سجداً للحوافر ... وقال : { يسجدان } وهما جمعان ، لأنه راعى اللفظ ، إذ هو مفرد اسم للنوع وهذا كقول الشاعر [ عمير بن شييم القطامي ] : [ الوافر ]
ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا
وقرأ الجمهور : " والسماءَ رفعها " بالنصب عطفاً على الجملة الصغيرة وهي { يسجدان } لأن هذه الجملة من فعل وفاعل وهذه كذلك . وقرأ أبو السمال : " والسماءُ " بالرفع عطفاً على الجملة الكبيرة وهي قوله : { والنجم والشجر يسجدان } لأن هذه الجملة من ابتداء وخبر ، والأخرى كذلك .
وفي مصحف ابن مسعود : " وخفض الميزان " . ومعنى : { وضع } أقر وأثبت ، و { الميزان } : العدل فيما قال الطبري ومجاهد وأكثر الناس . وقال ابن عباس والحسن وقتادة : إنه الميزان المعروف .
قال القاضي أبو محمد : والميزان المعروف جزء من { الميزان } الذي يعبر به عن العدل . ويظهر عندي أن قوله : { وضع الميزان } يريد به العدل .
وقوله : { ألا تطغوا في الميزان } وقوله : { وأقيموا الوزن } وقوله : { ولا تخسروا الميزان } يريد به الميزان المعروف ، وكل ما قيل محتمل سائغ .
وقوله : { ألا تطغوا } نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان . وأما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس . " وأن لا " هو بتقدير لئلا ، أو مفعول من أجله . و : { تطغوا } نصب ، ويحتمل أن تكون " أن " مفسرة ، فيكون { تطغوا } جزماً بالنهي ، وفي مصحف ابن مسعود : " لا تطغوا في الميزان " بغير أن .
وقرأ جمهور الناس : " ولا تُخسروا " من أخسر ، أي نقص وأفسد ، وقال بلال بن أبي بردة " تَخسِروا " بفتح التاء وكسر السين من خسر ، ويقال خسر وأخسر بمعنى : نقص وأفسد ، كجبر وأجبر . وقرأ بلال أيضاً فيما حكى ابن جني : " تَخسَروا " ، بفتح التاء والسين من خسِر : بكسر السين .
واختلف الناس في : " الأنام " فقال ابن عباس فيما روي عنه هم بنو آدم فقط . وقال الحسن بن أبي الحسن : هم الثقلان : الجن والإنس . وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وابن زيد والشعبي : هم الحيوان كله . و { الأكمام } في { النخل } موجودة في الموضعين ، فجملة فروع النخلة في أكمام من ليفها ، وطلع النخل كمائم الزهر وبه شبه كم الثوب . { والحب ذو العصف } هو البر والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه وهي العصيفة إذا يبست ، ومنه قول علقمة بن عبدة : [ البسيط ]
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتيّ الماء مطموم
قال ابن عباس { العصف } التبن ، وتقول العرب : خرجنا نتعصف ، أي يستعجلون عصيفة الزرع .
وقرأ ابن عامر وأبو البرهسم : " والحبَّ " بالنصب عطفاً على { الأرض } " ذا العصف والريحانِ " إلا أن البرهسم خفض النون .
(6/264)

واختلفوا في { الريحان } ، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه : الرزق ، ومنه قول الشاعر وهو النمر بن تولب : [ المتقارب ]
سلام الإله وريحانه ... وجنته وسماء درر
وقال الحسن : هو ريحانكم هذا . وقال ابن جبير : هو كل ما قام على ساق ، وقال ابن زيد وقتادة : { الريحان } هو كل مشموم طيب الريح من النبات . وفي هذا النوع نعمة عظيمة . ففيه الأزهار والمندل والعقاقير وغير ذلك . وقال الفراء : { العصف } فيما يؤكل ، و { الريحان } كل ما لا يؤكل .
وقرأ جمهور الناس : " والحبُّ " بالرفع " ذو العصف والريحان " وهذه قراءة في المعنى كالأولى في الإعراب حسنة الاتساق عطفاً على { فاكهة } . وقرأ حمزة والكسائي وابن محيصن : " والحبَّ " بالرفع " ذو العصف والريحانِ " بخفض " الريحانِ " عطفاً على { العصف } ، كأن الحب هما له على أن { العصف } منه الورق . وكل ما يعصف باليد وبالريح فهو رزق البهائم ، { والريحان } منه الحب فهو رزق الناس ، " والريحان " على هذه القراءة : الرزق : لا يدخل فيه المشموم بتكلف .
{ والريحان } هو من ذوات الواو . قال أبو علي : إما أن يكون ريحان اسماً ووضع موضع المصدر ، وإما أن يكون مصدراً على وزن فعلان ، كالليان وما جرى مجراه أصله : روحان ، أبدلت الواو ياء كما بدلوا الواو ياء في أشاوى وإما أن يكون مصدراً شاذاً في المعتل كما شذ كينونة وبينونة ، فأصله ريوحان ، قلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ، فجاء ريحان ، فخفف كما قالوا ميت وميت وهين وهين .
والآلاء : النعم ، واحدها إلى مثل معى وألى مثل قفا ، حكى هذين أبو عبيدة ، وألي مثل أمر وإلي مثل حصن ، حكى هذين الزهراوي . والضمير في قوله : { ربكما } للجن والإنس ، وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله : { للأنام } على ما تقدم من أن المراد به الثقلان ، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 14 ] { وخلق الجان } [ الرحمن : 15 ] فساغ تقديمهما في الضمير اتساعاً . وقال الطبري : يحتمل أن يقال هذا من باب ألقيا في جهنم ويا غلام اضربا عنقه . وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن ، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال : " إن جواب الجن خير من سكوتكم ، أي لما قرأتها على الجن قالوا : لا ، بأيها نكذب يا ربنا " .
(6/265)

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)
قال كثير من المفسرين : { الإنسان } آدم . وقال آخرون : أراد اسم الجنس ، وساغ ذلك من حيث أبوهم مخلوق من الصلصال .
واختلف الناس في اشتقاق الصلصال ، فقال مكي فيما حكى النقاش : هو من صلّ اللحم وغيره إذا نتن ، فهي إشارة إلى الحمأة . وقال الطبري وجمهور المفسرين : هو من صلّ إذا صوت ، وذلك في الطين لكرمه وجودته ، فهي إشارة إلى ما كان من تربة آدم من الطين الحر ، وذلك أن الله تعالى خلقه من طيب وخبيث ومختلف اللون ، فمرة ذكر في خلقه هذا ، ومرة هذا ، وكل ما في القرآن في ذلك صفات ترددت على التراب الذي خلق منه . و " الفخار " : الطين الطيب إذا مسه الماء فخر أي ربا وعظم .
و : { الجان } اسم جنس ، كالجنة . و : " المارج " اللهب المضطرب من النار . قال ابن عباس : وهو أحسن النار المختلط من ألوان شتى . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر : " كيف بك إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم " .
وكرر قوله : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } تأكيداً أو تنبيهاً لنفوس وتحريكاً لها ، وهذه طريقة من الفصاحة معروفة ، وهي من كتاب الله في مواضع ، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي كلام العرب وذهب قوم منهم ابن قتيبة وغيره إلى أن هذا التكرار إنما هو لما اختلفت النعم المذكورة كرر التوقيف مع كل واحدة منها ، وهذا حسن . قال الحسين بن الفضي : التكرار لطرد الغفلة ولا تأكيد .
وخص ذكر { المشرقين والمغربين } بالتشريف في إضافة الرب إليهما لعظمهما في المخلوقات وأنهما طرفا آية عظيمة وعبرة وهي الشمس وجريها . وحكى النقاش أن { المشرقين } مشرقا الشمس والقمر ، { والمغربين } كذلك على ما في ذلك من العبر ، وكل متجه ، ومتى وقع ذكر المشرق والمغرب فهي إشارة إلى الناحيتين بجملتهما ، ومتى وقع ذكر المشارق والمغارب فهي إشارة إلى تفصيل مشرق كل يوم ومغربه ، ومتى ذكر المشرقان والمغربان ، فهي إشارة إلى نهايتي المشارق والمغارب ، لأن ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه . قال مجاهد : هو مشرق الصيف ومغربه ، ومشرق الشتاء ومغربه .
(6/266)

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)
{ مرج البحرين } معناه : أرسلهما إرسالاً غير منحاز بعضهما من بعض ، ومنه مرجت الدابة ، ومنه الأمر المريج ، أي المختلط الذي لم يتحصل منه شيء ، ومنه من { مارج من نار } [ الرحمن : 15 ] .
واختلف الناس في { البحرين } فقال الحسن وقتادة : بحر فارس وبحر الروم . وقال الحسن أيضاً : بحر القلزم واليمن وبحر الشام . وقال ابن عباس وابن جبير : هو بحر في السماء وبحر في الأرض . وقال ابن عباس أيضاً هو مطر السماء سماه بحراً وبحر الأرض . والظاهر عندي أن قوله تعالى : { البحرين } يريد بهما نوعي الماء العذب . والأجاج : أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض قريب بعضهما من بعض ولا بغي ، والعبرة في هذا التأويل منيرة ، وأنشد منذر بن سعيد : [ الطويل ]
وممزوجة الأمواه لا العذب غالب ... على الملح طيباً لا ولا الملح يعذب
أما قوله : { يلتقيان } فعلى التأولين الأولين معناه : هما معدان للالتقاء ، وحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ ، وعلى القول الثالث روي أنهما يلتقيان كل سنة مرة ، فمن ذهب إلى أنه بحر يجتمع في السماء فهو قول ضعيف وإنما يتوجه الالتقاء فيه . وفي القول الرابع بنزول المطر ، وفي القول الخامس بالأنهار في البحر وبالعيون قرب البحر . والبرزخ : الحاجز في كل شيء ، فهو في بعض هذه الأقوال أجرام الأرض ، قاله قتادة . وفي بعضها القدرة والبرزخ أيضاً : المدة التي بين الدنيا والآخرة للموتى ، فهي حاجز ، وقد قال بعض الناس : إن ماء الأنهار لا يختلط بالماء الملح ، بل هو بذاته باق فيه ، وهذا يحتاج إلى دليل أو حديث صحيح ، وإلا فالعيان لا يقتضيه . وذكر الثعلبي في : { مرج البحرين } ألغازاً وأقوالاً باطنة لا يجب أن يلتفت إلى شيء منها .
واختلف الناس في قوله : { لا يبغيان } فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة معناه : لا يبغي واحد منهما على الآخر . وقال قتادة أيضاً والحسن : { لا يبغيان } على الناس والعمران . وهذان القولان على أن اللفظة من البغي . وقال بعض المتأولين هي من قولك : بغى إذا طلب ، فمعناه : { لا يبغيان } حالاً غير حالهما التي خلقا وسخرا لها . وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : { اللؤلؤ } : كبار الجوهر { والمرجان } : صغاره . وقال ابن عباس أيضاً ومرة الهمداني عكس هذا ، والوصف بالصغر وهو الصواب في { اللؤلؤ } . وقال ابن مسعود وغيره { المرجان } : حجر أحمر ، وهذا هو الصواب في { المرجان } . و { اللؤلؤ } : بناء غريب لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة : اللؤلؤ والجؤجؤ والدؤدؤ واليؤيؤ وهو طائر ، والبؤبؤ وهو الأصل .
واختلف الناس في قوله : { منهما } فقال أبو الحسن الأخفش في كتابه الحجة ، وزعم قوم أنه قد ينفرج { اللؤلؤ والمرجان } من الملح ومن العذب .
قال القاضي أبو محمد : ورد الناس على هذا القول ، لأن الحس يخالفه ولا يخرج ذلك إلا من الملح وقد رد الناس على الشاعر في قوله : [ الطويل ]
(6/267)

فجاء بها ما شيت من لطمية ... على وجهها ماء الفرات يموج
وقال جمهور من المتأولين : إنما يخرج ذلك من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة ، فلذلك قال : { منهما } وهذا مشهور عند الغواصين . وقال ابن عباس وعكرمة : إنما تتكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ، لأن الصدف وغيرها تفتح أجوافها للمطر ، فلذلك قال : { منهما } وقال أبو عبيدة ما معناه : إن خروج هذه الأشياء إنما هي من الملح ، لكنه قال : { منهما } تجوزاً كما قال الشاعر [ عبد الله بن الزبعرى ] : [ مجزوء الكامل مرفّل ]
متقلداً سيفاً ورمحا ... وكما قال الآخر :
علفتها تبناً وماءً بارداً . ... فمن حيث هما نوع واحد ، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما وإن كانت تختص عند التفصيل المبالغ بأحدهما ، وهذا كما قال تعالى : { سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن } [ نوح : 15-16 ] ، وإنما هو في إحداهن وهي الدنيا إلى الأرض . قال الرماني : العذب فيهما كاللقاح للملح فهو كما يقال : الولد يخرج من الذكر والأنثى .
وقرأ نافع وأبو عمرو وأهل المدينة : " يُخرَج " بضم الياء وفتح الراء . " اللؤلؤُ " رفعاً . وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : " يَخرُج " بضم الياء وفتح الراء على بناء الفعل للفاعل ، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر . وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي عنه : " يُخرِج " بضم الياء وكسر الراء على إسناده إلى الله تعالى ، أي بتمكينه وقدرته ، " اللؤلؤَ " نصباً ، ورواها أيضاً عنه بالنون مضمومة وكسر الراء .
و : { الجواري } جمع جارية ، وهي السفن . وقرأ الحسن والنخعي بإثبات الياء . وقرأ الجمهور وأبو جعفر وشيبة بحذفها .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي : " المنشآت " بفتح الشين أي أنشأها الله والناس . وقرأ حمزة وأبو بكر بخلاف : " المنشِئات " بكسر الشين ، أي تنشئ هي السير إقبالاً وإدباراً ، و " الأعلام " الجبال وما جرى مجراها من الظراب والآكام . وقال مجاهد : ما له شراع فهو من { المنشآت } ، وما لم يرفع له شراع فليس من { المنشآت }
وقوله : { كالأعلام } هو الذي يقتضي هذا الفرق ، وأما لفظة { المنشئات } فيعم الكبير والصغير ، والضمير في قوله { كل من عليها } للأرض ، وكنى عنها ، ولم يتقدم لها ذكر لوضوح المعنى كما قال تعالى : { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] إلى غير ذلك من الشواهد ، والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره ، فغلب عبارة من يعقل ، فلذلك قال : { من } . والوجه عبارة عن الذات . لأن الجارحة منفية في حق الله تعالى : وهذا كما تقول : هذا وجه القول والأمر ، أي حقيقته وذاته .
وقرأ جمهور الناس : " ذو الجلال " على صفة لفظة الوجه . وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ : " ذي الجلال " على صفات الرب .
(6/268)

يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
قوله : { يسأله } يحتمل أن يكون في موضع الحال من الوجه ، والعامل فيه { يبقى } [ الرحمن : 27 ] أي هو دائم في هذه الحال ، ويحتمل أن يكون فعلاً مستأنفاً إخراباً مجرداً . والمعنى أن كل مخلوق من الأشياء فهو في قوامه وتماسكه ورزقه إن كان مما يرزق بحال حاجة إلى الله تعالى ، فمن كان يسأل بنطق فالأمر فيه بين ، ومن كان من غير ذلك فحاله تقتضي السؤال ، فأسند فعل السؤال إليه .
وقوله : { كل يوم هو في شأن } أي يظهر شأن من قدرته التي قد سبقت في الأزل في ميقاته من الزمن من إحياء وإماتة ورفعة وخفض ، وغير ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها إلا هو تعالى . والشأن : اسم جنس للأمور . قال الحسين بن الفضل : معنى الآية ، سوق المقادير إلى المواقيت . وورد في بعض الأحاديث ، " إن الله تعالى له كل يوم في اللوح المحفوظ ثلاثمائة وستون نظرة ، يعز فيها ويذل ، ويحيي ويميت ، ويغني ويعدم إلى غير ذلك من الأشياء ، لا إله إلا هو " . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقيل له ما هذا الشأن يا رسول الله؟ قال : يغفر ذنباً ، ويفرج كرباً ، ويرفع ويضع .
وذكر النقاش أن سبب هذه الآية قول اليهود : إن الله استراح يوم السبت ، فلا ينفذ فيه شيئاً .
وقوله تعالى : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه وقضى أن ينظر في أمور عباده وذلك يوم القيامة ، وليس المعنى : أن ثم شغلاً يتفرغ منه ، وإنما هي إشارة وعيد ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأزب العقبة لأفرغن لك يا خبيث " والتفرغ من كل آدمي حقيقة .
وفي قوله تعالى : { سنفرغ لكم } جرى على استعمال العرب ، ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا والأول أبين .
وقرأ نافع واين كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر : " سنفرُغ " بضم الراء وبالنون . وقرأ الأعرج وقتادة : ذلك بفتح الراء والنون ، ورويت عن عاصم ، ويقال فرغ بفتح الراء وفرغ بكسرها . ويصح منهما جميعاً أن يقال يفرغ بفتح الراء وقرأ عيسى بفتح النون وكسر الراء . وقال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : بالياء المفتوحة ، قرأ حمزة والكسائي : بضم الراء . وقرأ أبو عمرو : بفتحها . وقرأ الأعمش بخلاف ، وأبو حيوة : " سيُفرَغ " بضم الياء وفتح الراء وبناء الفعل للمفعول . وقرأ عيسى بن عمر أيضاً : " سنَفرِغ " ، بفتح النون وكسر الراء . وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " سنفرغ لكم أيها " .
و { الثقلان } الإنس والجن ، ويقال لكل ما يعظم أمره ثقل ، ومنه :
(6/269)

{ أخرجت الأرض أثقالها } [ الزلزلة : 2 ] . وقال النبي عليه السلام : " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي " . ويقال لبيض النعام ثقل . وقال لبيد : [ الكامل ]
فتذكرا ثقلاً رئيداً بعدما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر
وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه : سمي الإنس والجن ثقلين ، لأنهما ثقلا بالذنوب وهذا بارع ينظر إلى خلقهما من طين ونار .
وقرأ ابن عامر : " أيُّهُ الثقلان " بضم الهاء .
واختلف الناس في معنى قوله : { إن استطعتم أن تنفذوا } الآية ، فقال الطبري ، قال قوم : في الكلام محذوف وتقديره : يقال لكم { يا معشر الجن والإنس } ، قالوا وهذه حكاية عن حال يوم القيامة في { يوم التنادّ } [ غافر : 32 ] على قراءة من شدد الدال . قال الضحاك : وذلك أنه يفر الناس في أقطار الأرض ، والجن كذلك ، لما يرون من هول يوم القيامة ، فيجدون سبعة صفوف من الملائكة قد أحاطت بالأرض ، فيرجعون من حيث جاؤوا ، فحينئذ يقال لهم : { يا معشر الجن والإنس } . وقال بعض المفسرين : بل هي مخاطبة في الدنيا . والمعنى : { إن استطعتم } الفرار من الموت ب { أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض } . وقال ابن عباس المعنى : إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم أقطار السماوات والأرض . والأقطار : الجهات .
وقوله : { فانفذوا } صيغة الأمر ومعناه التعجيز ، والسلطان هنا القوة على غرض الإنسان ، ولا يستعمل إلا في الأعظم من الأمر والحجج أبداً من القوي في الأمور ، ولذلك يعبر كثير من المفسرين عن السلطان بأنه الحجة . وقال قتادة : السلطان هنا الملك ، وليس لهم ملك ، والشواظ : لهب النار . قاله ابن عباس وغيره . وقال أبو عمرو بن العلاء : لا يكون الشواظ إلا من النار وشيء معها ، وكذلك النار كلها لا تحس إلا وشيء معها . وقال مجاهد : الشواظ ، هو اللهب الأخضر المتقطع ، ويؤيد هذا القول . قول حسان بن ثابت يهجو أمية بن أبي الصلت :
هجوتك فاختضعت حليفا ذل ... بقاقية تؤجج كالشواظ
وقال الضحاك : هو الدخان الذي يخرج من اللهب وليس بدخان الحطب .
وقرأ الجمهور : " شُواظ " بضم الشين . وقرأ ابن كثير وحده وشبل وعيسى : " شِواظ " بكسر الشين وهما لغتان .
وقال ابن عباس وابن جبير : النحاس الدخان ، ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]
تضيء كضوء سراج السليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا
السليط دهن السراج . في النسخ التي بأيدينا دهن الشيرج .
وقرأ جمهور القراء : " ونحاسٌ " بالرفع عطفاً على { شواظ } ، فمن قال إن النحاس : هو المعروف ، وهو قول مجاهد وابن عباس أيضاً قال يرسل عليهما نحاس : أي يذاب ويرسل عليهما . ومن قال هو الدخان ، قال ويعذبون بدخان يرسل عليهما . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والنخعي وابن أبي إسحاق : " ونحاسٍ " بالخفض عطفاً على { نار } ، وهذا مستقيم على ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء . ومن رأى الشواظ يختص بالنار قدر هنا : وشيء من نحاس . وحكى أبو حاتم عن مجاهد أنه قرأ : " ونِحاسٍ " بكسر النون والجر . وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قرأ : " ونَحُسّ " بفتح النون وضم الحاء والسين المشددة ، كأنه يقول : ونقتل بالعذاب . وعن أبي جندب أنه قرأ : " ونحس " ، كما تقول : يوم نحس ، وحكى أبو عمرو مثل قراءة مجاهد عن طلحة بن مصرف ، وذلك لغة في نحاس ، وقيل هو جمع نحس .
ومعنى الآية : مستمر في تعجيز الجن والإنس ، أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا ينتصر .
(6/270)

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
جواب " إذا " محذوف مقصود به الإبهام ، كأنه يقول : { فإذا انشقت السماء } فما أعظم الهول ، وانشقاق السماء انفطارها عند القيامة . وقال قتادة : السماء اليوم خضراء وهي يوم القيامة حمراء ، فمعنى قوله : { وردة } أي محمرة كالوردة وهي النوار المعروف . وهذا قول الزجاج والرماني . وقال ابن عباس وأبو صالح والضحاك : هي من لون الفرس الورد ، فأنث لكون { السماء } مؤنثة .
واختلف الناس في قوله : { كالدهان } فقال مجاهد والضحاك : هو جمع دهن ، قالوا وذلك أن السماء يعتريها يوم القيامة ذوب وتميع من شدة الهول . وقال بعضهم : شبه لمعانها بلمعان الدهن . وقال جماعة من المتأولين الدهان : الجلد الأحمر ، وبه شبهها ، وأنشد منذر بن سعيد : [ الطويل ]
يبعن الدهان الحمر كل عشية ... بموسم بدر أو بسوق عكاظ
وقوله تعالى : { لا يسأل عن ذنبه } نفي للسؤال . وفي القرآن آيات تقتضي أن في القيامة سؤالاً ، وآيات تقتضي نفيه كهذه وغيرها ، فقال بعض الناس ذلك في مواطن دون مواطن ، وهو قول قتادة وعكرمة وقال ابن عباس وهو الأظهر في ذلك أن السؤال متى أثبت فهو بمعنى التوبيخ والتقرير ، ومتى نفي فهو بمعنى الاستخبار المحض والاستعلام ، لأن الله تعالى عليم بكل شيء . وقال الحسن ومجاهد : لا يسأل الملائكة عنهم ، لأنهم يعرفونهم بالسيما ، والسيما التي يعرف بها { المجرمون } هي سواد الوجوه وزرق العيون في الكفرة ، قاله الحسن . ويحتمل أن يكون غير هذا من التشويهات .
واختلف المتأولون في قوله تعالى : { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } . فقال ابن عباس : يؤخذ كل كافر بناصيته وقدميه فيطوى يجمع كالحطب ويلقى كذلك في النار . وقال النقاش : روي أن هذا الطي على ناحية الصلب قعساً وقاله الضحاك . وقال آخرون : بل على ناحية الوجه ، قالوا فهذا معنى : { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } . وقال قوم في كتاب الثعلبي : إنما يسحب الكفرة سحباً ، فبعضهم يجر بقدميه ، وبعضهم بناصيته ، فأخبر في هذه الآية أن الأخذ يكون { بالنواصي } ويكون ب { الأقدام } .
وقوله : { هذه جهنم } قبله محذوف تقديره : يقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ وفي مصحف ابن مسعود : " هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان " .
وقرأ جمهور الناس : " يَطُوفون " بفتح الياء وضم الطاء وسكون الواو . وقرأ طلحة بن مصرف : " يُطَوّفون " بضم الياء وفتح الطاء وشد الواو . وقرأ أبو عبد الرحمن : " يطافون " ، وهي قراءة علي بن أبي طالب . والمعنى في هذا كله أنهم يترددون بين نار جهنم وجمرها { وبين حميم } وهو ما غلي في جهنم من مائع عذابها . والحميم : الماء السخن . وقال قتادة : إن العذاب الذي هو الحميم يغلي منذ خلق الله جهنم . وأنى الشيء : حضر ، وأنى اللحم أو ما يطبخ أو يغلى : نضج وتناهى حره والمراد منه . ويحتمل قوله : { آن } أن يكون من هذا ومن هذا . وكونه من الثاني أبين ، ومنه قوله تعالى : { وغير ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] ومن المعنى الآخر قول الشاعر [ عمرو بن حسان الشيباني ] : [ الوافر ]
أنى ولكل حاملة تمام ... ويشبه أن يكون الأمر في المعنيين قريباً بعضه من بعض ، والأول أعم من الثاني .
(6/271)

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)
" من " في قوله تعالى : { ولمن } يحتمل أن تقع على جميع المتصفين بالخوف الزاجر عن معاصي الله تعالى ، ويحتمل أن تقع لواحد منهم وبحسب هذا قال بعض الناس في هذه الآية : إن كل خائف له { جنتان } . وقال بعضهم : جميع الخائفين لهم { جنتان } . والمقام هو وقوف العبد بين يدي ربه يفسره : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين : 6 ] وأضاف المقام إلى الله من حيث هو بين يديه . قال الثعلبي وقيل : { مقام ربه } قيامه على العبد ، بيانه : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } [ الرعد : 33 ] وحكى الزهراوي هذا المعنى عن مجاهد . وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف وتحريض على الخوف الذي هو أسرع المطايا إلى الله عز وجل . وقال قوم : أراد جنة واحدة ، وثنى على نحو قوله : { ألقيا في جهنم } [ ق : 24 ] وقول الحجاج : يا غلام اضربا عنقه .
وقال أبو محمد : هذا ضعيف ، لأن معنى التثنية متوجه فلا وجه للفرار إلى هذه الشاذة ، ويؤيد التثنية قوله { ذواتا أفنان } وهي تثنية ذات على الأصل . لأن أصل ذات : ذوات .
والأفنان يحتمل أن يكون جمع فنن ، وهو فنن الغصن ، وهذا قول مجاهد ، فكأنه مدحها بظلالها وتكاثف أغصانها ويحتمل أن يكون جمع فن ، وهو قول ابن عباس ، فكأنه مدحها بكثرة أنواع فواكهها ونعيمها .
و : { زوجان } معناه : نوعان . و : { متكئين } حال إما من محذوف تقديره يتنعمون { متكئين } . وإما من قوله : { ولمن خاف } . والاتكاء جلسة المتنعم المتمتع .
وقرأ جمهور الناس : " فرُش " بضم الراء . وقرأ أبو حيوة : " فرْش " بسكون الراء ، وروي في الحديث أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه البطائن { من استبرق } فكيف الظواهر؟ قال : " هي من نور يتلألأ " .
والاستبرق ما خشن وحسن من الديباج . والسندس : ما رق منه . وقد تقدم القول في لفظة الاستبرق . وقرأ ابن محيصن " من استبرق " على أنه فعل والألف وصل .
والضمير في قوله : { فيهن } للفرش ، وقيل للجنات ، إذ الجنتان جنات في المعنى . والجنى ما يجتنى من الثمار ، ووصفه بالدنو ، لأنه فيما روي في الحديث يتناوله المرء على أي حالة كان من قيام أو جلوس أو اضطجاع لأنه يدنو إلى مشتهيه . و : { قاصرات الطرف } هي الحور العين ، قصرن ألحاظهن على أزواجهن .
وقرأ أبو عمرو عن الكسائي وحده وطلحة وعيسى وأصحاب علي وابن مسعود : " يطمُثهن " بضم الميم . وقرأ جمهور القراء : " يطمِثهن " بكسر الميم . والمعنى : لم يفتضهن لأن الطمث دم الفرج ، فيقال لدم الحيض طمث ، ولدم الافتضاض طمث ، فإذا نفي الافتضاض ، فقد نفي القرب منهن بجهة الوطء . قال الفراء : لا يقال طمث إلا إذا افتض .
(6/272)

قال غيره : طمث ، معناه : جامع بكراً أو غيرها .
واختلف الناس في قوله : { ولا جان } فقال مجاهد : الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن ، إذا لم يذكر الزوج الله تعالى ، فتنفي هذه الآية جميع المجامعات . وقال ضمرة بن حبيب : الجن لهم { قاصرات الطرف } من الجن نوعهم ، فنفى في هذه الآية الافتضاض عن البشريات والجنيات .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل اللفظ أن يكون مبالغة وتأكيداً ، كأنه قال : { لم يطمثهن } شيء ، أراد العموم التام ، لكنه صرح من ذلك بالذي يعقل منه أن يطمث . وقال أبو عبيدة والطبري : إن من العرب من يقول : ما طمث هذا البعير حبل قط ، أي ما مسه .
قال القاضي أبو محمد : فإن كان هذا المعنى ما أدماه حبل ، فهو يقرب من الأول . وإلا فهو معنى آخر غير الذي قدمناه . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : " ولا جأن " بالهمز .
(6/273)

كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)
{ الياقوت والمرجان } : هي من الأشياء التي قد برع حسنها واستشعرت النفوس جلالتها ، فوقع التشبيه بها لا في جميع الأوصاف لكن فيما يشبه ويحسن بهذه المشبهات ، ف { الياقوت } في إملاسه وشفوفه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المرأة من نساء أهل الجنة : " يرى مخ ساقها من وراء العظم " { والمرجان } في إملاسه وجمال منظره ، وبهذا النحو من النظر سمت العرب النساء بهذه الأشياء كدرة بنت أبي لهب . ومرجانة أم سعيد وغير ذلك .
وقوله تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } آية ، وعد وبسط لنفوس جميع المؤمنين لأنها عامة . قال ابن المنكدر وابن زيد وجماعة من أهل العلم : هي للبر والفاجر . والمعنى أن جزاء من أحسن بالطاعة أن يحسن إليه بالتنعيم . وحكى النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية : " هل جزاء التوحيد إلا الجنة " .
وقوله تعالى : { ومن دونهما جنتان } اختلف الناس في معنى : { من دونهما } ، فقال ابن زيد وغيره معناه : أن هذين دون تينك في المنزلة والقدرة ، والأوليان جنتا السابقين ، والأخريان جنتا أصحاب اليمين . قال الرماني قال ابن عباس : الجنات الأربع للخائف { مقام ربه } [ الرحمن : 46 ] . وقال الحسن الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين . وقال ابن عباس ، المعنى : هما دونهما في القرب إلى المنعمين وهاتان المؤخرتان في الذكر أفضل من الأوليين ، يدل على ذلك أنه وصف عيني هذه بالنضخ والأخريين بالجري فقط ، وجعل هاتين مدهامتين من شدة النعمة ، والأوليين ذواتي أفنان ، وكل جنة ذات أفنان وإن لم تكن مدهامة .
قال القاضي أبو محمد : وأكثر الناس على التأويل الأول ، وهذه استدلالات ليست بقواطع . وروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال : جنتان للمقربين من ذهب ، وجنتان لأهل اليمين من فضة مما دون الأولين .
و : { مدهامتان } معناه قد علا لونهما دهمة وسواد في النضرة والخضرة ، كذا فسره ابن الزبير على المنبر ، ومنه قوله تعالى : { الذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى } [ الأعلى : 5 ] ، والنضاخة الفوارة التي يهيج ماؤها . وقال ابن جبير المعنى : { نضاختان } بأنواع الفواكه ، وهذا ضعيف . وكرر النخل والرمان لأنهما ليسا من الفواكه . وقال يونس بن حبيب وغيره : كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفاً لهما وإشادة بهما كما قال تعالى : { وجبريل وميكال } [ البقرة : 98 ] .
(6/274)

فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{ خيرات } جمع خيرة ، وهي أفضل النساء ، ومنه قول الشاعر [ أنشده الطبري ] : [ الكامل ]
ربلات هند خيرة الملكات ... وقالت أم سلمة : قلت يا رسول الله : أخبرني عن قوله تعالى : { خيرات حسان } قال : " { خيرات } الأخلاق { حسان } الوجوه " .
وقرأ أبو بكر بن حبيب السهمي : " خيِّرات حسان " بشد الياء المكسورة . وقرأ أبو عمرو بفتح الياء .
وقوله : { مقصورات } أي محجوبات . وكانت العرب تمدح النساء بملازمة البيوت ، ومنه قول الشاعر [ أبو قيس بن الأسلت ] : [ الطويل ]
وتعتل في إتيانهن فتعذر ... يصف أن جارتها يزرنها ولا تزورهن . ويروى أن بيت الأعشى قد ذم وهو قوله : [ البسيط ]
كأن مشيتها من بين جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
فقيل في ذمه : هذه جوالة خراجة ولاجة ، ومن مدح القصر قول كثير : [ الطويل ]
وأنت التي حببت كل قصيرة ... إليّ ولم تشعر بذاك القصائر
أريد قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء البحاتر
قال الحسن : { مقصورات في الخيام } ليس بطوافات في الطرق ، و { الخيام } : البيوت من الخشب والثمام وسائر الحشيش ، وهي بيوت المرتحلين من العرب ، وخيام الجنة بيوت اللؤلؤ . وقال عمر بن الخطاب : هي در مجوف . ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان بيت المسكين عند العرب من شعر فهو بيت ، ولا يقال له خيمة ، ومن هذا قول جرير : [ الوافر ]
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام
ومنه قول امرئ القيس : [ المتقارب ]
أمرخ خيامهم أم عشر ... يستفهم هل هم منجدون أم غائرون لأن العشر مما لا ينبت إلا في تهامة ، والمرخ مما لا ينبت إلا في نجد .
والرفرف : ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب والبسط : وكذلك قال ابن عباس وغيره : إنها فضول المحابيس والبسط ، وقال ابن جبير ، الرفرف : رياض الجنة .
قال القاضي أبو محمد : والأول أصوب وأبين ، ووجه قول ابن جبير : إنه من رف البيت ، إذا تنعم وحسن ، وما تدلى حول الخباء من الخرقة الهفافة يسمى رفرفاً ، وكذلك يسميه الناس اليوم . وقال الحسن ابن أبي الحسن ، الرفرف : المرافق ، والعبقري : بسط حسان فيها صور وغير ذلك ، تصنع بعبقر ، وهو موضع يعمل فيه الوشي والديباج ونحوه قال ابن عباس : العبقري : الزرابي . وقال ابن زيد : هي الطنافس . وقال مجاهد : هي الديباج الغليظ .
وقرأ زهير الفرقبي : " رفارفَ " بالجمع وترك الصرف . وقرأ أبو طمعة المدني : وعاصم في بعض ما روي عنه " رفارفٍ " بالصرف ، وكذلك قرأ عثمان بن عفان : " رفارفٍ وعباقرٍ " بالجمع والصرف ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وغلط الزجاج والرماني هذه القراءة . وقرأ أيضاً عثمان في بعض ما روي عنه : " عبَاقَر " : بفتح القاف والباء ، وهذا على أن اسم الموضع " عبَاقَر " بفتح القاف ، والصحيح في اسم الموضع : " عبقر " ، قال الشاعر [ امرؤ القيس ] : [ الطويل ]
(6/275)

كأن صليل المروحين تشذه ... صليل الزيوف بنتقدن بعبقرا
قال الخليل والأصمعي : إذا استحسنت شيئاً واستجادته قالت { عبقرى } .
قال القاضي أبو محمد : ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه " وقال عبد الله بن عمر : العبقري سيد القوم وعينهم . وقال زهير : [ الطويل ]
بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوماً أن ينالوا فيستعلوا
ويقال عبقر : مسكن للجن . وقال ذو الرمة : [ البسيط ]
حتى كأن رياض القف ألبسها ... من وشي عبقر تجليل وتنجيد
وقرأ الأعرج : " خضُر " بضم الضاد . وقرأ جمهور الناس : " ذي الجلال " على اتباع الرب . وقرأ ابن عامر وأهل الشام . " ذو " على اتباع الاسم ، وكذلك في الأول ، وفي حرف أبيّ وابن مسعود ، " ذي الجلال " في الموضعين ، وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه .
والدعاء بهاتين الكلمتين حسن مرجو الإجابة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " .
نجز تفسير سورة الرحمن : وصلى الله على مولانا محمد سيد ولد عدنان .
(6/276)

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
{ الواقعة } : اسم من أسماء القيامة ك { الصاعقة } [ البقرة : 55 ، النساء : 153 ] و { الأزفة } [ غافر : 18 ، النجم : 57 ] و { الطامة } [ النازعات : 34 ] قاله ابن عباس ، وهذه كلها أسماء تقتضي تعظيمها وتشنيع أمرها . وقال الضحاك : { الواقعة } : الصيحة وهي النفخة في الصور . وقال بعض المفسرين : { الواقعة } : صخرة بيت المقدس ، تقع عند القيامة ، فهذه كلها معان لأجل القيامة . و : { كاذبة } يحتمل أن يكون مصدراً كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين . فالمعنى ليس لها تكذيب ولا رد مثنوية ، وهذا قول قتادة والحسن ويحتمل أن يكون صفة لمقدر ، كأنه قال : { ليس لوقعتها } حال { كاذبة } ، ويحتمل الكلام على هذا معنيين : أحدهما { كاذبة } ، أي مكذوب فيما أخبر به عنها فسماها { كاذبة } بهذا ، كما تقول هذه قصة كاذبة أي مكذوب فيها ، والثاني حالة كاذبة أي لا يمضي وقوعها ، كما تقول : فلان إذا حمل لم يكذب .
وقوله : { خافضة رافعة } رفع على خبر ابتداء ، أي هي { خافضة رافعة } .
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وأبو حيوة : " خافضةً رافعةً " بالنصب على الحال بعد الحال التي هي { لوقعتها كاذبة } ولك أن تتابع الأحوال . كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ ، والقراءة الأولى أشهر وأبرع معنى ، وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لم يذكر لاستغني عنه وموقع الجمل التي يجزم بها موقع ما يتهمم به .
واختلف الناس في معنى هذا الخفض والرفع في هذه الآية ، فقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة : القيامة تخفض أقواماً إلى النار ، وترفع أقواماً إلى النار ، وترفع أقواماً إلى الجنة . وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الصيحة تخفض قوتها لتسمع الأدنى وترفعها لتسمع الأقصى . وقال جمهور من المتأولين : القيامة بتفطر السماء والأرض والجبال انهدام هذه البنية ، ترفع طائفة من الأجرام وتخفض أخرى ، فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب ، والعامل في قوله : { إذا رجت } ، { وقعت } ، لأن { إذا } هذه بدل من { إذا } الأولى ، وقد قالوا : إن { وقعت } هو العامل في الأولى ، وذلك لأن معنى الشرط فيها قوي ، فهي ك " من " و " ما " في الشرط ، يعمل فيها ما بعدها من الأفعال ، وقد قيل إن { إذا } مضافة إلى { وقعت } فلا يصح أن يعمل فيها ، وإنما العامل فيها فعل مقدر . ومعنى : { رجت } زلزلت وحركت بعنف ، قاله ابن عباس ، ومنه ارتج السهم في الغرض إذا اضطرب بعد وقوعه ، والرجة في الناس الأمر المحرك .
واختلف اللغويون في معنى : { بست } فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة معناه : فتتت ، كما تبس البسيسة وهي السويق ، ويقال بسست الدقيق إذا ثريته بالماء وبقي مفتتاً ، وأنشد الطبري في هذا : [ الرجز ]
لا تخبزا خبزاً وبسّا بسّا ... وقال هذا قول لص أعجله الخوف عن العجين ، فقال لصاحبه هذا .
(6/277)

وقال بعض اللغويين : { بست } معناه سيرت قالوا والخبز سير الشديد وضرب الأرض بالأيدي ، والبس : السير الرفيق ، وأنشد البيت : [ الرجز ]
لا تخبزا خبزاً وبسّا بسّا ... وجنباها نهشلاً وعبسا
ولا تطيلا بمناخ حبسا ... ذكر هذا أبو عثمان اللغوي في كتابه في الأفعال .
و " الهباء " : ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة ، ولا يكاد يرى إلا في الشمس إذا دخلت من كوة ، قاله ابن عباس ومجاهد . وقال قتادة : الهباء : ما تطاير من يبس النبات . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الهباء : ما تطاير من حوافر الخيل والدواب . وقال ابن عباس أيضاً ، الهباء : ما تطاير من شرر النار ، فإذا طفي لم يوجد شيئاً . والمنبث : بتالتاء المثلثة ، الشائع في جميع الهواء .
وقرأ النخعي : " منبتاً " بالتاء بنقطتين ، أي متقطعاً ، ذكر ذلك الثعلبي .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول في هباء أحسن الأقوال .
والخطاب في قوله : { وكنتم } لجميع العالم ، لأن الموصوفين من { أصحاب المشأمة } ليسوا في أمة محمد ، والأزواج : الأنواع والضروب . قال قتادة : هذه منازل الناس يوم القيامة .
وقوله تعالى : { فأصحاب الميمنة } ابتداء ، و : { ما } ابتداء ثان . و : { أصحاب الميمنة } خبرها ، والجملة خبر الابتداء الأول ، وفي الكلام معنى التعظيم ، كما تقول زيد ما زيد ، ونظير هذا في القرآن كثير ، و { الميمنة } : أظهر ما في اشتقاقها أنها من ناحية اليمين ، وقيل من اليمن ، وكذلك { المشأمة } إما أن تكون من اليد الشؤمى ، وإما أن تكون من الشؤم ، وقد فسرت هذه الآية بهذين المعنيين ، إذ { أصحاب الميمنة } الميامين على أنفسهم ، قاله الحسن والربيع ، ويشبه أن اليمن والشؤم إنما اشتقا من اليمنى والشؤمى وذلك على طريقهم في السانح والبارح ، وكذلك اليمن والشؤم اشتقا من اليمنى والشؤمى .
وقوله : { والسابقون } ابتداء و : { السابقون } الثاني . قال بعض النحويين : هو نعت للأول ، ومذهب سيبويه أنه خبر الابتداء ، وهذا كما تقول العرب : الناس الناس ، وأنت أنت ، وهذا على معنى تفخيم أمر وتعظيمه ، ومعنى الصفة هو أن تقول : { والسابقون } إلى الإيمان { السابقون } إلى الجنة والرحمة { أولئك } ، ويتجه هذا المعنى على الابتداء والخبر .
وقوله : { أولئك المقربون } ابتداء وخبر ، وهو في موضع الخبر على قول من قال : { السابقون } الثاني صفة ، و : { المقربون } معناه من الله في جنة عدن . قال جماعة من أهل العلم : وهذه الآية متضمنة أن العالم يوم القيامة على ثلاثة أصناف : مؤمنون ، هم على يمين العرش ، وهنالك هي الجنة ، وكافرون ، هم على شؤمى العرش ، وهنالك هي النار . والقول في يمين العرش وشماله نحو من الذي هو في سورة الكهف في اليمين والشمال . وقد قيل في { أصحاب الميمنة } واليمين : إنهم من أخذ كتابه بيمينه ، وفي { أصحاب المشأمة } والشمال : إنهم من أخذه بشماله ، فعلى هذا ليست نسبة اليمين والشمال إلى العرش .
(6/278)

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أصحاب اليمين أطفال المؤمنين ، وقيل المراد ميمنة آدم ومشأمته المذكورتان في حديث الإسراء في الأسودة .
و : { السابقون } معنه : قد سبقت لهم السعادة ، وكانت أعمالهم في الدنيا سبقاً إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي ، فهذا عموم في جميع الناس . وخصص المفسرون في هذا أشياء ، فقال عثمان بن أبي سودة : هم { السابقون } إلى المساجد . وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا القبلتين . وقال كعب : هم أهل القرآن ، وقيل غير هذا مما هو جزء من الأعمال الصالحة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وسئل عن السابقين ، فقال : " هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوا بذلوه ، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم " .
وقرأ طلحة بن مصرف : " في جنة النعيم " على الإفراد . و : { المقربون } عبارة عن أعلى منازل البشر في الآخرة ، وقيل لعامر بن عبد قيس في يوم حلبة من سبق فقال { المقربون } .
(6/279)

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
الثلة : الجماعة والفرقة ، وهو يقع للقليل والكثير ، واللفظ في هذا الموضوع يعطي أن الجملة { من الأولين } أكثر من الجملة { من الآخرين } ، وهي التي عبر عنها بالقليل .
واختلف المتأولون في معنى ذلك ، فقال قوم حكى قولهم مكي : المراد بذلك الأنبياء ، لأنهم كانوا في صدر الدنيا أكثر عدداً ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : المراد السابقون من الأمم والسابقون من الأمة ، وذلك إما أن يقترن أصحاب الأنبياء بجموعهم إلى أصحاب محمد فأولئك أكثر لا محالة ، وإما أن يقترن أصحاب الأنبياء ومن سبق في أثناء الأمم إلى السابقين من جميع هذه الأمة فأولئك أكثر . وروي أن الصحابة حزنوا لقلة سابق هذه الأمة على هذا التأويل فنزلت : { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } [ الواقعة : 39-40 ] فرضوا . وروي عن عائشة أنها تأولت أن الفرقتين في أمة كل نبي وهي في الصدر { ثلة } وفي آخر الأمة { قليل } " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه : " الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة { ثلة } وسابق سائرها إلى يوم القيامة { قليل } " .
وقرأ الجمهور : " سرُر " بضم الراء . وقرأ أبو السمال : " سرَر " بفتح الراء .
والموضونة : المنسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض كحلف الدرع ، فإن الدرع موضونة ، ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]
ومن نسج داود موضونة ... تسير مع الحي عيراً فعيرا
وكذلك سفيفة الخوص ونحوه { موضونة } ، ومنه وضين الناقة وهو حزامها ، لأنه موضون ، فهو كقتيل وجريح ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
إليك تعدو قلقاً وضينها ... معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها ... قال ابن عباس : هذه السرر الموضونة هي المرمولة بالذهب ، وقال عكرمة : هي مشبكة بالدر والياقوت . و : { متكئين } و : { متقابلين } حالان فيهما ضمير مرفوع ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " متكئين عليها ناعمين " . والولدان : صغار الخدم ، عبارة عن أنهم صغار الأسنان ، ووصفهم بالخلد وإن كان جميع ما في الجنة كذلك إشارة إلى أنهم في حال الولدان { مخلدون } لا تكبر بهم سن . وقال مجاهد : لا يموتون . قال الفراء : { مخلدون } معناه مقرطون بالخلدات ، وهي ضرب من الأقراط ، والأول أصوب ، لأن العرب تقول للذي كبر ولم يشب : إنه لمخلد . والأكواب : ما كان من أواني الشرب لا أذن له ولا خرطوم ، قال ابن عباس : هي جرار من فضة . وقال أبو صالح : مستديرة أفواهها . وقال قتادة والضحاك . ليست لها عرى ، والإبريق ما له خرطوم ، وقال مجاهد وأذن ، وهو من أواني الخمر عند العرب ، ومنه قول عدي بن زيد : [ الخفيف ]
وتداعوا إلى الصبوح فقامت ... قينة في يمينها إبريق
والكأس : الآنية المعدة للشرب بها بشريطة أن يكون فيها خمر أو نبيذ أو ما هو سبيل ذلك ، ومتى كان فارغاً فينسب إلى جنسه زجاجاً كان أو غيره ، ولا يقال الآنية فيها ماء ولبن كأس .
(6/280)

وقوله : { من معين } قال ابن عباس معناه : من خمر سائلة جارية معينة . ولفظة { معين } يحتمل أن يكون من معن الماء إذا غزر ، فوزنها فعيل ويحتمل أن تكون من العين الجارية أو من الباصرة ، فوزنها مفعول أصلها معيون ، وهذا تأويل قتادة .
وقوله : { لا يصدعون عنها } ذهب أكثر المفسرين إلى أن المعنى : لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا ، وقال قوم معناه : لا يفرقون عنها ، بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما يفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق ، وهذا كما قال : " فتصدع السحاب عن المدينة " الحديث .
وقوله : { ولا ينزفون } قال مجاهد وقتادة وابن جبير والضحاك معناه : لا تذهب عقولهم سكراً ، والنزيف : السكران ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج ... وقرأ ابن أبي إسحاق : " ولا يَنزِفون " بكسر الزاي وفتح الياء ، من نزف البئر إذا استقى ماءها ، فهي بمعنى تم خمرهم ونفدت ، هكذا قال أبو الفتح . وحكى أبو حاتم عن ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة وابن مسعود وأبي عبد الرحمن وعيسى : بضم الياء وكسر الزاي . قال معناه : لا يفني شرابهم ، والعرب تقول : أنزف الرجل عبرته ، وتقول أيضاً ، أنزف : إذا سكر ، ومنه قول الأبيرد : [ الطويل ]
لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُ ... لبيس الندامى أنتمُ آل أبجرا
وعطف الفاكهة على الكأس والأباريق .
وقوله : { مما يشتهون } روي فيه أن العبد يرى الطائر يطير فيشتهيه فينزل له كما اشتهاه ، وربما أكل منه ألواناً بحسب تصرف شهوته ، إلى كثير مما روي في هذا المعنى .
وقرأ حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم : " وحورٍ عينٍ " بالخفض ، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن والأعمش وأبي القعقاع وعمرو بن عبيد . وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود : " وحوراً عيناً " بالنصب . وقرأ الباقون من السبعة : " وحورٌ عينٌ " بالرفع ، وكل هذه القراءات محمولة الإعراب على المعنى لا على اللفظ . كأن المعنى قبل ينعمون بهذا كله وب " حورٍ عينٍ " ، وهذا المعنى في قراءة النصب ويعطون هذا كله " وحوراً عيناً " ، وكان المعنى في الرفع : لهم هذا كله " وحورٌ عينٌ " ، ويجوز أن يعطف : { وحور } على الضمير في : { متكئين } . قال أبو علي : ولم يؤكد لكون الكلام بدلاً من التأكيد ، ويجوز أن يعطف على الولدان وإن كان طواف الحور يقلق ، ويجوز أن يعطف على الضمير المقدر في قوله : { على سرر } وفي هذا كله نظر ، وقد تقدم معنى : { حور عين } .
وقرأ إبراهيم النخعي : " وحير عين " .
وخص { المكنون } من { اللؤلؤ } لأنه أصفى لوناً وأبعد عن الغير ، وسألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه فقال :
(6/281)

" صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي " . و : { جزاء بما كانوا يعملون } أي هذه الرتب والنعم هي لهم بحسب أعمالهم ، لأنه روي أن المنازل والقسم في الجنة ، هي مقتسمة على قدر الأعمال ، ونفس دخول الجنة هو برحمة الله وفضله لا بعمل عامل ، فأما هذا الفضل الأخير أن دخولها ليس بعمل عامل ، ففيه حديث صحيح ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل أحد الجنة بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة " .
واللغو : سقط القول من فحش وغيره . والتأثيم : مصدر ، بمعنى : لا يؤثم أحد هناك غيره ولا نفسه بقول . فكان يسمع ويتألم بسماعه . و : { قليلاً } مستثنى ، والاستثناء متصل ، وقال قوم : هو منقطع . و : { سلاماً } نعت للقيل ، كأنه قال : إلا { قيلاً } سالماً من هذه العيوب وغيرها . وقال أبو إسحاق الزجاج أيضاً { سلاماً } مصدر ، وناصبه { قيلاً } كأنه يذكر أنهم يقول بعضهم لبعض { سلاماً سلاماً } . وقال بعض النحاة { سلاماً } منتصب بفعل مضمر تقديره : أسلموا سلاماً .
(6/282)

وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
السدر : شجر معروف ، وهو الذي يقال له شجر أم غيلان ، وهو من العضاه ، له شوك ، وفي الجنة شجر على خلقته ، له ثمر كقلال هجر ، طيب الطعم والريح ، وصفه تعالى بأنه { مخضود } ، أي مقطوع الشوك ، لا أذى فيه ، وقال أمية بن أبي الصلت :
إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود
وعبر بعض المفسرين عن { مخضود } بأنه الموقر حملاً ، وقال بعضهم : هو قطع الشوك ، وهو الصواب ، أما إن وقره هو كرمه ، وروي عن الضحاك أن بعض الصحابة أعجبهم سدروج فقالوا : ليتنا في الآخرة في مثل هذا ، فنزلت الآية .
قال القاضي أبو محمد : ولأهل تحرير النظر هنا إشارة في أن هذا الخضد بإزاء أعمالهم التي سلموا منها ، إذ أهل اليمين توابون لهم سلام وليسوا بسابقين . والطلح كذلك من العضاة شجر عظام كثير الشوك وشبهه في الجنة على صفات مباينة لحال الدنيا . و : { منضود } معناه مركب ثمره بعضه على بعض من أرضه إلى أعلاه .
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجعفر بن محمد وغيره : " طلع منضود " ، فقيل لعلي إنما هو : { طلح } . فقال : ما للطلح وللجنة؟ فقيل له أنصلحها في المصحف فقال : إن المصحف اليوم لا يهاج ولا يغير . وقال علي بن أبي طالب وابن عباس : الطلح : الموز ، وقاله مجاهد وعطاء . وقال الحسن : ليس بالموز ، ولكنه شجر ظله بارد رطب . والظل الممدود ، معناه : الذي لا تنسخه شمس ، وتفسير ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة لا يقطعها ، واقرؤوا إن شئتم : { وظل ممدود } " إلى غير هذا من الأحاديث في هذا المعنى . وقال مجاهد : هذا الظل هو من طلحها وسدرها .
وقوله تعالى : { وماء مسكوب } أي جار في غير أخاديد ، قاله سفيان وغيره ، وقيل المعنى : يناسب . لا تعب فيه بسانية ولا رشاء .
وقوله تعالى : { لا مقطوعة } أي بزوال الإبان ، كحال فاكهة الدنيا ، { ولا ممنوعة } ببعد التناول ولا بشوك يؤذي في شجراتها ولا بوجه من الوجوه التي تمتنع بها فاكهة الدنيا .
وقرأ جمهور الناس : " وفرُش " بضم الراء . وقرأ أبو حيوة : " وفرْش " بسكونها ، والفرش : الأسرة ، وروي من طريف أبي سعيد الخدري : أن في ارتفاع السرير منها خمسمائة سنة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا والله أعلم لا يثبت ، وإن قدر فمتأولاً خارجاً عن ظاهره . وقال أبو عبيدة وغيره : أراد بالفرش النساء .
و : { مرفوعة } معناه : في الأقدار والمنازل ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [ عمرو بن الأهتم التميمي ] : [ البسيط ]
ظللت مفترش الهلباء تشتمني ... عند الرسولِ فلم تصدقْ ولم تصب
(6/283)

ومنه قول الآخر في تعديد على صهره :
وأفرشتك كريمتي ... وقوله تعالى : { إنا أنشأناهن إنشاء } قال قتادة : الضمير عائد على الحور العين المذكورات قبل وهذا فيه بعد ، لأن تلك القصة قد انقضت جملة . وقال أبو عبيدة معمر : قد ذكرهن في قوله : { فرش } فلذلك رد الضمير وإن لم يتقدم ذكر لدلالة المعنى على المقصد ، وهذا كقوله تعالى : { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] ونحوه : و : { أنشأناهن } معناه : خلقناهن شيئاً بعد شيء . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية : " عجائزكن في الدنيا عمشاً رمصاً " وقال لعجوز : " إن الجنة لا يدخلها العجز " ، فحزنت ، فقال : " إنك إذا دخلت الجنة أنشئت خلقاً آخر " .
وقوله تعالى : { فجعلناهن أبكاراً } قيل معناه : دائمات البكارة متى عاود الواطئ وجدها بكراً . والعرب جمع عروب ، وهي المتحببة إلى زوجها بإظهار محبته ، قاله ابن عباس والحسن ، وعبر عنهم ابن عباس أيضاً بالعواشق ، ومنه قول لبيد :
وفي الحدوج عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر
وقال ابن زيد العروب : الحسنة الكلام ، وقد تجيء العروب صفة ذم على غير هذا المعنى وهي الفاسدة الأخلاق كأنها عربت ومنه قول الشاعر [ ابن الأعرابي ] : [ الطويل ]
وما بدل من أم عثمان سلفع ... من السود ورهاء العنان عروب
وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي : " عرُباً " بضم الراء . وقرأ حمزة والحسن والأعمش : " عرْباً " بسكونها وهي لغة بني تميم ، واختلف عن نافع وأبي عمرو وعاصم .
وقوله : { أتراباً } معناه في الشكل والقد حتى يقول الرائي هم أتراب ، والترب هو الذي مس التراب مع تربه في وقت واحد . قال قتادة : { أتراباً } يعني سناً واحدة ، ويروى أن أهل الجنة على قد ابن أربعة عشر عاماً في الشباب والنضرة ، وقيل على مثال أبناء ثلاث وثلاثين سنة مرداً بيضاً مكحلين .
واختلف الناس في قوله : { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره ، الأولون : سالف الأمم ، منهم جماعة عظيمة أصحاب يمين ، والآخرون : هم هذه الأمة ، منهم جماعة عظيمة أهل يمين .
قال القاضي أبو محمد : بل جميعهم إلا من كان من السابقين . وقال قوم من المتأولين : هاتان الفرقتان في أمة محمد ، وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الثلثان من أمتي " فعلى هذا التابعون بإحسان ومن جرى مجراهم ثلة أولى ، وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان .
(6/284)