الكتاب : الكشف والبيان ـ موافق للمطبوع
المؤلف: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري
دار النشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - 1422 هـ - 2002 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 10
تحقيق : الإمام أبي محمد بن عاشور
مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
" صفحة رقم 119 "
فرفعوها إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل اللّه تعالى ) يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية إثنان ( .
قال أهل الكوفة : معناه ليشهد إثنان لفظ الآية خبر ومعناها أمر . قال أهل البصرة : معناه شهادة بينكم شهادة إثنين فألقيت الشهادة وأقيمت الإثنان مقامهما كقوله ) وسئل القرية ( أي أهل القرية ما ( بقي ) أهل وأقام القرية مقامه فنصبها .
وقال بعضهم : معناه شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت أن يشهد إثنان ) ذوا عدل ( أمانة وعقل ) منكم ( يا معشر المؤمنين من أهل دينكم وملتكم .
قاله جميع المفسرين إلاّ عكرمة وعبيد فإنهما قالا : معناه من حيّ الموصي .
واختلفوا في صفة الإثنين ، فقال قوم : هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي .
وقال آخرون : هما الوصيان أراد الله تأكيد الأمر فجعل الوصي إثنين دليل هذا التأويل أنه عقَّبه بقوله : ) تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان ( ولا يلزم الشاهد يمين ، ولأن الآية نزلت في الوصيين ، وعلى هذا القول تكون الشهادة بمعنى الحضور ، كقولك : شهدت فلان أي حضرت ، قال اللّه تعالى ) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ( الآية ، فقال : ) وليشهد عذابهما طائفة من المسلمين ( .
) أو آخران من غيركم ( ملّتكم وهو قول إبن المسيب والنخعي وابن جبير ومجاهد وعبيدة ويحيى بن يعمر وأبي محجن قالوا : إذا لم يجد مسلمين فليشهد كافرين .
قال شريح إذا كان الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلماً يشهده على وصيته فليشهد يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن وأيّ كافر كان فشهادته جائزة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلاّ في سفرة ولا يجوز في سفر إلاّ في وصية فإن جاء رجلان مسلمان وشهدا بخلاف شهادتهما أجيزت شهادة المسلمين فأبطلت شهادة الكافرين .
وعن الشعبي : إن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة فأوصى ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد ، الذي كان في عهد رسول اللّه فأحلفهما وأمضى شهادتهما .
قال آخرون : معناه من غير حيكم وعشيرتكم . وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة قالوا : لا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر .
(4/119)

" صفحة رقم 120 "
) إن أنتم ضربتم في الأرض ( سرتم وسافرتم في الأرض ) فأصابتكم مصيبة الموت ( فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما فلم ( يأمنان الإرتياب بحق ) الورثة فاتهموهما في ذلك فادّعوا عليهما خيانة ، فإن الحكم حينئذ أن تحبسونهما ، أي تستوقفونهما ) من بعد الصلاة ( وقال ابن عباس : هذا من صلة قوله ) أو آخران من غيركم ( من الكفار فأما إذا كانا مسلمين ، فلا يمين عليهما ، واختلفوا في هذه الصلاة ما هي .
فقال النخعي والشعبي وابن جبير وقتادة : من بعد صلاة العصر . وقال السدي : من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان صلاة العصر ) فيقسمان باللّه ( فيحلفان ) إن إرتبتم ( شككتم ) لا نشتري به ثمناً ( يقول لا نحلف باللّه كاذبين على عرض نأخذ عليه ( لو أن يكن يذهب إليه في ويجحده ) ) ولو كان ذا قربى ( ولو كان الذي يقسم له به ذا قربى ذا قرابة معنا ) ولا نكتم شهادة اللّه ( قرأ الشعبي لا نكتم شهادة اللّه بالتنوين ، اللّه بخفض الهاء على الإتصال أراد اللّه على القسم .
وروي عن أبي جعفر ( شهادة الله ) بقطع الألف وكسر أولها على معنى ولا نكتم شهادة ثم إبتدأ يميناً فقال : اللّه أي واللّه ( . . . . . . . . . . ) ( يعقب ) بتنوين الشهادة ، ( اللّه ) بالألف واللام وكسر الهاء وجعل الإستفهام حرفاً من حروف القسم ، فروي عن بعضهم شهادة منونة ، اللّه بنصب الهاء يعني ولا نكتم شهادة اللّه أما إن فعلنا ذلك ) إنا إذاً لمن الآثمين ( فلما نزلت الآية على رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة العصر ودعا بعدي وتميم ، فاستحلفا عند المنبر باللّه الذي لا إله إلاّ هو أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إليهما فحلف على ذلك وخلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) سبيلهما حين حلفا فكتما الإناء ما شاء اللّه أن يكتما ثمّ ظهر واختلفوا في كيفية ظهور الإناء .
فروى ابن جبير عن ابن عباس إن الإناء وجد بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم .
قال الآخرون : لما طالت المدة اظهر الإناء وبلغ ذلك بني تميم فأتوهما في ذلك . فقالا : إنا كنّا قد اشترينا منهم هذا وقالوا : ألم تزعما بأن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه ؟ قالا : لم يكن عندنا ثمنه فكرهنا أن نقر لكم به ( فكتمناكموه ) لذلك فرفعوهما لرسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل اللّه
المائدة : ( 107 ) فإن عثر على . . . . .
) فإن عثر ( أي أطلع وظهر وأصل العثر الوقوع والسقوط على الشيء ومنه قوله : عثرت بكذا إذا أصبته وصدمته ووقعت عليه .
قال الأعمش :
بذات لوث عفرناة إذا عثرت
فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
(4/120)

" صفحة رقم 121 "
يعنى بقوله : عثرت أصاب ميم خفها مجر أو غيره ، ثمّ يستعمل في كل واقع على شيء كان عنه خفياً كقولهم في أمثالهم : عثرت على الغزل بأخرة فلم تدع بنجد قردة .
) على إنهما ( يعني الوصيين ) إستحقا إثماً ( أي استوجبا إثماً بأيمانهما الكاذبة وخيانتهما ) فآخران ( من أولياء الميت ) يقومان مقامهما ( يعني مقام الوصيين ) من الذين إستحق ( .
قرأ الحسن وحفص بفتح التاء وهي قراءة علي وأُبي بن كعب أي وجب عليهم الإثم يقال حق واستحق بمعنى وقال : ) الأوليان ( رجع إلى قوله : فآخران الأوليان ولم يرتفع بالإستحقاق .
وقرأ الباقون : بضم التاء على المجهول يعني الذين استحق فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت ، إستحق الحالفان بسببهم وفيهم الإثم على المعنى في كقوله : ) على ملك سليمان ( .
وقال صخر الغي :
متى ما تنكروها تعرفوها
على أقطارها علق نفيث
) الأوليان ( بالجمع قرأه أكثر أهل الكوفة واختيار يعقوب أي من الذين الأولين .
وقرأ الحسن : الأولون ، وقرأ الآخرون الأوليان على لغت الآخرين وإنما جاز ذلك ، الأولان معرفة والآخران بكثرة لأنه حين قال من الذين وحدهما ووصفهما صار كالمعرفة في المعنى .
) فيقسمان باللّه لشهادتنا ( أي واللّه لشهادتنا ) أحق من شهادتهما ( يعني يميننا أحق من يمينهما . نظيره قوله ) فشهادة أحدهم أربع شهادات ( في قصة اللعان أراد الأيمان ، وهذا كقول القائل : أشهد باللّه وله أقسم ) وما اعتدينا ( في يميننا ) إنا إذاً لمن الظالمين ( فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة السهميان حلفا باللّه بعد العصر مرّة فدفع الجام إليهما وإلى أولياء الميت ، وكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : صدق اللّه عز قوله أنا أخذت الجام فأتوب إلى اللّه وأستغفره .
وإنما إنتقل اليمين إلى الأوليان ، لأن الوصيين صح عليهما الإناء ثم ادعيا أنهما ابتاعاه ، وكذلك إذا ادعى الوصي أن الموصي أوصى له بشيء ولم يكن ثم بينة ، وكذلك إذا ادعى رجل قبل رجل مالا فأقرّ المدعي عليه بذلك ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي أو وهبها له المدعي ، فإن في هذه المسائل واشتباهها يحكم برد اليمين على المدعي .
روى محمد بن إسحاق عن أبي النضير عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم
(4/121)

" صفحة رقم 122 "
الداري ، قال : بعنا الجام بألف درهم فقسمناه أنا وعدي فلما أسلمت تأثمت من ذلك بعد ما حلفت كاذباً وأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه فأتوا به إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فسألهم البينة فلم يجدوا . فأمر الموالي أن يحلفوا فحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي ورددت أنا الخمسمائة فذلك قوله
المائدة : ( 108 ) ذلك أدنى أن . . . . .
) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ( أي ذلك أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم إذا خافوا ردّ اليمين وإلزامهم الحق .
) واتقوا اللّه واسمعوا ( الآية . واختلفوا في حكم الآية . فقال بعضهم : هي منسوخة وروى ذلك ابن عباس . وقال الآخرون : هي محكمة وهي الصواب
المائدة : ( 109 ) يوم يجمع الله . . . . .
) يوم ( أي إذكروا واحذروا يوم ) يجمع اللّه الرسل ( وهو يوم القيامة ) فيقول ( لهم ) ماذا أجبتم ( أي ما الذي أجابتكم أمتكم وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي ) قالوا ( أي فيقولون ) لا علم لنا ( قال ابن عباس : لا علم لنا إلاّ علم أنت أعلم به منا .
وقال ابن جريح : معنى قوله ) ماذا أجبتم ( أي ما حملوا ويصدقوا بعدكم فيقولوا : لا علم لنا .
الحسن ومجاهد ، السدي ممن يقول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يحتسبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أمتهم .
( ) إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِىءُ الاَْكْمَهَ وَالاَْبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِىإِسْرَاءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُواْ ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لاَِوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىأُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِىأَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَم
(4/122)

" صفحة رقم 123 "
ُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ( 2
المائدة : ( 110 ) إذ قال الله . . . . .
قوله ) إذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم ( يعني حين قال اللّه يا عيسى بن مريم ، محل عيسى نصب لأنه نداء المنصوب إذا جعلته نداء واحداً ، فإن شئت جعلته ندائين فيكون عيسى في محل الرفع لأنه نداء مفرد وابن في موضع النصب لأنه نداء مضاف ، وتقدير الكلام يا عيسى يابن مريم . نظيره قوله :
يا حكم بن المنذر بن الجارود
أنت الجواد ابن الجواد ابن الجود
ذلك في حكم الرفع والنصب ، وليس بن المنذر عن النصب ) أذكر نعمتي ( قال الحسن : ذكر النعمة شكرها وأراد بقوله نعمتي نعمي لفظه واحد ومعناه الجمع كقوله تعالى ) وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها ( أراد نعم اللّه لأن العدد لا ينفع على الواحد ) عليك ( يا عيسى ) وعلى والدتك ( مريم ، ثم ذكر النعم ) إذ أيّدتك ( قويّتك وأعنتك ) بروح القدس ( يعني جبرئيل ) تكّلم الناس في المهد ( صبياً ) وكهلاً ( نبياً ) وإذ علمتك الكتاب ( قال ابن عباس : أرسله اللّه وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه اللّه إليه .
) وإذا علمتك الكتاب ( يعني الخط ) والحكمة ( يعني العلم والقيم ) والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين ( وتجعل وتصوّر وتقدر إلى قوله ) فتبارك اللّه أحسن الخالقين ( أي المصورين من الطين ) كهيئة الطير ( كصورة الطير .
) بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني ( حياً يطير بإذني ) وتبرىء ( تصح وتشفي ) الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى ( من قبورهم أحياء ) بإذني ( فأحيا سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية ) وإذ كففت ( منعت وصرفت ) بني إسرائيل ( يعني اليهود ) عنك ( حين همّوا بقتلك ) إذ جئتهم بالبينات ( يعني الدلالات والمعجزات التي ذكرتها ) فقال الذين كفروا منهم إن هذا ( ما هذا ) إلاّ سحر مبين ( يعني ما جاءتهم من البينات ومن قال ساحر بالألف فإنه راجع إلى عيسى ( عليه السلام ) .
(4/123)

" صفحة رقم 124 "
محمد بن عبد اللّه بن حمدون ، مكي بن عبدان ، أبو الأزهر عن أسباط عن مجاهد بن عبد اللّه ابن عمير قال : لما قال اللّه لعيسى ( اذكر نعمتي عليك ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد ولم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أدركه الليل بات .
المائدة : ( 111 ) وإذ أوحيت إلى . . . . .
) وإذ أوحيت إلى الحواريين ( أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم الوحي . والوحي على أقسام ، وحي بمعنى إرسال جبرئيل إلى الرسول ، ووحي بمعنى الإلهام كالإيحاء إلى أم موسى والنحل ووحي بمعنى الأحلام في حال اليقضة في المنام .
قال أبو عبيدة : أوحى لها : أي إليها ، وقال الشاعر :
ومن لها القرار فاستقرت
وشدها بالراسيات الثبت
يعني أمرت ( وإلى ) صلة يقال : أوحى ووحى . قال اللّه ) بأن ربك أوحى لها ( .
قال العجاج : أوحى لها القرار فاستقرّت .
أي أمرها بالقرار فقرت . والحواريون خواص أصحاب عيسى .
قال الحسن : كانوا قصارين . وقال مجاهد : كانوا صيادين .
وقال السدي : كانوا ملاحين .
وقال قتادة : الحواريون الوزراء .
وقال عكرمة : هم الأصفياء . وكانوا إثني عشر رجلاً ، بطرس ويعقوب ويحنس واندرواسى وخيلبس وأبرثلما ومتى ، وتوماس ، ويعقوب بن حلقيا ، وتداوسيس ، وفتاتيا ، وتودوس ، ) أن آمنوا بي وبرسولي ( عيسى ) قالوا ( حين لقيتهم ورفقتهم ) آمنا واشهد بأننا مسلمون }
المائدة : ( 112 ) إذ قال الحواريون . . . . .
) إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل ( .
قرأ علي وعائشة وابن عباس وابن جبير ومجاهد : هل تستطيع بالتاء ، ربك بنصب الباء ، وهو اختيار الكسائي وأبي عبيد على معنى هل تستطيع أن تدعو ربّك كقوله ) واسأل القرية ( وقالوا : لأن الحواريين لم يكونوا شاكّين في قدرة اللّه تعالى . وقرأ الباقون بالياء قيل : يستطيع ربك برفع الباء فقالوا : إنهم لم يشكوا في قدرة اللّه تعالى وإنما معناه هل ينزل أم لا كما يقول الرجل لصاحبه : هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنّه يستطيع وإنّما يريد هل يفعل أم لا
(4/124)

" صفحة رقم 125 "
وأجراه بعضهم على الظاهر ، فقالوا : غلط قوم وكانوا مشوا ، فقال لهم عيسى عند الغلط استعظاماً لقولهم : هل يستطيع ربك ) إتقوا اللّه إن كنتم مؤمنين ( أي أن تشكوا في قدرة اللّه تعالى أو تنسبوه إلى عجز أو نقصان ولستم بمؤمنين والمائدة هي الخوان الذي عليه الطعام وهي فاعلة إذا أعطاه وأطعمه ، كقولهم : ماد يميد ، وغار يغير ، وامتاد إفتعل ومنه قول روبة :
تهدى رؤس المترفين الأنداد
إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستعطي .
قال رؤبة : والمائدة هي المطعمة المعطية الآكلين الطعام وسمي الطعام أيضاً مائدة على الخوان لأنه يؤكل على المائدة كقولهم للمطر سماء ، وللشحم ثرى .
وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لأنها تميد الآكلون أي تميل ومنه قوله ) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ( .
قال الشاعر :
وأقلقني قتل الكناني بعده
وكادت بي الأرض الفضاء تميد
فقال أهل البصرة : هي فاعلة بمعنى المفعول أي تميد بالآكلين إليها ، كقوله عيشة راضية أي مرضية ، قال عيسى مجيباً لهم ) اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ( فلا تشكوا في قدرته . وقيل : إتقوا اللّه أن تسألوه شيئاً لم يسأله الأمم قبلكم
المائدة : ( 113 ) قالوا نريد أن . . . . .
) قالوا ( إنما سألنا لأنا ) نريد أن نأكل منها ( نستيقن قدرته ) وتطمئن ( تسكن ) قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ( بإنك رسول اللّه .
) ونكون عليها من الشاهدين ( للّه بالوحدانية والقدرة ولك بالنبوة والرسالة ، وقيل : ونكون عليها من الشاهدين لك عند بني اسرائيل ، إذا رجعنا إليهم ، قال عيسى عند ذلك
المائدة : ( 114 ) قال عيسى ابن . . . . .
) اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون ( حال ردّ إلى الإستقبال أي كائنة وذلك كقوله ) فهب لي من لدنك ولياً يرثني ( يعني يصدقني في قراءة من رفع .
وقرأ عبد اللّه والأعمش : تكن لنا بالجزم على جواب الدعاء .
) عيداً لأولنا وآخرنا ( أي عائداً من علينا وحجة وبرهاناً والعيد إسم لما أعتد به وعاد إليك من كل شيء ومنه قيل : أيام الفطر والأضحى عيد لأنهما يعودان كل سنة .
ويقال : لطيف الخيال عيد
(4/125)

" صفحة رقم 126 "
قال الشاعر :
يا عيد مالك من شوق وإيراق
ومرّ طيف على الأهوال طراق
فقال آخر :
إعتاد قلبك من جبينك عود
شق عناك فأنت عنه تذود
وأنشد الفراء :
فوا كبدي من لاعج الحب والهوى
إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها
وأصله عود بالواو ولأنه من عاد يعود إذا رجع فقلبت الواو بالكسرة ما قبلها مثل النيران والميقات والميعاد .
قال السدي : معناه نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا .
وقال سفيان : نصلي فيه .
وقال الخليل بن أحمد : العيد كل يوم مجمع كأنهم عادوا إليه .
وقال ابن الأنصاري : سمي العيد عيداً للعود من الترح إلى الفرح فهو يوم سرور للخلق كلهم ألا ترى أن المسجونين لا يطالبون ولا يعاقبون ولا تصطاد فيه الوحوش والطيور ولا ينفذ الصبيان إلى المكتب ، وقيل : سمي عيداً لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إختلاف ملابسهم وأحوالهم وأفعالهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يظلم ومنهم من يرحم ، وقيل : سمي بذلك لأنه يوم شريف فاضل تشبيهاً بالعيد وهو فحل نجيب كريم ومشهور في العرب وينسبون إليه فيقال : إبل عيدية . قال الراعي :
عيد به طويت على زفراتها
طي القناطر قد نزلن نزولا
وقوله ) لأولنا وآخرنا ( يعني قبل زماننا ولمن يجيء بعدنا .
وقرأ زيد بن ثابت : لأولنا وآخرنا على الجميع .
وقال ابن عباس : يعني نأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم
(4/126)

" صفحة رقم 127 "
) وآية منك ( دلالة وحجة ) وارزقنا وأنت خير الرازقين قال اللّه ( مجيباً لعيسى
المائدة : ( 115 - 116 ) قال الله إني . . . . .
) إني منزلها عليكم ( يعني المائدة .
وقرأ أهل الشام والمدينة ، وقتادة وعاصم : منزلها في التشديد لأنها نزلت وقرأت والتفعل يدل في الكثير مرة بعد مرة لقوله ونزلناه تنزيلاً .
وقرأ الباقون بالتخفيف لقوله : أنزل علينا ) فمن يكفر بعد منكم ( أي بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير .
وقال عبد اللّه بن عمران : أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون .
وإختلف العلماء في المائدة هل نزلت عليهم أم لا ؟
فقال مجاهد : ما نزلت المائدة وهذا مثل ضربه اللّه .
وقال الحسن : واللّه ما نزلت مائدة إن القوم لما سمعوا الشرط وقيل لهم ) فمن يكفر بعد منكم ( الآية إستغفروا وقالوا : لا نريدها ولا حاجة فيها فلم ينزل ، والصواب إنها نزلت لقوله : ) إني منزلها عليكم ( ولا يقع في خبره الخلف ، وتواترت . الأخبار عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه والتابعين وغيرهم من علماء الدين في نزولها ، قال كعب : نزلت يوم الأحد ، لذلك اتخذه النصارى عيداً .
وإختلفوا في صفتها وكيف نزولها وما عليها .
فروى قتادة عن جلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( نزلت المائدة خبزاً ولحماً وذلك أنهم سألوا عيسى طعاماً يأكلون منه لا ينفد ، قال ، فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا أو تخبوا أو ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتكم ، قال : فما مضى يومهم حتى خبوا ورفعوا وخانوا ) .
وقال إسحاق بن عبد اللّه : إن بعضهم سرق منها ، وقال لعلها لا تنزل أبداً فرفعت ومسخوا قردة وخنازير .
وقال ابن عباس : إن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل : صوموا ثلاثين يوماً ثم سلوا اللّه ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوماً فلما فرغوا قالوا : يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا طعاماً ولأصبحنا من وجعنا ، فادع لنا اللّه أن ينزل علينا مائدة من السماء فنزل الملائكة بمائدة يحملونها ، عليه سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم وأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم : / /
وروى عطاء بن سائب عن باذان وميسرة قالا : كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل إختلفت عليهم الأيدي من السماء بكل طعام إلاّ اللحم .
(4/127)

" صفحة رقم 128 "
وقال ابن جبير عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلاّ الخبز واللحم .
قال عطاء : نزل عليها كل شيء إلاّ السمك واللحم .
قال العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء .
وقال عمار وقتادة : كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمر من ثمار الجنة .
وقال وهب بن منبه : أنزل اللّه أقرصة من شعير وحيتاناً ، فقيل لوهب : ما كان ذلك يغني عنهم ، قال : لا شيء ولكن اللّه أضعف لهم البركة ، فكان لهم يأكلون ثم يخرجون فيجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوها جميعهم وفضل .
وقال الكلبي ومقاتل : إستجاب اللّه لعيسى ( عليه السلام ) فقال إني منزلها عليكم كما سألتم فمن أكل من ذلك الطعام ثم لا يؤمن جعلته مثلاً ، ولعنة لمن بعدهم ، قالوا : قد رضينا فدعا شمعون وكان أفضل الحواريين ، فقال : هل لكم طعام ؟ قال : نعم معي سمكتان صغيرتان وستة أرغفة ، فقال : عليّ بها فقطعهن عيسى قطعاً صغاراً ، ثم قال : اقعدوا في روضة فترفقوا رفاقاً كل رفقة عشرة ، ثم قام عيسى ودعا اللّه فاستجاب اللّه له ونزل فيها البركة فصار خبزاً صحاحاً وسمكاً صحاحاً ، ثم قام عيسى فجعل يلقي في كل رفقة ما عملت أصابعه ثم قال : كلوا بسم اللّه فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم فأكلوا ما شاء اللّه وفضل خمس الذيل ، والناس خمسة آلاف ونيف .
وقال الناس جميعاً : نشهد إنك عبده ورسوله ثم سألوا مرة أخرى فدعا عيسى ( عليه السلام ) فأنزل اللّه خبزاً وسمكاً وخمسة أرغفة وسمكتين فصنع بها ما صنع في المرة الأولى فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا هذا الحديث ضحك منهم من لم يشهدوا وقالوا لهم : ويحكم إنما سحر أعينكم . فمن أراد به الخير بثَّته على بصيرته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره ، فمسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا إمرأة فمكثوا بذلك أيام ثم هلكوا ولم تبق ولم يأكلوا ولم يشربوا فكذلك كل ممسوخ .
وقال كعب الأحبار : نزلت مائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلاّ اللحم .
وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشية حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل .
فقال يمان بن رئاب : كانوا يأكلون منها ما شاؤا .
وروى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي إنه قال : واللّه ما اتبع عيسى ( عليه السلام ) شيئاً من المآذي قط ولا انتهر شيئاً ولا قهقه ضحكاً ولا ذبّ ذباباً عن وجهه ولا أخلف على أنفه من أي شيء قط ولا عتب إليه . ولما سأله الحواريون أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفاً وبكى ،
(4/128)

" صفحة رقم 129 "
وقال : اللهم أنزل علينا مائدة من السماء الآية وارزقنا عليها طعاماً نأكله وأنت خير الرازقين فنزل اللّه سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها ( وهي تجيء مرتفعة ) حتى سقطت من أيديهم فبكى عيسى فقال : اللهم إجعلني من الشاكرين ، اللهم إجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة .
واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحه ، فقال عيسى : أيكم أحسنكم عملاً فيكشف عنها ويذكر إسم اللّه ويأكل منها ؟
فقال شمعون رئيس الحواريين : أنت بذلك أولى منا ، فقام عيسى وتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيراً ثم كشف المنديل عنها وقال : بسم اللّه خير الرازقين ، فإذا هو بسمكة مشوية ليس عليها ضلوعها ولا شوك فيها سيل سيلاً من الدسم وعند رأسها ملح ويمتد ذنبها خل وجهها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد .
فقال شمعون : يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة ؟ فقال عيسى : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء فعله اللّه بالقدرة العالية فكلوا مما سألتم مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منكم في الآخرة .
وقال محمد بن كعب : تعلم ما أريد فلا أعلم ما تريد .
وقال عبد العزيز بن يحيى : تعلم سرّي ولا أعلم سرّك لأن السرّ هو موضعه الأنفس .
قال الزجاج : يعلم جميع ما أعلم ولا أعلم ما يعلم من النفس عبارة عن حملة الشيء وحقيقته وذاته ولا أنه ) إنك أنت عّلام الغيوب ( ما كان وما يكون
المائدة : ( 117 ) ما قلت لهم . . . . .
) ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا اللّه ( وحّدوه وأطيعوه ولا تشركوا به شيئاً ) وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ( أقمت فيهم ) فلما توفيتني ( قبضتني إليك .
قال الحسن : الوفاة في كتاب اللّه على ثلاثة أوجه ، وفاة الموت وذلك قوله ) اللّه يتوفى الأنفس حين موتها ( يعني وجعل نقصان أجلها وفاة النوم ، وذلك قوله ) وهو الذي يتوفاكم بالليل ( يعني ينيمكم ، ووفاة بالرفع كقوله ) إني متوفيك ورافعك 2 )
المائدة : ( 118 ) إن تعذبهم فإنهم . . . . .
) إن تعذبهم فإنهم عبادك ( وقرأ الحسن : فإنهم عبيدك وإن يتوبوا فيغفر لهم ) فإنك أنت العزيز الحكيم ( .
(4/129)

" صفحة رقم 130 "
وقال السدي : إن تعذبهم وتميتهم بنصرانيتهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك الرب العزيز الحكيم في الملك والنقمة ، الحكيم في قضائك .
المائدة : ( 119 - 120 ) قال الله هذا . . . . .
قال اللّه ) هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ( في الآخرة .
قال قتادة : متكلمان خطها يوم القيامة وهو ما قص اللّه عليكم وعدو اللّه إبليس وهو قوله ) وقال الشيطان لما قضي ( الأمر فصدهم عن ذلك يومئذ وكان قبل ذلك كاذباً فلم ينفعه صدقه يومئذ ، وأما عيسى فكان صادقاً في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه .
وقال عطاء : هذا يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة ليس فيها عمل إنما فيها الثواب والجزاء ، ويوم رفع على خبر هذا ، ونصبه نافع على الحرف يعني إنما تكون هذه الأشياء في يوم ينفع الصادقين صدقهم ، وقرأ الحسن : هذا يوم بالتنوين ، ثم بيّن لهم ثوابها فقال ) لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ( فازوا بالجنة ونجوا مما خافوا ، ثم عظّم نفسه عمّا قالت النصارى من بهتان بأن معه إلها فقال ) للّه ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ( .
(4/130)

" صفحة رقم 131 "
( سورة الأنعام )
مكية كلها غير ست آيات منها نزلت في المدينة ) وما قدروا اللّه حق قدره ( إلى آخر ثلاث آيات وقوله ) قل تعالوا أتل عليكم نبأكم ( إلى قوله ) لعلكم تتقون ( فهذه الست مدنيات وباقي السورة كلها نزلت بمكة مجملة واحدة ليلاً ومعها سبعون ألف ملك وقد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( سبحان اللّه العظيم ) وخر ساجداً ثم دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم . وهي مائة وخمس وستون آية وكلها حجاج على المشركين ، كلماتها ثلاثة آلاف وإثنان وخمسون كلمة وحروفها إثنا عشر ألفاً وأربعمائة وعشرون حرفاً .
روى إبن عباس عن أُبي بن كعب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوماً وليلة ) ( 126 ) .
مسلم عن أبي صالح عن جابر بن عبد اللّه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله ) ويعلم ما تكسبون ( وكل اللّه به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد ، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له ويوحي في قلبه شيئاً ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجاباً فإذا وكل يوم القيامة يقول للرب تبارك وتعالى أبشر في ظلي وكُل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السبيل وأنت عبدي فأنا ربك ) ( 127 ) .
قال سعيد بن جبير : لم ينزل من الوحي شيء إلاّ ومع جبرئيل أربعة من الملائكة يحفظونه
(4/131)

" صفحة رقم 132 "
من بين يديه ومن خلفه وهو قوله تعالى ) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ( إلاّ الأنعام فإنها تنزل ومعها سبعون ألف ملك .
وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عبد اللّه بن خليفة قال : قال عمر ( رضي الله عنه ) : الأنعام من نواجب القرآن .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
( ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىأَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاَْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاَْرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاَْنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَقَالُواْ لَوْلاأُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الاَْمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ قُلْ سِيرُواْ فِى الاَْرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( 2
الأنعام : ( 1 ) الحمد لله الذي . . . . .
) الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض ( الآية .
قال مقاتل : قال المشركون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من ربك ؟ قال : الذي خلق السماوات والأرض فكذبوه فأنزل اللّه عز وجل حامداً نفسه دالاّ بصفته على وجوده وتوحيده . ) الحمد للّه الذي خلق السماوات في يومين ( يوم الأحد ويوم الأثنين ) الأرض في يومين ( يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ) وجعل الظلمات والنور ( قال السدي : يعني ظلمة الليل ونور النهار .
وقال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان .
وقال قتادة : يعني الجنة والنار وإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور يتعدى والظلمة لا تتعدى
(4/132)

" صفحة رقم 133 "
وقال أهل المعاني : جعل هاهنا صلة والعرب تريد جعل في الكلام .
وقال أبو عبيدة : وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والواحد إثنين لمّا هدَّني الكبر مجاز الآية : الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور ، وقيل : معناه خلق السماوات والأرض وقد جعل الظلمات والنور لأنه خلق الظلمة والنور قبل خلق السماوات والأرض .
وقال قتادة : خلق اللّه السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار .
وقال وهب : أول ما خلق اللّه مكاناً مظلماً ثم خلق جوهرة فصارت ذلك المكان ، ثم نظر إلى الجوهرة نظر الهيئة فصارت دماً فارتفع بخارها وزبدها ، فخلق من البخار السماوات ومن الزبد الأرضين .
وروى عبد اللّه بن عمرو عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( إن اللّه عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه يومئذ من ذلك النور إهتدى ومن أخطأه ضلّ ) ) ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ( .
قال قطرب : هو مختصر يعني الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون الأوثان أي يشركون وأصله من مساواة الشيء بالشيء يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته به .
وقال النضر بن شميل : الباء في قوله : ) بربهم ( بمعنى عن ، وقوله : ) يعدلون ( من العدول . أي يكون ويعرفون .
وأنشد :
وسائلة بثعلبة بن سير
وقد علقت بثعلبة العلوق
وأنشد :
شرين بماء البحر ثم ترفعت
متى لجج خضر لهن نئيج
أي من البحر قال اللّه تعالى : ) عيناً يشرب بها عباد اللّه ( أي منها .
محمد بن المعافى عن أبي صالح عن ابن عباس قال : فتح أول الخلق بالحمد لله ، فقال : ) الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض ( وختم بالحمد ، فقال : ) وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد للّه رب العالمين ( .
(4/133)

" صفحة رقم 134 "
حماد عن عبد اللّه بن الحرث عن وهب قال : فتح اللّه التوراة بالحمد فقال : الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض وختمها بالحمد فقال : ) وقل الحمد للّه الذي لم يتخذ ولداً ( الآية .
الأنعام : ( 2 ) هو الذي خلقكم . . . . .
قوله تعالى : ) هو الذي خلقكم من طين ( يعني آدم ( عليه السلام ) فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده .
وقال السدي : بعث اللّه جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطينة منها فقالت الأرض : إني أعوذ باللّه منك أن تنقص مني فرجع ولم يأخذ ، وقال : يا ربّ إنها عاذت بك ، فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه باللّه فقال : أنا أعوذ باللّه أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط التربة الحمر والسودا والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والمالح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال اللّه عز وجل لملك الموت رَحِمَ جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك .
وروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن اللّه خلق آدم من تراب جعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأً مسنوناً خلقه وصوّره ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار ( فكان ابليس يمرّ به فيقول ) خلقت لأمر عظيم ثم نفخ اللّه فيه روحه ) ) ثم قضى أجلاً وأجلٌ مسمىً عنده ( .
قال الحسن وقتادة والضحاك : الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت . والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : ثم قضى أجلاً يعني أجل الدنيا وأجل مسمىً عنده وهو الآخرة .
عطية عن ابن عباس : ثم قضى أجلاً هو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة . ) أجل مسمى عنده ( هو أجل موت الإنسان . ثم قضى أجلاً يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها لا تجاوزونها ، وأجل مسمى يعني وهو أجل مسمى عنده لا يعلمه غيره ، الأجل المسمى هو الأجل الآجل .
) ثم أنتم تمترون ( تشكون في البعث
الأنعام : ( 3 ) وهو الله في . . . . .
) وهو اللّه في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ( يعني وهو إله السماوات وإله الأرض .
(4/134)

" صفحة رقم 135 "
مقاتل : يعلم سر أعمالكم وجهرها ، قال : وسمعنا أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد ، محمد بن أحمد البلخي يقول : هو من مقاديم الكلام وتقديره وهو اللّه يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض فلا يخفى عليه شيء ) ويعلم ما تكسبون ( تعملون من الخير والشر
الأنعام : ( 4 ) وما تأتيهم من . . . . .
) وما تأتيهم ( يعنى كفار أهل مكّة ) من آية من آيات ربهم ( مثل انشقاق القمر وغيره ) إلاّ كانوا عنها معرضين ( لها تاركين وبها مكذبين
الأنعام : ( 5 ) فقد كذبوا بالحق . . . . .
) فقد كذبوا بالحق ( يعني القرآن وقيل : محمد عليه الصلاة والسلام ) لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ( أي أخبار استهزائهم وجزاؤه فهذا وعيد لهم فحاق بهم هذا الوعيد يوم يرونه
الأنعام : ( 6 ) ألم يروا كم . . . . .
) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ( يعني الأمم الماضية والقرن الجماعة من الناس وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدة من الزمان ، يقال ثمانون سنة ، ويقال : مائة سنة ، ويكون معناه على هذا القول من أهل قرن ) مكّناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ( يعني أعطيناهم ما لم نعطكم .
قال إبن عباس : أمهلناهم في العمر والأجسام والأولاد مثل قوم نوح وعاد وثمود ، ويقال : مكنته ومكنت له فجاء ( . . . . . . ) جميعاً ) وأرسلنا السماء ( يعني المطر ) عليهم مدراراً ( .
تقول العرب : مازلنا نطأ السماء حتى آتيناكم مدراراً أي غزيرة كثيرة دائمة ، وهي مفعال من الدر ، مفعال من أسماء المبالغة ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث .
قال الشاعر :
وسقاك من نوء الثريا مزنة
سعراً تحلب وابلاً مدراراً
وقوله : ) ما لم نمكن لكم ( من خطاب التنوين كقوله تعالى : ) حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ( .
وقال أهل البصرة : أخبر عنهم بقوله : ) ألم يروا ( وفيهم محمد وأصحابه ثم خاطبهم ، والعرب تقول : قلت لعبد اللّه ما أكرمه وقلت لعبد اللّه أكرمك ) وجعلنا الأنهار التي تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا ( وخلقنا وابتدأنا ) من بعدهم قرناً آخرين }
الأنعام : ( 7 ) ولو نزلنا عليك . . . . .
) ولو نزلنا عليك كتاباً ( الآية .
وقال الكلبي ومقاتل : أنزلت في النضر بن الحرث وعبدالله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند اللّه وأنك رسول فأنزل اللّه عز وجل فلو نزلنا عليك كتاباً ) في قرطاس ( في
(4/135)

" صفحة رقم 136 "
صحيفة مكتوباً من عند الله ) فلمسوه بأيديهم ( عاينوه معاينة ومسوه بأيديهم ) لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( لما سبق فيهم من علمي
الأنعام : ( 8 ) وقالوا لولا أنزل . . . . .
) وقالوا لولا أنزل عليه ( على محمد ) ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ( أي لوجب العذاب وفرغ من هلاكهم لأن الملائكة لا ينزلون إلاّ بالوحي ( والحلال ) ) ثم لا ينظرون ( الكافرون ولا يمهلون .
قال مجاهد : لقضي الأمر أي لقامت الساعة .
وقال الضحاك : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا .
وقال قتادة : لو أنزلنا المكارم ولم يؤمنوا لعجل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين
الأنعام : ( 9 ) ولو جعلناه ملكا . . . . .
) ولو جعلناه ملكاً ( يعني ولو أرسلنا إليهم ملكاً ) لجعلناه رجلاً ( يعني في صورة رجل آدمي لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة ) وللبسنا ( ولشبهنا وخلطنا ) عليهم ما يلبسون ( يخلطون ويشبهون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرى أملك هو أم آدمي .
وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس : هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وكذبوا رسلهم وهو تحريف الكلام عن مواضعه فلبس اللّه عليهم ما لبسوا على أنفسهم .
وقال قتادة : ما لبس قوم على أنفسهم إلاّ لبس الله عليهم .
وقرأ الأزهري : وللبسنا بالتشديد على التكرير يقال : ألبست العرب ألبسه لبساً وإلتبس عليهم الأمر ألبسه لبساً
الأنعام : ( 10 ) ولقد استهزئ برسل . . . . .
) ولقد استهزىء برسل من قبلك ( كما استهزىء بك يا محمد يعزي نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) ) فحاق ( .
قال الربيع بن أنس : ترك . عطاء : أحل .
مقاتل : دار . الضحّاك : إحاطة .
قال الزجاج : الحيق في اللغة ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ومنه : يحيق المكر السيّىء .
وقيل : وجب . والحيق والحيوق الوجوب .
) بالذين سخروا ( هزئوا ) منهم ما كانوا به يستهزئون ( . فحاق بالذين سخروا من المرسلين العذاب وتعجيل النقمة
الأنعام : ( 11 ) قل سيروا في . . . . .
) قل ( يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين ) سيروا ( سافروا في الأرض معتبرين ) ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( أي آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والكذب الهلاك والعذاب ، يخوّف كفار أهل مكة عذاب الأمم الماضية
الأنعام : ( 12 ) قل لمن ما . . . . .
) قل لمن ما في السماوات والأرض ( فإن أجابوك وإلاّ ) قل للّه ( يقول يفتنكم بعدد الأيام لا ( . . . . . ) والأصنام ثم قال ) كتب ربكم ( أي قضى وأوجب فضلاً وكرماً ) على نفسه الرحمة ( .
وذكر النفس ها هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وحد وارتفاع الوسائط دونه وهذا استعطاف
(4/136)

" صفحة رقم 137 "
منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وإخبار بإنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة .
هشام بن منبه قال : حدثنا أبو عروة عن محمد رسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال : لما قضى اللّه الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش ( إن رحمتي سبقت غضبي ) .
وقال عمر لكعب الأحبار : ما أول شيء ابتدأه اللّه من خلقه ؟ فقال كعب : كتب اللّه كتاباً لم يكتبه بقلم ولا مداد ولكنّه كتب بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت : إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا سبقت رحمتي غضبي .
وقال سلمان وعبدالله بن عمر : إن للّه تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الإنس والجان وطير السماء وحيتان الماء وما بين الهواء والحيوان وذوات الأرض وعنده مائة وسبعين رحمة ، فإذا كان يوم القيامة أضاف تلك الرحمة إلى ما عنده .
ثم قال ) ليجمعنكم ( اللام فهي لام القسم والنون نون التأكيد ، مجازه : واللّه ليجمعنكم ) إلى يوم القيامة ( يعني في يوم القيامة إلي يعني في ، وقيل : معناه ليجمعنكم في ( غيركم ) إلى يوم القيامة ) لا ريب فيه الذين خسروا ( غلبوا على أنفسهم والتنوين في موضع نصب مردود على الكاف والنون من قوله ) ليجمعنكم ( ويجوز أن يكون رفعاً بالإبتداء وخبره فهم لا يؤمنون ، فأخبر اللّه تعالى أن الجاحد للآخرة هالك خاسر .
2 ( ) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّىأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ قُلْ إِنِّىأَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدُيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 2
الأنعام : ( 13 ) وله ما سكن . . . . .
) وله ما سكن في الليل والنهار ( الآية .
قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يا محمد إنا قد علمنا أنه ما يحملك على ما تدعونا إليه إلاّ الحاجة ، فنحن نجمع ذلك من أموالنا ما نغنيك حتى تكون من أغنانا فأنزل اللّه تعالى قوله ) وله ما سكن ( أي استقر ) في الليل والنهار ( من خلق
(4/137)

" صفحة رقم 138 "
قال أبو روحى : إن من الخلق ما يستقر نهاراً وينتشر ليلاً ومنها ما يستقر ليلاً وينتشر نهاراً .
وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن جرير : كلّ ما طلعت عليه الشمس وغيبت فهو من ساكن الليل والنهار والمراد جميع ما في الأرض لأنه لا شيء من خلق اللّه عز وجل إلاّ هو ساكن في الليل والنهار ، وقيل : معناه وله ما يمر عليه الليل والنهار .
وقال أهل المعاني : في الآية لغتان واختصار مجازها : وله ما سكن وشرك في الليل والنهار كقوله ) سرابيل تقيكم الحر والبرد ( وأراد في كل شيء ) وهو السميع ( لأصواتهم ) العليم ( بأسرارهم .
وقال الكلبي : يعني هو السميع لمقالة قريش العليم بمن يكسب رزقهم
الأنعام : ( 14 ) قل أغير الله . . . . .
) قل ( يا محمد ) أغير اللّه أتخذ ولياً ( رباً معبوداً وناصراً ومعيناً ) فاطر السماوات والأرض ( أي خالقها ومبدعها ومبدئها وأصل الفطر الشق ومنه فطر ناب الجمل إذا شقق وابتدأ بالخروج .
قال مجاهد : سمعت ابن عباس يقول : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني اعرابيان يختصمان في بعير . فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها ، أنا أحدثتها ) وهو يطعم ولا يطعم ( أي وهو يرزق ولا يرزق وإليه قوله عز وجل ) ما أريد منهم من رزق وما أريد منهم أن يطعمون ( .
وقرأ عكرمة والأعمش : ولا يَطعم بفتح الياء أي وهو يرزق ولا يأكل .
وقرأ أشهب العقيلي : وهو يُطعِم ولا يُطعَم كلاهما بضم الياء ، وكسر العين .
قال الحسن بن الفضل : معناه هو القادر على الإطعام وترك الإطعام كقوله ) يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ( .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا منصور الأزهري بهراة يقول : معناه وهو يطعم ولا يستطعم ، يقول العرب : أطعمت غيري بمعنى استطعمت .
وأنشد :
إنّا لنطعم من في الصيف مطعماً
وفي الشتاء إذا لم يؤنس القرع
أي استطعمنا وقيل : معناه وهو يطعم يعني اللّه ولا يطعم يعني الولي ) قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ( أخلص ) ولا تكونن ( يعني وقيل لي : ولا تكونن ) من المشركين (
الأنعام : ( 15 ) قل إني أخاف . . . . .
) قل إني أخاف إن عصيت ربي ( تعبدت غيره ) عذاب يوم عظيم ( وهو يوم القيامة .
الأنعام : ( 16 ) من يصرف عنه . . . . .
) من يصرف عنه يومئذ ( يعني من يُصَرف الغضبُ عنه .
وقرأ أهل الكوفة : يصرف بفتح الياء وكسر الراء على معنى من صرف اللّه عنه العذاب ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقوله ) من اللّه ( بأن قبل فيما قبله : ) قل لمن ما في السماوات
(4/138)

" صفحة رقم 139 "
والأرض قل للّه ( ، ولقوله فيما بعده ) رحمة ( ولم يقل : فقد رحم ، على الفعل المجهول . ( ولقراءة أُبيّ : من يصرفه الله عنه ) . يعني يوم القيامة ، وهو ظرف مبني على الخبر لإضافة الوقت إلى إذ كقولك : حينئذ ( وساعتئذ ) ) فقد رحمه وذلك الفوز المبين ( يعني نجاة البينة
الأنعام : ( 17 ) وإن يمسسك الله . . . . .
) وإن يمسسك اللّه بضر ( بشدة وبلية وفقر ومرض ) فلا كاشف ( دافع وصارف ) له إلاّ هو وإن يمسسك بخير ( عافية ورخاء ونعمة ) فهو على كل شيء ( من الخير والشر ) قدير ( .
روى شهاب بن حرش عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال : أهدي للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بغلة أهداها له كسرى فركبها جهل بن شعر ثم أردفني خلفه وسار بي ملياً ثم احتنا لي وقال لي : يا غلام ، قلت : لبيك يا رسول اللّه ، قال : ( إحفظ اللّه يحفظك احفظ اللّه تجده أمامك ، تعرَّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فأسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه قد مضى القلم بما هو كائن فلو عمل الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك لما قدروا عليه ولو جهدوا أن ينصروك بما لم يكتب اللّه عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل ، فإن لم تستطيع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر فإن مع الكرب الفرج وإن مع العسر يسراً ) .
الأنعام : ( 18 ) وهو القاهر فوق . . . . .
) وهو القاهر ( القادر الغالب ) فوق عباده ( وفي القهر معنى زائد على القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد .
) وهو الحكيم ( في أمره ) الخبير ( بما جاء من عباده .
2 ( ) قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَاذَا الْقُرْءَانُ لاُِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِئَايَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِئَايَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 2
(4/139)

" صفحة رقم 140 "
الأنعام : ( 19 ) قل أي شيء . . . . .
) قل أي شيء أكبر شهادة ( الآية .
قال الكلبي : أتى أهل مكة رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : ما وجد اللّه رسولاً غيرك وما نرى أحداً يصدقك فيما تقول ولو سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول اللّه كما تزعم ، فأنزل اللّه ) قل أي شيء أكبر شهادة ( فإن أجابوك وإلاّ فقل ) قل اللّه شهيد بيني وبينكم ( على ما أقول ) وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم ( وخوفكم يا أهل مكة ) به ومن بلغ ( يعني ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم .
قال الفراء : والعرب تضمر الهاء في مصطلحات التشديد ( من ) و ( ما ) فيها وإن الذي أخذت مالك ، ومالي أخذته ، ومن أكرمت ( أبرّ به ) بمعنى أكرمته .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية من كتاب اللّه فإن من بلغته آية من كتاب اللّه فقد بلغه أمر اللّه أخذه أو تركه ) .
وقال الحسن بن صالح : سألت ليثاً : هل بقي أحد لم يبلغه الدعوة .
قال : كان مجاهد يقول حيثما يأتي القرآن فهو داع وهو نذير ، ثم قرأ هذه الآية .
فقال مقاتل : من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له .
وقال محمد بن كعب القرضي : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً ( عليه السلام ) وسمع منه ) أئنكم لتشهدون أن مع اللّه آلهة أُخرى ( ولم يقل آخر والآلهة جمع لأن الجمع يلحق التأنيث كقوله تعالى ) فما بال القرون الأولى ( ) قل ( يا محمد إن أشهدوكم أنتم ) ولا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون (
الأنعام : ( 20 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
) الذين آتيناهم الكتاب ( يعني التوراة والإنجيل ) يعرفونه ( يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونعته وصفته ) كما يعرفون أبناءهم ( أي من الصبيان .
قال الكلبي : لما قدم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ، قال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) لعبيد اللّه بن سلام : إن اللّه قد أنزل على نبيّه ) إن الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ( فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد اللّه : يا عمر قد عرفته فيكم حين رأيته بنعته وصفته كما أعرف إبني إذا رأيته مع الصبيان يلعب ولأنا أشدّ معرفة بمحمّد ( صلى الله عليه وسلم ) مني بإبني ، قال : وكيف ؟ قال : نعته اللّه عز وجل في كتابنا ، فلا أدري ما أحدث النساء ، فقال عمر : وفقك اللّه يا ابن سلام ) الذين خسروا ( غبنوا ) أنفسهم فهم لا يؤمنون ( وذلك إن لكل عبد منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل اللّه لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار
الأنعام : ( 21 ) ومن أظلم ممن . . . . .
) ومن أظلم ( أكفر
(4/140)

" صفحة رقم 141 "
قال الحسن : فلا أحد أظلم ) ممن افترى ( اختلق ) على اللّه كذباً ( فأشرك به غيره ) أو كذب بآياته ( يعني القرآن .
قال الحسن : كل ما في القرآن بآياتنا وآياته يعني به الدين بما فيه ) لا يفلح الظالمون ( الكافرون
الأنعام : ( 22 ) ويوم نحشرهم جميعا . . . . .
) ويوم نحشرهم ( العابدين والمعبودين ) جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ( إنما يشفع لكم عند ربكم
الأنعام : ( 23 ) ثم لم تكن . . . . .
) ثم لم تكن فتنتهم ( يعني قولهم وجوابهم ، وقيل : معذرتهم ، والفتنة : الاختبار ، ولمّا كان سؤالهم يخبر به لإظهار ما في قلوبهم قيل : فتنة .
) إلاّ أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين ( وذلك إنهم يوم القيامة إذا رأوا مغفرة اللّه عز وجل وتجاوزه عن أهل التوحيد . قال بعضهم لبعض : تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد ) ويقولون واللّه ربنا ما كنا مشركين ( فيقول اللّه تعالى لهم : ) أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ( وتدعون أنهم شركائي ثم نختم على أفواههم وتشهد جوارحهم عليهم بالكفر وذلك قوله
الأنعام : ( 24 ) انظر كيف كذبوا . . . . .
) أنظركيف كذبوا على أنفسهم وضل ( زال وبطل ) عنهم ما كانوا يفترون ( من الأصنام
الأنعام : ( 25 ) ومنهم من يستمع . . . . .
) ومنهم من يستمع إليك ( الآية ، قال : إجتمع أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأُبي إبنا خلف والحرث بن عامر استمعوا حديث رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : للنضر يا أبا فتيلة ما يقول محمد ، قال : والذي جعلها بيته يعني الكعبة قال : ما أدري ما يقول إلاّ إنه يحرك لسانه ويقول : ) أساطير الأولين ( ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كتب الحديث عن القرون وأخبارها .
فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول خفياً ، فقال أبو جهل : كلا فأنزل اللّه تعالى : ) ومنهم من يستمع إليك ( وإلى كلامك ) وجعلنا على قلوبهم أكنة ( غشاوة وغطاء ) أن يفقهوه ( يعلموه ) وفي آذانهم وقراً ( ثقلاً وصماً ) وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأولين ( يعني حكاياتهم إسطورة وإسطارة .
وقال بعض أهل اللغة : هي التُّرَّهّات والأباطيل والبسابس وأصلها من سطرت أي كتبت
الأنعام : ( 26 ) وهم ينهون عنه . . . . .
) وهم ينهون عنه ويناؤن عنه ( .
قال مقاتل : نزلت في أبي طالب وإسمه عبد مناف وذلك إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان عند أبي طالب يدعو إلى الإسلام فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون سوءاً بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو طالب :
واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسّد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر بذلك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت إنك ناصحي
ولقد صدقت وكنت ثم سببا
وفرضت ديناً لا محالة إنه
من خير أديان البرية دينا
(4/141)

" صفحة رقم 142 "
لولا الملامة أو حذاري سبة
لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فأنزل اللّه تعالى ) وهم ينهون عنه وَينؤنَ عنه ( أي يمنعون الناس عن أذى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويناؤن عنه أي يبتعدون عما جاء له من الهدي فلا يصدقونه وهذا قول القاسم بن محمد وعطاء ابن دينار وإحدى الروايتين عن ابن عباس وعن محمد بن الحنفية والسدي والضحّاك قالوا : نزلت في جملة كفار مكة يعني وهم ينهون الناس عن إتباع محمد والإيمان به ويتباعدون بأنفسهم عنه .
قال مجاهد : وهم ينهون عنه قريشاً ينهون عن الذكر ويتباعدون عنه .
وقال قتادة : وينهون عن القرآن وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويتباعدون عنه ) وإن يهلكون إلاّ أنفسهم ( لأن أوزار الذين يصدونهم عليهم ) وما يشعرون ( إنما كذلك
الأنعام : ( 27 ) ولو ترى إذ . . . . .
) ولو ترى ( يا محمد ) إذ وقفوا ( حبسوا ) على النار ( يعني في النار كقوله : ) واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ( يعني في ملك سليمان .
وقرأ السميقع ) إذ وقفوا ( بفتح الواو والقاف من الوقوف والقراءة الأولى على الوقف . فقال : وقفت بنفسي وقوفاً ووقفتم وقفاً ، وجواب لو محذوف معناه لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجباً ) فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ( قرأه العامة ويكون بالرفع على معنى يا ليتنا نرد ونحوَ لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين أردنا أم لم نرد .
وقرأ ابن أبي إسحاق وحمزة : ولا نكذب وتكون نصباً على جواب التمني ، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصبه بالفاء .
وقرأ ابن عامر : نرد ولا نكذب : بالرفع ، ونكون : بالنصب قال : لأنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين واخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردّوا إلى الدنيا ) بل بدا ( ظهر ) لهم ما كانوا يخفون ( يسترون في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم .
وقال السدي إنهم قالوا : ) واللّه ربنا ما كنّا مشركين ( فذلك إخفاؤهم ) من قبل ( فأنطق اللّه عز وجل جوارحهم فشهدت عليهم بما كتموا فذلك قوله عز وجل
الأنعام : ( 28 ) بل بدا لهم . . . . .
) بل بدا لهم ( وهذا أعجب إلي من القول الأول لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا إلاّ أن تجعل الآية في المنافقين .
قال المبرد : بدا لهم ( جزاء ما كانوا يخفون من قبل ) .
(4/142)

" صفحة رقم 143 "
وقال النضر بن شميل : معناه بل بدا ( لعنهم ) ، ثم قال ) ولو ردوا ( إلى الدنيا ) لعادوا لما نهوا عنه ( من الكفر ) وإنهم لكاذبون ( في قولهم : لو ردونا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين .
( ) وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاَْرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِئَايَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 2
الأنعام : ( 29 ) وقالوا إن هي . . . . .
) وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا ( فيه تقديم وتأخير ، وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول : هذا من قولهم : لو ردوا لقالوا ) وما نحن بمبعوثين ( بعد الموت
الأنعام : ( 30 ) ولو ترى إذ . . . . .
) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ( قيل : على حكم اللّه ( . . . . . . ) فهم ( وتكلمنا اليدين ) بأمر اللّه ) قال أليس هذا ( العذاب ) بالحق قالوا بلى وربنا ( إنّه حق ) قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( .
أي بكفركم
الأنعام : ( 31 ) قد خسر الذين . . . . .
) قد خسر ( وكس وهلك ) الذين كذبوا بلقاء اللّه ( بالبعث بعد الموت ) حتى إذا جاءتهم الساعة ( القيامة ، ) بغتة ( فجأة ) قالوا يا حسرتنا ( ندامتنا ) على ما فرّطنا ( قصرّنا ) فيها ( في الطامة ، وقيل : تركنا في الدنيامن عمل الآخرة .
وقال محمد بن جرير : الهاء راجعة إلى الصفقة ، وذلك إنه لما تبين لهم خسران صفقتهم بيعهم الإيمان بالكفر والدنيا بالآخرة ، قالوا : يا حسرتنا على ما فرطنا فيها ، أي في الصفقة فترك ذكر الصفقة كما يقول ) قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه ( لأن الخسران لا يكون إلاّ في صفقة بيع .
قال السدي : يعني على ما ضيعنا من عمل الجنة ، يدل عليه ما روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية قال : ( يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون : يا حسرتنا ) ) وهم يحملون أوزارهم ( آثامهم وأفعالهم .
(4/143)

" صفحة رقم 144 "
قال أبو عبيد : يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع : إحمل وزرك ووزرتك واشتقاقه من الوزر الذي يعتصم به ولهذا قيل : وزر لأنّه كأنّه الذي يعتصم به الملك أو النبي ومنه قوله تعالى ) واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي ( ) على ظهورهم ( .
قال السدي وعمرو بن قيس الملائي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيب ريحاً ، يقول : هل تعرفني ؟ يقول : لا ، إلاّ أن اللّه عز وجل قد طيب ريحك وحسّن صورتك ، فيقول : كذلك كتب في الدنيا أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني اليوم أنت .
وقرأ ) يوم يحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ( أي ركباناً ، فإن الكافر تستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلاّ أن اللّه عز وجل قد قبح صورتك وأنتن ريحك ، فيقول : لما كان عملك في الدنيا ، أنا عملك السيء طالما ركبتني في المساء فأنا أركبك اليوم وذلك قوله ) وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ( .
قال الزجاج : لا يزر إليهم أوزارهم ، كما يقول الضحّاك : نصب عيني وذكرك محيي قلبي ) ألا ساء ما يزرون ( أي يحملون ويعملون
الأنعام : ( 32 ) وما الحياة الدنيا . . . . .
) وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو ( باطل وغرور لا يبقى ، وهذا تكذيب من اللّه للكفار في قولهم ) ما هي إلاّ حياتنا الدنيا ( الآية ) وللدار الآخرة ( قرأتها العامة رفعاً على نعت الواو ، وإضافة أهل الشام لاختلاف اللفظين كقوله : ربيع الأول ، ومسجد الجامع ) وحب الحصيد ( سميت الدنيا لدنوّها ، وقيل : لدناءتها وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا ) خير للذين يتقون ( من الشرك ) أفلا تعقلون ( أي الآخرة أفضل من الدنيا
الأنعام : ( 33 ) قد نعلم إنه . . . . .
) قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ( الآية .
قال السدي : إلتقى الأخفش بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال الأخفش لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس ها هنا أحد يسمع . كلامك غيري ؟ فقال له أبو جهل : واللّه إن محمداً لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ، فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية .
وقال أبو يزيد المدني : لقي رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أبا جهل فصافحه فلقيه بعض شياطينه فقال له : يأتيك تصافحه ؟ قال : واللّه إني أعلم إنه لصادق ولكنا متى كنا تبعاً لعبد مناف ، فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية .
(4/144)

" صفحة رقم 145 "
وقال ناجية بن كعب : قال أبو جهل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما نتهمك ولا نكذبك ولكن نتهم الذي جئت به ونكذبه ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
وقال مقاتل : نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي كان يكذب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال : ما محمد من أهل الكذب فلا أحسبه إلاّ صادقاً ، وقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنا لنعلم إن الذي له حق وإنه لا يمنعنا أن نتبع الهدى معك إلاّ مخافة أن يتخلفنا البأس من أرضنا يعني العرب فإنا ( ثمن ) أكلة رأس ولا طاقة لنا بهم فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية ) قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ( بأنك كاذب وساحر ومجنون ) فإنهم لا يكذبونك ( أي لا ينسبونك إلى الكذب ولا يقولون لك : كذبت .
وقرأ نافع والكسائي : يكذبونك بالتخفيف وهي قراءة علي رضي الله عنه يعني : ولا يجدونك كاذباً ، يقول العرب : أجدبت الأرض وأخصبتها وأحييتها وأهجتها إذا وجدتها جدبة وخصبة ويعيدوا ناتجة للنبات .
قال رؤبة :
وأهيج الخلصاء من ذات البرق
أي وجدتها ناتجة للنبات .
قال الكسائي : يقول العرب : أكذبت الرسل إذا أخبرت إنه قول الكذب فرواه وكذبته إذا أجزت إنه كاذب ) ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون }
الأنعام : ( 34 ) ولقد كذبت رسل . . . . .
) ولقد كذبت رسل من قبلك ( [ تسلية نبيه ) يقولون : كذبهم قومهم كما كذبتك قريش ) فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات اللّه ( قال الكلبي : يعني القرآن .
وقال عكرمة : يعني قوله ) ولقد سبقت كلمتنا ولا مبدل لكلمات اللّه ( إلى قوله : ) الغالبون ( وقوله : ) إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ( وقوله تعالى ) كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي ( العدل يعني لأخلفهما لعذابه ) ولقد جاءك من نبأ المرسلين ( من قبل كما يقول : أصابنا من مطر أي مطر .
الأنعام : ( 35 ) وإن كان كبر . . . . .
) وإن كان كبر عليك إعراضهم ( قال الكلبي : قال الحرث بن عامر : يا محمد إئتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي بها فإن أتيت بها آمنا بك وصدقناك ، فأبى اللّه أن يأتيهم بها فأعرضوا عنه
(4/145)

" صفحة رقم 146 "
وكبر عليه ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل اللّه عز وجل ) وإن كان كبر ( عظم وضاق ) عليك إعراضهم ( عنك ) فإن إستطعت أن تبتغي ( تطلب وتتخذ ) نفقاً ( سرباً ) في الأرض ( مثل نافقا اليربوع وهو أحد حجرته فيذهب فيه ) أو سلّماً ( درجاً ومصعداً إليّ ) في السماء ( يصعد فيه .
قال الزجاج : السلم من السلامة وهو الذي يسلمك إلى مصعدك ) فتأتيهم بآية ( فافعل ) ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ( فآمنوا كلّهم ) فلا تكونن من الجاهلين ( أن يؤمن بك بعضهم دون بعض وإن اللّه لو شاء لجمعهم على الهدى ، وإن من يكفر إنما يكفر بسائر علمه فيه .
2 ( ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ءايَةً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الاَْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئْايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلاإِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2
الأنعام : ( 36 ) إنما يستجيب الذين . . . . .
) إنما يستجيب الذين يسمعون ( يعني المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم اللّه على سمعه فلا يصغي إلى الحق ) والموتى ( يعني الكفار ) يبعثهم اللّه ( مع الموتى ) ثم إليه يرجعون (
الأنعام : ( 37 ) وقالوا لولا نزل . . . . .
) وقالوا ( يعني الحرث بن عامر وأصحابه . ) لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن اللّه قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ( حالهم في نزولها
الأنعام : ( 38 ) وما من دابة . . . . .
) وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ( على التأكيد ، كما يقال : أخذت بيدي ، مشيت برجلي ونظرت بعيني .
) إلا أمم أمثالكم ( يعني بعضهم من بعض والناس أمة والطير أمة والسباع أمة والدواب أمة ، وقيل : إلاّ أمم أمثالكم جماعات أمثالكم .
وقال عطاء : أمثالكم في التوحيد ( ومعرفة اللّه ) وقيل : إلاّ أمم أمثالكم في التصور والتشخيص ) ما فرطنا في الكتاب من شيء ( يعني في اللوح المحفوظ ) ثم إلى ربهم يحشرون ( .
قال ابن عباس ، والضحّاك : حشرها : موتها
(4/146)

" صفحة رقم 147 "
وقال أبو هريرة : في هذه الآية يحشر اللّه الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطيور وكل شيء فيبلغ من عذاب اللّه يومئذ أن يأخذ الجماء من القرناء ثم يقول : كوني تراباً فعند ذلك ) يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ( .
وقال عطاء : فإذا رأوا بني آدم وما فيه من الجزية ، قلت الحمد للّه الذي لم يجعلنا مثلكم فلا جنة نرجو ولا ناراً نخاف ، فيقول اللّه عز وجل لهم كونوا تراباً فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراباً .
وعن أبي ذر قال : بينا أنا عند رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إذا انتطحت عنزان فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتدرون فيما إنتطحا ) قالوا : لا ندري ، قال : لكن اللّه يدري ويقضي بينهما
الأنعام : ( 39 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذبوا بآياتنا ( محمد والقرآن ) صم ( لا يسمعون الخبر ) وبكم ( لا يتكلمون ، الخبر ) في الظلمات ( في ظلالات الكفر ) من يشأ اللّه يضلله ( يموتون على كفرهم ) ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( قائم وهو الإسلام
الأنعام : ( 40 ) قل أرأيتكم إن . . . . .
) قل أرءيتكم ( أي هل رأيتم والكاف فيه للتأكيد ، ) إن أتاكم عذاب اللّه ( يوم بدر وأحد والأحزاب وحنين ، ) أو أتتكم الساعة أغير اللّه تدعون ( في صرف العذاب ، ) إن كنتم صادقين (
الأنعام : ( 41 ) بل إياه تدعون . . . . .
ثم قال ) بل إياه تدعون ( تخلصون ) فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ( تتركون ) ما تشركون }
الأنعام : ( 42 ) ولقد أرسلنا إلى . . . . .
) ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ( فكفروا ) فأخذناهم بالبأساء ( الفقر والجوع ) والضراء ( المرض والزمانة ) لعلهم يتضرعون ( يؤمنون ويتوبون ويخضعون ويخشعون .
الأنعام : ( 43 ) فلولا إذ جاءهم . . . . .
) فلولا إذا جاءهم بأسنا ( عذابنا ) تضرعوا ( فآمنوا فكشف عنهم ) ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ( من الكفر والمعصية
الأنعام : ( 44 ) فلما نسوا ما . . . . .
) فلما نسوا ما ذكروا به ( أي أنكروا ما عظوا وأمروا به ) فتحنا عليهم أبواب كل شيء ( أي بدلناهم مكان البلاء والشدة بالرخاء في العيش والصحة في الأبدان ) حتى إذا فرحوا ( أعجبوا ) بما أوتوا أخذناهم بغتة ( فجأة امن ما كانوا بالعجب ما كانت الدنيا لهم ، ) فإذا هم مبلسون ( يئسون من كل خير .
قال السدي : هالكون ، ابن كيسان : خاضعون ، وقال الحسن : منصتون .
وقرأ عبد الرحمن السلمي : مبلسون بفتح اللام مفعولا بهم أي مؤيسون . وأصل الإبلاس الإطراق من الحزن والندم .
وقال مجاهد : الإبلاس الفضيحة . وقال : إبن زيد المبلس الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه
(4/147)

" صفحة رقم 148 "
قال جعفر الصادق : فلما نسوا ما ذكروا به من التعظيم فتحنا عليهم أبواب كل شيء من النعم حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الترفيه والتنعيم جاءتهم بغتة إلى سوء الجحيم
الأنعام : ( 45 ) فقطع دابر القوم . . . . .
) فقطع دابر القوم ( قال السدي : أصل القوم .
قال قطرب : أخذهم يعني استؤصلوا وأهلكوا ) الذين ظلموا والحمد للّه رب العالمين ( على إهلاكهم .
روى عقبة بن عامر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا رأيت اللّه أعطى العباد ما يشاؤن على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم ) . ثم تلا هذه الآية ) فلما نسوا ما ذكروا به ( الآية .
( ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَْيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاأَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاأَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَاؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الاَْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الاَْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ( 2
الأنعام : ( 46 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) قل أرأيتم إن أخذ اللّه سمعكم وأبصاركم ( فذهب بها ) وختم على قلوبكم ( وطبع عليها يعني لا يفقهوا قولاً ولا يبصروا حجة ) من إله غير اللّه يأتيكم به ( يعني بما أخذ منكم ) أنظر كيف نصرف ( نبين ) لهم الآيات ثم هم يصدفون ( يعرضون عنها مكذبين بها
الأنعام : ( 47 ) قل أرأيتكم إن . . . . .
) قل أرأيتكم إن
(4/148)

" صفحة رقم 149 "
أتاكم عذاب اللّه بغتة ( فجأة ) أو جهرة ( معاينة ورؤية ( على ما أشركوا ) ) هل يهلك ( بالعذاب ) إلاّ القوم الظالمون ( المشركون
الأنعام : ( 48 ) وما نرسل المرسلين . . . . .
) وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح ( العمل ) فلا خوف عليهم ( حين يخاف أهل النار ) ولا هم يحزنون ( إذا حزنوا
الأنعام : ( 49 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذبوا بآياتنا ( بمحمد والقرآن ) يمسهم ( يصيبهم ) العذاب بما كانوا يفسقون ( يرتكبون
الأنعام : ( 50 ) قل لا أقول . . . . .
) قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه ( يعني رزق اللّه ) ولا أعلم الغيب ( ما يخفى عن الناس ) ولا أقول لكم إني ملك ( فتنكرون قولي وتجحدون أمري ) إن أتبع إلاّ ما يوحى إليّ ( وذلك غير منكر ولا مستحيل في العقل مع وجود الدلائل والحجة البالغة ) قل هل يستوي الأعمى والبصير ( الكافر والمؤمن والضال والمهتدي ) أفلا تتفكرون ( لا يستويان
الأنعام : ( 51 ) وأنذر به الذين . . . . .
) وأنذر ( خوّف ) به ( بالقرآن .
قال الضحّاك : به أي باللّه ) الذين يخافون أن يحشروا ( يبعثوا ويحيوا ) إلى ربهم ( وقيل : يعلمون أن يحشروا لأن خوفهم بما كان من عملهم ) ليس لهم من دونه ( من دون اللّه ) ولي ( يعني قريب ينفعهم ) ولا شفيع ( يشفع لهم ) لعلهم يتقون 2 )
الأنعام : ( 52 ) ولا تطرد الذين . . . . .
) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ( الآية ، قال سليمان ، وخباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية .
جاء الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصين الفزاري وهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المسلمين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فقالوا : يا رسول اللّه لو جلست في صدر المجلس ويغيب عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكانت عليهم جباب من صوف لم يكن عليهم غيرها لجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أنا بطارد المؤمنين ) قالوا : فأنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم وإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ، قال : نعم ، قالوا : أكتب لنا بذلك كتاباً ، قال : فدعانا لصحيفة ودعا علياً ليكتب .
قال : ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل ( عليه السلام ) بقوله ) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ( إلاّ بشيء فألقى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول : سلام عليكم ) كتب ربكم على نفسه الرحمة ( فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية ) ولا تطرد الذين يدعون ربهم ( الآية ، قال : وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقعد معنا بعمد وندنوا منه حتى كادت رِكبنا تمسّ ركبه فإذا بلغ الساعة التي يقوم قمنا وتركناه حتى يقوم وقال : ( الحمد للّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي ( معكم المحيا ومعكم ) الممات ) .
(4/149)

" صفحة رقم 150 "
وقال الكلبي : قالوا له : إجعل لنا يوماً ولهم يوم ، قال : لا أفعل ، قالوا : فاجعل المجلس واحداً وأقبل إلينا وولّ ظهرك عليهم فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
وروى الأشعث بن سواد عن إدريس عن عبد اللّه بن مسعود قال : مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء أهؤلاء الذين قال : منّ اللّه عليهم من بيننا ، أطردهم عنك ، فلعلك إن طردتهم إتبعناك ، فأنزل اللّه تعالى ) ولا تطرد الذين يدعون ربهم ( الآية ، قال : بها قد قالت قريش : لولا بلال وابن أم عبد لتابعنا محمداً فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية .
وقال عكرمة : جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن أمية ومطعم بن عدي والحرث بن نوفل وقرظة ابن عبد وعمرو بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا : ياأبا طالب لو أن ابن أخيك محمداً يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنهم عبيدنا كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتّباعنا إيّاه . وتصديقنا له فأتى أبو طالب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فحدثه بالذي كتموه ، فقال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون فنزلت من قولهم هذه الآية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته .
وقال جبير بن نفيل : إن قريشاً أتوا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : أرسلت إلينا فاطرد هؤلاء السقاط عنك فنكون أصحابك فأنزل اللّه تعالى ) ولا تطرد ( الآية .
قال ابن عباس : يدعون ربهم يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة بالغداة والعشي يعني صلاة الصبح وصلاة العصر ، وذلك إن ناساً من الفقراء كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قوم من الأشراف : إذا صلّينا فأخّر هؤلاء وليصلوا خلفنا ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ) ولا تطرد الذين ( الآية .
وقال حمزة بن عيسى : دخلت على الحسن فقلت له : يا أبا سعيد أرأيت قول اللّه تعالى ) ولاتطرد الذين آمنوا ( ، قال : لا ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة .
وقال مجاهد : صليت الصبح مع سعيد بن المسيب ( رضي الله عنه ) فلما سلم الإمام ، ابتدر الناس القاص ، فقال سعيد ما أسرع الناس إلى هذا المجلس .
فقال مجاهد : فقلت : يتأوّلون قول اللّه عز وجل ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ، فأراد في هذا هو إنما ذلك في الصلاة التي انصرفا عنها الآن ، وقلنا إنهم يذكرون ربهم .
وقال أبو جعفر : يعني يقرأون القرآن ) يريدون وجهه ( جواب لقوله ) ما عليك من حسابهم
(4/150)

" صفحة رقم 151 "
من شيء ( وقوله ) فتكون ( جواب لقوله ولا تطرد لا أحد هو جواب نفي واللّه جواب النهي ) من الظالمين ( من الضارين لنفسك بالمعصية والنفس الطرد في غير موضعه
الأنعام : ( 53 ) وكذلك فتنا بعضهم . . . . .
) وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ( التعريف الوضيع والعرفي بالمولى والغني الآية ) ليقولوا ( يعني الأشراف الأغنياء ) أهؤلاء ( يعني الفقراء والضعفاء ) منّ اللّه عليهم من بيننا ( قال الكلبي : كان الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد آمن قبله حمى أنفاً أن يسلم ويقول : سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم ) أليس اللّه بأعلم بالشاكرين ( يعني المؤمنين وهذا جواب لقوله ) أهؤلاء من اللّه عليهم من بيننا ( وقيل : أليس اللّه أعلم بالشاكرين ، من يشكر على الإسلام إذا هديته له .
العلاء بن بشير عن أبي بكر الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : كنت في عصابة فيها ضعفاء المهاجرين ، وإن بعضهم يستر بعضاً من العري وقارىء يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قام علينا فلما رأى القارىء سكت ، فسلم وقال : ما كنتم تصنعون ؟ قلنا : يا رسول اللّه كان قارىء يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الحمد للّه الذي جعل في أمتي من أمرت أن أُصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال هكذا بيده هكذا ، فحلق القوم وبرزت وجوههم فلم يعرف رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) منهم أحداً وكانوا ضعفاء المهاجرين . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أبشروا صعاليك المهاجرين بالفوز التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء المؤمنين بنصف يوم مقداره خمس مائة سنة ) .
هشام بن سليمان عن أبي يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا معشر الفقراء إن اللّه رضي لي أن أتأسى بمجالسكم وأن اللّه معنا فقال : ) واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ( فإنها مجالس الأنبياء قبلكم والصالحين ) .
معاوية بن مرّة عن عائذ بن عمرو : أن سلماناً وصهيباً وبلالا كانوا قعدوا فمر بهم أبو سفيان فقالوا له : ما أخذت سيوف الله من عنق عدو اللّه مأخذها بعد . فقال لهم أبو بكر ( رضي الله عنه ) : تقولون هذا لشيخ قريش وسيّدها ثم أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( يا أبا بكر لعلك أغضبتهم إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك ) فوقع أبو بكر فيهم فقال : لعلي أغضبتكم ؟ قالوا : لا يا أبا بكر يغفر اللّه لك .
الأنعام : ( 54 ) وإذا جاءك الذين . . . . .
) وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا ( إختلفوا فيما نزلت هذه الآية . فقال عكرمة : نزلت في الذين نهى اللّه عز وجل نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن طردهم وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال :
(4/151)

" صفحة رقم 152 "
( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام ) .
وقال الكلبي : لما نزلت هذه الآية ) ولا تطرد الذين يدعون ربهم ( جاء عمر ( رضي الله عنه ) للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاعتذر إليه من مقالته واستغفر اللّه تعالى منها ، وقال : يا رسول اللّه ما أردت بهذا إلاّ الخير فنزل في عمر ( رضي الله عنه ) ) وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ( الآية .
وقال عطاء : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة وصهيب بن عمير وعمر وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر ، والأرقم بن الأرقم وأبي سلمة بن الأسد رضي اللّه عنهم أجمعين .
وقال أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) عنه : أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) رجال فقالوا : إنا أصبنا ذنوباً كثيرة عظيمة فسكت عنهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل اللّه على الرجال الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ) كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ( قال مجاهد : لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته ركب الأمر وكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل ، وقيل : جاهل بما يورثه ذلك الذنب ، يقال : جهل حين آثر المعصية على الطاعة ) ثم تاب من بعده ( فرجع عن دينه ) وأصلح ( عمله ، وقيل : أخلص توبته ) فإنه غفور رحيم ( واختلف القراء في قوله تعالى ) إنه ( ( الكوفيون ) بفتح الألف منهما جميعاً . إبن كثير والأعمش وابن عمر وحمزة والكسائي على الإستئناف ، ونصبها الحسن وعاصم ويعقوب بدلاً من رحمة ، وفتح أهل المدينة الأولى على معنى وكتب إنّه وكسروا الثانية على الاستئناف لأن ما بعدها لا يخبر أبداً
الأنعام : ( 55 ) وكذلك نفصل الآيات . . . . .
) وكذلك ( أي هكذا ، وقيل : معناه وفصلنا لك في هذه السورة والآية .
وجاء في أعلى المشروح في المنكرين من كذلك ) نفصل الآيات ( أي نميز ونبين لك حجتنا وأدلتنا في كل من ينكر أهل الباطل ) ولتستبين سبيل المجرمين ( مرّ رفع السبيل ومعناه وليظهر وليتضح طريق المجرمين . يقال بأن الشيء وأبان وتبيان وتبين إذا ظهر ووضح والسبيل يذكر ويؤنث ، فتميم تذكر ، وأهل الحجاز يؤنثه ، ودليل المذكر قوله عزّ وجل ) وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ( ) وإن يروا سبيل الغيّ يتّخذوه سبيلا ( ودليل التأنيث قوله تعالى ) لم تصدون عن سبيل اللّه من آمن تبغونها عوجاً ( وقوله عز وجل ) قل هذه سبيلي أدعوا إلى اللّه على بصيرة ( ولذلك قرأ ولتستبين بالياء والتاء ، وقرأ أهل المدينة ولتستبين بالتاء ، سبيل بالنصب على خطاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عناه ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين ، يقال واستبين الشيء وتبينته إذا عرفته
الأنعام : ( 56 ) قل إني نهيت . . . . .
) قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون اللّه قل لا أتّبع أهواءكم ( في عبادة الأوثان وطرد بلال وسلمان ) قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ( يعني إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير الهدى .
(4/152)

" صفحة رقم 153 "
وقرأ يحيى بن وثاب ( وأبو رجاء ) : قد ضللت ، بكسر اللام وهما لغتان ضلّ يضلّ مثل قلّ يقلّ . وضلّ يضلّ مثل ملّ يملّ ، والأولى هي الأصح والأفصح لأنها لغة أهل الحجاز
الأنعام : ( 57 ) قل إني على . . . . .
) قل إني على بينة ( بيان وبرهان وبصيرة وحجة ) من ربي وكذبتم به ( أي بربي ) ما عندي ما تستعجلون به ( يعني العذاب ، نزلت في النضر بن الحرث ) إن الحكم ( ما القضاء ) إلا للّه يقص الحق ( قرأ أهل الحجاز ، وعاصم يقص الحق بالصاد المشددة أي يقول الحق قالوا : لأنه مكتوب في جميع المصاحف بغير ياء ولأنه قال الحق فإنما يقال قضيت بالحق . وقرأ الباقون : بالضاد أي يحكم بالحق دليله قوله ) وهو خير الفاصلين ( والفصل جلب القضاء ، والقرّاء إنما حذفوا الياء للإستثقال ثم ( . . . ) كقوله ) صال الجحيم ( وقوله ) يمحو اللّه ما يشاء ( و ) فما تغن النذر ( ) سندع الزبانية ( ونحوها وحذفوا الباء من الحق لأنه صفة المصدر فكأنه يقضي القضاء الحق .
الأنعام : ( 58 ) قل لو أن . . . . .
) قل لو أن عندي ( بيدي ) ما تستعجلون به ( هو العذاب ) لقضي الأمر بيني وبينكم ( أي فرغ من العذاب وأهلكتم ) واللّه أعلم بالظالمين ( .
2 ( ) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَْيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 2
الأنعام : ( 59 ) وعنده مفاتح الغيب . . . . .
) وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو ( المفاتح جمع المفتح .
وقرأ ابن السميقع : بمفاتيح على جمع المفتاح ، يعني ومن عنده معرفة الغيب وهو يفتح ذلك بلطفه ، واختلفوافي مفاتيح الغيب
(4/153)

" صفحة رقم 154 "
فروى عبد اللّه بن عمر إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( مفاتح الغيب خمس . . . . . . . إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن اللّه عليم خبير ) .
وقال السدي : مفاتح الغيب خزائن الغيب . مقاتل ، والضحّاك : يعني خزائن الأرض . وعلم نزول العذاب متى ينزل بكم .
عطاء : يعني ما غاب عنكم من الثواب والعقاب وما يصير إليه أمري وأمركم ، وقيل : هي الآجال ووقت انقضائها ، وقيل : أحوال العباد من السعادة والشقاوة ، وقيل : عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال ، وقيل : هي ما لم يكن بعد إنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون .
وقال ابن مسعود : أوتي نبيّكم علم كل شيء إلاّ مفاتيح الغيب ) ويعلم ما في البر والبحر ( .
قال مجاهد : البر القفار والبحر كل قرية فيها ماء ) وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها (
قال ابن عباس : ما شجرة في بر ولا بحر إلاّ وبها ملك وكّل يعلم من يأكل وما يسقط من ورقها وقل منكم عند ما بقي من الورق على الشجر وما سقط منها .
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول : معناه يعلم كما تقلبت ظهراً لبطن إلى أن سقطت على الأرض ) ولا حبة في ظلمات الأرض ( أي في بطون الأرض ، وقيل : تحت الصخرة في أسفل الأرضين ) ولا رطب ولا يابس ( قال ابن عباس : الرطب الماء ، واليابس البادية . وقال عطاء : يريد ما ينبت وما لا ينبت .
وقال الحسن : يكتبه اللّه رطباً ويكتبه يابساً لتعلم يا بن آدم إن عملك أولى بها ( من إصلاح ) تلك الجنة .
وقال : الرطب لسان المؤمن رطب بذكر اللّه ، واليابس لسان الكافر لا يتحرك بذكر اللّه . وبما يرضي اللّه عز وجل . وقيل : هي الأشجار والنبات .
وروى الأعمش عن أبي زياد عن عبد اللّه بن الحرث ، فقال : ما في الأرض من شجرة ولا كمغرز إبرة إلاّ عليهاملك وكل يأتي اللّه بعلمها ويبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت .
محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من زرع على الأرض ولا ثمار
(4/154)

" صفحة رقم 155 "
على أشجار ( ولا حبة في ظلمات الأرض ) إلاّ عليها مكتوب : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، رزق فلان ابن فلان وذلك قوله تعالى في محكم كتابه ) وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ولا حبة في في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ( ) .
) إلاّ في كتاب مبين }
الأنعام : ( 60 ) وهو الذي يتوفاكم . . . . .
) وهو الذي يتوفاكم بالليل ( أي يقبض أرواحكم في منامكم ) ويعلم ما جرحتم بالنهار ( وأصله من ( جارحة ) اليد .
ثم قيل لكل عليك جارح أي عضو من أعضائه عمل ومنه ( الزرع الجيد ) ، ويقال لا ترك اللّه له جارحاً أي عبداً ولا أمة يكسب له ) ثم يبعثكم ( أي ينشركم ويوقظكم ) فيه ( في النار ) ليقضي أجلٌ مسمىًّ ( يعني أجل الحياة إلى الممات حتى ينقضي أثرها ورزقها .
فقرأ أبو طلحة وأبو رجاء ) لنقضي ( بالنون المفتوحة أجلاً نصب ، وفي هذا إقامة الحجة على منكري البعث يعني كما قدرت على هذا فكذلك أقدر على بعثكم بعد الموت .
وقال : مكتوب في التوراة : يا ابن آدم كما تنام كذلك تموت وكما توقظ كذلك تبعث ) ثم إليه مرجعكم ( في الآخرة ) ثم ينبئكم ( يخبركم ويجازيكم ) بما كنتم تعملون }
الأنعام : ( 61 ) وهو القاهر فوق . . . . .
) وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ( يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم وهو جمع حافظ ، ونظيره قوله ) وإن عليكم لحافظين ( قال عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : ومن الناس من يعيش شقيّاً جاهل القلب ، غافل اليقظة ، فإذا كان ذا وفاء ورأى حذر الموت واتقى الحفظة ، إنما الناس راحل ومقيم الذي راح للمقيم عظة ) حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ( يعني أعوان ملك الموت يقبضونه ثم يدفعونه إلى ملك الموت ) وهم لا يفرطون ( لا يعصون ولا يضيعون .
وقرأ عبيد بن عمر : لا يفرطون بالتخفيف معنى لا يجاوزون الحد
الأنعام : ( 62 ) ثم ردوا إلى . . . . .
) ثم ردوا إلى اللّه ( يعني الملائكة وقيل : يعني العباد ) مولاهم الحق ألا له الحكم ( القضاء في خلقه ) وهو أسرع الحاسبين ( يعني لا يحتاج إلى رويّة ولا تقدير
الأنعام : ( 63 ) قل من ينجيكم . . . . .
) قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ( إذا ضللتم الطريق وخفتم الهلاك ) تدعونه تضرعاً وخفية ( وقرأ عاصم : وخفية وهما لغتان . وقرأ الأعمش وخفية من الخوف كالذي في الأعراف ) لئن أنجانا اللّه من هذه ( أي ويقولون لئن أنجيتنا من هذه يعني الظلمات ) لنكونن من الشاكرين ( من المؤمنين
الأنعام : ( 64 ) قل الله ينجيكم . . . . .
) قل اللّه ينجيكم منها ومن كل كرب ( حزن ) ثم أنتم تشركون }
الأنعام : ( 65 ) قل هو القادر . . . . .
) قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ( يعني
(4/155)

" صفحة رقم 156 "
الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح ) أو من تحت أرجلكم ( يعني الخسف كما فعل بقارون .
وقال مجاهد : عذاباً من فوقكم السلاطين ، الذين من تحت أرجلكم العبيد السوء .
الضحّاك : عذاباً من فوقكم من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم من أسفل منكم ) أو يلبسكم شيعاً ( أو يخلقكم ويفرق ويبث فيكم الأهواء المختلفة ) ويذيق بعضكم بأس بعض ( يعني السيوف المختلفة بقتل بعضكم بعضاً كما فعل ببني إسرائيل ، فلما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا جبرئيل ما بقاء أمتي على ذلك ؟ فقال له جبرائيل : إنما أنا عبد مثلك ) فسل ربك ؟ فقام رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وتوضأ وصلى وسأل ربه فأعطى آيتين ومنع واحدة ، قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( سألته أن يبعد على أمتي عذاباً من فوقهم ومن تحت أرجلهم فأعطاني ذلك ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني ، وأخبرني جبرئيل ( عليه السلام ) أن فناء أمتي بالسيف ) .
وقال الزهري : راقب خباب بن الأرث رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ذات ليلة يصلي فلما فرغ ، قال : وقت الصباح لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها ، قال : أجل إنها صلاة رغبة ورهبة سألت ربي فيها ثلاثاً وأعطاني إثنتين ، وزوى عني واحدة ، سألته أن لا يسلط على أمتي عدواً من غيرهم فأعطاني ، وسألته أن لا يرسل عليهم سنة فتهلكهم فأعطاني ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فزواها عني ) .
) أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون }
الأنعام : ( 66 ) وكذب به قومك . . . . .
) وكذب ( قرأ إبراهيم بن عبلة وكذبت بالتاء ) به ( أي بالقرآن وقيل : بالعذاب ) قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل ( أي حفيظ ورقيب وقيل : مسلط ) إنما أنا رسول 2 )
الأنعام : ( 67 ) لكل نبإ مستقر . . . . .
) لكل نبأ مستقر ( موضع قوله وحقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله .
قال مقاتل : لكل خبر يخبره اللّه تعالى وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير .
قال الكلبي : لكل قول أو فعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه . وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لهم ) وسوف تعلمون ( ذلك .
وقال الحسن : لكل عمل جزاء فمن عمل عملاً من الخير جوزي به الجنة ، ومن عَمِل عَمَل سوء جوزي به النار ، وسوف تعلمون يا أهل مكة .
وقال السدي : لكل نبأ مستقر أي ميعاد وحد تكتموه ، فسيأتيكم حتى تعرفوه
(4/156)

" صفحة رقم 157 "
وقال عطاء : لكل نبأ مستقر يؤخر عقوبته ليعمل ذنبه فإذا عمل ذنبه عاقبه .
قال الثعلبي : ورأيت في بعض التفاسير إن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع عليه السن .
2 ( ) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِىءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَلَاكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الاَْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِىإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 2
الأنعام : ( 68 ) وإذا رأيت الذين . . . . .
) وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ( يعني القرآن الإستهزاء والكذب ) فأعرض عنهم ( فاتركهم ولا تجالسهم ) حتى يخوضوا ( يدخلوا ) في حديث غيره ( غير القرآن ، وذلك إن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فسبوا واستهزؤا بالقرآن ، فنهى اللّه المؤمنين عن مجالستهم ) وإما ينسينك ( .
قرأ ابن عباس وابن عامر : ينسونك بالتشديد ) الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ( فقم من عندهم بعد ما ذكرت ثم قال
الأنعام : ( 69 ) وما على الذين . . . . .
) وما على الذين يتقون ( الخوض ) من حسابهم ( من أيام الخائضين ) من شيء ( .
قال ابن عباس : قال المسلمون : فإنا نخاف الإثم حين نتركهم فلا ننهاهم فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية .
وقال ابن عباس في رواية أخرى : قال المسلمون : لئن كنا كلما استهزأ المشركون في القرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزل ) وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ( ) ولكن ذكرى ( أي ذكروهم وعظوهم وهي في محل النصب على المصدر أي ذكروهم ذكرى والذكر والذكرى واحد ويجوز أن يكون في موضع الرفع أي هو ذكرى ) لعلهم يتقون ( الخوض إذا وعظتموهم ، وقيل : وإذا قمتم يسعهم في ذلك من الإستهزاء والخوض . وقيل : لعلهم يستحيون
الأنعام : ( 70 ) وذر الذين اتخذوا . . . . .
) وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً ( باطلا
(4/157)

" صفحة رقم 158 "
ً وفرحاً ) وغرتهم الحياة الدنيا ( وذلك أن اللّه تعالى جعل لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه فكان قوم إتخذوا عيدهم لهواً ولعباً إلاّ أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة للّه .
وذكرا مثل الجمعة والفطر والنحر ) وذكّر به ( وعظ بالقرآن ) أن تبسل نفس بما كسبت ( يعني أن لا تبسل كقوله تعالى بين اللّه لكم أن تضلوا . ومعنى الآية ذكرهم ليؤمنوا فلا تبسل نفس بما كسبت .
قال ابن عباس : تهلك ، قتادة : تحيس .
الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي : تسلم للهلكة . علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : تفضح .
الضحاك : تفضح وتحرق . المؤرخ ، وابن زيد : تؤخذ .
قال الشاعر :
وإبسالي بني بغير جرم
بعونها ولا بدم مراق
العوف بن الأحوض : وكان رهن بيته وحمل عن غنى لبني قشير دم السحقية . فقالوا : لا نرضى بك ، فدفعهم رهناً ، وقوله بعونا أي جنيناً ، والبعو الجناية .
وقال الأخفش : تبسل أي تجزى . وقال الفراء : ترتهن .
وأنشد النابغة الجعدي :
ونحن رهناً بالأفاقة عامراً
بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا
وقال عطية العوفي : يسلم في خزية جهنم .
وقال أهل اللغة : أصل الإبسال التحريم ، يقال : أبسلت الشيء إذا حرمته ، والبسل الحرام .
قال الشاعر :
بكرت تلومك بعد وهن في الندى
بسل عليك ملامتي وعتابي
فقال : أنشدنا بسل أي شجاع لا يقدّر موته كأنه قد حرم نفسه ثم جعل ذلك نعتاً لكل شديد . يترك ، ويبقى . ويقال : شراب بسل أي متروك .
قال الشنفرى
(4/158)

" صفحة رقم 159 "
هنالك لا أرجو حياة تسرني
سمير الليالي مبسلاً بالجرائر
وقوله تعالى ) ليس لها ( أي لتلك الأنفس ) من دون اللّه ولي ( حميم وصديق ) ولا شفيع ( يشفع لهم في الآخرة ) وإن تعدل كل عدل ( تفد كل فداء ، ) لا يؤخذ منها ( .
قال أبو عبيدة : وإن يقسطه كل قسط لا يقبل منها لأن التوبة في الحياة ) أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون }
الأنعام : ( 71 ) قل أندعو من . . . . .
) قل أندعوا من دون اللّه ( نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر حين دعا أباه إلى الكفر فأنزل اللّه تعالى قل أندعوا من دون اللّه ) ما لا ينفعنا ( إن عبدناه ) ولا يضرنا ( إن تركناه ) ونرد على أعقابنا ( إلى الشرك ) بعد إذ هدانا اللّه ( .
وتقول العرب لكل راجع خائب لم يظفر بحاجته : ردّ على عقبيه ونكص على عقبيه فيكون مثله ) كالذي استهوته الشياطين ( أي أضلته .
وقال ابن عباس ( رضي الله عنه ) : كالذي استغوته الغيلان في المهامة وأضلوه وهو حائر بائر ) في الأرض حيران ( وحيران نصب على الحال .
وقرأ الأعمش ، وحمزة : كالذي إستهوا به ، بالباء . وقرأ طلحة : إستهواه بالألف .
وقرأ الحسن : إستهوته الشياطون وفي مصحف عبد اللّه وأُبي إستهواه الشيطان على الواحد
) له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ( يعني أتوا به ، وقيل : أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) قل إن هدى اللّه هو الهدى وأمرنا لنسلم ( أي لأن نسلم ) لرب العالمين }
الأنعام : ( 72 - 73 ) وأن أقيموا الصلاة . . . . .
) وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ( إلى قوله ) ينفخ في الصور ( .
قال أبو عبيدة : هو جمع صورة مثل سورة وسور .
قال العجاج :
ورب ذي سرادق محجور
سرت إليه في أعالي السور
وقال آخرون : هو فرن ينفخ فيه بلغة أهل اليمن .
وأنشد العجاج :
نطحناهم غداة الجمعين
بالضابحات في غبار النقعين
نطحاً شديداً لا كنطح الصورين
(4/159)

" صفحة رقم 160 "
يدل على هذا الخبر المروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كيف أنعم صاحب القرن قد أكتم القرن ( وحنى حنينه ) وأصغى سمعه فنظر متى يؤمر فنفخ ، ثم قال ) عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير (
.
) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّىأَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِىإِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاأُحِبُّ الاَْفِلِينَ فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَاذَا رَبِّى هَاذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاَْمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الاَْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 2
الأنعام : ( 74 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
) وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ( .
قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي : وآزر أبو إبراهيم وهو تارخ مثل إسرائيل
ويعقوب وكان من أهل كوثى قرية من سواد الكوفة .
وقال مقاتل بن حيان : لأب إبراهيم .
وقال سليمان ( التيمي ) : هو سب وعيب . ومعناه في كلامهم المعوج وقيل : معناه الشيخ ( الهنم ) بالفارسية وهو على هذه الأقاويل في محل الخفض على البدل أو الصفحة ولكنه نصب لأنه لا ينصرف .
وقال سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، ويمان : آزر إسم صنم وهو على هذا التأويل في محل نصب .
وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره أتتخذ آزر أصناماً ألهة .
وقرأ الحسن وأبو يزيد المدني ويعقوب الحضرمي : آزر بالرفع على النداء بالمفرد يعني يا آزر ) أتتخذ أصناماً ألهة ( من دون اللّه إلى قوله
الأنعام : ( 75 ) وكذلك نري إبراهيم . . . . .
) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ( يعني كما أريناه البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه نريه ملكوت السماوات
(4/160)

" صفحة رقم 161 "
والأرض أي ملكهما والملكوت الملك وبدت فيه وجدت التاء للتأنيث في الجبروت والرهبوت والرحموت .
وحكي عن العرب سراعاً له مليكوت اليمن والعراق .
وقال الكسائي : زيدت فيه التاء للمبالغة . وأنشد :
وشر الرجال الخالب الخلبوت
وقال عكرمة : هو الملك غير إنها بالنبطية ملكوتاً . وقرأها بالياء المعجمة مليّاً .
وقال ابن عباس : يعني خلق السماوات والأرض .
مجاهد وسعيد بن جبير : يعني آيات السماوات والأرض ، وذلك إنه أقيم على صخرة وكشفت له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرض ونظر إلى مكانه في الجنة . وذلك قوله ) وآتيناه أجره في الدنيا ( يعني أريناه مكانه في الجنة .
قال قتادة : إن إبراهيم ( عليه السلام ) حدث نفسه إنه أرحم الخلق . فرفعه اللّه عز وجل حتى أشرف على أهل الأرض وأبصر أعمالهم فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال لله : دمرّ عليهم ، وجعل يلعنهم . فقال له ربه : أنا أرحم بعبادي منك ، إهبط فلعلّهم يتوبوا .
قيس بن أبي حازم عن علي كرم اللّه وجهه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لما أرى اللّه تعالى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي اللّه فدعا اللّه عليه فهلك ، ثم أشرف على آخر فدعا اللّه عليه فهلك ، ثم أشرف على آخر فلما أراد أن يدعو عليه أوحى اللّه عز وجل إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعونّ على عبادي فإنهم مني على ثلاث خصال : إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه ، وإما أن أُخرج منه نسمة تسبّح ، وإما أن ( يعود ) إلي فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته ) .
وقال الضحاك : ملكوت السماوات والأرض الشمس والقمر والنجوم . وقال قتادة : خبيء إبراهيم ( عليه السلام ) من جبار من الجبابرة فحول له رزق في أصابعه فإذا مص إصبعاً من أصابعه وجد فيها رزقاً فلما خرج أراه اللّه ملكوت السماوات والأرض وكان ملكوت السماوات الشمس والقمر والنجوم ، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار .
) وليكن من الموقنين }
الأنعام : ( 76 ) فلما جن عليه . . . . .
) فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً ( إلى آخر الآية .
قال المفسرون : إن إبراهيم ( عليه السلام ) ولد في زمن نمرود بن كيفان وكان نمرود أول
(4/161)

" صفحة رقم 162 "
من وضع التاج على رأسه وقلد التاج عليه ودعاء الناس ( . . . . ) وكان له كهان ومنجمون . وقالوا : إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه . ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام .
وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكباً اطلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعاً شديداً ودعا السحرة والكهنة والجازة والقافة فسألهم عن ذلك فقالوا : مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاك ملكك وأهل بيتك على يديه . قالوا : فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشر رجلاً ، فإذا حاضت إمرأة خليت بينها وبينه ، فإذا طهرت عزل بينها ، فرجع آزر أبو إبراهيم فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فوقع عليها في طهرها فلقفت فحملت إبراهيم ( عليه السلام ) .
قال محمد بن إسحاق : بعث النمرود إلى كل إمرأة حبلى بقريته فحبسها عنده ، إلاّ ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها وذلك إنها كانت جارية حديثة السن لم تعرف الحمل في بطنها .
قال السدي : خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء خوفاً من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء اللّه ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحداً من قومه إلاّ أزر فبعث إليه ودعاه . فقال : إن لي إليك حاجة أحبّ أن أوصيك بها ولا أبعثك إلاّ لثقتي بك بما أقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ولا تواقعها ، فقال آزر : أنا أشحّ على ديني من ذلك ، فأوصاه بحاجته ثم بعثه فدخل المدينة وقضى حاجته ، ثم قال : قد دخلت على أهلي ونظرت إليه فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى وقع عليها فحملت بإبراهيم .
قال ابن عباس : لما حملت أم إبراهيم ، قالت الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة ، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادت أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في نهر يابس ، ثم لفته في خرقة فوضعته في حلفاء فرجعت فأخبرت بأنها ولدت وإن الولد في موضع كذا فانطلق أزر يأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً عند نهر فواراه فيه وسدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع ، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه .
وقال السدي : لما أعظم بطن أم إبراهيم خشي آزر أن يذبح فانطلق بها إلى أرض بين الكوفة والبصرة يقال لها أورمة فأنزلها في سرب من الأرض وجعل عندها ماء يصلهما وجعل يتعمدها ويكتم ذلك من أصحابه فولدت في ذلك السرب وشب وكان وهو ابن سنة كابن ثلاث سنين وصار من الشباب مخافة أن ( يسقط في ) طمع الذباحين ثم ذكر آزر لأصحابه أن لي إبناً كبيراً فانطلق به إليهم .
(4/162)

" صفحة رقم 163 "
وقال ابن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريباً منها فولدت فيها إبراهيم فأصلحت من شأنه ما يصنع من المولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل فتجده حيّاً يمص إبهامه .
وقال أبو روق : كانت أم إبراهيم كلما دخلت على إبراهيم وجدته يمص أصابعه ، فقالت ذات يوم : لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع عسلاً ومن إصبع لبناً ومن إصبع تمراً ومن إصبع سمناً .
قال محمد بن إسحاق : وكان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل . فقالت : ولدت غلاماً فمات ، فصدقها فسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر ، والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلاّ خمسة عشر شهراً ثم رجع إلى أبيه آزر فأخبره إنه إبنه و . خبرته أم إبراهيم إنه إبنه وأخبرته بما كانت صنعت في غيابه فسر بذلك آزر وفرح فرحاً شديداً ، قالوا : فإنما شب إبراهيم وهو في السرب بعد ما قال لأمه : من ربي ؟
قالت : أنا ، قال : فمن ربك ؟ قالت : أبوك ، قال : فمن ربّ أبي ؟ قالت له : أسكت ، فسكت ، فلما رجعت إلى زوجها قالت : أرأيت الغلام الذي كنّا نتحدّث إنه بغير دين أهل الأرض فإنه إبنك ثم أخبرته بما قال لها ، فأتاه أبوه آزر فقال له إبراهيم : يا أبتاه من ربي ؟ قال : أمك ، قال : فمن رب أمي ؟ قال : أنا ، قال : من ربك أنت ؟ قال نمرود ، قال : فمن رب نمرود ؟ فلطمه لطمة وقال : أسكت وقم ، قال لأبويه : أخرجاني ، فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل ، والخيل ، والغنم ، فقال : أباه ما هذه ؟ قال : إبل وخيل وغنم ، فقال : مالهذه بدّ من أن يكون لها رب وخالق ثم نظر وتفكر في خلق السماوات والأرض . فقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني ربي مالي إله غيره . ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال الزهرة وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر . فقال : هذا ربي فذلك قوله عز وجل : ) فلما جن عليه الليل ( أي دخل يقال : جن الليل وأجن وجنه الليل وأجنه وجن عليه الليل يجن جنوناً وجناناً إذا أظلم ومضى كلّ شيء ، وإنما سميت الجن لاجتنانها فلا ترى .
قال أبو عبيدة : جنون الليل سواده ، وأنشد :
فلولا جنان الليل أدرك ركضنا
بذي الرمث والأرطي عياض بن ناشب
ورأى كوكباً ) فقال هذا ربي ( إختلفا فيه فأجراه بعضهم على الظاهر . وقالوا : ما كان
(4/163)

" صفحة رقم 164 "
إبراهيم ( عليه السلام ) مسترشداً متحيراً طالباً من التوفيق حتى وفقه اللّه تعالى ، وآتاه رشده ، فإنما كان هذا منه في حال طفولته ، وقبل قيام الحجّة عليه وفي تلك يقول : لا يكون كفر ولا إيمان .
يدل عليه ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : لما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فعبده حتى غاب فلما غاب ) قال لا أحب الآفلين }
الأنعام : ( 77 ) فلما رأى القمر . . . . .
) فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي ( فعبده حتى غاب فلما غاب ) فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالين }
الأنعام : ( 78 ) فلما رأى الشمس . . . . .
) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ( فعبدها حتى غابت الشمس فلما غابت ) قال : يا قوم إني بريء مما تشركون ( .
وأنكر الآخرون هذا القول ، وقالوا : غير جائز أن يكون للّه عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات وهو غير موحد وعارف ومن كلّ معبود سواه بريء .
قالوا : وكيف قومهم هذا على عصمة اللّه وطهره في مستقره ومستودعه وآتاه رشده من قبل ، وأراه ملكوته فقال : ) إذ جاء ربّه بقلب سليم ( وقال ) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ( رأى كوكباً فقال ) هذا ربي ( على الإعتقاد والحقيقة هذا ما لا يكون أبداً .
ثم قيل فيه أربعة أوجه من التأويل : الوجه الأول : أن إبراهيم ( عليه السلام ) أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموا ويقيم عليهم الحجة ويريهم أنه معظم ما يعظموه ويلتمس الهدى من حيث التمسوا فلما أفل رأيهم النقص الداخل في النجوم ليتبينوا خطأ ما يدعون وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمونها .
قالوا : ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون بدّاً لهم وهو الصنم وأظهر فعظمه فأراهم الإجتهاد ( . . . ) كرموا وصدوا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن ذمهم عدو لهم خافه الملك على ملكه فشاور الحواري في أمره .
فقالوا الرأي : أن تدعوا إلهنا حتى يكشف ما قد أضلنا فإنا لمثل هذا اليوم مجتمعون فاجتمعوا حوله يجأرون ويتضرعون وأمر عدوهم يستعجل ويتوكل فلما تبين لهم أن ربّهم لا ينفع ولا يرفع فقال لهم على جهة الإستفهام والتوبيخ لفعلهم ) هذا ربي ( ومثل هذا يكون ربّاً ؟ أي ليس هذا ربي كقول اللّه تعالى ) تكونا من الخالدين ( يعني أنهم الخالدون .
(4/164)

" صفحة رقم 165 "
وكقول موسى ( عليه السلام ) لفرعون : ) وتلك نعمة تمنَّها عليّ ( يعني أو تلك نعمة نعمتها .
قال الهذلي :
رفعوني وقالوا يا خويلد لا ترع
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقال آخر :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا
شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
والوجه الثالث : أن إبراهيم ( عليه السلام ) قال هذا على وجه الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك في ربه كأنه قال : هذا ربي عندكم فلمّا أفل قال : وكان الهلال قال : هذا أكبر منه فنظر إلى الذي عكفت عليه ها هنا يعني عندك وقوله : ) ذق إنك أنت العزيز الكريم ( بقوله حزنه في النار لأبي جهل يعني إنك كذا عند نفسك وأما عندنا فلا عزيزاً ولا كريماً ، في الآية إختصار وإضمار ومعناها قال : يقولون هذا ربي كقوله ) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا ( أي يقولون ربنا تقبل منا . فلما أفل غاب وزال قال : لا أحب الآفلين رباً ، لا يدوم ، فلما رأى القمر بازغاً طالعاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين عن الهدى فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي .
قال محمد بن مقاتل الرازي : إنما قال هذا ولم يقل هذه لأنه رأى ضوء الشمس ولم ير عين الشمس . فرده إلى الشعاع .
وقال الأخفش : أراد هذا الطالع ربي أو هذا الآتي أراه ربي هذا أكبر لأنه رآه أضوأ وأعظم فلما غربت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون
الأنعام : ( 79 ) إني وجهت وجهي . . . . .
) إني وجهت وجهي ( الآية . وكان آزر يصنع الأصنام فلما ضم إبراهيم إلى نفسه جعل يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليصرفها فيذهب بها إبراهيم فينادي : من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد ، فإذا زادت عليه ذهب بها إلى نهر فصوّب فيها رؤسها وقال : إشربي إستهزاءً بقومه وبما هم عليه من الضلالة حتى فشى عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته
الأنعام : ( 80 ) وحاجه قومه قال . . . . .
) وحاجّه ( أي خاصمه ) قومه ( في دينه ) قال لهم ( ) أتحاجّوني في اللّه وقد هداني ( عرّفني التوحيد والحق ) ولا أخاف ما تشركون به ( وذلك إنهم قالوا له : أما تخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من برص أو خبل لعيبك إيّاها ؟ فقال لهم : ولا
(4/165)

" صفحة رقم 166 "
أخاف ما تشركون به من الأصنام ) إلاّ أن يشاء ربي ( سواء فيكون بما شاء ) وسع ربي كل شيء علماً ( يعني أحاط علمه بكل شيء ) أفلا تتذكرون (
الأنعام : ( 81 ) وكيف أخاف ما . . . . .
) وكيف أخاف ما أشركتم ( يعني الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع ) ولا تخافون أنكم أشركتم باللّه ما لم ينزل به عليكم سلطاناً ( حجة وبرهاناً وهو القاهر القادر على كل شيء ثم قال ) فأي الفريقين أحق بالأمن ( أولى بالأمن ( أنحن ومن اتّبع ديني ) ) إن كنتم تعلمون ( فقال اللّه عز وجل قاضياً وحاكماً بينهما
الأنعام : ( 82 ) الذين آمنوا ولم . . . . .
) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم ( ولم يخلطوا إيمانهم بشرك ) أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ( .
قال عبد اللّه بن مسعود : لما نزلت هذه الآية طبق ذلك على أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : إننا لم نظلم نفسه ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه ) ) يا بني لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم ( ) . ( إنما هو الشرك ) .
الأنعام : ( 83 ) وتلك حجتنا آتيناها . . . . .
) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ( يعني خصمهم وغلبهم بالحجة قال هي قوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم . قال بعبادة الأوثان ) نرفع درجات من نشاء ( بالعلم .
وقرأ أهل الكوفة ويحيى بن يعمر وإبن ( محيصن ) : درجات بالتنوين يعني نرفع من نشاء درجات ، مثله سورة يوسف ) إن ربك حكيم عليم ( .
2 ( ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَاؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( 2
الأنعام : ( 84 ) ووهبنا له إسحاق . . . . .
) ووهبنا له ( لإبراهيم ) إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ( وفقنا وأرشدنا ) ونوحاً هدينا من قبل ( إبراهيم وولده ) ومن ذريته ( يعني ومن داود ونوح لأن داود لم يكن من ذرية إبراهيم وهو داود بن أيشا ) داود وسليمان ( يعني إبنه ) وأيوب ( وهو أيوب بن ( أموص بن رانزخ بن ) روح ابن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم ) ويوسف ( وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الذي قال رسول
(4/166)

" صفحة رقم 167 "
اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) ) وموسى ( وهو موسى بن عمران بن ( صهر بن فاعث بن لادي ) بن يعقوب .
وهارون وهو أخو موسى أكبر منه بسنة ) وكذلك ( أي كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولاداً أنبياء أتقياء ) نجزي المحسنين ( على إحسانهم
الأنعام : ( 85 ) وزكريا ويحيى وعيسى . . . . .
) وزكريا ( وهو زكريا بن أزن بن بركيا ) ويحيى ( وهو إبنه ) وعيسى ( وهو إبن مريم بنت عمران بن أشيم بن أمون بن حزقيا ) وإلياس ( .
واختلفوا فيه ، فقال عبد اللّه بن مسعود : هو إدريس مثل يعقوب وإسرائيل .
وقال غيره : هو إلياس بن بستي بن فنخاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي اللّه ( عليه السلام ) وهو ( النصيح ) لأن اللّه تعالى نسب في هذه الآية الناس إلى نوح وجعله من ذريته ونوح هو إبن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ وهو إدريس ومحال أن يكون جدّ أبيه منسوباً إلى أنه من ذريته ) وكل من الصالحين ( يعني الأنبياء والمؤمنين
الأنعام : ( 86 ) وإسماعيل واليسع ويونس . . . . .
) وإسماعيل ( وهو إبن إبراهيم ) واليسع ( وهو اليسع بن إخطوب بن العجون ) ويونس ( وهو يونس بن متى ) ولوطاً ( وهو لوط بن هارون أو ابن أخي إبراهيم ( عليه السلام ) ) وكلاً فضلنا على العالمين ( يعني عالمي زمانهم
الأنعام : ( 87 ) ومن آبائهم وذرياتهم . . . . .
) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم ( اختبرناهم واصطفيناهم ) وهديناهم ( سددناهم وأرشدناهم ، ) إلى صراط مستقيم }
الأنعام : ( 88 ) ذلك هدى الله . . . . .
) ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا ( يعني ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم بربهم تعالى ذكره فعبدوا معه غيره ) لحبط عنهم ( بطل عنهم وذهب عنهم ) ما كانوا يعملون }
الأنعام : ( 89 ) أولئك الذين آتيناهم . . . . .
) أولئك الذين آتيناهم الكتاب ( يعني تلك الكتب ) والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء ( يعني قريشاً ) فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ( يعني الأنصار وأهل المدينة .
وقال قتادة : يعني الأنبياء الثمانية عشر الذين قال اللّه عز وجل
الأنعام : ( 90 ) أولئك الذين هدى . . . . .
) أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده ( بسنّتهم وسيرتهم اقتده الهاء فيه هاء الوقف ) قل لا أسئلكم عليه أجراً ( جعلا ورزقاً ) إن هو ( ما هو يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إلاّ ذكرى ( عظة ) للعالمين }
الأنعام : ( 91 ) وما قدروا الله . . . . .
) وما قدروا اللّه حق قدره ( أي ما عظموا اللّه حق عظمته . وما وصفوا اللّه حق صفته ) إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شيء ( .
(4/167)

" صفحة رقم 168 "
قال سعيد بن جبير : جاء رجل من يهود الأنصار يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال النبي : أتشرك باللّه الذي أنزل التوراة على موسى ؟ ما تجد في التوراة إن اللّه يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً فغضب وقال : ما أنزل اللّه على بشر من شيء ، فقال لأصحابه الذين معه ويحك ولا موسى ؟ فقال : ( واللّه ) ما أنزل اللّه على بشر من شيء . فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية .
وقال السدي : إنها نزلت في فحاص بن عازورا ، وهو قائل بهذه المقالة .
محمد بن كعب القرضي : جاء ناس من اليهود إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو محتب وقالوا : يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ( عليه السلام ) ألواحاً يحملها من عند اللّه ؟ فأنزل اللّه عز وجل ) يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ( الآية .
فجاء رجل من اليهود فقال : ما أنزل اللّه عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئاً . فأنزل اللّه هذه الآية .
وقال ابن عباس : قالت اليهود : يا محمد أنزل اللّه عليك كتاباً ؟ قال : نعم . قالوا : واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتاباً فأنزل اللّه ) وما قدروا اللّه حق قدره ( .
معلى بن أبي طلحة عن ابن عباس : نزلت في الكفار أنكروا قدرة اللّه تعالى عليهم فمن أقرّ أن اللّه على كل شيء قدير فقد قدر اللّه حق قدره . ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر اللّه حق قدره .
وقال مجاهد : نزلت في بشر من قريش . قالوا : ما أنزل اللّه على بشر من شيء .
وقوله ) قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ( إلى قوله ) وتخفون كثيراً ( قال : هم اليهود .
وقوله ) وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ( قال هذه المسلمين وهكذا .
روى أيوب عنه إنه قرأ ) وعلمتم ( معشر العرب ) ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ( وقوله ) يجعلونه قراطيس ( أي دفاتر كتبنا جمع قرطاس أي تفرقونها وتكتبونها في دفاتر مقطعة حتى لا تكون مجموعة لتخفوا منها ما شئتم ولا يشعر بها العوام ، تبدونها وتخفون كثيراً من ذكر محمد وآية الرجم ونحوها مما كتبوها .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بن العلاء : يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً كلها بالياء على الإخبار عنهم .
(4/168)

" صفحة رقم 169 "
وقرأها الباقون : بالتاء على الخطاب ، ودليلهم قوله تعالى ممّا قبله من الخطاب . قل من أنزل الكتاب .
وقرأ بعده ) وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ( فإن أجابوك وقالوا : الله ، وإلاّ ف ) قل اللّه ( فعل ذلك ) ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ( حال وليس بجواب تقديره ذرهم في خوضهم لاعبين .
( ) وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَىإِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( 2
الأنعام : ( 92 ) وهذا كتاب أنزلناه . . . . .
) وهذا كتاب ( يعني القرآن ) أنزلناه مبارك ( أي وهذا كتاب مبارك أنزلناه ) مصدق الذي بين يديه ولتنذر ( تخبر .
وقرأ عاصم : بالياء أي ولينذر الكتاب ) أم القرى ( يعني مكة سمّاها أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها ) ومن حولها ( تحمل الأرض كلها شرقاً وغرباً ) والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ( بالكتاب ) وهم على صلاتهم ( يعني الصلوات الخمس ) يحافظون ( يداومون
الأنعام : ( 93 ) ومن أظلم ممن . . . . .
) ومن أظلم ( أي أخطأ قولاً وأجهل فعلاً ) ممن افترى ( اختلق ) على اللّه كذباً ( فزعم إنه بعثه نبياً ) وقال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء ( نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي وكان يستمع ويتكهن ويدعي النبوة ويزعم إن اللّه أوحى إليه وكان قد أرسل إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) رجلين ، فقال لهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتشهدان أنّ مسيلمة نبي ؟ فقالا : نعم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ) .
وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يدي سوارين من ذهب فكبرا عليَّ وأهماني فأوحى اللّه إليَّ أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة ، وكذاب صنعاء الأسود العبسي ) .
) ومن قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه ( نزلت في عبد اللّه بن سعيد بن أبي سرح القرشي ،
(4/169)

" صفحة رقم 170 "
وكان يكتب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكان إذا قال سميعاً عليماً كتب هو عليماً حكيماً ، وإذا قال عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً ، وأشباه ذلك فلما نزلت ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( الآية . أملاها رسول اللّه عجب عبد اللّه من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك اللّه أحسن الخالقين . فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكتبها فهكذا نزلت ) فشك عبد اللّه وقال : لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذباً لقد قلت ( كما كتب ) فارتدّ عن المسلمين ولحق بالمشركين ، وقال لهما : عليكم بمحمد لقد كان يملي عليّ فأغيره وأكتب كما أُريد .
ووشى بعمار وجبير عبد لبني الحضرمي يأخذوهما وعذبوهما حتى أعطياهما الكفر وجذع أذن عمار يومئذ فأخبر عمار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما لقي وبما أعطاهم من الكفر فأبى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتولاّه هؤلاء فأنزل اللّه عز وجل فيه ، وفي خبر : وابن أبي سرح ) من كفر باللّه من بعد إيمانه ( إلى قوله ) بالكفر ( .
يعني عبد اللّه بن سعيد بن أبي سرح ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بمرط هران ) ) ولو ترى إذ الظالمون ( وهم الذين ذكرهم اللّه ووصفهم قبل ) في غمرات الموت ( سكراته وهي جمع غمرة وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه وأضل الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ومنه غمرة الماء ثم استعملت في معنى الشدائد والمكاره ) والملائكة باسطوا أيديهم ( بالعذاب والضرب وجوههم وأدبارهم كما يقال بسط يده بالمكروه ) أخرجوا ( أي يقولون أخرجوا ) أنفسكم ( أرواحكم كرهاً لأنّ نفس المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه ، والجواب محذوف يعني ولو تراهم في هذا الحال لرأيت عجباً .
) اليوم تجزون ( تثابون ) عذاب الهون ( أي الهوان ) بما كنتم تقولون على اللّه غير الحق وكنتم عن آياته ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن ) تستكبرون ( تتعظمون .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سجد للّه سجدة فقد برىء من الكبر
الأنعام : ( 94 ) ولقد جئتمونا فرادى . . . . .
) ولقد جئتمونا فرادى ( هذا خبر من اللّه تعالى أنه يقول للكفار يوم القيامة : ولقد جئتمونا فرادى وجدانا لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم ولا حشم .
قال الحسن : ولقد جئتمونا فرادى كل واحدة على حدة .
وقال ابن كيسان : مفردين من المعبودين ، وفرادى جمع فردان مثل سكران وسكارى
(4/170)

" صفحة رقم 171 "
وكسلان وكسالى . ويقال أيضاً في واحد فرد بجزم الراء وفرِد بكسرها وفرَد بالفتح وأفرد وجمعها أفراد مثل أحاد وفريد وفردان مثل قضيب وقضبان وكثيب وكثبان .
وقرأ الأعرج : فردى بغير ألف مثل كسرى ( وكسلى ) ) كما خلقناكم أوّل مرّة ( عراة حفاة غرلاً بهم ) وتركتم ( وخلفتم ) ما خوّلناكم ( أعطيناكم ومكنّاكم من الأموال والأولاد والخدم ) وراء ظهوركم ( خلف ظهوركم في الدنيا .
روى محمد بن كعب عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملئت ما بين السماء والأرض فيقول الجبار جل جلاله : ( وعزّتي ) وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده ، فتدخل الأرواح في الأجساد وإنما يدخل في الخياشم كما يدخل السم في اللديغ ثم يشق عليكم الأرض وأنا أول من يشق عنه الأرض فينسلون عنهم سراعاً إلى ربكم على سن ثلاثين مهطعين إلى الداعي فيوقفون في موقف منه سبعين عاماً حفاة عراة غرلاً بهم لا يناظر إليكم فلا يقضي بينكم فتبكي الخلائق حتى ينقطع الدمع ويجف العرق ) .
وقال القرضي : قرأت عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قول اللّه عز وجل ) ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ( ، فقالت : يا رسول اللّه وأسوتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ؟ فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكلّ إمرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض ) .
) وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ( وذلك إن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء اللّه وشفعاؤهم عنده ) لقد تقطع بينكم ( .
قرأ أهل المدينة ، والحسن ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، والكسائي : بينكم نصباً .
وقرأ أهل المدينة ، والحسن ، ومجاهد : وهي قراءة أبي موسى الأشعري على معنى لقد تقطع ما بينكم وكذلك هو في قراءة عبد اللّه وقرأ الباقون : بالرفع على معنى لقد تقطع وصلكم فالبين من الأضداد يكفي وصلاً وهجراً وأنشد :
لعمرك لولا البين لا يقطع الهوى
ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف
) وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون ( .
(4/171)

" صفحة رقم 172 "
2 ( ) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذاَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِىأَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِىأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذالِكُمْ لاَْيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 2
الأنعام : ( 95 ) إن الله فالق . . . . .
) إن اللّه فالق الحب ( أي فلق الحب عن النبات ، ومخرج منها الزرع وشاق النوى عن الشجر والنخل ومخرجها منها .
وقال مجاهد : يعني الشقين الذين عناهما .
وقال الضحاك : فالق الحب والنوى ، الحب جمع الحبة وهي كل ما لم يكن لها نواة مثل البر والشعير والذرة والحبوب كلها .
) والنوى ( جمع النواة وهي كل ما يكون له حب مثل الخوخ والمشمش والتمر والأجاص ونحوها .
) يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم اللّه فأنى تؤفكون ( تصدون عن الحق
الأنعام : ( 96 ) فالق الإصباح وجعل . . . . .
) فالق الإصباح ( شاق عمود الصبح من ظلمة الليل وكاشفه .
وقال الضحاك : خالق النهار ، والأصباح مصدر كالإقبال والإدبار وهي الإضاءة .
وقرأ الحسن والقيسي : فالق الأَصباح بفتح الهمزة جعله جمع مثل قرص وأقراص .
) وجاعل الليل سكناً ( سكن فيه خلقه . وقرأ النخعي : فلق الأصباح وجعل الليل سكناً .
وقرأ أهل الكوفة : فالق الأصباح وجعل الليل سكناً على الفعل إتباعاً للمصحف .
وقرأ الباقون : كلاهما بالألف على الإسم .
) والشمس والقمر حسباناً ( أي جعل الشمس والقمر بحساب لا يجاوزاه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما .
وقرأ ( يزيد بن قعنب ) : والشمس والقمر بالخفض عطفاً على اللفظ ، والحسبان مصدر كالنقصان والرحمان وقد يكون جمع حساب مثل شهاب وشهبان ، وركاب وركبان .
) ذلك تقدير العزيز العليم (
الأنعام : ( 97 ) وهو الذي جعل . . . . .
) وهو الذي جعل لكم النجوم ( أي خلقها ) لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (
الأنعام : ( 98 ) وهو الذي أنشأكم . . . . .
) وهو الذي أنشأكم ( خلقكم وابتدأكم ) من نفس واحدة ( يعني آدم ( عليه السلام )
(4/172)

" صفحة رقم 173 "
) فمستقر ( قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : فمستقر بكسر القاف على الفاعل يعني فلكم مستقر .
وقرأ الباقون : بفتح على معنى فلكم مستقر .
واختلف المفسرون في المستقر والمستودع . فقال عبد اللّه بن مسعود : فمستقر في الرحم إلى أن يوادع مستودع في القبر إلى أن يبعث .
وقال مقسم : مستقر حيث يأوي إليه ، ومستودع حيث يموت .
وقال سعيد بن جبير : فمستقر في بطون الأمهات ، ومستودع في أصلاب الآباء .
وقال : قال لي ابن عباس ( رضي الله عنه ) أتزوجت يابن جبير ؟ فقلت : لا وما أريد ذلك بوجه . قال : فضرب ظهري وقال : إنه مع ذلك ما كان مستودع في ظهرك فسيخرج .
عكرمة عن ابن عباس : المستقر الذي قد خلق واستقر في الرحم ، والمستودع الذي قد استودع في الصلب مما لم يخلق بعد وهو خالقه .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : المستقر في الرحم ، والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب .
مجاهد : فمستقر على ظهر الأرض في الدنيا . ومستودع عند اللّه تعالى في الآخرة .
وقال أبو العالية : مستقرها أيام حياتها ، ومستودعها حيث تموت وحيث يبعث .
وقال كرب : دعاني ابن عباس ( رضي الله عنه ) فقال : اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبد اللّه بن عباس إلى فلان حبر تيماء ، أما بعد فحدثني عن مستقر ومستودع . قال : ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي فأعطيته إياه ، فقال : مرحباً بكتاب خليلي من المسلمين فذهب إلى بيته ففتح أسفاطاً له كثيرة فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها . قال : قلت له : ما شأنك ؟ قال : هذه أشياء كتبها اليهود ، حتى أخرج سفر موسى فنظر إليه مرتين فقال : مستقر في الرحم ومستقر فوق الأرض ومستقر تحت الأرض ومستقر حيث يصير إلى الجنة أو إلى النار ، ثم قرأ : ) ونقرّ في الأرحام ما نشاء ( . وقرأ : ) ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( .
فقرأ الحسن : المستقر في القبر ، والمستودع في الدنيا ، وكان يقول : يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق ، بصاحبك وأنشد قول لبيد :
وما المال والأهلون إلا وديعة
ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائع
(4/173)

" صفحة رقم 174 "
وقال سليمان بن يزيد العدوي في هذا المعنى :
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا
فالناس مفجوع به ومفجع
ومستودع أو مستقر مدخلا
فالمستقر يزوره المستودع
) قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون }
الأنعام : ( 99 ) وهو الذي أنزل . . . . .
) وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ( بالماء ) نبات كل شيء فأخرجنا منه ( من الماء ، وقيل : من النبات ) خضراً ( يعني أخضر ، وهو رطب البقول ، يقول : هو لك خضراً مظراً أي هنيئاً مريئاً .
وقال نخلة : خضيرة : إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج ، وقد اختضر الرجل واغتضر إذا مات شاباً مصححاً ) ومن النخل من طلعها ( أي ثمرها ( وكثيراً منها ) وما يطلع منها ) قنوان ( جمع قنو وهو العذق مثل صنو وصنوان .
قال أبو عبيدة : ( ولا ظير بهذا الكلام ) .
وقرأ الأعرج : قنوان بضم القاف ، وهي لغة قيس ، مثل قضبان . ولغة تميم : قنيان . وجمعه القليل أقنا مثل حنو وأحنا ، ) دانية ( قريبة ينالها القائم والقاعد . وقال مجاهد : متدلّية .
وقال قتادة : متهدّلة .
وقال الضحاك قصار ملتزقة بالأرض . ومعنى الآية ومن النخل قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة فاكتفى بالقريبة عن البعيدة كقوله تعالى ) سرابيل تقيكم الحر ( والبرد ) وجنات ( يعني وأخرجنا منه جنات .
وقرأ يحيى بن يعمر والأعمش وعاصم : وجنات رفعاً نسقياً على قنوان لفظاً وإن لم يكن في المعنى من جنسها ) من أعناب والزيتون والرمان ( يعني وشجر الزيتون والرمان ، فاكتفى بالتمر عن الشجر كقوله ) واسأل القرية ( ) مشتبهاً وغير متشابه ( قتادة : متشابه ورقه يختلف بثمره ، وقيل : مشتبهاً في المنظر غير متشابه في المطعم . وقال الحسن : الفعل منها ما يشبه بعضه بعضاً ومنها ما يخالف ، وقيل : مشتبهاً في الخلقة من منشأه من الحكمة ) أنظروا إلى ثمره ( .
قرأ أهل الكوفة : بضم الثاء والميم على جمع الثمار . وقرأ الباقون بفتحهما على جمع الثمرة مثل بعر ووبر ) إذا أثمر وينعه ( نضجه وإدراكه
(4/174)

" صفحة رقم 175 "
وقرأ أبو رجاء ومحمد بن السميقع : ويانعه بالألف على الإسم ) إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون (
.
) وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَكَذالِكَ نُصَرِّفُ الاَْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( 2
الأنعام : ( 100 ) وجعلوا لله شركاء . . . . .
) وجعلوا ( يعني الكافرين ) للّه شركاء الجن ( يعني وجعلوا للّه الجن شركاء ، وإن شئت نصبته على التفسير ) وخلقهم ( يعني وهو خلقهم وخلق الجن .
وقرأ يحيى بن معمر : وخلقهم بسكون اللام وفتح القاف أراد إفكهم وادّعاءهم ما يعبدون من الأصنام حيث جعلوها شركاء للّه عز وجل يعني وجعلوا له خلقهم .
وقرأيحيى بن وثاب : وخلقهم بسكون اللام وكسر القاف ، يعني جعلوا للّه شركاء ولخلقهم أشركوهم مع اللّه في خلقه إياهم .
وقال الكلبي : نزلت في الزنادقة قالوا : إن اللّه وإبليس شريكان ، واللّه خالق النور والناس والدواب والأنعام . وإبليس خالق الظلمة والسباع والعقارب والحيّات ، وهذا كقوله ) وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ( يعني في الجنة ، وهم صنف من الملائكة خزان الجنان أشق لهم منهم صنف من الجن ) وخرقوا ( أي اختلفوا وخرصوا .
وقرأ أهل المدينة : بكثرته وخرّقوا على التكثير ) له بنين وبنات بغير علم ( وهم كفار مكة ، قالوا : الملائكة والأصنام بنات اللّه . واليهود قالوا : عزير ابن اللّه . والنصارى قالوا : المسيح ابن اللّه ثم نزّه نفسه . وقال تعالى ) سبحانه وتعالى عما يصفون (
الأنعام : ( 101 - 103 ) بديع السماوات والأرض . . . . .
) بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ( زوجة ) وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ( إلى قوله تعالى ) لا تدركه الأبصار ( أجراه بعضهم على العموم فقال : معناه لا تحيط به الأبصار بل تراه وهو يحيط بها .
(4/175)

" صفحة رقم 176 "
قال اللّه عز وجل ) ولا يحيطون به علماً ( فكما تعرفه في الدنيا لا كالمعروفين فكذلك تراه في العقبى لا كالمرئيين .
قالوا : وقد ترى الشيء ولا تدركه كما أخبر اللّه تعالى عن قول أصحاب موسى ( عليه السلام ) حين قرب منهم فرعون ) إنا لمدركون ( وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم لأن اللّه تعالى قد وعد نبيه موسى ( عليه السلام ) إنهم لا يدركون بقوله ) لا تخاف دركاً ولا تخشى ( .
وكذلك قال سعيد بن المسيب : لا تحيط به الأبصار . وقال عطاء : كلّت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به .
وقال الحسن : لا تقع عليه الأبصار ولا تدلّ عليه العقول ولا يدركه الإذعان .
يدلّ عليه ما روى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى ) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ( . قال : لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفاً واحداً ما أحاطوا باللّه أبداً .
وأجراه بعضهم على النصوص . قال ابن عباس ومقاتل : معناه لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة ) وهو يدرك الأبصار ( لا يخفى عليه شيء ولا يفوته .
وقيل : معناه لا تدركه أبصار الكافرين ، فأما المؤمنون فيرونه ، واللّه أعلم ) وهو اللطيف الخبير ( .
قال أبو العالية : لطيف باستخراج الأشياء خبير بها .
وقال أكثر العلماء في معنى اللطيف . فقال الجنيد : اللطيف : من نوّر قلبك بالهدى وربي جسمك بالغدا ، وجعل لك الولاية في البلوى ويحرسك من لظى ويدخلك جنة المأوى .
وقيل : اللطيف الذي أنسى العباد ذنوبهم لئلاّ يخجلوا . وقيل : الذي ركّب من النطفة من ماء مهين وقيل : هو الذي يستقل الكثير من نعمه ويستكثر القليل من طاعة عباده .
قتادة : وقيل : اللطيف الذي يُغِير ولا يُغَير . وقيل : اللطيف الذي إن رجوته لبّاك وأن قصدته آواك ، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافاك ، وإن عصيته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك ، وإن أقبلت إليه عداك .
وقيل : اللطيف : الذي لا يطلب من الأحباب الأحساب والأنساب . وقيل : اللطيف : الذي يغني المفتقر إليه ويعز المفتخر به . وقيل : اللطيف : من يكافي الوافي ويعفو عن الباقي . وقيل : اللطيف : من أمره تقريب ونهيه تأريب .
(4/176)

" صفحة رقم 177 "
وقيل : اللطيف : الذي يكون عطاؤه خير ومنعه ذخيرة . وأصل اللطيف دقة النظر في جميع الأشياء
الأنعام : ( 104 ) قد جاءكم بصائر . . . . .
) قد جاءكم بصائر من ربكم ( يعني الحجج البينة التي يبصرون بها الهدى من الضلال والحق من الباطل .
قال الكلبي : يعني بينات القرآن .
) فمن أبصر ( يعني عرفها وآمن بها ) فلنفسه ( عمل وحظه أصاب وإياها بغى الخير ) ومن عمي فعليها ( عنها فلم يعرفها ولم يصدقها .
وقرأ طلحة بن مصرف : ومن عُمّي بضم العين وتشديد الميم على المفعول التي تدل عليها ، يقول : فنفسه ضر وإليها أساء لا إلى غيره ) وما أنا عليكم بحفيظ ( رقيب أحصي إليكم أعمالكم وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم
الأنعام : ( 105 ) وكذلك نصرف الآيات . . . . .
) وكذلك نصرف الآيات ( نبينها في كل وجه لندعوكم بها ) وليقولوا ( وليلاً يقولوا إذا قرأت عليهم القرآن ) درست ( أي تلوت وقرأت يا محمد بغير ألف قرأه جماعة منهم أبي رجاء وأبي وائل والأعرج ومعظم أهل العراق وأهل الحجاز ، وكان عبد اللّه بن الزبير يقول : إن صبياناً يقرأونها دارست بالألف وإنما هي درست .
وقرأ علي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو : دارست بالألف يعني قارأت أهل الكتاب وتعلمت منهم تقرأ عليهم يقرأوا عليك .
وقال ابن عباس : يعني جادلت وخاصمت ، وكذلك كان يقرأها ، وقرأ قتادة : درست بمعنى قرئت وتليت .
وقرأ الحسن وابن عامر ويعقوب : درست بفتح الدال والراء وجزم التاء بمعنى تقادمت وانمحت وقرأ ابن مسعود وأبي طلحة والأعمش : درس بفتحها يعنون النبي درس الآيات ) ولنبيّنه ( يعني القول والتحريف والقرآن ) لقوم يعلمون (
الأنعام : ( 106 ) اتبع ما أوحي . . . . .
) إتبع ( يا محمد ) ما أوحي إليك من ربك ( يعني القرآن إعمل به ) لا إله إلاّ هو وأعرض عن المشركين ( فلا تجادلهم ولا تعاقبهم
الأنعام : ( 107 ) ولو شاء الله . . . . .
) ولو شاء اللّه ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً ( رقيباً . ويقال رباً .
قال عطاء : وما جعلناك عليهم حفيظاً تمنعهم مني ) وماأنت عليهم بوكيل ( والإعراض منسوخ بآية السيف . وهذه الآية نزلت حين قال المشركون لرسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى دين آبائك .
2 ( ) وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُم
(4/177)

" صفحة رقم 178 "
ْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاَْيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَىإِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( 2
الأنعام : ( 108 ) ولا تسبوا الذين . . . . .
) ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه ( .
قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية ) إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم ( . قال المشركون : يا محمد لتنتهينّ عن سبّ الهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم اللّه تعالى أن يسبوا أوثانهم .
قال قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهاهم اللّه عن ذلك كيلا يسبوا اللّه فإنهم قوم جهلة .
وقال السدي : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، قالت قريش : إنطلقوا فلندخل على هذا الرجل ولنأمرنّه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فيقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه ، فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحرث ، وأمية وأبي بن أخلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البحتري ، إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمداً قد آذانا وآذى الهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر الهتنا ولندعه وإلهه ، فدعاه فجاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك ، قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما يريدون ؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك ) .
قال : قد أنصف قومك ، فاقبل منهم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم ) .
قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشراً أمثالها فما هي ؟ قال : قولوا : لا إله إلاّ اللّه ، فأبوا واشمأزّوا
(4/178)

" صفحة رقم 179 "
وقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي ، فإن قومك قد فزعوا منها . فقال : ( يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها ) .
فقالوا : لتكفّنّ عن شتمك آلهتنا أو لنشتمن من يأمرك . فأنزل اللّه تعالى ) ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه ( من الأوثان ) فيسبوا اللّه عدواً ( .
وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة ويعقوب : عدواً بضم العين والدال وتشديد الواو أي أعداء الله .
) بغير علم ( فلما نزلت هذه الآية ، قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه ( لا تسبوا ربهم ) فأمسك المسلمون عن سبّ آلهتهم .
) كذلك زيّنا لكل أُمة عملهم ( يعني كما زيّنا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان ، الحرمان والخذلان كذلك زيّنا لكل أمة عملهم من الخير والشر والطاعة والمعصية ) ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم ( يخبرهم ويجازيهم ) بما كانوا يعملون }
الأنعام : ( 109 ) وأقسموا بالله جهد . . . . .
) وأقسموا باللّه جهد أيمانهم ( .
قال محمد بن كعب القرضي والكلبي : قالت قريش : يا محمد تخبرنا بأن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك . قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أي شيء تحبون أن آتيكم به ؟ ) .
قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل ، وأرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا باللّه والملائكة قبيلاً . فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لئن فعلت بعض ما تقولون تصدقوني ) قالوا : نعم واللّه لئن فعلت نتبعك أجمعين .
وسأل المسلمون رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا ، فقام رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يدعو اللّه أن يجعل الصفا ذهباً ، فجاء جبرئيل عليه السلام فقال له : إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم فإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم . فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل يتوب تائبهم ) فأنزل اللّه تعالى ) وأقسموا باللّه جهد أيمانهم ( يعني أوكد ما قدروا عليه من الايمان وحدها .
قال الكلبي ومقاتل : إذا حلف الرجل باللّه سبحانه فهو جهد بيمينه . ) لئن جاءتهم آية ( كما جاء من قبلهم من أمم ) ليؤمنن بها قل ( يا محمد ) إنما الآيات عند اللّه ( وهو القادر على
(4/179)

" صفحة رقم 180 "
إتيانها دوني ودون كل من خلقه . ثم قال ) وما يشعركم ( وما يدريكم فحذف المفعول وما أدريكم ، واختلفوا في المخاطبين ، بقوله ) وما يشعركم ( حسب اختلافهم في قراءة قوله ) إنها ( . فقال بعضهم : إن الخطاب للمشركين الذين أقسموا وتمّ الكلام عند قوله وما يشعركم ، ثم إستأنف ، فقال : إنها يعني الآيات ) إذا جاءت لا يؤمنون ( حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون .
وقرؤا : ) إنها ( بالكسر على الإبتداء ، وهو في قراءة مجاهد وقتادة وابن محيصن وابن كثير وشبل وأبي عمر والجحدري .
وقال آخرون : الخطاب لرسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه وقرؤا : أنها بالفتح وجعلوا ( لا ) صلة يعني وما يدريكم يا معشر المؤمنين أنها إذا جاءت المشركين لا يؤمنون كقوله ) ما منعك أن لا تسجد ( يعني : أن تسجد ، وقوله ) وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ( يعني إنهم يرجعون . وقيل : معنى إنها : لعلها وكذلك هي قراءة أُبيّ ، تقول العرب : إذهب إلى السوق إنك تشتري شيئاً بمعنى لعلك تمر .
وقال عدي بن زيد :
أعاذل ما يدريك أن منيتي
إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
يعنى : لعلّ منيّتي .
وقال دريد بن الصمة :
ذرينى أطوف في البلاد لأنّني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
يعني : لعلّني .
وقال أبو النجم :
قلت لسينان أدن من لقائه
إنا نغدي القوم من سرائه
أي ثعلباً تغدي .
وقرأ ابن عامر والسدي وحمزة : ) لا يؤمنون ( بالتاء على ( حساب ) الكفار وما يشعركم ، واعتبر بقراءة أُبيّ : لعلكم إذا جاءكم لا يؤمنون .
(4/180)

" صفحة رقم 181 "
وقرأ الباقون : بالياء على الخبر وتصديقها قراءة الأعمش إنّها إذا جاءتهم لا يؤمنون
الأنعام : ( 110 ) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم . . . . .
) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ( .
قال ابن عباس وابن زيد : يعني نحول بينه وبين الإيمان . ولو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا بالتي قبلها مثل انشقاق القمر وغيره عقوبة لهم على ذلك .
وقيل : كما لم يؤمنوا به في الدنيا قبل مماتهم . نظيره قوله تعالى ) ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه ( ) ونذرهم ( قرأ أبو رجاء : ويذرهم بالياء . وقرأ النخعي : ويقلب ويذرهم كلاهما بالياء ) في طغيانهم يعمهون }
الأنعام : ( 111 ) ولو أننا نزلنا . . . . .
) ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ( فرأوهم عياناً ) وكلمهم الموتى ( بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا ) وحشرنا ( وجمعنا ) عليهم كل شيء قبلاً ( بكسر القاف وفتح الباء أي معاينة وهي قراءة أكثر القراء ، قرأ أبو جعفر : التي في الأنعام قبلاً بالكسر والتي في الكهف قبلاً عياناً بالضم . أبو عمرو بالنصب وكذلك اختار أبو عبيد وأبو حاتم لأنها في قراءة أُبيّ قبيلاً بجمعها القبل . والتي في الكهف قبلاً يعني عياناً .
وقرأ أهل الكوفة : بضم القاف والباء ، ولها ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون جمع قبيل وهو الكفيل أي ضمناً وكفلاً . والقبالة الكفالة ، يقال : قبيل وقبل مثل رغيف ورغف ، وقضيب وقضب .
والثاني : جمع قبيل هو القبيلة يعني فوجاً فوجاً وصنفاً صنفاً .
والثالث : أن يكون بمعنى المقابلة والمواجهة من قول القائل : أتيتك قبلاً لا دبراً إذا أتاه من قبل وجهه ) ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء اللّه ( ذلك لهم . وقيل : الإستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم اللّه الإيمان ) ولكن أكثرهم يجهلون ( إن ذلك كذلك
الأنعام : ( 112 ) وكذلك جعلنا لكل . . . . .
) وكذلك جعلنا ( يعزي نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) يعني كما أتيناك بهؤلاء القوم وكذلك جعلنا ) لكل نبي ( قبلك ) عدواً ( أعداء وفسّرهم فقال ) شياطين الإنس والجن ( .
عكرمة والضحاك والسدي والكلبي : معناه : شياطين الإنس التي مع الإنس وشياطين الجن التي مع الجن وليس للإنس شياطين .
وذلك أن إبليس قسم جنده فريقين ، بعث منهم فريقاً إلى الإنس وفريقاً إلى الجن ، شياطين الإنس والجن فهم ملتقون في كل حين ، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن أضللت صاحبي بكذا فاضل صاحبك بمثله ، ويقول شيطان الجن لشيطان الإنس كذلك فذلك يوحي بعضهم إلى بعض .
وقال آخرون : إنّ من الإنس شياطين ومن الجن شياطين ، والشيطان : العاتي المتمرّد من كل شيء
(4/181)

" صفحة رقم 182 "
قالوا : إن الشيطان إذا أغوى المؤمن وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان من الإنس فأغراه المؤمن .
قال أبو طلحة ما روى عوف بن مالك عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا ذر هل تعوذت باللّه من شر شياطين الإنس والجن ) قال : يا رسول اللّه فهل للإنس من شياطين ؟ قال : نعم هو شر من شياطين الجن .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما منكم من أحد إلاّ وقد وكّل قرينه من الجن ) قيل : ولا أنت يا رسول اللّه ؟
قال : ( ولا أنا إلاّ أن اللّه قد أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلاّ بخير ) .
وقال مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد من شيطان الجن وذلك إني إذا تعوذت باللّه ذهب عني شيطان الجن ، وشيطان الإنس يحبني فيجرني إلى المعاصي عياناً ) يوحي بعضهم إلى بعض ( أي يلقي ) زخرف القول غروراً ( وهو القول المموّه والمزّين بالباطل ، وكل شيء حسّنته وزينته فقد زخرفته ثم ) ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون }
الأنعام : ( 113 ) ولتصغى إليه أفئدة . . . . .
) ولتصغى ( أي ولكي تميل .
وقال ابن عباس : ترجع يقال : صغى يصغى صغاً وصغى يصغى ويصغو صغواً وصغواً إذا مال .
قال الفطامي :
أصغت إليه هجائن بنحدودها
آذانهن تلى الحداة السوق
ترى عينها صغواء في جنب ماقها
تراقب كفي والقطيع المحرما
) إليه ( يعني إلى الزخرف والغرور ، ويقال : صغو فلان معك ، وصغاه معك أي ميله وهواه .
وقرأ النجعي : ولتصغي بضم التاء وكسر الغين أي تميل ، والإصغاء الإمالة . ومنه الحديث إن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصغي الإناء للهرة .
) أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ( الأفئدة جمع الفؤاد مثل غراب وأغربة ) وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ( أي وليكتسبوا ما هم مكتسبون .
(4/182)

" صفحة رقم 183 "
وقال ابن زيد : وليعملوا ما هم عاملون . يقال : إقترف فلان مالاً أي اكتسبه ، وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله ، قال اللّه تعالى ) ومن يقترف حسنة ( .
قال لبيد :
وإني لآتي ما أتيت وإنني
لما اقترفت نفسي عليَّ لراهب
وقيل : هو من التهمة يقال : قرفه بسوء إذا اتهمه به .
قال رؤبة :
أعيا اقتراف الكذب المقروف
تقوى التقيّ وعفّة العفيف
( ) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِىأَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاَْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( 2
الأنعام : ( 114 ) أفغير الله أبتغي . . . . .
قوله تعالى ) أفغير اللّه ( فيه إضمار أي قل لهم يا محمد أفغير اللّه ) أبتغي حكماً ( قاضياً بيني وبينكم ، ) وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ( مبيّناً يعني ) والذين آتيناهم الكتاب ( يعني التوراة والإنجيل وهم مؤمنو أهل الكتاب .
قال عطاء : هم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبو بكر ، وعمر وعثمان وعلي وأتباعهم رضي اللّه عنهم والكتاب هو القرآن .
) يعلمون أنه ( يعني القرآن ) منزل ( .
قرأ الحسن والأعمش وأبي عامر : وخص بالتشديد من التنزيل لأنه أنزل نجوماً مرة بعد مرة .
وقرأ الباقون : بالتخفيف من الإنزال لقوله عز وجل يعني أنزل إليكم الكتاب ) من ربك
(4/183)

" صفحة رقم 184 "
بالحق فلا تكونن من الممترين }
الأنعام : ( 115 ) وتمت كلمة ربك . . . . .
) وتمت كلمة ربك ( قرأ أهل الكوفة كلمة : على الواحد والباقون : كلمات على الجمع ، واختلفوا في الكلمات .
فقال قتادة : هي القرآن لا مبدل له لا يزيد المفترون ولا ينقصون .
وقال بعضهم : هي أقضيته وعدالته ) لا مبدل لكلماته ( لا مغير لها ) وهو السميع العليم }
الأنعام : ( 116 ) وإن تطع أكثر . . . . .
) وإن تطع أكثر من في الأرض ( يعني الكفار ) يضلوك عن سبيل اللّه ( عن دين اللّه ثم قال ) إن يتبعون إلاّ الظن وإن هم إلاّ يخرصون ( يكذبون
الأنعام : ( 117 ) إن ربك هو . . . . .
) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ( .
قال بعضهم : موضع من نصب لأنّه ينزع الخافض وهو حرف الصفة أي بمن .
وقيل : موضعه رفع لأنه بمعنى أي والرافع ليضل .
وقيل : محله نصب لوقوع العلم عليه وأعلم بمعنى يعلم كقول حاتم الطائي :
فحالفت طيء من دوننا حلفا
واللّه أعلم ما كنا لهم خذلا
وقالت الخنساء :
القوم أعلم أن جفنته
تغدو غداة الريح أو تسري
) وهو أعلم بالمهتدين }
الأنعام : ( 118 ) فكلوا مما ذكر . . . . .
) فكلوا مما ذكر إسم اللّه عليه ( .
قال ابن عباس : قال المشركون للمؤمنين : أنكم تعبدون اللّه فما قبل الله لكم الحق الحق أن تأكلوا مما قتلتم بسكاكينكم فنزل اللّه ) فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه ( وقت الذبح يعني المذكاة بسم اللّه ) إن كنتم بآياته مؤمنين }
الأنعام : ( 119 ) وما لكم ألا . . . . .
) وما لكم ألا تأكلوا ( وما يمنعكم أن لا تأكلوا ) مما ذكر إسم اللّه عليه ( من الذبائح ) وقد فصل لكم ما حرّم عليكم ( .
قرأ الحسن وأبو رجاء ( الأعرج ) وقتادة والجبائي وطلحة ومجاهد وحميد وأهل المدينة : بالفتح فهما على معنى فصل اللّه ما حرمه عليكم لقوله إسم اللّه جرى ذكره تعالى .
وقرأ محمد بن عامر وأبو عمرو : بضمهما على غير تسمية الفاعل لقوله ذكر .
وقرأ أصحاب عبد اللّه وأهل الكوفة : فصل بالفتح يحرم بالضم .
وقرأ عطية العوفي فصل مفتوحاً خفيفاً بمعنى قطع الحكم فيما حرم عليكم وهو ما ذكر في سورة المائدة قوله تعالى ) حرمت عليكم الميتة والدم ( الآية ) إلاّ ما اضطررتم إليه ( من هذه الأشياء فإنه حلال لكم عند الإضطرار ثم قال ) وإن كثيراً ليضلون ( قرأ الحسن وأهل الكوفة : بضم الياء كقوله : يضلوك .
(4/184)

" صفحة رقم 185 "
وقرأ الباقون : بالفتح كقوله : من يضل ومن ضل ) بأهوائهم ( بمرادهم ) بغير علم ( حين دعوا إلى أكل الميتة ) إنّ ربك هو أعلم بالمعتدين ( المتجاوزين من الحلال إلى الحرام .
( ) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىا أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ كَذاَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَهَاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( 2
الأنعام : ( 120 ) وذروا ظاهر الإثم . . . . .
) وذروا ظاهر الإثم وباطنه ( يعني الذنوب كلها لا يخلو من هذين الوجهين .
واختلفوا فيها فقال قتادة : سرّه وعلانيته ، عطاء : قليله وكثيره . ومجاهد : ما ينوي وما هو عامله . الكلبي : ظاهر الإثم الزنا وباطنه المخالة .
السدي : الزواني الذي في الحوانيت وهو بيت أصحاب الرايات وباطنه الصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرّاً . وقال مرّة الهمذاني : كانت العرب تجوز الزنا وكان الشريف إن يزني يستر ذلك وغيره لا يبالي إذا زنا ومتى زنا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
وقال الضحاك : كان أهل الجاهلية يسترون الزنا ويرون ذلك حلالا ما كان سرّاً ، فحرم اللّه تعالى لهذه الأمة السرّ منه والعلانية .
وروى حيان عن الكلبي : ظاهر الإثم طواف الرجال بالنهار عراة وباطنه طواف النساء بالليل عراة .
وقال سعيد بن جبير : الظاهر ما حرم اللّه تعالى بقوله ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ( وقوله ) حرمت عليكم أمهاتكم ( الآية والباطن منه الزنا .
وقال ابن زيد : ظاهر الإثم التعرّي والتجرّد من الثياب في الطواف والباطن الزنا .
(4/185)

" صفحة رقم 186 "
) إن الذين يكسبون الإثم سيجزون ( في الآخرة ) بما كانوا يقترفون ( بما يكسبون في الآخرة
الأنعام : ( 121 ) ولا تأكلوا مما . . . . .
) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه ( فاقد ) التسمية ( ولم يدرك ذكاته أو ذبح لغير اللّه ) وإنه ( يعني الأكل ) لفسق وإن الشياطين ليوحون ( ليوسوسون ) إلى أوليائهم ( من المشركين ) يجادلوكم ( . وذلك إن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها ؟ قال : اللّه قتلها . قالوا : فتزعم إن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله اللّه حرام ؟ فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية .
وقال عكرمة : معناه ولي الشياطين يعني مردة المجوس ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وذلك أن المجوس من أهل فارس لما أنزل اللّه تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانت بينهم مكاتبة إن محمداً وأصحابه يزعمون إنهم يتبعون أمر اللّه ثم يزعمون إن ما ذبحوا فهو حلال ، وما ذبحه اللّه فهو حرام ولا يأكلونه ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ) وإن أطعتموهم ( في أكل الميتة ) إنكم لمشركون (
الأنعام : ( 122 ) أو من كان . . . . .
قوله تعالى ) أومن كان ميتاً فأحييناه ( هو ألف الإستفهام والتقدير دخلت على واو النسق فبقيت على فتحها يعني أومن كان كافراً ميتاً بالضلالة فهديناه واجتبيناه بالإيمان ) وجعلنا له نوراً ( يستضيء به ) ويمشي به في الناس ( على قصد السبيل ومنهج الطريق .
قال ابن زيد : يعني بهذا النور الإسلام نيابة قوله ) يخرجهم من الظلمات إلى النور ( .
وقال قتادة : هذا المؤمن معه من الله نوراً وبينة يعمل بها ويأخذ وإليها ينتهي كتاب الله ) كمن مثله في الظلمات ( .
قال بعضهم : المثل زائد تقديره كمن في الظلمات .
وقال بعضهم : معناه كن أو شبه بشيء كان يشبهه من في الظلمات من ظلمة الكفر والجهل والضلالة والمسير .
) ليس بخارج منها ( لا يبصر شيئاً ولا يعرف طريقاً كالذي ضل طريقه في ظلمة الليل فهو لا يجد مخرجاً ولا يهتدي طريقاً .
وقيل : إن هذه الآية نزلت في رجلين بأعيانهما ، ثم اختلفوا فيهما .
فقال ابن عباس : أومن كان ( ميتاً ) فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس . يريد حمزة بن عبد المطلب كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها . أبو جهل ، وذلك إن أبا جهل رمى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحجارة وحمزة لم يؤمن بعد فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس ، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع كعبد مسكين يقول : يابا يعلى أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف أبانا
(4/186)

" صفحة رقم 187 "
فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون اللّه ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
وقال الضحاك ( ويمان ) : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل .
قال عكرمة والكلبي : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل .
) كذلك زيّنا للكافرين ما كانوا يعملون ( من الكفر والمعصية
الأنعام : ( 123 ) وكذلك جعلنا في . . . . .
) وكذلك ( أي وكما زيّنا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا .
وقيل : وكما جعلنا فسّاق مكة أكابرها كذلك ) جعلنا في كل قرية أكابر ( يعني عظماء ، جمع أكبر مثل أفضل وأحمر وأحامر وأسود وأساود ) مجرميها ( إن شئت نصبته على التقديم تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ، كما تقول : جعلت زيداً رئيسها وإن شئت خفضته على الإضافة ) ليمكروا فيهاوما يمكرون إلاّ بأنفسهم ( لأن وبال مكرهم وجزاءه راجع إليهم ) وما يشعرون ( إنه كذلك
الأنعام : ( 124 ) وإذا جاءتهم آية . . . . .
) وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه ( من النبوة ، وذلك إن الوليد بن المغيرة قال : واللّه لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال : زاحمنا عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يوحى إليه ، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه وأنزل اللّه تعالى ) وإذا جاءتهم ( آية حجة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصحت نبوته . ) قالوا ( : يعني أبو جهل . قالوا : ) لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه ( يعني محمداً رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال ) اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ( فخص بها محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) سيصيب الذين أجرموا صغار ( ذل وهوان ) عند اللّه ( أي من عند اللّه نصب بنزع حرف الصفة .
قال النحاس : سيصيب الذين أجرموا صغار عند اللّه على التقديم والتأخير ) وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ( .
وقال أبو روق : صَغَار في الدنيا وهذا العذاب في الآخرة .
الأنعام : ( 125 ) فمن يرد الله . . . . .
) فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ( أي يوسّع عقله أو ينوّره ليقبل الإسلام فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
سئل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عن شرح الصدر ما هو ؟ قال : ( نور يقذفه اللّه تعالى في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح ) قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت
(4/187)

" صفحة رقم 188 "
) ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ( قرأ ابن كثير : ضيقاً بالتخفيف . والباقون : بالتشديد وهي لغتان مثل هين وهيّن ، ولين وليّن ، حرجاً كسر أهل المدينة ، راءه وفتحها الباقون وهما لغتان مثل الأنف والأنف ، والفرد والفرد ، والوعد والوعد .
وقال سيبويه : الحرج بالفتح المصدر كالصلب والحلب ومعناه ذا حرج ، والحرج بالكسر الإسم وهو أشد الضيق ، يعني قلبه ضيقاً لا يدخله الإيمان .
وقيل : أثيماً لقول العرب : حرج عليك ضلمي أي ضيق وأثم . وقال السدي : حرجها شاكاً . وقال قتادة : ملتبساً .
وقال النضر بن شميل : ملقاً . وقال ليس للخير فيه منفذ .
وقال عبيد بن عمير . قرأ ابن عباس : هذه الآية ، فقال : هل هاهنا أحد من بني بكر ؟ فقال رجل : نعم ، قال : ما الحرج فيكم ؟ قال : الوادي الكثير الشجر المتمسك الذي لا طريق فيه . قال ابن عباس : كذلك قلب الكافر .
وقال أبو الصلت الثقفي وعمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : هذه الآية ضيقاً حرجاً بنصب الراء . وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) حرجاً بالكسر . فقال عمر : ابعثوا إلى رجل من كنانة وجعلوه راعياً فأتوه به فقال له عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم ؟ قال الحرجة فينا الشجرة التي تكون بين الأشجار التي لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء .
فقال عمر ( رضي الله عنه ) : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير ) كأنما يصعّد في السماء ( يعني يشق عليه الإيمان ، ويمتنع ويعجز عنه كما يشق عليه صعود السماء .
واختلف القراء في ذلك ، فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وحمزة والكسائي : يصعّد بتشديد الصاد والعين بغير ألف أي يصعد فأدغمت التاء في الصاد .
فاختاره أبو حاتم وأبو عبيد ( إعتزازاً ) بقراءة عبد اللّه كأنما يتصعد في السماء .
وقرأ طلحة وعاصم وأبو عبيد والنخعي ومجاهد : بالألف مشدداً بمعنى تصاعد .
وقرأ ابن كيسان وابن ( محيصن ) ، والأعرج وأبو رجاء : يصعد حقيقة .
) كذلك يجعل اللّه الرجس على الذين لا يؤمنون ( قال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه .
ابن زيد : الرجس العذاب مثل الرجز . وقال ابن عباس : هو الشيطان الذي يسلطه عليه .
وقال الكلبي : هو المأثم ، وقيل : هو النجس . ويقال : رجس رجاسة ونجس نجاسة
(4/188)

" صفحة رقم 189 "
وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل الخلاء قال : ( اللهم إني أعوذ بك من نجس منجس الخبث المخبث الشيطان الرجيم ) .
الأنعام : ( 126 ) وهذا صراط ربك . . . . .
) وهذا صراط ربك مستقيماً ( أي هذا الذي بيّنا طريق ربّك والذي ارتضاه لنفسه ديناً وجعله مستقيماً لا عوج فيه وهو الإسلام .
وقال ابن مسعود : هو القرآن . وقال : إن الصراط محتضر يحضره الشياطين ينادون : يا عبد اللّه هلم هذا الطريق ليصدوا عن سبيل اللّه فاعتصموا بحبل اللّه وهو كتاب اللّه ) قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ( .
2 ( ) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِىأَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذاَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ذاَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 2
الأنعام : ( 127 ) لهم دار السلام . . . . .
) لهم دار السلم عند ربهم ( يعني الجنة في الآخرة .
قال أكثر المفسرين : السلام هو اللّه عز وجل وداره الجنة . وقيل : سميت الجنة دار السلام لسلامتها من الآفات والعاهات .
وقيل : لأن من دخلها سلم من البلايا والرزايا أجمع .
وقيل : لأنها سلمت من دخول أعداء اللّه كيلا ينتغص أولياء الله فيها كما يُنغّص مجاورتهم في الدنيا .
وقيل : سميت بذلك لأن كل حالة من حالات أهلها مقرونة بالسلام فاما إبتداء دخولها فقوله ) أدخلوها بسلام آمنين ( وبعد ذلك قوله ) والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ( الآية . وبعده قوله ) وتحيتهم فيها سلام ( وبعده قوله ) لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً ( وقوله ) لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً ( وبعده قوله ) تحيتهم يوم يلقونه سلام (
(4/189)

" صفحة رقم 190 "
وبعد ذلك ) سلام قولاً من ربّ رحيم ( . فلما كان حالات أهل الجنة مقرونة بالسلام إما من الخلق وإما من الحق سمّاها اللّه دار السلام ) وهو وليهم ( ناصرهم ومعينهم ) بما كانوا يعملون ( .
قال الحسن بن الفضل : يعني يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء .
الأنعام : ( 128 ) ويوم يحشرهم جميعا . . . . .
) ويوم يحشرهم جميعاً ( الجن والإنس يجمعهم في يوم القيامة فيقول : ) يا معشر الجن والإنس قد استكثرتم من الإنس ( أي من إضلال الناس وإغوائهم ) وقال أولياؤهم من الإنس ( الذين أطاعوهم ) ربنا استمتع بعضنا ببعض ( .
قال الكلبي : إستمتاع الإنس بالجن . هو أن الرجل إذا سافر أو خرج فمشى بأرض قفر أو أصاب صيداً من صيدهم فخاف على نفسه منهم . فقال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فيثبت جواز منهم ، واستمتاع الجن بالإنس هو أن قالوا : قد سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفاً في قومهم وعظماً في قومهم وهذا معنى قوله تعالى ) وإنه كان رجال من الإنس ( . الآية .
وقال محمد بن كعب وعبد العزيز بن يحيى : هو طاعة بعضهم بعضاً وموافقة بعضهم بعضاً وقيل : إستمتاع الإنس بالجن بما كانوا يأتون إليهم . من الأراجيف والسحر والكهانة ، فاستمتاع الجن بالإنس إغراء الجن الإنس واتباع الإنس إياهم ) وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ( يعني الموت والبعث . قال اللّه تعالى ) قال النار مثواكم خالدين فيها إلاّ ما شاء اللّه ( يعني قدّر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم .
قال ابن عباس : هذا الإستثناء هو أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللّه في خلقه لا يولهم جنة ولا ناراً .
وقال الكلبي : إلا ما شاء اللّه وكان ما شاء اللّه أبداً .
وقيل : معناه النار مثواكم خالدين فيها سوى ما شاء الله من أنواع العذاب وقيل : إلا ما شاء اللّه من إخراج أهل التوحيد من النار .
وقيل : إلا ما شاء اللّه أن يزيدهم من العذاب فيها .
وقيل : إلا ما شاء اللّه من كونهم في الدنيا بغير عذاب .
وقال عطاء : إلا ما شاء اللّه من الحق في عمله أن يؤمن فمنهم من آمن من قبل الفتح ومنهم من آمن من بعد الفتح .
(4/190)

" صفحة رقم 191 "
) إن ربك حكيم عليم (
الأنعام : ( 129 ) وكذلك نولي بعض . . . . .
) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون ( .
روي عن قتادة : يجعل بعضهم أولياء بعض . والمؤمن ولي المؤمن والكافر ولي الكافر حيث كان .
وروى معمر عن قتادة : تبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة .
وقيل : معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن ونولي ظلمة الجن ظلمة الإنس ، يعني نَكِلُ بعضهم إلى بعض كقوله ) نوله ما تولى ( .
قال ابن زيد : نسلط بعضهم على بعض . يدل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أعان ظالماً سلّطه اللّه عليه ) .
وقال مالك بن دينار : قرأت في كتب اللّه المنزلة : إن اللّه تعالى قال : أُفني أعدائي بأعدائي ثم أُفنيهم بأوليائي .
وروى حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : تفسيرها : هو أن اللّه تعالى إذا أراد بقوم خيراً ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم .
وفي الخبر : يقول اللّه : إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا مالك الملوك قلوبهم ونواصيهم فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشتغلوا بسبّ الملوك ولكن توبوا إلى اللّه تعالى بعطفهم عليكم .
الأنعام : ( 130 ) يا معشر الجن . . . . .
) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ( .
قال الأعرج وابن أبي إسحاق : تأتكم بالتاء كقوله : ) لقد بعث رسل ربنا بالحق ( .
قرأ الباقون : بالياء كقوله تعالى ) مثل ما أوتي رسل الله ( ) يقصون ( يقرأون ) عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ( وهو يوم القيامة .
واختلف العلماء في الجن هل أُرسل إليهم رسول أم لا ؟ فقال عبيد بن سليمان : سئل الضحاك عن الجن هل كان فيهم مؤمن قبل أن يبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ألم تسمع قوله تعالى : ) يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ( يعني بذلك رسلاً من الإنس ورسلاً من الجن .
قال الكلبي : كانت الرسل قبل أن يبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبعثون إلى الجن والإنس جميعاً .
قال مجاهد : الرسل من الإنس . والنذير من الجن ثم قرأ ) ولوا إلى قومهم منذرين ( .
قال ابن عباس : هم الذين استمعوا القرآن وأبلغوه قومهم
(4/191)

" صفحة رقم 192 "
وقال أهل المعاني : لم يكن من الجن رسول وإنما الرسل من الإنس خاصة وهذا كقوله تعالى ) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( وإنما يخرج من المالح دون العذب .
وقوله ) يذكروا اسم اللّه في أيام معلومات ( وهي أيام العشر وإنما الذبح في يوم واحد من العشر فهو يوم النحر . وقوله ) وجعل القمر فيهن نوراً ( وإنما هو في سماء واحدة ) قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا ( أقروا ) على أنفسهم إنهم كانوا كافرين (
الأنعام : ( 131 ) ذلك أن لم . . . . .
) ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ( أي بشرك من أشرك ) وأهلها غافلون ( حتى يبعث إليهم رسلاً ينذرونهم . وقيل : معناه : لم يكن ليهلكهم دون البينة والتذكير بالرسل والآيات فيكون قد ظلمهم
الأنعام : ( 132 ) ولكل درجات مما . . . . .
) ولكل درجات مما عملوا ( يعني بالثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا منهم من هو أشد عذاباً ومنهم من هو أجزل ثواباً ) وما ربك بغافل عما يعملون ( .
2 ( ) وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاَْنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذاَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ( 2
الأنعام : ( 133 ) وربك الغني ذو . . . . .
) وربك الغني ( بعلمه ) ذو الرحمة ( بهم ) إن يشأ يذهبكم ( ثم يميتكم ويهلككم ) ويستخلف ( يخلق ) من بعدكم ما يشاء ( خلقاً غيركم أمثل وأطوع منكم .
وقال عطاء : يريد الصحابة والتابعين ) كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ( قرناً بعد قرن ، وقال مقاتل : يعني أهل سفينة نوح . وقرأ زيد بن ثابت : ذرية بكسر الذال مشدّدة .
(4/192)

" صفحة رقم 193 "
وقال أبان بن عثمان : ذرية بفتح الذال وكسر الراء خفيفة على قدر فعله ، الباقون : بضم الذال مشددة ، وهي لغات صحيحة . وقال ثعلب : الذرية بالكسر الأصل ، والذرية بالضم الولد
الأنعام : ( 134 ) إن ما توعدون . . . . .
) إن ما توعدون لآت ( لجائي كائن ) وما أنتم بمعجزين ( بفائتين سابقين أي حيث كنتم يدرككم . والإعجاز أن يأتي بالشيء يعجز عنه خصمه ويقصر دونه فيكون قد قهره وجعله عاجزاً عنه
الأنعام : ( 135 ) قل يا قوم . . . . .
) قل ( يا محمد لهم ) يا قوم أعملوا على مكانتكم ( .
قال ابن عباس : على ناحيتكم . قال ابن زيد : على حيالكم . يمان : على مذاهبكم . عطاء : على حالتكم التي أنتم عليها . مقاتل : على جديلتكم . مجاهد : على وتيرتكم . الكلبي : على منازلكم . وقيل : إعملوا ما أمكنكم .
قرأ السلمي وعاصم : مكاناً لكم على الجمع في كل القرآن .
) إني عامل ( يقول إعملوا ما أنتم عاملون فإني عامل ما أمرني ربي ، وهذا أمر وعيد وتهديد لا أمر إباحة وإطلاق كقوله ) إعملوا ما شئتم ( .
وقال الكلبي : معناه إعملوا ما أمكنكم من أمري فإني عامل في أموركم بإهلاك .
) فسوف تعلمون من تكون ( قرأ مجاهد وأهل الكوفة : يكون بالياء ، الباقون : بالتاء ، ) له عاقبة الدار ( يعني الجنة ) إنه لا يفلح الظالمون ( أي لا يأمن الكافرون .
قال عطاء : لا يبعد . وقال الضحاك : لا يفوز . وقال عكرمة : لا يبقى في الثواب .
الأنعام : ( 136 ) وجعلوا لله مما . . . . .
) وجعلوا للّه مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ( .
قال المفسرون : كانوا يجعلون للّه من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما كان للصنم أنفق عليه ، وما كان للّه أطعم الضيفان والمساكين ولا يأكلون من ذلك كله شيئاً فما سقط مما جعلوا للّه في نصيب الأوثان تركوه . وقالوا : إن اللّه غني عن هذا ، وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب اللّه التقطوه فردوه إلى نصيب الصنم وقالوا : إنه فقير . وكانوا إذا بذروا ما وقع من بذر اللّه في حصة الصنم تركوه ، وما وقع من حصّة الصنم في حصّة اللّه تعالى ردوه وان انفجر من سقي ماء جعلوه للشيطان في نصيب اللّه ، شدّوه ، وإن انفجر من سقي ماء جعلوه للّه في نصيب الشيطان تركوه . فإذا هلك الذي سموا لشركائهم أو أجدب وكثر الذي للّه ، قالوا : ليس لآلهتنا بدّ من نفقة فأخذوا الذي للّه وأنفقوا على الهتهم فإذا أجدب الذي للّه وكثر الذي لآلهتهم قالوا : لو شاء اللّه لأزكى الذي له فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة فإذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزوا منه ووفروا ما يجزون لشركائهم وذلك قوله تعالى مما ) ذرأ من
(4/193)

" صفحة رقم 194 "
الحرث والأنعام نصيباً ( أي مما خلف من الحرث والأنعام نصيباً ، وفيه إضمار واختصار مجازه : وجعلوا للّه نصيباً ولشركائهم نصيباً ) فقالوا هذا للّه بزعمهم ( .
يحيى بن رئاب والسلمي والأعمش والكسائي : بالضم .
وقرأ الباقون : بالفتح . وهما لغتان وهوالقول من غير حقيقة .
سمعت الحسين يقول : سمعت العنبري عن أبي العباس الأزهري عن أبي حاتم إنه قال : قال شريح القاضي : إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا ، والزعم أيضاً في الطمع ) وهذا لشركائنا ( يعني الأوثان ) فما كان لشركائهم فلا يصل إلى اللّه وما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( أي بئس ما كانوا يقضون
الأنعام : ( 137 ) وكذلك زين لكثير . . . . .
) وكذلك زيّن ( أي كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين ) لكثير من المشركين قتل أولادهم ( ( ساء ) موضع فرفع والمعنى : ساء الحكم حكمهم ) شركاؤهم ( يعني شياطينهم زيّنوا وحسّنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة .
وقال الكلبي : شركاؤهم سدنة الهتهم هم الذين كانوا يزينوّن للكفار قتل أولادهم . وكان الرجل في الجاهلية يحلف باللّه لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنَّ أحدهم كما حلف عبد المطلب على إبنه عبد اللّه .
وقرأ أهل الشام : ) زيّن ( بالضم ، ) قتل ( : رفع ، ) أولادهم ( نصب ، ) شركائهم ( بالخفض على التقديم ، كأنه قال : زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم . ففرّقوا بين الفعل وفاعله .
يقول الشاعر :
يمر على ما يستمر وقد شقت
غلائل غير نفس صدورها
يريد شقت .
عبد القيس : غلايل صدورها .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : زين بضم الزاي قتلُ رفعاً ، أولادِهم خفضاً ، شركاؤهم رفعاً على ( التوضيم ) والتكرير .
كأنه لما قال : زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم . تم الكلام . ثم قال : من زيّنه ؟ فقال : شركاؤهم أي زيّنه شركاؤهم فارتفع الشركاء بفعل ضمير دلّ عليه زُين ، كما تقول : أكل اللحم زيد : كأنه قيل : من الآكل فتقول زيد .
قال الشاعر
(4/194)

" صفحة رقم 195 "
ليبك لزيد ضارع لخصومة
ومختبط مما تطيح الطوائح
فزيد مفعول مستقل بنفسه غير مسمّى فاعله ، ثم بيّن فقال : ضارع .
أي ليبكيه ضارع ، وقوله تعالى ) ليردوهم ( ليهلكوهم ) وليلبسوا ( أي ليخلطوا ويشبهوا ) عليهم دينهم ( وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه ) ولو شاء اللّه ( هداهم ووفقهم وعصمهم عن ) ما فعلوه ( ذلك من تحريم الأنعام والحرث ، وقيل : الأولاد ) فذرهم ( يا محمد ) وما يفترون ( يختلقون على اللّه الكذب فإن اللّه لهم بالمرصاد ولا يخلف الميعاد
الأنعام : ( 138 ) وقالوا هذه أنعام . . . . .
) وقالوا ( يعني المشركين ) هذه أنعام وحرث حجر ( يعني ما كانوا جعلوه للّه ولآلهتهم التي قد مضى ذكرها .
وقال مجاهد : يعني بالأنعام ، البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، والحجر : الحرام . قال اللّه تعالى ويقولون ) حجراً محجوراً ( أي حراماً حرماً .
قال الليث :
حنّت إلى النخلة القصوى فقلت لها
حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وأصله من الحجر وهو المنع والحظر ، ومنه : حجر القاضي على المفسد .
وقرأ الحسن وقتادة : وحرث حجر بضم الحاء وهما لغتان . وقرأ أُبي بن كعب وابن عباس وابن الزبير وأبي طلحة والأعمش : وحرث حرج بكسر الحاء والراء قبل الجيم وهي لغة أيضاً مثل جذب وجبذ .
وأنشد أبو عمرو :
ألم تقتلوا الحرجين إذ أعرضا لكم
يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
) لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ( يعنون الرجال دون النساء ) وأنعام حرمت ظهورها ( يعني الحامي إذا ركب ولد ولده . قالوا : حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ) وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها ( .
قال مجاهد : كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم اللّه عليها ولا في شيء من شأنها لا أن ركبوا ولا أن حلبوا ولا أن نتجوا ولا أن باعوا ولا أن حملوا
(4/195)

" صفحة رقم 196 "
وقال أبو عاصم : قال لي أبو وائل : أتدري ما أنعامٌ حرمت ظهورها ؟ قلت : لا . قال : لا يحجّون عليها .
وقال الضحاك : هي التي إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم ولا يذكرون إسم اللّه عليها ) إفتراءً عليه ( يعني إنهم كانوا يفعلون ذلك ويزعمون إن اللّه أمرهم به ) سيجزيهم بما كانوا يفترون }
الأنعام : ( 139 ) وقالوا ما في . . . . .
) وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ( .
قال ابن عباس والشعبي وقتادة : يعني ألبان النحائر كانت للذكور دون النساء فإذا ماتت اشترك في لحمها ذكورهم وإناثهم .
وقال السدي : يعني أخذ النحائر ما ولد منها أُخذ خالص للرجل دون النساء ( وأما ما ولد ميت فيأكله ) الرجال والنساء ، ودخل الهاء في ( خالصة ) على التأكيد والمبالغة ، كما فعل ذلك بالراوية والنسابة والعلامة .
قال الفراء : أُهلت الهاء لتأنيث الأنعام ، لأن مافي بطنها مثلها ، فأنث لتأنيثها قال : وقد يكون الخالصة كالعاقبة ومنه قوله ) إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ( ، وقرأ عبد الله والأعمش : خالص لذكورنا بغير الهاء ردّاً إلى ما ، وقرأ ابن عبّاس : خالصة بالإضافة ( ويخلص ) والخالصة والخليصة والخلصان واحد . قال الشاعر :
كنت أميني وكنت خالصتي
وليس كل إمرىء بمؤتمن
) ومحرّم على أزواجنا ( يعني النساء ) وإن يكن ميتةً ( قرأ أهل المدينة : تكن بالتاء ، ميتةٌ بالرفع على معنى : وإن تقع الأنعام ميتة ، وقرأ أهل مكّة : يكن بالياء ، ميتة بالرفع على معنى : وإن يقع ما في بطون الأنعام ميتةً ، وقرأ الأعمش : تكن بالتاء ، ميتة نصباً على معنى : وإن يكن ( ما في بطون الأنعام ميتة ) وقرأ الباقون : يكن بالياء ، ميتة بالنصب ، ردّوه إلى ما يؤيّد ذلك قوله : ) فهم فيه شركاء ( ولم يقل : فيها . ) سيجزيهم وصفهم ( أي بوصفهم وعلى وصفهم الكذب على الله كقوله ) وتصف ألسنتهم الكذب ( والوصف والصفة واحد كالوزن والزنة والوعد والعدة ، ) إنّه حكيم عليم }
الأنعام : ( 140 ) قد خسر الذين . . . . .
) قد خسروا الذين قتلوا أولادهم سفهاً ( الآية نزلت في ربيعة ومضر وفي العرب الذين يدفنون بناتهم أحياء مخافة السبي والفقر ، إلاّ ما كان من بني كنانة فإنّهم كانوا لا يفعلون ذلك
(4/196)

" صفحة رقم 197 "
وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وأهل مكّة والشام : قتّلوا ، مشدداً على التكثير والباقون بالتخفيف ) بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله ( يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام افتراءً على الله حين قالوا : إنّ الله أمرهم بها ) وقد ضلّوا وما كانوا مهتدين (
الأنعام : ( 141 ) وهو الذي أنشأ . . . . .
) وهو الذي أنشأ ( اخترع وابتدع ) جنات ( بساتين .
( ) وَهُوَ الَّذِىأَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 2
) معروشات وغير معروشات ( مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات قال ابن عباس : معروشات ما انبسط على وجه الأرض وأنتثر ممّا يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ وغيرها ، وغير معروشات ما كان على ساق مثل النخيل وسائر الأشجار وما كان على نسق ، ومثل ( البروج ) ، وقال الضحاك : معروشات وغير معروشات الكرم خاصة منها ما عرش ومنها ما لم يعرش .
وروي عن ابن عباس إيضاً أنَّ المعروشات ما عرش الناس ، وغير معروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار .
يدلّ عليه قراءة علي ( معروشات وغير معروشات ) بالغين والسين . ( والنخل ) يعني وأنشأ ) النخل والزرع مختلفاً أُكله ( ثمره وطعمه الحامض والمرّ والحلو والجيّد والرديء وارتفع معنى الأكل ( ومختلفاً نعته ) إلاّ أنّه لمّا تقدّم النعت على الاسم وولي منصوباً نصب ، كما تقول : عندي طبّاخاً غلام وأنشد :
الشر منتشر لقاك ( من مرض )
والصالحات عليها مغلقاً باب
) والزيتون والرمان متشابهاً ( في المنظر ) وغير متشابه ( في الطعم مثل الرمانتين لونهما
(4/197)

" صفحة رقم 198 "
واحد وطعمهما مختلف ، إحداهما حلوة والأخرى حامضة وقد مرّ القول فيه ) كلوا من ثمره إذا أثمر ( ولا تحرّموه كفعل أهل الجاهلية ) وآتو حقّه يوم حصاده ( قرأ أهل مكّة والمدينة والكوفة حِصاده بكسر الحاء والباقون بالفتح ، وهما واحدة كالجَداد والجِداد ( والصَرام والصِرام ) واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد ومحمد ابن الحنفية وسعيد بن المسيب والضحاك وابن زيد : ) هي الزكاة ( المفروضة العُشْر ونصف العشر .
وقال عليّ بن الحسين وعطاء وحمّاد والحكم : هو حق في المال سوى الزكاة .
قال مجاهد : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل ، وإذا جذذت فألف لهم من الشماريخ ، وإذا درسته ودسته وذرّيته فاطرح لهم منه ، وإذا كدسته ونقيته فاطرح لهم منه ، وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته .
وقال إبراهيم : هو الضغث ، قال الربيع : لقاط السنبل . قال مجاهد : كانوا يعلّقون العذق عند الصرام فيأكل منه الضيف ( ومن مرَّ به ) .
قال زيد بن الأصم : كان أهل ( الجاهليّة ) إذا صرموا يجيئون بالعذق فيُعلّقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه ويأخذه .
وقال سعيد بن جبير وعطيّة : كان هذا قبل الزكاة فلمّا فرض الزكاة نسخ هذا .
وقال سفيان والسدي : سألت عن هذه الآية فقال : نسخها العشر ونصف العشر ، قلت : ممّن ؟ فقال : من العلماء مقسّم عن ابن عباس : نسخت الزكاة كلّ ( صدقة ) في القرآن .
) ولا تُسرفوا أنّه لا يحب المُسرفين ( كان رجال ( ينفقونها بالحرام ) فيقول الرجل لا أمنع سائلا حتّى ( أمسي ) فعمد ثابت بن قيس بن شمّاس إلى خمس مائة نخلة فجذها ثمّ قسّمها في يوم واحدولم يترك لأهله شيّئاً فنزلت ( ولا تُسرفوا ) أي لا تعطوا كلّه ، وقال السدي : لا تُسرفوا لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء ، وقال سعيد بن المسيّب : لا تمنعوا الصدقة ، وقال ( يمان بن رئاب ) : ولا تُبذّروا تبذيراً ، مجاهد وعطية العوفي : ولا تتركوا الأصنام في الحرث والأنعام .
وقال الزهري : ( فوقعوا في ) المعصية ، وقال مجاهد : لو كان أبو قبيس ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً أو مدّاً في معصية الله ( كان ) مسرفاً ، وفي هذا المعنى قيل لحاتم الطائي : لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير .
وقال محمد بن كعب : السرف أن لا يعطي في حق ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
(4/198)

" صفحة رقم 199 "
الإسراف ما لا يقدر على ردّه إلى الصلاح ، والفساد ما يقدر على ردّه إلى الصلاح .
قال النضر بن شميل : الإسراف التبذير والإفراط ، والسرف الغفلة والجهل . قال الشاعر :
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية
مافي عطائهم منٌ ولا سرف
قال إياس بن معاوية : ما تجاوز أمر الله فهو سرف ، وروى ابن وهب عن ابن زيد قال : الخطاب ( للمساكين ) يقول : لا تأخذوا فوق حقّكم .
الأنعام : ( 142 ) ومن الأنعام حمولة . . . . .
) ومن الأنعام ( يعني أنشأ من الأنعام ) حمولةً ( بمعنى كلّ ما محمّل عليها ويركب مثل كبار الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير ، سمّيت بذلك لأنّها تحمل أثقالهم ، قال عنترة :
ما دعاني إلا حمولة أهلها
وسط الديار ( تسف ) حب الخمخم
والحمولة الأحمال .
وقال أهل اللغة : الفعولة بفتح الفاء إذا كانت ( يعني ) الفاعل استوى فيه المذكّر والمؤنّث نحو قولك : رجل فروقة وامرأة فروقة للجبان والخائف ، ورجل صرورة وامرأة صرورة إذا لم يحجا ، وإذا كانت بمعنى المفعول فرّق بين الذكر والأُنثى بالهاء كالخلويّة والزكويّة ) وفرشاً ( والفرش ما يؤكل ويجلب ولا يحمل عليه مثل الغنم والفصلان والعجاجيل ، سمّيت فرشاً للطافة أجسامها وقربها من الفرش . هي الأرض المستوية ، وأصل الفرش الخفة واللطافة ومنه فراشة العقل وفراش العظام ، والفرش أيضاً نبت ملتصق بالأرض ( تأكله ) الإبل قال الراجز :
كمفشر الناب تلوك الفرشا
والفرش : صغار الأولاد من الأنعام
وقال الراجز :
أورثني حمولة وفرشاً
أمشها في كلّ يوم مشاً
) كلوا ممّا رزقكم الله ولا تتّبعوا خطوات الشيطان ( ما حرم الحرث الأنعام ) إنَّه لكم عدوٌّ مبين ( ثمّ بيّن الحمولة والفرش فقال :
الأنعام : ( 143 ) ثمانية أزواج من . . . . .
) ثمانية أزواج ( نصبها على البدل من الحمولة ( بالفرض ) يعني ( واحد من ) الأنعام ثمانية أزواج أي أصناف ) من الضأن اثنين ( فالذكر زوج والأُنثى زوج والضأن والنعاج جمعه ، واحده : ضائن ، والأُنثى : ضائنة ، والجمع : ضوائن .
قرأ الحسن وطلحة بن مصرف : الضأن مفتوحة الهمزة ، والباقون ساكنة الهمزة ، تميم بهمزة وسائر لا بهمزة ) ومن المعز أثنين ( والمعز المعزى لا واحد له من لفظه ، وأمّا الماعز
(4/199)

" صفحة رقم 200 "
فجمعه معيزة وجمع الماعزة مواعز ، وقرأ أهل المدينة والكوفة : من المعز ساكنة العين والباقون بالفتح ، وفي مصحف أُبيّ : من المعزى ، وقرأ أبان بن عثمان : من الضأن اثنان ومن المعز اثنين ، قل يا محمد : ) الذكرين ( حرّم الله عليكم ؟ ذكر الضأن ) حرم أم الأنثيين ( والمعز ؟ أم أُنثييهما ( والنصب ) قوله ) ألذكرين حرم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين ( منهما ) نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (
الأنعام : ( 144 ) ومن الإبل اثنين . . . . .
) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قلّ الذّكرين حرّم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين ( .
وذلك أنّهم كانوا يقولون هذه أنعام ( وحرث حجر ) ، وقالوا : أمّا في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا ، فحرّموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وكان خطيبهم يومئذ مالك بن عوف وأبو النضر ( النصري ) فقال : يا محمد ( رأينا ) أنّك تحرّم ما كان أباؤنا يفعلونه ؟
فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنكم قد حرّمتم أصنافاً من النعم على ( غير . . . . . . . . ) إن الله خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين حرمت ذكران هذه النعم على نسائكم دون رجالكم ؟
فإن زعمتم أن تحريمه من أجل الذكران وجب أن تحرموا كل ذكر ، لأن للذكر فيها حظاً ، وإن زعمتم أنّ تحريمه من جهة الأنثى وجب أن تحرموا كل انثى لأن للأناث فيها حظّاً ، وإن زعمتم أن تحريمه لإجتماع الذكر والأنثى فيه وما اشتمل الرحم عليه وجب أن تحرّموا الذكر والأنثى والحي والميّت ، لأنَّه لا يكون ولد إلاّ من ذكر وأنثى ولا يشتمل الرحم إلاّ على ذكر وأنثى ، فَلِم تحرمون بعضاً وتحّلون بعضاً ؟ فسكت .
فلما لزمته الحجّة أخذ بالإفتراء على الله فقال : كذا أمرنا الله فقال الله تعالى ) أم كنتم شهداء ( ( حضوراً ) ) إذ وصاكم الله بهذا ( ) فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليُضل الناس بغير علم إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين ( .
2 ( ) قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذاَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِن
(4/200)

" صفحة رقم 201 "
كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ابَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ كَذاَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 2
الأنعام : ( 145 ) قل لا أجد . . . . .
( ثمّ بيّن ) المحرمات فقال ) قل لا أجدُ في ما أُوحي إليَّ محرّماً ( أي شيئاً محرّماً ) على طاعم يطعمه ( آكل يأكله . وقرأ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : يطعمه مثقلة بالطاء أراد يتطعّمه فأدغم ، وقرأت عائشة على طاعم طعمه ) إلاّ أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً ( ( مهراقاً ) سائلاً . قال عمران بن جرير : سألت أبا مجلز عمّا يتلطخ من اللحم بالدم وعن القدر تعلوها حمرة الدم . قال : لا بأس به إنّما نهى الله سبحانه عن الدم المسفوح .
وقال إبراهيم : لا بأس الدم في عروق أو مخ إلاّ المسفوح الذي تعمّد ذلك ، قال عكرمة : لولا هذه الآية لأتّبع المسلمون من العروق ما تتبّع اليهود ) أو لحم خنزير فإنَّه رجس ( خبيث ) أو فسقاً ( معصية ) أُهِلَّ ( ذبُح ) لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم 2 )
الأنعام : ( 146 ) وعلى الذين هادوا . . . . .
) وعلى الذين هادُوا ( يعني اليهود ) حرّمنا كلّ ذي ظفر ( ، وهو مالم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير . مثل الإبل والنعّام والأوزة والبط .
قال ابن زيد : هو الإبل فقط . وقال القتيبي : هو كلّ ذي مخلب من الطيور وكل ذي حافر من الدواب ، وقد حكاه عن بعض المفسّرين ، وقيل : سمّي الحافر ظفراً على الاستعارة وأنشد قول طرفة :
فما رقد الولدان حتّى رأيته
على البكر يمريه بساق وحافر
فجعل الحافر موضع القدم .
وقرأ الحسن كل ذي ظفر مكسورة الظاء مسكنة الفاء . وقرأ ( أبو سماك ) ظِفِر بكسر الظاء والفاء وهي لغة .
(4/201)

" صفحة رقم 202 "
) ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومها ( يعني ( الشروب ) وشحم الكليتين ) إلاّ ما حملت ظهورهما ( أي ما علق بالظهر والجانب إلاّ منْ داخل بطونها ) أو الحوايا ( يعني الماعز ) أو ما اختلط بعظم ( مثل لحم الإلية ) ذلك ( التحريم ) جزيناهم ببغيهم ( بظلمهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل ) وإنا لصادقون ( في أخبارنا عن هؤلاء اليهود وعمّا حرّمنا عليهم من اللحوم والشحوم .
الأنعام : ( 148 ) سيقول الذين أشركوا . . . . .
) سيقول الذين أشركوا ( ( لمّا الزمنا بينهم ) الحجّة وتبيّنوا وتيقنوا باطل ما كانوا عليه ) لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا من قبل ولا حرّمنا ( ما حرّمنا من التغاير والسوايب وغير ذلك لأنَّه قادر على أن يحمل بيننا وبين ذلك حتّى لا نفعله ولكنّه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأصنام وتحريم الحرث والأنعام وأراد منّا وأمرنا به فلم يحل بيننا وبين ذلك فقال الله تعالى تكذيباً لهم وردّاً عليهم ) كذلك كذّب الذين من قبلهم ( ولو كان كذلك خيراً من الله تعالى عن مَنْ كذّبهم في قولهم ) لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ( لقال كذلك ( كذّب الذين من قبلهم ) بتخفيف الذال وكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب .
وقال الحسن بن الفضل : ( لمّا خبّروا بهذه المقالة ) تعظيماً وإجلالا لله سبحانه وتعالى وصفة منهم به لمّا عابهم ذلك ، لأن الله قال ) ولو شاء الله ما أشركوا ( وقال سبحانه : ) ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله ( وقال ) ولو شاء لهداكم أجمعين ( والمؤمنون يقولون هذا ولكنّهم قالوا ذلك تكذيباً وتخرصاً وبدلاً من غير معرفة بالله تعالى وبما ( يقولون ) نظيره قوله ) وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ( ، قال الله تعالى ) مالهم بذلك من علم إنّ هم إلاّ يخرصون ( بقولهم هذا من غير علم بيّنهم بآية ) والمؤمنون ( وبقوله و ) علم ( منهم بالله عزّ وجلّ ثمّ قال ) هل عندكم من علم ( من حظ وحجّة على ما يقولون من غير علم ويقين ) وإن أنتم إلاّ تخرصون ( تكذّبون
الأنعام : ( 149 ) قل فلله الحجة . . . . .
) قل فلله الحجّة البالغة ( التامة الكافية على خلقه ) فلو شاء لهداكم أجمعين (
الأنعام : ( 150 ) قل هلم شهداءكم . . . . .
) قل هلم شهداءَكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ( أي احضروهم وأتوا بهم فقالوا : نحن نشهد ، فقال الله تعالى : ) فإن شهدوا فلا تشهد معهم ( إلى قوله ) يعدلون ( يشركون .
( ) قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا
(4/202)

" صفحة رقم 203 "
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذاَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذاَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِىأَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 2
الأنعام : ( 151 ) قل تعالوا أتل . . . . .
ثمّ قال ) قل يامحمد تعالوا أتلُ ( أقرأ ) ما حرم ربكم عليكم ( حقّاً يقينا كما أوحى إليّ ربّي وأمرني به لاظنّاً ولا تكذيباً كما يزعمون ) لا تشركوا به شيئاً ( اختلفوا في محل أن فقال بعضهم : ( محلّه ) نصب ، ثمّ اختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه : حرّم أن تشركوا ولا صلة كقولهم : ( ما منعك ألا تسجد ) .
وقيل : إنّك ألاّ تشركوا ، وقيل : أوحى ألا تشركوا ، وقيل : ( ما ) بدل ( من ) ما حرّم ، وقيل : الكلام عند قوله ) حرّم ربّكم ( ثمّ قال : عليكم أن لا تشركوا على الكفر ، وقال بعضهم : موضع ( من ) معناه : وهو أن لا تشركوا جهراً بكفركم ، وأما بعده فيجوز أن يكون في محل النصب عطفاً على قوله أن لا تشركوا ) وأن ( . . . . . . . ) لأنّه يجوز أن يكون جزم على الأقوى كقوله ) قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ( ) ولا تكونن من المشركين ( عطف بالنهي على الخبر قال الشاعر :
حج وأوصي بسليمى إلا عبدا
أن لاترى ولا تكلم أحداً
ولا يزال شرابها مبردا
) وبالوالدين إحساناً فلا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ( ولاتئدوا بناتكم خشية العيش فإني أرزقكم وإياهم والإملاق الفقر ونفاد الزاد .
الأنعام : ( 152 ) ولا تقربوا مال . . . . .
) ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها ( يعني علانية ) وما بطن ( يعني السرّ قال المفسّرون : كانوا في الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السرّ فحرّم الله تعالى الزنا في العلانيّة والسر وقال الضحاك : ما ظهر الخمر وما بطن ) ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله ( ( نهى وهي ) نفس مؤمن أو معاهد ) إلاّ بالحق ( يعني بما أباح قبلها وهي الارتداد والقصاص والرجم .
وروى مطر الوراق عن نافع بن عمر عن عثمان رضي الله عنه أشرف على أصحابه وقال : علام يقتلونني فإنّي سمعتُ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا يحل دم أمرىء مُسلم إلاّ بإحدى ثلاث :
(4/203)

" صفحة رقم 204 "
رجل زنا بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو قتل عامداً فعليه القود ، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل ، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا قتلت أحداً فاقيد نفسي ، ولا ارتدت منذ أسلمت ، إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله )
) ذلكم ( النبيّ الذي ذكرت ) وصّاكم به لعلّكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن ( يعني بما فيه صلاحه وتثميره ، وقال مجاهد : هو التجارة فيه ، وقال الضحاك : أموال يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئاً .
وقال ابن زيد : وأن يأكل بالمعروف إن افتقر ، وإن استغنى لم يأكل ، وقال الشعبي : مَنْ خالط مال اليتيم حتّى يفصل عليه فليخالطه ، ومَنْ خالطه ليأكل منه وليدعه حتّى يبلغ أشده .
وقال يحيى بن يعمر : بلوغ الحلم ، وقال الشعبي : الأشد الحلم حيث يكتب له الحسنات وعليه السيئات ، وقال أبو العاليّة : حتّى يعقل ويجتمع قوّته .
وقال الكلبي : الأشد مابين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة . وقال السدّي : هو ثلاثون سنة ثمّ جاء بعدها حتّى بلغوا النكاح .
والأشد جمع شدّ ، مثل قدّ وأقدّ ، وهو استحكام قوماً لفتى وشبابه وسنه ، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه ، يقال : أتيته شدّ النهار ومد النهار وقال الفضل بن محمد في شد بيت عنترة :
( عهدي به ) شدّ النهار كأنّما
خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال آخر :
تطيف به شد النهار ضعينة
طويلة أنقاء اليدين سحوق
وليس بلوغ الأشد ممّايدع قرب ماله بغير الأحسن وقد تمّ الكلام .
) ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن ( ( على الأبد ) ) حتّى يبلغ أشدّه ( فادفعوا إليه ماله إن كان رشيداً ) وأُفوا الكيل والميزان بالقسط ( بالعدل ) لا نكلف نفساً إلاّ وسعها ( أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن ، وقال أهل المعاني : معناه : إلاّ يسعها ويحلّ لها ولا يخرج عليه ولا يضيق عنه وذلك أنّ لله تعالى من عباده أنّ كثيراً منهم ضيق نفسه عن أن يطيّب لغيره بما لا يجب عليها له فأمر المعطي بإيفاء الحق ربّه الذي هو له ويكلّفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها ، وأمر صاحب الحق بأخذ حقّه ولم يكلفه الرضا بأقل منه لمّا فيه في النقصان عليه من ضيق نفسه ، فلم يكلّف نفساً منهما إلاّ ما لا حرج فيه ولا يضيق عليه .
(4/204)

" صفحة رقم 205 "
قال ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم فقد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان ) وإذا قلتم فاعدلوا ( أي فاصدقوا في الحكم والشهادة ) ولو كان ذا قربى ( محذوف الاسم يعني ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قربة ) وبعهد الله أوفوا ذلكم وصّاكم به لعلّكم تذّكرون ( يتّعظون .
قال ابن عباس : هذا الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء في جميع الكتب وهنَّ محرّمات على بني آدم كلّهم وهنّ أُمّ الكتاب مَنْ عمل بهن دخل الجنّة ومَنْ تركهن دخل النار .
قال كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إنَّ هذا لأوّل شيء في التوراة ) بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربّكم عليكم ( الآيات .
وقال الربيع بن خيثم لأصحابه : ألا أقرأ عليكم صحيفة عليها خاتم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يُفك فقرأ هذه الآية ) قل تعالوا أتل 2 )
الأنعام : ( 153 ) وأن هذا صراطي . . . . .
) وإنَّ هذا ( يعني وصّاكم به في هاتين الآيتين ) صراطي ( طريقي وديني ) مستقيماً ( مستوياً قويماً ) فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل ( يعني الطرق المختلفة التي عداها مثل اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات ) فتُفرّق ( فيمتدّ وتخالف ( وتشتت ) ) بكم عن سبيله ( عن طريقه ودين النبيّ الذي ارتضى وبها وصّى ) ذلكم الذي ( ذكرت ) وصاكم به لعلكم تتقون 2 )
الأنعام : ( 154 ) ثم آتينا موسى . . . . .
) ثمّ آتينا موسى الكتاب ( يعني ثمّ قل يا محمد لهم آتينا موسى الكتاب ، لأنّ موسى أوتي الكتاب قبل محمد عليهما الصلاة والسلام . وقيل : ثمّ بمعنى الواو لأنّهما حرفا عطف قال الشاعر :
قل لمن ساد ثمّ ساد أبوه
ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه
) تماماً ( نصب على القطع ، وقيل : على التفسير ) على الذي أحسن ( قال بعضهم : معناه تماماً على المحسنين . ويكون ( الذي ) بمعنى ( من ) وتقديره على الذين أحسنوا ، لفظه واحد ومعناه جمع كما تقول : أُوصي بمالي للذي غزا وحجَّ يريد الغازين والحاجين .
وقال الشاعر :
شبّوا عليَّ المجد وشابوا واكتهل
يريد : واكتهلوا .
يدلّ عليه قراءة عبد الله بن مسعود ( على الذين أحسنوا ) .
وقال أبو عبيد : معناه على كل مَنْ أحسن ، ومعنى هذا القول أتممنا ( طلب ) موسى بهذا الكتاب ، على المحسنين يعني أظهرنا فضله عليهم ، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون . وقيل :
(4/205)

" صفحة رقم 206 "
معناه : ثمّ آتينا موسى الكتاب متماً للمحسنين يعني تتميماً منّا للأنبياء والمؤمنين الكتب ) على ( بمعنى ( اللام ) كما تقول أتم الله عليه فأتم له . قال الشاعر :
رعته أشهراً وخلا عليها
فطار التي فيها واستعاراً
أراد : وخلا لها .
وقيل : ( الذي ) بمعنى ( ما ) ، يعني آتينا موسى الكتاب تماماً على ما أحسن موسى من العلم والحكمة أي زيادة على ذلك .
وقال عبد الله بن بريدة : معناه تماماً مِنّي على مَنّي وإحساني إلى موسى ، وقال ابن زيد : معناه تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم ، وقال الحسن : فمنهم المحسن ومنهم المسيء فنزل الكتاب تماماً على المحسنين ، وقرأ يحيى بن يعمر : على الذي أحسن ، بالرفع أي على ) الذي أحسن وتفصيلا ( بياناً ) لكلّ شيء ( يحتاج إليه من شرائع الدين ) وهدىً ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (
الأنعام : ( 155 ) وهذا كتاب أنزلناه . . . . .
هذا يعني وهذا القرآن ) كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه ( واعملوا بما فيه ) واتقوا ( وأطيعوا ) لعلّكم ترحمون ( فلا تعذبون .
( ) أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِىإِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىإِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّىإِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذاَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاَْرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 2
الأنعام : ( 156 ) أن تقولوا إنما . . . . .
) أن تقولوا ( يعني ( لئلاّ ) تقولوا كقوله ) يبين الله لكم أن تضلوا ( وقوله : ) قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ( يعني أي لا تقولوا يعني لئلاّ تقولوا .
(4/206)

" صفحة رقم 207 "
وقيل : معناه أنزلناه كراهة أن يقول ، وقال الكسائي : معناه : اتقوا أن تقولوا : يا أهل مكّة ، وقرأ ابن محيصن والأعمش كلاهما والقراءة بالياء بقوله تعالى فقد جاءكم ) إنّما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ( يعني اليهود والنصارى ) وإن كنّا ( وقد كنّا ) عن دراستهم ( قرأتهم ) لغافلين ( لا نعلم ما هي وإنَّما قال : دراستهم ، ولم يقل : دراستهما ، لأن كل طائفة جماعة ، كقوله تعالى ) هذان خصمان اختصموا ( وأن ما يقال من المؤمنين اقتتلوا .
الأنعام : ( 157 ) أو تقولوا لو . . . . .
) أو تقولوا لو أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ( يعني أصوب من اليهود والنصارى ديناً ) فقد جاءكم بيّنة من ربّكم ( حجّة واضحة لمن يعرفونها ) وهدىً ( وبيان ) ورحمة ( ونعمة لمن اتبعه وعمل به ) فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصَدَّق ( وأعرض عنها ) سنجزي الذين يصدّون عن آياتنا سوء العذاب ( شدة العذاب ) بما كانوا يصدفون ( يعرضون
الأنعام : ( 158 ) هل ينظرون إلا . . . . .
) هل ينظرون ( وينتظرون ) إلاّ أن تأتيهم الملائكة ( لقبض أرواحهم ) أو يأتي ربّك ( بلا كيف لفصل القضاء من خلقه في موقف القيامة ، وقال الضحاك : يأتي أمره وقضاؤه ) أو يأتي بعض آيات ربّك ( يعني طلوع الشمس من مغربها ) يوم يأتي بعض آيات ربّك لا ينفع نفساً إيمانها ( وقرأ ابن عمر وابن الزبير : يوم تأتي بعض آيات ربّك بالتاء ، قال المبرّد : على التأنيث على المجاورة لا على الأصل ، كقولهم : ذهبت بعض أصابعه . قال جرير :
لمّا أتى خبر الزبير تواضعت
سور المدينة والجبال الخشع
فأتت فعل السور ، وهو مذكّر لاتصاله بمؤنّث .
روى عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تقوم الساعة حتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورأها الناس آمنوا أجمعين وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها ) لم تكن آمنت من قبل ( ) الآية .
وروى مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس : قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا غربت الشمس رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع إلى مغربها أو من مطلعها ( فكسى ) ضوؤها ، وإن كان القمر منوّر على مقادير ساعات الليل والنهار ثمّ ينطلق بها ما بين السماء السابعة العليا وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر ( جبال ) المشرق من سماء إلى سماء ، فإذا ما وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح ويضيء النهار فلا يظل الشمس والقمر ، كذلك حتّى يأتي الوقت الذي وقت الله التوبة لعباد وتكثر المعاصي في الأرض ، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد ، فإذا فعلوا ذلك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش كلما
(4/207)

" صفحة رقم 208 "
سجدت وأستأذنت من أن تطلع لم يجىء لها جواب حتّى يراقبها القمر ( فيجيء معها ) ويستأذن من أن تطلع فلا يجاب لهما بجواب حتّى تحبسا مقدار ثلاث ليالي للشمس وليلتين للقمر ، فلا يعرف طول تلك الليالي إلاّ المتهجّدون في الأرض ، وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين في هوان من الناس وذلّة من أنفسهم ، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام قبلها من الليالي ، ثمّ يقوم ويتوضّأ ويدخل مصلاّه فيصلّي ورده ، فلا يصبح نحو ما كان يصبح كلّ ليلة فينكر ذلك فيخرج فينظر إلى السماء فإذا هو بالليل فكأنه والنجوم قد استدارت مع السماء فصارت إلى أماكنها من أول الليل ، فينكر ذلك ويظن فيها الظنون فيقول : قد خففت قراءتي وقصرت صلواتي أم قمت قبل حيني .
قال : ثمّ يقوم فيعود إلى مصلاّة فيصلّي نحو صلاته الليلة الثانية ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج أيضاً فإذا بالليل مكانه فيزيده ذلك إنكاراً ويخالطه الخوف ويظن في ذلك الظنون من السوء ، ثمّ يقول فلعلّي قصّرت صلواتي ثمّ خفّفت قراءتي ( أم قمت ) في أوّل الليل ثمّ يعود وهو وجل مشتت خائف لما توقّع من هول تلك الليلة فيقوم فيصلّي أيضاً مثل ( ورده ) كلّ ليلة قبل ذلك ، ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج الثالثة فينظر إلى السماء فإذا بالنجوم قد استدارت مع السماء فصارت في أماكنها عند أوّل الليل فيشفقه عند ذلك شفقة المؤمن العارف لما كان يحذر فيستحييه الخفّة ويستخفّه الندامة ، ثمّ ينادي بعضهم بعضاً وهم كانوا قبل ذلك يتعارفون ويتواصلون فيجتمع المتهجدون من كل بلدة في تلك الليلة في مسجد من مساجدهم ويجأرون إلى الله تعالى بالبكاء ويصلّوا بقيّة تلك الليلة .
فإذا ما تمّ لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله إليهما جبرائيل فيقول : إنّ الرب تبارك وتعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه وإنّه لا ضوء لكما عندنا ولا نور فيبكيان عند ذلك وَجَلا من الله عزّ وجلّ وخوف يوم القيامة بكاءً يسمعه أهل سبع سماوات ومن دونها وأهل سرادقات العرش وحملته ومن فوقهما ، فيبكون جميعاً لبكائهما من خوف الموت والقيامة ، فيرجع الشمس والقمر فيطلعان من مغربهما فبينما المتهجّدون يبكون ويتضرّعون إلى الله عزّ وجلّ ، والغافلون في غفلاتهم إذ نادى مناد : ألا إن الشمس والقمر قد طلعا من المغرب فينظر الناس فإذا هم بهما أسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر مثلهما في كسوفهما قبل ذلك . فذلك قوله ) وجُمع الشمس والقمر ( وقوله ) إذا الشمسُ كُوّرت ( فيرتفعان كذلك مثل البعيرين القرنين يُنازع كلّ واحد منهما صاحبه اشتياقاً ، ويتصايح أهل الدنيا وتدخل الأُمّهات على أولادها والأحبّة عن غمرات قلوبها ، فتشتغل كلُّ نفس بما ألّمها ، فأمّا الصالحون والأبرار فإنّه ينفعهم بكاؤهم يومئذ فيكتب لهم ذلك عبادة ، وأمّا الفاسقون والفُجّار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب
(4/208)

" صفحة رقم 209 "
ذلك حسرة عليهم فإذا ما بلغ الشمس والقمر سرّت السماء وهي منصفها جاءهما جبرائيل ( عليه السلام ) فأخذ بقرونهما فردّهما إلى المغرب فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة ) .
فقال له عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله وما باب التوبة ؟
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا عمر خلق الله تعالى باباً للتوبة خلف المغرب له مصراعان من ذهب مكلّلان بالدرّ والجوهر ما بين المصراع إلى المصراع الآخر أربعون سنة للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحاً منذ خلق الله آدم إلى ذلك اليوم إلاّ ولجت تلك التوبة في ذلك الباب . لم يرفع إلى الله تعالى ) .
فقال له معاذ بن جبل : بأبي أنت وأُمي يا رسول الله وما التوبة النصوح ؟
قال : ( أن يندم المذنب على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله عزّ وجلّ ثمّ لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع .
قال : فيغربهما جبريل في ذلك الباب ثمّ يرد المصراعين ثمّ يلتئم ما بينهما فيصير كأنّه لم يكن بينهما صدع قط ، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل من العبد بعد ذلك توبة ولم ينفعه حسنة يعملها في الإسلام ، إلاّ مَنْ كان قبل ذلك مُحسناً فإنّه يجري عليه ما كان يجري عليه قبل ذلك اليوم فذلك قوله عزّ وجلّ ) يوم يأتي بعض آيات ربّك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ( .
فقال أُبي بن كعب : بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله فكيف بالشمس والقمر يومئذ بعد ذلك وكيف بالناس والدنيا .
فقال : ( يا أُبي إنّ الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور ، ثمّ يطلعان على الناس ويغربان ، كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان ، فإنّ الناس رأوا ما رأوا في فظاعة تلك الآية يلحون على الدنيا حتّى يجروا فيها الأنهار ويغرسوا فيها الأشجار ويبنوا البنيان . وأمّا الدنيا فلو نتج لرجل مُهْراً لم يركبه حتّى تقوم الساعة من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى أن يُنفخ في الصور ) .
قال حذيفة بن أسيد والبراء بن عازب : كنّا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ما تذاكرون ؟
(4/209)

" صفحة رقم 210 "
( قلنا : ) نتذاكر الساعة .
قال : ( إنها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، ودابة الأرض ، وخسفاً بالمشرق ، وخسفاً بالمغرب ، وخسفاً بجزيرة العرب ، ويأجوج ومأجوج ، وناراً تخرج من قعر عدن ، ونزول عيسى ، وطلوع الشمس من مغربها ) .
ويقال : إنّ الآيات تتابع كالنظم في الخيط عاماً فعاماً .
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : والحكمة في طلوع الشمس من مغربها إنّ إبراهيم ( عليه السلام ) قال لنمرود : ) ربّي الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبُهت الذي كفر ( .
وأن الملحدة والمنجّمة عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون هو غير ( كائن ) فيطلعها الله تعالى يوماً من المغرب ليري المنكرين قدرته فإنّ الشمس من ملكه إن شاء أطلعها من المطلع وإن شاء من المغرب .
وقال عبد الله بن عمر : يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة حتّى يغرسوا النخل .
قال الله : ) قال انتظروا إنّا منتظرون ( العذاب
الأنعام : ( 159 ) إن الذين فرقوا . . . . .
) إنَّ الذين فرَّقوا دينهم ( قرأ حمزة والكسائي : فارقوا بالألف أي خرجوا من دينهم وتركوه وهي قراءة عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، ورواه معاذ عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وقرأ الباقون مشدّداً بغير ألف وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأُبي بن كعب أي جعلوا دين الله وهو واحد دين الحنيفيّة أدياناً مختلفة فتهوّد قوم وتنصّر آخرون يدلّ عليه قوله ) وكانوا شيعاً ( أي صاروا فرقاً مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك .
وروى ليث عن طاوس عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ( إنّ ) هذه الآية ) إنَّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء وليسوا منك ( ، هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل من هذه الأُمّة لست منهم في شيء ) ، أي ( نفر ) منهم ورسول الله .
قالوا : وهذه اللفظة منسوخة بآية القتال .
وقال زادان أبو عمر قال لي علي ( عليه السلام ) : ( يا أبا عمر أتدري كم افترقت اليهود
(4/210)

" صفحة رقم 211 "
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : ( افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلاّ واحدة وهي الناجية . أتدري على كم افترقت النصارى ) ؟
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : ( افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلاّ واحدة هي ( الناجية ) .
أتدري على كم تفترق هذه الأُمّة ) ؟
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : ( تفترّق على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلاّ واحدة فهي الناجية .
ثمّ قال علي رضي الله عنه أتدري على كم تفترق فيّ ؟
قلت : وإنّه لتفترق فيك يا أمير المؤمنين ؟
قال : نعم تفترق فيَّ اثنا عشر فرقة كلّها في الهاوية إلاّ واحدة وهي الناجية وأنت منهم يا أبا عمر ) .
( ومنهم فرق الروافض والخوارج ) .
الأنعام : ( 160 ) من جاء بالحسنة . . . . .
) مَنْ جاء بالحسنة فله ( يعني التوحيد : لا إله إلاّ أنت ) فله عشر أمثالها ( قرأ الحسن وسعيد بن جبير . ويعقوب عشر ( منون ) أمثالها رفع على معنى فله حسنات عشر أمثالها ، وقرأ الباقون بالإضافة على معنى : فله عشر حسنات أمثالها ، وإنما لم يقل عشرة والمثل مذكر فأنث العدد لأنه مضاف إلى مؤنث فرده إلى الحسنة و الدرجة ) ومَنْ جاء بالسيّئة ( في الشرك ) فلا يُجزى إلاّ مثلها ( النار ) وهم لا يُظلمون ( وقيل : هو عام في جميع الحسنات والسيّئات .
روى ( المقدوس ) بن يزيد عن أبي ذر : قال : حدّثني الصادق المصدّق أنَّ الله عزّ وجلّ قال : ( الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفرها فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة ثمّ لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة ) .
قال ابن عمر وابن عباس : هذه الآية في الأحزاب وأهل البدو ، قيل : فما لأهل القرى قال : ) وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً ( وأقلها سبعمائة ضعف ، وقال قتادة : في هذه الآية ذكر لنا أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الأعمال ستة فموجبة وموجبة مضاعفة ومثل وبمثل فأمّا الموجبتان فمن لقى الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنّة ومَنْ لقى الله يُشرك به
(4/211)

" صفحة رقم 212 "
دخل النار ، فأمّا المضاعفتان فنفقة الرجل على أهله عشر بعشر أمثالها ونفقة الرجل في سبيل الله سبعمائة ضعف ، وأمّا مثل بمثل فإنّ العبد إذا همَّ بحسنة ثمّ لم يعملها كُتبت واحدة وإذا عملها كُتبت ( عشرة ) ) .
وعن سفيان الثوري لمّا نزلت ) مَنْ جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ( قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( ربّي زدني ) فنزلت ) مثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله مثل حبّة ( الآية قال : يا رب زدني فنزلت ) مَنْ ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيُضاعفه له أضعافاً كثيرة ، قال : ربّ زدني ؟ فنزلت : إنّما يوفّى الصابرون أجورهم بغير حساب ( .
) قل ( يا محمد
الأنعام : ( 161 ) قل إنني هداني . . . . .
) إنني هداني ربّي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ( ) قرأ أهل الكوفة والشام : قِيَمَاً بكسر القاف وفتح الياء مخففاً . وقرأ الباقون : قَيّماً بفتح القاف وكسر الياء مشدداً وهما لغتان وتصديق التشديد قوله تعالى ) ذلك الدين القيّم ( . و ) ديناً قيّماً ( معناهما : ذلك الدين القويم المستقيم .
واختلف النحّاة في وجه انتصابه فقال الأخفش : معناه هداني ديناً قيّماً ، وقيل : عرفت ديناً قيّماً ، وقيل : أعني ديناً قيّماً ، وقيل : نصب على الآخر يعني ابتغوا ديناً قيّماً .
وقال قطرب : نصب على الحال ( وضع ) ) ملّة إبراهيم ( بدل من الدين ) حنيفاً ( نصب على الحال ) وما كان من المشركين (
الأنعام : ( 162 ) قل إن صلاتي . . . . .
) قل إنّ صلاتي ونُسكي ( قال أهل التفسير يعني ذبيحتي في الحج والعمرة .
وقيل : ديني ) ومحياي ومماتي ( يعني حياتي ووفاتي قال : يمان : محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان . وقرأ أهل المدينة ومحياي بسكون الياء .
وقرأت العامة بفتح الياء لئلاّ يجتمع ساكنان . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى : ومحييّ بتشديد الياء الثانية من غير ألف وهي ( لغة عليا مضر ) يقولون : ( قفي وعصي ) وقرأ السلمي نسكي بجزم السين والباقون بضمّتين ) لله ربّ العالمين }
الأنعام : ( 163 ) لا شريك له . . . . .
) لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أوّل المسلمين ( قال قتادة أوّل المسلمين من هذه الأُمّة ، قال الكلبي : أوّل مَنْ أطاع الله من أهل زمانه .
وروى سعيد بن جبير عن عمران بن ( حصين ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا فاطمة قومي واشهدي أُضحيّتك فإنّه يغفر لكِ في أوّل قطرة من دمها كل ذنب عملته ثمّ قولي : إنّ صلاتي ونُسكي إلى قوله المسلمين )
(4/212)

" صفحة رقم 213 "
قال عمران : يا رسول الله هذه الآية لأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة ؟
قال : ( بل للمسلمين عامّة ) .
الأنعام : ( 164 ) قل أغير الله . . . . .
) قل أغير الله أبغي ربّاً ( سوى الله أطلب سيّداً ) وهو ربّ كلّ شيء ولا تكسب كل نفس إلاّ عليها ( لا تؤخذ مما أتت من المعصية وارتكبت من الذنوب سواها .
) ولا تزروا وازرة وزر أُخرى ( يعني ولا تحمل نفس حمل طبق محل اُخرى ما عليها من الذنوب ولاتأثم نفس آثمة بأثمّ أُخرى ، بل كل نفس مأخوذ بجرمها ومعاقبة بإثمها ) ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فيُنبئكم بما كنتم فيه تختلفون }
الأنعام : ( 165 ) وهو الذي جعلكم . . . . .
) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ( يعني أهل القرون الماضية والأُمم الخالية وأورثكم الأرض من بعدهم ثمّ جعلكم خلايف منهم فيما يخلفونهم فيها ويعمرونها بعدهم والخلاف جمع خليفة ، كالوصيف يجمع وصيفة فكل مَنْ جاء من بعد مَنْ مضى فهو خليفة يقال : خلف فلان فلاناً في داره يخلفه خلافةً فهو خليفة كما قال الشماخ :
تصيبهم وتخطئني المنايا
وأخلف في ربوع عن ربوع
) ورفع بعضكم فوق بعض درجات ( يعني وخالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والقوّة والبسطة والعلم والفضل والمعاش والمعاد ) ليبلوكم فيما أتاكم ( يعني الغنى والفقر والشريف والوضيع والحر والعبد ) إن ربّك سريع العقاب ( يعني ماهو آت قريب ، وقيل : الهلاك في الدنيا .
وقال الكلبي : إذا عاقب فعقابه سريع ، وقال عطاء : سريع العقاب لأعدائه ) وإنّه لغفور رحيم ( لأوليائه .
(4/213)

" صفحة رقم 214 "
( سورة الأعراف )
وهي مائتان وست آيات
روى أبو أمامة عن أُبي بن كعب عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( مَنْ قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم له شفيعاً يوم القيامة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاَْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( 2
الأعراف : ( 1 ) المص
) المص ( روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : ) المص ( قسم أقسم الله عزّ وجلّ ، وقال عطاء بن أبي رباح : هو من ثناء الله سبحانه على نفسه ، أبو صالح عن ابن عباس : اسم من أسماء الله تعالى ، أبو الضحى عن ابن عباس : أنا الله أفصل وقال وهي هجاء موضوع ، قتادة : اسم من أسماء القرآن . وقيل : اسم السورة ، مجاهد : فواتح افتتح الله بها كتابه ، الشعبي : فواتح السور من أسماء الله تعالى إذا وصلها كانت اسماً .
وقال أبو روق : أنا الله الصادق ، سعيد بن جبير : أنا الله أصدق ، محمد بن كعب : إلاّ أن افتتاح اسمه أحد أول آخر ، واللام افتتاح اسمه لطيف ، والميم افتتاح اسمه مجيد وملك ، والصاد افتتاح اسمه صمد وصادق أحد وصانع المصنوعات .
ورأيت في بعض التفاسير معنى ) المص ( ) ألم نشرح لك صدرك ( وقيل : هي حروف هجاء مقطّعة ، وقيل : هي حساب الجمل ، وقيل : هي حروف اسم الله الأعظم ، وقيل : هي
(4/214)

" صفحة رقم 215 "
حروف تحوي معاني كثيرة ، وقيل : الله بها خلقه على مراده كلّه من ذلك ، وموضعه رفع بالأبتداء وكتاب خبره كأنّه قال : ( المص ) حروف
الأعراف : ( 2 ) كتاب أنزل إليك . . . . .
) كتاب أُنزل إليك ( ، وقيل : كتاب خبر ابتدأ في هذا كتاب .
وقيل رفع على التقديم والتأخير ، يعني أُنزل كتاب إليك وهو القرآن ) فلا يكن في صدرك حرج منه ( قال أبو العالية : ضيق ، وقال مجاهد : تَنك ، وقال الضحاك : إثمّ ، وقال مقاتل : فلا يكن في قلبك شك في القرآن . إنّه من الله ، وقيل : معناه لا اطبق قلبك بإنذار من أرسلتك بإنذاره وإبلاغ من أمرتك بإبلاغه إياه ) وذكرى للمؤمنين ( أي عظة لهم وموعظة ، وموضعه رفع مردود على الكتاب .
وقيل : هو نصب على المصدر تقديره ويذكر ذكرى . ويجوز أن يكون في موضع الخفض على معنى لتنذر في موضع خفض ، والمعنى الإنذار والذكرى ، وأمّا ذكرى فمصدر فيه ألف التأنيث ( بمنزلة ) دعوت دعوى ورجعت رجعى إلاّ أنّه اسم في موضع المصدر .
الأعراف : ( 3 ) اتبعوا ما أنزل . . . . .
) اتّبعوا ما أُنزل إليكم من ربّكم ( أي قل لهم : اتبعوا ولا تتبعوا من دونه أولياء .
قرأ العامّة بالعين من الاتباع ، وروى عاصم الجحدري عن أبي ( الشيخ ) ومالك بن دينار ( ولا تبتغوا ) بالغين المعجمة أي لا تطلبوا ) قليلا ما تذكرون 2 )
الأعراف : ( 4 ) وكم من قرية . . . . .
) وكم من قرية أهلكناها ( بالعذاب وموضع ( كم ) الرفع بالابتداء وخبره في ( أهكلناها ) وإن شئت نصبته برجوع الهاء ، ) فجاءها بأسنا ( عذابنا ) بياتاً ( ليلا ( كما يأتِ بالعساكر ) ) أوهم قائلون ( يعني نهاراً في وقت ( القائلة ) وقائلون نائمون ظهيرة ، ومعنى الآية : ( أو هم قائلون ) يعني : إن من هذه القرى ما أُهلكت ليلا ومنها ما أُهلكت نهاراً وإنّما حذفوها ( لاستثقالهم ) نسقاً على نسق ، هذا قول الفراء ، وجعل ( الزجاج ) بمعنى أو ( التحيّر ) والإباحة تقديره : جاءهم بأسنا مرّة ليلا ومرّة نهاراً ) فما كان دعواهم ( أي قولهم ودعاؤهم مثل قوله تعالى ) فما زالت تلك دعواهم ( قال الشاعر :
وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي
بدعواك من مذل بها فتهون
مذل رجله إذا خدرت ) إذ جاءَهم بأسنا ( عذابنا إلاّ أن قالوا ) إنَّا كنّا ظالمين ( مسيئين آثمين ولأمره مخالفين أقرّوا على أنفسهم .
روى ابن مسعود عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما هلك قوم حتّى يعذروا من أنفسهم . قال : قلت : كيف يكون ذلك ؟
الأعراف : ( 5 ) فما كان دعواهم . . . . .
فقرأ هذه الآية : ) ما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا ( الآية .
(4/215)

" صفحة رقم 216 "
الأعراف : ( 6 ) فلنسألن الذين أرسل . . . . .
) فلنسئلن الذين أُرسل إليهم ( يعني الأُمم عن إجابتهم الرسل ) ولنسئلن المرسلين ( عن تبليغ الأُمم
الأعراف : ( 7 ) فلنقصن عليهم بعلم . . . . .
) فلنقصّن عليهم بعلم ( قال ابن عباس : ينطق لهم كتاب أعمالهم يدلّ عليه قوله ) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ( الآية .
) وما كنّا غائبين ( عن الرسل فيما يُلقون وعن الأُمم فيما أجابوا
الأعراف : ( 8 ) والوزن يومئذ الحق . . . . .
) والوزن يومئذ ( يعني ( السؤال ) ) الحق ( قال مجاهد : والقضاء يومئذ العدل ، وقال آخرون : أراد به دون ( وزن الأعمال ) وذلك أن الله عزّ وجلّ ينصب الميزان له ( يدان وكفّان ) يوم القيامة يوزن أعمال العباد خيرها وشرها فيثقل مرّة ميزان الحسنات لنجاة مَنْ يريد نجاته . ويخفّف مرّة ميزان الحسنات علامة هلاك مَنْ يُريد هلاكه .
فإن قيل : ما الحكمة في وزن أعمال العباد والله هو العالم بمقدار كلّ شيء قبل خلقه إياه وبعده قلنا أربعة أشياء : أحدهما : امتحان الله تعالى عباده بالإيمان به في الدنيا ، والثاني : جعل ذلك علامة لأهل السعادة والشقاوة في العقبى .
والثالث : تعريف الله عزّ وجلّ للعباد ما عند الله من جزاء على خير وشر ، والرابع : إلقائه الحجّة عليه .
ونظيره قوله ) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ( الآية فأخبر ما تأتي الأعمال ونسخها مع علمه بها ما ذكرناه من المعاني والله أعلم .
) فمَنْ ثُقلت موازينه ( قال مجاهد : حسناته ) فأُولئك هم المفلحون }
الأعراف : ( 9 ) ومن خفت موازينه . . . . .
) ومَنْ خفّت موازينه ( إلى قوله تعالى ) يُظلمون ( يجحدون قال حذيفة : صاحب الموازين يوم القيامة جبرائيل يقول الله تعالى ( يا جبرائيل زن بينهم فردَّ بعضهم على بعض ) قال : وليس ثمّ ذهب ولا فضّة وإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فيرد على المظلوم وإن لم يكن له حسنات يحمل عليه من سيئات صاحبه ، يرجع الرجل وعليه مثل الجبال .
قال ابن عباس : توزن الحسنات والسيئات في ميزان لسان وكفتان فأمّا المؤمن فيؤتي بعمله في أحسن صورة فيرتفع في كفّة الميزان وهو الحق فينقل حسناته على سيئاته فيوضع عمله في الجنّة يعرفها بعمله فذلك قوله : ) فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ( الناجون ولهم غرف بمنازلهم في الجنّة إذا أنصرفوا إليها من أهل ( الجنّة ) إذا أنصرفوا إلى منازلهم .
وأمّا الكفّار فيؤتى بأعمالهم في أقبح صورة فيوضع في كفّة الميزان وهي الباطل فيخفّ وزنه حتّى يقع في النار ثمّ يقال للكافر : إلحق بعملك .
(4/216)

" صفحة رقم 217 "
فإن قيل : كيف تصح وزن الأعمال وهي غراض وليست بأجسام فيجوز وزنها ووصفها بالثقل والخفة وإنما توزن الاعمال التي فيها أعمال العباد مكتوبة .
يدلّ عليه حديث عبد الله بن عمر ، وقال : يؤتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان ثمّ خرج له تسعة وتسعون سجلاًّ كلّ سجل منها مثل مدى البصر فيها خطاياه وذنوبه فيوضع في الكفّة ثمّ يُخرج له كتاب مثل الأنملة فيها شهادت أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) يوضع في الكفّة الأُخرى فيرجّح خطاياه وذنوبه ، ونظير هذه الآية قوله ) ونضع الموازين بالقسط ليوم القيامة ( .
فإنّ قيل : لِما جمعه وهو ميزان واحد .
قيل : يجوز أن يكون ( أعظم ) جميعاً ومعناه واحد كقوله ) الذين قال لهم الناس ( ) ويا أيّها الرسل ( وقال الأعشي :
ووجه نقي اللون صاف يزيّنه
مع الجيد لبّات لها ومعاصم
أراد لبّة ومعصماً .
وقيل : أراد به الأعمال الموزونة .
وقيل : الأصل ميزان عظيم ولكل عبد فيه ميزان معلّق به .
وقيل : جمعه لأن الميزان ما اشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يحصل الوزن إلاّ باجتماعهما .
وقيل : الموازين أصله : ميزان يفرق به بين الحق والباطل وهو العقل ، وميزان يفرّق بين الحلال والحرام وهو العلم ، وميزان يفرّق به بين السعادة والشقاوة هو عدم سهو الإرادة ، وبالله التوفيق .
الأعراف : ( 10 ) ولقد مكناكم في . . . . .
) ولقد مكّناكم في الأرض ( ملّكناكم في الأرض ووطّأنا لكم وجعلنّاها لكم قراراً ) وجعلنا لكم فيه معايش ( يعيشون بها أيام حياتكم من المأكل والمشرب والمعايش جمع المعيشة الياء من الأصل فلذلك لا تهمز ) قليلا ما تشكرون ( فيما صنعت إليكم .
2 ( ) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَال
(4/217)

" صفحة رقم 218 "
َ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ( 2
الأعراف : ( 11 ) ولقد خلقناكم ثم . . . . .
) ولقد خلقناكم ( قال ابن عباس : خلقنا أصلكم وأباكم آدم ) ثمّ صوّرناكم ( في أرحام أُمهاتكم قال قتادة والربيع والضّحاك والسدي : أمّا خلقناكم فآدم وأمّا صوّرناكم فذرّيّته . قال مجاهد : خلقنا آدم ثمّ صوّرناكم في ظهر آدم .
وقال عكرمة : خلقناكم في أصلاب الرجال وصورناكم في أرحام النساء قال عطاء : خلقوا في ظهر آدم ثمّ صوروا في الأرحام .
وقال يمان : خلق الإنسان في الرحم ثمّ صوّره ففتق سمعه وبصره وأصابعه ، فإن قيل : ما وجه قوله ) ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ( وإنّما خلقنا بعد ذلك وثمّ يوجب الترتيب والتراخي . كقول القائل : قمت ثمّ قعدت لا يكون القعود إلاّ بعد القيام .
قلنا : قال قوم : على التقديم والتأخير ، قال يونس : الخلق والتصوير واحد ( . . . . . . ) إلينا ، كما نقول : قد ضربناكم وإنّما ضربت سيّدهم ، قال الأخفش : ثمّ بمعنى الواو ومجازه : قلنا ، كقول الشاعر :
سألت ربيعة من خيرها
أباً ثم آُماً فقالت لمّه
أراد أباً وأُمّا .
) فسجدوا ( يعني الملائكة ) إلاّ إبليس لم يكن من الساجدين ( لآدم فقال الله لإبليس حين امتنع من السجود لآدم
الأعراف : ( 12 ) قال ما منعك . . . . .
) قال ما منعك ألا تسجد ( قال بعضهم : لا زائدة ( وإن صلة ) تقدير الكلام : ما منعك السجود لآدم ، لأن المنع يتعدّى إلى مفعولين قال الله عزّ وجلّ : ) وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون ( .
قال الشاعر :
ويلحينني في اللهو أن لا أحبه
وللهو داع دائب غير غافل
(4/218)

" صفحة رقم 219 "
أراد : أن أُحبُّة .
وقال آخر :
فما ألوم البيض أن لا تسخروا
لما رأيتي الشمط القفندرا
وقال آخر :
أبى جوده لا البخل واستعجلت به
نعم الفتى لا يمنع الجود قاتله
أراد : أبى جوده البخل .
سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الهيثم الجهني يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب قال : كان بعضهم يكره القالا ، وتناول في المنع بمعنى القول ، لأن القول والفعل يمنعان ، وتقديره : من قال لك لا تسجد . قال بعضهم : معنى المنع الحول بين المرء وما يريد . والممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه فكأنّه قال : أي شيء اضطرّك إلى أن لا تسجد .
) إذ أمرتك ( قال إبليس مجيباً له ) قال أنا خير منه ( لأنّك ) خلقتني من نار ( والنار خير وأفضل واصفى وأنور من الطين قال ابن عباس : أوّل مَنْ قاس إبليس . فأخطأ القياس فمَنْ قاس الدين بشيء من رأيه قرنه مع إبليس .
وقال ابن سيرين : أوّل مَنْ ( قاس ) إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلاّ بالمقاييس .
وقالت الحكماء : أخطأ عدو الله حين فضّل النار على الطين ، لأن الطين أفضل من النار من وجوه :
أحدها : إنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناة والحُلم والحياء والصبر ، وذلك هو الداعي لآدم في السعادة التي ( سبقت ) له إلى التوبة والتواضع والتضرّع وأدرته المغفرة والاجتباء والهداية والتوبة ومن جوهر النار الخفّة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب ، وذلك الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سيقت له إلى الاستكبار والاصرار فأدركه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاق .
والثاني : إنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها .
والثالث : إن الخبر ناطق بأن تراب الجنّة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة ناراً وفي النار تراباً
(4/219)

" صفحة رقم 220 "
والرابع : إن النار سبب العذاب وهي عذاب الله لإعدائه وليس التراب سبباً للعذاب .
والخامس : إنّ الطين ( يُسقى ) من النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب .
الأعراف : ( 13 ) قال فاهبط منها . . . . .
فقال الله له : ) قال فاهبط منها ( أي من الجنّة ، وقيل : من السماء إلى الأرض فألحقه بجزائر البحور وإنّما سلطانه وعظمته في خزائن البحور وعرشه في البحر الأخضر فلا يدخل في الأرض إلاّ لهبة السارق عليه أطمار تروع فيها ( مَنْ يخرج ) منها ) فما يكون لك ( فليس لك أن ) تتكبر فيها ( في الجنّة ، وليس ينبغي أن يسكن الجنّة ولا السماء ( متكبر ) ولا بخلاف أمر الله عزّ وجلّ ) فاخرج إنّك من الصاغرين ( الأذلاء والصغر الذل والمهانة قال إبليس عند ذلك
الأعراف : ( 14 ) قال أنظرني إلى . . . . .
) قال أنظرني ( أخرّني واجلني وأمهلني ولا تمتني ) إلى يوم يُبعثون ( من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة ، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت ،
الأعراف : ( 15 ) قال إنك من . . . . .
) قال إنّك من المنظرين ( المؤخّرين .
ثمّ بيّن مدّة النظر والمهلة في موضع آخر ، فقال ) إلى يوم الوقت المعلوم ( وهي النفخة الأولى حين ثبوت الخلق كلّهم
الأعراف : ( 16 ) قال فبما أغويتني . . . . .
) قال فبما أغويتني ( . اختلفوا في ما قال : فبعضهم قال : هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني ثمّ ابتدأ فقال ) لأقعدن لهم ( فقيل : هو ما الجزاء يعني فإنّك أغويتني لأجل أنك أغويتني لأقعدن ، وقيل : هو ما المصدر في موضع القسم تقديره : بإغوائك إياي لأقعدن كقوله ) بما غفر لي ( يعني بغفران ربّي .
وقوله أغويتني أضللتني عن الهدى . وقيل : أهلكتني ، من قول العرب غوى الفصيل ( يعني ) غوي وذلك إذا فقد اللبن فمات . قال الشاعر :
معطفة الأثناء ليس فصيلها
برازئها دراً ولا ميّت غوى
وحكى عن بعض قبائل طي أنها تقول : أصبح فلان غاوياً أي مريضاً غاراً ، وقال محمد بن جرير : أصل الإغواء في كلام العرب تزيين الرجل للرجل الشيء حتّى يحسنه عنده غاراً له .
قال الثعلبي : وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد الحسين بن هاني قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن محمد ( الراوساني ) قال : حدثنا عليّ بن سلمة قال : حدثنا أبو معاوية الضرير عن رجل لم يسمّ قال : كنت ( عند ) طاووس في المسجد الحرام فجاء رجل ممّن يرمي القدر من كبار الفقهاء فجلس إليه فقال طاووس : ( يقوم أو يقام ) فقام الرجل فقال لطاووس : تقول هذا الرجل فقيه ، فقال إبليس : أفقه منه بقول إبليس ربِ بما أغويتني ويقول : هذا أنا أغوي نفسي
(4/220)

" صفحة رقم 221 "
) لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ( يعني لأجلسنّ ( لبني آدم ) على طريقك القويم وهو الإسلام كما قال أوعجلتم أمر ربّكم يعني عن أمر ربّكم .
وروي عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه كان يقول : ( إن الشيطان قعد لبني آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال له : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك ، فعصاه فأسلم ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك فإنّما مثل المهاجر كالفرس في الطول . فعصاه وهاجر ثمّ قعد له بطريق الجهاد وهو جهد النفس والمال فقال : أتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصا له وجاهد ) .
وعن عون بن عبد الله ) لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( قال : طريق مكّة
الأعراف : ( 17 ) ثم لآتينهم من . . . . .
) ثمّ لأتينّهم من بين أيديهم ( الآية قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( ثم لآتينّهم ) من بين أيديهم يقول ( أشككهم ) في آخرتهم ) ومن خلفهم ( ( أن يُقيم في كتابهم ) ) وعن أيمانهم ( اشتبه عليهم أمر دينهم ) وعن شمائلهم ( ( أُشهّي ) لهم المعاصي .
روى عطيّة عن ابن عباس قال : أما بين أيديهم فمن قِبل دنياهم وأمّا من خلفهم ( فإنّه ) آخرتهم وأمّا من إيمانهم فمن قبل حسناتهم وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم .
وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنّه لا يعذّب ولا جنّة ولا نار ، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزيّنها لهم ودعاهم إليها ، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها ، وعن شمائلهم يزين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها ، إياك يا بن آدم من كل وجه غير أنّه لم يأتك من فوقك لم يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة الله .
وقال الحكم والسدّي ) لآتينهم من بين أيديهم ( : يعني الدنيا أدعوهم إليها وأُرغبهم فيها وأُزينها لهم . ) ومن خلفهم ( من قِبَل الآخرة أُشككهم و ( أثبطهم ) فيها . ) وعن أيمانهم ( من قبل الحق أصدهم عنه ( أبتلكم ) فيه ، وعن شمائلهم من قِبل الباطل أُخففه عليهم وأُزينه لهم وأُرغبهم فيه .
وقال مجاهد : من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون ، قال ابن جريج : معنى قوله : من حيث يبصرون أي يخطئون حيث يعلمون أنّهم يخطئون وحيث لا يبصرون لا يعلمون أنهم يخطئون .
وقال الكلبي : ) ثمّ لأتينهم من بين أيديهم ( من قِبل آخرتهم أخبرهم أنّه لا جنّة ولا نار ولا نشور . ) ومن خلفهم ( من قِبل دنياهم فأمرهم بجمع الأموال لا يعطون لها حقّاً ( وأُخوفهم الضيعة ) على ذرّيتهم
(4/221)

" صفحة رقم 222 "
) وعن أيمانهم ( من قِبل دينهم ( فأُبيّن ) لكلّ قوم ما كانوا ( يعبدون ) وإن كانوا على هدى شبّهته عليهم حتّى أخرجتهم منه ) وعن شمائلهم ( من قِبل الشهوات واللذات فأُزيّنها لهم .
وقال شقيق بن إبراهيم : ما من صباح إلاّ وقعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ، أما من بين يدي فأقول : لا تحزن فإنّ الله غفور رحيم ، ويقول ) ذلك لمن تاب وآمَنْ وعمل صالحاً ثمّ اهتدى ( .
وأمّا من خلفي فتخوّفني الضيعة على عيالي ومحللي فأقول ) وما من دابة على الأرض إلاّ على الله رزقها ( .
وأما من قِبَل يميني فيأتيني من قبل ( الثناء ) فأقول والعاقبة للمتقين .
وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات واللّذات فأقول ) وحيل بينهم وبين ما يشتهون ( ) ولا تجد أكثرهم شاكرين ( قال الله عزّ وجلّ لإبليس
الأعراف : ( 18 ) قال اخرج منها . . . . .
) قال أخرج منها مذءوماً مدحورا ( أي معيباً والذيم والذأم أشد العيب ، وهو أبلغ من الذم ، يقال : ذمّه يذمّه ذمّاً فهو مذموم ( وذائمه يذائمه ) ذأماً ( فهو مذؤوم وذامه ) بذمة ذيماً ، مثل سار يسير ، فهو مذيم والمدحور ( المقصي ) يقال : دَحَره يدحره دحراً إذا أبعده وطرده .
قال ابن عباس : مذؤوم عنه ) مذؤوماً مدحوراً ( يعني غير مطروداً إذ قال الربيع ومجاهد : مذؤوماً ( ممقوتاً ) وروى عطيّة : مذؤوماً مقوتاً ، أبو العالية : مذؤوماً ( مزرياً ) به .
وقال الكلبي : مذؤوماً ملوماً مدحوراً مقصياً من الجنّة ومن كل خير ، وقال عطاء : مذؤوماً ملعوناً .
وقال الكسائي : المذؤوم المقبوح . وقال النضير بن شميل : المذؤوم ( المحبوس ) وقال أبان عن ثعلب والمبرّد : المذؤوم المعيب .
قال الأعشى :
وقد قالت قبيلة إذ رأتني
وإذ لا تعدم الحسناء ذأماً
(4/222)

" صفحة رقم 223 "
وقال أُميّة بن أبي الصلب :
قال لإبليس رب العباد
أخرج ( رجس الدنيا ) مذؤماً
) لمن تبعك منهم ( من بني آدم ) لأملأن جهنم منكم ( منك ومن ذريتك وكفار ذرية آدم ) أجمعين (
.
) وَيَائَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الاَْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( 2
الأعراف : ( 19 - 20 ) ويا آدم اسكن . . . . .
) ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة فكلا منها حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس ( يعني إليهما ومعناه فحدث إليهما ) الشيطان ليبدي لهما ما وُري عنهما من سوءاتهما ( يعني ليظهر لهما ما غطى وستر عنهما من عوراتهما ، وقال وهب : كان عليهما نور لا يرى سوءاتهما ثمّ بين الوسوسة ) وقال مانهاكما ( ياآدم وحواء ) ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين ( يعني إلاّ أن تكونا وكراهيّة أن يكونا من الملائكة يعملان الخير والشر .
وقرأ ابن عباس والضحاك ويحيى بن أبي معين : ملكين بكسر اللام من الملك أخذوها من قوله ) هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ( .
) أو تكونا من الخالدين ( من الباقين الذين لا يموتون
الأعراف : ( 21 ) وقاسمهما إني لكما . . . . .
) وقاسمهما ( أي أقسم وحلف لهما ، وقاسم من المفاعلة أي يختصّ الواحد مثل المعافاة المعاقبة والمناولة .
قال خالد بن زهير :
وقاسمهما بالله جهداً لأنتم
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
قال قتادة : حلف لهما بالله عزّ وجلّ حتّى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله فقال : إني خُلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما ، وكان بعض أهل العلم يقول : من خادعنا بالله خدعنا .
(4/223)

" صفحة رقم 224 "
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمن غر كريم ، والفاجر خبُّ لئيم .
( وحدّثنا ) أبو القاسم الحبيبي في بعضها . قال : أنشدنا أبو الحسن المظفّر بن محمد بن غالب قال : أنشدنا نفطويه :
إن الكريم إذا تشاء خدعته
وترى اللئيم مجرباً لا يخدع
) إنّي لكما من الناصحين }
الأعراف : ( 22 ) فدلاهما بغرور فلما . . . . .
) فدلّهما بغرور ( يعني فخدعهما يقال : ما زال فلان يدلي لفلان يعرّفُة ، يعني مازال يخطّئه ويكلّمه بزخرف القول الباطل ، وقال مقاتل : فزين لهما الباطل .
وقال الحسن بن الفضل : يعني تعلقهما بغرور ، يقال : تدلي بنفسه ودلى غيره . ولا يكون التدلّي إلاّ من علو إلى أسفل ، وقيل أصله دللهما فأبدل من إحدى اللامات ياء ، كقوله : ( تمطّى ) و ( دسّاها ) ، وقال أبو عبيدة : دلّيهما أخذ لهما وكلاهما من تدلين الدلو إذا أرسلتها في البئر لتملأها ) فلما ذاقا الشجرة ( أكلا منها ووصل إلى بطنيهما ) بدت ( ظهرت ) لهما سوءاتهما ( عوراتهما وتهافت عنهما لباسهما حتّى أبصر كل واحد منهما ما ورى عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك .
قال قتادة : كان لباس آدم وحوّاء في الجنّة ظفر أكله فلما واقعا الذنب كشط عنهما وبدت سوءاتهما فأستحيا ) وطفقا يخصفان ( ( يوقعان ) ويشدان ( ويمزّقان ويصلاّن ) ) عليهما من ورق الجنّة ( وهو ورق التين حتّى صار بهيئة الثوب ومنه خصف النعل .
وروى أُبي بن كعب : عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كان آدم رجلاً ( طوّالا ) كأنّه نخلة ( سحوق ) كثير شعر الرأس فلمّا وقع في الخطيئة بدت له سوءاته وكان لا يراها فانطلق هارباً في الجنّة فعرضت له شجرة من شجر الجنّة فَحَسِبَهُ بشر . فقال : أرسلني ، قالت : لست بمرسلتك ، فناداه ربّه يا آدم أمنّي تفر ، قال : لا يا رب ولكنّي أستحيي منك ) .
وقال ابن عباس وقتادة : قال الله عزّ وجلّ لآدم : ألم يكن لك فيما أبحته ومنحته لك من الجنّة ( مندوحة ) من الشجرة ، قال : على عهدي ولكن ما ظننت أن أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً ، قال : فبعزّتي لأُهبطنّك إلى الأرض ثمّ لا تنال العيش ( إلاّ نكداً ) فاهبطا من الجنّة ، فكانا يأكلان رغداً إلى غير رغد من طعام وشراب ، تعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثمّ سقى حتّى إذا بلغ حصد ثمّ طحنه ثمّ عجنه ثمّ خبزه ثمّ أكل ثمّ بلعه حتّى بلغ منه ما شاء الله أن بلغ ) وناداهما ربّهما الم أنهكما ( الآية ، قال محمد بن قيس : ناداه ربّه يا آدم لم أكلت منها وقد
(4/224)

" صفحة رقم 225 "
نهيتك قال : يارب أطعمتني حواء ، قال : لحواء لم أطعمتيه قالت : أخبرتني الحيّة ، قال للحيّة : لِمَ أمرتيها ؟ قالت : أمرني ( إبليس ) فقال الله عزّ وجلّ : أمّا إنّكِ ياحوّاء فكما أدميت الشجرة ( فسأُدميكِ ) ، وأمّا أنتِ ياحيّة فاقطع قوائمك فتمشين جهتيّ الماء على وجهك وسيندفع رأسك من لقيك ، وأمّا أنتَ يا إبليس فملعون مدحور .
الأعراف : ( 23 ) قالا ربنا ظلمنا . . . . .
) قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا ( ضررناها بالمعصية ) وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونّن من الخاسرين ( الهالكين )
الأعراف : ( 24 ) قال اهبطوا بعضكم . . . . .
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين 2 )
الأعراف : ( 25 ) قال فيها تحيون . . . . .
) قال فيها تحيون ( يعني في الأرض ) وفيها تموتون ومنها تُخرجون (
.
) يَابَنِىآدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذاَلِكَ خَيْرٌ ذاَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَابَنِىآدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ( 2
الأعراف : ( 26 ) يا بني آدم . . . . .
) يابني آدم قد أنزلنا عليكم ( أي خلقنا لكم ، وقيل : نزّلنا أسبابه وآلاته لأنه ( المثبّت ) بما يقول .
وقيل : ( على الحكم ) كبقيّة صنعته وذلك أن قريشاً كانوا يطوفون بالبيت عراة وقوله ) لباساً ( وهو ما يُلبس من الثياب ) يواري ( يستر ) سوءاتكم ( عوراتكم واحدها سوءة ، وهي فعلة من السوء سمّيت سوأة لأنّه يسوء صاحبها إنكشافها من جسده ) وريشاً ( يعني مالاً في قول ابن عباس والضحاك والسدي ، فقال : الريش : الرجل إذا ( تموك ) وقال ابن زيد : الريش الجمال .
وقيل : هو اللباس . وحكي أبو عمرو أنّ العرب تقول : أعطاني فلان ريشة أي كسوة وجهازة .
وقرأ عثمان بن عفان والحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء وقتادة : ورياشاً بالألف وهو جمع ريش مثل ذئب وذياب وبير وبيار وقَدِحَ وقداح .
(4/225)

" صفحة رقم 226 "
قال قطرب : الريش والرياش واحد ، كقولك دبغ ودباغ ولبس ولباس وحل وحلال وحرم وحرام ، ويجوز أن يكون مصدراً من قول القائل : راشه إليه بريشه رياشاً .
والرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب و الفراش وغيرها . وقال ابن عباس : الرياش اللباس والعيش والنعيم . وقال الأخفش : الرياش الخصبة والمعايش .
) ولباس التقوى خير ( قرأ أهل المدينة والشام . والكسائي ولباس التقوى بالنصب عطفاً على الريش . وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء وخبره ( خير ) .
وجعلوا ذلك صلة في الكلام ، وكذلك قرأ ابن مسعود وأُبي بن كعب : ولباس التقوى خير . واختلفوا في لباس التقوى ماهو ( هل ) يدلّ على لباس التقوى ( الدرع ) والساعدان . والساقان . والآلات التي يتّقى بها في الحرب مع العدو .
وقال قتادة والسدي وابن جريج : لباس التقوى هو الإيمان . وقال معبد الجهني : هو الحياة . وأنشدني أبو القاسم ( السدوسي ) قال : أنشدني أبو عرابة الدوسي في معناه
إني كأني أرى من لا حيالة
ولا أمانة وسط الناس عُرياناً .
عطيّة عن ابن عباس : هو العمل الصالح وروى الذبال بن عمرو عن ابن عباس قال : هو السمت الحسن في الوجه .
وقال الحسن : رأيت عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) على منبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليه قميص قوهي محلول الزر وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهى عن اللعب بالحمام ، ثمّ قال : أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر ، فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( والذي نفس محمد بيده ماعمل أحدٌ قط سراً إلاّ ألبسه الله رداءه علانية إن خيراً فخير وإن شراً فشر ) ثمّ تلا هذه الآية ) وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ( قال : السمت الحسن .
وقال عروة بن الزبير : لباس التقوى خشية الله ، ابن زيد : ستر للعورة يتقي الله فيواري عورته ) ذلك من آيات الله لعلّهم يذّكرون ( قال وهب بن منبه : الإيمان عريان لباسه التقوى وزينته الحياء وفاله ( الفقه ) وجماله العفّة ، وثمره العمل الصالح .
الأعراف : ( 27 ) يا بني آدم . . . . .
) يابني آدم لا يفتنّنكم الشيطان ( لا يعلّمنّكم ولا يستزلّنكم فتبدي برأيكم للناس في الطواف بطاعتكم . ) كما أخرج أبويكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليُريهما سوءاتهما ( ) إنّه ( يعني الشيطان ) يراكم ( يابني آدم ) هو وقبيله ( خيله وجنوده وهم الجن والشياطين .
(4/226)

" صفحة رقم 227 "
قال ابن زيد : نسله ) من حيث لا ترونهم ( قال مجاهد : قال إبليس : جعل لنا أربعاً : نرى ولا يُرى ونخرج من تحت الثرى . ويعود شيخنا فتى .
قال مالك بن دينار : إن عدواً ( يراك ) ولا تراه لشديد ( المؤنة ) إلاّ مَنْ عصم الله .
وسمعت أبا القاسم ( الحبيبي ) قال : سمعت أبي قال : سمعت عليّ بن محمد الورّاق يقول : سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول : الشيطان قديم وأنت حديث والشيطان ليّن وأنت ناعم الناحية والشيطان يراك وأنت لا تراه والشيطان لا ينساك وأنت لا تزال تنساه ومن نفسك له عون وليس لك منه عون .
وقيل : صدر ابن آدم مسكن له ويجري من ابن آدم مجرى الدم ، وأنه لا يقاومه إلاّ بعون الله . ومنه يقول : ولا أراه من حيث يراني . وعندما أنساه لا ينساني فسيدي إن لم ( تغث ) يسبيني كما سبا آدم من جنانك .
قال ذو النون المصري : إن كان هو يراك من حيث لا تراه فإنّ الله يراه من حيث لا يرى الله فاستعن بالله عليه فإنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً .
) إنّا جعلنا الشياطين أولياء ( أعواناً وقرناء ) للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة ( وفاحشتهم أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عُراة الرجال ( بالنهار والنساء بالليل ) . ويقولون : نطوف كما ولدتنا أُمهاتنا ولا نطوف في الثياب التي اقترفنا فيها الذنوب .
وكانت المرأة تضع على قُبُلها النسعة أو الشيء وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كلّه
وما بدى منه فلا أُحلّه
الأعراف : ( 28 ) وإذا فعلوا فاحشة . . . . .
وفي الآية إضمار ومعناه ) وإذا فعلوا فاحشة ( ونُهوا عنها ) قالوا وجدنا عليه آباءنا ( قيل : من أين أخذوا آباؤكم قالوا : ) الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (
الأعراف : ( 29 ) قل أمر ربي . . . . .
) قل أمر ربّي بالقسط ( قال ابن عباس : بلا إله إلاّ الله ، وقال الضحاك : التوحيد ، وقال مجاهد والسدي : بالعدل ) وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ( قال مجاهد والسدي وابن زيد : يعني وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة .
وقال الضحاك : إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلّوا فيه ولا تقولن : أحب أن أُصلي في مسجدي ، وإذا لم يكن عند مسجد ( فليأت ) أيّ مسجد فليصلِّ فيه .
وقال الربيع : معناه واجعلوا سجودكم لله سبحانه وتعالى خالصاً دون ما سواه من الآلهة
(4/227)

" صفحة رقم 228 "
والأنداد ) وادعوه ( واعبدوه ) مخلصين له الدين ( الطاعة والعبادة ) كما بدأكم تعودون ( قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( تبعث كل نفس على ما كانت عليه ) .
قال ابن عباس : إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً كما قال ) هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( ثمّ يعيده يوم القيامة كما بدأ خلقهم كافراً ومؤمناً ، فيبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً .
وقال جابر : يبعثون على ما ماتوا عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه . وقال أبو العالية : عادوا إلى علمه فيهم .
قال محمد بن كعب : من ابتدأ خلقه على الشقوة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه وإن عمل بإعمال أهل السعادة ، كما أنّ إبليس عمل أعمال أهل السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه ، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه وإن عمل أهل الشقاوة ، كما أنّ السحرة عملت أعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدأ عليه خلقهم .
وقال سعيد بن جبير : معناه كما كتب عليكم يكونون نضير قوله ) كما بدأنا أوّل خلق نعيده ( .
قال قتادة : خلقكم من التراب وإلى التراب تعودون نضير قوله ) منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم ( .
وقال الربيع ابن أنس : كما بدأكم عرياناً تعودون لهم عرياناً . نضيره قوله : ) ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّة ( .
وقال السدي : كما خلقكم فريق مهتدون وفريق ضلال ، كذلك تعودون تخرجون من بطون أُمهاتكم ، قال الحسن ومجاهد : كما بدأكم فخلقكم فريق مهتدون وفريق ضلال . كذلك تعودون يوم القيامة ، نضيره قوله ) كما بدأنا أول خلق نعيده ( .
روي سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يُحشر الناس حُفاة عُراة وأوّل من يُكسى إبراهيم عليه السلام ) ثمّ قرأ ) كما بدأنا أوّل خلق نُعيده (
.
(4/228)

" صفحة رقم 229 "
الأعراف : ( 30 ) فريقا هدى وفريقا . . . . .
) فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء أرباباً من دون الله يحسبون أنهم مهتدون ( .
) يَابَنِىءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِىأَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ يَابَنِىآدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 2
الأعراف : ( 31 ) يا بني آدم . . . . .
) يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ( قال المفسّرون : كانت بنو عامر في الجاهلية يطوفون في البيت عُراة الرجال بالنهار والنساء بالليل ، وكانوا إذا قدموا مسجد منى طرح أحدهم ثيابه في رحله وإن طاف وهي عليه ضُرب ) وانبزعت ( منه فأنزل الله تعالى : ) يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ( يعني الثياب .
وقال مجاهد : ما تواري به عورتك ( للصلاة والطواف ) وقال عطيّة وأبو روق وأبو رزين : المشط .
وسمعت أبو القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الهيثم ( الجهني ) يحكي عن السنوخي القاضي : ) خذوا زينتكم عند كل مسجد ( يعني : رفع الأيدي في مواقيت الصلاة .
وروى علي عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في الخبر ، قول جبرائيل ( عليه السلام ) للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن لكل شيء زينة وإن زينة الصلاة برفع الأيدي فيها في ثلاث مواضع إذا تحرمت ( للصلاة ) : إذا كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ) .
) وكلوا واشربوا ( قال الكلبي : كانت بنو عامر لا يأكلون من الطعام إلاّ قوتاً ولا يأكلون دسماً في أيام حجّهم يعظّمون بذلك حجّهم فقال المسلمون : يا رسول الله نحن أحق أن نفعل ذلك ، فأنزل الله تعالى ) وكلوا ( يعني اللحم والدسم ) واشربوا ولا تُسرفوا ( يعني الحرام .
قال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك سرف ومخيلة ، وقال مجاهد : الإسراف ما قصرت به عن حق الله . وقال : لو أنفقت مثل أُحُد في طاعة الله لم يكن سرفاً ولو أنفقت درهماً أو مداً في معصية الله كان إسرافاً
(4/229)

" صفحة رقم 230 "
وقال الكلبي : ولا تُسرفوا يعني لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم ) إنّه لا يُحب المسرفين ( المتجاوزين من فعل الحرام في الطعام والشراب ، وبلغني أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق ، فقال لعليّ بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان ، قال عليّ : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا قال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى ) كلوا واشربو ولا تُسرفوا إنّه لا يُحبُ المسرفين ( فقال النصراني : ولا يؤثر ( عن رسولكم ) شيء في الطب ؟
فقال عليّ : جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الطب فيّ ( ألفاظ يسيرة ) قال : وما هي ؟ قال : قوله : ( المعدة بيت الداء والحمية رأس كلّ دواء وأعطِ كل بدن ما عودته ) .
فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً .
الأعراف : ( 32 ) قل من حرم . . . . .
) قل مَنْ حرّم زينة الله التي أخرج لعباده ( يعني الثياب ) والطيّبات من الرزق ( قال ابن زيد : كان قوم إذا حجّوا أو اعتمروا حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها لبنها وسمنها ولحمها وشحمها ، فأنزل الله تعالى : ) قل مَنْ حرّم زينة الله التي أخرج لعباده ( الآية .
قال ابن عباس وقتادة : يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصايا والحوامي . ) قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ( قال ابن عباس : إنّ المؤمنين يشاركون المشركين في الطيّبات من الدنيا فأكلوا من طيّبات طعامهم وأُلبسوا من جياد ثيابهم وانكحن الزوج الخ . . . كما هم ، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء ومجاز الآية : قل هي للذين آمنوا مشتركة في الحياة الدنيا وخاصة في يوم القيامة .
وقراءة ابن عباس وقتادة ونافع : خالصة بالرفع يعنون قل هي خالصة .
وقرأ الباقون : بالنصب على القطع لأن الكلام قد تمّ دونه ) كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون 2 )
الأعراف : ( 33 ) قل إنما حرم . . . . .
) قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ( يعني الطواف عُراة ) ما ظهر منها ( طواف الرجال بالنهار ) وما بطن ( طواف النساء بالليل .
وقيل : هي الزنا و ( المخالة ) .
وقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس أحد أحب إليه من المدح من الله سبحانه من أجل ذلك مدح نفسه ، وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ، ما ظهر منها وما بطن ، وليس أحد أحب إليه العذر من الله عزّ وجلّ من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل .
(4/230)

" صفحة رقم 231 "
) والإثم ( يعني الذنب والمعصية . وقال الحسن : الإثم الخمر . وقال الشاعر :
شربت الإثم ظل عقلي كذلك
الأثمّ يذهب بالعقول
وقال الآخر :
نشرب الإثم بالصواع جهاراً
ونرى السكر بيننا مستعارا
) والبغي ( وهو الظلم ) بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ( حجة وبرهاناً ) وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ( تحريم الملابس والمأكل
الأعراف : ( 34 ) ولكل أمة أجل . . . . .
) ولكل أُمّة أجل ( مدّة وأجل ، وقيل : وقت حلول العقاب وأوّل العذاب . ) فإذا جاء أجلهم ( وإذا أنقطع أجلهم ، وقرأ ابن سيرين آجالهم ) لا يستأخرون ساعة ( لا يتأخّرون ) ولا يستقدمون ( لا يتقدّمون
الأعراف : ( 35 ) يا بني آدم . . . . .
) يابني آدم إمّا يأتينّكم رسل منكم ( شرط معناه : إن أتاكم ( عجزاً به ) فمن بقى ، وقيل فأطيعوه وقال : مقاتل : أراد بقوله يابني آدم لا تشركوا بالرب ، وبالرسل محمدصلى الله عليه وسلم وحده . ) يقصون عليكم آياتي فمن اتّقى الله وأصلح ( عمله ) فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (
الأعراف : ( 36 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها ( عن الإيمان بمحمد والقرآن ) أُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( .
2 ( ) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِئَايَاتِهِ أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ قَالَ ادْخُلُواْ فِىأُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاُْولَاهُمْ رَبَّنَا هَاؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاُِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذاَلِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذاَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاَْنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاأَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 2
الأعراف : ( 37 ) فمن أظلم ممن . . . . .
) فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أُولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ( حظّهم بما كتبوا لهم في اللوح المحفوظ . وقال الحسن والسدي وأبو صلاح : ما كسب لهم من العذاب .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطيّة : ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة . وروى بكر الطويل عن مجاهد في هذه الآية قال : قوم يعملون أعمالا لابد من أن يعملوها ولم يعملوها
(4/231)

" صفحة رقم 232 "
بعد . قال ابن عباس وقتادة والضحاك : يعني أعمالهم وما كتب عليهم من خير أو شر ، فمن عمل خيراً أُجزي به ومن عمل شراً أُجزي به . مجاهد عن ابن عباس قال : هو ما وعدو من خير وشر . عطيّة عن ابن عباس أنّه قال : ينالهم ماكتب لهم وقد كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسود ، يدل عليه ( قوله تعالى ) ، ) وجوههم يومئذ مسودة ( .
قال الربيع والقرظي وابن زيد : يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار فإذا فنيت و ( تم خرابها ) ) حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم ( يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه ) قالوا أين ما كنتم تدعون ( تعبدون من دون الله ) قالوا ضلوا عنا ( أنشغلوا بأنفسهم ) وشهدوا على أنفسهم ( أقروا ) إنهم كانوا كافرين ( قالوا : ( شهدنا ) على أنفسنا ( بتبليغ الرسل ) وغرّتهم الحياة الدنيا وشهدوا وأقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين
الأعراف : ( 38 ) قال ادخلوا في . . . . .
) قال أدخلوا ( يقول الله عزّ وجلّ لهم يوم القيامة ادخلوا ) في أُمم ( يعني مع جماعات ) قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ( يعني كفار الأُمم الماضية ) كلما دخلت أُمة لعنت أُختها ( في الدين والملة ولم يقل أخاها لأنّه عنى بها الأُمّة فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود ، وكذلك النصارى النصارى والمجوس المجوس ويلعن الأتباع القادة يقولون : لعنكم الله أنتم غررتمونا يقول الله عزّ وجلّ ) حتّى إذا أدركوا فيها ( أي تلاحقوا ) جميعاً ( قرأ الأعمش : حتّى إذا تداركوا ، على الأصل ، وقرأ النخعي : حتّى إذا أدركوا ، مثقلة الدال من غير ألف أراد فنقلوا من الدرك .
) قالت آخراهم ( قال مقاتل : يعني أُخراهم دخولاً للنار وهم الأتباع ، ) لأُولاهم ( دخولاً وهم القادة .
قال ابن عباس : ( أُخراهم ) يعني آخر الأُمم ، ( لأولاهم ) يعني أوّل الأُمم ، وقال السدي : أُخراهم يعني الذين كانوا في آخر الزمان . ( لأولاهم ) يعني الذين شرعوا لهم ذلك الدين ) ربّنا هؤلاء أضلونا ( عن الهدى . يعني الفساد ) فآتهم ( أي فأعطاهم ) عذاباً ضعفاً في النار ( أي مضعفاً من النار ) قال لكلّ ضعف ( من العذاب ) ولكن لا تعلمون ( حتّى يحل بكم
الأعراف : ( 39 ) وقالت أولاهم لأخراهم . . . . .
) وقالت أُولاهم لأُخراهم فما كان لكم علينا من فضل ( لأنّكم كفرتم كما كفر به ونحن وأنتم في الكفر شرع سواء وفي العذاب أيضاً ) فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون }
الأعراف : ( 40 ) إن الذين كذبوا . . . . .
) إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح ( قرئ بالياء والياء والتشديد والتخفيف جميعاً ) لهم أبواب السماء ( يعني لا أرواحهم وأعمالهم لأنّها خبيثة فلا يصعد بل تهوى بها إلى ( سجن ) تحت الصخرة التي تحت الأرضين .
روى أبو هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إن الميت ليحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة ، وأبشري
(4/232)

" صفحة رقم 233 "
بروح من الله وريحان ورب غير غضبان فيقولون ذلك حتّى تخرج ثمّ تعرج بها إلى السماء فينفتح لها فيقال : من هذا ( فيقال : فلان ) فيقولون : مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، فيقال : ذلك لها حتّى يعرج بها إلى السماء السابعة .
وإذ كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج ، فيقولون ذلك حتّى يخرج ، ثمّ يعرج بها إلى السماء فتفتح لها فيقال : من هذا فيقولون فلان ، فيقولون : لا مرحباً بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث أرجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فيُرسل من السماء والأرض فيصير إلى القبر .
) ولا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط ( يعني يدخل البعير في ثقب الإبرة ( وهذا مثل والسمّ ) وهو الإبرة .
وقرأ عكرمة و سعيد بن جبير : الجمل بضم الجيم وبتشديد الميم . وهو حبل السفينة ويقال لها الفلس قال عكرمة : هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل ) وكذلك نجزي المجرمين }
الأعراف : ( 41 ) لهم من جهنم . . . . .
) لهم من جهنم مهادٌ ( فراش من نار ) ومن فوقهم غواش ( وهي جمع غاشية وذلك ما غشاهم وغطاهم وقال القرظي ومجاهد : هي اللحف ) وكذلك نجزي الظالمين ( قال البراء : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يكسي الكافر لوحين من نار في قبره ) ، فذلك قوله ) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش 2 )
الأعراف : ( 42 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
) والذين آمنوا وعموا الصالحات لا نكلّف نفساً إلاّ وسعها ( أي طاقتها ومايسعها ويحلّ لها فلا تخرج منه ولا تضيق عليه ) أُولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون }
الأعراف : ( 43 ) ونزعنا ما في . . . . .
) ونزعنا ( وأخرجنا وأذهبنا ) ما في صدورهم ( قلوبهم ) من غل ( وحقد وعداوة كان من بعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخواناً على سرر متقابلين لا ( يحسد ) بعضهم بعض على شيء خص الله به بعضهم وفضلهم به ، روى الحسن بن عليّ ( رضي الله عنه ) قال : فينا والله أهل البيت نزلت ) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على مسرر متقابلين ( .
وقال عليّ كرّم الله وجهه أيضاً : ( إنّي لا أرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله ) ونزعنا ما في صدورهم ( الآية
(4/233)

" صفحة رقم 234 "
وقال السدي : في هذه الآية : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما ، فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأُخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبداً .
وروى الجزائري عن أبي نضرة قال : تحتبس أهل الجنّة حتّى تقتص بعضهم من بعض حتى يدخلوا الجنّة حين يدخلونها ، ولا يطلب أحد منهم أحداً علاقة ظفر ظلمها إياه وتحبس أهل النار دون النار حتّى تقتص لبعضهم من بعض يدخلون النار حين يدخلونها ، ولا يطلب أحد منهم أحداً بعلاقة ظفر ظلمها أياه ) تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ( وفقنا وأرشدنا إلى هذا يعني طريق الجنّة وقال سفيان الثوري : معناه الحمد لله الذي هدانا لعمل هذا ثوابه ) وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كل أهل النار يرى منزلة مَنْ بالجنّة فيقولون : لو هدانا الله نكون ( من المؤمنين ) وكل أهل الجنّة ترى منزلة من بالنار ويقولون : لولا أنّه هدانا الله فهذا شكرهم قال : وليس ( هناك ) من كافر ولا مؤمن إلاّ وله في الجنّة أو النار منزل ( فإذا ) دخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار فدخلوا منازلهم رفعت الجنّة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ، ثمّ يقال : يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنّة منازلهم ، ونودوا أن صحوا ولا تسقموا وأخلدوا فلا تموتوا وأنعموا ولا تيأسوا وشبّوا فلا تهرموا .
2 ( ) وَنَادَىأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالاَْخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاَْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الاَْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَاؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 2
الأعراف : ( 44 ) ونادى أصحاب الجنة . . . . .
) ونادى أصحاب الجنّة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا ( من الثواب ) حقّاً ( صدقاً ) فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم ( من العذاب ) حقّاً ( ( هذا قول محمد بن جرير ) ) قالوا
(4/234)

" صفحة رقم 235 "
نعم ( قال الكسائي ( نعم ) بكسر العين وتجوز بإسكانها وهما لغتان ) فأذّن مؤذّن بينهم ( فنادى مناد منهم ) أن لعنة الله على الظالمين ( الكافرين
الأعراف : ( 45 ) الذين يصدون عن . . . . .
) الذين يصدّون ( يصرفون ) عن سبيل الله ( دين الله ) ويبتغونها عوجاً ( يطلبونها زيغاً وميلاً ) وهم بالآخرة كافرون (
الأعراف : ( 46 ) وبينهما حجاب وعلى . . . . .
) وبينهما حجاب ( يعني بين الجنّة والنار حجاب حاجز وهو السور الذي ذكر الله عزّ وجلّ في قوله ) فضرب بينهم بسور ( ) وعلى الأعراف ( يعني على ذلك الحجاب . والأعراف سور بين الجنّة والنار وهي جمع عرف وهو كلّ تل مرتفع ومنه عرف الديك لارتفاعه على ماسواه من جسده .
وقال الشماخ :
وظلت بأعراف تعالى كأنها
رماح نحاها وجهة الريح راكز
ويروى : بأعراف قفالاً ، أي قفالى أي قفلى بعضهم بعضاً ، بمشغرة نصف حمير ، وشبّه ( قوامها ) بالرماح نحاها قصد بها وجهة الريح ، أي جهة الريح ، وقوله : بأعراف أي نشوز من الأرض .
وقال آخر :
كل كناز لحمها نياف
كالعلم الموفي على الأعراف
يعني كل كناز نياف لحمها والكناز الصلب .
قال السدي : سمي أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس . وقال الحسين بن الفضل : هو الصراط ، واختلفوا في الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف من هم وما السبب الذي من أجله صاروا هناك ؟ فقال حذيفة وابن عباس : أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم في سيّئاتهم وقصرت بهم سيّئاتهم عن الجنّة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، فوقفوا هناك حتّى يقضي الله فيهم ما يشاء ثمّ يدخلهم الجنّة بفضل رحمته وهم آخر مَنْ يدخل الجنّة قد عرفوا أهل الجنّة وأهل النار ، فإذا أراد الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه من الذهب مكلّلا باللؤلؤ ترابه المسك فالقوا فيه حتّى يصلح ألوانهم ويبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بهم فأتى بهم فقال الله لهم : تمنوا ماشئتم فيتمنون متى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفاً فيدخلون الجنّة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين أهل الجنّة .
قال ابن مسعود : يحاسب الله عزّ وجلّ الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من
(4/235)

" صفحة رقم 236 "
سيّئاته بواحدة دخل الجنّة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ، ثمّ قرأ : ) فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفحلون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ( ، ثمّ قال : الميزان يخفف بمثقال حبّة ( فيرجح ) .
ومَنْ استوت حسناته وسيّئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ولم ينزع منهم النور الذي كان في أيديهم . وروى يحيى بن ( شبل ) أنّ رجلا من بني النضير أخبره عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنّه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أصحاب الأعراف فقال : ( هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فاعفوا من النار لقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنّة بمعصية أبائهم فهم آخر من ( يدخل ) الجنّة ) .
قال شرحبيل بن سعيد : هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم ، وقال مجاهد : هم قوم صالحون فقهاء علماء ، وقال ( التميمي ) وأبو مجلن : هم ملائكة يعرفون أهل الجنّة وأهل النار فقيل لأبي مجلن يقول الله : ) وعلى الأعراف رجال ( وتزعم أنت أنهم ملائكة ، فقال : إنهم ذكور ليسوا بإناث ، قال ابن عباس : هم رجال كانت لهم ذنوب كثيرة ، وكان حبسهم أمر الله يقومون على الأعراف ) يعرفون كلاًّ بسيماهم (
وروى ( صالح مولى الكوفة ) أنّ ابن عباس قال : أصحاب الأعراف أولاد الزنا . وقال أبو العالية : هم قوم يطمعون أن يدخلوا الجنّة وما جعل ( الله ) ذلك الطمع فيهم إلاّ كرامة يريدها بهم .
وقال عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه قال : هم قوم رضي عنهم آبائهم دون أُمهاتهم أو أُمهاتهم دون آبائهم فلم يدخلهم الله الجنّة ، لأن آباءهم وأُمهاتهم غير راضين عنهم ولم يدخلهم النار لرضا آبائهم أو أمهاتهم عنهم فيحبسون على الأعراف إلى أن يقضي الله عزّ وجلّ بين الخلق ثمّ يدخلهم الجنّة ، وقال عبد العزيز بن يحيى ( الكناني ) : هم الذين ماتوا ( بالفقر ) ولم يبدلوا دينهم ، وفي تفسير المنجوني : إنهم أولاد المشركين .
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت محمد بن محمد بن الأشعب يحكي عن بعضهم أنهم أُناس عملوا لله عزّ وجلّ ولكنهم راؤوا في أعمالهم فلا يدخلون النار لأنّهم عملوا أعمالهم لله ولا يدخلون الجنّة لأنّهم طلبوا الثواب من غير الله فيوقفون على الأعراف إلى أن يقضي الله بين الخلق قوله : ) يعرفون كلا بسيماهم ( .
وروى جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ ) وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ( قال : ( الأعراف موضع عال ( من ) الصراط عليه العباس وحمزة ، وعليّ بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين يَعرفون محبيهم بياض الوجوه ومبغظيهم سواد الوجوه )
(4/236)

" صفحة رقم 237 "
وقوله : ( يعرفون كلا بسيماهم ) يعني يعرفون أهل الجنّة ببياض وجوههم ونظرة النعيم عليهم ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة عيونهم .
) ونادوا أصحاب الجنّة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهو يطمعون ( يعني أهل الأعراف .
قال سعيد بن جبير : والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم لأن الله تعالى ( . . . . . ) ، ويود المنافقون وهم على الصراط لو بقي أحدهم ولم ( . . . . . . . . . ) .
الأعراف : ( 47 ) وإذا صرفت أبصارهم . . . . .
) وإذا صرفت أبصارهم تلقاء ( ( وجوه ) أهل النار ) أصحاب النار ( وحيالهم تعوذوا بالله ) قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ( الكافرين في النار
الأعراف : ( 48 ) ونادى أصحاب الأعراف . . . . .
) ونادى أصحاب الأعراف رجالا ( كانوا عظماء أهل النار جبّارين ) يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم ( في الدنيا من المال و ( الأولاد ) ) وما كنتم تستكبرون ( عن الإيمان .
وقال الكلبي : إنهم ينادون وهم على السور يا وليد بن المغيرة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان . ثمّ ينظرون إلى الجنّة فيرون فيها الضعفاء والفقراء والمساكين ممن كانوا يستهزؤن بهم مثل سلمان وصهيب ووخبّاب وأتباعهم فينادون
الأعراف : ( 49 ) أهؤلاء الذين أقسمتم . . . . .
) أهؤلاء الذين أقسمتم ( حلفتم وأنتم في الدنيا ) لا ينالهم الله برحمته ( يعني الجنّة ثمّ يقال لأصحاب الأعراف ) ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ( .
وقال مقاتل أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنّة بل يدخلون النار معهم .
فقالت الملائكة الذين حبسوا أصحاب الصراط هؤلاء الذين يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار لا ( يُكلّمهم ) الله برحمة ، ثمّ قالت الملائكة لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنّة .
الأعراف : ( 50 ) ونادى أصحاب النار . . . . .
) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنّة أن أفيضوا ( ( [ صبّوا ) وأوسعوا ) علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله ( من طعام الجنّة ) قالوا إن الله حرمهما ( يعني الماء والطعام ) على الكافرين ( قال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس : أي الصدقة أفضل قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفضل الصدقة الماء ألا رأيت أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنّة قالوا أفيضوا علينا من الماء ) .
الأعراف : ( 51 ) الذين اتخذوا دينهم . . . . .
) الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً ( وهو ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة
(4/237)

" صفحة رقم 238 "
والوصيلة والحام والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الرديئة الدنيئة التي كانوا يفعلونها في جاهليتهم ، والدين كل ما أطيع به والتزم من حق أو باطل ، وقال أبو روق : دينهم أو عقيدتهم ) وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم ( نتركهم في النار ) كما نسوا لقاء يومهم هذا وماكانوا بآياتنا يجحدون ( .
2 ( ) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَْمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذاَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذاَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ( 2
الأعراف : ( 52 ) ولقد جئناهم بكتاب . . . . .
) ولقد جئناهم بكتاب ( من القرآن ) فصلناه ( بيّناه ) على علم ( منّا بذلك ) هدىً ورحمة ( نصبها على القطع ) لقوم يؤمنون (
الأعراف : ( 53 ) هل ينظرون إلا . . . . .
) هل ينظرون ( ينتظرون ) إلاّ تأويله ( أي ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود النار .
قال قتادة : تأويله ثوابه . وقال مجاهد : جزاؤه . وقال السدي : عاقبة . وقال ابن زيد : حقيقته ) يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا ( اليوم ) من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد ( إلى الدنيا ) فنعمل غير الذي كنا نعمل ( قال الله تعالى ) قد خسروا أنفسهم وضل ( زال وبطل ) عنهم ما كانوا يفترون (
الأعراف : ( 54 ) إن ربكم الله . . . . .
) إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ( قال سعيد بن جبير : قدّر الله على مَنْ في السماوات والأرض في لمحة ولحظة وإنما خلقهن في ستة أيام تتنظيماً لخلقه بالرفق والتثبيت في الاسم ) ثمّ استوى على العرش ( قال الكلبي ومقاتل : يعني استقر وقال أبو عبيد ( فصعد ) وقال بعضهم : استولى وغلب .
وقيل : ملك وغلب ، وكلّها تأويلات مدخولة لا يخفى ( بعدها ) وأمّا الصحيح والصواب فهو ماقاله الفراء وجماعة من أهل المعاني ( إن أول ما ) خلق العرش وعهد إلى خلقه يدل عليه قوله تعالى ) ثمّ استوى إلى السماء ( أي إلى خلق السماء
(4/238)

" صفحة رقم 239 "
وقال أهل الحق من المتكلمين : أحدث الله فعلا سماه استواء ، وهو كالإتيان والمجيء والنزول ( وهي ) صفات أفعاله .
روى الحسن عن أم سلمة في قوله تعالى ) الرحمن على العرش استوى ( قالت : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والنزول به إيمان والجحود به كفر .
عن محمد بن شجاع البلخي قال : سئل مالك بن أنس عن قول الله تعالى ) الرحمن على العرش استوى ( كيف استوى ؟ قال : الكيف مجهول والاستواء غير معقول والإيمان واجب فالسؤال عنه بدعة .
وروى محمد بن شعيب بن شابور عن أبيه أن رجلاً سأل ( الأوزاعي ) في قوله تعالى ) الرحمن على العرش استوى ( فقال : هو على العرش كما وصف نفسه ، وإني لأراك رجلا ضالاً .
وبلغني أن رجلاً سأل إسحاق بن الهيثم الحنظلي فقال : كيف استوى على العرش أقائم هو أم قاعد ؟
فقال : يا هذا إنما يقعد من يمل القيام ويقوم من يمل القعود وغير هذا أولى لك ألاّ تسأل عنه .
والعرش في اللغة السرير .
وقال آخرون : هو ما علا وأظل ، ومنه عرش الكرم ، وقيل : العرش الملك .
قال زهير :
تداركتما الاحلاف قد ثل عرشها
وذبيان قد زلت بأقدامها النعل
) يغشى ( ( يطمس ) ) الليل النهار يطلبه حثيثاً ( مسرعاً ) والشمس والقمر والنجوم مسخّرات ( أي مذلّلات ) بأمره ( وقرأ أهل الشام بالرفع على الابتداء والخبر ) ألا له الخلق والأمر ( سمعت أبا القاسم ( الحبيبي ) يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع التاجر بهرات الشجري يقول : سمعت أبا زيد حاتم بن محبوب السامي يقول : سمعت عبد الجبار ابن العلاء العطّار يقول : سألت سفيان بن عيينة عن قوله ) ألا له الخلق والأمر ( فقال : فرق الله بين الخلق والأمر ومَنْ جمع بينهما فقد كفر .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ لم يحمد الله على ( ما عمل من ) عمل صالح وحمد نفسه فقد
(4/239)

" صفحة رقم 240 "
قلّ شكره وحبط عمله ، ومَنْ زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئاً فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله تعالى ) ألا له الخلق والأمر ( ) .
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي ، أنشدنا أبو المثنّى معاذ بن المثنى العنبري عن أبيه محمود بن الحسن الورّاق قال : إن لله كل الأمر في كل خلقه ليس إلى المخلوق شي من الأمر ) تبارك الله ( قال الضحاك : تبارك تعظم ، الخليل ابن أحمد : تبارك تمجد ، القتيبي : تفاعل من البركة ، الحسين بن الفضيل : تبارك في ذاته وبارك فيمن شاء من خلقه ) ربّ العالمين }
الأعراف : ( 55 ) ادعوا ربكم تضرعا . . . . .
) أُدعوا ربّكم تضرّعاً ( تذلّلا واستكانة ) وخفية ( سرّاً .
وروى عاصم الأحول عن ابن عثمان الهندي عن أبي موسى قال : كان النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في غزاء فأ شرفوا على واد فجعل ( ناس ) يكبّرون ويهلّلون ويرفعون أصواتهم فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيُّها الناس أربعوا على أنفسكم إنّكم لا تدعون أصم ولا ( غائباً ) إنّكم تدعون سميعاً قريباً إنّه معكم ) .
وقال الحسن : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً ثمّ قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وماشعر به جاره فالرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس . وإن كان الرجل ليصلّي الصلاة الطويلة في بيت وعنده الدور وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدورن أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبداً .
ولقد كان المسلمون ( يجتهدون ) في الدعاء ولا يسمع لهم صوتاً كأن كان إلا همساً بينهم وبين دينهم ، وذلك أن الله تعالى يقول : ( أُدعوا ربكم تضرعاً وخفية ) وإن الله ذكر عبداً صالحاً ورضى فعله فقال عزّ مَنْ قائل : ( فنادى ربّه نداءاً خفياً ) .
) إنّه لا يحب المعتدين ( في الدعاء ، قال أبو مجلن : هم الذين يسألون منازل الأنبياء ، وقال عطيّة العوفي : هم الذين يدعونه فيما لا يحل على المؤمنين فيقولون : اللّهمّ أخزهم اللّهمّ ألعنهم ، قال ابن جريج : من ( الاعتداء ) رفع الصوت والنداء بالدعاء والصفح وكانوا يؤمرون بالتضرّع والاستكانة
الأعراف : ( 56 ) ولا تفسدوا في . . . . .
) ولا تُفسدوا في الأرض ( بالشرك والمعصية والدعاء إلى غير عبادة الله ) بعد إصلاحها ( بعد ( اصلاح ) الله إيّاها يبعث الرسل ، والأمر بالحلال والنهي عن المنكر والحرام وكل أرض قبل أن يبعث لها نبي فاسدة حتّى يبعث الرسل إليها فيصلح الأرض بالطاعة .
وقال عطيّة : معناه لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم ) وادعوه خوفاً وطمعاً ( قال الكلبي : خوفاً منه ومن عذابه وطمعاً فيما عنده من مغفرته وثوابه ،
(4/240)

" صفحة رقم 241 "
الربيع بن أنس : ) خوفاً وطمعاً ( كقوله ) رغباً ورهباً ( . وقيل : خوف العاقبة وطمع الرحمة ، ابن جريج : خوف العدل وطمع الفضل . عطاء : خوفاً من النيران وطمعاً في الجنان . ذو النون المصري : خوفاً من الفراق وطمعاً في التلاق ) إن رحمت الله قريب من المحسنين ( وكان حقه قربته . واختلف النحاة فيه وأكثروا وأنا ذاكر نصوص ما قالوا .
قال سعيد بن جبير : الرحمة هاهنا الثواب . وقال الأخفش : هي المطر فيكون القريب نعتاً للمعنى دون اللفظ كقوله تعالى ) وإذا حضر القسمة أُولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ( ولم يقل : منها ، لأنه أراد بالقسمة الميراث والمال . وقال ) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه ( والصواع مذكّر لأنّه أراد به القسمة ، والميراث ( كالمنشريّة ) والسقاية .
وقال الخليل بن أحمد : القريب والبعيد يستوي فيهما المذكر والمؤنث والجمع ( يذكر ويؤنث ) يقول الشاعر :
كفى حُزناً أنّي مقيم ببلدةً
أخلاّئي عنها نازحون بعيد
وقال آخر :
كانوا بعيداً فكنت آملهم
حتّى إذا ما تقربواهجروا
وقال آخر :
فالدار منّي غير نازحة
لكن نفسي ما كادت مواتاتي
( وقال سيبويه ) : لمّا أضاف المؤنث إلى المذكّر . أخرجه على مخرج المذكر ، وقال الكسائي : إن رحمة الله قريب مكانها قريب كقوله : ) وما يدريك لعلّ الساعة قريب ( أي أتيانها قريب .
قال النضر بن شميل : الرحمة مصدر وحق المصادر التذكير كقوله : ) فمن جاءه موعظة من ربّه ( وقال الشاعر :
إنّ السماحة والمرؤة ضيمنا
قبراً بمروَ على الطريق الواضح
(4/241)

" صفحة رقم 242 "
ولم يقل : ضمنتا لأنّها مصدر . وقال أبو عمر بن العلاء : القريب في اللغة على ضربين قريب قرب ( مقربه أبوابه ) كقول العرب : هذه المرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة وهذه المرأة قريب منك إذا كانت بمعنى المسافة والمكان . قال أمرؤ القيس :
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
قريب ولا البسباسة ابنة يشكر
وقال أبو عبيدة : القريب والبعيد يكونان للتأنيث والتذكير واحتج بقول عروة بن الورد :
خشيته لا عفراء منك قريبة
فتدنوه ولا عفراء منك بعيد
وقال أبو عبيدة : القريب والبعيد إذا كانا اسمين استوى فيهما المذكر والمؤنث وان بنيتهما على قَرُبت وبعدت فهي قريبة وبعيدة .
الأعراف : ( 57 ) وهو الذي يرسل . . . . .
) وهو الذي يرسل الرياح بشراً ( قرأ عاصم بُشراً بالباء المضمومة والشين المجزومة يعني أنّها تبشّر بالمطر يدلّ عليه قوله : ) الرياح مبشّرات ( .
وروى عنه بُشُراً بضم الباء والشين على جمع البشير مثل نذير و ( نذار ) .
وهي قراءة ابن عباس . وقرأ غيره من أهل الكوفة نشراً بفتح النون وجزم الشين وهو الريح الطيبة اللينة .
قال أمرؤ القيس :
كان المدام وصوب الغمام
وريح الخزامي ونشر القطر
وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش ، واختاره أبو عبيد لقوله : ) والناشرات نشراً ( وقرأ أهل الحجاز والبصرة نشراً بضم النون والشين واختاره أبو حاتم فقال : هي جمع نشور مثل صبور وصابر ، وشكور وشاكر . وهي الرياح التي تهب من كل ناحية وتجيء من كل ( وجه ) وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وابن عامر نشراً بضم النون وجزم الشين على التخفيف .
وقرأ مسروق ( نشراً ) بفتحتين أراد منشوراً ( كالمقبض ) والقبض ) بين يدي رحمته ( يعني قدّام المطر ) حتّى إذا أقلَّت ( حملت ) سحاباً ثقالا ( المطر ) سقناه ( رد الكناية إلى لفظ السحاب ) لبلد ميت ( يعني إلى بلد .
وقيل : معناه ( لأجل ) بلد لا نبات له ) فأنزلنا فيها ( أي السحاب وقيل : بالبلد ) الماء ( يعني المطر ، وقال أبو بكر بن عيّاش : لا تقطر من السماء قطرة حتّى يعمل فيها أربع : رياح
(4/242)

" صفحة رقم 243 "
الصبا تهيّجه والشمال تجمعه والجنوب تدرّه والدبور تفرّقة ) كذلك نخرج الموتى ( أحياء قال أبو هريرة وابن عباس : إذا مات الناس كلّهم في النفخة الأولى أمطر عليهم أربعين عاماً ( يسقى ) الرجال من ماء تحت العرش يُدعى ماء الحيوان فينبتون في قبورهم بذلك المطر كما ينبتون في بطون أُمهاتهم ، وكما ينبت الزرع من الماء حتّى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثمّ يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم ، فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم إذا استيقظ من نومه فعند ذلك يقولون ) يا ويلنا مَنْ بعثنا من مرقدنا ( فيناديهم المنادي ) هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون 2 )
الأعراف : ( 58 ) والبلد الطيب يخرج . . . . .
) والبلد الطيّب يخرج نباتة بإذن ربّه ( هذا مثل ضربه الله المؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب الزاكي يخرج نباته ريعة بإذن الله ، فمثل الكافر كمثل الأرض الصبخة الخبيثة التي لا يُخرج نباتها ) وغلّتها ( ) إلاّ نكدا ( ( أي عسيراً قليلاً بعناء ) ومشقّة وقرأ أبو جعفر : ( نكداً ) بفتح الكاف أي النكد ) كذلك نصرّف الآيات ( بينهما ) لقوم يشكرون (
.
) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ ءَالآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 2
الأعراف : ( 59 ) لقد أرسلنا نوحا . . . . .
) لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ( وهو نوح بن ملك بن متوشلح بن اخنوخ ، وهو إدريس بن
(4/243)

" صفحة رقم 244 "
مهلائيل بن يزد بن قيثان ابن انوش بن شيث بن آدم عليهم السلام ، وهو أول نبي بعد إدريس وكان نجاراً بعثه الله عزّ وجلّ إلى قومه وهو ابن خمسين سنة فقال لهم : ) يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ( قرأ محمد بن السميقع ( غيره ) بالنصب .
قال الفراء : بعض بني ( أسد وقضاعة أجاز نصب ( غير ) في كل موضع يحسن فيه ( إلا ) ) تمّ الكلام قبلها أو لم يتم فيقولون : ما جاءني مشرك وما أتاني أحد غيرك . فأنشد الفضل :
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت
حمامة في ذات أو قال
وقال الزجاج : قد يكون النصب من وجهين : أحدهما الاستثناء من غير ( جنسه ) .
والثاني الحال من قوله ) أعبدوا الله ( لأن ( غيره ) نكرة ، وإن أضيف إلى المعارف . وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثّاب والأعمش والكسائي : ) مالكم من إله غيره ( بكسر الراء على نعت الإله ، واختاره أبو عبيد ليكون كلاماً واحداً .
وقرأ الباقون ( غيره ) بالرفع على وجهين : أحدهما : التقديم وإن كان مؤخّراً في اللفظ تقديره : مالكم غيره من إله غيره .
والثاني أن يجعله نعت التأويل الاله لأن المعنى مالكم إله غيره ) إنّي أخاف عليكم ( إن لم تؤمنوا ) عذاب يوم عظيم }
الأعراف : ( 60 ) قال الملأ من . . . . .
) قال الملأ من قومه ( يعني الأشراف والسادة ، وقال الفراء : هم الرجال ليست فيهم امرأة ) إنّا لنراك في ضلال ( خطال وزوال عن الحق ) مبين ( يعني ظاهر
الأعراف : ( 61 ) قال يا قوم . . . . .
) قال نوح ياقوم ليس بيّ ضلالة ( ولم يقل : ليست لأن معنى الضلالة الضال ، وقد يكون على معنى تقديم الفعل ) ولكنّي رسول من ربّ العالمين }
الأعراف : ( 62 ) أبلغكم رسالات ربي . . . . .
) أُبلّغكم ( قرأ أبو عمرو : وأُبلّغكم خفيفة في جميع القرآن لقوله : ( لقد أبلغتكم رسالات ربّي ) ، وليعلموا أن قد أبلغوا رسالات ربهم . ولأن جميع كتب الأنبياء نزلت دفعة واحدة ( منها ) القرآن ، وقرأ الباقون : أُبلّغكم بالتشديد واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لأنّها أجزل اللغتين ، قال الله : ) بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ( .
) وأنصح لكم ( يقال ( بتخفيفه ) ونصحت له وشكرته وشكرت له ) وأعلم من الله مالا تعلمون ( من عقابه لا يرد عن القوم المجرمين
الأعراف : ( 63 ) أوعجبتم أن جاءكم . . . . .
) أوعجبتم ( الألف للإستفهام دخلت على واو العطف كأنه قال : إن أضعتم كذا وكذا ) أن جاءكم ذكر من ربّكم ( يعني نبوّة الرسالة ، وقيل : ( معجزة وبيان ) .
) على رجل منكم لينذركم ( عذاب الله إن لم يؤمنوا ) ولتّتقوا ( ( ولكي يتّقوا ) الله
(4/244)

" صفحة رقم 245 "
) ولعلّكم تُرحمون ( لكي تُرحموا
الأعراف : ( 64 ) فكذبوه فأنجيناه والذين . . . . .
) فكذّبوه ( يعني نوحاً ) فأنجيناه ( من الطوفان ) والذين معه ( قال ابن إسحاق : يعني بنيه الثلاثة ، سام وحام ويافث وأزواجهم وستة أناس ممن كان آمن به وحملهم في الفلك وهو السفينة .
وقال الكلبي : كانوا ثمانين إنساناً أربعون ذكوراً وأربعون امرأة ) وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا إنّهم كانوا قوماً عمين ( عن الحق جاهلين بأمر الله ، وقال الضحاك : ( عمينَ ) كفّاراً .
وقال الحسين بن الفضل : ( عمين ) في البصائر يقال : رجل عَمٍ عن الحق وأعمى في البصر . وقيل : العمي والأعمى واحد كالخضر والأخضر . وقال مقاتل : عموا عن نزول العذاب بهم وهو الحرث .
( ) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ ءَالآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِىأَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ( 2
الأعراف : ( 65 ) وإلى عاد أخاهم . . . . .
) وإلى عاد ( يعني وأرسلنا إلى عاد فلذلك نصب ) أخاهم ( وهو علاء بن عوص بن آدم ابن سام بن نوح وهو عاد الأولى ) أخاهم ( في النسب لا في الدين ) هود ( وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص بن آدم بن سام بن نوح وقال ابن إسحاق : هود بن ( شالخ ) بن أرفخشد بن سام بن نوح ) قال ( لهم ) ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتّقون ( الله فتوحدونه وتعبدونه
الأعراف : ( 66 ) قال الملأ الذين . . . . .
) قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة ( جهالة وضلالة ( بتركك ديننا ) ) وإنّا لنظنّك من الكاذبين ( إنّك رسول الله إلينا وأن العذاب نازل بنا
الأعراف : ( 67 - 68 ) قال يا قوم . . . . .
) قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من ربّ العالمين أُبلغكم رسالات ربّي وأنا لكم ناصح ( أدعوكم إلى التوبة ) أمين ( قال الضحاك : أمين على الرسالة ، وقال الكلبي : قد كنت فيكم قبل ذلك ( اليوم أميناً
الأعراف : ( 69 ) أوعجبتم أن جاءكم . . . . .
) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم ( يعني نفسه
(4/245)

" صفحة رقم 246 "
) لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ( يعني أهلكهم ( بشركاء منهم ) ) وزادكم في الخلق بسطة ( أي طولا وشدّة وقوّة .
قال مقاتل : طول كل رجل أثنا عشر ذراعاً ، ابن عباس : تمثّل ذراعاً وقال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستّين ذراعاً . أبو حمزة الثمالي سبعون ذراعاً . ابن عباس : ثمانون ، وهب : كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع ، وكذلك مناخرهم ) فاذكروا آلاء الله ( نعم الله واحدها ( إلْ وإلي وإلو وإلى كالآناء واحدها إنى وإني وإنو وأني ) ) لعلّكم تُفلحون }
الأعراف : ( 70 ) قالوا أجئتنا لنعبد . . . . .
) قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ( وندع ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام ) فآتنا بما تعدنا ( يعني العذاب ) إن كنت من الصادقين (
الأعراف : ( 71 ) قال قد وقع . . . . .
قال : قد وقع وجب ونزل ) عليكم من ربّكم رجسٌ ( أي عذاب ( والسين مبدأ من الزاي ) وغضب ) أتجادلونني في أسماء سمّيتموها ( وضعتموها على الأصنام ( . . . . . ) يعبد ناراً ) أنتم وآباؤكم ( قبلكم ) ما أنزل الله بها من سلطان ( حجّة وبيان وبرهان فانتظروا نزول العذاب .
) إنّي معكم من المنتظرين }
الأعراف : ( 72 ) فأنجيناه والذين معه . . . . .
) فأنجيناه ( يعني هوداً عند نزول العذاب .
) والذين معه برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذّبوا بآياتنا ( أي استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم ) وما كانوا مؤمنين ( وكانت قصّة عاد وهلاكهم على ماذكره محمد بن إسحاق والسدي وغيرهما من الرواة والمفسّرين : إن عاداً كانوا ينزلون اليمن وكان مساكنهم منها بالشجرة والأحقاف ، وهي رمال يقال لها رمل عالج ( ودمما وبيرين ) ما بين عمان إلى حضرموت ، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض فكلّها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عزّ وجلّ وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله صنم يقال له : صنا ، وصنم يقال له : صمود ، وصنم يقال لها : الهبار .
فبعث الله عزّ وجلّ إليهم هوداً نبيّاً وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً وأمرهم أن يوحدوا الله ولا يشركوا معه إلهاً غيره ، وأن يكفّوا عن ظلم الناس ( ولم ) يأمرهم فيما تذكر بغير ذلك .
فأبوا عليه وكذّبوه وقالوا : مَنْ أشد منّا قوّة ، وبنو المصانع وبطشوا بطشة الجبارين كما ذكر الله تعالى فلما فعلوا ذلك أمسك الله المطر عنهم ثلاث سنين حتّى جهدهم ذلك
(4/246)

" صفحة رقم 247 "
وكانت الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو حرب دعوا إلى الله الفرج وطلبتهم إلى الله عند البيت الحرام بمكّة مسلمهم ومشركهم فتجتمع بمكّة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم وكلّهم معظّم لمكّة عارف بحرمتها ومكانها من الله عزّ وجلّ . وأهل مكّة يومئذ العماليق وإنّما سُمّوا العماليق لأن أباهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان سيّد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له : معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت ( الخبيري ) رجل من عاد الأكبر فلمّا قحط المطر عن عاد ( وجمدوا ) قال : جهزوا وفداً إلى ( أن يستسقوا ) لكم فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عقير .
وكان مسلماً يكتم إسلامه وجهلمة بن الخيبري ، قال معاوية بن بكرة : ثمّ بعثوا لقمان ابن عاد بن صد بن عاد الأكبر ، فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه رهط من قومه حتّى بلغ ( عدّة فعدّهم ) سبعين رجلاً فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكّة خارجاً من الحرم . فأنزلهم وأكرمهم وكانوا إخوانه وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر ، وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهراً ، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوّثون من البلاء الذي أصابهم أشفق ذلك عليه وقال : هلك إخواني وأصهاري وهؤلاء يقيمون عندي وهم ضيفي والله ما أدري كيف أصنع بهم إنّي لأستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنون أنّه ضِيق منّي ببقائهم عندي ، وقد هلك من ورائهم من قومهم ( جدباً ) وعطشاً ، فشكى ذلك من أمرهم إلى قينيتيه الجرادتين فقالتا : اصنع شعراً نغني به لا يدرون من قاله لعلّ ذلك ( يحرّكهم ) .
فقال معاوية بن بكر :
لعل الله يسقينا غماماً
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
قد أمسوا لا يبينون كلاما
فيسقي أرض عاد ان عاداً
به الشيخ الكبير ولا الغلاما
من العطش الشديد فليس نرجو
فقد أمست نساؤهم عيامىً
وقد كانت نسائهم بخير
ولا يخشى لعادي سهاماً
وإن الوحش يأتيهم جهاراً
نهاركم وليلكم إلتماما
وأنتم ههنا فيما أشتهيتم
قوم ولا لقوا التحيّة والسلاما
فقبح وفدكم من وفد
فلما قال الشعر غنتهم به الجرادتان فلما سمع القوم قال بعضهم لبعض : إنّما بعثكم قومكم يتغوّثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أطلتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا
(4/247)

" صفحة رقم 248 "
لقومكم ، وقال مرثد بن سعد بن عفير : إنكم والله ما تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيّكم وأنبتم إليه سقيتم ، فأظهر إسلامة عند ذلك فقال جلهمة بن ( الخيبري ) خال معاوية حين سمع قوله وعرف أنّه اتبع دين هود ( عليه السلام ) :
ذوي كرم وأُمك من ثمود
أبا سعد فإنّك من قبيل
ولسنا فاعلين لما تريد .
فإنا لا نطيعك ما بقينا
ورمل والصداء مع الصمود .
أتأمرنا لنترك دين رفد
ذوي رأي ونتبع دين هود
ونترك دين آباء كرام
ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر وكان شيخاً كبيراً : ( احبسا ) عنّا مرثداً بن سعد فلا يدخل معنا مكّة فإنّه اتبع دين هود وترك ديننا .
ثمّ خرجوا إلى مكّة يستسقون بها لعاد فلمّا ولّوا إلى مكّة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتّى أدركهم بها فقال : لا أدعو الله عزّ وجلّ بشيء مما خرجوا له ، فلما أنتهى إليهم قام يدعو الله وهم قد اجتمعوا يدعون الله ويقول : اللهم أعطني سؤلي وحدي ولاتدخلني في شيء مما يدعونك ، وكان قيل بن عنز على رأس وفد عاد ، وقال وفد عاد : اللّهمّ أعطه ما سألك واجعل سؤالنا مع سؤاله ، وكان ( قد تخلف ) عن وفد عاد حين دعا لقمان بن عاد وكان سيّد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال : اللّهمّ إنّي جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل الله عزّ وجلّ طول العمر . فعمّر عمر سبعة أنسر . وقال : قيل بن عنز : ( يا إلهنا ) إن كان هود صادقاً فاسقنا فإنّا قد هلكنا .
وقال : اللّهمّ إنّي لم ( أجىء ) لمريض فأُداويه ولا لأسير فأُناديه ، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه فأنشأ الله عزّ وجلّ له ( سحائب ) ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثمّ نادى مناد من السماء : يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ما شئت ، فقال قيل : اخترتُ السحابة السوداء فإنّها أكبر السحب ، فناداه مناد قد اخترت رماداً رمدداً ، لا تبقى من عاد أحداً ، لا والداً ولا ولدا ، إلا جعلتهم همداً ، إلا بني اللوذية المهدا .
وبنو اللوذية هم بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر فكانوا سكان بمكّة مع أخوالهم ولم يكونوا مع عاد بأرضهم وعاد الآخر كان من نسل الذي بقوا من عاد .
ونادى الله عزّ وجلّ السحابة السوداء التي اختارها قيل : ( فيها من النقمة ) من عاد حتّى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا بها وقالوا ) هذا عارض ممطر ( يقول الله تعالى : ) بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كل شيء بأمر ربّها ( .
(4/248)

" صفحة رقم 249 "
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف إنّها ريح امرأة من عاد يقال لها : مهدر ، فلمّا أتت عليهم صاحت وصعقت . فلما أفاقت قالوا : ماذا رأيت ؟ قالت : رأيت ريحها فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها ) سخّرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ( أي دائمة فلم يدع من عاد أحداً إلاّ هلك .
فاعتزل هود ( عليه السلام ) ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبها ومن ريح إلاّ ما تلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس . وإنها لترتفع بعاد والظعن إلى ما بين السماء والأرض وتدفعهم بالحجارة .
وخرج وفد عاد من مكّة حتّى مرّوا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر . فقالوا له : فأين فارقت هود وأصحابه ؟ قال : فارقتهم بساحل البحر وكأنّهم شكوا فيما حدّثهم به فقالت هذيلة بنت بكر : صدق ورب مكّة .
وذكروا أنّ مراد بن سعد ولقمان بن عاد ، وقيل : بن عنز حين دعوا بمكّة قيل لهم قد أعطيتهم مناكم فاختاروا لأنفسكم إلاّ أنّه لا سبيل إلى الخلود ولابد من الموت فقال مهد : اللهم أعطني ( برّاً وصدقاً ) فأعطي ذلك . وقال لقمان : أعطني يارب عمراً ، فقيل له : اختر لنفسك بقاء سبع بعراتسمر من أظب عفر في جبل وَعَر لا يمسها القطر ، أو بقاء سبعة أنسر إذا مضى نسر خلف بعده نسر واختار سبعة أنسر فعمر لقمان عمر سبعة أنسر يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة ويأخذ الذكر منها لقوته حتّى إذا مات أخذ غيره ، ولم يزل يفعل ذلك حتّى على السابع ، وكان كل نسر يعيش مئتي سنة وكان آخرها لبد ، فلما مات لبد مات لقمان معه .
وأما قيل : فإنّه اختار أن يصيبه ما أصاب قومه فقيل له : أنّه الهلاك فقال : لا أُبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عاداً من العذاب فهلك .
عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : أوحى الله إلى الريح العقيم أن تخرج على قوم عاد فتنتقم له منهم ، فخرجت بغير كيل على قدر منخر ثور حتّى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب فقال ( الخزان ) يارب لن نطيقها ، ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها فأوحى الله إليها أن ارجعي فاخرجي على قدر خرق الخاتم ( فرجعت ) فخرجت على قدر خرق الخاتم وهي الخلقة
(4/249)

" صفحة رقم 250 "
عن عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أُمامة الباهلي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يبيت قوم من هذه الأُمّة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قردةً وخنازير وليصيبنّهم خسف وقذف فيقولون : لقد خسف الليلة ( ببنيّ ) فلان وخسف الليلة بدار فلان وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عاداً بشربهم الخمور وأكلهم الربا وإتخاذهم القينات ولبسهم الحرير وقطعهم الأرحام ) .
وفي الخبر : أنّه أُرسل عليهم من الريح قدر ما تجري في خاتم ، قال السدي : بعث الله إلى عاد الريح العقيم فلمّا دنت منهم نظروا إلى ( الإبل ) والرجال تطير بهم الريح من السماء والأرض فلمّا رأوها ( بادروا ) إلى البيوت فلمّا دخلوا البيوت دخلت عليهم وأهلكتهم فيها ثمّ أخرجتهم من البيوت ، فلمّا أهلكهم الله أرسل عليهم طيراً سوداً فلقطتهم إلى البحر وألقتهم فيه ولم تخرج ريح قط إلاّ مكيال إلاّ يومئذ فإنّها عتت على الخزنة فقلبتهم فلم يعلموا كم مكيالها .
وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة : سمعت عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثباً أحمر يخالطه مدرة حمراء وسدر كثير بناحية كذا وكذا من حضرموت ، قال : نعم يا أمير المؤمنين ، والله إنّك لتنعته نعت رجل قد رآه ، وقال : ولكنّي قد حُدّثت عنه ، فقال الحضرمي : ( وما شأنه ) يا أمير المؤمنين ؟ قال : فيه قبر هود صلوات الله عليه .
عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أنّه قال : بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيّاً وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة .
وفي رواية أُخرى : وكان النبيّ من الأنبياء إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون معه إلى مكّة بمن معه فيعبدون الله فيها حتّى يموتوا .
2 ( ) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِىأَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءَالآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِىءَامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
(4/250)

" صفحة رقم 251 "
فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَاحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( 2
الأعراف : ( 73 ) وإلى ثمود أخاهم . . . . .
) وإلى ثمود ( قرأ يحيى بن وثاب : إلى هود بالصرف والتنوين . والباقون بغير الصرف وإنّما يعني : وإلى بني ثمود ، وهو ثمود بن ( عاد ) بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو ( جديس ) وأراد ههنا القبيلة .
قال أبو عمرو بن العلا : سُمّيت ثمود لقلّة مائها والثمد الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ) أخاهم صالحاً ( وهو صالح بن ( عبيد ) بن أسف ابن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود ) قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بيّنة من ربّكم ( حجّة ودلالة من ربّكم على صدقي ) هذه ناقة الله لكم ( أضافها إليه على التفضيل والتخصيص كما يقال : بيت الله .
وقيل : أُضيفت إلى الله لأنّها كانت بالتكوين من غير اجتماع ذكر وأُنثى ولم يكن في صلب ولا رحم ولم يكن للخلق فيها سعي ) آيةً ( نصب على الحال أي انظروا إلى هذه الناقة ) فذروها تأكل ( العشب ) في أرض الله ولا تمسّوها بسوء ( ولا تصيبوها ( بعقر ) ) فيأخذكم عذاب أليم }
الأعراف : ( 74 ) واذكروا إذ جعلكم . . . . .
) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم ( أسكنكم وأنزلكم ) في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون ( قرأ الحسن ( وتنحتون ) بفتح الحاء وهي لغة ) من الجبال بيوتاً ( وكانوا ينقبون في الجبال البيوت ) فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين }
الأعراف : ( 75 - 76 ) قال الملأ الذين . . . . .
) قال الملأ الذين استكبروا من قومه ( يعني الأشراف والقادة الذين تعظّموا عن الإيمان بصالح عليه السلام ) للذين استضعفوا ( يعني الأتباع ) لمن أمن منهم أتعلمون أن صالحاً مُرسلٌ من ربه قالوا إنا بما أُرسِل به مؤمنون قال الذين أستكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ( جاحدون
الأعراف : ( 77 ) فعقروا الناقة وعتوا . . . . .
) فعقروا الناقة ( نحروها ) وعتوا عن أمر ربّهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ( يعني العذاب ) إن كنت من المرسلين ( أي من الصادقين
الأعراف : ( 78 ) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا . . . . .
) فأخذتهم الرجفة ( يعني الصيحة والزلزلة وأصلها الحركة مع الصوت . قال الله : ) يوم ترجف الراجفة ( .
قال الشاعر :
وظلّت جمال القوم بالقوم ترجفُ
ولمّا رأيت الحج قد آن وقته
وقال الأخطل
(4/251)

" صفحة رقم 252 "
كبر كالنسر أرجف الإنسان مهدود فيه
أما تريني ( حناتي ) الشيب من
) فاصبحوا في دارهم ( أي في أرضهم وبلدتهم ولذلك وحد الدار . وقيل : أراد به الديار فوحد كقوله تعالى : ) إن الإنسان لفي خُسر ( ومعنى ) جاثمين ( جامدين ( مبتلين ) صرعى هلكوا ، وأصل الجاثمّ البارك على الركبة .
قال جرير :
مطايا القدر كالحدأ الجثوم
عرفت المنتأى وعرفت منها
الأعراف : ( 79 ) فتولى عنهم وقال . . . . .
) فتولّى ( أعرض صالح عنهم وقال : ) يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تُحبّون الناصحين ( وكانت قصّة صالح وثمود وعقرهم الناقة سبب هلاكهم على ما ذكره ابن إسحاق والسدي ووهب وكعب وغيرهم من أهل الكتب قالوا : إن عاداً لمّا هلكت وانتهى أمرها عمّرت أعمارهم واستخلفوا في الأرض فربوا فيها وعمّروا ، حتّى جعل أحدهم يبني المسكن من ( المدر ) فينهدم والرجل منهم حي . فلما رأوا ذلك اتخذوا الجبال بيوتاً فنحتوهاوجابوها وخرقوها وكانوا في سعة من معائشهم فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله ، فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا فيها عرباً كان صالح من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً .
فبعثه الله تعالى إليهم شابّاً فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ حتّى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلاّ قليل مستضعفون فلمّا ألحّ عليهم صالحٌ بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقاً لقوله ، قال : أي آية تريدون ؟ قالوا : نُريد أن تخرج معنا إلى عيدنا هذا وكان اسم عيد يخرجون إليه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو وإن أستجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا .
فقال لهم صالح : نعم ، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به . ثمّ قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيّد ثمود : يا صالح اخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها : الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء فالمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل ، فإن فعلت صدّقناك وآمنّا بك ، فأخذ صالح عليهم مواثيقهم إن فعلت لتصدقنني ولتومنن به ، قالوا : نعم .
فصلّى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثمّ تحرّكت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشرا وجوفاء وبراء كما سألوا لا يعلم ما بين جنبيها إلاّ الله عزّ وجلّ عظما
(4/252)

" صفحة رقم 253 "
وهم ينظرون ثمّ ( نتجت ) ثقباً مثلها في العظم . فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه ، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويُصدّقوه فنهاهم ذوءاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر وكانوا من أشراف ثمود . وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد فأراد أن يسلم فنهاه أُولئك الرهط فأطاعهم فقال رجل من آل ثمود :
إلى دين النبيّ دعوا شهاباً
وكانت عصبة من آل عمرو
فهمَّ بأن يجيب ولو ( أجابا )
عزيز ثمود كلّهم جميعاً
وما عدلوا بصاحبهم ذوءاباً
لأصبح صالح فينا عزيزاً
تولّوا بعد رشدهم ذئاباً
ولكن الغواة من آل حجر
فلما خرجت الناقة قال صالح ( عليه السلام ) : ) هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ( ، فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء سبتاً فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر من الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفعها حتّى تشرب كلّ ما فيها لا تدع قطرةً ماء فيها ثم ترفع رأسها ( فتفسح ) يعني تفجج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن فيشربون ويدخرون حتّى يملأوا أوانيهم كلهم ثمّ تصدر من ( غير ) الفج الذي وردت لا تقدر على أن تصدر من حيث وردت لضيقه عنها فلا يرجع منه ثمّ ترفع رأسها .
قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً ، حتّى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤوا من الماء ويدخرون ماشاؤوا ليوم الناقة ، فهم من ذلك في سعة ودعة ( وكانت ) الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها أغنامهم وأبقارهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في حرّه وجدبه .
والمواشي تنفر منها إذا رأتها ( تشتو ) في بطن الوادي إذا كان الشتاء ، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب . فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار وكانت مراتعها في ما يزعمون ( الجناب ) وحسمى ، كل ذلك ترعى مع واد الحجر .
فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربّهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها .
وكانت امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنّى أُم غنم وهي من بني عبيد ابن المهل ، وكانت امرأة ذوءاب بن عمر ، وكانت عجوزاً مسنّة وكانت ذات بنات حسان ، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم ، وامرأة أُخرى يقال لها : صدوف بنت المحيا بن زهير ابن المحيا سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول ، وكان الوادي يقال له : وادي المحيا
(4/253)

" صفحة رقم 254 "
الأكبر جد المحيا الأصغر أبي صدوف ، وكانت صدوف من أحسن الناس وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح ( عليه السلام ) وأعظمهم به كفراً ، وكانتا تحبان أن يعقرا الناقة مع كفرهما به لما أضرت به من مواشيهما وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له : صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف من بني هليل فأسلم وحسن إسلامه ، وكانت صدوف قد فوّضت إليه مالها فأنفقه على مَنْ أسلم له من أصحاب صالح حتّى رق المال فاطلعت على ذلك ( من ) إسلام صدوف وحاسبته على ذلك . فأظهر لها دينه فدعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وأخذت بنيها وبناتها منه فغيبتهم في عبيد بطنها الذي ( هي ) منه وكان صنتم زوجها من بني هليل ، وكان ابن خالها فقال لها : ردي عليَّ ولدي ، فقالت : حتّى أُنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني ( جندع ) بن عبيد ، فقال لها صنيم : بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد . وذلك أن بني مرداس كانوا مسلمين .
فقالت : لا أُنافرك إلاّ إلى مَنْ دعوتك إليه . فقالت بنو مرداس : والله لتعطينه ولده كارهة أو طائعة فلما رأت ذلك أعطته إياهم .
ثم إنّ صدوف وعنيزة تحيّلا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل بهم فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له ( الحبّاب ) لعقر الناقة وعرضت نفسها إن هو فعل ذلك ( فأبى ) عليها فدعت ابن عم لها يقال له : مصدح بن مهرج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة ، وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكثرهم مالاً فأجابها إلى ذلك ، ودعت عنيزة بنت غنم قدار ابن سالف بن جندع رجلا من أهل قرح وذكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعه ) واسم أُمّه قدير . وكان رجلا أحمراً أزرقاً قصيراً يزعمون أنّه كان لزنية من رجل يقال له : صبيان ولم يكن لسالف الذي يدعى السر ، ولكنه قد ولد على فراش سالف فقالت : أعطيك أيَّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة ، وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه فانطلق قدار بن سالف هو ومصدع بن مهرج فاستنفرا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر ، وكانوا تسعة رهط أحدهم هويل بن مسطح خال عزير من أهل حجر ( ودعيت ) بن غنم بن ذاغر ذؤاب بن مهرج بن مصدع وخمسة لم يذكر لنا أسماءهم فاجمعوا على عقر الناقة .
وقال السدي وغيره : أوحى الله تعالى إلى صالح ( عليه السلام ) أن قومك سيعقرون ناقتك ، فقال لهم ذلك .
فقالوا : ماكنّا لنفعل ذلك . فقال صالح : إنّه يولد في قومكم غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه ، فقالوا : لا يولد لنا ابن في هذا الشهر إلاّ قتلناه .
(4/254)

" صفحة رقم 255 "
قال : فولد لهم تسعة في ذلك الشهر . فدعوا أبناءهم ثمّ ولد العاشر فأبى أن يذبح أبنه وكان لم يولد له قبل ذلك ابن وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتاً سريعاً ، وكان إذا مرّ بالتسعة فرأوه قالوا : لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا ، فغضب التسعة على صالح ، لأنّه كان سبب قتلهم أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله قالوا : نخرج فنري الناس أنا قد خرجنا إلى ( سفرنا ) فنأتي الغار فنكون فيه حتّى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثمّ رجعنا إلى الغار فكنّا فيه ثمّ رجعنا فقلنا مهلك أهله وإنّا لصادقون يصدّقوننا يعلمون إنّا قد خرجنا إلى سفرنا ، وكان صالح ( صلى الله عليه وسلم ) لا ينام معهم في القرية . وكان في مسجد يقال له مسجد صالح فيه يبيت الليل . فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ويذكرهم ، وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فلمّا دخلوا الغار وأرادوا أن يخرجوا من ( الجبل ) سقط عليهم الغار فقتلهم فانطلق رجل ممّن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رطخ فرجعوا وجعلوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح ( بأن ) أمرهم بقتل أولادهم حتّى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة .
وقال ابن إسحاق : إنّما كان تقاسم التسعة على قتل صالح ( صلى الله عليه وسلم ) بعد عقرهم الناقة وإنذار صالح إياهم بالعذاب . ذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا : هلّم فلنقتل صالحاً وإن كان صادقاً عجّلنا قتله ، وإن كان كاذباً قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة فلمّا أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم مشتدخين قد رُضخوا بالحجارة فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثمّ همّوا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح . وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبداً وقد وعدكم أنّ العذاب نازل بكم في ثلاث فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربّكم إلاّ غضباً وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك .
قال السدي وغيره : فكان شر مولود يعني قدار وكان يشبَّ في اليوم شباب غيره في الجمعة . ويشبّ في الشهر شباب غيره في السنة فلمّا كبر جلس مع أُناس يصيبون من الشراب فأرادوا ما يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة . فاشتد ذلك عليهم وقالوا في شأن الناقة وشدّتها عليهم ونحن ما نصنع باللبن لو كنّا نأخذ من هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة نسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيراً لنا ، فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم ؟
قالوا : نعم .
وقال كعب : كان سبب عقرهم الناقة أنّ امرأة يقال لها ملكا كانت قد ملكت ثمود فلمّا أقبل الناس على صالح وصارت الرئاسة إليه حسدته فقالت لامرأة يقال لها قطام وكانت معشوقة قدّار بن سالف ولامرأة أُخرى يقال لها قبال كانت معشوقة مصدح بن وعد ويقال ابن مهرج ، وكان قدار ومصدع يجتمعان كل ليلة معهما ويشربون الخمر فقالت لهما ملكا : إن أتاكم الليلة قدار ومصدع فلا تطيعاهما وقولا لهما : إن الملكة حزينة لأجل الناقة و لأجل صالح فنحن لا
(4/255)

" صفحة رقم 256 "
نطيعكما حتّى تعقرا الناقة فإن عقرتماها أطعناكما ، فلمّا أتياهما قالتا لهما هذه المقالة فقالا : يكون من وراء عقرهما .
وقال ابن إسحاق وغيره : فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما السبعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل حفرة على طريقها ، وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرّت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم وعنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس فاستقرّت لقدار ثمّ دمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فحدر سقبها ثمّ طعن في لبّتها فنحرها .
وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلمّا رأى سقبها ذلك انطلق حتّى أتى جبلا منيعاً يقال له صور ، وقيل : اسمه قارة ، وأتى صالح فقال له : أدرك الناقة قد عُقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يانبي الله إنّما عقرها فلان وفلان ولا ذنب لنا . فقال صالح ( عليه السلام ) : أنظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يُرفع عنكم العذاب . فخرجوا يطلبونه فلمّا رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الجبل فتطاول في السماء حتّى لا تناله الطير . وجاءَ صالح ( عليه السلام ) فلمّا رآه الفصيل بكى حتّى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحاً فرغا رغوة ثم رغا أُخرى ثم رغا أُخرى .
فقال صالح ( عليه السلام ) : لكل رغاة أجل يومكم تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب .
وقال ابن إسحاق : أتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع ابن مهرج وأخوه داب بن مهرج فرمى مصدع بسهم فانتظم قلبه ثمّ جر برجله وأنزله وألقوا لحمه مع لحم أُمّه . فقال لهم صالح : انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذاب الله ونقمته ، فقالوا له وهم يهزأون به : ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك ؟ وكان يسمّون الأيام فيهم الأحد الأوّل والأثنين أُميون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة غروبة والسبت شيار . وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح ( عليه السلام ) حين قالوا ذلك : تصبحون غداء يوم مؤنس ووجوهكم مصفرّة ، ثمّ تصبحون يوم غروبة ووجوهكم محمرّة ثمّ تصبحون يوم شيّار ووجوهكم مسودّة ، ثمّ يصبحكم العذاب يوم الأوّل ، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرّة كأنّما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإناثهم ، فأيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه ، وخرج صالح هارباً حتّى لجأ إلى بطن من ثمود ، يقال له : بنو غنم ، فنزل على سيّدهم رجل منهم يقال له : نفيل ويكنّى أبا هدب وهو مشرك فغيّبه فلم يقدروا عليه ، وقعدوا على أصحاب صالح يعذّبونهم ليدلّوهم عليه .
(4/256)

" صفحة رقم 257 "
فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم : يا نبي الله إنّهم ليعذبونا لندلهم عليك أفندلهم ؟ قال : نعم ، فدلّهم عليه ميدع فأتوا أبا هدب وكلّموه في ذلك ، فقال : نعم عندي صالح وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله عزّ وجلّ فيهم من عذابه فجعل بعضهم يخبّر بعضاً بما يرون في وجوههم فلما أصبحوا صاحوا بأجمعهم : ألا قد مضى يوم من الأجل ، فلمّا أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرّة كأنّما خُضّبت بالدماء فصاحوا وضجّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب ، فلمّا أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل و حضركم العذاب . فلما كان اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنّما طُليت بالنار فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب .
فلمّا كان ليلة الأحد خرج صالح ( عليه السلام ) من بين أظهرهم ومَنْ أسلم معه إلى الشام فنزلوا رملة فلسطين فلمّا أصبح القوم تكفّنوا وتحنّطوا وكان حنوطهم الصبر والمقر وكانت أكفانهم ( الإنطاع ) ثمّ ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلّبون به أبصارهم فينظرون إلى السماء مرّة وإلى الأرض مّرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب .
فلمّا اشتد الضحى يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل ( شيء ) له صوت في الأرض فتقطّعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلاّ هلك كما قال الله تعالى : ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( إلاّ جارية منهم مقعدة يقال لها : ذريعة بنت سلق وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح ( عليه السلام ) فأطلق الله عزّ وجلّ لها رجلها بعدما عاينت العذاب أجمع ، فخرجت كأسرع ما يُرى شيء قط حتّى أنت قزح وهي وادي القرى فأخبرتهم بما ( عاينت ) من العذاب وما أصاب ثمود ثمّ أستسقت من الماء فسُقيت فلمّا شربت ماتت .
وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال : لمّا أُمر النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : ( لا يدخلن أحدّكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلاّ أن تكونوا باكين خائفين فإن لم تكونوا فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم ) .
ثمّ قال : ( أمّا بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية فبعث الله عزّ وجلّ لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فتشرب ماءهم يوماً فيردها وراءهم مرتقى الفصيل حين ارتقى في الغار فعتوا عن أمر ربّهم وعقروها فأهلك الله مَنْ ( تحت ) أديم السماء منهم إلاّ رجلاً واحداً كان في حرم الله ) .
قيل : من هو ؟ قال : ( أبو رغال )
(4/257)

" صفحة رقم 258 "
فلمّا خرج أصابه ما أصاب قومه ( فدفن ههنا ) ودُفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر أبي رغال فول القوم فابتدروه بأسيافهم وبحثوا عليه فاستخرجوا ذلك الغصن ، ثمّ قبع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأسه وأسرع السير حتّى جاز الوادي .
قال أهل العلم : توفي صالح ( عليه السلام ) بمكّة وهو ابن ثمان وخمسين ( سنة فلبث ) في قومه عشرين سنة .
عن الضحاك بن مزاحم قال : قال رسول الله ( عليه السلام ) : ( يا عليّ أتدري مَنْ أشقى الأوّلين ؟ )
قال : قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : ( عاقر الناقة ) .
قال : ( أتدري مَنْ أشقى الآخرين ؟ )
قال : الله ورسوله أعلم .
قال : ( قاتلك ) .
2 ( ) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ( 2
الأعراف : ( 80 ) ولوطا إذ قال . . . . .
) ولوطاً ( يعني وأرسلنا لوطاً وقيل معناه : واذكر لوطاً . وهو لوط بن ( هاران ) بن تارخ أخي إبراهيم ( عليه السلام ) ) إذ قال لقومه ( وهم أهل سدوم ، وذلك أنّ لوطاً شخص من أرض بابل مع عمّه إبراهيم ( عليه السلام ) مؤمناً به مهاجراً معه إلى الشام فنزل إبراهيم ( عليه السلام ) فلسطين وأنزل ابن أخيه لوطاً الأردن فأرسل الله إلى أهل سدوم فقال لهم : ) أتأتون الفاحشة ( يعني إتيان الذكران ) ما سبقكم بها من أحد من العالمين ( قال عمرو بن دينار : ما كان يزني ذكر على ذكر في الدنيا حتّى كان قوم لوط
الأعراف : ( 81 ) إنكم لتأتون الرجال . . . . .
) إنّكم لتأتون الرجال ( ( في أدبارهم ) ) شهوةً من دون النساء ( يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء ) بل أنتم قوم مسرفون ( مشركون ( تبدّلون ) الحلال إلى الحرام
(4/258)

" صفحة رقم 259 "
قال محمد بن إسحاق : كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ قال : إن ( عضلتم ) بهم كلهم أنجوتكم منهم فأبوا ، فلما ألحّ الناس عليهم فعبدوهم فأصابوا غلماناً صباحاً فأخبثوا وأستحكم فيهم ذلك .
وقال الحسن : كانوا لا ينكحون ( إلاّ الرجال ) وقال الكلبي : أوّل مَنْ عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان فتمثّل لهم إبليس في صورة شاب ثمّ دعا ( في ) دبره فنُكح في دبره ثمّ عتوا بذلك العمل فأكثر فيهم ذلك فعجّت الأرض إلى ربّها فسمعت السماء فعجّت إلى ربّها فسمع العرش فعجّ إلى ربّه فأمر الله السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم
الأعراف : ( 82 ) وما كان جواب . . . . .
) وما كان جواب قومه ( إذا قال لهم ذلك ) إلاّ أن قالوا ( قال بعضهم لبعض ) أخرجوهم ( لوطاً وأهل دينه ) من قريتكم إنّهم أُناسٌ يتطهرون ( يتنزّهون ويتحرّجون عن أتيان أدبار الرجال وأدبار النساء
الأعراف : ( 83 ) فأنجيناه وأهله إلا . . . . .
) وأنجيناه ( يعني لوطاً ) وأهله ( المؤمنين به ، وقيل : وأهله بنتاه : نعوذا وديثا .
) إلاّ امرأته ( فاعلة فإنّها ) كانت من الغابرين ( يعني الباقين في العذاب وقيل : معناه : كانت من الباقين والمعمّرين قبل الهلاك الذين قد أتى عليهم عمرت دهراً طويلا فهرمت فيمن هرم من الناس . فهلكت مع مَنْ هلك من قوم لوط حين أتاهم العذاب . وإنّما قال : ( الغابرين ) ولم يقل : الغابرات لأنه أراد أنّها ممّن بقى مع الرجال فلمّا ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل : الغابرين . وقيل : له غبر يغبر غبوراً ، وغبر إذا بقي . قال الشاعر :
وأبي الذي فتح البلادبسيفه
فأذلّها لبني أبان الغابر
يعني الباقي .
وقال أبو ذؤيب :
وغبرت بعدهم بعيش ناصب
وإدخال أنّي لاحق مستتبع
الأعراف : ( 84 ) وأمطرنا عليهم مطرا . . . . .
) فأمطرنا عليهم مطراً ( يعني حجارة من سجّيل ) فانطر كيف كان عاقبة المجرمين ( وسنذكر القصّة بتمامها في موضعها إن شاء الله .
وروى أبو اليمان بن الحكم بن نافع الحمّصي عن صفوان بن عمر قال : كتب عبد الملك ابن مروان إلى ابن حبيب قاضي حمص سأله كم ( عقوبة ) اللوطي فكتب أن عليه أن يُرمى بالحجارة كما رجُم قوم لوط فإن الله تعالى قال : ) وأمطرنا عليهم مطراً ( وقال : ) وأمطرنا عليهم حجارة من سجّيل ( فقبل عبد الملك ذلك منه وأستحسنه .
(4/259)

" صفحة رقم 260 "
وروى عكرمة عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل والمفعول به ) .
وقال محمد بن المنكدر : كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر أنّه وجد رجلا في بعض قوافل العرب يُنكح كما تُنكح المرأة فشاور أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وأشهدهم في ذلك عليه ، فاجتمع عليهم على أن يُحرقوه فأحرقوه .
2 ( ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذاَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِىأُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَقَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياَقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ( 2
الأعراف : ( 85 ) وإلى مدين أخاهم . . . . .
) وإلى مدين ( يعني وأرسلنا إلى بني مدين بن إبراهيم خليل الله وهم أصحاب الأيكة .
وقال قتادة : أرسل مرّتين إلى مدين وإلى أصحاب الأيكة ) أخاهم شُعيباً ( قال قتادة : هو شعيب بن ( نويب ) وقال عطاء : هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم ، وقال ابن إسحاق : هو شعيب بن ميكيل بن إسحاق بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسريانية يثروب وأُمّه ميكيل بنت لوط وكان شعيب أعمى .
ويقال : إنّه خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر يكفرون بالله وبخس المكيال والميزان فقال لهم ) ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بيّنة من ربّكم ( ( يعني يجي ) شعيب ) فأُوفوا ( فأتمّوا ) الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ( ولا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوها ( إياهم ) ) ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ( كانت الأرض قبل أن يُبعث إليها شعيباً رسولا يُعمل فيها بالمعاصي ويُستحلّ فيها المحارم ويُسفك فيها الدماء بغير
(4/260)

" صفحة رقم 261 "
حقّها فذلك فسادها ، فلمّا بُعث إليها شعيباً ودعاهم إلى الله صلحت الأرض وكلّ نبيّ بُعث إلى قومه فهو يدعوهم لإصلاحهم الذي ذكرت لكم وأمرتكم به .
) خير لكم إن كنتم مؤمنين ( مصدّقين بما أقول
الأعراف : ( 86 ) ولا تقعدوا بكل . . . . .
) ولا تقعدوا بكل صراط ( ( يعني ) في هذا الطريق كقوله : ) إن ربك لبالمرصاد ( ) توعدون ( تُهددون ) وتصدّون عن سبيل الله ( دين الله ) مَنْ آمن به وتبغونها عوجاً ( زيغاً وذلك أنّهم كانوا يجلسون على الطرق فيُخبرون مَنْ قصد شعيباً ليُؤمن به إنّ شعيباً كذّاب . فلا يفتنّنك عن ( ذلك ) وكانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوّفونهم .
قال السدي وأبو روق : كانوا ( جبّارين ) . قال عبد الرحمن بن زيد : كانوا يقطعون الطريق . وقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( رأيت ليلة أُسري بي خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلاّ شقّته ولا شيء إلاّ خرقته فقلت ما هذا يا جبرائيل ؟
قال : هذا مثل أقوام من أُمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثمّ تلا : ) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ( ) واذكروا إذ كنتم قليلا فكثّركم ( ( فكثّر بينكم ) ) وانظروا كيف كان عاقبة المُفسدين ( يعني آخر قوم لوط
الأعراف : ( 87 - 88 ) وإن كان طائفة . . . . .
) وإن كان طائفة منكم ( إلى قوله تعالى ) قال الملأ الذين استكبروا من قومه ( يعني الروءساء الذين تعالوا عن الإيمان به ) لنُخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا ( لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه وتدعون دينكم .
قال شعيب : ) قال أولو كُنّا كارهين ( لذلك يعني ولو كنّا كارهين لذلك تجبروننا عليه فأُدخلت الف الاستفهام على ولو
الأعراف : ( 89 ) قد افترينا على . . . . .
) قد أفترينا على الله كذباً إنّ عدنا في ملّتكم بعد إذ نجّانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها ( نرجع إليها بعد إذ أنقذنا الله منها ) إلاّ أن يشاء الله ربّنا ( تقول إلاّ أن يكون سبق لنا في علم الله ومشيئته أن نعود فيها فيمضي حينئذ قضاء الله فينا ( وينفذ ) حكمه وعلمه علينا ) وسع ربّنا كلّ شيء علماً ( أحاط علمه بكل شيء فلا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن ) على الله توكلنا ( فيما تتوعدوننا به .
واختلف العلماء في معنى قوله ) أو لتعودن في ملتنا ( وقوله ) وما يكون لنا أن نعود فيها ( فقال بعضهم : معناه أو لتدخلن فيها ولن تدخل ( إلاّ ) إن يشاء الله ربّنا فيضلنا بعد إذ هدانا .
وسمعت أبا القاسم الحسين بن محمد الحبيبي يقول : سمعت عليّ بن مهدي الطبري بها يقول : إنّ عدنا في ملّتكم أي صرنا ، لا أن نعود ، يكون ابتداء ورجوعاً .
قال أُميّة بن أبي الصلت
(4/261)

" صفحة رقم 262 "
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
أي صار الآن اللبن ، كأن لم تكن قط بولا .
وسمعت ( الحسين بن الحبيبي ) قال : سمعت أبا زكريا العنبري يقول : معناه : إذ نجّانا الله منها في سابق علمه وعند اللوح والقلم .
وقال بعضهم : كان شعيب ومَنْ آمن معه في بدء أمرهم مستخفين ثمّ أظهروا أمرهم وإنما قال لهم قومهم ) أو لتعودنّ في ملّتنا ( حسبوا أنّهم على ملّتهم ( قيل : من هو معه ) على أصحاب شعيب دون شعيب لأنّهم كانوا كفّاراً ثمّ آمنوا بالخطاب لهم وجواب شعيب عنهم لا عن نفسه ، لأن شعيباً لم يكن كافراً قط وإنّما ناوله الخطاب في أصناف مَنْ فارق دينهم إليه .
ورأيت في بعض التفاسير أن الملّة هاهنا الشريعة وكان عليه قبل نبوّته فلمّا ( نُبّئ ) فارقهم .
ثمّ دعا شعيب على قومه إذ لمس ما فيهم فقال ) ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ( أي اقض .
وقال ( المؤرخ ) : افصل .
وقال ابن عباس : ما كنت أدري ما قوله ) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ( حتّى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أقاضيك .
وقال الفراء : أهل عمان يسمّون القاضي الفاتح والفتّاح . وذكر غيره أنّه لغة مهاد . فأنشد لبعضهم :
ألا أبلغ بني عصُم رسولا
بأنّي عن فتاحتكم غنيّ
أي حكمكم . ) وأنت خير الفاتحين ( يعني الحاكمين
الأعراف : ( 90 ) وقال الملأ الذين . . . . .
) وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيباً ( وتركتم دينكم ) إنّكم إذاً لخاسرون ( قال ابن عباس : مغبونون . قال عطاء : جاهلون . قال الضحاك : فجرة .
الأعراف : ( 91 ) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا . . . . .
) فأخذتهم الرجفة ( قال الكلبي : الزلزلة .
قال ابن عباس : وغيره من المفسّرين : فتح الله عليهم باباً من أبواب جهنم فأرسل عليهم ريحاً وحرّاً شديداً ، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر فبعث الله عزّ وجلّ سحابة فيها ريح طيّبة فوجدوا برد الريح بطيبها وظل السحابة فتنادوا
(4/262)

" صفحة رقم 263 "
عليكم بها فخرجوا إلى البريّة فلمّا اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجرّاد المعلّى وصاروا رماداً وهو عذاب يوم الظلّة ، وذلك قوله : ) فأصبحوا في دارهم جاثمين ( ميّتين قال أبو العالية : ديارهم منازلهم ، وقال محمد بن مروان : كل شيء في القرآن ( دارهم ) فهو ( مرغمهم ) وكلّ شيء ( درياهم ) فهو عساكرهم .
قال ابن إسحاق : بلغني أن رجلاً من أهل مدين يُقال له عمر بن ( جلهاء ) لمّا رأى الظلّة فيها الغضب . قال : يا قوم إن شُعيباً مُرسلٌ فذروا عنكم سُميراً أو عمران بن شداد إني أرى غيمة ياقوم طلعت دعو بصوت على صمانة الوادي ، فإنّكم إن تروا فيها ضحاة غد إلاّ الرقيم يمشي بين أنجاد وسُميراً وعمران : كاهناهم راعيين ، والرقيم كلباً لهما .
قال أبو عبد الله البجلي : أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت : أسماء ملوك وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب . فقالت أخت كلمون تبكيه :
كلمون هدَّ ركني هلكه وسط المحله سيّد القوم أتاه الحتف ناراً وسط ظلة .
جعلت نار عليهم دارهم كالمضمحلة .
الأعراف : ( 92 ) الذين كذبوا شعيبا . . . . .
) الذين كذّبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ( أي لم يعيشوا ولم ينزلوا ولم يقيموا ولم ينعموا ، وأصله من قولهم غنيّة بالمكان إذا أقمت به والمغاني المنازل وأحدها مغنى قال لبيد :
وغنيت ستاً قبل مجرى داهس
لو كان للنفس اللجوج خلود
وقال حاتم :
غنينا زماناً للتصعلك والغنى
فكلا سقانا بكأسيهما الدهر
) الذين كذّبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين ( لا المؤمنون كما زعموا
الأعراف : ( 93 ) فتولى عنهم وقال . . . . .
) فتولّى ( أعرض ) عنهم ( شعيب ( بن شامخ ) من أظهرهم حين أتاهم العذاب ) وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحتُ لكم فكيف آسى ( ( أحزن ) ) على قوم كافرين ( حين يُعذّبون ، يقال : آسيتم آسي أسىً . قال الشاعر :
آسيت على زيد ولم أدر ما فعل
والأسى الحزن ( والأسى ) الصبر .
(4/263)

" صفحة رقم 264 "
2 ( ) وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلاَ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لاَِكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ( 2
الأعراف : ( 94 ) وما أرسلنا في . . . . .
) وما أرسلنا في قرية من نبي ( فيه اضمار واختصار يعني فكذبّوه ) إلاّ أخذنا ( عاقبنا ) أهلها ( حين لم يُؤمنوا ) بالبأساء ( يعني بالبؤس الشدّة وضيق العيش ) والضرّاء ( تعني أضر وهو الحال . وقيل : المرض والزمناء قال : السدي البأساء يعني الفقر والجوع ) لعلّهم يضّرعون ( لكي يتضرعوا ( فينيبوا ) ويتوبوا
الأعراف : ( 95 ) ثم بدلنا مكان . . . . .
) ثمّ بدّلنا مكان السيّئة ( وهي البأساء والجواب والجوع ) الحسنة ( يعني النعمة والسعة والرخاء والخصب ) حتّى عفوا ( أي كثروا وأثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ، قال ابن عباس : ( عفوا ) يعني ( جهدوا ) ، وقال ابن زيد : يعني كثروا كما يكثر النبات والريش .
قال قتادة : ( حتّى عفوا ) : سروا بذلك ، وقال مقاتل بن حيان : ( عفوا ) حتى كثروا وتركوا ولم يستكثروا وأصله من الكثرة .
وقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى ) .
وقال الشاعر :
يقول من بعد أُولاك أولات
أتوا زماناً ليس عندهم بعيد
وقال آخر :
ولكنا نعض السيف منها
بأسوق عافيات الشحم كوم
) وقالوا ( من جهلهم وغفلتهم ) قد مسّ آباءنا الضراء والسراء ( فنحن مثلنا فقال الله تعالى ) فأخذناهم بغتة ( ( فجأة عِبرة لمن بعدهم ) . ) وهم لا يشعرون ( بنزول العذاب
الأعراف : ( 96 ) ولو أن أهل . . . . .
) ولو
(4/264)

" صفحة رقم 265 "
أن أهل القرى آمنوا واتّقوا ( يعني وحدوا الله وأطاعوه ) لفتحنا عليهم بركات من السماء ( يعني المطر ) والأرض ( يعني النبات ، وأصل البركة المواضبة على الشيء تقول : برك فلان على فلان إذا ( أجابه ، وبركات الأرض أي ) تابعنا عليهم بالمطر والنبات والخصب ورفعنا الحرث والقحط ) ولكن كذّبوا فأخذناهم ( فجعلنا لهم العقوبات ) بما كانوا يكسبون ( من الكفر والمعصية والأعمال الخبيثة .
الأعراف : ( 97 ) أفأمن أهل القرى . . . . .
) أفأمِنَ أهل القرى ( الذين كفروا وكذّبوا ) أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون ( آمنون .
الأعراف : ( 98 ) أو أمن أهل . . . . .
) أو أمِن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً ( نهاراً ) وهم يلعبون ( لاهون .
الأعراف : ( 99 ) أفأمنوا مكر الله . . . . .
) أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر اللهِ إلاّ القوم الخاسرون ( ومعني ( مكر ) استدراج القوم بما أراهم في دنياهم .
قال قتادة : مكر الله استدراجه بطول الصحة وتظاهر النعم ، وقال عطيّة : يعني أخذه وعذابه ، وحكى ( الشبلي ) أنه سئل عن مكر الله فأجاب بقول
محبتك لا ببعضي بل بكلي
وإن لم يبقَ حبك لي حراكاً
ومقبح من موالد ليفع
ل سنتي ويفعله فيحسن
فقال السائل : اسأله عن آية من كتاب الله ويجيبني من الشعر فعلم الشبلي أنه لم يفطن لما قال ، فقال : يا هذا ( . . . . ) إياهم على ما هم فيه .
الأعراف : ( 100 ) أولم يهد للذين . . . . .
) أوَلم يهد ( قرأ أبو عبد الرحمن وقتادة ويعقوب في رواية زيد ( نهد ) بالنون على التعظيم والباقون بالياء على ( التفريد ) ) للذين يرثون ( يستخلفون في ) الأرض ( بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا بسيرتهم ( . . . . ) ربّهم ) أن لو نشاء أصبناهم ( أهلكناهم ) بذنوبهم ( بما أهلكنا من قبلهم ) ونطبع ( نختم ) على قلوبهم فهم لا يسمعون ( الهدى ولا يقبلون الموعظة
الأعراف : ( 101 ) تلك القرى نقص . . . . .
) تلك القرى ( هذه القرى التي ذكرت لك وأهلكناهم وهي قرى نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب ) نقص عليك من أنبائها ( نخبرك أخبارها ) ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ( ( بالآيات والعلامات والدلالات ) ) فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل ( اختلف في تأويله .
قال أُبي بن كعب : معناه فما كانوا ليؤمنوا عند مجئ الرسل بما سبق في علم الله أنّهم يكذّبون به يوم أقرّوا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم .
وقال ابن عباس والسدي : يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حتّى أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرهاً وأقروا باللسان وأظهروا التكذيب
(4/265)

" صفحة رقم 266 "
وقال مجاهد : معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ورددناهم إلى الدنيا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم كقوله ) ولو ردّوا لعادوا لم نهو عنه ( وقال يمان بن رئاب : هذا معنى أنّ كلّ نبي أخذ قومه بالعذاب ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأُمم الكفار بل كذّبوا كما كذب نظير قوله ) كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به ( .
وقيل : معناه : ) ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ( يعني بالمعجزات والعجائب التي سألوهم فما كانوا ليؤمنوا بعد ما رأوا الآيات والعجائب بما كذبوا به من قبل رؤيتهم تلك العجائب نظيره قوله ) قد سألها قوم من قبلكم فأصبحوا بها كافرين ( ) وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ( ) كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ( الذين كتب عليهم أن لا يؤمنون من قومك
الأعراف : ( 102 ) وما وجدنا لأكثرهم . . . . .
) وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( يعني وفاء بالعهد ، والعهد الوصية ) وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ( أي ما وجدنا أكثرهم إلاّ فاسقين ناقضين العهد .
2 ( ) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِئَايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَالَ مُوسَى ياَفِرْعَوْنُ إِنَّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِىإِسْرَاءِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُواْ ياَمُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ( 2
الأعراف : ( 103 ) ثم بعثنا من . . . . .
) ثمّ بعثنا من بعدهم ( أي من بعد قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ) موسى بآياتنا ( بحجّتنا وأدلّتنا ) إلى فرعون وملئه فظلموا ( فجحدوا وكفروا ) بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ( وكيف فعلنا بهم
الأعراف : ( 104 ) وقال موسى يا . . . . .
) وقال موسى ( لمّا دخل على فرعون واسمه قابوس في قول أهل الكتاب
(4/266)

" صفحة رقم 267 "
قال وهب : كان اسمه الوليد بن مصعب بن الربان وكان من القبط وعَمّرَ أكثر من أربعمائة عام وقال موسى : ) يا فرعون إني رسول من رب العالمين ( إليك فقال فرعون كذبت فقال موسى :
الأعراف : ( 105 ) حقيق على أن . . . . .
) حقيق على أن لا أقول على الله إلاّ الحقّ ( يعني أنا ( خليق ) بأن لا أقول على الله إلاّ الحق ، فعلى بمعنى الباء ، كما يقال : رميت بالقوس على القوس وجاءني على حال حسنة وبحالة حسنة يدل عليه ، ( قول الفراء ) والأعمش : حقيق بأن لا أقول . وقال أبو عبيدة : معناه حريص على أن لا أقول على الله إلاّ الحق ، وقرأ شيبة ونافع : حقيق على تشديد الياء يعني حق واجب عليَّ ترك القول على الله عزّ وجلّ إلاّ الحق .
) قد جئتكم ببيّنة من ربّكم ( يعني العصا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت عليّ بن مهدي الطبري يقول : إنّه تعريض يقول : لحقيق مصرف الخطاب ) وحقيق ( ( فعيل ) من الحق يكون بمعنى القائل ) فأرسل معي بني إسرائيل ( أي اطلق عنهم وخلهم يرجعون إلى الأرض المقدسة .
قال وهب : وكان سبب استعباد فرعون بني إسرائيل أنّ فرعون حاجّ ( موسى ) وكان ( أشد من ) فرعون يوسف ( . . . . . . . . ) في يوسف ( وانقرضت ) الأسباط عليهم فرعون فاستعبدهم فأنقذهم الله بموسى .
قال : وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخل موسى رسولاً أربعمائة عام
الأعراف : ( 106 ) قال إن كنت . . . . .
) قال ( فرعون مجيباً لموسى ) إن كنت جئت بآية فأتِ بها إن كنت من الصادقين }
الأعراف : ( 107 ) فألقى عصاه فإذا . . . . .
) فألقى عصاه ( من يده ) فإذا هي ثعبان مبين ( .
قال ابن عباس والسدي : كانت ( عظيمة ذكراً ) من الحيات ، إذا فتحت فاها صار شدقها ثمانين وقد ملأت ما بين سماطي فرعون واضعة لحييها ذراعاً واضع لحية الأسفل في الأرض الأعلى على سور القصر ، حتى رأى بعض من كان خارج مدينة مصر رأسها .
ثمّ توجهت نحو فرعون لتبتلعه فوثب فرعون من سريره وهرب منها فأحدث ولم يكن حدث قبل ذلك وهرب الناس وصاحوا وحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً ، ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى خذها وأنا مؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت .
ثمّ قال له فرعون : هل معك آية أُخرى ، قال : نعم ، فأدخل يده في جيبه ثمّ نزعها فأخرجهابيضاء مثل الثلج لها شعاع غلب على نور الشمس ، وكان موسى أدم ثمّ أدخلها جيبه فصارت يداً كما كانت .
(4/267)

" صفحة رقم 268 "
الأعراف : ( 109 ) قال الملأ من . . . . .
) قال الملأ من قوم فرعون ان هذا لساحر عظيم ( يعنون أنّه يأخذ بأعين الناس بخداعه إيّاهم حتّى تخيّل إليهم العصا حيّة والأدم أبيض ( يري الشيء ) بخلاف ما هو به ، كما قيل سحر المطر الأرض إذا جاءها فقطع نباتها من أصلها وقلب الأرض على البطن فهو يسحرها سحراً والأرض مسحورة فشبه سحر الساحر به لتخيله إلى من سحره أنّه يري الشيء بخلاف ما هو به ، ومنه قول بني الرمة في صفة السراب
وساحرة العيون من الموامي
ترقص في نواشزها الأروم
الأعراف : ( 110 ) يريد أن يخرجكم . . . . .
) يريد أن يخرجكم ( ( من القبط ) ) من أرضكم ( مصر ) فماذا تأمرون ( هذا من قول فرعون للملأ ولم يذكر فرعون فيه كقوله ) الآن حصص الحق ( ) أنا راودته عن نفسه وإنّه من الصادقين ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب ( هذا من كلام يوسف ولم يذكر
الأعراف : ( 111 ) قالوا أرجه وأخاه . . . . .
) قالوا أرجه ( أحبسه ) وأخاه ( هارون ولا تقتلهما ولا يؤمن بهما ، وقال عطاء : احبسه وهذا أعجب إليّ لأنّه قد علم أنه لا يقدر على حبسه بعد ما رأى الآيات من العصا واليد .
) وأرسل في المدائن حاشرين ( يعني الشرطة وكانت له مدائن فيها السحرة عدة للأشياء إذا ( حزّ به أمر ) أرسل .
الأعراف : ( 112 ) يأتوك بكل ساحر . . . . .
) يأتوك بكل ساحر عليم ( قرأها أهل الكوفة على التكثير وقرأ العامّة كل ساحر . والفرق بين الساحر والسحّار أن الساحر الذي لا يعلم والسحار الذي يعلم ولا يعلم . وقال المؤرخ : الساحر من سحره في وقت دون وقت ، والسحار من قديم السحر .
قال : فإن غلبهم موسى صدقناه على ذلك وعلمت أنه ساحر .
قال ابن عباس وابن إسحاق والسدي : قال فرعون لمّا رأى من سلطان الله في العصا ما رأى : إنا لا نغالب موسى إلاّ بمَنْ هو مثله فأخذ غلمان بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرقاء يعلّمونهم السحر كما يعلّم الصبيان الكتابة في المكتب فعلّموهم سحراً كثيراً وواعد فرعون موسى موعداً ، فبعث فرعون إلى السحرة فجاء بهم ومعهم معلمهم فقال له ماذا صنعت ؟ قال : قد علمتهم سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلاّ أن يكون أمر من السماء فإنّه لا طاقة لهم به ، ثم بعث فرعون الشرطي في ( مملكته ) فلم يترك في سلطانه ساحراً إلاّ أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون .
فقال مقاتل : كان السحرة اثنين وسبعين ساحراً اثنان فيهم من القبط وهما رئيسا القوم وسبعون من بني إسرائيل .
(4/268)

" صفحة رقم 269 "
وقال الكلبي : كانوا سبعين ساحراً غير رئيسهم وكان الذين يعلّمونهم السحر رجلين مجوسيين من أهل نينوى ، وقال كعب : كانوا اثني عشر ألفاً . قال السدي : كانوا بضعة وثلاثين . عكرمة : سبعين ألفاً ، ابن المنكدر : ثمانين ألفاً فاختار منهم سبعة آلاف ليس منهم إلا ساحر ماهر ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين من كبرائهم وعلمائهم ، وقاله ابن جريج ، فلمّا أجتمع السحرة )
الأعراف : ( 113 ) وجاء السحرة فرعون . . . . .
2 قالوا لفرعون ( ) إنّ لنا لأجراً ( أي جعلاً وثواباً .
) إنّ كنّا نحن الغالبين (
الأعراف : ( 114 ) قال نعم وإنكم . . . . .
) قال ( فرعون ) نعم وإنّكم لمن المقرّبين ( في المنزلة عندي .
قال الكلبي : أوّل مَنْ يدخل عليّ وآخر مَنْ يخرج
الأعراف : ( 115 ) قالوا يا موسى . . . . .
) قالوا ( يعني السحرة .
) يا موسى إمّا أن تُلقي وأمّا أن نكون نحن الملقين ( بعصيّنا ( وحبالنا ) .
الأعراف : ( 116 ) قال ألقوا فلما . . . . .
) قال موسى ( ) ألقوا فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم ( أي أرعبوهم وأفزعوهم ) وجاءوا بسحر عظيم ( وذلك أنّهم ألقوا حبالاً وعظاماً وخشباً طوالاً فإذا هي حيّات كالجبال قد ملأت الوادي ( يأكل ) بعضهم بعضاً .
( ) وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَ أَنْ ءَامَنَّا بِئَايَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاَْرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ ياَمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِىإِسْرَاءِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (
(4/269)

" صفحة رقم 270 "
الأعراف : ( 117 ) وأوحينا إلى موسى . . . . .
) وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاك ( فألقاها ) فإذا هي تلقف ( تبتلع ، ومَنْ قرأ تلقف ساكنة اللام خفيفة القاف فهو من لقف يلقف ، ودليله قراءة سعيد بن جبير : تلقم من لقم يلقم .
) ما يأفكون ( يُكذّبون ، وقيل : يقلبون ويزوّرون على الناس فأكلت سحرهم كله فقالت السحرة : لو كان هذا سحراً لبقت حبالنا وعصينا . فذلك قوله :
الأعراف : ( 118 ) فوقع الحق وبطل . . . . .
) فوقع الحق ( أي ظهر .
قال النضير بن شميل : فوقع الحق أي فزعهم وصدّعهم ( كوقع الميقعة ) ) وبطل ما كانوا يعملون ( من السحر
الأعراف : ( 119 ) فغلبوا هنالك وانقلبوا . . . . .
) فغُلبوا هنالك ( وبطل ما كانوا يعملون ) وانقلبوا صاغرين ( ذليلين ومقهورين .
الأعراف : ( 120 ) وألقي السحرة ساجدين
) وأُلقي السحرة ساجدين ( لله حيث عرفوا أنّ ذلك أمر سماوي وليس سحراً ، وقيل : ألهمهم الله ذلك ، وقال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا
الأعراف : ( 121 ) قالوا آمنا برب . . . . .
) قالوا آمنا برب العالمين ( فقال فرعون : إياي تعنون فقالوا
الأعراف : ( 122 ) رب موسى وهارون
) رب موسى وهارون ( .
قال عطاء : فكان رئيس السحرة بأقصى مدائن مصر وكانا أخوين فلمّا جاءهما رسول فرعون قالا لأُمّهما ( دلّينا ) على قبر أبينا فدلتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا : إن الملك وجه إلينا رسولاً أن نقدم عليه ، لأنّه أتاه رجلان ليس معهما رجال ولا سلاح ولهما ( عزّ ومنعة ) وقد ضاق الملك ذرعاً من عزّهما ، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لهما ( شيء ) تبلغ الحديد والحجر والخشب . فأجابهما أبوهما : انظرا إذا هما ناما فإنّ قدرتما أن تسلا العصا فسلاّها فإنّ الساحر لا يعمل سحره إذا نام ، وإن عملت العصا وهما نائمان فذلك أمر ربّ العالمين ، ولا طاقة لكما به ولا الملك ولا جميع أهل الدنيا ، فأتاهما في خفية وهما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا قاله مقاتل .
قال موسى للساحر الأكبر : تؤمن بيّ إن غلبتك فقال لآتينَ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأؤمنن بك وفرعون ينظر
الأعراف : ( 123 ) قال فرعون آمنتم . . . . .
) قال ( لهم فرعون حين آمنوا ) آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر ( صنيع وخديعة ) مكرتموه ( صنعتموه أنتم وموسى ) في المدينة ( في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع .
) لتُخرجوا منها أهلها ( بسحركم ) فسوف تعلمون ( ما أفعل بكم .
الأعراف : ( 124 ) لأقطعن أيديكم وأرجلكم . . . . .
) لأُقطّعن أيديكم من خلاف ( وهو أن يقطع من شق طرفا قال سعيد بن جبير : أوّل مَنْ قطع من خلاف فرعون ) ثم لأُصلّبنّكم أجمعين ( على شاطئ نهر مصر
الأعراف : ( 125 ) قالوا إنا إلى . . . . .
) قالوا ( يعني السحرة لفرعون ) إنّا إلى ربّنا منقلبون ( راجعون في الآخرة
الأعراف : ( 126 ) وما تنقم منا . . . . .
) وما تنقم منّا ( قرأ العامّة بكسر القاف .
وقرأ الحسن وابن ( المحيصن ) بفتح القاف وهما لغتان نقَم ينقَم ونقم ينقِم .
قال الشاعر
(4/270)

" صفحة رقم 271 "
وما نقموا من بني أميّة إلا
أنّهم يحلمون إن غضبوا
وقال الضحاك وغيره : يعني وما يطعن علينا . قال عطاء : ما لنا عندك من ذنب وما ارتكبنا منك مكروهاً تعذّبنا عليه ) إلا أن آمنا بآيات ربّنا لمّا جاءتنا ( ثمّ ( فزعوا ) إلى الله عز وجل فقالوا ) ربّنا أفرغ ( اصبب ) علينا صبراً ( أُصبب علينا الصبر عند القطع والصلب حتّى لا نرجع كفاراً ) وتوفنا مسلمين ( واقبضنا إليك على دين موسى ، فكانوا أول النهار كفاراً سحرة وآخره شهداء بررة .
الأعراف : ( 127 ) وقال الملأ من . . . . .
) وقال الملأُ من قوم فرعون أتذرُ ( أتدع ) موسى وقومه ليفسدوا ( كي يفسدوا عليك ملكك عبيدك ) في الأرض ( في أرض مصر ) ويذرك ( يعني وليذرك .
وروى سليمان التيمي عن أنس بن مالك أنّه قرأ ويذرك بالرفع والنون ، ( أخبروا ) عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حياً فيصرفهم عنّا .
وقرأ الحسن ( ويذرك ) بالرفع على تقدير المبتدأ ، أي وهو يذرك ، ) آلهتك ( فلا نعبدك ولا نعبدها . قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة يعبدها وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، ولذلك أخرج السامري لهم عجلاً .
وروى عمرو عن الحسين قال : كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد عليها كأنّه صنم كان عابده يحن إليه .
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : كان فرعون يصنع لقومه أصناماً صغاراً ويأمرهم بعبادتها ويقول لهم : أنا رب هذه الأصنام ، وذلك قوله ) أنا ربكم الأعلى ( .
قال أبو عبيد : وبلغني عن الحسن أنه قيل له : هل كان فرعون يعبد شيئاً ؟ قال : نعم كان يعبد تيساً .
وقرأ ابن مسعود وابن عباس وبكر بن عبد الله ( الشعبي ) والضحاك وابن أبي إسحاق : إلهتك بكسر الألف أي ( إلهك ) فلا يعبدك كما تعبد . قالوا : لأن فرعون كان يُعبد ولا يَعبد .
وقيل أراد بالآلهة الشمس وكانوا يعبدونها .
قال ( عيينة ) بن ( شهاب ) :
تروحنا من الأعيان عصراً
فأمحلنا الآلهة أن تؤوبا
(4/271)

" صفحة رقم 272 "
بمعنى الشمس ) قال ( يعني فرعون سنقتل أبنائهم بالتشديد على التكثير . وقرأ أهل الحجاز بالتخفيف ) ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ( غالبون .
قال ابن عباس : كان فرعون يقتل بني إسرائيل في العام الذي قيل له إنّه يولد مولود يذهب بملكك فلم يزل يقتلهم حتّى أتاهم موسى ( عليه السلام ) بالرسالة فلما كان من أمر موسى ما كان أمر بإعادة عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل إلى موسى ( عليه السلام ) فعند ذلك
الأعراف : ( 128 ) قال موسى لقومه . . . . .
) قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله ( يعني أرض مصر ) يورثها ( يُعطيها ) مَنْ يشاءُ من عباده ( وقرأ الحسن يورثها بالتشديد والاختيار والتخفيف لقوله تعالى وأورثنا الأرض ) والعاقبة للمتّقين ( يعني النصر والظفر ، وقيل : السعادة والشهادة ، وقيل : الجنّة .
وروى عكرمة عن ابن عباس قال : لما آمنت السحرة اتّبع موسى ست مائة ألف من بني إسرائيل
الأعراف : ( 129 ) قالوا أوذينا من . . . . .
) قالوا ( يعني قوم موسى ) أُوذينا ( بقتل الأبناء واستخدام النساء والتسخير . ) من قبل أن تأتينا ( بالرسالة ) ومن بعد ما جئتنا ( بالرسالة وإعادة القتل والتعذيب وأخذ الأموال والأتعاب في العمل .
قال وهب : كانوا أصنافاً في أعمال فرعون فأما ذوو القوة منهم فيسلخون السوابي من الجبال وقد ( . . . . . . . ) أعناقهم وعواتقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطع ذلك وقتله .
وطائفة أُخرى قد ( قرحوا ) من ثقل الحجارة وسير ( الليل ) له ، وطائفة يلبنون اللبن ويطنبون الأجر ، وطائفة نجارون وحدادون ، والضعفاء بينهم عليهم الخراج ضريبة يودون كانت ضربت عليه الشمس ، قيل : وإن يردى ضريبته غلت يده إلى عنقه شهراً ، وأما النساء فيقرن اختان وينسجنه فقال موسى ( عليه السلام ) لهم ) عسى ربّكم أن يهلك عدوكم ( فرعون ) ويستخلفكم في الأرض ( ويسكنكم مصر من بعدهم بالتسخير والاستعباد وهم بنو إسرائيل ) مشارق الأرض ومغاربها ( يعني مصر والشام ) التي باركنا فيها ( بالماء والأشجار والثمار وإنما ذكر بلفظ ( . . . . . ) .
2 ( ) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاَْرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِىإِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ وَجَاوَزْنَا بِبَنِىإِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياَمُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَاؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَاهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذاَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 2
(4/272)

" صفحة رقم 273 "
الأعراف : ( 137 ) وأورثنا القوم الذين . . . . .
). . . . . . . ) فأورثهم ذلك بمهلك أهلها من العمالقة والفراعنة . ) وتمّت كلمة ربّك الحسنى ( يعني تمت كلمة الله وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض . وذلك قوله عز وعلى ) ونريد أن نمنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض ( إلى قوله ) ما كانوا يخلدون ( .
وقيل : معناه ( رحبت ) نعمة ربّك الحسنى ) على بني إسرائيل ( يعني أنهم مجزون الحسنى يوم القيامة ) بما صبروا ( على دينهم ) ودمرنا ( أهلكنا ( فدمرنا ) ) ما كان يصنع فرعون وقومه ( في أرض مصر من المغارات ) وما كانوا يعرشون ( .
قال الحسن : وما كانوا يعرشون من الثمار والأعشاب .
وقال مجاهد : يعني يبنون البيوت ، والقصور ومساكن وكان ( غنيّهم ) غير معروش .
وقرأ ابن عامر وابن عباس : بضم الراء وهما لغتان فصيحتان عرش يعرش .
وقرأ إبراهيم بن أبي علية : يعرشون بالتشديد على الكسرة
الأعراف : ( 138 ) وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . .
) وجاوزنا ( قطعنا ) ببني إسرائيل البحر ( بعد الآيات التي رأوها والعير التي عاينوها .
قال الكلبي : عبر بهم موسى يوم عاشوا بعد هلاك فرعون وقومه وصام يومئذ شكراً لله عزّ وجلّ ) فأتوا ( فمرّوا ) على قوم يعكفون ( يصلّون ، قرأ حمزة والكسائي يعكفون بكسر الكاف والباقون بالضم وهما لغتان ) على أصنام ( أوثان ) لهم ( أوثان لهم كانوا يعبدونها من دون الله عزّ وجلّ .
قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر وذلك أوّل ( شأن ) العجل .
قال قتادة : كانوا أُولئك القوم من لخم وكانوا هؤلاء بالرمة ، وقيل : كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم فقالت بنو إسرائيل له عندما رأوا ذلك ) قالوا ياموسى اجعل لنا إلهاً ( تمثالاً نعبده ) كما لهم آلهة قال ( موسى ) إنكم قوم تجهلون ( عظمة الله ونعمته وحرمته .
وروى معمر عن الزهري عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل حنين فمررنا بشجرة خضراء عظيمة فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفّار ذات أنواط . فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى ( عليه السلام ) اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة والذي نفسي بيده ( لتركبنّ سنن ) مَنْ كان قبلكم ) .
وروي عنه ( عليه السلام ) أنه قال : ( لا تقوم الساعة حتّى تأخذ أُمّتي أخذ الاُمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما قالت فارس والروم )
(4/273)

" صفحة رقم 274 "
الأعراف : ( 139 ) إن هؤلاء متبر . . . . .
) إن هؤلاء متبرٌ ( مهلك ومفسد ومخسر ) ما هم فيه وباطل ( مضمحل زائل ) ما كانوا يعملون (
الأعراف : ( 140 ) قال أغير الله . . . . .
) قال أغير الله أبغيكم ( أطلب وأبغي لكم فحذف حرف الصفة لقوله ( واختار موسى قومه ) ) إلهاً وهو فضلكم على العالمين ( على أهل زمانكم
الأعراف : ( 141 ) وإذ أنجيناكم من . . . . .
) وإذ نجيناكم ( قرأ أهل المدينة أنجيناكم ، وقرأ أهل الشام وإذ أنجاكم وكذلك في مصاحفهم بغير نون .
) من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ( .
قرأ نافع : ( يقتلون ) خفيفة من القتل على القليل ، وقرأ الباقون التشديد على الكثير من القتل ) ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (
.
) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لاَِخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِىأَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ياَمُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَآ ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاَْلْوَاحِ مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( 2
الأعراف : ( 142 ) وواعدنا موسى ثلاثين . . . . .
) وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ( ذا القعدة ) وأتمّمناها بعشر ( من ذي الحجّة ) فتم ميقات ربّه أربعين ليلة ( وقال عند انطلاقه لأخيه هارون ) اخلفني ( كن خليفتي ) في قومي وأصلح ( وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله ) ولا تتبع سبيل المفسدين ( ولا تسلك طريق العاصين ولا تكن مرناً للظالمين ، وذلك أن موسى وعد بني إسرائيل وهم بمصر إذا أهلك الله عدوّهم واستنقذهم من أيديهم أتاهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون ، فلما فعل الله ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب فأمره الله عز وجل صوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما تمت ثلاثون ليلة أنكر خلوق فمه فتسوك بعود ( ضرنوب ) فقالت له الملائكة : كنّا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك
(4/274)

" صفحة رقم 275 "
وقال أبو العالية : إنّه أكل من لحاء الشجرة فأمره الله عزّ وجلّ بصوم عشرة أيام من ذي الحجّة . وقال : أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، فكان فتنتهم في العشر التي زادها الله عز وجل
الأعراف : ( 143 ) ولما جاء موسى . . . . .
) ولما جاء موسى لميقاتنا ( أي الوقت سأله أن يكلمه فيه والميقات مفعال من الوقت كالميعاد والبلاد انقلبت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها .
قال المفسّرون : إنّ موسى ( عليه السلام ) تطهّر وطهّر ثيابه لميعاد ربه فلما أتى بطور سيناء ) وكلمه ربه ( وناجاه وأدناه حتّى سمع حروف القلم فاستجلى كلامه واشتاق ( إلى رؤيته ) وطمع فيها ) قال ربّي أرني أنظر إليك ( قال ابن عباس : أعطني أنظر إليك ) قال ( الله تعالى ) لن تراني ( وليس بشراً ( لا ) يطيق النظر إليّ في الدنيا ، من نظر إليّ مات ، فقال له : سمعت كلامك واشتقت إلى النظر إليك ( فلئن ) أنظر إليك وأموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك فقال الله تعالى ) ولكن انظر إلى الجبل ( فهو أعظم جبل بمدين يُقال له : زبير فلمّا سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلّى منها الله لها وجعل زبير يتواضع من تبيان فلمّا رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصّه بالتجلّي .
قال السدي : لمّا كلّم الله موسى خاض الخبيث إبليس في الأرض حتّى خرج بين قدمي موسى فوسوس إليه وقال : إن مكلمك الشيطان فعند ذلك سأل الرؤية فقال الله تعالى : لن تراني ( . . . . . . ) تعلّقت ( . . . . . . ) الرؤية بهذه الآية ، ولا دليل لهم فيها لأنّ ( لن ) ههنا لا توجب التأبيد وإنما هي للتوقيت لقوله تعالى حكاية عن اليهود ) لن يتمنوه أبداً بما قدمت ( يعني الموت ثمّ حكى عنهم أنهم يقولون لمالك ) يا مالك ليقض علينا ربّك ( . و ) ياليتها كانت القاضية ( يعني الموت ، وقال سبحانه ) لن تنالوا البر ( يعني الجنّة ) حتّى تنفقوا مما تحبون ( وقد يدخل الجنّة مَنْ لا يُنفق ممّا ( علمت ) فمعنى الآية لن تراني في الدنيا وإنما تراني في العقبى .
قال عبد العزيز بن يحيى : قوله ) لن تراني ( جواب قول موسى ( أرني أنظر إليك ) ولا تقع على الآخرة ، لأن موسى لم يقل أرني أنظر إليك في الآخرة إنما سأله الرؤية في الدنيا فأُجيب عما سأل ولا حجّة فيه لمَنْ أنكر الرؤية .
وقيل : معنى ) لن تراني ( أي لا تقدر أن تراني ، وقيل : معناه لن تراني بعين فانية وإنما تراني بعين باقية ، وقيل : لن تراني قبل محمد وأُمته وإنما تراني بعد محمد وأُمته ، وقيل : معناه
(4/275)

" صفحة رقم 276 "
لن تراني بالسؤال والدعاء وإنما تراني بالنوال والعطاء إنّه لو أعطاه إياه بسؤاله لكانت الرؤية مكافأة السؤال ، ويجوز أن يكون فعله مكافأة فعل عبده ولا يجوز أن يكون هو مكافأة فعل عبده .
وقيل : معناه لن تراني بالعين التي رأيت بها عدوي وذلك أنّ الشيطان تراءى له فوسوس إليه ، فقال الله تعالى : ياموسى أما تعلم أنّ رؤية الخبيث والله لا يجتمعان في حال واحد ومكان واحد وزمان واحد .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت عليّ بن مهدي الطبري يقول : لو كان سؤال موسى مستحيلاً لما أقدم عليه نبي الله موسى ( عليه السلام ) مع علمه ومعرفته بالله عن اسمه كما لم تجز أن يسأله لنفسه صاحبة ولا ولداً .
وقال الله عزّ وجلّ : ) ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ( واستقراره بكونه وثباته .
قال المتكلّمون من أهل الشام : لما علق الله ( الرؤية باستقراره ) دلّ على جواز الرؤية لأن استقراره غير محال فدلّ على أن ما ( علق ) عليه من كون الرؤية غير محال أيضاً ألا ترى أن دخول الكفار الجنّة لما كان مستحيلاً علقه بشيء مستحيل . وهو قوله ) ولا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سم الخياط ( .
وقال أهل الحكمة والاشارة : إن الكليم لما أراد الخروج إلى الميقات جعل بين قومه وبين ربه واسطة يقول لأخيه هارون : ) اخلفني في قومي ( فلما سأل الرؤية جعل الله تعالى بينه وبينها واسطة وهو الجبل لقوله تعالى ) لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل ( فقال : وكأنّه يقول إن لم أصلح لخلافتك دون أخيك فأنت أيضاً لأنه لم ترونني دون استقرار الجبل ) فلمّا تجلّى ربّه للجبل ( .
قال وهب : لما سأل موسى الرؤية أرسل إليه الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق فأحاطت بالجبل الذي عليه موسى فأمر الله ملائكة السماوات أن يعترضوا على موسى أربعة فراسخ من كل ناحية فمرت به ملائكة سماء الدنيا كثير ، إن البقر تتبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كأصوات الرعد الشديد ، ثمّ أمر الله ملائكة سماء الثانية أن اهبطوا على موسى فهبطوا عليه مثل الأسد لهم لجبّ بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع واقشعر كل شعرة في رأسه وجسده .
ثمّ قال : ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه ؟
فقال له حبر الملائكة ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم
(4/276)

" صفحة رقم 277 "
هبطت ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تتبع بالتسبيح بالتقديس كجلب الجيش العظيم ولهب النار .
ثمّ هبطت عليه ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به من قبلهم .
ثمّ هبطت عليهم ملائكة السماء الخامسة سبعة ألوان فلم يستطيع أن يتبعهم طرفه ولم يرَ مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له حبر الملائكة ورأسهم : يا بن عمران مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه ثمّ أمر الله تعالى ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي أراد أن يراني فاعترفوا عليه فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءاً من الشمس ولباسهم كلهيب النار ، إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم يقولون بشدة أصواتهم : سبوح قدوس رب العزّة أبداً لا يموت ، في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه ، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنسَ عبدك لا أدري أنقلب مما أنا فيه أم لا ؟ إن خرجت أُحرقت وإن مكثت متّ ، فقال له رأس الملائكة ورئيسهم : قد أوشكت ياابن عمران أن يمتلىء جوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي جلست .
ثمّ أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة وقال : أروه ، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب ورفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعاً فارتج الجبل واندكت كل شجرة كانت فيه ) وخرَّ ( العبد الضعيف ) موسى صعقاً ( على وجهه ليس معه روحه فقلب الله الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كالمعدة كهيئة القبّة لئلاّ يحترق موسى ، فأرسل الله تعالى إليه روح الحياة فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول : آمنت بأنك ربّي وصدقت بأنه لا يراك أحد فيحيا . ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك ، لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لله لا شريك لك رب العالمين .
وقال السدي : حفّت حول الجبل بالملائكة وحفّت حول الملائكة بنار وحفّ حول النار بالملائكة وحفّ حول الملائكة بنار ثمّ تجلّى ربّك للجبل .
وقال ابن عباس : ظهر نور ربّه للجبل جبل زبير ، وقال الضحاك ( أخرج ) الله تعالى له من نور الحجب مثل منخر الثور .
(4/277)

" صفحة رقم 278 "
وقال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار : ما تجلّى من عظمة الله للجبل إلاّ مثل سمّ الخياط ، يعني صار دكّاً .
وقال السدي : ما تجلّى منه إلاّ قدر الخنصر . يدلّ عليه ما روى عن ثابت عن أنس عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قرأ هذه الآية فقال : هكذا ، ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل .
وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتّى وقع في البحر فهو يذهب معه .
وقال أبو بكر الهذلي : انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة .
وقال عطيّة العوفي : جعله دكّاً أي رملاً هائلاً ، وقال الكلبي : جعله دكاً أي كسراً جبالاً صغيراً . قال الحسن : جعله دكّاً أي ذاهباً أصلاً . وقال مسروق : صار صغيراً ( كالرابية ) .
الحسن : أوحى الله تعالى إلى الجبل هل تطيق رؤيتي فغار الجبل وساخ في الأرض وموسى ينظر حتّى ذهب أجمع .
وقال قطرب : فلمّا تجلّى ربّه أي : أمر ربّه للجبل كقوله . ) وأسأل القرية التي كنّا فيها ( .
وقال المبرد : معناه فلمّا تجلّى ربّه آية للجبل جعله فعلاً متعدّياً ( كالتخلّص والتبدّل والتوعد ) .
وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق : حكي لي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من ( وراء ) سبعين ألف حجاب ضوءاً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً .
وقال أبو بكر : فَعَذُب إذ ذاك كل ماء وأفاق كل مجنون وبرأ كل مريض . وزالت الأشواك عن الأشجار وخصبت الأرض وأزهرت وخمدت نيران المجوس . وخرت الأصنام لوجهها ) جعله دكاً ( مستوياً بالأرض . وقال ابن عباس : جعله تراباً .
عن معونة بن قرّة عن أنس بن مالك قال : قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ) فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكاً ( : ( طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة : أحد وورقان ، ورضوى . ووقع ثلاثة بمكّة ثور وثبيرة وحراء ) .
واختلفت القراءة في هذا الحرف ، وقرأ عاصم ) دكاً ( بالقصر والتنوين . والتي في الكهف بالمد ، وقرأ غيره من أهل الكوفة وحمير ( دكاء ) ممدودة غير مجراه في التنوين .
(4/278)

" صفحة رقم 279 "
وقرأ الباقون مقصورة الرفع منونة . وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، فمن قصره فمعناه جعله مدكوكاً . والدك والدق بمعنى واحد لأن الكاف والقاف يتعاقبات ، لقولهم : كلام رقيق وركيك ، ويجوز أن يكون معناه : دكه الله دكاً أي فتّه الله أغباراً لقوله ) إذا دُكّت الأرض دكّاً ( وقوله ) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكةً واحدة ( .
قال حميد :
يدك أركان الجبال هزمه
تخطر بالبيض الرقاق بهمه
ومن مده فهو من قول العرب ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام . وحينئذ يكون معناه : جعله أيضاً دكاء ، أي مستوية لا شيء فيها ، لأن الجبل مذكر ، هذا قول أهل الكوفة .
وقال نحاة البصرة : معناه فجعله مثل دكّاً وحذف مثل فأجرى مجرى ) واسأل القرية ( قال الأخفش : من مدّ قال في الجمع : دكاوات ، وذلك مثل حمراوات وحمرة ، ومن قال : أرض دك ، قال في الجمع : دكوك ، ) وخرَّ ( أي وقع ) موسى صعقاً ( قال ابن عباس : فغشي عليه ، وقال قتادة : ميّتاً .
وقال الكلبي : خرّ موسى صعقاً يوم الخميس يوم عرفة وأعطى التوراة يوم الجمعة ( يوم النحر ) .
وقال الواقدي : لما خرَّ موسى صعقاً قالت ملائكة السماوات : ما لابن عمران وسؤاله الرؤية ؟
وفي بعض الكتب أنّ ملائكة السماوات أتوا موسى وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون : يابن النساء الحيض أطمعت في رؤية ربّ العزّة .
) فلمّا أفاق ( من صعقته وعقله عرف أنّه قد فعل أمراً لا ( ينبغي فعله ) ) قال سبحانك تبت إليك ( من سؤالي الرؤية ) وأنا أوّل المؤمنين ( بأنك لا تُرى في الدنيا ( قال السدي ) ومجاهد : وأنا أوّل مَنْ آمن بك من بني إسرائيل .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال : سمعت أبا القاسم النصر آبادي يحكي عن الجنيد ( أنه قال : ) جئت إليك من الأسباط في شيء لا تعقله نيتي ، فأنا أوّل المؤمنين بأنّك لا تُرى في الدنيا لأن أول من سألك الرؤية ( . . . . . . ) .
(4/279)

" صفحة رقم 280 "
قال ابن عباس : لمّا سار موسى إلى طور سيناء للميقات قال له ربه : ما تبتغي ؟ قال : جئت أبتغي الهدي . قال قد وجدته يا موسى ، فقال موسى : يارب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني . قال : أي عبادك أقصى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى . قال : أي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه فيسمع الكلمة تهديه إلى الهُدى ويرد سنن ردىء .
وقال عبد الله بن مسعود : لمّا قرب الله موسى بطور سيناء رأى عبداً في ظلّ العرش جالساً فقال : ( ما هذا ) ، قال : هذا عبد لا يحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله وبرّ بوالديه ولا يمشي بالنميمة .
فقال موسى : يارب اغفر لي ما مضى من ذنبي وما مضى وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني ، أعوذ بك من وسوسة نفسي وأعوذ بك من شر عملي . فقال : قد كفيت ذلك يا موسى ، قال : يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمل به ؟ قال : تذكرني ولا تنساني ، قال : أي عبادك خير عملاً ؟ قال : مَنْ لا يُكذّب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه ( وهو ذو خلق حسن ) ، قال : فأي عبادك شر عملاً ؟ قال : فاجر في خلق سيء ( جيفة ليل ) بطال النهار .
الأعراف : ( 144 ) قال يا موسى . . . . .
) اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك ( أعطيتك ) وكن من الشاكرين ( لله سبحانه على نعمه .
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أحمد بن حمدون الفراتي . أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن بكير الرازي ، حدثنا الحسن بن عليّ بن يحيى بن سلام الإمام ، حدثنا أحمد بن حسان بن موسى البلخي . حدثنا أبو عاصم إسماعيل بن عطاء بن قيس ( الأموي ) عن أبي حازم المدني عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما أعطى الله تعالى موسى الألواح فنظر فيه قال : يا رب لقد أكرمتني بكرامة لم تكرمها أحداً قبلي قال : يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ، بجد ومحافظة وموت على حب محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قال موسى : يا رب ومن محمد ؟ قال : أحمد النبي الذي أُثبت اسمه على عرشي من قبل أن أخلق السماوات بألفي عام ، إنّه نبيي وصفيي وحبيبي وخيرتي من خلقي وهو أحب إلي من جميع خلقي وجميع ملائكتي .
قال موسى : يا رب إن كان محمد أحب إليك من جميع خلقك فهل خلقت أمته أكرم عليك من أمتي ؟ قال : يا موسى إنّ فضل أُمة محمد على سائر الخلق كفضلي على جميع خلقي . قال : يا رب ليتني رأيتهم ، قال : يا موسى إنّك لن تراهم ، لو أردت أن تسمع كلامهم أسمعتك ، قال : يا رب فإني أُريد أن أسمع كلامهم ، قال الله تعالى : يا أُمة أحمد ، فأجبنا كلنا من أصلاب آبائنا
(4/280)

" صفحة رقم 281 "
وأرحام أُمهاتنا لبيك اللهم لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك . قال الله تعالى : يا أُمة أحمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق حسابي قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تعصوني . من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبدي ورسولي دخل الجنّة ولو كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر . وهذا قوله عزّ وجلّ ) .
) وما كنت بجانب الطور إذ ناديناه وما كنت بجانب الغربي ( إلى قوله ) الشاهدين ( .
قال الثعلبي : وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عليّ بن نصير المزكى ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا رشد بن سعيد عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري عن أبيه أن كعب الأحبار رأى حبر اليهود يبكي قال : ما يبكيك ؟
قال : ذكرت بعض الأُمور .
فقال له كعب : أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك تصدقني ؟
قال : نعم .
قال : أنشدك الله تجد في ( الكتاب ) المنزل أنّ موسى ( عليه السلام ) نظر في التوراة فقال : إني أجد أُمة خير أُمم أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله والرسول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتّى يقاتلوا الأعور الدجال ، فقال موسى : ربّ اجعلهم أُمّتي ، قال : هم أُمّة محمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال : أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر في التوراة فقال : رب إني أجد أُمةً يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم ، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار غير أن موسى كان يجمع صدقات بني إسرائيل فلا يجد عبداً مملوكاً ولا أمةً إلاّ اشتراه ثمّ أعتقه من تلك الصدقات فما فضل حفر له بئر عميقة القعر فألقاه فيها ثمّ دفنه كيلا يرجعوا فيه ، وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون والمشفوع لهم .
قال موسى : اجعلهم أُمّتي ؟ قال : هي أُمة أحمد يا موسى . قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أنّ موسى ( عليه السلام ) نظر في التوراة ، فقال : إني أجد أُمة إذا أشرف أحدهم على نشر كبر الله وإذا هبط وادياً حمد الله ، الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا ، يتطهرون من الجنابة ، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء ، غير محجلون من آثار الوضوء ، فاجعلهم أُمتي ؟ قال : هي أُمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : ربِ
(4/281)

" صفحة رقم 282 "
إني أجد أُمةً إذا همَّ أحدهم بحسنة لم يعملها كتبت له حسنة مثلها ، وإن عملها ضعف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، فإذا هَمّ بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه وإن عملها كتبت سيئة مثلها .
قال : اجعلهم أُمتي ؟ قال : هي أُمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة وقال : ربِ إنّي أجد أُمّة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيناهم ، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد منهم أحداً إلاّ مرحوماً . اجعلهم أُمّتي ؟ قال : هي أُمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم .
قال كعب : أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر في التوراة قال : ربِ إنّي أجد في التوراة أُمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنّة ، يصفون في صلواتهم صفوف الملائكة أصواتهم ( في مساجدهم ) كدوي النحل ، لا يدخل النار منهم أحداً أبدٌ إلا من يرى الحساب مثل ما يرى الحجر من وراء الشجر ، قال موسى : فاجعلهم أُمتي ؟ قال : هي أمة أحمد ياموسى . قال الحبر : نعم .
فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله تبارك وتعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) قال : يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله عزّ وجلّ ثلاث آيات يرضيه بها هي ) يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس ( إلى قوله ) دار الفاسقين ( ) ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون ( قال : فرضى موسى كل الرضا .
الأعراف : ( 145 ) وكتبنا له في . . . . .
قوله تعالى ) وكتبنا له ( يعني لموسى ) في الألواح ( .
قال الربيع بن أنس : كانت ألواح موسى ( عليه السلام ) من برد ، وقال ابن جريج : كانت من زمرّد أمر الله تعالى جبرئيل حتّى جاء بها من عدن يكتبها بالقلم الذي كتب به ( الذكر فاستمد ) من بحر النور فكتب له الألواح .
وقال الكلبي : كانت الألواح زبرجداً خضراء وياقوتة حمراء كتب الله فيها ثماني عشرة آية من بني إسرائيل وهي عشر آيات في التوراة . قال وهب : أمره الله تعالى بقطع الألواح من صخرة صماء ليّنها الله له فقطعها بيده ثمّ شقها بإصابعه وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر ، وكان ذلك أول يوم من ذي القعدة وكانت الألواح عشرة على طول موسى ( عليه السلام ) .
وقال مقاتل وكعب ) وكتبنا له في الألواح ( كنقش الخاتم وكتب فيها : إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإنّ كل ذلك خلقي ولا تقطعوا
(4/282)

" صفحة رقم 283 "
السبل ولا تحلفوا باسمي كاذباً فإن مَنْ حلف باسمي كاذباً فلا أُزكّيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقّوا الوالدين .
وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير ، يقرأ منها الجزء في سنة لم يقرأها إلاّ أربعة نفر : موسى يوشع وعزير وعيسى ( عليهم السلام ) ، وقال : هذه الآية ألف آية يعني قوله ) وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً ( وتبياناً ) لكل شيء ( من الأمر والنهي الحلال والحرام والحدود والأحكام .
) فخذها بقوة ( قال مقاتل : بجد ومواظبة . قال الضحاك : بطاعة ) وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ( قال ابن عباس في رواية الكلبي : بأحسن ما أُمروا ( في ) الأرض فيحلوا حلالها ويحرموا حرامها ، وكان موسى أشد عداوة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به . وقال ابن كيسان وابن جرير : أحسنها الفرائض لأنه قد كان فيها أمر ونهي ، فأمرهم الله تعالى أن يعملوا بما أمرهم به ويتركوا ما نهاهم عنه فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمنهي عنه .
وقيل : معناه أخذوا بها وأحسن عمله . وقال قطرب : يأخذوا بأحسنها أي بحسنها و ( كلّها حسن ) كقوله ) ولذكر الله أكبر ( وقال الحسين بن الفضل : معنى قوله ( أحسنها ) أن يتخيل للكلمة معنيين أو ثلاثة فيصرفوا إلى الشبهة بالحق . وقيل : كان فيها فرائض لا مبرّك لها وفضائل مندوباً إليها والأفضل أن يجمع بين الفرائض و ( الفضائل ) .
) سأُريكم دار الفاسقين ( قال أهل المعاني : هذا كقول القائل لمن يخاطبه سأُريك غداً إلى بصير ( فيه قال ) مَنْ يخالف أمري على وجه الوعيد والتهديد .
وقال مجاهد : ) سأُريكم دار الفاسقين ( قال : مصيرهم في الآخرة . قال الحسن : جهنم ، وقال قتادة وغيره : سأُدخلكم النار فأُريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة .
وقال عطيّة العوفي : معناه سأُريكم دار فرعون وقومه وهي مصر يدلّ عليه .
قرأ ابن عباس وقسامة بن زهير : سأُورّثكم دار الفاسقين . وقال الكلبي : دار الفاسقين ما مرّوا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا . وقال ابن كيسان : ساريكم دار الفاسقين ما يصير قرارهم في ( الأرض ) .
وقال ابن زيد : يعني سنن الأوّلين ، وقيل : الدار الهلاك وجمعه أدوار . وذلك أن الله تعالى لمّا أغرق فرعون أوحى إلى البحر أن يقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين
(4/283)

" صفحة رقم 284 "
وقال يمان : يعني مسكن فرعون .
الأعراف : ( 146 ) سأصرف عن آياتي . . . . .
) سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحق ( قال قوم : حكم الآية لأهل مصر خاصة يعني بقوله ) آياتي ( يعني الآيات التسع التي أعطاها الله سبحانه موسى ( عليه السلام ) .
وقال آخرون : هي عامة ، وقال ابن جريج وابن زيد : يعني عن خلق السماوات والأرض وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والبحور والشجر والنبات وغيرها أصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها ، وقال الفراء أي الغرباني : إنّي أمنع قلوبهم عن التفكر في أمري .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال : سمعت أبا سعيد محمد بن نافع السجزي بهراة يقول : سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي قال : سمعتُ عبد الجبار بن العلاء العطار قال : سمعت سفيان بن عيينة وسئل عن هذه الآية : أُحرمهم فَهْم القرآن .
سمعت أبا القاسم الحبيبي قال : سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي قال : سمعت العباس بن حمزة قال : سمعت ذا النون المصري يقول : أبى الله أن يكرّم قلوب الظالمين مكتوب حكمة القرآن ) وإن يروا ( يعني هؤلاء المتكبّرين .
قرأ مالك بن دينار فإن يروا بضم الياء أي يفعل بهم ) سبيل الرشد ( طريق الهدي والسداد ) لا يتخذوه ( لأنفسهم ) سبيلاً وإن يروا سبيل الغي ( يعني الضلال والهلاك ) يتخذوه سبيلاً ( وقرأ مجاهد وحميد وطلحة والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي : الرشد ، بفتح الراء والشين وهما لغتان كالسَقَم والسُقم والحَزَن والحُزن والبَخَل البُخل ، وكان أبو عمرو يفرق بينهما فيقول : الرشد بالضم والصلاح في الأمر كقوله : ) فإن آنستم منهم رشداً ( والرشد بفتح بفتحتين الاستقامة في الدين ، وقرأ أبو عبد الرحمن الرشاد بالألف وهو مصدر كالعفاف والصلاح .
) ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنّها غافلين ( لاهين ساهين لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها
الأعراف : ( 147 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ( ورؤية القيامة ، وقيل : العالية في الآخرة ) حبطت أعمالهم هل يُجزون ( في العقبى ) إلاّ ما كانوا ( أي جزاء ما كانوا ) يعملون ( في الدنيا .
( ) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فَىأَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِىأَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ
(4/284)

" صفحة رقم 285 "
اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ ( 2
الأعراف : ( 148 ) واتخذ قوم موسى . . . . .
) واتّخذ قوم موسى من بعده ( أي من بعد انطلاقه إلى الجبل ) من حُليّهم ( التي استعاروها من قوم فرعون .
وكانت بنو إسرائيل في القبط بمنزلة أهل الجزية في الإسلام ، وكان لهم يوم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فزامن ذلك عيدهم فاستعادوا الحلي للقبط فلما أخرجهم الله من مصر وغرق فرعون بقيت تلك الحلي في أيديهم فاتخذ السامري منها عجلاً وهو ولد البقر ) عجلاً جسداً ( مجسّد لا روح فيه .
وقال وهب : جسداً لحماً ودماً ) له خوار ( وهو صوت البقر خار خورة واحدة ثمّ لم تعد . وقال وهب : كان يسمع منه الخوار إلاّ أنّه لا يتحرك . وقرأ عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه : خوار بالجيم والهمز وهو الصوت أيضاً واختلفت القراء في قوله ( حليهم ) ، فقرأ يعقوب بفتح الحاء وجزم اللام وتخفيف الياء على الواحد .
وقرأ حمزة والكسائي : حليّهم بكسر الحاء وتشديد الياء ، الباقون بضم الحاء وهما لغتان مثل ( صلى ) وجثى وبكى ( وعثى ) يجوز فيها الكسر والضم ) ألم يروا ( يعني الذين عبدوا العجل من دون الله ) أنّه لا يُكلّمهم ولا يهديهم سبيلاً ( قال الله ) اتخذوه ( عبدوه واتخذوه إلهاً ) وكانوا ظالمين ( كافرين
الأعراف : ( 149 ) ولما سقط في . . . . .
) ولمّا سقط في أيديهم ( أي ندموا على عبادة العجل وهذا من فصيحات القرآن .
والعرب تقول لكل نادم أو عاجز عن شيء : سقط في يديه وأسقط ، وهما لغتان وأصله من ( الاستئسار ) وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره فيكتفه ، والمرمي فيه مسقوط في يد الساقط .
) ورأوا أنّهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا ( يتب علينا ربنا ) ويغفر لنا ( ويتجاوز عنا ) لنكونن من الخاسرين ( بالعقوبة
الأعراف : ( 150 ) ولما رجع موسى . . . . .
) ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً ( قال أبو الدرداء : الأسف منزلة وراء الغضب أشد منه ، وقال ابن عباس والسدي : ( رجع حزيناً من صنيع قومه ) قال الحسن بن غضبان : حزيناً ) قال بئسما خلفتموني من بعدي ( أي بئس الفعل فعلتم بعد ذهابي ، يقال : منه خلفه بخير أو شر إذا ألاه في أهله أو قومه بعد شخوصه عليهم خيراً أو شراً
(4/285)

" صفحة رقم 286 "
) أعجلّتم ( أسبقتم ) أمر ربّكم وألقى الألواح ( غضباً على قومه حين عبدوا العجل ، وقال قتادة : إنّما ألقاها حين سمع من فضائل أُمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الألواح : قال : يا رب اجعلني من أُمّة محمد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يرحم الله أخي موسى ما المخبر كالمعاين لقد أخبره الله بفتنة قومه فعرف أنّ ما أخبره الله حق وأنه على ذلك لمتمسّك بمّا في يديه ، فرجع إلى قومه ورآهم فغضب وألقى الألواح ) .
قالت الرواة : كانت التوراة سبعة أسباع فلمّا ألقى الألواح تكسرت فوقع منها ستة أسباع وبقي سبع وكان فيها رُقع موسى وفيما بقي الهدى والرحمة ) وأخذ برأس أخيه ( أي لحيته وذقنه ) يجره إليه ( وكان هرون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحبّ إلى بني إسرائيل من موسى ، لأنه كان لين الغضب ) قال ( هرون عند ذلك يا ) ابن أُم ( قرأ ( أهل ) الكوفة بكسر الميم هاهنا وفي طه أراد يا بن أُمي فحذف ياء الإضافة ، لأنه مبنى النداء على الحذف وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الاضافة كقوله ) ياعباد ( يدل عليه ، قراءة ابن السميقع : يابن أُمي بإثبات الياء على الأصل ، وقرأ الباقون بفتح الميم فهما على معنى يابن اُماه جعل أصله إسماً واحداً وبناه على الفتح كقولهم : حضرموت وخمسة عشر ونحوهما .
) إن القوم استضعفوني ( باتخاذهم العجل ) وكادوا ( يعني همّوا وقاربوا ) يقتلونني فلا تُشمت ( بضم التاء وكسر الميم ونصب الأعداء قرأه العامّة وقرأ مالك بن دينار فلا تشمت ) بي الأعداء ( بفتح التاء والميم الأعداء رفع ) ولا تجعلني ( في ( موعدتك ) عليّ وعقوبتك لي ) مع القوم الظالمين ( يعني أصحاب العجل
الأعراف : ( 151 ) قال رب اغفر . . . . .
) قال ( موسى لمّا تبيّن له عذر أخيه ) رب اغفر لي ( ما صنعت إلي ) ولأخي وادخلنّا ( جميعاً أنا وأخي ) في رحمتك وأنت أرحم الراحمين }
الأعراف : ( 152 ) إن الذين اتخذوا . . . . .
) إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربّهم ( في الآخرة ) وذِلّة في الحياوة الدنُيا ( قال أبو العالية : هو ما أُمروا به من قتل أنفسهم .
وقال عطيّة العوفي : أراد سينالهم أولادهم ( الكبير ) كابراً على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غضب وذُلّة في الحياة الدنيا ، وهو ما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء لتوليتهم متخذي العجل ورضاهم به ، وقال ابن عباس : هو الجزية .
) وكذلك نجزي المفُترين ( الكاذبين قال أبو قلابة : هي والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة ، قال يذله الله عزّ وجلّ .
وسمعت أبا عمرو الفراتي سمعت أبا سعيد بكر بن أبي عثمان الخيري سمعت السراج
(4/286)

" صفحة رقم 287 "
سمعت سوار بن عبد الله الغزّي سمعت أبي يقول : قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلاّ ( وتجد فوق ) رأسه ذلّة ثمّ قرأ ) إن الذين اتخذوا العجل ( الآية يعني المبتدعين .
( ) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاَْلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَْخِرَةِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِىأُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ( 2
الأعراف : ( 153 - 154 ) والذين عملوا السيئات . . . . .
) والّذين عملوا السيّئات ثمّ تابوا ( إلى قوله ) ولمّا سكت عن موسى ( يعني سكن عن موسى ) الغضب ( يدلّ عليه قراءة معاوية بن مغيرة : ولمّا سكن ، بالنون .
قال أبو النجم :
وهمت الأفعى بأن تسيحا
وسكت المكاء أن يصيحا
وأصله الكف عن الشيء ، ومنه الساكت عن الكلام .
) أخذ الألواح ( التي ألقاها وذهب منها ستة أسباعها ) وفي نسختها ( أي فما نسخ منها .
قال عطاء : يعني فيما بقي منها ، ولم يذهب من الحدود و ( الأحكام ) شيء فقال ابن عباس : وعمرو بن دينار : صام موسى أربعين يوماً فلمّا ألقى الألواح فتكسّرت صام مثلها فردّت عليه وأُعيدت له في لوحين مكان الذي انكسر ( ولم يفقد منها شيئاً ) ) هدى ورحمة ( .
قال ابن عباس : هدى من الضلالة ورحمة من العذاب ) للذين هم لربّهم يرهبون ( ( يخلفون ) وقال الراجز :
يصنع الجزع فيها أو استحيوا
للماء في أجوافها خريراً أي من أصل الجزع
الأعراف : ( 155 ) واختار موسى قومه . . . . .
) واختار موسى قومه ( أي من قومه فلمّا نزع حرف الصفة نصب كقول الفرزدق :
ومنّا الذي أُختير الرجال سماحة
وبراً إذا هبّ الرياح ( الزعازع
(4/287)

" صفحة رقم 288 "
وقال آخر :
اخترتك للناس إذ رثت خلائقهم
واعتل مَنْ كان يُرجى عنده السؤل
أي من الناس ، واختلفوا في سبب اختيار موسى السبعين .
وقال السدي : أمر الله أن سيأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعد موعداً ، واختار موسى من قومه ) سبعين رجلاً ( ثمّ ذهب إليه ليعتذر فلمّا أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة وإنّك قد كلّمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا .
وقال ابن إسحاق : اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوه ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم .
وقال مجاهد : اختارهم لتمام الموعد .
وقال وهب : قالت بنو إسرائيل لموسى ( عليه السلام ) : إن طائفة يزعمون أنّ الله لا يكلمك ولو كلمك فأقمت لكلامه ألم ترَ أنّ طائفة منّا سألوه النظر إليه فماتوا فلا تسأله أن ( ينزل ) طائفة منّا حتّى يكلمك فيسمعوا كلامه فيؤمنوا وتذهب التهمة ، فأوحى الله تعالى إلى موسى ( عليه السلام ) أن اختر من خيارهم سبعين رجلاً ، ثمّ ارتق بهم إلى الجبل أنت وهرون . واستخلف على بني إسرائيل يوشع بن نون يقول كما أمر الله تعالى واختار سبعين رجلاً .
روى المنهال عن الربيع بن حبيب قال : سمعنا أبا سعيد الرقاشي وقرأ هذه الآية قال : كان السبعون ابناً ما عدا عشرين . ولم يتجاوز الأربعين . وذلك أن ابن عشرين قد ذهب ( جماله ) وصباه وأنّ من لم يتجاوز الأربعين لم يعد من عقله شيءٌ . وقال الآخرون : كانوا شيوخاً .
قال الكلبي : اختار موسى سبعين رجلاً لينطلقوا إلى الجبل فلم يصب إلاّ ستين شيخاً وأوحى الله تعالى إليه أن يختار من الشباب عشرة فاختار وأصبحوا شيوخاً فاختار من كل سبط ستّة رهط فصاروا اثنين وسبعين .
فقال موسى : إنّما أمرت سبعين رجلاً فاستخلف منكم رجلان فتشاجروا على ذلك . فقال : إن لِمن قعد مثل أجر من خرج ، فقعد رجلان أحدهما كالب بن ( يوقيا ) والآخر يوشع بن نون .
فأمر موسى السبعين أن تصوموا وتطهروا ، وتطهّروا ثيابكم ثمّ خرج بهم إلى طورسيناء لميقات ربّه وكان لا يأتيه إلاّ بإذن منه وذلك قوله تعالى : ) واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ( ) فلمّا أخذتهم الرجفة ( اختلفوا في كيفية هذه الرجفة وسبب أخذها إياهم .
فقال ابن إسحاق والسدي : إنّهم لمّا أتوا ذلك المكان قالوا لموسى : اطلب لنا نسمع كلام
(4/288)

" صفحة رقم 289 "
ربّنا فقال : أفعل ، فلمّا دنا موسى ( عليه السلام ) من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتّى يغشي الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم : ادنوا وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل أن ينظر إليه ، فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتّى إذا دخلوا في الغمام وهو عمود فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره فيها : افعل لا تفعل فلما فرغ انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا : يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعاً .
وقال ابن عباس : إن السبعين الذين قالوا : لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة ، وإنما أمر الله موسى أن يختار من قومه سبعين رجلاً فاختارهم وبرزهم ليدعوا ربهم ، فكان فيما دعوا أن قالوا : اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدنا ، فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة .
قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه : إنّما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قبل هارون ، وذلك أن موسى وهارون وشبر وشبير ( عليهم السلام ) انطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفّاه الله فلمّا مات دفنه موسى فلمّا رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون ؟ قال : توفّاه الله ، فقالوا : بل أنت قتلته ( عمداً ) على خُلُقه وَليِنْهِ ، قال : فاختاروا من شئتم ، فاختاروا سبعين رجلاً وذهب بهم ، فلما انتهوا إلى القبر قال موسى : يا هارون أقتلتَ أم تُوفّيت ؟
فقال هارون : ما قتلني أحد . ولكن الله توفاني إليه .
فقالوا : ياموسى لن تقصّ بعد اليوم فأخذتهم الرجفة وصعقوا وماتوا ، وقال موسى : يارب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم ، يقولون : أنت قتلتهم فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلّهم .
وقال ابن عباس : إنّما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل ، وقال قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب : أخذتهم الرجفة لأنّهم لم ( يزايلوا ) قومهم حين عبدوا العجل ولم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر .
وقال وهب : لم تكن تلك الرجفة موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرجفة وخلقوا فرجفوا حتّى كادت أن تبيّن مفاصلهم وتنقص ظهورهم فلمّا رأى ذلك موسى ( عليه السلام ) رحمهم وخاف عليهم الموت واشتدّ عليه فقدهم وكانوا له ولداً على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربّه فكشف الله عنهم تلك الرجفة والرعدة فسكنوا واطمأنوا وسمعوا كلام ربهم فذلك قوله ) قال ( يعني موسى ) ربِ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ( بقتل القبطي ) أتهلِكنا بما فعل السفهاء منّا ( يعني عبدة العجل . وظن موسى أنّه عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل
(4/289)

" صفحة رقم 290 "
وقال السدي : أوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل وكان موسى لا يعلم ذلك فقال موسى : يارب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت أخيارهم وليس معي رجلٌ واحدٌ فما الذي يصدقوني به ويأمنونني عليه بعد هذا ، فأحياهم الله ، وقال ( المبرّد ) : قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا استعلام واستعطاف أي لا تهلكنا قد علم موسى أن الله أعدل من أن يؤاخذ بجريرة الجاني غيره ولكنّه كقول عيسى : ) أن تعذبهم فإنهم عبادك ( الآية .
) إن هي إلاّ فتنتك ( أي اختيارك .
قال سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع : محنتك ، وقال ابن عباس : عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عن من تشاء ) تُضل بها مَنْ تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا ( ناصرنا ومولانا وحافظنا ) فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين }
الأعراف : ( 156 ) واكتب لنا في . . . . .
) واكتب لنا ( أي حقق ( ووفقنا للأعمال الصالحة ) يقال : ( كتب ) الله عليك السلامة ) في هذه الدنيا حسنة ( يعني الأعمال الصالحة ) وفي الآخرة ( يعني المغفرة والجنّة ) إنا هُدنا إليك ( قرأ أبو رجزة السعدي : وكان مصححاً من القراء شاعراً هدنا بكسر الهاء يقال : هاد يهيد ويهود إذا رجع وتحرك ( فأدلّه الميل ) قال الشاعر :
قد علمت سلمى ( رجلاً )
أني من الناس لها هايد
) قال ( الله تعالى : ) عذابي أُصيبُ به مَنْ أشاء ( من خلقي وقال الحسن وابن السميقع : مَنْ أشاء ( . . . . . . ) من الإشاءة ) ورحمتي وسعت ( عمّت ) كل شيء ( قال الحسن وقتادة : إن رحمته في الدنيا وسعت البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتّقين خاصة .
وقال عطيّة العوفي : وسعت كل شيء ولكن لا يجيب إلاّ الذين يتقون ، وذلك أنّ الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن لسعة رحمة الله للمؤمن يعيش فيها ، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمسير في كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه ، قال أبو روق : ورحمتي وسعت كل شيء يعني الرحمة التي قسمها بين الخلائق يعطفه بها بعضهم على بعض ، وقال ابن زيد : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) هو التوبة ، وقال آخرون : لفظه عام ومعناه خاص لهذه الأُمّة .
وقال ابن عباس وقتادة وابن ( جرير ) وأبو بكر الهذلي : لما نزلت هذه الآية ) ورحمتي وسعت كل شيء ( قال إبليس : أنا من ذلك الشيء ونزعها الله من إبليس فقال ) فسأكتبها للذين
(4/290)

" صفحة رقم 291 "
يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ( فقالت اليهود والنصارى نحن نتّقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله منهم وجعلها لهذه الأُمة .
( ) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِىأُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ ياَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الأُمِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( 2
الأعراف : ( 157 ) الذين يتبعون الرسول . . . . .
) الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمي ( الآية قال نوف البكالي الحميري : لما اختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقات ربه قال الله تعالى لموسى أجعل لكم في الأرض مسجداً وطهوراً تصلّون حيث أدركتكم الصلاة إلاّ عند مرحاض أو حمام أو قبر وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظهور قلوبكم ، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير .
فقال ذلك موسى لقومه فقالوا : لا نريد أن نصلي في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت ، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا ، ولا نريد أن نقرأها إلاّ نظراً ، فقال الله ) فسأكتبها للذين يتقون ( إلى قوله ) المفلحون ( فجعلها الله لهذه الأمة ، فقال موسى : رب اجعلني نبيهم ، فقال : نبيهم منهم ، قال : رب اجعلني منهم ، قال : إنك لن تدركهم ، فقال موسى : يارب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله تعالى ) ومن قوم موسى أمة يهدون ( أنفسهم ) بالحق وبه يعدلون ( فرضي موسى ، قال نوف : إلا تحمدون ربّاً حفظ غيّكم وأجزل لكم سهمكم وجعل وفادة بني إسرائيل لكم .
واختلف العلماء في معنى الأُمّي .
فقال ابن عباس : هو منكم كان أميّاً لا يكتب ولا يقرأ ولا يحاسب قال الله تعالى ) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك ( وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنا أُمة أُميّة لا نكتب ولا نحاسب )
(4/291)

" صفحة رقم 292 "
وقيل : هو منسوب إلى أُمّته كأن أصله أُمتي فسقطت التاء من النسبة كما سقطت من اليكي والمدى .
وقيل : منسوب إلى أُم القرى وهي مكّة أُم القرى ) الذي يجدونه ( أي صفته ونبوّته ونعته وأمره ) مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل ( قال عطاء بن يسار : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة فقال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن . ) يا أيُّها النبيّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً ( وحرزاً للأُميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالاسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتّى يقيم الملّة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلاّ الله فيفتح به قلوباً غلفاً وآذناً صُماً وأعيناً عمياً .
قال عطاء : ثمّ لقي كعباً فسأله عن ذلك فما اختلفا حرفاً إلاّ أن كعباً قال : بلغته قلوباً غلوفياً وآذاناً صموياً وأعيناً عموميّاً .
وروى كعب في صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : مولده مكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال وفي كل منزلة ، يُوَضِئون أطرافهم و ( ويتورّون ) إلى ( الجهاد ) وفيهم وعاة الشمس ويصلون الصلاة حيث أدركتهم ولو على ظهر الكناسة ، صفهم في القول مثل صفهم في الصلاة ثمّ قرأ ) إنّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً ( .
وقال الواقدي : حدّثني عثمان بن الضحاك عن يزيد بن ( الهادي ) عن ثعلبة بن مالك أن عمر بن الخطاب أنه سأل أبا مالك عن صفة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في التوراة وكان من علماء اليهود ، فقال : صفته في كتاب بني هرون الذي لم يغير ولم يبدّل أحد من ولد إسماعيل بن إبراهيم ومن آخر الأنبياء وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف ، يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه في ( عينيه ) حمرة وبين كتفية خاتم النبوّة مثل زر الحجلة ، ليس بالقصير ولا بالطويل ، يلبس الشملة ويجرى بالبلغة ويركب الحمار ويمشي في الأسواق ، معه حرب وقتل وسبي سيفه على عاتقه لا يبالي مَن لقي مِن الناس ، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة .
مولده بمكّة ومنشأه بها وبدء نبوّته بها ودار هجرته يثرب بين جرّة ونخل ( وسبخة ) وهو أُمّي لا يكتب بيده ، هو بجهاد ، يحمد الله على كل شدة ورخاء ، سلطانه الشام ، صاحبه من الملائكة
(4/292)

" صفحة رقم 293 "
جبرئيل يلقى من قومه أذىً شديداً . ويحبّونه حبّاً شديداً ثمّ يدال على قومه يحصرهم حصر ( الجرين ) ، يكون له وقعات في يثرب ، منها له ومنها عليه ، ثمّ يكون له العاقبة يعدّ معه أقوام هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله ، صدورهم أناجيلهم قربانهم دماؤهم ليوث النهار ورهبان بالليل يرعب منه عدوه بمسيرة شهر ، يباشر القتال بنفسه حتّى يخرج ويكلم لا شرطة معه ولا حرس يحرسه .
) يأمرهم بالمعروف ( أي بالايمان ) وينهاهم عن المنكر ( يعني الشرك ، وقيل : المعروف والشريعة والسنة والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة .
وقال عطاء : يأمرهم بالمعروف وبخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ينهاهم عن المنكر عن عبادة الأصنام وقطع الأرحام ) ويحل لهم الطيبات ( يعني الحلالات التي كانت أهل الجاهلية تحرمها : البحائر السوائب والوصائل والحوامي ) ويحرّم الخبائث ( يعني لحم الخنزير والدم والميتة والربا وغيرها من المحرمات . ) ويضع عنهم إصرهم ( ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد يعني : جهدهم الذي كان يأخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة . وقال ابن زيد وقتادة : يعني الشدائد الذي كان عليهم في الدين ) والأغلال ( يعني الأثقال ) التي كانت عليهم ( ( بما أُمروا ) به من قتل الأنفس في التوراة وقطع الأبهاء ، شبّه ذلك بالأغلال كما قال الشاعر :
فليس لعهد الدار يا أم مالك
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل
سوى العدل شيئاً واستراح العواذل
فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطّي إلى المحذورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب ) والذين آمنوا به وعزّروه ( أعانوه ووقّروه ) ونصروه واتّبعوا النور الذي أُنزل معه ( يعني القرآن ) أُولئك هم المفلحون }
الأعراف : ( 158 ) قل يا أيها . . . . .
) قل يا أيّها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض ( إلى قوله تعالى : ) بالله وكلماته ( .
قال قتادة : وآياته . وقال مقاتل والسدي : يعني عيسى ابن مريم ) واتبعوه لعلكم تهتدون }
الأعراف : ( 159 ) ومن قوم موسى . . . . .
) ومن قوم موسى ( يعني بني إسرائيل ) أمة ( جماعة ) يهدون بالحق ( أي يرشدون إلى الحق ، وقيل : خلفاء يهتدون ويستقيمون عليه ويعملون به ) وبه يعدلون ( أي ينصفون من أنفسهم ويحمدون .
وقال السدي : هم قوم بينكم وبينهم ( قوم ) من سهل
(4/293)

" صفحة رقم 294 "
وقال ابن جريج : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم ممّا صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم ( وبينه ) ففتح الله عليم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصف حتّى خرجوا من وراء الصين ، فهم هناك حقاً مسلمون يستقبلون قبلتنا .
قال الكلبي والربيع والضحاك وعطاء : هم قوم من قبل المغرب خلف الصين على نهر من الرمل يسمى نهر أودق وليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويصبحون بالنهار ويزرعون لا يصل إليهم منّا أحدٌ ولا منهم إلينا أحدٌ وهم على الحق وذكر عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أن جبرئيل ( ذهب إليهم ليلة ) أُسري به فكلّمهم فقال لهم جبرئيل : هل تعرفون مَنْ تُكلّمون ؟
قالوا : لا .
قال : هذا محمدٌ النبيّ فآمنوا به ، وقالوا : يا رسول الله إنّ موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه منّي السلام .
فردّ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على موسى : فعليه السلام ، ثمّ أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم يكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يُقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا وأن يتركوا السبت .
2 ( ) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ ( 2
الأعراف : ( 160 - 161 ) وقطعناهم اثنتي عشرة . . . . .
) وقطعناهم ( يعني بني إسرائيل ) إثنتي عشرة أسباطاً أُمماً ( روى أبان بن يزيد العطار عن عاصم : وقطعناهم بالتخفيف وأراد بالأسباط القبائل والفرق ولذلك أنشأ العدد والأسباط جمع مذكر .
قال الشاعر :
وإن قريشاً كلّها عشر أبطن
وأنت بريءٌ من قبائلها العشر
فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة فلذلك كان ( البطن ) مذكر وإنما قال : ( أسباطاً أُمماً )
(4/294)

" صفحة رقم 295 "
بالجمع ولا يقال : أتاني اثنا عشر رجالاً ، لأنه أراد الأعداد والجموع فأقام كل عدد مقام واحد ، وقيل : معناه وقطعناهم أسباطاً أمماً اثني عشر .
) وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ( في التيه ) أن اضرب بعصاك الحجر ( قال عطاء : كان الحجر أربعة وجوه لكل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين لا يُخالطهم سواه ) فانبجست ( أخصبت وانفجرت .
قال أهل التفسير : انبجست وانفجرت واحد ، وكان أبو عمرو بن العلاء يفرق بينهما فيقول انبجست عرفت وانفجرت ( سالت ) .
قال عطاء : كان يظهر على كل موضع من الحجر يضربه موسى ( عليه السلام ) مثل ثدي المرأة فيعرق أوّلاً ثمّ يسيل ) قد علم كل أُناس ( من كل سبط ) مشربهم ( لا يدخل سبط على غيره في شربه وكل سبط من أب واحد . ) وضلّلنا عليهم الغمام ( في التيه يقيهم من الشمس ) وأنزلنا عليهم المن والسلوى ( إلى قوله : ) يغفر لكم خطاياكم ( وقرأ أهل المدينة يغفر ( بياء ) مضمومة وخطاياكم بالرفع ، وقرأ ابن ( عامر ) بتاء مضمومه .
2 ( ) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَالِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( 2
الأعراف : ( 163 ) واسألهم عن القرية . . . . .
) وسئلهم ( واسأل يامحمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال تقرير وتوبيخ ) عن القرية التي كانت حاضرة البحر ( أي بقربه وعلى شاطئه ، واختلفوا فيها فروى عكرمة عن ابن عباس قال : هي قرية يقال لها ايلديس مدين والطور .
وروى عليّ بن أبي طلحة عنه فقال : هي قرية على شاطئ البحر من مصر والمدينة يقال لها : ايله وقال ابن زيد : هي قرية يقال لها : مقنى بين مدين وعينونا ، وقيل : هي الطبريّة ) إذ يعدون في السبت ( أي يتجاوزون أمر الله وقرأ أبو نهيك إذ تعدون بضم الياء وكسر العين بتثقيل الدال من الأعداد يريد ( يهيبون ) الآلة لأخذها .
وقرأ ابن السميقع : في الاسبات ، على جمع السبت ) إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شُرعاً ( قرأ ابن عبد العزيز يوم إسباتهم شرعاً إلى ( شراع ) ظاهرة على الماء كثيرة ، وقال الضحاك : متتابعة ) ويوم لا يسبتون ( أي لا يفعلون السبت . يقال سبت يسبت سبتاً وسبوتاً إذا أعظم السبت
(4/295)

" صفحة رقم 296 "
وقرأ الحسن : يُسبتون بضم الياء أي يدخلون في السبت كما يقال أجمعنا وأشهرنا أي دخلنا في الجمعة والشهر ) لا تأتيهم كذلك نبلوهم ( نختبرهم ) بما كانوا يفسقون ( وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن سمعت إبراهيم بن ( محارب ) بن إبراهيم سمعت أبي يقول : سألت الحسين بن الفضل هل تجد في كتاب الله الحلال لا ( يأتيك ) إلاّ قوتاً والحرام يأتيك جزفاً جزفاً ؟ قال : نعم ، في قصّة داود وتأويله : ) إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ( .
قال عكرمة : جئت ابن عباس يوماً فإذا هو يبكي ووضع المصحف في حجرة فقلت : مايُبكيك جعلني الله فداك . قال : هؤلاء الورقات فإذا هو في سورة الأعراف ، فقال : تعرف الآية ؟ قلت : نعم ، قال : فإنّه كان بها حي من اليهود في زمن داود حرم عليهم الحيتان في السبت ، وذلك أنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرتهم به يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد فأمروا بتعظيمه إن أطاعوا لم يؤجروا وإن عصوا عذبوا ، وكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاء سماناً كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم حتّى لا يرى الماء من كثرتها ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر .
ثمّ إنّ الشيطان أوحى إليهم فقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فأتّخذوا الحياض وكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة ) فتسقي ( فيها ولا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد .
وقال ابن زيد : كانوا قد قرّبوا بحب الحيتان وكان في غير يوم السبت لا تأتيهم حوت واحد فأخذ رجل منهم حوتاً فربط في ذنبه خيطاً فأخذه وشواه فوجد جار له ريح الحوت . فقال له : يا فلان أنا أجد في بيتك ريح نون ، قال : لا فتطلع في تنوره فإذا هو فيه فقال : إني أرى الله سيعذّبك ، فلما لم يره عذب ولم يعجل عليهم بالعذاب أخذ في السبت الأُخرى حوتين اثنين .
فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم أكلوا وملحوا وباعوا وأثروا وكثر مالهم ، وكانوا نحواً من سبعين ألف ، فصارت أهل القرية ( ثلاثاً ) : ثلث نُهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً وثلث قالوا : لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم ، وثلث أصحاب الخطيئة ، فلما لم ينتهوا قال المسلمون : لا ( نسألهم ) فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود ( عليه السلام ) فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن للناس شأناً لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فنظروا فإذا بهم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم وعرفت القردة ( أنسابها ) من الأنس . ولا تعرف الأنس أنسابهم من القرود . فجعلت القردة تأتي نسيبها من
(4/296)

" صفحة رقم 297 "
الأنس وتشم ثيابه وتبكي فيقول : ألم ننهكم ؟ فتقول برأسها : نعم .
قال قتادة : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلاّ الذين نهوا وهلك سائرهم .
واختلف العلماء في الفرقة الذين قالوا : ( لِمَ تعظون قوماً ) كانت من الناجية أو من الهالكة ؟ فقال بعضهم : كانت من الناجية لأنّها كانت من الناهية .
وقال آخرون : كانت من الفرقة الهالكة ، لأنّهم كانوا من الخاطئة وذلك أنهم لما نهوا وقالوا لهم انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب فإنّا قد علمنا أن الله تعالى منزل عليكم بأسه إن لم تنتهوا قالوا لهم
الأعراف : ( 164 ) وإذ قالت أمة . . . . .
) لم تعظون قوماً الله مهلكهم ( إذ علمتم أنّ الله معذبهم ) أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرةً إلى ربّكم ( أي هذه معذرة ، وقرأ حفص : معذرة أي يفعل ذلك معذرة ) ولعلهم يتقون ( صيد الحيتان والصواب أنها كانت من الفرقة الناجية وأن هذا الكلام من قول المؤمنين بعضهم لبعض لأنّه لو كان الخطاب للمعتدين لقالوا : ولعلكم تتّقون يدلّ عليه قول يمان بن رئاب نحن الطائفتان اللذان قالوا ) لِمَ تعظون قوماً الله مُهلكهم ( والذين قالوا ) معذرة إلى ربّكم ( فأهلك الله أهل المعصية الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير .
وقال ابن عباس : ليت شعري ما فعل هؤلاء الذين قالوا : ) لم تعظون قوماً الله مهلكهم ( قال عكرمة : فقلت له : جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا : ) لم تعظون قوماً الله مهلكهم ( فلم أزل به حتّى عرّفته أنهم قد نجوا فكساني حلّة .
الأعراف : ( 165 ) فلما نسوا ما . . . . .
) فلمّا نسوا ما ذكروا به ( تركوا ما وعظوا به ) أنجينا الذين ينهون عن السوء ( أي المعصية ) وأخذنا الذين ظلموا ( أي عاقبنا باعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم الله ) بعذاب بئيس ( شديد وجيع من البأس وهو الشدة والفعل منه بَؤس يبَئوسُ ، فاختلف القراء فيها فقرأ أهل المدينة بِيْس بكسر الباء وجزم الياء من غير همزة على وزن فعل ، وقرأ ابن عامر كذلك على وزن فِعْل إلاّ أنّه الهمزة .
وقرأ عاصم : في رواية أبي بكر : بَيْئس بفتح الباء وجزم الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل ويثرب .
كما قال الشاعر :
كلاهما كان رئيساً بيئسا
يضرب في الهيجاء منه القونسا
(4/297)

" صفحة رقم 298 "
وقرأ بعضهم : بَيئِس بفتح الباء وكسر الهمزة على وزن فعل مثل ( حذر ) كقول ابن قيس الرقيات :
ليتني ألقى رقيّة في
خلوة من غير ما بيئس
وقرأ الحسن : بكسر الباء وفتح السين على معنى بيئس العذاب .
وقرأ مجاهد : بايئس على وزن فاعل وقرأ أبو أياس بفتح الباء والياء من غير همزة .
وقرأ نصر بن عاصم : بيئس بفتح الباء وكسر الياء مشدداً من غير همزة .
وقرأ بعض أهل مكة بئيس بكسر الياء والهمزة كما يقال : بعر للبعير . وقال أهل اللغة : كل فعل ثانية أحد حروف الحلق فإنّه يجوز كسر أوّله مثل بِعير وصغير ورحيم و ( حميم ) وبخيل ، وقرأ الباقون بئيس على وزن فعيل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن فعيلاً أشبهه بصفات ( التعريف ) كقول ذي الاصبع العدواني :
لقد رأيت بني أبيك
محمجين إليك شوساً
حنقاً عليّ ولن ترى
لي فيهم أثراً بئيساً
الأعراف : ( 166 ) فلما عتوا عن . . . . .
وقوله ) فلمّا عتوا عمّا نُهوا عنه ( قال ابن عباس : أبوا أن يرجعوا عن المعصية ) قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ( صاغرين . قال سعيد بن جبير : رأى موسى ( عليه السلام ) رجلاً يحمل قصباً يوم السبت فضرب عنقه ، أبو روق : الخاسئون الذين لا يتكلّمون .
وقال المؤرخ مبعدين كما بَعُد الكلاب . قال ابن عباس : ( مكثوا ) ثلاث أيام ينظر إليهم الناس ثمّ هلكوا ولم يتوالدوا ولم يتناسلوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام .
قال مقاتل : عاشوا سبعة أيام يعرف الكبير بكبره والصغير بصغره ، ثمّ ماتوا .
وروى ابن مسعود أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إن الله لم يمسخ شيئاً فجعل له نسلاً وعاقبه .
2 ( ) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاَْرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذاَلِك
(4/298)

" صفحة رقم 299 "
وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الاَْدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 2
الأعراف : ( 167 ) وإذ تأذن ربك . . . . .
) وإذ تأذن ربّك ( أذّن وأعلم ربّك مثل قولهم تعلم بمعنى أعلم . وأنشد المبرّد :
تعلم أن خير الناس حي
ينادي في شعارهم يسار
وقال زهير :
فقلت تعلم أن للصيد غرّة
فان لا تضيعها فإنّك قاتله
وقال ابن عباس : ( تأذن ربّك ) قال ربّك ، وقال مجاهد : أمر ربّك ، وقال عطاء : حتم ، وقال أبو عبيد : أخبر ، وقال قطرب : وعد .
) ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ( هم اليهود بعث الله عليهم محمداً وأمته يقاتلونهم حتّى يسلموا أو يعطوا الجزية ، وقال سعيد بن جبير : هم أهل الكتاب بعث الله عليهم العرب يجبونهم الخراج إلى يوم القيامة فهو سوء العذاب ولم يجب نبي قط الخراج إلاّ موسى ( عليه السلام ) فهو أول من وضع الخراج فجباه ثلاث عشرة سنة ثمّ أمسك
الأعراف : ( 169 ) فخلف من بعدهم . . . . .
) فخلّف من بعدهم خلف ( أي حضرت وجاء وتبدل من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف .
قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام الأولاد والواحد والجميع فيه سواء والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غريباً ، وقال الآخرون : هم خلف سوء .
وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح الصالح و ( بالجزم ) الصالح . قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للردئ من الكلام : خلف ، ومنه المثل السائر : سكت الفاً وبطن خلفاً .
وقال النضر بن شميل : الخلف بجزم اللام واسكانها في غير القرآن السوء واحد ، فأمّا في القرآن الصالح ( بفتح ) اللام لا غير ، وأنشد :
(4/299)

" صفحة رقم 300 "
إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف
عبداً إذا ما ناء بالحمل خضف
وقال محمد بن جرير الطبري : أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح ومن ذلك قول حسان بن ثابت :
لنا القدم الأولى وإليك وخلفنا
لأولنا في طاعة الله تابع
قال : واحسب أنّه إذا وجّه إلى الفساد مأخوذ من قولهم : خلف اللبن وحمض من طول تركه في السقاء حتى تفسد ، ومن قولهم : خلف فم الصائم إذا تغير ريحه وفسد ، فكان الرجل الفاسد مشبه به .
) ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ( والعرض متاع الدنيا أجمع . والعرض بسكون الراء ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير .
قال المفسّرون : ( إن ) اليهود ورثوا كتاب الله فقرأوه وعلموه وضيعوا العمل به وخالفوا حكمه يرتشون في حكم الله وتبديل كتاب الله وتغيير صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويقولون سيغفر لنا ( ذنوبنا ما عملناه بالليل كُفّر عنا بالنهار ، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل تمنياً على الله الأباطيل .
) وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ( . قال سعيد بن جبير : وإن عرض لهم ذنب آخر عملوه .
وقال مجاهد : ما أشرف لهم في اليوم من شيء من الدنيا الحلال أو حرام يشتهونه أخذوه . وكلما وهف لهم شيء من الدنيا أكلوه وأخذوا من الدنيا ، ما وهف أي ما سهل ، لا يبالون حلالاً كان أو حراماً ويبتغون في المغفرة فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه .
قال السدي : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلاّ ارتشى في الحكم . وإن خيارهم اجتمعوا فأخذوا منهم بعض العهود أن لا يفعلوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى وارتشى يقال له : مالك ترتشي في الحكم ، فيقول : سيُغفر لي ، فيطعن عليه البقية ( عَرَض ) من بني إسرائيل فيما صنع ، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجلاً ممن كان يطعن فيرتشي فيقول وأن يأتي الآخرين عرض مثله يأخذوه ومعناه : وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا عاهدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عرض مثله يأخذوه كما أخذ أسلافهم . والأدنى تذكير الدنيا وعرض هذه الدار الدنيا فلما ترك الاسم المؤنث ذكر النعت لتذكير اللفظ
(4/300)

" صفحة رقم 301 "
سمعت أبا القاسم الحبيبي قال : سمعت أبا بكر محمد بن عبد ( . . . . ) يقول فيه تقديم وتأخير أي : يأخذون هذا العرض الأدنى ) ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلاّ الحق ودرسوا ما فيه ( وقرأوا ما فيه ، وقرأ السلمي : ادّارسوا أي تدارسوا مثل إذا زكّوا أي قارأ بعضهم بعضاً .
) والدار الآخرة خيرٌ للذين يتقون ( الشرك والحرام ) أفلا تعقلون ( بالياء قرأ أكثر القراء على الخبر .
الأعراف : ( 170 ) والذين يمسكون بالكتاب . . . . .
وقرأ الحسن وابن الأشهب بالتاء على الخطاب ) والذين يمسكون الكتاب ( قرأ عمر بن الخطاب وأبو العالية وعاصم ورواية أبي بكر بسكون خفيفة . وقرأ الباقون بسكون التشديد .
قال أبو عبيد وأبو حاتم : لأنه يقال تمسكت بالشيء ولا يقال أمسكت بالشيء : إنما يقال أمسكته ويدل عليه قراءة أُبي ابن كعب ( والذين مسكوا الكتاب ) على الماضي وهو جيد لقوله : ( وأقاموا الصلاة ) إذ قال ما يعطف ( من ) على مستقبل إلاّ في المعنى .
وقرأ الأعمش : ( والذين استمسكوا بالكتاب ) ومعنى الآية : وأن يعملوا بما في كتاب الله قال مجاهد وابن زيد : هم من اليهود والنصارى الذين يمسكون بالكتاب الذي جاء به موسى فلا يحرفونه ولا يكتمونه أحلّوا حلاله وحرموا حرامه ولم يتخذوه ( ما كُلُهُ نَزَل ) في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقال عطاء : فيهم أنّه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (
الأعراف : ( 171 ) وإذ نتقنا الجبل . . . . .
) وإذ نتقنا الجبل فوقهم ( أي قلعنا الجبل .
قال مجاهد : كما ينتق الزبد . وقال المؤرخ : قطعنا .
وقال أبو عبيدة : زعزعنا . وقال الفراء : خلقنا . وقال بعضهم رفعناه . واحتج بقول العجاج :
ينتقن أقتاد الشليل نتقاً
يعني يرفعه عن ظهره .
وقال آخر :
ونتّقوا أحلامنا الأثاقلا
وقال بعضهم : أصل النتق والنتوق أن يقلع الشيء من موضعه فيرمى . قال أبان بن تغلب :
(4/301)

" صفحة رقم 302 "
سمعت رجلاً من العرب يقول لغلامه : فخذ الحجر ألقه فانتقه أي نكسه وانثره .
ويقال للمرأة الكثيرة الولد : ناتق ومنتاق لأنها ترمي ( صدرها ) رمياً قال النابغة :
لم يحرموا حسن الغذاء وأُمهم
حقت عليك بناتق مذكار
وقال بعضهم : هو من التحريك فقال : ينتفي السير أي حَرَكني ، يقال : ينتق برجله ويركض إذا حركت رجله على الدابة حين تعدو به . ) كأنّه ظلّة ( الظلة ما أظلك ) وظنوا أنّه واقع بهم ( نازل بهم ) خذوا ( أي قلنا خذوا ) ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه ( فاعملوا به ) لعلّكم تتّقون ( وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ويعملوا بها لتغليظها وكانت شريعة ثقيلة فرفع الله عز وجل جبلاً على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ .
وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها ليقعن عليكم . قال الحسن البصري : فلما نظروا للجبل خرَّ كل رجل ساجداً على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى على الجبل خوفاً من أن يسقط عليهم فلذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلاّ على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة .
نشر موسى الألواح فيها كتاب الله كتب بيده لم يبقَ على وجه الأرض جبل ، ولا بحر ولا حجر إلاّ اهتزّ فليس اليوم يهودي على الأرض صغير ولا كبير يقرأ عليه التوراة إلاّ اهتزّ وتعفّر لها رأسه .
( ) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِىءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذاَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِىءاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذاَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَائِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( 2
الأعراف : ( 172 ) وإذ أخذ ربك . . . . .
) وإذ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ( .
(4/302)

" صفحة رقم 303 "
قال المفسّرون : لمّا خلق الله عزّ وجلّ آدم مسح ظهره وأخرج منه ذريته كلهم وهي الذرية واختلفوا في موضع الميثاق .
فقال ابن عباس : يسكن نعمان واد إلى جنب عرفة ، وروي فيه أيضاً أنّ ذلك ( برهبا ) أرض بالهند وهو الموضع الذي أهبط الله فيه آدم ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال الكلبي : بين مكّة والطائف . وقال السدي : أخرج الله آدم من الجنّة ولم يهبط من السماء ثمّ مسح ظهره وأخرج ذريته . قالوا : فأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء فقال لهم : ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال . وأصحاب المنامة .
وقال لهم : جميعاً أعلموا أن لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئاً فإنّي مرسل إليكم رجالاً يذكرونكم بعهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتباً فتكلّموا وقالوا : شهدنا بأنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك ، فأقرّوا يومئذ كلهم طائفة طائعين . وطائفة على وجه التقدير تقيّة ، فأخذوا بذلك مواثيقهم وسُمّيت آجالهم وأرزاقهم وحسابهم فنظر إليهم آدم ، ورأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : رب لولا سويت بينهم ، فقال : إنّي ( أحببت أن ) أشكر .
قالوا : وفيهم الأنبياء يومئذ أمثال السرج فرأى آدم نوراً ساطعاً فقال : من هذا ؟ فقال : هذا داود نبي من ذريتك قال : كم عمره ؟ قال : ستّون سنة قال : رب زده .
قال : جرى القلم بآجال بني آدم ، قال : رب زده من عمري أربعين سنة ، فأثبت لداود أربعين وكان عمر آدم ألف سنة ، فلما استكمل آدم تسعمائة وستين سنة جاء ملك الموت ، فلما رآه آدم قال : مالك ؟ قال : استوفيت أجلك ، قال له آدم : بقي من عمري أربعون سنة ، قال : أليس قد وهبتها لداود ؟ قال : لا فجحد آدم ، فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته ، وخطأ فخطئت ذريته ، فرجع الملك إلى ربه فقال : إن آدم يدعي أنه بقي من عمره أربعون سنة ، قال : أخبر آدم أنه وهبها لابنه داود ( عليه السلام ) والأقلام بطيئة فأثبتت لداود ، فلما قررهم بتوحيده وآثر بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتّى يولد كل من أخذ ميثاقه ولا يزداد فيهم ولا ينقص عنهم ، فذلك قوله تعالى ) وإذ أخذ ربّك من بني آدم ( ونظم الآية : وإذا أخذ ربّك من ظهر بني آدم ذريتهم ، ولم يذكر أمر آدم فإنما أعرجوا يوم الميثاق في ظهره ، لأن الله عزّ وجلّ أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء ، فاستغنى عن ذكر
(4/303)

" صفحة رقم 304 "
ظهر آدم بقوله ( من بني آدم ) فلما علم أنهم كلهم بنوه و ( خرجوا ) من ظهره ترك ذكر ظهر آدم وذكر ظهور بنيه .
وقوله : ) ذرّياتهم ( قرأ أهل مكة والكوفة : ذريتهم بغير ألف على الواحد ، وقرأ الباقون على الجمع بالألف ) وأشهدهم على أنفسهم ( وقال لهم ) ألستُ بربكم ( سؤال تقرير ) قالوا ( جميعاً ) بلى ( أنت ربّنا ) شهِدنا أن تقولوا ( قرأ ابن عباس وابن محيصن وأبو عمرو : ( يقولوا ) بالباء ، والباقون بالتاء كقوله : ) ألست بربكم ( ، واختلفوا في قوله : ( شهدنا ) فقال السدي : خبر من قوله تعالى عن نفسه وعن ملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم ، وقال الآخرون : بل ذلك على إقرار بني آدم حين أشهد بعضهم على بعض أن يقولوا يعني أن لا يقولوا ) يوم القيامة إنا كنا عن هذا ( الميثاق والإقرار ) غافلين }
الأعراف : ( 173 ) أو تقولوا إنما . . . . .
) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذريةً من بعدهم ( فاتبعناهم ) أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( يعني المشركين وإنما اقتدينا بهم وكنا في غفلة عن التوحيد
الأعراف : ( 174 ) وكذلك نفصل الآيات . . . . .
) وكذلك نفصل الآيات ( لقومك يامحمد ) ولعلهم يرجعون ( عن كفرهم
الأعراف : ( 175 ) واتل عليهم نبأ . . . . .
) واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ( اختلفوا فيه .
فقال عبد الله بن مسعود : هو بلعم بن ابرة . وقال ابن عباس : هو بلعم بن باعورة . وقال مجاهد : هو بلعام بن باعر . وقال مقاتل : هو بلعام بن باعور بن ماث بن لوط . عطية عن ابن عباس : هو من بني إسرائيل .
وقال عليّ بن أبي طلحة : هو من الكنعانيين من مدينة الجبارين ، وقال مقاتل : هو من مدينة بلقا ، وسميت بلقا لأن ملكها كان رجلاً يقال له : بالق وكانت وصيته على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم : إن موسى ( عليه السلام ) لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتي قوم بلعم إلى بلعم وكان عنده اسم الله الأعظم .
فقالوا : إن موسى رجل شديد ومعه جنود كثيرة وإنّه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنا قومك وبنو عمك وليس لنا قول وأنت رجل مجاب الدعوة فأخرج وادع الله تعالى أن يرد عنا موسى وقومه فقال : ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي . وقالوا ما لنا من ( نزل ) وراجعوه في ذلك قال : حتى أُءامر ربّي ، وكان لا يدعو حتّى ينظر ما يؤمر في المنام فيأمرني الدعاء عليهم .
فقيل له في المنام : لا تدع عليهم ، فقال لقومه : إني قد أُمرت ربّي في الدعاء عليهم وإنّي قد نُهيت ، فهدوا له هدية ، فقبلها ثمّ راجعوه وقالوا : أدع عليهم ، فقال : حتّى أؤمر فلما أُمّر لم يجيء إليه شيء . فقال : قد أُمّرت فلم يجيء إليّ شيء ، فقالوا : لو كره ربّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى . فلم يزالوا به ( يروقونه ) ويتضرعون إليه حتّى فتنوه فافتن فركب ( أتاناً ) له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له جسبان
(4/304)

" صفحة رقم 305 "
فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتّى إذا أذاقها قامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتّى ربضت ، ففعل بها مثل ذلك فقامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتّى ربضت فضربها حتّى إذا أذاقها أذن الله لها بالكلام فتكلمت حجة عليه فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا لنذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم ، فلم ينزع عنها فخلّى الله سبيلها فانطلقت حتّى إذا أشرقت به على جبل جسبان جعل يدعو عليهم فلا يدعو عليهم بشيء إلاّ صرف به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلاّ صرف مسألته إلى بني إسرائيل .
فقال له قومه : أتدري يابلعم ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا ، قال : فهذا ما لا أملك هذا شيء قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم : قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة ، فلم يبقَ إلاّ المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال ، اجملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثمّ أرسلوهن إلى العسكر يتعدوا فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنا رجل واحد منهم يفتنوهم ففعلوا .
فلمّا دخل النساء العسكر مرَّت امرأة بين الكنعانيين اسمها بشتي بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل يُقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ( عليه السلام ) فقام إليها فأخذ بيدها حين أَفْتنه جمالها ثمّ أقبل حتّى وقف على موسى فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها قال : فوالله لا نطيعك في هذا ثمّ دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت .
وكان لفنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى رجلٌ قد أعطى بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون ( يمجّس ) في بني إسرائيل وأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلّها ثمّ دخل عليه القبة وهما متضاجعان ( فاستقبلها ) بحربته ثمّ خرج بهما رافعاً بهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته .
وكان ( يكره العيزار ) وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون . فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من نهار ، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص كل ذبيحة ذبحوها الفشة والذراع واللحى ، لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وبإسناده إياها إلى لحيته ، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنّه كان ( بكراً ) لعيزار بن هارون وفي بلعم أنزل الله تعالى : ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ( الآية
(4/305)

" صفحة رقم 306 "
وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام : أدعُ على موسى ، فقال : إنه من أهل ديني لا أدعو عليه فنصبت خشبة ليصلب فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليهم ، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها فقالت : لم تضربني إني مأمورة فلا تظلمني وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع وأخبر الملك ، فقال : لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم ألا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى : يارب ( بأي ) ذنب وقعنا في التيه قال : بدعاء العالم ، قال : فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله تعالى مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله تعالى ) فانسلخ منها ( فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية .
وقال عبد الله بن عمر بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم و أبو روق : نزلت هذه الآية في أُميّة بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصّته أنّه كان في ابتداء ( أمره ) قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو ذلك الرسول .
فلما أرسل محمد ( عليه السلام ) حسده وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مرَّ على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد فقال : لو كان نبياً ما قتل أقرباءه . فلمّا مات أميّة أتت أخته فارعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن وفاة أخيها فقالت : بينا هو قد ( أتانا فنام على سريري فأقبل طائران ) ونزلا فقعد أحدهما عند رجله والآخر عند رأسه فقال الذي عند رجله للذي عند رأسه : أَدُعي ؟ قال : دُعي ، قال : أزكّي ؟ قال : أبى ، قالت : فسألته عن ذلك . قال : خيراً زيدي ، فصرف عني ثمّ غشي عليه فلما أفاق قال :
كل عيش وإن تطاول دهراً
صائر أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما بدا لي
في قلال الحبال أرعى الوعولا
يوم الحساب يوم عظيم
شاب فيه الصغير نوماً ثقيلاً
ثمّ قال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنشديني شعر أخيك . فأنشدته :
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا
ولا شيء أعلى منك جداً وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وهي قصيدة طويلة حتّى أتت على آخرها . وأنشدته قصيدته :
وقف الناس للحساب جميعاً
فشقي معذب وسعيد
ثمّ أنشدته قصيدته التي فيها
(4/306)

" صفحة رقم 307 "
عند ذي العرش يعرضون عليه
يعلم الجهر والسرار الخفيا
يوم يأتي الرحمن وهو رحيم
إنّه كان وعده مأتياً
يوم يأتيه مثل ما قال فرد
ثم لابد راشداً أو غوياً
أو سعيداً سعادة أنا أرجو
أو مهاناً لما اكتسبت شقياً
إن أوءاخذ بما أجرمت فإني
سوف ألقى في العذاب قوياً
ورب إن تعفو فالمعافاة ظنّي
أو تعاقب فلم تعاقب بريّاً
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آمن شعره وكفر قلبه .
وأنزل الله عزّ وجلّ : ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ( الآية .
ومنهم مَنْ قال : إنها نزلت في البسوس .
وكان رجلاً قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات . وكانت له امرأة وكان له منها ولد فقالت له : اجعل منها دعوة واحدة لي . فقال : لك منها واحدة ، فما تريدين ؟ فقالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا لها فجعلت أجمل امرأة في بني إسرائيل . فلما علمت أنّه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الرجل . ودعا عليها فصارت كلبة نبّاحة فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها فقالوا : ليس لنا على هذا قرار دعوت على أمّنا فصارت كلبة نبّاحة والناس يُعيروننا أدعو الله أن يردها على الحال التي كانت عليها ، فدعا الله عزّ وجلّ فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات .
وقال سعيد بن المسيب : نزلت في أبي عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سمّاه النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق .
وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوخ فقدم المدينة وقال للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ما هذا الذي جئت به .
قال : ( جئت بالحنفية دين إبراهيم ) ، فقال : أنا جئتها ، فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( لست عليها ولكنك أدخلت إبليس فيها ) ، فقال أبو عامر : أمات الله كاذباً منا طريداً وحيداً فخرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا القوّة والسلاح وابنوا إلي مسجداً ثمّ أتى الراهب قيصر وأتى بجند ليُخرج النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه من المدينة فذلك قوله : ) وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله ( يعني انتظاراً لمجيئه فمات بالشام طريداً وحيداً .
وقال عبادة بن الصامت : نزلت في قريش أتاهم الله الآيات فانسلخوا منها فلم يقبلوها ،
(4/307)

" صفحة رقم 308 "
فقال الحسن وابن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) كما يعرفون أبناءهم .
وقال عمرو بن دينار : سُئل عكرمة عن هذه الآية فقال : هذا وهذا ليست في خاصة .
وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله فذلك قوله : ) واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ( .
وقال ابن عباس والسدي : هي اسم الله الأعظم . وقال ابن زيد : كان لا يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه .
وقال ابن عباس في رواية أُخرى : أعظم أنها كتاباً من كتب الله . مجاهد : هو نبي من بني إسرائيل يقال له بلعم أوتي النبوّة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه .
) فانسلخ ( ( خرج ) ) منها ( كما تنسلخ الحيّة من جلدها ) فأتبعه الشيطان ( أي لحقه وأدركه ) فكان من الغاوين }
الأعراف : ( 176 ) ولو شئنا لرفعناه . . . . .
) ولو شئنا لرفعناه بها ( أي فضلناه وشرفناه ورفعنا منزلته بالآيات .
وقال ابن عباس : رفعناه بها .
وقال مجاهد وعطاء : يعني لرفعنا عنه الكفر بالآيات وعصمناه .
) ولكنه أخلد إلى الأرض ( قال سعيد بن جبير : ركن إلى الأرض . مجاهد : سكن . مقاتل : رضي بالدنيا . أبو عبيدة : لزمها وأبطأ ، والمخلد من الرجال هو الذي يبطئ شيبه ومن الدواب التي تبقى ثناياه حتّى تخرج رباعيتاه .
قال الزجاج : خلد وأخلد واحد وأجعله من الخلود وهو الدوام والمقام يقال خلد فلان بالمقام إذا أقام به . ومنه قول زهير
لمن الديار غشيتها بالغرقد
كالوحي في حجر المسيل المخلد يعني : المقيم .
وقال مالك بن نويرة :
فما نبأ حيّ من قبائل مالك
وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
) واتبع هواه ( قال الكلبي : يتبع ( خسيس ) الأمور ويترك معاليها
(4/308)

" صفحة رقم 309 "
وقال أبو روق : اختار الدنيا على الآخرة . وقال ابن زيد : كان هواه مع ( القدم ) قال عطاء : أراد الدنيا وأطاع شيطانه ، وقال يمان : واتبع هواه أي امرأته لأنّها حملته على الخيانة .
) فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ( قال مجاهد : هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به ، وقال ابن جريج : الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع .
وروى معمر عن بعضهم قال : هو الكافر ضال إن وعظته أو لم تعظه .
قال ابن عباس : معناه إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تتركه لم يهتدِ بخير كالكلب إن كان ( رابضاً ) لهث وإن طرد لهث .
وقال الحسن : هو المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ ( كالكلب ) يلهث طرد أو ترك ، قال عطاء : ينبح إن يحمل عليه وإن لم يحمل ، وقال القتيبي : كل شيء يلهث من إعياء أو عطش إلاّ الكلب ، فإنّه يلهث في حال الكلال وحال الراحة ، وحال الصحة وحال المرض ، وحال ( الجوع ) وحال العطش فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته .
فقال : إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته لهث ونظيره قوله ) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون ( ) ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلّهم يتفكرون ( روى محمد بن إسحاق عن سالم ( أبي الخضر ) قال : يعني مثل بني إسرائيل أي إن جئتهم بخبر ما كان فيهم ما غاب عنك ( لعلهم يتفكرون ) .
فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلاّ نبي يأتيهم خبر السماء
الأعراف : ( 177 ) ساء مثلا القوم . . . . .
) ساء مثلاً ( أي بئس المثل مثلاً حال من المثل المضمر .
كما قال جرير :
فنعم الزاد زاد أبيك زاداً
هذا إذا جعلت ( ساء ) من فعل المثل ورفعت القوم بدلاً من الضمير فيه . وإن حولت فعله إلى القوم ورفعتهم به كان ( انتهاء ) به على التمييز ، يريد سأمثل القوم فلما حولته إليهم خرج المثل مفسّراً كما يقال : قربه عيناً وضاق ذرعاً ، متى ما سقط التنوين عن المميز ( المخفض ) بالإضافة دليله قراءة ( الجحدري ) والأعمش سأمثّل القوم بالاضافة ، وقال أبو حاتم : يريد بها ( مثلاً ) مثل القوم فحذف مثل .
(4/309)

" صفحة رقم 310 "
وأقام القوم ( به أُمّة ) فرفعهم كقوله : ) واسأل القرية ( ) وأنفسهم كانوا يظلمون ( إلى قوله تعالى
الأعراف : ( 178 - 179 ) من يهد الله . . . . .
) ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ( وإنما قال ذلك لنفاد علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربهم ويُسمّي بعض أهل المعاني هذه اللام لام ( الصيرورة ) فيه كقوله : ) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ( . وأنشدوا :
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
( ودورنا ) لخراب الدهر نبنيها
وقال الآخر :
فللموت تغدو الوالدات سخالها
كمالخراب الدهر تبنى المساكن
وروى عبد الله بن عمرو عن النبييّصلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : ( إن الله تعالى كما ذرأ لجهنم ما ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم ) ، ثمّ وصفهم فقال ) لهم قلوب لا يفقهون بها ( ولا يعلمون الخير والهدى ) ولهم أعين لا يبصرون بها ( طريق الحق والرشاد ) ولهم آذانٌ لا يسمعون بها ( مواعظ الله والقرآن فيفكرون ويعتبرون بها فيعرفون بذلك توحيد الله ثمّ يعملون بتحقيق ( النبوّة ) فآتينا بهم ثمّ ضرب لهم مثلاً في الجهل والاقتصاد على الشرب والأكل وبعدهم من موجبات العمل . وقال عز من قائل ) أُولئك كالأنعام بل هم أضل ( لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره ويطيعوه والكافرون لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه وفي الخبر : ( كل شيء أطوع لله من ابن آدم ) .
) أُولئك هم الغافلون (
.
) وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىأَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ وَأَنْ عَسَىا أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 2
الأعراف : ( 180 ) ولله الأسماء الحسنى . . . . .
) ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ( قال مقاتل : وذلك أن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن ، فقال رجل من مشركي مكة : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما
(4/310)

" صفحة رقم 311 "
بال هذا يدعو ربين اثنين ، فأنزل الله ) ولله الأسماء الحسنى ( وهو تأنيث الأحسن كالكبرى والأكبر والصغرى والأصغر ، والأسماء الحسنى هي الرحمن الرحيم . الملك القدوس السلام ونحوها .
الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً ، مائة غير واحدة ، من أحصاها كلّها دخل الجنّة ) .
) وذروا الذين يُلحدون في أسمائه ( . قال ابن عباس : يكذبون ، وقال قتادة : يشركون ، وقال عطاء : ظامئون ، زيد بن أسلم : يميلون عن الحق . ابن عباس ومجاهد : هم المشركون . وإلحادهم في أسماء الله عز وجل أنهم عدلوا بها عمّا هي عليه فسموا بها أوثانهم وزادوا فيها ونقصوا منها فاشتقوا اللات من الله تعالى والعزّى من العزيز ومنات من المنّان .
وقال أهل المعاني : الإلحاد في أسماء الله تعالى يسميه بما لم يسم به ولا ينطق به كتاب ولا دعا إليه رسول ، وأصل الإلحاد الميل والعدول عن القصد ومنه لحد القبر . فيقال : ألحد يلحد إلحاداً ولحد يلحد لحداً ولحوداً إذا مال .
وقد قرئ بهما جميعاً فقرأ يحيى بن رئاب والأعمش وحمزة : بفتح الياء والحاء هاهنا وفي النحل ( رحم ) . وقرأ الباقون : بضم الياء وكسر الحاء وهما لغتان ( صحيحتان ) .
وأمّا الكسائي فإنّه قرأ التي في النحل بفتح الياء والحاء وفي الأعراف ( رحم ) بالضم وكل يفرق بين الإلحاد واللحود فيقول : الالحاد العديل عن القصد واللحد واللحود الركون ، ويزعم أن التي في النحل يعني الركون ) سيجزون ما كانوا يعملون ( في الآخرة
الأعراف : ( 181 ) وممن خلقنا أمة . . . . .
) وممن خلقنا أُمة ( عصبة ) يهدون بالحق وبه يعدلون ( قال قتادة وابن جريج : بلغنا أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية فقال : هي أحق بالحق يأخذون ويقضون ويعطون وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) .
قال الربيع بن أنس : قرأ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية فقال : ( إن من أمتي قوماً على الحق حتّى ينزل عيسى ) ( عليه السلام ) .
عن عمير بن هاني قال : سمعت معاوية على هذا المنبر يقول : سمعت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : لا يزال من أُمّتي أُمّة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من غالطهم حتّى يأتي أمر الله عزّ وجلّ ، وهم ظاهرون على الناس )
(4/311)

" صفحة رقم 312 "
وقال ابن حيان : هم مؤمنو أهل الكتاب . وقال عطاء : هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان قد سماهم الله تعالى في سورة براءة . وقال الكلبي : هم من جميع الخلق
الأعراف : ( 182 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . .
) والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( قال بعضهم : سنأخذهم بالعذاب ، وقال الكلبي : نزّين لهم أعمالهم فنهلكهم . وقال الضحاك : كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة ، وقال الخليل بن أحمد : سنطوي وإن أعمارهم في اغترار منهم .
وقال أبو عبيدة والمؤرخ : الاستدراج أن يأتيه من حيث لا يعلم .
وقال أهل المعاني : الاستدراج أن ندرج إلى الشيء في خفيّة قليلاً قليلاً ولا يباغت ولا يجاهر . يقال : استدرج فلاناً حتّى تعرف ما صنع أي لا يجاهر ولا يهجم عليه ، قال : ولكن استخرج ما عنده قليلاً قليلاً وأصله من ( الدرج ) وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة فاستعير ( هذا عنه ) . ومنه الكتاب إذا طوى شيئاً بعد شيء ، ودرج القوم إذا مات بعضهم في دار بعض ، ودرج الصبي إذا قارب من خطاه في المشي
الأعراف : ( 183 ) وأملي لهم إن . . . . .
) وأُملي لهم ( يعني أُمهلهم وأطيل من الملاواة وهو الدهر ، ومنه مليت أي غشت دهراً ) إن كيدي متين ( أي أخذي قوي مديد قلت : في المستهزئين ، فقتلهم الله في ليلة واحدة
الأعراف : ( 184 ) أولم يتفكروا ما . . . . .
) أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنَّة ( قتادة : ذكر لنا أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام على الصفا ليلاً فجعل يدعو قريشاً فخذاً فخذاً يابني فلان يابني فلان يحذرهم بأس الله عزّ وجلّ ، ووقائعه فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت حتى الصباح فأنزل الله ) أولم يتفكّروا ما بصاحبهم من جنّة ( . ما بمحمد من جنون .
) إن هو ( ما هو ) إلاّ نذير مبين ( مخوف
الأعراف : ( 185 ) أولم ينظروا في . . . . .
) أو لم ينظروا في ملكوت ( ملك ) السماوات والأرض وما خلق الله ( فيهما ) من شيء وأن عسى ( وهي أن لعلّ ) أن يكون قد اقترب أجلهم ( فيهلكوا على الكفر ويصبروا إلى العذاب ) فبأي حديث بعده ( بعد القرآن ) يُؤمنون ( ثمّ بيّن العلّة في إعراضهم عن القرآن وتركهم الإيمان فقال عز من قائل :
الأعراف : ( 186 ) من يضلل الله . . . . .
) من يضلل الله فلا هادي ( فلا مرشد له ) ويذرهم ( قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بالياء ، لأن ذكر الله سبحانه قد مرَّ من قبل . والباقون بالنون ، لأنّه كلام ( مستأنف ) ومن جزم الراء فهو ممدود على يضلل .
( ) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (
(4/312)

" صفحة رقم 313 "
الأعراف : ( 187 ) يسألونك عن الساعة . . . . .
) يسألونك عن الساعة ( قال ابن عباس : قال ( وجيل ) بن أبي فشير وسمؤال بن زيد : وهما من اليهود : يامحمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً كما تقول فلنعلم متى هي ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال قتادة : قالت قريش لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إن بيننا وبينك قرابة فأشر إلينا متى الساعة فأنزل الله ) يسألونك عن الساعة ( يعني القيامة ) أيان ( متى ، ومنه قول الراجز :
أيان تقضي حاجتي أيانا
أما ترى لنجحها إبانا
) مرساها ( قال ابن عباس : ومنتهاها ، وقال قتادة : قيامها . وأصل الكلمة الثبات والحبس ) قل إنّما علمها عند ربّى ( استأثر بعلمها ) لا يُجليها إلاّ هو ( لا يجليها لا يكشفها ولا يظهرها .
وقال مجاهد : لا يأتي بها ، وقال السدي : ( لا يرسلها ) لوقتها إلاّ هو ) ثقلت في السماوات والأرض ( يعني ثقل علمها على أهل السموات والأرض لخفائها فلا يعرفون مجيئها ووقتها فلم يعلم قيامها مَلَك مقرّب ولا نبي مرسل .
وقال الحسن : يقول إذا جاءت ثقلت على السموات والأرض وأهلها وكبرت وعظمت وذلك أنها إذا جاءت انشقت السموات وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال . وليس من الخلق شيء إلاّ ويصيبه ضرر الساعة وثقلها ومشقتها ) لا تأتيكم إلاّ بغتةً ( فجأة على غفلة منكم .
سعيد عن قتادة قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول ( إن الساعة تهيج الناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه ) .
وعن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قال جبرئيل : تقوم الساعة عند ثلاث مواطن : إذا كثر القول وقلّ العمل وعند قلّة المواشي حتّى يمضي كل رجل ممّا عنده ، وإذا قال الناس من يذكر الله فيها بدعة ) .
) يسألونك كأنك حفيّ عنها ( قال أهل التفسير في الآية تقديم وتأخير تقديرها . يسألونك عنها كأنّك حفي أي ( بار فيهم ) صديق لهم قريب ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقال مجاهد والضحاك : كأنّك عالم بها وقد يوضع عن موضع مع الياء ) قل علمها عند الله ( إلى قوله ( نفعاً وضراً ) .
فقال ابن عباس : إن أهل مكة قالوا : يامحمد ألا يخبرك بالسعر الرخيص قبل أن يغلا فتشتريه فتربح فيه ، والأرض الذي تريد أن تجذب فترتحل منها إلى ما قد أخصبت فأنزل الله
(4/313)

" صفحة رقم 314 "
تعالى
الأعراف : ( 188 ) قل لا أملك . . . . .
) قل ( يامحمد ) لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ( أي اجتناب نفع ولا دفع ) إلاّ ما شاء الله ( أي أملكه بتمليكه إياي ) ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ( يعني المال وتهيأت لسنة القحط ما يكفيها ) وما مسّني السوء ( وما مسّني الله ( بسوء ) .
وقال ابن جريج : ) قل لا أملك نفعاً ولا ضراً ( يعني الهدى والضلالة ولو كنت أعلم الغيب متى أموت لاستكثرت من الخير من العمل الصالح وما مسّني السوء .
قال ابن زيد : فاجتنبت ما يكون من الشر وأتقيه . قال بعض أهل المعاني : ( لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من معرفته حتّى لا يخفى عليّ شيء ) وما مسني السوء ( يعني التكذيب .
وقال مقاتل : هذا متصل بالكلام الأول معناه : لا أقدر أن ( أسوق ) لنفسي خيراً أو أدفع عنها شراً حتّى ينزل بي فكيف أعلم وأملك علم الساعة ؟ وتمام الكلام قوله : لاستكثرت من الخير ، ثم ابتدأ فقال : ( وما مسّني السوء ) ( يعني الجنون ) .
وقيل يعني لم يلحقني تكذيب ) إن أنا إلاّ نذير وبشير لقوم يؤمنون ( يصدقون .
2 ( ) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ ( 2
الأعراف : ( 189 ) هو الذي خلقكم . . . . .
) هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( يعني آدم ( عليه السلام ) ) وجعل منها زوجها ( خلق منها حواء ) ليسكن إليها ( يستأنس إليها ويأوي إليها لقضاء حاجته ) فلما تغشاها ( واقعها وجامعها ) حملت حملاً خفيفاً ( وهو ماء الرجل خفيف عليها ) فمرّت ( أي استمرت ) به ( وقامت وقعدت ولم تكترث بحملها ، يدل عليه قراءة ابن عباس : فاستمرت به .
وقال قتادة : ( فمرّت به ) أي استبان حملها . وقرأ يحيى بن يعمر ( فمرت ) خفيفة الراء من لمرية أي : شكّت أحملت أم لا ؟ ) فلما أثقلت ( أي كبر الولد في بطنها وتحرك وصارت ذات ثقل بحملها كما يقال : أثمر إذا صار ذا ثمر ) دعوا الله ربّهما ( يعني آدم وحواء ) لئن آتيتنا ( ياربنا ) صالحاً ( .
قال الحسن : غلاماً ذكراً . وقال الآخرون : بشراً سويّاً مثلنا ) لنكونن من الشاكرين ( وذلك أنهما أشفقا أن يكون بهما أو شيئاً سوى آدمي أو غير سوي .
(4/314)

" صفحة رقم 315 "
قال الكلبي : إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال : ما هذا الذي في بطنك قالت : ما أدري ، قال : إني أخاف أن يكون بهيمة ، فقالت ذلك لآدم ، فلم يزالا في نِعَم من ذلك ثمّ عاد إليها فقال : إني من الله ( منزّل ) فإن دعوت الله فولدت انساناً ( أتسميّنه فيّ ) قالت : نعم ، قال : فإنّي أدعو الله فأتاها وقد ولدت فقال : سميه باسمي ، فقالت : وما اسمك ؟ قال : الحارث ، ولو سمّى نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث .
وقال سعيد بن جبير : لما هبط آدم وحواء ( عليهما السلام ) الأرض أُلقيت الشهوة في نفس آدم فأصابها فحملت فلما تحرك ولدها في بطنها جاءها إبليس فقال ما هذا ( ماترين ) في الأرض إلاّ ناقة أو بقرة أو ضاينة أو ( كاجزة ) أو نحوها فما يدريك ما في بطنك لعله كلب أو خنزير أو حمار وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك فيقتلك أو أذنك أو عينيك أو فيك أو يشق بطنك فيقتلك ، فخافت حواء من ذلك قال : فأطيعيني وسميه عبد الحرث . وكان اسمه في الملائكة الحرث ، تلدين شبيهكما مثلكما ، فذكرت ذلك لأدم فقال : لعلّه صاحبنا الذي قد علمت ، فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتّى غرهما فسمّياه عبد الحرث .
قال السدي : ولدت حواء غلاماً فأتاها إبليس فقال سموه بي وإلاّ قتلته ، قال له آدم : قد أطعتك فأخرجتني من الجنّة ، فأبى أن يطيعه فمات الغلام ، فحملت بآخر فلما ولدته قال لهما مثل ذلك فأبيا أن يطيعاه ، فمات الولد ، فحملت بآخر فأتاهما وقال لهما : إذ غلبتماني فسمياه عبد الحرث ، وكان اسم إبليس الحرث .
ولم يشعروا به فوالله لا أزال أقتلهم حتّى تسمياه عبد الحرث . كما قتلت الأول والثاني فسمياه عبد الحرث فعاش .
وقال ابن عباس : كانت حواء تلد لآدم فتسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال : إن ( وعدتكما ) أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث فولدت ابناً فسمياه عبد الحرث ففيهما أنزل الله عزّ وجلّ
الأعراف : ( 190 ) فلما آتاهما صالحا . . . . .
) فلما أتاهما صالحاً ( أي ولداً بشراً سوياً حياً آدمياً ) جعلا له شركاء ( .
قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وأبان بن ثعلب وعاصم وعكرمة وأهل المدينة شركاء بكسر الشين والتنوين أي شركه .
قال أبو عبيدة : أي حظاً ونصيباً من غيره ، وقرأ الباقون شركاء مضمومة الشين ممدودة على جمع شريك أخبر عن الواحد بلفظ الجمع ، لقوله تعالى ) الذين قال لهم الناس إن الناس قد
(4/315)

" صفحة رقم 316 "
جمعوا لكم ( مفرداً ، تم الكلام هاهنا ثمّ قال : ) فتعالى الله عما يشركون ( يعني أهل مكة .
واختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء فقال المفسرون : كان شركاء في التسمية والصفة لا في العبادة والربوبية .
وقال أهل المعاني : أنهما لم يذهبا إلى أن الحرث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحرث لكنهما قصدا إلى أن الحرث سبب نجاة الولد وسلامة أُمّه فسمياه ، كما ( يُسمى ) ربّ المنزل ، وكما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له لا على أن الضيف ربّه .
كما قال حاتم :
وإنّي لعبد الضيف ما دام ثاوياً
وما فيّ إلاّ تلك من شيمة العبد
وقال قوم من أهل العلم : إن هذا راجع إلى المشركين من ذرية آدم وإن معناه جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كقوله تعالى ) واسأل القرية ( وكما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تفريقهم بفعل آبائهم ، فقال لليهود الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمّ اتخذتم العجل من بعده . وقال ) وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها ( . وقال سبحانه : ) فلم تقتلون أنبياء الله ( ونحوها ، ويدل عليه ما روى معمر عن الحسن قال : عني بهذا من أشرك من ذرية آدم ولم يكن عنى آدم .
وروى قتادة عنه قال : هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصّروا .
وقال ابن كيسان : هم الكفار جعلوا لله شركاء عبد العزى وعبد مناة .
وقال عكرمة : لم يخص بها آدم ولكن جعلها عامة لجميع بني آدم من بعد آدم .
قال الحسين بن الفضل : وهذا حجب إلى أهل النظر لما في القول الأول من إلصاق العظائم بنبي الله آدم ( عليه السلام ) ويدل عليه جمعه في الخطاب حيث قال : ) هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( ، ثمّ قال : ) فلما تغشاها ( انصرف من ذلك الخطاب إلى الخبر يعني فلما تغشى الرجل منكم امرأته .
الأعراف : ( 191 ) أيشركون ما لا . . . . .
قال الله عزّ وجلّ : ) أيشركون ( يعني كفار مكة ) ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ( يعني الأصنام .
قال ابن زيد : ولد لآدم ولد فسمياه عبد الله فاتاهما إبليس فقال : ما سميتما ابنكما هذا
(4/316)

" صفحة رقم 317 "
قال : وكان ولد لهما قبل ذلك ولد سمياه عبد الله فمات فقالا : سميناه عبد الله ، فقال إبليس : أتظنان أن الله تارك عبده عندكما لا ( والله ) ليذهبن كما ذهب الآخر ، ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما فسمياه عبد شمس .
فذلك قوله ) أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ( . الشمس لا تخلق شيئاً حتّى يكون لها عبداً إنّما هي مخلوقة قال : وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خدعهما مرتين خدعهما في الجنّة وخدعهما في الأرض ) .
والذي يؤيد القول الأول قراءة السلمي : أتشركون بالتاء .
الأعراف : ( 192 - 193 ) ولا يستطيعون لهم . . . . .
) ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى ( يعني الأصنام ) لا يتبعوكم ( لأنها غير عاقلة ) سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ( ساكتون
الأعراف : ( 194 - 195 ) إن الذين تدعون . . . . .
) إن الذين تدعون من دون الله عباد ( مخلوقة مملوكة مقدرة مسخرة ) أمثالكم ( أشباهكم ) فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ( أنّها آلهة .
) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها ( يأخذون بها ) أم لهم أعين يبصرون بها أم آذان يسمعون بها قل أُدعو شركاءكم ( يامعشر المشركين ) ثمّ كيدوني ( أنتم وهم ) فلا تنظرون (.
) إِنَّ وَلِيِّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبِّى هَاذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالاَْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( 2
الأعراف : ( 196 - 198 ) إن وليي الله . . . . .
) إن وليَّ الله الذي ( يعني الذي ( يحفاني ) ويمنعني منكم الله ) نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ( يامحمد يعني الأصنام ) ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( وهذا كما يقول العرب : داري ينظر إلى دارك أي يقابلها .
(4/317)

" صفحة رقم 318 "
ويقول العرب : إذا أتيت مكان كذا فنظر إليك الحمل فخذ يميناً وشمالاً أي : استقبلك .
وحدث أبو عبيدة عن الكسائي قال : الحائط ينظر إليك إذا كان قريباً منك حيث تراه . ومنه قول الشاعر :
إذا نظرت بلاد بني تميم
بعين أو بلا بني صباح
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا زكريا العنبري يقول : معناه : وتراهم كأنهم ينظرون إليك كقوله : ) وترى الناس سكارى ( أي كأنهم سكارى وإنّما أُخبر عنهم بالهاء والميم ، لأنّها مصوّرة على صورة بني آدم مخبرة عنها بأفعالهم .
الأعراف : ( 199 ) خذ العفو وأمر . . . . .
) خذ العفو ( قال مجاهد : يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تخميس .
قال ابن الزبير : ما أنزل الله تعالى هذه الآية إلاّ في أخلاق الناس .
وقال ابن عباس والسدي والضحاك والكلبي : يعني ماعفا لك من أموالهم وهو الفضل من العيال والكل فما أتوك به عفواً فخذه ولا تسألهم ما ذرأ ذلك .
وهذا قبل أن ينزل فريضة الصدقات . ولما نزلت آية الصدقات نسخت هذه الآية وأمر بأخذها منهم طوعاً وكرهاً ) وأمر بالعرف ( أي بالمعروف . قرأ عيسى بن عمر : العُرُف ضمتين مثل الحُلُم وهما لغتان والعرف المعروف والعارفة كل خلصة حميدة فرضتها العقول وتطمئن إليها النفوس . قال الشاعر :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
قال عطاء : وأمر بالعرف يعني لا إله إلاّ الله ) وأعرض عن الجاهلين ( أبي جهل وأصحابه نسختها آية السيف . ويقال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لجبرئيل : ( ما هذه ؟ قال : لا أدري حتّى أسأل ، ثمّ رجع فقال : يا محمد إن ربّك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ) . فنظم الشاعر فقال :
مكارم الأخلاق في ثلاث
من كملت فيه فذاك الفتى
إعطاء من يحرمه ووصل من
يقطعه والعفو عمن عليه اعتدى
قال جعفر الصادق : ( أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية ) .
(4/318)

" صفحة رقم 319 "
قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحمهما الله ) .
وقالت عائشة : مكارم الأخلاق عشرة : صدق الحديث . وصدق البأس في طاعة الله . وإعطاء السائل . ومكافأة الصنيع . وصلة الرحم . وأداء الأمانة . والتذمم للصاحب . والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء .
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المذكور أنشدنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أنشدنا ابن أبي ( الدنيا ) أنشدني أبو جعفر القرشي .
كل الأمور تزول عنك وتنقضي
إلاّ الثناء فإنه لك باق
9 لو أنني خُيّرتُ كل فضيلة
ما اخترت غير مكارم الأخلاق
الأعراف : ( 200 ) وإما ينزغنك من . . . . .
قال عبد الرحمن بن زيد : لما نزلت هذه الآية قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيف يارب ( والغضب ) ) فنزل ) وأمّا ينزغنّك من الشيطان ( يعني يصيبنك ويفتننك ويغرنك ويعرض لك من الشيطان ) نزغ ( وأصله الولوع بالفساد والشر .
يقال نزغ عرقه إذا ( جُنَّ ) وهاج ، وفيه لغتان : نزغ ونغز ، يقال : إياك والنزاغ والنغاز وهم المورشون .
وقال الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون من الإنسان ومن الشيطان أدنى وسوسة ، وقال سعيد ابن المسيب : شهدت عثمان وعلياً وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئاً ثمّ لم يبرحا حتّى استغفر كل واحد منهما لصاحبه ) فاستعذ بالله ( فاستجر بالله ) إنّه سميع عليم }
الأعراف : ( 201 ) إن الذين اتقوا . . . . .
) إن الذين اتقوا ( يعني المؤمنين ) إذا مسهم ( أصابهم ) طائف من الشيطان ( قرأ النخعي وابن كثير وأبو عمرو والأعمش وابن يزيد والجحدري وطلحة : طيف ، وقرأ الباقون : طائف ، وهما لغتان كالميت والمائت ، ومعناهما الشيء الذي ( بكم بك ) وفرق قوم بينهما .
فقال أبو عمرو : الطائف ما يطوف حول الشيء والطيف اللمة والوسوسة الخطرة . وقال بعض ( المكيين ) : الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللحم والمس . ويجوز أن يكون الطيف مخفّفاً عن طيّف مثل هيّن وليّن . يدل عليه قراءة سعيد بن جبير : طيّف بالتثقيل .
(4/319)

" صفحة رقم 320 "
وقال ابن عباس : ) إذا مسهم طائف من الشيطان ( أي نزغ من الشيطان .
وقال الكلبي : ذنب . وقال مجاهد : هو الغضب .
) تذكروا ( وتفكروا وعرفوا ، وقال أبو روق : ابتهلوا ، وفي قراءة عبد الله بن الزبير : إذا مسهم طائف من الشيطان ( فأملوا ) .
قال سعيد بن جبير : هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله فيكظم الغيظ ، ليث عن مجاهد : هو الرجل هم بالذنب فيذكر الله فيدعه . وقال السدي : معناه إذا زلوا تابوا . وقال مقاتل : إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنها معصية فأبصرها ونزغ من مخالفة الله ) فإذا هم مبصرون ( ينظرون مواضع خطيئتهم بالتفكر والتدبر ( يمرون ) فيقصرون ، فإنّ المتّقي مَنْ يشتهي ( . . . . . . . ) ويبصر فيقصر ، ثم ذكر الكفار فقال
الأعراف : ( 202 ) وإخوانهم يمدونهم في . . . . .
) وإخوانهم يمدونهم في الغي ( يعني إخوان الشيطان وهم الكفار يمدهم الشياطين في الغي حتى يطبلوا لهم ويزيدوهم في الضلالة .
وقرأ أهل المدينة : يمدونهم بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد . وقرأ الجحدري بما دونهم على يفاعلونهم .
) ثمّ لا يُقصرون ( أي لا يشكون ولا ينزغون . وقال ابن زيد : لا يسأمون ولا يفترون .
قال ابن عباس : لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا ( الجن ممسك ) عنهم .
وقرأ عيسى بن عمر : يَقصُرون بفتح الياء وضم الصاد وقصَر وأقصَر واحد
الأعراف : ( 203 ) وإذا لم تأتهم . . . . .
) وإذا لم تأتهم ( يامحمد يعني المشركين ) بآية قالوا لولا اجتبيتها ( أي هلاّ أقلعتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك ، قاله قتادة ، وقال مجاهد : لولا اقتضيتها وأخرجتها من نفسك .
وقال ابن زيد : لولا يقبلها ( لجئت ) بها من عندك .
وقال ابن عباس : لولا تلقيتها من عندك ، أيضاً لولا حدثتها فأنشأتها . قال العوفي عن ابن عباس : ( فنسيتها وقلتها ) من ربّك .
وقال الضحاك : لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء ، قال الفراء : تقول العرب : ( جئت ) الكلام وأخلقته وارتجلته وانتحلته إذا افتعلته من قبل نفسك .
قال ابن زيد : إنّما يقول العرب ذلك الكلام بتهدئة الرجل ولم يكن قبل ذلك أعده لنفسه ) قل ( يا محمد ) إنّما أتبع ما يُوحى إليّ من ربّي ( ثمّ قال ) هذا ( يعني القرآن ) بصائر ( حجج وبيان وبرهان ) من ربّكم ( واحدتها بصيره . وقال الزجاج : طرق من ربكم ، والبصائر طرق الدم .
(4/320)

" صفحة رقم 321 "
قال الجعفي :
راحوا بصائرهم على أكتافهم
وبصيرتي يعدو بها عتد وآي
تعدّوا عداوي وأصلها ظهور الشيء وقيامه واستحكامه حتّى يبصر الانسان فيهتدي إليها وينتفع بها ، ومنه قيل : ( ما لي في الأمر ) من بصيرة ) وهدى ورحمة لقوم يؤمنون وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا ( قال عبد الله بن مسعود : كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان فجاء القرآن :
الأعراف : ( 204 ) وإذا قرئ القرآن . . . . .
) وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ( يعني في الصلاة وقال أبو هريرة : كانوا يتكلّمون في الصلاة فأتت هذه الآية وأُمروا بالإنصات .
وقال الزهري : نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كلما قرأ شيئاً قرأه ، فنزلت هذه الآية .
وروى داود بن أبي هند عن بشير بن جابر قال : صلّى ابن مسعود فسمع ناساً يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفقهوا ، أما آن لكم أن تعقلوا ) وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وانصتوا ( كما أمركم الله .
وروى الحريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال : رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدّثان والقارئ يقرأ فقلت : ألا تستمعان إلى الذكر وتستوحيان الموعود ، قال : فنظرا إلي ثمّ أقبلا على حديثهما ، قال : فأعدت الثانية فنظرا لي فقالا : إنّما ذلك في الصلاة : ) وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ( .
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلاة .
وقال الكلبي : وكانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حتّى يسمعون ذكر الجنّة والنار فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال قتادة : كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم في أول ما فرضت عليهم ، وكان الرجل يأتي وهم فى الصلاة فيسألهم كم صليتم ؟ كم بقي ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .
(4/321)

" صفحة رقم 322 "
وقال ابن عباس : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ في الصلاة المكتومة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية .
وقال سعيد بن المسيب : كان المشركون يأتون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صلّى فيقول بعضهم لبعض بمكّة : لا تستمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله جواباً لهم ) وإذا قرئ القرآن ( .
قال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، وزيد بن أسلم ، والقاسم بن يسار ، وشهر بن حوشب : هذا في الخطبة أمر بالإنصات للإمام يوم الجمعة .
قال عبد الله بن المبارك : والدليل على حكم هذه الآية في ( الجمعة ) إنّك لا ترى خطيباً على المنبر يوم الجمعة يخطب ، فأراد أن يقرأ في الخطبة آية من القرآن إلاّ قرأ هذه الآية قبل ( فواة ) قراءة القرآن .
قال الحسن : هذا في الصلاة المكتوبة وعند الذكر . وقال مجاهد وعطاء : وجب الإنصات في اثنين عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلّي وعند الإمام وهو يخطب .
وقال عمر بن عبد العزيز : الإنصات لقول كل واعظ والإنصات الإصغاء والمراعاة .
قال الشاعر :
قال الإمام عليكم أمر سيّدكم
فلم نخالف وأنصتنا كما قالا
وقال سعيد بن جبير : هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام .
قال الزجاج : ويجوز أن يكون معنى قوله ) استمعوا وانصتوا ( اعملوا بما فيه لا تجاوزوه ، لأن معنى قول القائل : سمع الله : أجاب الله دعاءك .
الأعراف : ( 205 ) واذكر ربك في . . . . .
) واذكر ربّك في نفسك ( قال ابن عباس : يعني بالذكر القراءة في الصلاة ) تضرّعاً ( جهراً ) وخفية ( ) ودون الجهر ( دون رفع القول في خفض وسكوت يسمع من خلفك .
وقال أهل المعاني : واذكر ربّك اتعظ بالقرآن وآمن بآياته واذكر ربّك بالطاعة في ما يأمرك ( تضرّعاً ) تواضعاً وتخشّعاً ( وخيفة ) خوفاً من عقابه ، فإذا قرأت دعوت بالله أي دون الجهر : خفاء لا جهار .
(4/322)

" صفحة رقم 323 "
وقال مجاهد وابن جريج : أمر أن يذكروه في الصدور . ويؤمر بالتضرع فى الدعاء والاستكانة .
ويكره رفع الصوت ( والبداء ) بالدعاء وأمّا قوله ) بالغدو والآصال ( فإنه يعني بالبكر والعشيات ، واحد الآصال أصيل ، مثل أيمان ويمين ، وقال أهل اللغة : هو ما بين العصر إلى المغرب ) ولا تكن من الغافلين }
الأعراف : ( 206 ) إن الذين عند . . . . .
) إن الذين عند ربّك ( يعني الملائكة والمراد هو عند قربهم من الفضل والرحمة لا من حيث المكان والمعاقبة .
وقال الحسين بن الفضل : قد يعبد الله غير الملائكة في المعنى من عند ربّك جاءهم التوفيق والعصمة ) لا يستكبرون ( لا يتكبرون ولا يتعظمون ) عن عبادته ويسبحونه ( وينزهونه ويذكرونه ويقولون سبحان الله ) وله يسجدون ( يُصلّون .
مغيرة عن إبراهيم : إن شاء ركع وإن شاء سجد .
(4/323)

" صفحة رقم 324 "
( سورة الأنفال )
مدنيّة ، وهي خمسة الآف ومئتان وأربعة وتسعون حرفاً ، وألف ومئتان وإحدى وثلاثون كلمة
زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنّه برئ من النفاق وأُعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومُحي عنه عشر سيّئات ورُفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيام حياتهِ في الدنيا ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 2
الأنفال : ( 1 ) يسألونك عن الأنفال . . . . .
) يسألونك عن الأنفال ( الآية قال ابن عباس : أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم بدر : ( مَنْ أتى مكان كذا وكذا فله من الفضل كذا ، ومَنْ قتل قتيلاً فله كذا ، ومَنْ أسر أسيراً فله كذا ) ، فلمّا التقوا سارع إليه الشبّان والفتيان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات ، فلمّا فتح الله على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم الأشياخ : كنّا ردءاً لكم ولو انهزمتم فلا تستأثروا علينا ، ولا تذهبوا ( بالغنائم دوننا ) .
وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال : يا رسول الله إنّك وعدت مَن قتل قتيلاً فله كذا ومَنْ أسر أسيراً فله كذا وإنّا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين ، فقام سعد بن معاذ فقال : والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادةً في الآخرة ولا جبن عن العدو لكن كرهنا أن يعرّي مصافك فيعطف عليه خيل من خيل المشركين فيصيبوك ، فأعرض عنهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
(4/324)

" صفحة رقم 325 "
ثمّ عاد أبو اليسر بمثل مقالته وقام سعد بمثل كلامه وقال : يا رسول الله إنّ الناس كثير وإن الغنيمة دون ذلك وإن تعطِ هؤلاء التي ذكرت لا يبقَ لأصحابك كثير شيء فنزلت ) يسألونك عن الأنفال ( الآية . فقسّم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينهم بالسويّة .
وروى مكحول عن أبي أُمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معاشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في الفعل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقسّمه بين المسلمين عن سواء على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلاح ذات البين .
وقال سعد بن أبي وقاص : نزلت في هذه الآية ذلك أنّه لمّا كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميّة وأخذت سيفه وكان يُسمّى ذا الكثيفة فأعجبني فجئت به النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ليس هذا لي ولا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ من قتل أخي وأخذ بيدي قلت : عسى أن يعطي من لم يُبل بلائي فما جاوزت إلاّ قليلاً حتّى جاءني الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقد أنزل الله عزّ وجلّ : ) يسألونك عن الأنفال ( فخفت أن يكون قد نزل فيّ شيء ، فلما انتهيت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يا سعد إنّك سألتني السيف وليس لي وإنّه قد صار ليّ فاذهب فخذه فهو لك ) .
وقال أبو ( أُميّة ) مالك بن ربيعة : أُصبت سيف ابن زيد يوم بدر وكان السيف يُدعى المرزبان فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الناس أن يردّوا ما في أيديهم من النفل فأقبلت به وألقيته في النفل وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يمنع شيئاً يسأله فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعطاه إيّاه .
وقال ابن جريج : نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً فاختلفوا فكانوا أثلاثاً فنزلت هذه الآية وملّكها الله رسوله يقسّمها كما أراه الله .
عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ( قال : ) كانت المغانم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو ملكاً فهو غلول فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها فأنزل الله عزّ وجلّ يسألونك يا محمد عن الأنفال أي حكم الأنفال وعلمها وقسمها .
(4/325)

" صفحة رقم 326 "
وقيل : معناه يسألونك من الأنفال ) عن ( بمعنى ( من ) .
وقيل : ( من ) صلة أي يسألونك الأنفال . وهكذا قرأ ابن مسعود بحذف ) عن ( وهو قول الضحاك وعكرمة .
والأنفال الغنائم واحدها نفل . قال لبيد :
إن تقوى ربّنا خير نفل
وبإذن الله ريثي والعجل
وأصله الزيادة يقال : نفلتك وأنفلتك أي : زدتّك .
واختلفوا في معناها :
فقال أكثر المفسّرين : معنى الآية يسألونك عن غنائم بدر لمن هي .
وقال عليّ بن صالح بن حيي : هي أنفال السرايا .
وقال عطاء : فَأْنشد من المشركين إلى المسلمين بغير قبال من عبد أو أمة أو سلاح فهو للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصنع به ما يشاء .
وقال ابن عباس : هي ما يسقط من المتاع بعدما يقسم من الغنائم فهي نفل لله ولرسوله .
وقال مجاهد : هي الخمس وذلك أنّ المهاجرين سألوا النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) عن الخمس بعد الأربعة الأخماس وقالوا : لِمَ يرفع منّا هذا الخمس ، لِمَ يخرج منّا فقال الله تعالى : ) قل الأنفال لله والرسول ( يقسّمانها كما شاءا أو ينفلان فيها ما شاءا أو يرضخان منها ما شاءا .
واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة أم منسوخة :
فقال مجاهد وعكرمة والسدي : هي منسوخة نسخها قوله ) واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأنّ لله خُمُسَهُ وللرسول ( الآية .
وكانت الغنائم يومئذ للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) خاصّة فنسخها الله بالخمس .
وقال عبد الرحمن بن أيد : هي ثابتة وليست منسوخة وإنّما معنى ذلك قل الأنفال لله وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها ثمّ أنزل حكم الغنائم بعد أربعين آية فإنّ لله خُمسه ولكم أربعة أخماس .
وقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذا الخمس مردود على فقرائكم ) ، وكذلك يقول في تنفيل
(4/326)

" صفحة رقم 327 "
الأيام بعض القوم واقتفائه إياه ليلاً ، وعلى هذه يفرق بين الأنفال والغنائم بقوله تعالى : ) واتّقوا الله وأصحلوا ذات بينكم ( وذلك حين اختلفوا في الغنيمة أمرهم بالطاعة والجماعة ونهاهم عن المفارقة والمخالفة .
قال قتادة وابن جريج : كان نبيّ الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفّار إذا قتله وكان ينفل على قدر عنائه وبلائه حتّى إذا كان يوم بدر ملأ الناس أيديهم غنائم ، فقال أهل الضعف : ذهب أهل القوّة بالغنائم فنزلت ) قل الأنفال لله وللرسول فاتقوا الله وأصحلوا ذات بينكم ( ليرد أهل القوّة على أهل الضعف فأمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرد بعضهم على بعض فأمرهم الله بالطاعة فيها فقال ) وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ( واختلفوا في تأنيث ذات البين فقال أهل البصرة أضاف ذات البين وجعله ذات لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم المؤنث وبعضها يُذكر نحو الدار والحائط أنّث الدار وذكّر الحائط .
وقال أهل الكوفة : إنّما أراد بقوله ) ذات بينكم ( الحال التي للبين فكذلك ذات العشاء يريد الساعة التي فيها العشاء .
قالوا : ولم يضعوا مذكّراً لمؤنّث ولا مؤنّثاً لمذكّر إلاّ لمعنى به وقوله
الأنفال : ( 2 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
) إنّما المؤمنون ( الآية يقول الله تعالى ليس المؤمنون من الذي يخالف الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم ) الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم ( فرقّت به قلوبهم وهكذا هو في مصحف عبد الله .
وقال السدي : هو الرجل يريد أن يهتم بمعصية فينزع عنه ) وإذا تُليت ( قُرئت ) عليهم آياته زادتهم إيماناً ( وقال ابن عباس : تصديقاً ، وقال الضحاك : يقيناً . وقال الربيع بن أنس : خشية . وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادة ونقصان ، قيل : فما زيادته ؟
قال : إذا ذكرنا الله وجدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وقصّرنا وغفلنا فذلك نقصان .
وقال عدي بن عدي : كُتب إلى عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سنناً وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومَنْ لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، ( قال عمر بن عبد العزيز : فإن أعش فسأُبينها لكم ، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص ) .
) وعلى ربّهم يتوكّلون ( أي يفوّضون إليه أُمورهم ويتّقون به فلا يرجون غيره ولا يخافون سواه والتوكل الفعل من الوكول
الأنفال : ( 3 ) الذين يقيمون الصلاة . . . . .
) الذين يُقيمون الصلاة وممّا رزقناهم يُنفقون أُولئك هم المؤمنون حقّاً ( أي حقّوا حقاً يعني يقيناً صدقاً . وقال ابن عباس : يقول برأوا من الكفر . وقال مقاتل : حقّاً لا شك في إيمانهم كشك المنافقين .
(4/327)

" صفحة رقم 328 "
وقال قتادة : استحقّوا الإيمان بحق فأحقّه الله لهم . وقال ابن عباس : مَنْ لم يكن منافقاً فهو مؤمن حقّاً .
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الرازي ، قال : أخبرنا عليّ بن محمد بن عمير قال : إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا هشام بن عبيد الله قال : حدّثنا عبيد ( الله هشام ) بن حاتم عن عمرو بن ( درّ ) عن إبراهيم قال : إذا قيل لأحدكم أمؤمن أنت حقّاً ، فليقل : إنّي مؤمن حقّاً فإن كان صادقاً فإنّ الله لا يعذّب على الصدق ولكن يثيب عليه .
فإن كان كاذباً فما فيه من الكفر أشد عليه من قوله له : إنّي مؤمن حقّاً . وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال : أمؤمن أنت ؟
فقال : الإيمان إيمانان فإنّ كنتَ تسأل عن الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخر والجنّة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله ) إنّما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم ( إلى قوله تعالى ) عند ربّهم ( فوالله ما أدري أمنهم أنا أم لا .
وقال علقمة : كنّا في سفر فلقينا قوماً فقلنا : من القوم ؟ فقالوا : نحن المؤمنون حقّاً ، فلم ندرِ ما نجيبهم حتّى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا فقال : فما رددتم عليهم ؟ قلنا : لم نرد عليهم شيئاً .
قال : أفلا قلتم أَمِنْ أهل الجنّة أنتم ؟ إن المؤمنين من أهل الجنّة .
الأنفال : ( 4 ) أولئك هم المؤمنون . . . . .
وقال سفيان الثوري : مَنْ زعم أنّه مؤمن حقّاً أمن عند الله ثمّ ( وجد ) أنّه في الجنّة بعد إيمانه بنصف الآية دون النصف ، ووقف بعضهم على قوله : ) أُولئك هم المؤمنون ( .
وقال : تم الكلام هاهنا .
ثمّ قال : حقّاً له درجات فجعل قوله حقّاً تأكيداً لقوله ) لهم درجات عند ربّهم ( وقال مجاهد : أعمال رفيعة . وقال عطاء : يعني درجات الجنّة يرقونها بأعمالهم .
هشام بن عروة : يعني ما أعدّ لهم في الجنّة من لذيذ المأكل والمشارب وهني العيش . وقال ابن محيريز : لهم درجات سبعون درجة كلّ درجة لحافر الفرس الجواد المغير سبعين عاماً ) ومغفرة ( لذنوبهم ) ورزق كريم ( أي حسن ) وعظيم وهو ( الجنّة .
2 ( ) كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي
(4/328)

" صفحة رقم 329 "
مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاَْقْدَامَ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذاَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذاَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ( 2
الأنفال : ( 5 ) كما أخرجك ربك . . . . .
) كما أخرجك ربُّك من بيتك ( اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله : كما ، فإما الذي شبه بإخراج الله نبيّه من بيته ) بالحق ( قال عكرمة : معنى ذلك فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم كما كان إخراج الله تعالى محمد من بيته بالحق خيراً لكم وإن كرهه فريق منكم .
وقال مجاهد : كما أخرجك ربّك يا محمد من بيتك بالحق على كره فريق من المؤمنين كذلك يكرهون القتال ويجادلونك فيه ، أي أنّهم يكرهون القتال ويجادلونك فيه كما فعلوا ببدر .
وقال بعضهم : أمر الله تعالى رسوله عليه السلام أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون .
وقيل : معناه يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا : أخرجت العير ولم تعلمنا قتالاً ) فنسخطه ) .
وقيل : معناه أُولئك هم المؤمنون حقّاً كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق .
وقال بعضهم : الكاف بمعنى ( على ) تقديره : أمض على الذي أخرجك ربّك .
قال ابن حيّان : عن الكلبي وقال أبو عبيدة : هي بمعنى القسم مجازها : الذي أخرجك من بيتك بالحق . وقيل : الكاف بمعنى ( إذ ) تقديره : وإذ أخرجك ربّك من بيتك بالمدينة إلى بدر بالحق .
) وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون ( لطلب المشركين
الأنفال : ( 6 ) يجادلونك في الحق . . . . .
) يُجادلونك في الحق ( أي في القتال وذلك أن المؤمنين لمّا أيقنوا ( الشوكة ) والحرب يوم بدر وعرفوا أنّه القتال كرهوا ذلك وقالوا : يا رسول الله إنّه لم تعلمنا إنّا نلقي العدو فنستعد لقتالهم وإنّما خرجنا للعير فذلك جدالهم ) من بعد ما تبيّن لهم ( إنّك لا تصنع إلاّ ما أمر الله به .
(4/329)

" صفحة رقم 330 "
وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يجادلونه في الحق ) كما يُساقون إلى الموت ( ( يعني ) من يدعون للإسلام لكراهتهم إيّاه .
) وهم ينظرون }
الأنفال : ( 7 ) وإذ يعدكم الله . . . . .
) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم ( الآية . قال ابن عباس وابن الزبير وابن يسار والسدي : أغار كرز بن جابر القرشي على سرح المدينة حتّى بلغ الصفراء فبلغ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فركب في أثره فسبقه كرز فرجع النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فأقام سنة وكان أبو سفيان أقبل من الشام في عير لقريش فيها عمرو بن العاص وعمرو بن هشام ومخرمة بن نوفل الزهري في أربعين راكباً من كبار قريش وفيها تجارة عظيمة وهي اللطيمة حتّى إذا كان قريباً من بدر بلغ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلّة الجنود فقال : ( هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ الله عزّ وجلّ ينفلكموها ) فخرجوا لا يُريدون إلاّ أبا سفيان والركب لا يرونها إلاّ غنيمة لهم وخفّ بعضهم وثقل بعض .
وذلك أنّهم كانو لم يظنّوا أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يُلقي حرباً فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم وأصحابه .
فخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة وخرج الشيطان معه في صورة سراقة بن خعشم فأتى مكّة فقال : إنّ محمداً وأصحابه قد عرضوا لعيركم فلا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ، فغضب أهل مكّة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلاّ هدمنا داره واستبحناه ، وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أصحابه حتّى بلغ وادياً يقال له : وفران ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول الله عليه السلام حتّى إذا كانوا بالروحاء أخذ عيناً للقوم فأخبره بهم وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى ابن الاريقط فأتاه بخبر القوم ، وسبقت العير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل جبرئيل فقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريش ، وكان العير أحب إليهم فاستشار النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال : وأحسن وقام عمر وقال وأحسن ، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله ونحن معك والله ما نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى ) أذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ( ، ولكن إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتّى نبلغه .
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خيراً ودعا له بخير ، ثمّ قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشيروا عليّ أيُّها الناس ) .
وإنّما يُريد الأنصار ، وذلك أنّهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنّا براء من ذمامك
(4/330)

" صفحة رقم 331 "
حتّى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلى دارنا فأنت في ذمامنا فنمنعك ممّا نمنع عنه أبناءنا ونساءنا ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليها نصرته إلاّ على مَنْ داهمه بالمدينة من عدّوه فإن ليس عليهم أن يسيّرهم إلى عدوّهم من بلادهم ، فلمّا قال ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له سعد بن معاذ : والله كأنّك تُريدنا يا رسول الله ؟
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أجل ) .
قال : فقد آمنّا بكَ وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله ما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضت لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن يلقانا بنا عدوّنا غداً إنّا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء لعل الله عزّ وجلّ يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ، ففرح بذلك النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ونشّطه قول سعد ثمّ قال : سيروا على بركة الله وابشروا فإنّ الله قد وعدكم إحدى الطائفتين . والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم وذلك قوله ) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ( أي الفريقين أحدهما أبو سفيان مع العير والأُخرى أبو جهل مع النفير ) وتودّون ( تُريدون ) أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ( يعني العير التي ليس فيها قتال والشوكة الشدة والقوة وأصلها من الشوك ) ويريد الله أن يحق الحق ( أي يحققه ويعلنه ) بكلماته ( بأمره إيّاكم بقتال الكفّار ) ويقطع دابر الكافرين ( فيستأصلهم
الأنفال : ( 8 ) ليحق الحق ويبطل . . . . .
) ليُحقّ الحق ( الإسلام ) ويُبطل الباطل ( الكفر .
وقيل : الحق القرآن والباطل الشيطان ) ولو كره المجرمون ( أي المشركون .
الأنفال : ( 9 ) إذ تستغيثون ربكم . . . . .
) إذا تستغيثون ربكم ( أي تستجيرون به من عدّوكم وتسألونه النصر عليهم ، قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : لمّا كان يوم بدر ونظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى كثرة المشركين وقلّة المسلمين دخل العرش هو وأبو بكر واستقبل القبلة وجعل يدعو ويقول : اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، فلم يزل كذلك حتّى سقط رداؤه وأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبيه ثمّ التزمه من ورائه وقال : يانبي الله كفا مناشدتك ربّك فإن الله سينجز لك ما وعدك ) فاستجاب لكم أنّي ( أي بأنّي . وقرأ عيسى : إنّي بكسر الألف وقال إنّي ) مُمدّكم ( وزائدكم ومرسل إليكم مدداً ) بألف من الملائكة مُردفين ( قرأ أهل المدينة : مردفين بفتح الدال والباقون بكسره ، لغتان متتابعين بعضهم في أثر بعض يقال : اردفه وردَفته بمعنى تبعته قال الشاعر :
إذا الجوزاء أردفت الثريّا
ظننت بآل فاطمة الظنونا
(4/331)

" صفحة رقم 332 "
أراد ردفت جاءت بعدها ، لأن الجوزاء تطلع بعد الثريا ومن فتح فعلى المفعول ، أي أردف الله المسلمين وجاءهم به فأمدّهم الله بالملائكة ونزل جبرئيل في خمسمائة مَلكَ مجنبة على الميمنة فيها أبو بكر رضي الله عنه ونزل ميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها عليّ كرّم الله وجهه وهم في صورة الرجال عليهم ثياب بيض ، وعمائم بيض أرخوا ما بين أكتافهم ، فقاتلت الملائكة يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ولا يوم حنين ولا تقاتل أبداً إنّما يكونون حدداً أو مدداً .
وقال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت لفارس يقول قدم حيزوم ونظر إلى المشرك أمامه خرّ مسلتقياً ، فنظر إليه فإذا هو قد حُطم وشُق وجهه كضربة السوط فجاء الرجل فحدّث بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( صدقت ذلك من مدد السماء ) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين .
قال مجاهد : ما مُدّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فيما ذكر الله تعالى غير الألف من الملائكة ) مردفين ( التي ذكر الله في الأنفال وأمّا الثلاثة والخمسة فكانت بُشرى
الأنفال : ( 10 ) وما جعله الله . . . . .
) وما جعله الله ( يعني الامداد .
الفراء : يعني الأرداف .
) إلاّ بُشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النصر إلاّ من عند الله إنّ الله عزيز حكيم }
الأنفال : ( 11 ) إذ يغشيكم النعاس . . . . .
) إذ يغشايكم النعاس أمنة ( قرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو : يغشيكم بفتح الياء النعاس رفع على أن الفعل له واحتجّوا بقوله في سورة آل عمران ) أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم ( فجعل الفعل له .
وقرأ أهل المدينة يغشيكم بضم الياء مخففة على أن الفعل لله عزّ وجلّ ليكون موافقاً لقوله ( وينزل وليطهركم ) واحتجّوا بقوله تعالى ) كأنّما أُغشيت وجوههم ( .
وقرأ عروة بن الزبير والحسن وأبو رجاء وعكرمة والجحدري وعيسى وأهل الكوفة : يُغشّيكم بضمّ الياء مشدّداً .
فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم : لقوله ) فغشاها ما غشى ( والنعاس النوم تخفيف . وقال أبو عبيدة : هو ابتداء القوم : أمنة بفتح الميم قراءة العامّة ، وقرأ أبو حياة وابن محيصن : أمنة بسكون الميم وهو مصدر قولك : أمنت من كذا أمناً وأمنة وأمانة وكلّها بمعنى واحد فلذلك نصب .
قال عبد الله بن مسعود : النعاس في القتال أمنة من الله عزّ وجلّ وفي الصلاة من الشيطان
(4/332)

" صفحة رقم 333 "
) وينزّل عليكم من السماء ماء ( وذلك أن المسلمين نزلوا كثيباً أخضر ببدر يسوخ فيه الأقدم وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء بدر العظمى وغلبوهم عليه وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين وأصابهم الظمأ ووسوس لهم الشيطان فقال تزعمون أن فيكم نبي الله وأنّكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تُصلّون مجنبين ومحدثين فكيف ترجون أن يظفركم عليهم .
قال : فأرسل الله عزّ وجلّ مطراً سال منه الوادي فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضّأوا وسقوا الركاب وملؤوا الأسقية وأطفى الغبار ولبّد الأرض حتّى ثبّت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم فذلك قوله ) وينزّل عليكم من السماء ماء ليُطهركم به ( من الأحداث والجنابة .
وقرأ سعيد بن المسيب : ليُطهركم بطاء ساكنة من أطهره الله ) ويُذهب عنكم رجز الشيطان ( أي وسوسة الشيطان .
وقرأ ابن محيصن : رجز بضم الراء . وقرأ أبو العالية : رجس بالسين والعرب تعاقب بين السين والزاء فيقول بزق وبسق .
والسراط والزراط والأسد والأزد ) وليربط على قلوبكم ( اليقين والصبر ) ويثبت به الأقدام ( حتّى لا يسرح في الرمل بتلبيد الأرض .
وقيل : بالصبر وقوّة القلب
الأنفال : ( 12 ) إذ يوحي ربك . . . . .
) إذ يُوحي ربّك إلى الملائكة ( للذين أمدّ بهم المؤمنين ) أنّي معكم ( بالعون والنصر ) فثبّتوا الذين آمنوا ( أي نوّروا قلوبهم وصحّحوا عزائمهم وثباتهم في الجهاد ، فقيل : إنّ ذلك المثبت بحضورهم الحرب معهم .
وقيل : معونتهم إياهم في قتال عدوهم ، وقال أبو روق : هو أن الملك كان يشبّه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي الرجل من أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول : إنّي قد دنوت من المشركين فسمعتهم يقولون والله لئن حملوا علينا ( لنكشفنّ ) .
فتحدّث بذلك المسلمون بعضهم بعضاً فيقوّي أنفسهم ويزدادون جرأة ، قال ابن إسحاق والمبرد : فثبّتوا الذين آمنوا أي وآزروهم ) سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ( ثمّ علّمهم كيف الضرب والقتل فقال ) فاضربوا فوق الأعناق ( قال بعضهم : هذا الأمر متّصل بقوله : ) فثبّتوا الذين آمنوا ( .
وقال آخرون : هو أمر من الله عزّ وجلّ للمؤمنين واختلفوا في قوله ) فوق الأعناق ( فقال عطيّة والضحاك : معناه : فاضربوا الأعناق لقوله ) إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ( .
(4/333)

" صفحة رقم 334 "
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنّما بُعثت لضرب الرقاب وشدّ الوثاق ) .
وقال بعضهم : معناه : فاضربوا على الأعناق ، ( فوق ) بمعنى على . وقال عكرمة : معناه فاضربوا الرؤوس فوق الأعناق . وقال ابن عباس : معناه واضربوا فوق الأعناق أي على الأعناق ، نظيره قوله ) فإن كن نساء فوق اثنتين ( أي اثنتين فما فوقهما .
) واضربوا منهم كلّ بنان ( قال عطيّة : يعني كل مفصل .
وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك : يعني الأطراف والبنان جمع بنانه ، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين واشتقاقه من أَبَنَ بالمقام إذا قام به .
قال الشاعر :
ألا ليتني قطعت منه بنانه
ولاقيته في البيت يقظان حاذراً
وقال يمان بن رئاب : ) فاضربوا فوق الأعناق ( يعني الصناديد ) واضربوا منهم كل بنان ( يعني السفلة ، والصحيح : القول الأوّل . قال أبو داود المازني وكان شهد بدراً : اتّبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يديّ قبل أن يصل سيفي فعرفت أنّه قتله غيري .
وروى أبو أُمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : لقد رأيت يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف .
وقال ابن عباس : حدثني رجل عن بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عم لي حتّى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الواقعة على مَنْ يكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب .
قال : فبينما نحن في الجبل إذ دنت منّا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل . فسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم قال فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع قلبه فمات أمّا أنا فكدت أهلك ثمّ تماسكت .
وقال عكرمة : قال أبو رافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمتْ أم الفضل وأسلمتُ وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلّف
(4/334)

" صفحة رقم 335 "
عن بدر فقد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، وكذلك صنعوا لم يتخلّف رجل إلاّ بعث مكانه رجلا فلمّا جاء الخبر عمّا أصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوّة وحزماً فكان رجلاً ضعيفاً قال : وكنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم فوالله إنّي لجالس فيها أنحت الأقداح وعندي أم الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاء من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتّى جلس على طنب الحجرة وكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب قد قدم ، فقال أبو لهب : هلم إلي يابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ، قال : لا شيء والله كأن الآن لقينا فمنحناهم أكتافاً يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا وأيم الله مع تلك ما لمّت الناس :
لقينا رجالاً بيضاً على خيل ( معلّق ) بين السماء والأرض ( ما تليق ) شيئاً ولا يقوم لها شيء .
قال أبو رافع : فرفعت طرف الحجرة بيدي ثمّ قلت : تلك الملائكة ، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فناورته فاحملني فضرب بي الأرض ، ثمّ برك عليّ فضربني وكنت رجلا ضعيفاً فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد البيت فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة وقالت : تستضعفه أن غاب عنه سيّده ، فقام مولّياً ذليلاً فوالله ما عاش إلاّ سبع ليال حتّى رماه الله بالعدسة فقتله .
ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفناه حتّى أنتن في بيته ، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتّقي الناس الطاعون حتّى قال لهما رجل من قريش : ويحكما ألا تستحيان أنَّ أباكما قد أنتن في بيته لا تغسّلانه فقالا : إنّا نخشى هذه القرحة ، قال : فانطلقا فإنّا معكما فما غسلوه إلاّ قذفاً بالماء عليه من بعيد ما يمسّونه ثمّ حملوه فدفنوه بأعلى مكّة إلى جدار وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه .
وروي مقسّم عن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة وكان أبو اليسر رجلا مجموعاً وكان العباس رجلا جسيماً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي اليسر : يا أبا اليسر كيف أسرت العباس ؟
فقال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقد أعانك عليه مَلَك كريم .
الأنفال : ( 13 ) ذلك بأنهم شاقوا . . . . .
) ذلك بأنّهم شاقوا الله ( خالفوا الله ) ورسوله ومَنْ يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد
(4/335)

" صفحة رقم 336 "
العقاب ( أي هذا العقاب الذي أعجلته لكم أيّها الكفّار
الأنفال : ( 14 ) ذلكم فذوقوه وأن . . . . .
) فذوقوه ( عاجلا ) وأن للكافرين ( في المعاد ) عذاب النار ( وفي فتح ( أن ) وجهان من الإعراب أحدهما الرفع والأخر النصب :
فأمّا الرفع فعلى تقدير ذلكم تقديره : ذلكم يذوقوه ، وذلك أن للكافرين عذاب النار .
وأمّا النصب فعلى وجهين : أحدهما : بمعنى فعل مضمر : ذلكم فذوقوه وأعلموا وأيقنوا أن للكافرين .
والأخر بمعنى : وما للكافرين فلما حذف الياء نصب .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( 2
الأنفال : ( 15 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيُّها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً ( أي ) مخفقين ( متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني والتقارب .
قال الأعشى :
لمن الضعائن سيرهن زحيف
عرم السفين إذا تقاذف مقذف
والزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم : قوم عدل ورضى ) فلا تولّوهم الأدبار ( يقول : فلا تولّوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ولكن اثبتوا لهم
الأنفال : ( 16 ) ومن يولهم يومئذ . . . . .
) ومَنْ يولهم يومئذ دبره ( ظهره وقرأ الحسن ساكنة ) إلاّ مُتحرّفاً لقتال ( أي متعطّفاً مستطرداً لقتال عدوّه بطلب عورة له تمكنه إصابتها فيكرّ عليه .
) أو متحيّزاً ( منضمّاً صابراً ) إلى فئة ( جماعة من المؤمنين يفيئون به بسهم إلى القتال ) فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير ( واختلف العلماء في حكم قوله ) ومَنْ يولّهم يومئذ دبره ( الآية هل هو خاص في أهل بدر أم هو في المؤمنين جميعاً .
فقال أبو سعيد الخدري : إنّما كان ذلك يوم بدر خاصة لم يكن لهم
(4/336)

" صفحة رقم 337 "
أن ينحازوا ولو انحازوا إلى المشركين ، ولم يكن يومئذ في الأرض مسلم غيرهم ولا للمسلمين فيه غير النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فأمّا بعد ذلك فإنّ المسلمين بعضهم فئة لبعض ممثّلة ، قاله الحسن والضحاك وقتادة .
قال يزيد ابن أبي حبيب : أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النار .
فقال ) مَنْ يولهم يومئذ دبره ( الآية . فلمّا كان يوم أُحد بعد ذلك قال : ) إنّما أستزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ( ثمّ كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين . فقال : ) ثمّ وليتم مدبرين ثمّ يتوب الله من بعد ذلك على مَنْ يشاء ( . وقال عطاء بن أبي رباح : هذه الآية منسوخة بقوله ) الآن خفّف الله عنكم ( الآية فليس لقوم أن يفروا من مثليهم فنسخت تلك الآية إلاّ هذه العدّة .
وقال الكلبي : من قبل اليوم مقبلاً أو مدبراً فهو شهيد ولكن سبق المقبل المدبر إلى الجنة .
وروي جرير عن منصور عن إبراهيم قال : انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر . فقال : يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف ، فقال عمر رضي الله عنه أنا فئتك .
وقال محمد بن سيرين : لمّا قُتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر رضي الله عنه فقال لو أنحاز إليَّ فكنت له فئة ( فأنا فئة ) كل مسلم .
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر قال : كنّا في مُصيل بعثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخاض الناس خيضة فانهزمنا وكنّا نفر ، قلنا نهرب في الأرض حياءً ممّا صنعنا فدخلنا البيوت . ثمّ قلنا : يا رسول الله نحن الفارون . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل أنتم الكرارون وإنّا فئة المسلمين ) .
وقال بعضهم : بل حكمنا عام في كل من ولى عن العدو وفيهم مَنْ روى ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لبعض أهله : ( ( إياك والفرار ) من الزحف فإن هلكوا فاثبتوا فما ( . . . . ) إلاّ على إرتكاب الكبائر وإلاّ الشرك بالله والفرار من الزحف لأن الله تعالى يقول ) ومن يولهم يومئذ دبره ( . ) الآية .
الأنفال : ( 17 ) فلم تقتلوهم ولكن . . . . .
) فلم تقتولهم ولكن الله قتلهم ( الآية فقال أهل التفسير والمغازي لمّا ورد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
(4/337)

" صفحة رقم 338 "
بدراً قال : ( هذه مصارع القوم إن شاء الله ) ، فلمّا طلعوا عليه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللّهمّ إنّي أسألك ما وعدتّني فأتاه جبرئيل وقال : خذ حفنة من تراب فارمهم بها ) .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا التقى الجمعان لعلّي رضي الله عنه : ( أعطني قبضة من حصا الوادي ) فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) به في وجوه القوم وقال : ( شاهت الوجوه ) .
فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة .
وقال حكيم بن حزام : لمّا كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء كأنّه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلك الرمية فانهزمنا .
وقال قتادة وابن زيد : ذكر له أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى حصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم .
وقال : ( شاهت الوجوه ) فانهزموا .
الزهري عن سعيد بن المسيب قال : نزلت هذه الآية في قتل أُبي بن كعب الجمحي . وذلك أنّه أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعظم حائل وهو يفتّه فقال : يا محمد الله يُحيي هذا وهو رميم ؟
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يحيه الله ثمّ يميتك ثمّ يدخلك النار فلمّا كان يوم بدر أسره ثمّ فدي ، فلمّا افتدي قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن لي فرساً أعلفها كل يوم ( فرق ) ذرة لكي أقتلك عليها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل أنا أقتلك إن شاء الله ، فلمّا كان يوم أُحُد أقبل أُبيّ بن خلف يركض بفرسه ذلك حتّى دنا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( استاخروا ) ، فاستأخروا فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحربة في يده فرمى بها أُبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعاً من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون : لا بأس ، فقال أُبي : والله لو كانت الناس لقتلهم ، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله ، فانطلق به أصحابه ينعونه حتّى مات ببعض الطريق فدفنوه ففي ذلك أنزل الله هذه الآية ) وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( الآية .
وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن ( جبير ) أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم خيبر دعا بقوس
(4/338)

" صفحة رقم 339 "
فأُتي بقوس طويلة فقال : جيئوني بغيرها ، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى : ) وما رميت إذ رميت ( فهذا سبب نزول الآية .
فأمّا معناها فإن الله تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنّه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف . وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبه من الله تعالى الإنشاء والايجاد بالقدرة القديمة التامّة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة ، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدريّة .
وقيل : إنّما أضافها إلى نفسه لئلاّ يعجب القوم .
قال مجاهد : قال هذا : قتلت ، وقال هذا : قتلت ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال الحسن : أراد فلم تُميتموهم ولكن الله أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره .
قال ) وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( أي ( قتل ) يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها .
وقال ابن إسحاق : ولكن الله رمى أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتّى هزمهم .
وقال أبو عبيده : تقول العرب : رمى الله لك ، أي نصرك . قال الأعمش : ) ولكن الله رمى ( أي وفّقك وسدّد رميتك .
) وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً ( أي ولينعم على المؤمنين نعمه عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب .
وقال ابن إسحاق : ليعرف المؤمنين نعمة نصرهم وإظهارهم على عدوهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا نعمه ) إن الله سميع ( لإقوالهم ) عليم ( بأفعالهم سميع بأسرارهم عليم بإضمارهم
الأنفال : ( 18 ) ذلكم وأن الله . . . . .
) ذلكم ( يعني : ذكرت من القتل والرمي والأجل الحسن ) وأن
(4/339)

" صفحة رقم 340 "
الله ( أي : وأعلموا أن الله ، وفي فتح ) أن ( من الوجوه ما في قوله تعالى ) ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ( ( وقد بيناه هناك ) .
) موهن ( مضعف ) كيد الكافرين ( قرأ الحجازي والشامي والبصري : موهّن بالتشديد والتنوين ( كيد ) نصباً وقرأ أكثر أهل الكوفة ( موهن ) بالتخفيف والتنوين ( كيد ) نصباً واختاره أبو عبيد وأبو حاتم .
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن محيصن و ) الأعمش ( وحفص : موهن كيد ، مخفّفة مضافة بالجر فمن نوّن معناه : وهن ، ومَنْ خفّف وأضاف قصر الخفّة كقوله ) مرسلو الناقة ( و ) كاشفو العذاب ( ووهن وأوهن لغتان صحيحتان فصيحتان
الأنفال : ( 19 ) إن تستفتحوا فقد . . . . .
) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ( وذلك أنّ أبا جهل قال يوم بدر : اللّهمّ أينا كان أفجر وأقطع للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصرنا عليه ، فاستجاب الله دعاءه وجاء بالفتح وضربه ابنا عفراء : عوف ومسعود ، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود .
وقال السدي والكلبي : كان المشركون حين خرجوا إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) من مكّة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللّهمّ انصرنا على الحزبين وأهدى القبتين وأكرم الجندين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية .
وقال عكرمة : قال المشركون اللّهمّ لا نعرف ما جاء به محمد فأفتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله تعالى ) وإن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ( أي أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء .
وقال أُبي بن كعب وعطاء الخراساني : هذا خطاب أصحاب رسول الله قال الله للمسلمين : ) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ( أي تستنصروا الله وتسألوه الفتح فقد جاءكم الفتح أي بالنصرة .
وقال حبّاب بن الارت : شكونا إلى رسول الله عليه السلام فقلنا : لا تستنصر لنا ، فاحمر وجهه وقال : ( كان الرجل قبلكم يؤخذ ويحفر له في الأرض ، ثمّ يجاء بالمنشار فيقطع بنصفين ما يصرفه عن دينه شيء ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه عن دينه ، ولُيتِمنَّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ولا يخشى إلاّ الله عزّ وجلّ والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون ) .
(4/340)

" صفحة رقم 341 "
ثمّ قال للكفّار ) وإن تنتهوا ( عن الكفر بالله وقتال نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) ) فهو خير لكم وإن تعودوا ( لقتاله وحربه ) نعد ( بمثل الواقعة التي أوقعت لكم يوم بدر .
وقيل : وإن تعودوا إلى هذا القول وقتال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولن تُغني عنكم فِئتكم شيئاً ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ( ( قرأ ) أهل المدينة والشام : ) وأن الله ( بفتح الألف ، والمعنى : ولأن الله ، وقيل : هو عطف على قوله ) وأن الله موهن كيد الكافرين ( .
وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف ، واختلفوا فيه وقراءة أبي حاتم ( لأن ) في قراءة عبد الله : والله مع المؤمنين .
الأنفال : ( 20 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيُّها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه ( ولا تدبروا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأنتم تسمعون ( أمره وليّه .
قال ابن عباس : وأنتم تسمعون القرآن ومواعظه
الأنفال : ( 21 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا ( يعني المنافقين والمشركين الذين سمعوا كتاب الله بآذانهم فقالوا سمعنا ) وهم لا يسمعون ( يعني لا يتّعظون بالقرآن ولا ينتفعون بسماعهم وكأنهم لم يسمعوا الحقيقة .
2 ( ) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الاَْرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 2
الأنفال : ( 22 ) إن شر الدواب . . . . .
) إن شر الدواب ( يعني أن شرّ ( الدواب ) على وجه الأرض من خلق الله ) عند الله ( فقال الأخفش : كل محتاج إلى غذا فهو دابة .
) الصُمُّ البُكمُ ( عن الحق كأنّهم لا يسمعون ولا ينطقون .
قال ابن زيد : هم صم القلوب وبكمها وعميها . وقرأ ) فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( .
وقال ابن عباس وعكرمة : هم بنو عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صُمٌّ بُكم عُمّي عن
(4/341)

" صفحة رقم 342 "
مخاطبة محمد لا نسمعه ولا نجيبه ، ( فكانوا ) جميعاً ( بأُحد ) ، وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلاّ رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة ) الذين لا يعقلون ( أمر الله
الأنفال : ( 23 ) ولو علم الله . . . . .
) ولو علم الله فيهم خيراً ( صدقاً وإسلاماً ) لأسمعهم ( لرزقهم الفهم والعلم بالقرآن ) ولو أسمعهم لتولوا ( عن القرآن ) وهم معرضون ( عن الإيمان بالقرآن لعلم الله فيهم وحكمه عليهم بالكفر
الأنفال : ( 24 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا أستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ( اختلفوا في قوله ( لما يُحييكم ) :
فقال السدي : هو الإيمان يحييهم بعد موتهم أي كفرهم . وقال مجاهد : للحق . وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والفقه والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة .
وقال ابن إسحاق : لما يحييكم يعني الحرب والجهاد التي أعزكم الله بها بعد الذل . وقوّاكم بها بعد الضعف ومنعكم بها عن عدوكم بعد القهر منهم لكم .
وقال ( القتيبي ) : لمّا يحييكم : لما يُتقيكم ، يعني الشهادة . وقرأ قوله ) بل أحياء عند ربهم يرزقون ( فاللام في قوله ( لما ) بمعنى إلى ومعنى الاستجابة في هذه الآية الطاعة يدلُّ عليه ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : مرّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أُبي بن كعب وهو قائم يصلّي فصاح له فقال : ( تعال إلي ) ، فعجل أُبي في صلاته ثمّ جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ما منعك يا أُبي أن تُجيبني إذا دعوتك ؟ أليس الله يقول يا ايُّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم ) .
قال : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلاّ أجبتك وإن كنت مصلياً .
قال : ( تحب أن أُعلمّك سورة لم تنزل في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ) ؟
قال أُبي : نعم يا رسول الله .
قال : ( لا تخرج من باب المسجد حتّى تعلمها ) والنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أُبي : يا رسول الله ، فوقف فقال : ( نعم كيف تقرأ في صلاتك ) فقرأ أُبي أُمّ القرآن فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده ما أُنزلت في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن ( مثلها ) وإنّها لهي السبع المثاني التي أتاني الله عزّ وجلّ .
) واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه ( قال سعيد بن جبير : معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر .
(4/342)

" صفحة رقم 343 "
ابن عباس : بين الكافر وبين طاعته ويحول بين المؤمن وبين معصيته .
وقال مجاهد : يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يفعل ، وروى خصيف عنه قال : يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيراً .
وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلاّ بإذنه .
وقال قتادة : معنى ذلك أنّه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره . وهي كقوله عزّ وجلّ ) ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( .
وقيل : هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدروهم فقيل ( فيهم ) ) قاتلوا في سبيل الله ( وأعلموا أن الله يحول بين المرء وبين ما في قلبه فيبدّل الخوف أمناً والجُبن جُرأة .
وقيل : يحول بينه وبين مراده ، لأن الأجل حال دون الأمل . والتقدير منع من التدبير .
وقرأ الحسن : بين المرء ، وبتشديد الراء من غير همزة .
وقرأ الزهري : بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة .
) وانّكم إليه تُحشرون ( ويجزيكم بأعمالكم .
قال أنس بن مالك : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر أن يقول : يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك ، قلنا : يا رسول الله أمنّا بك فهل تخاف علينا ؟
قال : ( إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامة وإن شاء أزاغة ) .
والإصبع في اللغة الأثر الحسن ، فمعنى قوله : بين إصبعين : بين أثرين من أثار الربوبية وفيها الإزاغة والإقامة .
قال الشاعر :
صلاة وتسبيح والخطأ نائل
وذو رحم تناله منك إصبع
أي أثر حسن .
وقال آخر
(4/343)

" صفحة رقم 344 "
مَنْ يجعل الله عليه اصبعاً
في الشر أو في الخير يلقه معاً
فالإصبع أيضاً في اللغة الإصبع .
فمعنى الحديث بين مملكتين من ممالكه ، وبين الإزاغة والإقامة والتوفيق والخذلان .
قال الشاعر :
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن
للغدر خائنة مغل الإصبع
الأنفال : ( 25 ) واتقوا فتنة لا . . . . .
) واتّقوا فتنةً ( أي اختبار وبلاء يصيبكم .
وقال ابن زيد : الفتنة الضلالة ) لاتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة ( واختلفوا في وجه قوله ) لا تصيبن ( من الاعراب .
فقال أهل البصرة : قوله ( لا تصيبن ) ليس بجواب ولكنّه نهي بعد أمره ، ولو كان جواباً ما دخلت النون .
وقال أهل الكوفة : أمرهم ثمّ نهاهم وفيه تأويل الجزاء فإن كان نهياً كقوله : ) يا أيُّها النمل ادخلوا مساكنكم لايُحطّمنكم ( . أمرهم ثمّ نهاهم ، وفيه تأويل الجزاء وتقديره : واتقوا الله إن لم تنتهوا أصابتكم .
وقال الكسائي : وقعت النون في الجر بمكان التحذير ، فلو قلت : قم لا أغضب عليك لم يكن فيه النون لأنّه جزاء محض .
وقال الفراء : هو جزاء فيه طرف من النهي كما تقول : أنزل عن الدابة لا يطرحك . ولا يطرحنك فهذا ( جزاء من ) الأمر بلفظ النهي . ومعناه : إن تنزل عنه لا يطرحنّك .
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة . وقال : أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب .
وقال الحسن : نزلت في عليّ وعمار وطلحة والزبير قال الزبير بن العوّام : يوم الجمل لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها .
واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة . فحلفنا حتّى أصابتنا خاصّة . قال السدي : هذه الآية نزلت في أهل بدر خاصّة فأصابتهم يوم الجمل فأقبلوا .
وقال عبد الله بن مسعود ما منكم من أحد إلاّ هو مشتمل على الفتنة إنّ الله يقول : ) إنّما
(4/344)

" صفحة رقم 345 "
أموالكم وأولادكم فتنة ( فإيّكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلاّت الفتن .
حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يكون من ناس من أصحابي إساءة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستنّ بهم فيها ناس يعذبهم فيدخلهم الله بها النار ) .
يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريره قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تقوم الساعة حتّى تأتي فتنة ( عمياء مظلمة ) المضطجع فيها خير من الجالس والجالس فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ) .
فقال رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا رسول الله إن أدركتني ( وأنا مضطجع ) قال : ( فامش ) .
قال : أفرأيت إن أدركتني وأنا أمشي . قال ( ارقد ) قال : أفرأيت إن أدركتني وأنا راقد فأجلس . قال : أفرأيت إن أدركتني وأنا جالس .
قال : ( فقل هكذا بيدك ، وضم يديه إلى جسده ، حتّى تكون عند الله المظلوم ولا تكون عند الله الظالم ) .
عن زيد بن أبي زياد عن زيد بن الأصم عن حذيفه قال : أتتكم فتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها كل شجاع بطل وكل راكب موضع وكل خطيب مشفع
الأنفال : ( 26 ) واذكروا إذ أنتم . . . . .
) واذكروا إذ أنتم قليل ( في العدد ) مستضعفون في الأرض ( أرض مكّة في عنفوان الإسلام ) تخافون أن يتخطّفكم ( يُذهب بكم ) الناس ( كفّار مكّة ، وقال وهب : فارس والروم ) فآواكم ( إلى المدينة ) وأيّدكم بنصره ( يوم بدر أيدكم بالانتصار وأُمدّكم بالملائكة ) ورزقكم من الطيّبات ( يعني الغنائم أجالها لكم ولم يجلها لأحد قبلكم ) لعلّكم تشكرون ( .
قال قتادة : كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلاًّ وأشقاهم عيشاً وأجوعهم بطناً وأغراهم جلوداً وآمنهم ضلالا ، من عاش منهم عاش شقياً ومن مات منهم ردى في النار مكعوبين على رأس الحجرين الأشدين فارس والروم .
يؤكلون ولا يأكلون وما في بلادهم شيء عليه يحسدون ، والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا شر منزلاً منهم حتّى جاء الله عزّ وجلّ بالاسلام فمكن في البلاد ووسع به في الرزق وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس
(4/345)

" صفحة رقم 346 "
وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه ، فإن ربكم منعم يجب الشكر له ( وأجمل ) الشكر في مزيد من الله تعالى .
2 ( ) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَآ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 2
الأنفال : ( 27 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيُّها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ( قال عطاء ابن أبي رباح : حدّثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل ( عليه السلام ) النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا .
فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه : ( إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا ) قال : فكتب رجلا من المنافقين إليه أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله تعالى الآية .
وقال السدي : كانوا يسمعون الشيء من النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فيفشونه حتّى بلغ المشركين .
وقال الزهري والكلبي : نزلت هذه الآية في أبي لبابة واسم أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النظير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم ، لأن عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأتاهم فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى أنزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى طقه أنّه الذبح فلا تفعلوا .
قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أن قد خنت الله والرسول فلمّا نزلت هذه الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتّى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغميّاً عليه ثمّ تاب الله عليه ، فقيل له : يا أبا لبابة قد تُبت عليك .
قال : لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يحلّني فجاءه فحله بيده ، ثمّ قال أبو لبابة : إن مَنْ تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب . وأن أنخلع من
(4/346)

" صفحة رقم 347 "
مالي ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يجزيك الثلث إن تصدقت ) .
فقال المغيرة بن شعبة : نزلت هذه الآية في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه .
قال محمد بن إسحاق : معنى الآية لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثمّ تُخالفونه في السر إلى غيره .
وقال ابن عباس : لا تخونوا الله بترك فرائضه ، والرسول بترك سنته ، وتخونوا أماناتكم .
قال السدي : إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم .
وعلى هذا التأويل يكون قوله ( ويخونوا ) نصباً على جواب النهي .
والعرب تنصب جواب النهي وقالوا كما ينصب بالفاء .
وقيل : هو نصب على الصرف كقول الشاعر :
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله
عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
وقال الأخفش : هو عطف على ما قبله من النهي ، تقديره : ولا تخونوا أماناتكم .
وقرأ مجاهد : أمانتكم واحدة . واختلفوا في هذه ( الآية ) فقال ابن عباس : هو ما يخفي عن أعين الناس من فرائض الله عزّ وجلّ والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يقول لا تنقضوها .
وقال ابن زيد : معنى الامانات هاهنا الدين وهؤلاء المنافقون ائتمنهم الله على دينه فخانوا ، إذ أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر .
قال قتادة : إنّ دين الله أمانة فأدّوا إلى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده . ومَنْ كانت عليه أمانة فليردّها إلى مَنْ أئتمنه عليها .
الأنفال : ( 28 ) واعلموا أنما أموالكم . . . . .
) وأعلموا أنّما أموالكم وأولادكم ( التي عند بني قريظة ) فتنة وأنّ الله عنده أجر عظيم }
الأنفال : ( 29 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيُّها الذين آمنوا إن تتقوا الله ( بطاعته وترك معصيته واجتناب خيانته ) يجعل لكم فرقاناً ( قال مجاهد : مخرجاً في الدنيا والآخرة .
وقال مقاتل بن حيان : مخرجاً في الدين من الشبهات . وقال عكرمة : نجاة . وقال الضحاك : بياناً . وقال مقاتل : منقذاً
(4/347)

" صفحة رقم 348 "
قال الكلبي : بصراً ، وقال ابن إسحاق : فصلاً بين الحق والباطل ، يظهر الله به حقكم ويطفئ به باطل مَنْ خالفكم .
وقال ابن زيد : فرقاً يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتّى يعرفوه ويشهدوا به .
والفرقان مصدر كالرحمان والنقصان .
تقول : فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقاً وفروقاً وفرقاناً ، ) ويكفر عنكم ( ما سلف من ذنوبكم ) ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ( هذه الآية معطوفة على قوله تعالى : ) فاذكروا إذ أنتم قليل ( .
الأنفال : ( 30 ) وإذ يمكر بك . . . . .
) وإذ يمكر بك الذين كفروا ( . ) وإذا قالوا اللهم ( لأن هذه السورة مدنية .
وهذا القول والمكر كان بمكة ، ولكن الله تعالى ذكرهم ذلك بالمدينة كقوله ) إلاّ تنصروه فقد نصره الله ( وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسّرين أن قريشاً لمّا أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أُمور رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكانت روؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج وأُميّة بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح ، قالوا : ادخل فدخل .
فقال أبو البحتري : أمّا أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة ، وإنّما هو كأحدهم .
فصرخ إبليس الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره ، وقد سمع به مَنْ حولكم ، ( فأوشكوا أن يشبّوا فينتزعوه من أيديكم ) ويقاتلونكم عنه حتّى يأخذوه منكم .
قالوا : صدق الشيخ . فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي : أمّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ( ما ضر من ) وقع إذا غاب عنكم
(4/348)

" صفحة رقم 349 "
واسترحم وكان أمره في غيركم . فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به إلى غيركم يفسدهم كما أفسدكم ، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه .
والله لئن فعلتم ، ثمّ استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم .
قالوا : صدق والله الشيخ .
فقال أبو جهل : لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره : إني أرى أن نأخذ واحداً من كل بطن من قريش غلاماً وسبطاً ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفاً صارماً ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمّه في القبائل كلّها ، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا ، فقال إبليس : صدق هذا الفتى و ( هذا ) أجودكم رأياً ، القول ما قاله لا أرى غيره .
فتفرقوا على قول أبي جهل ، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه ، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج إلى المدينة وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه فنام في مضجعه فقال : اتشح ببردي فإنّه لن يخلص إليك أمر تكرهه .
ثمّ خرج النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وأخذ قبضه من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ ) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ( ومضى إلى الغار من ثور فدخله هو وأبو بكر وخلّف عليّا رضي الله عنه بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته وكان المشركون يتحرسون عليّاً رضي الله عنه وهو على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحسبون أنّه النبيّ ، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليّاً رضي الله عنه .
وقد ردّ الله مكرهم وما ترك منهم رجلا إلاّ وضع على رأسه التراب .
فقالوا : أين صاحبك ؟
قال : لا أدري فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل ، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت ، وقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث أيام ثمّ قدم المدينة فذلك قوله تعالى : ) وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ( .
قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي : ليوثقوك . وقال قتادة : ليشدوك وثاقاً .
(4/349)

" صفحة رقم 350 "
وقال عطاء . وعبد الله بن كثير : ليسجنوك . وقال أبان بن ثعلب . وأبو حاتم : ليثخنوك بالجراحات والضرب . وأنشد :
فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم
قالوا ألخليفة امسى مثبتاً وجعاً
وقيل : معناه ليسخروك .
وروى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عبد المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هل تدري ما أضمر بك قومك ؟
قال : ( نعم ( يريدون ) أن يسخروا بي ويقتلوني أو يخرجوني ) فقال : مَنْ أخبرك بهذا ؟
قال : ( ربّي ) .
قال : نِعم الرب ربّك فاستوصِ ربّك خيراً .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا استوصي به بل هو يستوصي بي خيراً ) .
وقرأ إبراهيم النخعي ( وليثبتوك ) من البيات ) أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله ( قال الحسن : فيقولون ويقول الله .
وقال الضحاك : ويصنعون ويصنع الله ) والله خير الماكرين ( خير من استنقذك منهم وأهلكهم
الأنفال : ( 31 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
) وإذا تتلى عليهم أياتنا قالوا ( يعنى النضر بن الحرث ) قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ( وذلك أنّه كان ( يختلف ) تاجراً إلى فارس والحيرة فيسمع سجع أهلها وذكرهم أخبار العجم وغيرهم من الأُمم ، فمر باليهود والنصارى فرآهم يقرأون التوارة والإنجيل ويركعون ويسجدون ، فجاء مكّة فوجد محمداً يقرأ القرآن ويصلّي . فقال النضر : قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ) إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين ( أخبار الأُمم الماضية وأعمارهم ، قال السدي : أساجيع أهل الحيرة .
والأساطير جمع الجمع وأصلها من قوله : سطرت أي كتبت ، وواحدها سطر ثمّ تجمع أسطار أو سطور ثمّ فيجمعان أساطر وأساطير . وقيل : الأساطير واحدها أُسطورة وأسطار . والجمع القليل : أسطر .
( ) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ
(4/350)

" صفحة رقم 351 "
إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( 2
الأنفال : ( 32 ) وإذ قالوا اللهم . . . . .
) وإذ قالوا اللّهم ( الآية نزلت أيضاً في النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة من بني عبد الدار .
قال ابن عباس : لمّا قصّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شأن القرون الماضية ، قال النضر : لو شئت لقلت مثل هذا إنْ هذا إلاّ أساطير الأوّلين في كتبهم .
فقال عثمان بن مظعون : اتق الله فإن محمداً يقول الحق . قال : فأنا أقول الحق . قال : فإن محمداً يقول : لا إله إلاّ الله . قال : فأنا أقول لا إله إلاّ الله . ولكن هذه شأن الله يعني الاصنام . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين ( قال النضر : ألا تَرون أن محمداً قد صدقني فيما أقول يعني قوله ) إن كان للرحمان ولد ( .
قال له المغيرة بن الوليد : والله ما صدّقك ولكنه يقول ما كان للرحمن ولد .
ففطن لذلك النضر فقال : اللّهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك .
) إن كان هذا هو الحق من عندك ( ) هو ( عماداً وتوكيد وصلة في الكلام ، و ) الحق ( نصب بخبر كان ) فأمطر علينا حجارة من السماء ( كما أمطرتها على قوم لوط .
قال أبو عبيدة : ما كان من العذاب . يقال : فينا مطر ومن الرحمة مطر ) أو إئتنا بعذاب أليم ( أي بنفس ما عذبت به الأُمم وفيه نزل : ) سأل سائل بعذاب واقع ( .
قال عطاء : لقد نزل في النضر بضعة عشرة آية من كتاب الله فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر .
قال سعيد بن جبير : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر : ( ثلاثة صبروا منكم من قريش المطعم بن عدي . وعقبة بن أبي معيط . والنضر بن الحرث ) .
وكان النضر أسير المقداد فلمّا أمر بقتله قال المقداد : أسيري يا رسول الله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّه كان يقول في كتاب الله ما يقول ) قال المقداد : أسيري يا رسول الله ، قالها ثلاث مرّات . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الثالثة : ( اللّهمّ اغن المقداد من فضلك ) .
فقال المقداد : هذا الذي أردت .
(4/351)

" صفحة رقم 352 "
الأنفال : ( 33 ) وما كان الله . . . . .
) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق بن يسار : هذه حكاية عن المشركين ، إنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأُولى ، ( وقيل ) : إن المشركين كانوا يقولون : والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أُمة ونبيّها معهم ، وذلك من قولهم ورسول الله بين أظهرهم ، فقال الله تعالى لنبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر له جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم إذ قالوا ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ( وقالوا : ) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( ) وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ( ثمّ قال ردّا عليهم ) وما لهم ألاّ يعذبهم الله ( وإن كنت بين أظهرهم أن كانوا يستغفرون ) وهم يصدون عن المسجد الحرام ( .
وقال آخرون : هذا كلام مستأنف وهو قول الله تعالى حكاية عن نفسه ثمّ اختلفوا في وجهها وتأوليها :
فقال ابن أبزي وأبو مالك والضحاك : تأويلها : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم .
قالوا : فأنزلت هذه الآية على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مقيم بمكّة ثمّ خرج النبيّ من بين أظهرهم .
وبقيت منها بقية من المسلمين يستغفرون . فأنزل الله بعد خروجه عليه حين استغفر أُولئك بها ) وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ( .
ثمّ خرج أُولئك البقية من المسلمين من بينهم فعذبوا وأذن الله بفتح مكّة ، فهو العذاب الذي وعدهم .
ابن عباس : لم يعذب أُولئك حتّى يخرج النبيّ منها والمؤمنون . قال الله : ) وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ( يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله :
الأنفال : ( 34 ) وما لهم ألا . . . . .
) وما لهم ألاّ يعذّبهم الله ( يعذبهم يوم بدر .
وقال بعضهم : هذا الاستغفار راجع إلى المشركين : وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين ما دمتَ فيهم وما داموا يستغفرون . وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويقولون لبيك لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك بملكه لو ما ملك ، ويقولون غفرانك غفرانك . هذه رواية أبي زميل عن ابن عباس .
وروى ابن معشر عن يزيد بن روحان ومحمد بن قيس قالا : قالت قريش بعضها لبعض : محمد أكرمه الله من بيننا ) اللّهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ( . الآية فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا ، فقالوا : غفرانك اللهم . فأنزل الله عزّ وجلّ ) وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ( .
وقال أبو موسى الأشعري : إنّه كان فيكم أماناً لقوله تعالى ) وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ( .
(4/352)

" صفحة رقم 353 "
وأمّا النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقد مضى وأمّا الاستغفار فهو كائن إلى يوم القيامة .
وقال قتادة ( وابن عباس ) وابن يزيد معنى : ) وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ( : أن لو استغفروا ، يقول إن القوم لو كانوا يستغفرون لما عذبوا ولكنهم لم يكونوا استغفروا ولو استغفروا فأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين .
وقال مجاهد وعكرمة : ( وهم يستغفرون ) أي يسلمون ، يقول : لو أسلموا لمّا عُذّبوا .
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ( وهم يستغفرون ) أي وفيهم من سبق له من الله الدخول في الإيمان .
وروى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك : وهم يستغفرون أي يصلّون . وقال الحسن : هذه الآية منسوخة بالآية التي تلتها : ) وما لهم ألاّ يعذبهم الله ( إلى قوله : ) بما كنتم تكفرون ( فقاتلوا بمكّة فأصابوا فيها الجوع والخير .
وروى عبد الوهاب عن مجاهد ( وهم يستغفرون ) أي في ( أصلابهم ) من يستغفره .
قال ) وما لهم ألاّ يعذّبهم الله ( أي : مايمنعهم من أن يُعذّبوا . قيل : ( إنّ ) أن ( هنا زائدة ) .
) وهم يصدون عن المسجد الحرام ( ) وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون ( المؤمنون من حيث كانوا ومن كانوا ، يعني النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ومن آمن معه .
) ولكن أكثرهم لا يعلمون }
الأنفال : ( 35 ) وما كان صلاتهم . . . . .
) وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصدية ( والمكاء الصفير . يقال مكاءً تمكّوا مكا ومكوا . وقال عنترة :
وحليل غانية تركت مجدّلاً
تمكوا فريصته كشدق الاعلم
ومنه قيل : مكت اسم الدابة مكأ إذا نفخت بالريح . ( وتصدية ) يعني التصفيق .
قال جعفر بن ربيعة : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله ) إلاّ مكاء وتصديه ( فجمع كفيه ثمّ نفخ فيها صفيراً .
وقال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون . و ( قال ) مجاهد : كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في الطواف يستهزئون به فيدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون ، يخلطون عليه صلاته وطوافه .
وقال مقاتل : كان النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صلّى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمنيه
(4/353)

" صفحة رقم 354 "
فيصفران ويصفقان ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا على النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) صلاته . وهم بنو عبد الدار فقتلهم الله ببدر .
وقال السدي : المكاء الصفير على لحن طائر أبيض يكون بالحجاز يقال له : المكا .
قال الشاعر :
إذا غرّد المكاء في غير روضة
قيل لأهل الشاء والحمرات
وقال سعيد بن جبير وابن إسحاق وابن زيد : التصدية صدهم عن بيت الله وعن دين الله ، والتصدية على هذا التأويل التصديد فقلبت إحدى الدالين تاءً كما يقال تظنيت من الظن .
قال الشاعر :
تقضي البازي إذا البازي كسر
يريد : تظنيت وتفضض .
وقرأ الفضل عن عاصم : وما كان صلاتهم بالنصف إلا مكاء وتصدية بالرفع محل الخبر في الصلاة كما قال القطامي :
قفي قبل التفرق يا ضباعاً
ولا يك موقف منك الوداعا
وسمعت مَنْ يقول : كان المكاء أذانهم والتصفيق إقامتهم ) فذوقوا العذاب ( يوم بدر ) بما كنتم تكفرون ( .
2 ( ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاَْوَّلِينِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( 2
الأنفال : ( 36 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ( ليصرفوا عن دين الله الناس .
قال سعيد بن جبير : وابن ابزى نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أُحد ألفين من ( الأحابيش ) يقاتل بهم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( سوى ) من أشخاص من العرب . وفيهم يقول كعب بن مالك
(4/354)

" صفحة رقم 355 "
فجينا إلى موج البحر وسطه
أحابيش منهم حاسر ومقنع
وفينا رسول الله نتبع قوله
إذ قال فينا القول لاينقطع
ثلاثة الألف ونحن نظنه ثلاث
مئين أن كثرن فاربع
وقال الحكم بن عيينة : نزلت في أبي سفيان بن حرب حيث أنفق على المشركين يوم أُحُد أربعين أوقية وكانت أوقيته اثنين وأربعين مثقالاً .
وقال ابن إسحاق عن رجاله : لما أُصيبت قريش من أصحاب القليب يوم بدر ، فرجع فِيَلهم إلى مكّة ورجع أبو سفيان ببعيره إلى مكّة ( مشى ) عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أميّة في رجال من قريش أُصيب أباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم ( بدر ) فكلّموا أبا سفيان بن حرب ومَنْ كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه أملنا أن ندرك منه ثأراً بمن أُصيب منا ، ففعلوا فأنزل الله فيهم هذه الآية .
وقال الضحاك : هم أهل بدر .
وقال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا : عتبه وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وبنيه ومنبه ابنا الحجّاج البحتري بن هشام والنضر بن حارث وحكم بن حزام وأبي بن خلف ، وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر ونوفل والعباس بن عبد المطلب كلهم من قريش ، وكان يطعم كل واحد منهم عشر جزر .
قال الله ) فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون ( ولا يظفرون ) والذين كفروا ( منهم خصّ الكفّار لأجل مَنْ أسلم منهم ) إلى جهنّم يُحشرون }
الأنفال : ( 37 ) ليميز الله الخبيث . . . . .
) ليميّز الله ( بذلك الحشر ) الخبيث من الطيب ( الكافر من المؤمن فيدخل الله المؤمن الجنان والكافر النيران .
وقال الكلبي : يعني العمل الخبيث من العمل الطيب الصالح فيثيب على الأعمال الصالحة الجنّة ويثيب على الأعمال الخبيثة النار .
قرأ أهل الكوفة والحسن وقتادة والأعمش وعيسى : ) ليميز الله ( بالتشديد .
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم .
وقال ابن زيد : يعني الإنفاق الطيب في سبيل الله من الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان فجعل نفقاتهم في قعر جهنم ثمّ يقال لهم : الحقوا بها
(4/355)

" صفحة رقم 356 "
وقال مرّة الهمداني : يعني يميز المؤمن في علمه السابق الذي خلقه حين خلقه طيباً من الخبيث الكافر في علمه السابق الذي خلقه خبيثاً ، وذلك أنّهم كانوا على ملة الكفر فبعث الله الرسول بالكتاب ليميّز ( الله ) الخبيث من الطيب فمن ( أطاع ) استبان أنّه طيب ومن خالفه استبان أنّه خبيث ) ويجعل الخبيث بعضه على بعض ( بعضه فوق بعض ) فيركمه جميعاً ( أي يجمعه حتّى يصيّره مثل السحاب الركام وهو المجتمع الكثيف ) فيجعله في جهنم ( فوحد الخبر عنهم لتوحيد قول الله تعالى ) ليميز الله الخبيث ( ثمّ قال ) أُولئك هم الخاسرون ( فجمع ، رده إلى أول الخبر ، يعني قوله : ) الذين كفروا ينفقون أموالهم أُولئك هم الخاسرون ( الذين غنيت صفقتهم وخسرت تجارتهم لأنّهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة
الأنفال : ( 38 ) قل للذين كفروا . . . . .
) قل للذين كفروا ( أبي سفيان وأصحابه ) إن ينتهوا يغفر لهم ( ان ينتهوا من الشرك وقال محمد : يغفر لهم ) ما قد سلف ( من عملهم قبل الإسلام ) وإن يعودوا ( لقتال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فقد مضت سنّة الأوّلين ( في نصر الأنبياء والأولياء وهلاك الكفّار والأعداء مثل يوم بدر .
قال الأستاذ الإمام أبو إسحاق : سمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول : سمعت أبي يقول : سمعت عليّ بن محمد الوراق يقول : سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول : إنّي لأرجو أنّ توحيداً لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب .
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي بذلك أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد الزيدي :
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف
ثمّ انتهى عمّا أتاه واقترف
لقوله سبحانه ( في المعترف : ) ) قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ( .
الأنفال : ( 39 ) وقاتلوهم حتى لا . . . . .
) وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ( أي شرك ، وقال أبو العالية : بلاء ، وقال الربيع : حتّى لا يفتن مؤمن عن دينه ) ويكون الدين ( التوحيد خالصاً ) كلّه لله ( عزّ وجلّ ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد .
وقال قتادة : حتّى يقال : لا إله إلاّ الله ، عليها قاتل نبي الله وإليها دعا .
وقيل : حتّى تكون الطاعة والعبادة لله خالصة دون غيره ) فإن أنتهوا ( عن الكفر والقتال ) فإن الله بما يعملون بصير }
الأنفال : ( 40 ) وإن تولوا فاعلموا . . . . .
) وإن تولوا ( عن الإيمان وعادوا إلي فقال أهله ) فاعلموا أن الله مولاكم ( ناصركم ومعينكم ) نعم المولى ونعم النصير ( الناصر .
(4/356)

" صفحة رقم 357 "
2 ( ) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاَْمْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِىأَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِىأَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 2
الأنفال : ( 41 ) واعلموا أنما غنمتم . . . . .
) واعلموا أنّما غنمتم من شيء ( حتّى الخيط والمخيط .
واختلف العلماء في معنى الغنيمة والفي ، ففرّق قوم بينهما :
قال الحسن بن صالح : سألت عطاء بن السائب عن الفي والغنيمة فقال : إذا ظهر المسلمون على المشركين على أرضهم فأخذوه عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة . وأمّا الأرض فهو في سواد هذا الفيء .
وقال سفيان الثوري : الغنيمة ما أصاب المسلمون عنوة بقتال ، والفي ما كان من صلح بغير قتال .
وقال قتادة : هما بمعنى واحد ومصرفهما واحد وهو قوله تعالى ) فأن لله خمسه ( .
اختلاف أهل التأويل في ذلك فقال بعضهم قوله : ) فأن لله خُمسه ( مفتاح الكلام . ولله الدنيا والآخرة فإنّما معنى الكلام : فأنّ للرسول خُمسه وهو قول الحسن وقتادة وعطاء ، فإنّهم جعلوا سهم الله وسهم الرسول واحداً ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس . قالوا : كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس فأربعة أخماس لمن قاتل عليها ، وقسّم الخمس الباقي على خمسة أخماس : خمس للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) كان له ويصنع فيه ما شاء وسهم لذوي القربى ، وخمس اليتامى وخمس للمساكين وخُمس لابن السبيل . فسهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خمس الخمس .
وقال بعضهم : معنى قوله : ( فأن لله ) فإن لبيت الله خمسه . وهو قول الربيع وأبي العالية قالا : كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خمسة أسهم ، فجعل أربعة لمن شهد القتال ويعزل أسهماً ( فيضرب يده ) في جميع ذلك فما قبض من شيء جعله للكعبة وهو الذي سُميّ لله ثمّ يقسّم ما بقي على خمسة أسهم : سهم للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وسهم لذي القربى ، وسهم اليتامى ، وسهم للمساكين ، وخمس لابن السبيل ، وسهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خمس الخمس
(4/357)

" صفحة رقم 358 "
وقال ابن عباس : سهم الله وسهم رسوله جميعاً لذوي القربى وليس لله ولا لرسوله منه شيء .
وكانت الغنيمة تُقسّم على خمسة أخماس فأربعة منها لمن قاتل عليها وخمس واحد تقسّم على أربعة ، فربع لله والرسول ولذي القربى . فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يأخذ النبيّ من الخمس شيئاً . والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل .
وأمّا قوله ( ولذي القربي ) فهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس مكان الصدقة واختلفوا فيهم .
فقال مجاهد وعليّ بن الحسين وعبد الله بن الحسن : هم بنو هاشم .
وقال الشافعي : هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب خاصّة . واحتج في ذلك بما روى الزهري عن سعيد بن جبير بن مطعم قال : لما قسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سهم لذوي القربى من خيبر على بني هاشم والمطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا : يا رسول الله هؤلاء إخوانك بنو هاشم لا تنكر فضلهم مكانك الذي حملك الله منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا ، وإنّما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام . إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ) ثمّ أمسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إحدى يديه بالأُخرى .
وقال بعضهم : هم قريش كلّها .
كتب نجدة إلى ابن عباس وسأله عن ذوي القربى فكتب إليه ابن عباس : قد كنا نقول : إنا هم ، فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا : قريش كلّها ذو قربى .
واختلفوا في حكم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وسهم ذي القربى بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكان ابن عباس والحسن يجعلانه في الخيل والسلاح ، والعدّة في سبيل الله ومعونة الإسلام وأهله .
وروى الأعمش عن إبراهيم . قال : كان أبو بكر رضي الله عنه وعمر يجعلان سهم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم : ما كان لعليّ رضي الله عنه قول فيه . قال : كان أشدهم فيه .
قال الزهري : إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر الصديق يطلبان ميراثهم من فدك وخيبر .
فقال
(4/358)

" صفحة رقم 359 "
لهم أبو بكر رضي الله عنه : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا صدقة ) فانصرفا . .
(4/359)

" صفحة رقم 360 "
وقال قتادة : كان سهم ذي القربى طعمة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان حيّاً . فلمّا توفي جعل لولي الأمر بعده .
(4/360)

" صفحة رقم 361 "
وقال عليّ كرم الله وجهه : يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس لا يعطى غيره ، ويلي الإمام سهم الله ورسوله .
وقال بعضهم : سهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مردود بعده في الخمس . والخمس بعده مقسوم على ثلاث أسهم : على اليتامى والمساكين وابن السبيل وهو قول جماعة من أهل العراق .
وقال عمرو عن عيينة : صلّى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بعير من المغنم فلمّا فرغ أخد وبره من جسد البعير فقال : ( إنّه لا يحلّ لي من هذا المغنم مثل هذا إلاّ الخمس ، والخمس مردود فيكم ) .
وقال آخرون : الخمس كلّه لقرابة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فقال المنهال ابن عمرو : سألت عبد الله بن محمد بن عليّ وعليّ بن الحسين عن الخمس فقالا : هو لنا ، فقلت لعلي رضي الله عنه : إن الله تعالى يقول ) واليتامى والمساكين وابن السبيل ( فقال : يتامانا ومساكيننا .
وأمّا اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين هلك أباؤهم ، والمساكين أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ، وابن السبيل المسافر المنقطع .
وقال ابن عباس : هو الفتى الضعيف الذي ترك المسلمين ) إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوم الفرقان ( يوم فرق فيه بين الحق والباطل ببدر ) يوم التقى الجمعان ( جمع المسلمين وجمع المشركين وهو يوم بدر وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة وكان يوم الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان ) والله على كل شيء قدير }
الأنفال : ( 42 ) إذ أنتم بالعدوة . . . . .
) إذ أنتم ( يا معشر المسلمين ) بالعدوّة الدنيا ( شفير الوادي الأدنى إلى المدينة ) وهم ( يعني عدوكم من المشركين ) بالعدوة القصوى ( من الوادي الأقصى من المدينة ) والركب أسفل منكم ( إلى ساحل البحر كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأعلى الوادي والمشركين بأسفله والعير قد ( انهرم ) به أبو سفيان على الساحل حتّى قدم مكّة .
وفي العدوة قراءتان : كسر العين وهو قراءة أهل مكّة والبصرة .
وضم العين وهو قرأ الباقين واختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، وهما لغتان مشهورتان كالكُسوة والكَسوة . والرُشوة والرَشوة . وينشد بيت الراعي :
وعينان حمر مآقيهما
كما نظر العِدوة الجؤذر
بكسر العين
(4/361)

" صفحة رقم 362 "
وينشد بيت أوس بن حجر :
وفارس لو تحل الخيل عُدوته
ولّوا سراعاً وما همّوا بإقبال
بالضم .
والدنيا تأنيث الأدنى ، والقصوى تأنيث الأقصى .
وكان المسلمون خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها فالتقوا من غير ميعاد قال الله ) ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ( لقلّلكم وكثرة عدوكم ) ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا ( من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه ) ليهلك ( هذه اللام مكررة على اللام في قوله ) ليقضي الله أمراً كان مفعولا ( ويهلك ) مَنْ هلك عن بيّنة ( أي ليموت مَنْ يموت على بينة ( ولَهَاً وعِبْرةً ) عاينها وحجّة قامت عليه ، وكذلك حياة من يحيى لوعده ) وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً ( .
وقال محمد بن إسحاق : ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت معذرته ويؤمن من آمن على ( مثواك ) .
وقال قتادة : ليضل من ضل عن بينة ويهتدي من اهتدى على بيّنة .
وقال عطاء : ليهلك من هلك عن بينة عن علم بما دخل فيه من الفجور ) ويحيى مَنْ حي عن بيّنة ( عن علم ويقين بلا إله إلاّ الله . وفي ( حي ) قولان ، قرأ أهل المدينة : ( حيي ) بيائين مثل خشيي على الإيمان ، وقرأ الباقون ( حيّ ) بياء واحدة مشددة على الإدغام ، لأنّه في الكتاب بياء واحدة ) وإن الله لسميع عليم }
الأنفال : ( 43 ) إذ يريكهم الله . . . . .
) إذ يُريكهم الله ( يا محمد يعني المشركين ) في منامك ( أي في نومك ، وقيل : في موضع نومك يعني عينك ) قليلا ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ( لجبنتم ) ولتنازعتم ( اختلفتم ) في الأمر ( وذلك أن الله تعالى أراهم إياه في منامه قليلا فأخبر ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ، فكان تثبيتاً لهم ونعمة من الله عليهم شجعهم بها على عدوهم فذلك قوله عزّ وجلّ ) ولكن الله سلم ( قال ابن عباس : سلم الله أمرهم حين أظهرهم على عدوهم
الأنفال : ( 44 ) وإذ يريكموهم إذ . . . . .
) وإذ يُريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ( قال مقاتل : ذلك أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في المنام أن العدو قليل قبل ( لقاء ) العدو فأخبر النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه بما رأى . فقالوا : رؤيا النبيّ حق ، القوم قليل ، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين وأصدق رؤيا النبيّ ( صلى الله عليه وسلم )
قال عبد الله بن مسعود : لقد قُللوا في أعيننا يوم بدر حتّى قلت لرجل إلى جنبي : ( نراهم سبعين ) قال أراهم مائة فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم ؟ قال : ألفاً . ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم .
(4/362)

" صفحة رقم 363 "
قال السدي : قال أُناس من المشركين : إن العير قد انصرفت فارجعوا . فقال أبو جهل : الآن إذا ( ينحدر لكم ) محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتّى تستأصلوهم ولا تقتلوهم بالسلاح خذوهم أخذاً كي لا يعبد الله بعد اليوم ، إنّما محمد وأصحابه أكلة جزور فاربطوهم بالجبال .
كقوله من القدرة على نفسه .
قال الكلبي : استقلّ المؤمنون المشركين والمشركون المؤمنين ، البحتري : بعضهم على بعض . ) ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ( كائناً في علمه ، نصر الإسلام وأهله وذل الشرك وأهله .
وقال محمد بن إسحاق : ليقضي الله أمرا كان مفعولاً بالانتقام من أعدائه والإنعام على أوليائه ) وإلى الله ترجع الأمور ( .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِىءٌ مِّنْكُمْ إِنِّيأَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيأَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَاؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذاَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ( 2
الأنفال : ( 45 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيُّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة ( أي جماعة كافرة ( فاثبتوا ) لقتالهم ولا تنهزموا ) واذكروا الله كثيراً ( أي ادعو الله بالنصر عليهم والظفر بهم ، وقال قتادة : أمر الله بذكره ( أثقل ) ما يكونون عند الضراب بالسيوف ) لعلّكم تُفلحون ( تنجحون بالنصر والظفر
الأنفال : ( 46 ) وأطيعوا الله ورسوله . . . . .
) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا ( ولا تختلفوا ) فتفشلوا ( أي تخسروا وتضعفوا .
وقال الحسن : فتفشلوا بكسر الشين ) وتذهب ريحكم ( قال مجاهد : نصركم وذهبت ريح أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين نازعوه يوم أُحد .
وقال السدي : جماعتكم وحدتكم ، وقال مقاتل : ( حياتكم ) ، وقال عطاء : جَلَدكم .
وقال يمان : غَلَبَتكم ، وقال النضر بن شميل : قوتكم ، وقال الأخفش : دولتكم ، وقال ابن زيد : هو ريح النصر لم يكن نصر قط إلاّ بريح يبعثه الله في وجوه العدو ، فإذا كان كذلك لم
(4/363)

" صفحة رقم 364 "
يكن لهم قوام ، ومنه قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور ) .
يقال للرجل إذا أقبلت الدنيا عليه بما يهواه : الريح اليوم لفلان .
قال عبيد بن الأبرص :
كما حميناك يوم النعف من شطب
والفضل للقوم من ريح ومن عدد
وقال الشاعر :
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي
إلا عبيد وأم بين أذواد
أتنتظران قليلاً ريث غفلتهم
أو تعدوان فإن الريح للعادي
أنشدني أبو القاسم المذكور قال : أنشدني أبا نصر بن منصور الكرجي الكاتب :
إذا هبت رياحك فاغتنمها
فإن لكلّ خافقة سكون
ولا يغفل عن الإحسان فيها
فما تدري السكون متى يكون
قوله تعالى ) واصبروا إنّ الله مع الصابرين }
الأنفال : ( 47 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
) ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ( فخرا وأشَرِاً ) وريئَاء الناس ويصدّون عن سبيل الله ( معطوف على قوله : ( بطراً وريئاء الناس ) ومعناه ينظرون ويرون ، إذ لا يعطف مستقبل على ماض ، ) والله بما تعملون محيط ( وهؤلاء أهل مكّة خرجوا يوم بدر ولهم بغيٌ وفخر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللّهمّ إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها ليحادك ورسولك ) .
قال ابن عباس : لمّا رأى أبو سفيان أنّه أحرز عيره أرسل إلى قريش أنّكم خرجتم لتمنعوا عليكم فقد نجاها الله فارجعوا فوافى الركب الذي فيه أبو سفيان ليأمروا قريشاً بالرجعة إلى مكّة فقال لهم : انصرفوا ، فقال أبو جهل : والله لا ننصرف حتّى نرد بدراً وكان بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام فنقيم بها ثلاثاً وننحر الجزر ونطعِم الطعام ونسقي الخمور ونعزف عليها القيان وتسمع بها العرب . فلا يزالون يهابوننا أبداً فوافوها فسُقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان
(4/364)

" صفحة رقم 365 "
ونهى الله عباده المؤمنين بأن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النيّة والخشية في نصرة دينه وموأزرة نبي ه ( صلى الله عليه وسلم )
الأنفال : ( 48 ) وإذ زين لهم . . . . .
) وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم ( وكانت الزينة لهم على ما قاله ابن عباس وابن إسحاق والسدي والكلبي وغيرهم : إن قريشاً لمّا أجمعت المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب التي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب ، فكان ذلك أن يثبتهم ، فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته فتبدّى في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني ، وكان من أشراف كنانة .
قال الشاعر :
يا ظالمي أنّى تروم
ظلامتي والله من كل الحوادث خالي
) فلما تراءت الفئتان ( أي التقى الجمعان ورأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء وعلم أنّه لا طاقة له بهم ) نكص على عقبيه ( . قال الضحاك : ولّى مدبراً . قال النضر بن شميل : رجع القهقري على قفاه هارباً ، وقال قطرب وابان بن ثعلبة : رجع من حيث جاء .
قال الشاعر :
نكصتم على أعقابكم يوم جئتمُ
وتزجون أنفال الخميس العرمرم
وقال عبد الله بن رواحة : فلمّا رأيتم رسول الله نكصتم على أعقابكم هاربينا .
قال الكلبي : لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن كنانة آخذاً بيد الحرث بن هشام ، فنكص على عقبيه وقال له الحرث : يا سراقة أين ؟ أتخذلنا على هذه الحالة ؟ فقال له ) إني أرى ما لا ترون ( فقال : والله ما نرى إلا جواسيس يثرب . فقال : ) أني أخاف الله ( .
قال الحرث : فهلاّ كان هذا أمس ، فدفع في صدر الحرث فانطلق وانهزم الناس ، فلمّا قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس ، فوالله ماشعرت حتى بلغني هزيمتكم ، فقالوا أما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم ، فلمّا تابوا علموا أن ذلك كان الشيطان .
وقال الحسن في قوله : ( أني أرى مالا ترون ) فأتى إبليس جبرئيل معتجراً بردة يمشي بين يدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي يده اللجام يقود الفرس ماركب .
سمعت أبا القاسم الحبيبي سمعت أبا زكريا العنبري ، سمعت أبا عبد الله محمد بن
(4/365)

" صفحة رقم 366 "
إبراهيم البوشنجي يقول أفخر بيت قيل في الإسلام قوله بغيض الأنصاري يوم بدر :
وببئر بدر إذ نردّ وجوههم
جبريل تحت لوائنا ومحمد
وقال قتادة وابن إسحاق . قال إبليس : إني أرى مالا ترون وصدق الله في عدوّه ، وقال : إني أخاف الله ، وكذب عدوّ الله ، والله ما به مخافة الله ولكن علم أنّه لاقوة له ولامنعة فأيّدهم وأسلمهم ، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرّأ منهم .
قال عطاء إني أخاف الله أن يهلكني فيمن هلك ، وقال الكلبي : خاف أن يأخذه جبرئيل ويعرّفهم حاله فلا يطيعوه من بعد ، وقال معناه : إني أخاف الله ، أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه على ثقة من أمره .
قال الاستاذ الامام أبو إسحاق ، رأيت في بعض التفاسير : إني أخاف الله عليكم والله شديد العقاب . قال بعضهم هذا حكاية عن إبليس ، وقال أخرون : انقطع الكلام عند قوله : إني أخاف الله قال الله ) والله شديد العقاب ( .
إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدجر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة ، وما ذاك إلا لمّا رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر ) ، وذلك أنه رأى جبرائيل وهو يزع الملائكة .
الأنفال : ( 49 ) إذ يقول المنافقون . . . . .
) إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ( شك ونفاق ) غرّ هؤلاء دينهم ( يعني المؤمنين هؤلاء قوم بمكة مستضعفين حبسهم آباؤهم وأقرباؤهم من الهجرة ، فلمّا خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرهاً ، فلمّا نظروا إلى حلة المسلمين ارتابوا وارتدّوا وقالوا : غرّ هؤلاء دينهم فقتلوا جميعاً منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان والحرث بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه بن الحجاج والوليد بن عتبة وعمرو بن بن أمية ، فلما قُتلوا مع المشركين ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم فذلك قوله تعالى :
الأنفال : ( 50 ) ولو ترى إذ . . . . .
) ولو ترى ( تعاين يا محمد ) إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ( أي يقبضون أرواحهم ببدر ) يضربون ( حال أي ضاربين ) وجوههم وأدبارهم ( قال سعيد بن جبير ، ومجاهد : يريد أستاههم ولكن الله تعالى كريم ( يكني ) .
وقال مُرّة الهمذاني وابن جريج : وجوههم ما أقبل عنهم ، وأدبارهم ما أدبر عنهم
(4/366)

" صفحة رقم 367 "
وتقديره : يضربون أجسادهم كلها ، وقال ابن عباس : كانوا إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف ، وإذا ولّوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم ، وقال الحسن : قال رجل : يا رسول الله رأيت بظهراني رجل مثل الشراك ، قال : ذلك ضرب الملائكة ، وقال الحسين بن الفضل : ضرب الوجه عقوبة كفرهم ، وضرب الأدبار عقوبة معاصيهم .
) وذوقوا ( فيه إضمار ، أي ويقولون لهم ذوقوا ) عذاب الحريق ( في الآخرة ، ورأيت في بعض التفاسير : كان مع الملائكة مقامع من حديد كلمّا ضربوا التهب النار في الجراحات فذلك قوله تعالى : وذوقوا عذاب الحريق ، ومعنى قوله ذوقوا : قاسوا واحتملوا . قال الشاعر :
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر
من الغيظ في أكبادنا والتحوب
ويجوز ذوقوا بمعنى موضع الابتلاء والاختبار يقول العرب اركب هذا الفرس فذقه ، وانظر فلاناً وذق ما عنده . قال الشماخ في وصف قوس :
فذاق وأعطاه من اللين جانباً
كفى ولهاً أن يغرق السهم حاجز
وأصله من الذوق بالفم
الأنفال : ( 51 ) ذلك بما قدمت . . . . .
) ذلك بما قدمت ( كسبت وعملت ) أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( أخذهم من غير جزم ، وفي محل ( أنّ ) وجهان من الاعراب : أحدهما النصب عطفاً على قوله ( بما قدمت ) تقديره : وأن الله ، والآخر : الرفع عطفاً على قوله ( ذلك ) معناه : وذلك أن الله .
2 ( ) كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ( 2
(4/367)

" صفحة رقم 368 "
الأنفال : ( 52 ) كدأب آل فرعون . . . . .
) كدأب آل فرعون ( قال ابن عباس : كفعل آل فرعون ، وقال الضحاك : كصنيعهم ، وقال مجاهد ، وعطاء : كسنّتهم ، وقال يمان : كمثلهم يعني أن أهل بدر فعلوا كفعل آل فرعون من الكفر والذنوب ، ففعل الله بهم كما فعل بآل فرعون من الهلاك والعذاب ، وقال الكسائي : كما أن آل فرعون جحدوا كما جحدتم وكفروا كما كفرتم . قال الاخفش ، والمؤرخ ، وأبو عبيدة : كعادة آل فرعون .
) وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأخَذَهُمُ اللهُ ( فعاقبهم الله ) بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ }
الأنفال : ( 53 ) ذلك بأن الله . . . . .
) ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ ( .
قال الكلبي : يعني أهل مكة ، أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، وبعث إليهم محمداً ( عليه السلام ) فغيّروا نعم الله ، وتغييرها أن كفروا بها وتركوا شكرها ، وقال السدّي : نعمة الله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنعم به على قريش فكذبوه وكفروا به فنقله إلى الأنصار .
) وَأنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
الأنفال : ( 54 ) كدأب آل فرعون . . . . .
) كَدَأبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ( من كفار الامم ) كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ( بعضاً بالرجفة وبعضاً بالخسف وبعضاً بالمسخ وبعضاً بالحصى وبعضاً بالماء ، فكذلك أهلكنا كفار مكة بالسيف والذل ) وَأغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ( الآية
الأنفال : ( 56 ) الذين عاهدت منهم . . . . .
) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ( .
سمعت أبا القاسم بن حبيب ، سمعت أبا بكر عبدش يقول : من هاهنا صلة الذين عاهدتهم ، وسمعته يقول سمعت المنهل بن محمد بن محمد بن الاشعث يقول : دخلت بين لأن المعنى : الذين أخذت منهم العهد ، وقيل : عاهدت منهم أي معهم ) ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّة ( وهم بنو قريظة ، نقظوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قبال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالوا إلى الكفار على رسول الله يوم الخندق ، وكتب كعب بن الاشرف إلى مكة يوافقهم على مخالفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ( لايخافون الله في نقض العهد .
الأنفال : ( 57 ) فإما تثقفنهم في . . . . .
) فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ( ترينّهم وتجدنّهم ) فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ( قال ابن عباس : فنكّل بهم من ورائهم ، وقال قتادة : عِظ بهم مَنْ سواهم من الناس ، وقال سعيد بن جبير : أنذر بهم مَنْ خلفهم ، وقال ابن زيد : أخفهم بهم .
وقيل : فرَّق جمع كل ناقض مما بلغ من هؤلاء ، وقال عطاء : أثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم من أهل مكة وأهل اليمن ، وقال ابن كيسان : اقتلهم فلا من يهرب عنك مَن بعدهم .
وقال القتيبي : سمِّع بهم ، وأنشد :
أُطوّف في الاباطح كل يوم
مخافة أن يشردّ بي حكيم
(4/368)

" صفحة رقم 369 "
وأصل التشريد : التطريد والتفريق والتبديد ، وقرأ أبن مسعود ( وشرّذ ) بالذال معجم وهو واحد . قال قطرب التشريذ بالذال التنكيل ، وبالدال للتفريق من خلفهم أي من ورائهم ، وقيل من يأتي خلفهم ، وقرأ الأعمش مِن ( خلفِهم ) بكسر الميم والفاء تقديره : فشرِّد بهم من خلفهم من عمل قبل عملهم ) لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( يعتبرون العهد فلا ينقضون العهد .
الأنفال : ( 58 - 59 ) وإما تخافن من . . . . .
) وَإمَّا تَخَافَنَّ ( تعلمنّ يا محمد ) مِنْ قَوْم ( معاهدين لك ) خِيَانَةً ( نكث عهد ونقض عقد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر والخيانة كما ظهر من قريظة والنضير ) فَانْبِذْ إلَيْهِمْ ( فاطرح إليهم عهدهم ) عَلَى سَوَاء ( وهذا من الحان القرآن ، ومعناه : فناجزهم الحرب ، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك فسخت العهد بينك وبينهم حتى تصير أنت وهم على سواء من العلم بأنك محارب ، فيأخذوا للحرب أهبتها وتبرؤوا من الغدر ، وقال الوليد بن مسلم : على سواء أي على مهل وذلك قوله ) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ( ) إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلا يَحْسَبَنَّ ( قرأ أبو جعفر ، وابن عامر بالباء على معنى لاتحسبن الذين كفروا انهم أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب ) الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُمْ ( قرأ العامة بالكسر على الابتداء ، وقرأ أهل الشام وفارس بالفتح ويكون لا صلة ، تقديره : ولا تحسبن الذين كفروا أن سبقوا أنّهم يعجزون أي يفوتون .
الأنفال : ( 60 ) وأعدوا لهم ما . . . . .
) وَأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة ( أي من الآلات يكون قوة له عليهم من الخيل والسلاح والكراع . صالح بن كيسان عن رجل عن عقبة بن مسافرالجهني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ على المنبر ، وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ، فقال : ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، وروى ضمرة بن ربيعة عن رجاء بن أبي سلمة فقال : لقي رجل مجاهداً بمكة ومع مجاهد جوالق فقال مجاهد هذا من القوة ، ومجاهد يتجهز للغزو ، وقال عكرمة القوة الحصون .
) وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ ( ( الاناث ) ) تُرْهِبُونَ بِهِ ( تخوفون ، ابن عباس : تخزون ، وقرأ يعقوب : ترهبون بتشديد الهاء وهما لغتان : أرهبته ورهّبته ) عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ ( قال مجاهد : بنو قريظة . السدّي : أهل فارس . ابن زيد : المنافقون لا تعلمونهم لأنهم منكم يقولون : لا إله إلا الله ، ويغزون معكم ، وقال بعضم : هم كفار الجن ، وقال بعضهم : هم كل عدو من المسلمين غير الذي أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يشردّ بهم .
) وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْء في سبيل اللهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ ( يدّخر ويوفّر لكم أجره ) وَأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (.
(4/369)

" صفحة رقم 370 "
2 ( ) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِىأَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مُّنكُمْ مِّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاَْرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاَْخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 2
الأنفال : ( 61 ) وإن جنحوا للسلم . . . . .
) وَإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( أي فمل إليها وصالحهم ، قالوا : وكانت هذه قبل ( براءة ) ثم مسخت بقوله : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وقوله : قاتلوا الذين يؤمنون بالله ، الآية ) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (
الأنفال : ( 62 ) وإن يريدوا أن . . . . .
) وَإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ ( يغدروا ويمكروا بك ، قال مجاهد : يعني قريظة ) فَإنَّ حَسْبَكَ اللهُ ( كافيك الله ) هُوَ الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ ( قال السدّي : يعني الأنصار
الأنفال : ( 63 ) وألف بين قلوبهم . . . . .
) وَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ( جمع بين قلوبهم وهم الأوس والخزرج على دينه بعد حرب سنين ، فصيرّهم جميعاً بعد أن كانوا أشتاتاً ، وأخواناً بعد أن كانوا أعداءً ) لَوْ أنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ( إلى قوله تعالى ) حكيم ( .
روى ابن عفّان عن عمير بن إسحاق ، قال : كنّا نتحدث أن أول مايرفع من الناس الالفة
الأنفال : ( 64 ) يا أيها النبي . . . . .
) يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ ( .
). . . . . . . . ) أبي المغيرة عن سعيد بن جبير ، قال : أسلم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة وثلاثون رجلاً وستّ نسوة ، ثم أسلم عمر ( رضي الله عنه ) فنزلت هذه الآية : يا أيها النبيّ حسبك الله ) وَمَنِ اتَّبَعَكَ ( قال اكثر المفسرين : محل من نصب عطفاً على الكاف في قوله حسبك ، ومعنى الآية : وحسب من أتبعك ، وقال بعضهم رفع عطفاً على اسم الله تقديره : حسبك الله ومتّبعوك من المؤمنين .
الأنفال : ( 65 ) يا أيها النبي . . . . .
) يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ ( حثّهم على القتال ) إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ ( رجلاً صابرون محتسبون ) يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ( من عدوّهم ويقهروهم ) وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ ( صابرة محتسبة تثبت عند اللقاء وقتال العدو ) يَغْلِبُوا ألْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ( من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير احتساب ، ولا طلب ثواب ، فهم لا يثبتون إذا صدقتموهم القتال
(4/370)

" صفحة رقم 371 "
خشية أن يُقتلوا ، وصورة الآية خبر ومعناه أمر .
وكان هذا يوم بدر قَرَنَ على الرجل من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين ، فثقلت على المؤمنين وضجّوا فخفّف الله الكريم عنهم وأنزل
الأنفال : ( 66 ) الآن خفف الله . . . . .
) الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ( أي في الواحد عن قتال عشرة والمائة عن قتال الألف ، وقرأ أبو جعفر ضعفاً بفتح الضاد ، وقرأ بعضهم : ضعفاء بالمد على جمع ضعيف مثل شركاء .
) فَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفّار وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ بِإذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ( أي عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد فكُسر أول عشرين كما كسر اثنان ) ، وإذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغِ ( لهم أن يفروا منهم ، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم ) القتال وجاز لهم أن ( يتحوزوا ) عنهم .
الأنفال : ( 67 ) ما كان لنبي . . . . .
) مَا كَانَ لِنَبِيَ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى ( روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : لما كان يوم بدر جيء بالأسرى ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما تقولون في هؤلاء ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم فاستعن بهم ، لعلّ الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية ( تكن ) لنا قوة على الكفار .
وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم ، ومكِّن علياً من عقيل يضرب عنقه ، ومكّني من فلان نسيب لعمر أضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم ناراً ، فقال العباس ، قطعتك رحمك ، فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يجبهم . ثم دخل فقال أُناس : يأخذ بقول أبو بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة .
ثم خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إن الله يلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين ، وأن الله يشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ، قال : فمن تبعني فإنّه منّي ، ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى . قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، ومثلك ياعمر مثل نوح قال رب لاتذر على الأرض من الكافرين دياراً ، ومثلك كمثل موسى قال ) ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ( الآية .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنتم اليوم عالة فلا يفلتنّ أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق ، قال
(4/371)

" صفحة رقم 372 "
عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن البيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : فما رأيتني في يوم أخوف أن يقع عليّ الحجارة من السماء مني ذلك اليوم حتى قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إلا سهيل بن البيضاء ) .
قال : فلمّا كان من الغد جئت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء ما بكيت ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبكي للذي عرض على اصحابك في أخذهم الفداء ، ولقد عُرض عليّ عذابكم ، ودنا من هذه الشجرة شجرة ، قريبة من نبي الله فأنزل الله تعالى ) مَا كَانَ لِنَبِيَ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى ( بالتاء بصري الباقون بالياء ، أسرى : جمع أسير مثل قتيل وقتلى ) حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ ( أي يبالغ في قتل المشركين وأسرهم وقهرهم ، أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ ، وأثخنته معرفة بمعنى قلته معرفة .
قال قتادة هذا يوم بدر ، فاداهم رسول الله بأربعة آلاف بأربعة آلاف ، ولعمري ما كان أثخن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ ، وكان أول قتال قاتل المشركين .
قال ابن عباس كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلمّا كثروا واشتد سلطانهم ، أنزل الله تعالى بعد هذا في الأُسارى ) فإمّا منّاً بعد وإمّا فداء ( فجعل الله نبيه والمؤمنين في أمر الأُسارى بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وأن شاءوا فادوهم وإن شاؤوا رفقوا بهم .
) تُرِيدُونَ ( أيها المؤمنون ) عَرَضَ الدُّنْيَا ( بأخذكم الفداء ) وَاللهُ يُرِيدُ ( ثواب ) الآخِرَةَ ( بقهركم المشركين ونصركم دين الله ) وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( .
2 ( ) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّمَن فِىأَيْدِيكُم مِّنَ الاَْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الاَْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَام
(4/372)

" صفحة رقم 373 "
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ( 2
الأنفال : ( 68 ) لولا كتاب من . . . . .
) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ( الآية ، قال ابن عباس كانت الغنائم قبل أن يُبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حرام على الأنبياء والأُمم كلهم كانوا إذا أصابوا مغنماً جعلوه للنيران وحرّم عليه أن يأخذوا منه قليلاً أو كثيراً ، وكان الله عز وجل كتب في أم الكتاب أن الغنائم والأُسارى حلال لمحمد وأُمته ، فلمّا كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم ، فأنزل الله تعالى ) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ( لولا قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله تعالى أحل لكم الغنيمة .
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد : لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذِّب أحداً شهد بدر مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : لولا كتاب سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ، وقال ابن جريج : لولا كتاب من الله سبق أنه لايضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم مايتقون ، وأنه لايأخذ قوماً فعلوا شيئاً بجهالة ) لَمَسَّكُمْ ( لنالكم وأصابكم ) فِيمَا أخَذْتُمْ ( من الغنيمة والفداء قبل أن يؤمروا به ) عَذَابٌ عَظِيمٌ ( .
روى محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه في أسارى بدر : ( إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم ، واستشهد منكم بعدّتهم ) ، وكانت الاسارى سبعون . فقالوا : بل نأخذ الفداء ونتمتع به ونقوى على عدونا ويستشهد منا بعدتهم ، قال عبيدة طلبوا الخيرتين كليهما فقتل منهم يوم أحد سبعون ، قال ابن إسحاق وابن زيد : لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر إلاّ أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) جعل لا يلقى أسيراً إلا ضرب عنقه ، وقال لرسول الله : ما لنا والغنائم نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يُعبد الله ، وأشار على رسول الله بقتل الأسرى ، وسعد بن معاذ قال : يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ فقال الله
الأنفال : ( 69 ) فكلوا مما غنمتم . . . . .
) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( همام بن منبه قال : هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمدقال : قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا ) ذلك أن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا .
عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعُطيت خمساً لم يُعطهنَّ نبي قبلي من الأنبياء وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى بلغ محرابه وأُعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبعث إلى خاصة قومه ، وبعثت إلى الجن والإنس ، وكان الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله ، وأمرت أن أقاسمها في فقراء أمتي ولم يبقَ نبي إلا قد أُعطي سؤله وأُخّرت
(4/373)

" صفحة رقم 374 "
شفاعتي لأمتي ) .
الأنفال : ( 70 ) يا أيها النبي . . . . .
) يَا أيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى ( نزلت في العباس بن عبد المطلب وكان أسيراً يومئذ ، وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر فبلغته التوبة يوم بدر ، وكان خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس ، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا قبل ذلك وبقيت العشرون أوقية مع العباس فأخذت منه في الحرب ، فكلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحسب العشرون أوقية من فدائه فأبى ، وقال : أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك ، وكلّفه فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال العباس : يا محمد تركتني اتكفف قريشاً ما بقيت فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل أوّل خروجك من مكة ، فقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقثم يعني بنيه ) فقال له العباس : وما يدريك ؟
قال : ( أخبرني ربي ) فقال العباس : فأنا أشهد أنك صادق ، وأن لا إله الا الله وأنك عبده ورسوله ، ولم يطلع عليه أحد إلا الله فذلك قوله ) يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ( الذين أخذتم منهم الفداء .
وقرأ أبو محمد وأبو جعفر : من الأُسارى وهما لغتان ) إنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ( أي إيماناً ) يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ( من الفداء ) وَيَغْفِرْ لَكُمْ ( ذنوبكم ، قال العباس : فأبدلني الله مكانها عشرين عبداً كلهم يضرب بمال كثير ، فأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين الأُوقية ، وأعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي ، وقال قتادة : ذُكر لنا أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا ، وقد توضأ لصلاة الظهر ، فما أعطى يومئذ ساكناً ولا حرم سايلا حتى فرّقه ، فأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ، فكان العباس يقول : هذا خير مما أُخذ منا ، وأرجو المغفرة .
الأنفال : ( 71 ) وإن يريدوا خيانتك . . . . .
) وَإنْ يُرِيدُوا ( يعني الأسرى ) خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
الأنفال : ( 72 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ( قومهم وعشيرتهم ودورهم يعني المهاجرين ) وَجَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا ( رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمهاجرين رضي الله عنهم ، أي أسكنوهم منازلهم ) وَنَصَرُوا ( على أعدائهم ، وهم الأنصار ) أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْض ( دون أقربائهم من الكفار ، وقال ابن عباس : هذا في الميراث ، كانوا يتوارثون بالهجرة ، وجعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام ، وكان الذي آمن ولم يهاجر لايرث لأنه لم يهاجر ، ولم ينصر ، وكانوا يعملون بذلك ، حتى أنزل الله عز وجل : ) وأولوا الأرحام بعضهم
(4/374)

" صفحة رقم 375 "
أولى ببعض في كتاب الله ( فنسخت هذا وصار الميراث لذوي الارحام المؤمنين ولا يتوارث أهل ملّتين .
) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْء ( يعني الميراث ) حَتَّى يُهَاجِرُوا ( وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بكسر الواو ، والباقون بالفتح وهما واحد ، وقال الكسائي : الولاية بالنصب : الفتح ، والولاية بالكسر : الإِمارة .
) وَإنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ( لأنهم مسلمون ) إلاَّ عَلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ( عهد ) وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
الأنفال : ( 73 - 75 ) والذين كفروا بعضهم . . . . .
) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْض ( في العون والنصرة .
قال ابن عباس : نزلت في مواريث مشركي أهل العهد وقال السدّي : قالوا نورث ذوي أرحامنا من المشركين فنزلت هذه الآية ، وقال ابن زيد : كان المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لايتوارثان . وإن كانا أخوين مؤمنَين ، وذلك لأن هذا الدين بهذا البلد كان قليلاً ، حتى كان يوم الفتح وانقطعت الهجرة توارثوا بالأرحام حيثما كانوا ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا هجرة بعد الفتح إنّما هي الشهادة ) .
وقال قتادة : كان الرجل ينزل بين المسلمين والمشركين فيقول إنْ ظهر هؤلاء كنت معهم ، وإنْ ظهر هؤلاء كنت معهم فأبى ، الله عليهم ذلك ، وأنزل فيه ) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ( فلا تراءى نار مسلم و ) نار ( مشرك إلا صاحب جزية مقرَّاً بالخراج .
) إلاَّ تَفْعَلُوهُ ( قال عبد الرحمن بن زيد : إلاّ تتركهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون ، وقال ابن عباس : إلاّ تأخذوه في الميراث ما أمرتكم به ، وقال ابن جريج : إلاّ تعاونوا وتناصروا ، وقال ابن إسحاق : جعل الله سبحانه المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون سواهم ، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ، ثم قال : إلاّ تفعلوه ، هو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن .
) تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ( إلى قوله تعالى ) أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّاً ( قال ابن كيسان حققوا ايمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في دين الله ) لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَ أُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللهِ ( الذي عنده وهو اللوح المحفوظ ، وقيل : كتاب الله في قسمته التي قسمها وبيّنها في القرآن في سورة النساء .
) إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ ( ، وقال قتادة : كان الاعرابي لايرث المهاجر فأنزل الله هذه الآية ، وقال ابن الزبير : كان الرجل يعاقد الرجل ويقول : ترثني وأرثك فنزلت هذه الآية .
(4/375)

" صفحة رقم 5 "
( سورة التوبة )
مدنية ، وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانون حرفاً ، وأربعة آلاف وثمان وتسعون كلمة ، ومائة وثلاثون آية
هشام بن عامر عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّه ما نزل عليَّ القرآن إلا آية آية وحرفاً حرفاً خلا سورة براءة ، وقل هو الله أحد ، فإنّهما أُنزلتا عليَّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كل يقول : يا محمد استوص بنسبة الله خيراً ) .
يزيد الرقاشي عن ابن عباس . قال : قلت لعثمان بن عفان ح : ما حملكم على أن ( عمدتم ) إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المَئين ، فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؟ .
قال عثمان ح : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فلا انزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا ، وينزل عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزلت ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ( فظننت أنها منها ) ، وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبين لنا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم اكتب سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي ، سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجزي بهراة يقول : سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي ، سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار يقول : سُئل سفيان بن عيينة : لِمَ لَمْ يكن في صدر براءة : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال : لأن التسمية رحمة ، والرحمة أمان ، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ، ولا أمان للمنافقين .
2 ( ) بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى الاَْرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاَْكْبَر
(5/5)

" صفحة رقم 6 "
أَنَّ اللَّهَ بَرِىءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَءاتَوُاْ الزَّكَواةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 2
التوبة : ( 1 ) براءة من الله . . . . .
) بَرَاءَةٌ ( رفع بخبر ابتداء مضمر أي : هذه الآيات براءة ، وقيل : رفع بخبر معرَّف الصفة على التقدير تقديره يعني ) إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ( براءة بنقض العهد وفسخ العقد ، وهي مصدر على فَعالة كالشناءة والدناءة .
) من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ( إلى الذين عاهدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان هو المتولي على العقود وأصحابه كلّهم بذلك راضون ، فكأنهم عقدوا وعاهدوا
التوبة : ( 2 ) فسيحوا في الأرض . . . . .
) فَسِيحُوا ( رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم : سيحوا أي سيروا ) فِي الأرْضِ ( مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين من أحد من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر .
) أرْبَعَةَ أشْهُر ( يقال : ساح في الأرض يسيح سياحة وسيوحاً وسياحاً ) وَاعْلَمُوا أنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ( أي غير فائتين ولا سابقين ) وَأنَّ اللهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ ( أي مذلّهم ومورثهم العار في الدنيا وفي الآخرة .
واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله إليكم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله من المشركين .
فقال محمد بن إسحاق وغيره من العلماء : هم صنفان من المشركين : أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة اشهر فأُمهل تمام أربعة اشهر ، والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ثم ( . . . . ) بحرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين ، يُقتل حيث ما أُدرك ، ويؤسر إلى أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر ، وانتهاؤه إلى عشر من ربيع الآخر .
وأما من لم يكن له عهد فإنّما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوماً ، وقال الزهري : هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال ، وقال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عهد دون أربعة أشهر ، فأتمّ له الأربعة الأشهر ، ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر ، فهذا الذي أمر أن يتم له عهده ، وقال
(5/6)

" صفحة رقم 7 "
فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم ، وقال مقاتل : نزلت في ثلاثة أحياء من العرب : خزاعة وبني مذحج وبني خزيمة كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عاهدهم بالحديبية سنتين فجعل الله عز وجل أجلهم أربعة أشهر ، ولم يعاهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية أحداً من الناس .
وقال الحسن : بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وأمره أن يدعو إلى التوحيد والطاعة ، وفرض عليه الشرائع ، وأمره بقتال من قاتله من المشركين ، فقال : ) قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ( وكان لا يقاتل إلاّ مَن قاتله ، وكان كافّاً عن أهل العهد الذين كانوا يعاهدونه الثلاثة والأربعة الأشهر حتى ينظروا في أمرهم ، فإما أن يسلموا وإما أن يؤذنوا بالحرب ، ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر على أن يسلموا أو يؤذنوا بالحرب ، ولم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر ، لا مَن كان له عهد قبل البراءة ، ولا مَن لم يكن له عهد ، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر ، وأحلّ دماء المشركين كلهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل .
قال عبد الرحمن بن زيد : نقض كل عهد كان أكثر من أربعة أشهر فردّه إلى الأربعة ، وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكة ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عاهد قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، فدخلت خزاعة في عهد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، وكان مع ذا عهود من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن قبائل من العرب خصائص ، فعدت بنو بكر على خزاعة ( فقتلوا رجلا ) منها ورفدتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهودهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال :
يارب إني ناشدٌ محمداً
حلف أبينا وأبيه إلا تلدا
كُنتَ لنا أباً وكنا ولداً
ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً ( عتدا )
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجرّدا
أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا
في فيلق في البحر تجري مزبداً
إن قريشاً لموافوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو إحدا
وهم أذلّ وأقلّ عددا
هم ( وجدونا ) بالحطيم هُجّدا
وقتلونا رُكّعاً وسُجّداً
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنصرف إن لم أنصركم ) فخرج وتجهز إلى مكة ، وفتح الله مكة
(5/7)

" صفحة رقم 8 "
وهي سنة ثمان من الهجرة ، ثم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف جعل المشركون ينقضون عهودهم ، وأمره الله بإلقاء عهودهم إليهم ليأذنوا بالحرب ، وذلك قوله تعالى ) وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ( الآية .
فلمّا كانت سنة تسع أراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحج فقال : إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ولم ( . . . . . . . . . ) أن حج حتى لا يكون ذلك ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر ح تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم ، فلمّا سار دعا ( صلى الله عليه وسلم ) علياً فقال : ( اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذّن بذلك في الناس إذا اجتمعوا ) .
فخرج علي ح على ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الجدعاء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فأخذها منه فرجع أبا بكر ح إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يارسول الله بأبي أنت وأمي أنزل بشأني شيء ؟
قال : ( لا ولكن لا يبلّغ عني غيري أو رجل مني ، أما ترضى يا أبا بكر أنّك كنت معي في الغار وأنّك صاحبي على الحوض ) . قال : بلى يارسول الله ، وذلك أن العرب جرت عادتها في عقد عهودها ونقضها أن يتولى ذلك عن القبيلة رجل منهم فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) علياً لئلاّ ، يقولوا : هذا خلاف ما نعرفه في بعض العهود .
قال جابر : كنت مع علي ح حتى أتبعه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر ، فلمّا كنا ( بالعرج ثوب ) بصلاة الصبح ، فلمّا استوى أبو بكر ليكبّر سمع الرغاء فوقف وقال : هذه رغاء ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الجدعاء ، لقد بدا لرسول الله في الحج ، فإذا عليها عليّ ، فقال أبو بكر أمير أم مأمور ؟
قال : بل ارسلني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببراءة أقرأها على الناس ، فكان أبو بكر أميراً على الحج وعلياً ليؤذن ببراءة ، فقدما مكة ، فلمّا كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم وأقام للناس بالحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على مناسكهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب ح فأذّن في الناس بالحج بالذي أمره به ، وقرأ عليهم سورة براءة .
قال الشعبي : حدّثني محمد بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي ح حين بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ينادي ، وكان إذا ( ضحل ) صوته ناديت قلت : بأيّ شيء كنتم تنادون ؟ قال : بأربع لا يطف بالكعبة عريان ، ومن كان له عند رسول الله عهد فعهده إلى مدّته ، ولا تدخل الجنة
(5/8)

" صفحة رقم 9 "
إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، قالوا : فقال المشركون : نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب ، وطفقوا يقولون : اللهم أنا قد منعنا أن نبرّك ، فلمّا كان سنة عشر حج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حجة الوداع ، ونقل إلى المدينة ، فمكث بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وليالي من شهر ربيع الأول حتى لحق بالله عز وجل .
التوبة : ( 3 ) وأذان من الله . . . . .
) وَأذَانٌ مِنَ اللهِ ( عطف على قوله براءة ، ومعناه : إعلام ، ومنه الأذان بالصلاة ، يقال : أذنته فأذن أي أعلمته فعلم ، وأصله من الأُذن أي أوقعته في أُذنه ، وقال عطية العوفي ( و . . . ) ( الأذان ) ) وأذان من الله ( إلى قوله : ) فإن خفتم عيلة ( الآية ، وذلك ثمان وعشرون آية .
) وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ ( اختلفوا فيه فقال أبو جحيفة وعطاء وطاووس ومجاهد : يوم عرفة ، وهي رواية عمرو عن ابن عباس ، يدل عليه حديث أبي الصّهباء البكري ، قال : سألت علي بن أبي طالب عن يوم الحج الاكبر فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث أبا بكر بن أبي قحافة يعلم الناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة ، فخطب الناس يوم عرفة فلمّا قضى خطبته التفت اليّ وقال : هلمّ يا علي فأدّ رسالة رسول الله ، فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة ، ثم صدرنا حتى أتينا منى ، فرميت الجمرة ونحرت البدنة وحلقت رأسي ، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا كلهم خطبة أبي بكر ح يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم ، فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة .
وروى شهاب بن عباد القصري عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب ح يقول : هذا يوم عرفة يوم الحج الاكبر فلا يصومنّه أحد . قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا : سعيد بن المسيب ، فأتيته فقلت : أخبرني عن صوم يوم عرفة فقال : أخبرك عمّن هو أفضل مني مائة ضعف عن عمر وابن عمر ، كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الحج الأكبر .
وقال معقل بن داود : سمعت ابن الزبير يقول يوم عرفة : هذا يوم الحج الأكبر فلا يصمْهُ أحد ، وقال غالب بن عبيد الله : سألت عطاء عن يوم الحج الأكبر ، فقال : يوم عرفة فاقض منها قبل طلوع الفجر .
وقال قيس بن مخرمة : خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشية عرفة ثم قال : أما بعد وكان لا يخطب إلاّ قال أما بعد فإنّ هذا يوم الحج الأكبر ، وقال نافع بن جبير ، وقيس بن عباد ، وعبد الله
(5/9)

" صفحة رقم 10 "
ابن شراد ، والشعبي والنخعي والسدي ، وابن زيد هو يوم النحر وهو إحدى الروايتين عن علي ح .
قال يحيى بن الجواد : خرج علي ح يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبّانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن الحج الأكبر ، فقال : هو يومك هذا فخلّ سبيلها .
وقال عياش العامري : سئل عبد الله بن أبي أوفى عن يوم الحج الاكبر فقال : سبحان الله هو يوم النحر يوم يهراق فيه الدماء ويحلق فيه الشعر ويحل فيه الحرام .
وروى الأعمش عن عبد الله بن سنان . قال خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له يوم الأضحى فقال : هذا يوم الأضحى ، وهذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الاكبر .
وروى شعبة بن أبي بشر ، قال : اختصم علي بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في يوم الحج الاكبر ، فقال علي : هو يوم النحر ، وقال الذي من آل شيبة : هو يوم عرفة فأرسلوا إلى سعيد بن جبير فسألوه فقال : هذا يوم النحر إلا ترى أنه من فاته يوم عرفة لم يفته الحج ، وإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحج ، يدل عليه ماروى الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ، قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة في نفر بعثهم يوم النحر يؤذّنون بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولايطوف بالبيت عريان ، فأردف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً يأمره أن يؤذّن ببراءة ، قال أبو هريرة : فأذّن معنا علي كرم الله وجهه أهل منى يوم النحر ببراءة .
صالح عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أبا بكر بعث في الحجة التي أمره عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل حجة الوداع في رهط يؤذِّنون في الناس : لايحجّنّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، فكان حميد يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر من أصل حديث أبي هريرة .
ابن عيينة عن ابن جريج عن مجاهد قال : يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها ومجامع المشركين بعكاظ وذي المجارة ومخشة ، ويوم نادى فيه علي بما نادى ، وكان سفيان الثوري يقول : يوم الحج الأكبر أيامه كلّها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بُعَاث والزمان ، لأن كل حرب من هذه الحروب كانت أياماً كثيرة .
واختلفوا أيضاً في السبب الذي لأجله قيل : هذا اليوم يوم الحج الاكبر . فقال الحسن : يسمّى الحج الأكبر من أجل أنه اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين ، وقال عبد الله بن الحرث ابن نوفل : يوم الحج الاكبر كان لحجة الوداع ، اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين ، ولم يجتمع قبله ولابعده .
(5/10)

" صفحة رقم 11 "
وروى منصور وحماد عن مجاهد قال : يقال الحج الأكبر القرآن ، والحج الأصغر أفراد الحج ، وقال الزهري والشعبي وعطاء : الحج الأكبر : الحج ، والحج الأصغر : العمرة ، وقيل لها ( . . . . . . . . . . . . . ) عملها ( . . . . . . . . . . . . . ) من الحج .
قوله عز وجل : ) أنَّ اللهَ ( قرأ عيسى أنّ الله بالكسر على الابتداء لأن الأذان قول ) بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ( قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره مضمر تقديره : ورسوله أيضاً بريء ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب ( ورسوله ) بالنصب عطفاً على اسم الله ، ولم يقل بريئان لأنه يرجع إلى كل واحد منهما كقول الشاعر :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
فأني وقيار بها لغريب
وروي عن الحسن ورسوله بالخفض على القسم ، وبلغني أن اعربياً سمع رجلاً يقرأ هذه القراءة . فقال : إن كان أمراً من رسوله فإني بريء منه أيضاً ، فأخذ الرجل ( بتلْنَتِه ) وجرّه إلى عمر ابن الخطاب ، فقص الأعرابي قصته وقوله أيضاً ، فعند ذلك أمر عمر بتعليم العربية .
) فَإنْ تُبْتُمْ ( رجعتم من كفركم وأخلصتم بالتوحيد ) فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَوَلَّيْتُمْ ( أعرضتم عن الإيمان ( إلى الإصرار ) على الكفر ) فَاعْلَمُوا أ نَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ ( وأخبر ) الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَاب ألِيم ( ثم قال :
التوبة : ( 4 ) إلا الذين عاهدتم . . . . .
) إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ ( .
وهو استثناء من قوله : براءة من الله ورسوله إلى الناس إلا من الذين عاهدتم ) مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً ( من عهدكم الذي عاهدتموهم عليه ) وَلَمْ يُظَاهِرُوا ( يعاونوا ) عَلَيْكُمْ أحَداً ( من عدوكم بأنفسهم ولا بسلاح ولا بخيل ولا برجال ولا مال .
وقرأ عطاء بن يسار ثم لم ينقضوكم بالضاد المعجمة من نقض العهد ، وقرأ العامة بالصاد .
قوله ) فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ ( فأوفوا بعهدهم ) إلَى مُدَّتِهِمْ ( أجلهم الذي عاهدتموهم عليه ) إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ( وهم بنو ضمرة وكنانة وكان بقي لهم من مدتهم تسعة أشهر فأمر بإتمامها لهم
التوبة : ( 5 ) فإذا انسلخ الأشهر . . . . .
) فَإذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ ( انتهى ومضى وقتها ، يقال : منه سلخت أشهر كذا نسلخه سلخا وسلوخاً بمعنى خرجنا . قال الشاعر :
إذا ماسلخت الشهر أهللت مثله
كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
وفيه قيل : شاة مسلوخة المنزوعة من جلدها ، وحية سالخ إذا أخرجت من جلدها ) الأشْهُرُ
(5/11)

" صفحة رقم 12 "
الحُرُمُ ( وهي أربعة ، ثلاثة فرد ، وواحد زوجي وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب .
وقال مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمر بن شعيب : هي شهور العهد ، وقيل لها الحرم لأن الله حرّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم إلا سبيل الخير ) فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ( في الحلّ والحرم ، وجدتموهم فأسروهم ) وَاحْصُرُوهُمْ ( وامنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام ) وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد ( أي على كل طريق ومرقب ، يقال : رصدت فلاناً أرصده رصداً إذا رقبته . قال عامر بن الطفيل .
ولقد علمت وما إخالك ناسياً
أن في المنيّة للفتى بالمرصد
) فَإنْ تَابُوا ( من الشرك ) وَأقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ( يقول : دعوهم في أمصارهم ، ودعوهم يدخلوا مكة ) إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ( . . . . . . . . . ) في حكم هذه الآية .
قال الحسين بن الفضل : فنسخت هذه الآية كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء ، وقال الضحاك والسدّي وعطاء : قوله : ( فاقتلوا المشركين ) منسوخة بقوله : ) فَإمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً ( وقال قتادة : بل هي ناسخة لقوله : ) فَإمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً ( .
والصحيح أنّ حكم هذه الآية ثابت ، وأنها غير منسوخة إحداهما بصاحبتها لأنّ المنّ ، والقتل ، والفداء لم يزل من حكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهم من أول حاربهم وهو يوم بدر ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ) وخذوهم ( والأخذ هو الأسر ، والأسر إنّما يكون للقتل أو الفداء ، والدليل عليه أيضاً قول عطاء قال : أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأسير يقال له أبو أُمامة وهو سيد اليمامة ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا أُمامة أيّها أحب إليك : أعتقك أو أفاديك أو أقتلك أو تسلم ؟ ) . فقال : أن تعتق تعتق عظيماً ، وأن تفادِ تفاد عظيماً ، وإنْ تقتل تقتل عظيماً ، وأما أن أسلم فلا والله لا أسلم أبداً .
قال فأني أعتقتك . فقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسوله .
وكانت مادّة ميرة مكة من قبل اليمامة فقال لأهل مكة : والذي لا إله إلا هو لاتأتيكم ميرة أبداً ، ولا حبّة من قبل اليمامة حتى تؤمنوا بالله ورسوله فأضرّ إلى أهل مكة فكتبوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أيّهم له حزب يشكون ذلك إليه ، فكتب إلى أبي أُمامة : لاتقطع عنهم ميرة كانت من قبلك ، ففعل ذلك أبو أمامة .
2 ( ) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذاَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
(5/12)

" صفحة رقم 13 "
َ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْواَهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْاْ بِئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَءااتَوُاْ الزَّكَواةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الاَْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 2
التوبة : ( 6 ) وإن أحد من . . . . .
) وَإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ( معناه وإن استجارك أحد ، لأن حروف الجر لاتلي غير الفعل يقول الشاعر :
عاود هراة وإن معمورها خربا ، أي وإن غرب معمورها . وقال أخر :
أتجزع إن نفس أتاها حمامها
فهلاّ التي عن بين جنبيك تدفع
ومعنى الآية : وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقبلهم استجارك أي استعاذ بك واستأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله ) فَأجِرْهُ ( فأعذه وأمنه ) حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ( فتقيم عليه حجة الله ، وتبين له دين الله عز وجل ، فإن أسلم فقد نال عز الإسلام وخير الدنيا والآخرة وصار رجلاً من المسلمين ، وإن أبى أن يسلم ) ثُمَّ أبْلِغْهُ مَأمَنَهُ ( دار قومه فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله ) ذَلِكَ بِأ نَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ( دين الله وتوحيده .
قال الحسن : وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة وليست بمنسوخة . قال سعيد بن جبير : جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب ح ، فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلامه أو يأتيه لحاجته ، فقال علي لا لأن الله عز وجل يقول : ) وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ( الآية .
التوبة : ( 7 ) كيف يكون للمشركين . . . . .
) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ( على ( معنى ) التعجب ، ومعناه جحد أي لا يكون لهم عهد ، كما تقول في الكلام : هل أنت إلا واحد منّا ، أي أنت ، وكيف يستيقن مثلك ؟ أي لايستيقن ، ومنه :
هل أنت إلا أصبع دميتِ
وفي سبيل الله ما لقيتِ
ثم استثنى فقال : ) إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ( واختلفوا فيه فقال ابن عياش : هم قريش ، وقال قتادة وابن زيد : هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الحديبية ، قال
(5/13)

" صفحة رقم 14 "
الله عز وجل ) فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ ( على العهد ) فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ( قالوا : فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة ، فضرب لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الفتح بأربعة أشهر يختارون من أمرهم أما أن يسلموا ، واما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا ، فأسلموا قبل الأربعة أشهر .
قال السدي وابن إسحاق والكلبي : هم من قبائل بكر بن خزيمة وهو مدلج وبنو ضمرة وبنو الدئل ، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش ، وعقدهم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله وبين قريش ، فلم يكن نقضها إلا قريش وبنو الدئل من بني بكر ، فأمر بأتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته ، وهذا القول أقرب إلى الصواب ، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة ، فكيف يأتي شيء قد مضى .
) فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ( وإنما هم الذين قال الله عز وجل إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً كما نقصكم قريش ، ولم يظاهروا عليكم أحد كما ظاهرت ( من ) قريش بني بكر على خزاعة ( سلفا ) رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
التوبة : ( 8 ) كيف وإن يظهروا . . . . .
) كَيْفَ وَإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ( مردود على الآية الأُولى تقديره : كيف يكون لهؤلاء عهودٌ وهم إن يظهروا عليكم يظفروا فيقتلوكم ) ) لا يَرْقُبُوا ( قال ابن عباس : لا يحفظوا ، وقال الاخفش : كيف لايقتلونهم ، وقال الضحاك : لا ينتظروا ، وقال قطرب : لا يراعوا ) فِيكُمْ إلاًّ ( قال ابن عباس والضحاك : قرابة ، وقال يمان : رحِماً ، دليله قول حسان :
لعمرك إنّ إلّك من قريش
كإلّ السقب من رأل النعام
وقال قتادة : الإلّ : الحلف ، دليله قول أوس بن حجر :
لولا بنو مالك والالّ من فيه
ومالك فهم اللألاء والشرف
وقال السدّي وابن زيد : هو العهد ، ولكنه لما اختلف اللفظان كرّر وإن كان معناهما واحداً كقول الشاعر :
وألفى قولها كذبا ومينا
وهو إحدى الروايتين عن مجاهد يدلّ عليه قول الشاعر :
وجدناهُم كاذباً إلّهم
وذو الإلّ والعهد لا يكذب
وقيل : هو اليمين والميثاق ، وقال أبو مجلز ومجاهد في ساير الروايات : الإلّ هو الله عز
(5/14)

" صفحة رقم 15 "
وجل ، وكان عبيد بن عميرة يقرأ جبرإلّ بالتشديد ، يعني عبد الله ، وفي الخبر أنّ ناساً قدموا على أبي بكر الصديق ح من قوم المسلمين فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا ، فقال أبو بكر : إن هذا الكلام لم يخرج من إلّ .
والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة : لايرقبون في مؤمن ايلاً ، بالياء يعني بالله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل ) وَلا ذِمَّةً ( عهداً وجمعها ذمم ، وقيل : تذمماً ممن لا عهد له ) يُرْضُونَكُمْ بِأفْوَاهِهِمْ ( يعطونكم ويرونكم بألسنتهم خلاف مافي قلوبهم مثل قول المنافقين ) وَتَأبَى قُلُوبُهُمْ ( الإيمان ) وَأكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( ناكثون ناقضون كافرون .
التوبة : ( 9 ) اشتروا بآيات الله . . . . .
) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلا ( وذلك أنّهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا أطعمهم أبو سفيان بن حرب ، وقال مجاهد : أطعم أبو سفيان حلفاً وترك حلف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ( فمنعوا الناس عن دينه وعن الدخول فيه ، قال عطاء كان أبو سفيان يعطي الناقة والطعام ليصدّ الناس بذلك عن متابعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ابن عباس : وذلك أن أهل الطائف أمدِّوهم بالأموال ليقوّوهم على حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعداوته .
) إنَّهُمْ سَاءَ ( بئس ) مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (
التوبة : ( 10 ) لا يرقبون في . . . . .
) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِن إلاًّ وَلا ذِمَّةً ( يقول : لا تبقوا عليهم أيّها المؤمنون كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم .
) وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ( بنقض العهد
التوبة : ( 11 ) فإن تابوا وأقاموا . . . . .
) فَإنْ تَابُوا ( من الشرك ) وَأقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ ( يعني فهم أخوانكم ) فِي الدِّينِ ( لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ) وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ ( قال ابن عباس : حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة .
وقال ابن زيد : افترض الصلاة والزكاة جميعاً ولم يفرق بينهما ، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر فكان ماأفقهه ، وقال ابن مسعود : أُمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكِّ لاصلاة له .
( ) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ
(5/15)

" صفحة رقم 16 "
يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَواةَ وَءاتَى الزَّكَواةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَائِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 2
التوبة : ( 12 ) وإن نكثوا أيمانهم . . . . .
) وَإنْ نَكَثُوا ( نقضوا يقال منه : نكث فلان قويَّ حبله إذا نقضه ) أيْمَانَهُمْ ( عهودهم ) مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ( عقدهم ) وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ( ثلبوه وعابوه وذلك انهم قالوا : ليس دين محمد بشيء ) فَقَاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ ( قرأ أهل الكوفة أأُمّة الكفر بهمزتين على التحقيق لأن أصلها أمّمة مثل : مثال وأمثله وعماد وأعمدة ، ثم أُدغمت الميم التي هي عن أفعلة في الميم الثانية ونُقلت حركتها إلى الهمزة الساكنة التي هي فاء الفعل فصار أئمة ، فإنّما كتبت الهمزة الثانية ياءً لما فيها من الكسرة وهي لغة تميم ، وقرأ الباقون : أيمة ( بهمزة واحدة ) من دون الثانية طلباً للخفّة ، أئمّة الكفر : رؤس المشركين وقادتهم من أهل مكة .
قال ابن عباس : نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسائر رؤوساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد ، وهم الذين همّوا بإخراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال مجاهد : هم أهل فارس والروم ، وقال حذيفة بن اليمان : ما قُوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد ) إنَّهُمْ لا أيْمَانَ لَهُمْ ( عهودهم ، جمع يمين أي وفاء باليمين . قال قطرب : لا وفاء لهم بالعهد وأنشد :
وإن حَلَفَتْ لاينقض النّأيّ عهدَها
فليس لمخضوب البنان يمين
الحسين وعطاء وابن عامر : لا إيمان لهم بكسر الهمزة ، ولها وجهان : أحدهما لاتصديق لهم ، يدل عليه تأويل عطية العوفي قال : لا دين لهم ولا ذمّة ، فلا تؤمنوا بهم فاقتلوهم ، حيث وجدتموهم فيكون مصدراً من الإيمان الذي هو ضد الاخافة قال الله عز وجل : ) وآمنهم من خوف ( ) لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم ، وقيل : عن الكفر .
ثم قال حاضّاً المسلمين على جهاد المشركين
التوبة : ( 13 ) ألا تقاتلون قوما . . . . .
) ألا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أيْمَانَهُمْ ( نقضوا عهودهم ) وَهَمُّوا بِإخْرَاجِ الرَّسُولِ ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ) وَهُمْ بَدَؤُوكُمْ ( بالقتال ) أوَّلَ مَرَّة ( يعني يوم بدر ، وقال أكثر المفسرين : أراد بدؤوكم بقتال خزاعة حلفاء رسول الله ) أتَخْشَوْنَهُمْ ( أتخافونهم فتتركون قتالهم ) فَاللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ ( تخافوه في ترككم قتالهم ) إنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (
التوبة : ( 14 ) قاتلوهم يعذبهم الله . . . . .
) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ ( يقتلْهم الله ) بِأيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ ( يذلّهم بالأسر والقهر ) وَيَنْصُرْكُمْ ( ويظهركم ) عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ ( ويبرئ قلوب ) قَوْم مُؤْمِنِينَ ( بما كانوا ينالونه من الأذى
(5/16)

" صفحة رقم 17 "
والمكروه منهم . قال مجاهد والسدي : أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
التوبة : ( 15 ) ويذهب غيظ قلوبهم . . . . .
) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ( كربها ووجدها بمعونة قريش نكداً عليهم .
ثم قال مستأنفاً ) وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ( يهديه للاسلام كما فعل بأبي سفيان ، وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو ) وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( وقرأ الاعرج وعيسى وابن أبي إسحاق : ويتوب على النصب على الصرف .
التوبة : ( 16 ) أم حسبتم أن . . . . .
قوله ) أمْ حَسِبْتُمْ ( أظننتم ، وإنما دخل الميم لأنه من الاستفهام المعترض بين الكلام فأُدخلت فيه أم ليفرّق بينه وبين الاستفهام والمبتدأ ، واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية : قال الضحاك عن ابن عباس قال : يعني بها قوماً من المنافقين كانوا يتوسلون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالخروج معه للجهاد دفاعاً وتعذيرا والنفاق في قلوبهم .
وقال سائر المفسرين : الخطاب للمؤمنين حين شقّ على بعضهم القتال وكرهوه فأنزل الله تعالى ) أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تُتْرَكُوا ( ولا تُؤمروا بالجهاد ولا تُمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب ، والمطيع من العاصي ) وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ ( في تقدير الله ، والألف صلة ) جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ( بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم ، وقال قتادة وليجة : خيانة وقال الضحّاك : خديعة ، وقال ابن الأنباري : الوليجة قال : خيانة ، والولجاء الدخلاء ، وقال الليثي : خليطاً ورِدأً .
وقال عطاء : أولياء ، وقال الحسن : هي الكفر والنفاق ، وقال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة ، وأصله من الولوج ومنه سمي ( الكناس ) الذي يلج فيه الوحش تولجاً . قال الشاعر :
من زامنها الكناس تولّجاً
فوليجة الرجل من يختصه بدخلة منها دون الناس يقال : هو وليجتي وهم وليجتي للواحد وللجميع . وأنشد أبان بن تغلب :
فبئس الوليجة للهاربين
والمعتدين وأهل الريب
) وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( قراءة العامة بالتاء متعلق بالله بقوله : ) أمْ حَسِبْتُمْ ( وروى الحسن عن أبي عمرو بالياء ومثله روى عن يعقوب أيضاً .
التوبة : ( 17 ) ما كان للمشركين . . . . .
) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ ( قال ابن عباس : لمّا أُسر أبي يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله عز وجل وقطيعة الرحم وأغلظ عليٌّ له القول ، فقال العباس :
(5/17)

" صفحة رقم 18 "
إنكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا ، قال له علي : ألكم محاسن ؟ قال : نعم ، إنا لنعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك : العاني ، فأنزل الله تعالى رادّاً على العباس ) ما كان للمشركين ( يقول : ما ينبغي للمشركين أن يعمروا ، قرأت العامة بفتح الياء وضم الميم من عمر يعمر ، وقرأ ابن السميقع يُعمر بضم الياء وكسر الميم أي يعينوا على العمارة ، أو يجعلوه عامراً ، ويريد : إن المساجد إنما تعمر بعبادة الله وحده ، فمن كان بالله كافراً فليس من شأنه أن يعمرها ، وقال الحسن : ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام .
واختلف القراء في قوله : ( مساجد الله ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي رباح وحميد بن كثير وأبو عمرو : مسجد الله بغير ألف أرادوا المسجد الحرام ، واختاره أبو حاتم لقوله تعالى : ) فلا يقربوا المسجد الحرام ( ، وقرأ الباقون ( مساجد ) بالألف على الجمع ، واختاره أبو عبيد لأنّه أعم القراءتين .
قال الحسن : فإنّما قال ( مساجد الله ) لأنّه قبلة المساجد كلها وأمامها ، وقال أبو حاتم أنّ عمران بن جدير قال لعكرمة : إنما يُقرأ : مساجد الله وإنّما هو مسجد واحد ؟ فقال عكرمة : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، وقال الضحاك ومجاهد : حدّث العرب بالواحد إلى الجمع والجمع إلى الواحد ، ألاترى الرجل على البرذون يقول ركبت البراذين ؟ ويقال للرجل : إنّه لكثير الدر والذمار ، وتقول العرب : عليه أخلاق نعل واسمال ثوب . وأنشدني أبو الجراح العقيلي :
جاء الشتاء وقميصي أخلاق
وشرذم يضحك مني التواق
يعني : خَلِق .
وقوله : ) شَاهِدِينَ عَلَى أنفُسِهِمْ بِالكُفْرِ ( أراد وهم شاهدون ، فلمّا طرحت ( وهم ) نصبت ، وقال الحسن : يقولون : نحن كفار ( نشهد ) عليهم بكفرهم ، وقال السدّي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هي أن النصراني يُسأل : ما أنت فيقول : نصراني ، واليهودي فيقول : يهودي والصابئي ، فيقول : صابئي ويقال للمشرك : ما دينك ؟ فيقول : مشرك .
وقال حمزة عن الضحاك عن ابن عباس : شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم بأنّها مخلوقة ، وذلك أنّ كبار قريش نصبوا أصنامهم خارجاً من بيت الله الحرام عند القواعد ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون : لا نطوف وعلينا ثياب قد عملنا فيها بالمعاصي ، وكانوا يصفقون ويصفرون ويقولون : إن تغفر اللهم تغفره جمّا ، وأي عبد لك لا ألمّا ( . . .
(5/18)

" صفحة رقم 19 "
سجدوا لأصنامهم فلم يزيدوا بذلك من الله إلاّ بعداً ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ) أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( .
التوبة : ( 18 ) إنما يعمر مساجد . . . . .
ثم قال : ) إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ ( قرأ العامة بالألف ، وقرأ الجحدري : مسجد الله أراد المسجد الحرام ) مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلاَّ اللهَ ( ( لأنّ عسى ) من الله واجب ) فَعَسَى أُوْلَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ ( روى أبو سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله عز وجل يقول ) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر (
( 4 ) .
) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 2
التوبة : ( 19 ) أجعلتم سقاية الحاج . . . . .
) أجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ( ( أي أهل سقاية ) .
عن معاوية بن سلام عن زيد ابن أبي سلام عن النعمان بن بشير ، قال : كنت عند منبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد سقي الحاج ، قال الآخر : لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد أن أعمر المسجد الحرام ، وقال الآخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت دخلت واستفتيت رسول الله فيما اختلفتم فيه فقال : فأنزل الله ) أجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ( إلى قوله ) القَوْمَ الظَّالِمِينَ ( .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . قال : قال العباس بن عبد المطلب : لئن كنتم سبقتمونا بالهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد ونسقي الحاج ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، يعني : إن ذلك كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك . عطية العوفي قال : إن المشركين قالوا : إعمار بيت الله والقيام على السقاية خير ممّن آمن وجاهد ، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله وعُمّاره ، فأنزل الله هذه الآية وأخبرهم أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على
(5/19)

" صفحة رقم 20 "
السقاية لاتنفعهم عند الله مع الشرك ، وأن الإيمان بالله والجهاد مع نبيّه خير مما هم عليه .
الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرضي : نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة ، وذلك أنهم أفتخروا فقال طلحة : إنّ البيت بيدي مفاتيحه ولو أشاء بتُّ فيه ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بتُّ في المسجد ، وقال علي ح : لا أدري ما تقولون لقد صلّيت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال ابن سيرين ومرّة الهمداني عن ابن عباس أن علياً قال للعباس : ألا تهاجر وتلحق بالنبي ؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة ؟ ألست أسقي حاج بيت الله واعمر المسجد الحرام ؟ فنزلت هذه الآية .
وعندما أُمروا بالهجرة قال العباس : أنا أسقي الحاج ، وقال طلحة أخو بني عبد الدار : وأنا صاحب الكعبة فلا نهاجر .
والسقاية مصدر كالرعاية والحماية ، قال الضحّاك : السقاية بضم السين وهي لغة .
وفي معنى الآية وجهان أحدهما أن يجعل الكلام مختصراً تقديره : أجعلتم سقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله ، وهذا كما تقول : السخاء حاتم ، والشعر زهير وقال الشاعر :
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
ولكنما الفتيان كل فتى ندي
والوجه الآخر أن يجعل العمارة والسقاية بمعنى العامر والساقي تقديره : أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كقوله هدىً للمتقين ، يدلّ عليه قراءة عبدالله بن الزبير وأبي وجزة السعدي : أجعلتم سُقّاء الحاج وعُمّار المسجد الحرام على جمع الساقي والعامر ) لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ( قال الحسن : لما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا تارك سقايتنا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً . وقال الحسن : وكانت السقاية نبيذ زبيب .
التوبة : ( 20 ) الذين آمنوا وهاجروا . . . . .
) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأمْوَالِهِمْ وَأنفُسِهِمْ أعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ ( من الذين افتخروا بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج ) وَ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ( الناجون من النار
التوبة : ( 21 ) يبشرهم ربهم برحمة . . . . .
) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَة مِنْهُ وَرِضْوَان وَجَنَّات لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ( دائم
التوبة : ( 22 - 23 ) خالدين فيها أبدا . . . . .
) خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً إن
(5/20)

" صفحة رقم 21 "
َّ اللهَ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أوْلِيَاءَ ( قال مجاهد : هذه الآية متصلة بما قبلها منزلة في قصة العباس وعلي قبل الهجرة ، قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما أمر الله عزّوجل المؤمنين بالهجرة وكانت قبل فتح مكة ، من آمن ولم يكتمل إيمانه إلاّ بمجانبة الآباء والأقرباء إنْ كانوا كفاراً ، فقال المسلمون : يانبي الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا أباءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخُربت دارنا ، فأنزل الله هذه الآية .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، قال : لمّا أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبنه وأخيه وامرأته وقرابته : إنّا قد أُمرنا بالهجرة إلى المدينة فاخرجوا معنا إليها فمنهم من يعجبه ذلك ويسارع إليه ، ومنهم من أبى على صاحبه ( وتعلق به ) فيقول الرجل لهم : والله لئن ضمني وإياكم دار الهجرة فلا أنفعكم بشيء أبداً ولا أعطيكم ولا أُنفق عليكم ، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده ويقولون : أُنشدك الله أن تضيعنا فيرق ( قلبه ) فيجلس ويدع الهجرة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال مقاتل : نزلت في التسعة الذين ارتدّوا عن الإسلام فنهى الله عز وجل عن ولايتهم فأنزل الله تعالى ) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أوْلِيَاءَ ( بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم ، ومن المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام .
) إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ ( فهم في صورة الإسلام وأهله و ( في ) المكث معهم على الهجرة والجهاد ) فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( العاصون الواضعون ( . . . . . ) في غير موضعها .
2 ( ) قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذاَلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 2
التوبة : ( 24 ) قل إن كان . . . . .
ثم قال : ) قُلْ ( يا محمد للمتخلّفين عن الهجرة والجهاد ) إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ( وقرأ أبو رجاء ويعقوب وعشيراتكم بالألف على الجمع
(5/21)

" صفحة رقم 22 "
واختلف فيه عن عاصم ) وَأمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ( اكتسبتموها وقال قتادة : اكتسبتموها ) وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ( وهو ضد النفاق وأصله البقاء . قال الشاعر :
كسدن من الفقر في قومهن
وقد زادهن مقامي كسودا
) وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ( ( تعجبكم ) قال السدي : يعني القصور والمنازل ) أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا ( فانتظروا ) حَتَّى يَأتِيَ اللهُ بِأمْرِهِ ( قال عطاء : بقضائه ، وقال مجاهد ومقاتل : يعني فتح مكة ) وَاللهُ لا يَهْدِي ( لا يُرشد ولا يوفّق ) القَوْمَ الفَاسِقِينَ ( الخارجين من طاعته إلى معصيته .
التوبة : ( 25 ) لقد نصركم الله . . . . .
) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ ( أيّها المؤمنون ) فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة ( أي مشاهدوها أماكن حرب تستوطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم ) وَيَوْمَ حُنَيْن ( يعني وفي يوم حنين وهو واد بين مكة والطائف .
وقال عروة بن الزبير : هو واد إلى جنب ذي المجاز والحري ، ولأنه اسم لمذكر فقد يترك إجزاؤه يراد به اسم البلدة التي هو بها ، ومنه قول الشاعر :
نصروا نبيهم وشدّوا أزره
بحنين يوم تواكل الابطال
وكانت قصة حنين على ماذكره المفسّرون بروايات كثيرة لفّقتها ونسّقتها لتكون أقرب إلى الأفهام وأحسن ( . . . . . ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) افتتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان ثم خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر الفاً ، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطائف .
قال قتادة ، وقال مقاتل : كانوا أحد عشر ألفاً وخمسمائة ، وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا ( . . . . . . . ) وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف ، وعلى هوازن ملك بن عوف النضري ، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي ، فلما التقى الجمعان قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لن تُغلب اليوم من قلّة ، ويقال : بل قال ذلك رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة ( وسمع ) رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل .
قال : فاقتتلوا قتالاً شديداً . فانهزم المشركون وخلوا من الذراري ، ثم نادوا : ياحماة السوء اذكروا الفضائح ، فتراجعوا وانكشف المسلمون .
(5/22)

" صفحة رقم 23 "
وقال قتادة : وذُكر لنا أن الطلقاء ( إنجفلوا ) يومئذ بالناس وسأل رجل البراء بن عازب : أفررتم يوم حنين ؟ فقال : كانت هوازن رماة وإنّا لمّا حملنا عليهم وانكشفوا وأقبلنا على الغنائم ، فاستقبلوا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال الكلبي : كان حول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس عنهم .
وقال الآخرون : لم يبق يومئذ مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غير العباس بن عبد المطلب وعلي وأيمن بن أم أيمن ، وقُتل يومئذ بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وطفق رسول الله يركض بغلته نحو الكفار لا يألوا ، وكانت بغلة شهباء أهداها له فروة الجدامي .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا العمري ، حدّثنا أحمد بن محمد ، حدّثنا الحمامي ، حدّثنا شريك عن أبي إسحاق ، قيل للبراء : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيمن ولى دبره يوم حنين قال : والذي لا إله إلاّ هو ماولّى رسول الله دبره قط ، لقد رأيناه وأبو سفيان بن الحرث آخذ بالركاب والعباس آخذ لجام الدابة ، وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب ، قالوا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للعباس : ناد يامعشر المهاجرين ويامعشر الأنصار وكان العباس رجلاً صويّتاً .
ويروى من شدة صوت العباس أنه أُغير يوماً على مكة فنادى : واصباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها .
فجعل ينادي : ياعباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، وعطف المسلمون حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها فقالوا : يالبيك يالبيك يالبيك وجاؤوا عنقاً واحداً فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عصابة من الأنصار فقال : هل معكم غيركم ؟ فقالوا : يانبي الله لو عمدت إلى برك العماد من ذي يمن لكنّا معك ، ثم أقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون ، وتنادى الأنصار : يامعشر الأنصار أم قصرت الدعوة على بني الحرث والخزرج ، فتنادوا فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس ، فأخذ بيده كفّاً من ( الحبِّ ) فرماهم وقال : شاهت الوجوه ، ثم قال : انهزموا ورب الكعبة ، انهزموا ورب الكعبة .
قال : فوالله مازال أمرهم مدبراً وجدّهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى .
قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : ما بقي منا أحد يومئذ إلا وامتلأت عيناه من ذلك التراب ، قال يزيد بن عامر وكان في المشركين يومئذ : فانصرفنا ما بقي منّا أحد ، وكأن أعيننا عميت فأنجز الله وعده وأنزل نصره وجنده فقهر المشركين ونصر المسلمين ، وقال سعيد بن جبير : أمدَّ الله ( المسلمين ) بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، وقال الحسن : كانوا ثمانية آلاف من الملائكة .
(5/23)

" صفحة رقم 24 "
قال عطاء : كانوا ستة عشر ألفاً ، وقال سعيد بن المسيب : حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يقفوا لناحلب شاة ، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم ، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتلقّانا رجال بيض الوجوه ، حسان الوجوه فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا ، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانوا إياها ، يعني الملائكة .
وفي الخبر أن رجلاً من بني نضر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق ، والرجال عليهم ثياب بيض ماكنا نراكم فيها ( . . . . . . . . . . . ) ، وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبروا بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : تلك الملائكة .
قال الزهري : وبلغني أن شيبة بن عثمان قال : استدبرت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان ، وعثمان بن طلحة ، وكانا قد قتلا يوم أُحد ، فأطلع الله تعالى رسوله على ما في نفسي فالتفت إليَّ وضرب في صدري وقال : أُعيذك بالله ياشيبة ، فارتعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحبّ إليَّ من سمعي ومن بصري فقلت : أشهد أنك رسول الله ، وأن الله أطلعك على مافي نفسي .
فلمّا هزم الله المشركين ولّوا مدبرين وانطلقوا حتى أتوا ( أوطاس ) وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله إلى هناك رجلاً من الأشعريين يقال له : أبو عامر وأمّره على الناس ، فسار إليهم فاقتتلوا بها ، ثم إن الله تعالى هزمهم ، وثبتوا قبال المشركين وهزم أميرهم مالك بن عوف النضري ، فأتى الطائف فتحصّن بها وأخذ أهله وماله فيمن أخذ ، وقتل أمير المسلمين ابن عامر ، ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتى الطائف من فوره ذلك فحاصرهم بقية ذلك الشهر ، فلمّا دخل ذو القعدة وهو شهر حرام لا يحلّ فيه القتال انصرف عنهم فأتى الجعرانة فأحرم فيه بعمرة ، فقسم بها النبي المال وغنائم حنين وأوطاس وتألّف أُناساً ، كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم فجعل يعطي الرجل منهم الخمسين والمائة من الإبل ، فقالت الأنصار : حنَّ الرجل وآثر قومه يا للعجب إنّ أسيافنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في قبة من أدم فجمعهم فقال لهم : يا معشر الأنصار ما هذا الذي بلغني عنكم .
فقالوا : هو الذي بلغك ، وكانوا لايكذبون ، فقال : ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي ، وكنتم أذلاء فأعزكم الله بي ، وكنتم وكنتم ، فقال سعيد بن عبد الله : أتأذن لي أتكلم ، فقال : تكلم .
(5/24)

" صفحة رقم 25 "
قال : أما قولك : كنتم ضلالاً فهداكم الله بي ، فكنّا كذلك ، وأما قولك : كنتم أذلّة فأعزّكم الله فقد علمت العرب أنه ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منّا . فقال عمر : يا سعيد أتدري من تُكَلِّم ؟ قال : ياعمر أُكلّم رسول الله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار وادياً لسلكتُ وادي الأنصار ، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ، الأنصار كرشي وعيبتي فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ، ثم قال : يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاة وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم ) .
فقالت الأنصار : رضينا بالله ورسوله ، والله ما قلنا ذلك الا ضنّاً بالله ورسوله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم .
فلما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة قام خطيباً فقال : أما إنّ خطيب الأنصار قد قال : كنت طريداً فآويناك ، وكنت خائفاً فأمّنّاك ، وكنت مخذولاً فنصرناك ، وكنت وكنت ، فإنّه قد صدق ، فبكت الأنصار ، وقالت بل الله ورسوله أعظم علينا منّاً .
قال قتادة : وذكر لنا أن ظئر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين وسألته سبايا يوم حنين ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إني لا أملكهم إنّما لي نصيبي منهم ، ولكن ائتني غداً فسليني والناس عندي ، فإني إذا أعطيتك نصيبي أعطاك الناس ، فجاءت في الغد فبسط لها ثوبه فقعدت عليه ثم سألته ذلك فأعطاها نصيبه ، فلما رأى الناس منه أعطوها أنصباءهم .
قال الزهري : أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر منادياً ينادي يوم أوطاس : ألا لاتوطأ الحبالى حتى يضعن ، ولا غير الحبالى حتى يستبرئن بحيضة .
ثم ( . . . . ) من هوازن أقبلوا مسلمين بعد ذلك فقالوا : يارسول الله أنت خير الناس وأبرّهم وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إن عندي من ترون ، وخير القول أصدقه ، اختاروا إمّا ذراريكم ونساءكم ، وإمّا أموالكم ، فقالوا : ماكنا نعدل بالأحساب شيئاً ، فقام النبي منتصباً فقال : إن هؤلاء قد جاءوني مسلمين ، وإنا خيّرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً ، فأمّا ما أصاب بنو هاشم رددناه إليهم ، فمن كان بيده منهم شيء وطابت نفسه أن يردّه عليهم فذلك ، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه ، ومن لم يرد ففديته خمسون من الابل .
(5/25)

" صفحة رقم 26 "
فلما رأى الناس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد ردّ قالوا يانبي الله رضينا وسلّمنا ، فقال النبي : لا أدري لعلّ منكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إليه فرفعت إلينا العرفاء أن قد رضوا وسلّموا ، وردوا جميعاً غير رجل واحد وهو صفوان بن أميّة لأنه وقع على امرأة أصابها فحبلت منه .
فأنزل الله ) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة وَيَوْمَ حُنَيْن إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ( حتى قلتم : لن نُغلب اليوم من قلّة ) فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ ( كثرتكم ) شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ( أي برحبها وسعتها وهما المصدر ) ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ( منهزمين
التوبة : ( 26 ) ثم أنزل الله . . . . .
) ثُمَّ أنزَلَ اللهُ ( بعد الهزيمة ) سَكِينَتَهُ ( يعني الأَمَنة والطمأنينة وهي فعيلة من السكون ) عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا ( يعني الملائكة ) وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( بالقتل والأسر وسلب الاموال ) وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ (
التوبة : ( 27 ) ثم يتوب الله . . . . .
) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ( فيهديه إلى الإسلام ولايؤاخذه بما سلف ) وَاللهُ غَفُورٌ ( لعباده المؤمنين ) رَحِيمٌ ( بهم .
( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَاهاً وَاحِداً لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِيأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 2
التوبة : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( قال الضحاك وأبو عبيدة : قذر ، وقال ابن الأنباري : خبيث يقال : رجل نجس وامرأة نجس ورجلين وأمرأتان نجس ورجال ونساء نُجُس بفتح النون والجيم أو نجُس بضم الجيم ورجس في هذه الأحوال لايثنّى ولا يجمع لأنّه مصدر ، وأما النجس بكسر النون وجزم الجيم فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس ، فإذا أُفرد قيل : نَجِس بفتح النون وكسر الجيم أو نجُس بضم الجيم .
وقرأ ابن السميقع : إنما المشركون أنجاس ، كقولك أخباث على الجمع ، واختلفوا في
(5/26)

" صفحة رقم 27 "
معنى النجس والسبب الذي من أجله سمّاهم بذلك ، فروي عن ابن عباس : ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب ، وهذا قول غير مرضي لمعنيين أحدهما أنه روي عنه من وجه غير حميد فلا يصح عنه ، والآخر أن هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين ؛ لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام ، ولا يستوي في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد ، واحتج من قال أعيانهم نجسة بما روي أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه بقول الله تعالى ) إنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( .
وكما روي عن الحسن أنه قال : لا تصافحوا المشركين . فمن صافحهم فليتوضّأ ، وقال قتادة : سمّاهم نجساً لأنهم يجنبون ولايغتسلون ، ويحدثون ولا يتوضؤون ، فمنعوا من دخول المسجد لأن الجنب لاينبغي أن يدخل المسجد .
وقال الحسين بن الفضل : هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين فسموا نجساً على الذّم ، يدلّ عليها ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقى حذيفة فأخذ ( صلى الله عليه وسلم ) بيده ، فقال حذيفة : يارسول الله إنّي جنب ، فقال : ( إن المؤمن لا ينجس ) .
) فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ ( قال أهل المعاني : أراد بهذا منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام ، قال عطاء الحرم كلّه قبلة ومسجد وتلا هذه الآية .
جابر بن عبد الله عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد لرجل من المسلمين ، ونساؤهم حل لكم ، وقرأ : بعد عامهم هذا يعني العام الذي حج فيه أبو بكر ح عنه بالناس ، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة وهو سنة تسع في الهجرة ) وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ( الآية .
قال المفسرون : وكان المشركون يجلبون إلى البيت الطعام ويتّجرون ويتبايعون ، فلمّا منعوا من دخول الحرم شقّ ذلك على المسلمين ، والقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال لهم : من أين تأكلون وتعيشون وقد بقي المشركون وانقطعت عنهم العير .
فقال المؤمنون : يارسول الله قد كنّا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم فالآن تنقطع عنّا الأسواق ويملك التجارة ، ويذهب ما كنّا نصيب منها من المرافق ، فأنزل الله عز وجل ) وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ( .
وقال عمرو بن فايد : معناه وإذا خفتم ؛ لأن القوم كانوا قد خافوا ، وذلك هو قول القائل : إن كنت أبي فأكرمني يعني ( إن خفت ) عيلة فقراً وفاقة . يقال عال يعيل عيلة وعيولا . قال الشاعر :
(5/27)

" صفحة رقم 28 "
فلا يدري الفقير متى غناه
ولايدري الغني متى يعيل
وفي مصحف عبد الله : وإن خفتم عايلة أي ( حصلة ) يعول عليكم أي يشق ) فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ( وذلك أنه أنزل عليهم مطراً مدراراً فكثر خيرهم حين ذهب المشركون .
وقال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وطهوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب ، وكفاهم الله عز وجل ما كانوا يتخوّفون .
قال الكلبي : اخصبت ( . . . . . . . . . . . . ) ، وكفاهم الله ما أهمّهم ، وقال الضحاك وقتادة : قسم الله منها ماهو خير لهم وهو الجزية فأغناهم الله وذلك قوله :
التوبة : ( 29 ) قاتلوا الذين لا . . . . .
) قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ( قال مجاهد : نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك .
وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود واراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أخذ الجزية فأنزل الله ) عز وجل : ) قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليوم الآخر ( .
) وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ ( أراد الدين الحق فأضاف الاسم إلى الصفة . قال قتادة : الحق هو الله عز وجل ، ودينه الإسلام ، وقال أبو عبيدة معناه : طاعة أهل الإسلام ، وكل من أطاع ملكاً أو ذا سلطان فقد دان له ديناً . قال زهير :
لئن حللت بجو في بني أسد
في دين عمرو وحالت بيننا فدك
أي في طاعة عمرو .
) مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ( يعني اليهود والنصارى يؤخذ منهم الجزية وألاّ يقاتلوا ، ويؤخذ الجزية أيضاً من الصابئين والسامرة ؛ لأن سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فيها ، ويؤخذ الجزية أيضاً من المجوس ، وقد قيل : إنهم كانوا من أهل الكتاب فرفع كتابهم .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوزان ، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين ، حدّثنا محمد بن يحيى و ( . . . . . . . . . . . . . ) قالا : حدّثنا عثمان بن صالح ، حدّثنا ابن وهب ، أخبرنا يوسف عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ الجزية من مجوس
(5/28)

" صفحة رقم 29 "
هجر ، وأن عمر أخذها من مجوس السواد وأن عثمان بن عفان أخذها من بربر .
ابن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين ، حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا : حدّثنا أبو عاصم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب ح : لا أدري كيف أصنع بالمجوس ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( سنّوا بهم سنة أهل الكتاب ) .
قال أبو عاصم : مشيت ميلاً وهرولت ميلاً حتى سمعت من جعفر بن محمد ، حدّثنا ، يعني هذا الحديث ، وإنما منعنا من نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم ( وإتيان ) الفروج والاطعمة على الخطر ، ولا يجوز الإقدام عليها بالشك .
قال الحسن : قاتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهل هذه الجزيرة على الإسلام لا يقبل منهم غيره ، وكان أفضل الجهاد ، وكان بعده جهاد آخر على هذه الطعمة في شأن أهل الكتاب .
) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا اليوم الآخر ( ألاّ يتبعوا ماسواهما بدعة وضلالة ، ولايؤخذ الجزية من الأوثان ) حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ ( وهو ما يعطي المعاهد على عهده من الجزية ، وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى عليه ، والجزية مثل القعدة والجلسة ومعنى الكلام : حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعاً عنها .
وأما قدرها : فقال أنس : قسَّم النبي على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر بن الخطاب ح على الفقراء من أهل الذمة كل واحد منهم درهماً ، وعلى الاوساط أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهماً ، ولم يجاوز به خمسين درهماً ، وليس شيء موقت ولكن على ما صولحوا عليه .
) عَنْ يَد ( أي بالنقل من يده إلى يد من يدفعه إليه ، كما يقال كلّمته فماً لفم .
وقال أبو عبيدة : يقال : أكلّ من ( . . . . . . . . . . . . . ) من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد ، وقال القتيبي : يقال : أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئاً غير مكلف .
وقال ابن عباس : هو أنها يعطونها بأيديهم ، يمشون بها كارهين ولايجيئون بها ركباناً ولا
(5/29)

" صفحة رقم 30 "
يرسلون ) وَهُمْ صَاغِرُونَ ( أذلاّء مقهورون ، قال ابن عباس يتلتلون بها تلتلة وقال عكرمة : معنى الصغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم . قال الكلبي : إنه إذا ( جاء يعطي ) صفع في قفاه ، وقيل : إعطاؤه إياها هو الصغار ، وقيل : إنّه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة ، وقيل : إنه يجري عليهم أحكام الإسلام وهو الصَغَار .
أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن جعفر ، حدّثنا علي بن حرب ، حدّثنا السباط ، حدّثنا عبد العزيز بن ( . . . . . . . . . . . . ) عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء إلى ابن عباس رجل فقال : الأرض من أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأودي خراجها ؟ قال : لا ، وجاء آخر فقال له ذلك قال : لا وتلا قوله : ) قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ( الآية إلى قوله : ) وهم صاغرون ( ، أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينزعه فيجعله في عنقه ؟
وقال كليب بن وائل : قلت لابن عمر : إشتريت أرضاً ، قال : الشراء حسن . قال : فإنّي أعطي من كل جريب أرض درهما وقفيز طعام ؟ قال : ولا تجعل في عنقك صغاراً .
وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال ما يسرّني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها الصغار على نفسي .
التوبة : ( 30 ) وقالت اليهود عزير . . . . .
) وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ( الآية ، روى سعيد بن جبير ، وعكرمة عن ابن عباس . قال : أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلام بن مسلم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف قالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله . فأنزل الله في قولهم : ) وقالت اليهود عزير بن الله ( ، وقرأ ابن محيصن وعاصم والكسائي : عزيرٌ بالتنوين ، وهو قول أبي عبيد وأبي حاتم .
وقرأ الباقون بغير تنوين ، فمن نوّن قال : لأنه اسم خفيف فوجهه أن ينصرف وإن كان أعجمياً مثل نوح ولوط وهود ، وقال أبو حاتم والمبرّد : الاختيار التنوين لأنه ليس بمنسوب ، والكلام ناقص وفي موضع الخبر وليس بنصب ، وإنما جاز التنوين في النعت إذا كان الاسم يستغني عن الابن أو ينسب إلى اسم معروف أو لقب غلب عليه ، مثل محمد بن عبد الله ويزيد ابن عبد الله ، لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد فينوّن في الخبر ويحذف في الصفة ، وربما أثبتوا التنوين في الصفة ، ويقول الشاعر ، أنشده الفرّاء :
والاّ تكن مال هناك فإنّه
سيأتي ثنائي زيداً بن مهلهل
وأنشد الكسائي ( . . . . . . . . . . . . ) مذهبه
(5/30)

" صفحة رقم 31 "
وقال أبو عبيدة : هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك : زيد ابن الامير ، وزيد بن عبد الله ، فعزير يكون بعده خبر .
ومن ترك التنوين قال : لأنه اسم اعجمي ويشبه اسماً مصغراً .
وقال الفرّاء : لما كانت النون من عزير ساكنة ( وهي نون التنوين ) والباء من الابن ساكنة والتقى ساكنان حذف الأول منهما استثقالاً لتحريكه ، كما قال : لتجدني بالأمير براً ، وبالقناة مدعاً مكراً ، إذا غطيف السلمّي فرّا .
فحذف النون الساكن الذي استقبلها ، وقال الزجّاج : يجوز أن يكون الخبر محذوفاً تقديره : عزير ابن الله معبودنا .
قال عبيدة بن عمير : إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال : إن الله فقير يستقرض .
عطية العوفي عن ابن عباس قال : ) قَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ( فانما قالوا ذلك من أجل أن عزيراً كان في أهل الكتاب ، وكانت التوراة عندهم ما شاء الله أن يعلموا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق ، وكان التابوت فيهم ، فلمّا رأى الله عز وجل أنهم أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء وأذهبوا التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، فأرسل الله عزّوجل عليهم مرضاً فاستطالت بطونهم حتى جعل الرجل يمسّ كبده ، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير فمكثوا ماشاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير ( الله ) وابتَهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم ، فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذّن في قومه فقال : ياقوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليَّ فعلق يعلّمهم فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا وهو يعلّمهم ، ثم إن التابوت تُرك بعد ذلك ، وبعد ذهابه منهم ، فلمّا رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلّمهم فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أُتي عُزير هذا إلا إنّه ابن الله .
وقال السدّي وابن عباس في رواية عمار بن عمار : إنما قالت اليهود عزير ابن الله لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا كتب التوراة في الجبال وغيرها ، فلحق عزير بالجبال والوحوش ، وجعل يتعبّد في الجبال ، ولا يخالَط ولا يُخالط الناس ولاينزل إلا يوم عيد ، وجعل يبكي ويقول : يارب تركت بني إسرائيل بغير عالم
(5/31)

" صفحة رقم 32 "
فجعل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه ، فنزل مرة إلى العيد فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد خلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يامطعماه ياكاسياه .
فقال لها عزير : يا هذه اتقي الله واصبري واحتسبي ، أما علمتِ أنّ الموت سبيل الناس ، وقال : ويحك من كان يطعمكِ ويكسوكِ قبل هذا الرجل يعني زوجها الذي كانت تندبه قالت : الله ، قال : فإن الله حي لم يمت ، قالت : ياعزير فمن كان يعلّم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله ، قالت : فلم تبكي عليهم ، وقد علمت أن الموت حق وأن الله حي لايموت ، فلمّا عرف عزير أنه قد خُصم ولّى مدبراً .
فقالت له : يا عزير إنّي لست بامرأة ولكني الدنيا ، أما إنّه ينبع ماء في مصلاك عين ، وتنبت شجرة فكلْ من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلِّ ركعتين فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذ منه ، فلمّا أصبح نبعت من مصلاّه عين ، ونبتت شجرة ففعل ما أمرته به ، فجاء شيخ فقال له : افتح ، قال : ففتح فاه وألقى فيه شيئاً كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعاً كهيئة القوارير ثلاث مرات ، ثم قال له : ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك ، قال : فدخلها فجعل لايرفع قدمه إلا زيد في علمه حتى انتهى إلى قومه ، فرجع إليهم وهو من أعلم الناس بالتوراة . فقال : يابني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة .
قالوا : ياعزير ماكنت كاذباً ، فربط على كل اصبع له قلماً وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة على ظهر قلبه ، فأحيا لهم التوراة ، وأحيا لهم السنّة ، فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها من توراة عزير فوجودها مثلها ، فقالوا : ما أعطاه الله ذلك إلا لأنه ابنه .
وقال الكلبي : إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك غلاماً صغيراً فاستضعفوه ، فلم يقبله ولم يدرِ أنه قرأ التوراة ، فلمّا توفي مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة ، فبعث الله عز وجل عزيراً ليجدد لهم التوراة ويكون آية لهم ، فأتاهم عزير وقال : أنا عزير فكذّبوه وقالوا : إن كنت كما تزعم عزير فاتلُ علينا التوراة ، فكتبها وقال : هذه التوراة .
ثم إن رجلاً قال : إن أبي حدّثني عن جدي أن التوراة جعلت ( لنبي ) ثم دفنت في كوّم فانطلقوا معه حتى احتفرها وأخرجوا التوراة وعارضوا بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفاً ولا آية فعجبوا وقالوا : ابن الله ، ما جعل التوراة في قلب رجل واحد بعد ماذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه ، فعند ذلك قالت اليهود : عزير ابن الله .
(5/32)

" صفحة رقم 33 "
وأما النصارى ( فقيل ) : إنّهم كانوا على ( دين واحد ) سنة بعدما رُفع عيسى ، يصلّون القبلة ويصومون رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : يونس قتل جماعة من أصحاب عيسى ج ، ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فكفرنا وجحدنا والنار مصيرنا ، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ، إني احتال فأضلّهم حتى يدخلوا النار ، وكان لها فرس يقال له : العقاب يقاتل عليها فغرقت فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب .
فقال له النصارى : مَن أنت ؟ قال يونس : عدوكم ( سمعت ) من السماء : ليس لك توبة إلا أن تتنصّر وقد تبت ، فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتاً سنة لايخرج منه ليلاً ولا نهاراً حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال ( لهم ) إن الله قبل توبتك ، فصدّقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستخلف عليهم نسطور وعلّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، ثم توجه إلى الروم وعلّمهم اللاهوت والناسوت وقال : لم يكن عيسى بإنس فتأنّس ولابجسم فتجسّم ولكنّه ابن الله ، وعلَّم ذلك رجلاً يقال له : يعقوب .
ثم دعا رجلاً يقال له : ملكاً وقال له : إن الله لم يزل ولا يزال عيسى ح ، فلمّا استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً ، وقال لكل واحد منهم : أنت خليفتي ، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني ، وقال لكل واحد منهم : إني غداً أذبح نفسي فادع الناس للمذبحة ، ثم دخل المذبحة فذبح نفسه ، وقال : إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى ، فلمّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى ( نحلته ) فتبع كل واحد طائفة من الناس واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا ، فجميع النصارى من الفرق الثلاث .
) ذَلِكَ ( يعني قول النصارى : إن المسيح ابن الله ) قَوْلُهُمْ بِأفْوَاهِهِمْ ( يقولون بألسنتهم من غير علم .
قال أهل المعاني : إن الله عز وجل لايذكر قولاً مقروناً بذكر الأفواه والألسن إلا وكان ذلك القول زوراً كقوله تعالى : يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم ، ويقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم ، وقوله : كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ) يُضَاهِؤُنَ ( قال ابن عباس : يُشبهون وعنه أيضاً : يحكون ، وقال مجاهد : يواطئون .
وقال ذي نون : وفيه لفضان يضاهئون بالهمزة وهي قراءة عاصم ، ويضاهون بغير همزة وهي قراءة العامة ، يقال : ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد ) قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ( قال قتادة
(5/33)

" صفحة رقم 34 "
والسدي : ضاهت النصارى قول اليهود من قبل ، فقال النصارى : المسيح ابن الله كما قال اليهود : عزير بن الله ، وقال مجاهد : يضاهئون قول المشركين حين قالوا اللات والعزى ومناة بنات الله ، وقال الحسن : شبّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأُمم الكافرة ، وقال لمشركي العرب حين حكى عنهم ، وقال الذين يعلمون لولا يكلّمنا الله أو تأتينا آية ، ثم قال : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم وقال القيتبي : يريد إن مَن كان في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلوهم .
) قَاتَلَهُمُ اللهُ ( قال ابن عباس : لعنهم الله ، وكل شيء في القرآن قتل هو لعن ، ومثله قال أبان بن تغلب :
قاتلها الله تلحاني وقد علمت
أني لنفسي إفسادي وإصلاحي
وقال ابن جريج : قاتلهم الله وهو بمعنى التعجب ) أنَّى يُؤْفَكُونَ ( أي يكذبون ، ويصرفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه
التوبة : ( 31 ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم . . . . .
) اتَّخَذُوا أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ ( قال الضحاك : علماءهم ، وقرأ : رهبان ، وأحبار العلماء : واحدهم حَبر وحِبر بكسر الحاء وفتحها والكسر أجود ، وكان يونس الجرمي يزعم أنه لم يسمع فيه إلا بكسر الحاء ، ويحتج فيه بقول الناس : هذا محبر يريدون مداد عالم ، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع وأهل الأصفاد في دينهم ، يقال : راهب ورهبان مثل فارس وفرسان ، وأصله من الرّهبة وهي الخوف كأنهم يخافون الله ) أرْبَاباً ( سادة ) مِنْ دُونِ اللهِ ( يطيعونهم في معاصي الله .
مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي عنقي صليب من ذهب . فقال : يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك ، قال : فطرحته ثم انتصب وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية : ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ( من دون الله حتى فرغ منها فقلت له : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرّمون حلال الله فتحرّمونه ، ويحلّون ماحرّم الله فتحلّونه ، قال : فقلت : بلى .
قال أبو الأحوص : عن عطاء بن أبي البختري في قول الله عز وجل : ) أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ( قال : أما ( لو أمروهم ) أن يعبُدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنّهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه ، وحرامه حلاله فأطاعوهم ، فكانت تلك الربوبية .
وقال الربيع : قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني اسرائيل ؟ قال : إنهم
(5/34)

" صفحة رقم 35 "
وجدوا في كتاب الله عز وجل ما أمروا به ونهوا عنه ، فقالوا : لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا بشيء ائتمرنا ومانُهينا عنه فانتهينا ، الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .
وقال أهل المعاني : معناه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم كالأذناب حيث أطاعوهم في كل شيء ، كقوله : قال انفخوا حتى إذا جعله ناراً أي كالنار ، وقال عبد الله المبارك :
وهل بدّل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها .
) وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً وَاحِداً لا إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ ( نزّه نفسه ) عَمَّا يُشْرِكُونَ ( القراءة بالياء وقرأ ابن أبي إسحاق بالتاء
التوبة : ( 32 ) يريدون أن يطفئوا . . . . .
) يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأفْوَاهِهِمْ ( أي يبطلوا دين الله بألسنتهم ، بتكذيبهم إياه وإعراضهم عنه .
وقال الكلبي : يعني يردون القرآن بألسنتهم تكذيباً له ، وقال ابن عباس : يريد اليهود والنصارى أن يلزموا توحيد الرحمن بالمخلوقين الذين لا تليق بهم الربوبية ، وقال الضحاك : يريدون أن يهلك محمد وأصحابه ولايعبد الله بالاسلام .
) وَيَأبَى اللهُ إلاَّ أنْ يُتِمَّ نُورَهُ ( أي يُعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله ) وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ( وإنما أدخلت إلا لأن في أبت طرفاً من الجحد ، ألا ترى أنّ قولك يثبت أن أفعل ولما فيه من الحذف تقديره : ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره ، كما قال :
وهل لي أُمّ غيرها أن تركتها
أبى الله إلاّ أن أكون لها إبنا
هو الذي يعني يأبى إلاّ إتمام دينه
التوبة : ( 33 ) هو الذي أرسل . . . . .
) هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) بِالهُدَى ( قال ابن عباس : بالقرآن ، وقيل : تبيان فرائضه على خلقه ، ودين الحق وهو الإسلام .
) ويأبى الله إلا أن يتم نوره ( أي يُعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله ولو كره الكافرون ) لِيُظْهِرَهُ ( ليعليه وينصره ويظفره ) عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ( على سائر الملل كلها ) وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ( .
واختلف العلماء بمعنى هذه الآية ، فقال ابن عباس : الهاء عائدة على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعني ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لايخفى عليه منها شيء ، وقال الآخرون : الهاء راجعة إلى دين الحق .
قال أبو هريرة والضحاك : ذلك عند خروج عيسى ج إذا خرج اتبعه كل دين وتصير الملل كلها واحدة ، فلا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية إلى المسلمين
(5/35)

" صفحة رقم 36 "
قال السدّي : وذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج .
وقال الكلبي : لايبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك ، ولم يكن بعد ، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك .
قال المقداد بن الأسود : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لايبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام إما يعز عزيز وإما يذل ذليل ، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزّوا ، وإما يذلّهم فيدينون له ) .
عن الأسود أو سويد بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى ) .
قالت : قلت : يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعد ما أنزل الله على رسوله . ) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ( . قال : يكون ذلك ماشاء الله عز وجل ، ثم يبعث ريحاً فيقبض كل من كان في قلبه مثقال ذرة من خير ، ثم يبقي من لا خير فيه ويرجع الناس إلى دين آبائهم .
وقال الحسين بن الفضل : معناه : ليظهره على الأديان كلها بالحجج الواضحة والبراهين اللامعة فيكون حجة هذا الدين أقوى ، وقال بعضهم : قد فعل الله ذلك ونُجزت هذه العدة لقوله سبحانه ) اليوم أكملت لكم دينكم ( .
وقال بعضهم : هو أن يظهر الإسلام في كل موضع كان يجري على أهلها صَغَار في أي موضع كانوا ، لايؤخذ منهم جزية كما يؤخذ من أهل الذمة .
وقيل : معناه : ليظهره على الاديان كلها التي في جزيرة العرب فيظهره على دينهم ويغلبهم في ذلك المكان .
وقيل : هو جريان حكمته عليهم والله أعلم .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الاَْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا
(5/36)

" صفحة رقم 37 "
كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالاَْرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 2
التوبة : ( 34 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيراً مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ ( يعني العلماء والقرّاء من أهل الكتاب ) لَيَأكُلُونَ أمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ( أي يأخذون الرشوة في أحكامهم ويحرّفون كتاب الله ويكتبون بأيديهم كتباً يقولون : هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم ، وهي المآكل التي كانوا يصيبونها منهم على تكذيبهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولو آمنوا به لذهبت عنهم تلك المآكل ) وَيَصُدُّونَ ( ويصرفون الناس ويمنعونهم ) عَنْ سَبِيلِ اللهِ (
(5/37)

" صفحة رقم 38 "
دين الله ) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ( يعني ويأكلون أيضاً بالباطل الذين يكنزون الذهب والفضة .
سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الحسن المظفر بن محمد بن غالب الهمذاني يقول : سمعت إبراهيم بن محمد بن عرفة الايجي بن نفطويه يقول : سمّي ذهباً لأنه يذهب فلا يبقى ، وسمّيت فضة لأنها تنفض أي تتفرق ولا تبقى ، وحسبك الأسمان دلالة على فنائهما ، والله أعلم فيها .
واختلف العلماء في معنى الكنز : فروى نافع عن ابن عمر قال : كل مال آتى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لم يؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض .
ومثله قال ابن عباس والضحاك والسدّي ، ويدلّ عليه ماروي عن ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت شره وليس بكنز .
وقال سعيد بن المسيب : سأل عمر رجلاً عن أرض باعها فقال : ( أحسن موضع هذا المال ؟ فقال : أين أضعه ؟ ) قال : أُحفر تحت فراش امرأتك . فقال : يا أمير المؤمنين أليس بكنز ، قال : ما أدّى زكاته فليس بكنز .
وقال علي بن أبي طالب ح : كل مازاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز ، أدّيت منه الزكاة أم لم تؤدِّ ، ومادونها نفقة .
وقال عن الوليد بن زيد : كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه فهو كنز .
منصور عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال لما نزلت هذه الآية ) وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ( قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تبّاً للذهب وتبّاً للفضة ) يقولها ثلاثاً : فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال المهاجرون : فأي المال نتّخذ ؟ فقال عمر : فإنّي أسال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك ، قال : فأدركته فقلت : يارسول الله إن المهاجرين قالوا : أي المال نتّخذ ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه ) ( 10 ) .
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبر طليحة بن عبدان ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا محمد بن عبدل ، حدّثنا الأعمش عن ( المعرور ) بن سويد عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في قبال الكعبة فلمّا رآني قد أقبلت قال : هم الأخسرون وربّ الكعبة ، هم الأخسرون وربّ الكعبة ، هم الأخسرون وربّ الكعبة .
قال : فدخلني غمّ وما أقدر أن أتنفس قلت : هذا شيء حدث فيَّ ، قلت : مَن هم فداك أبي وأمي ؟ قال : المكثرون إلا من مال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن فوقه وبين يديه وعن ( . . . . . . . . . . ) كل صفراء وبيضاء أولى عليها صاحبها فهو كنز ( . . . . . . . . . . ) من ترك خير الشيء فهي له يوم القيامة .
وروى طلحة بن عبد الله بن كريز الخزاعي عن أبي الضيف عن أبي هريرة قال : من ترك عشرة آلاف درهم جعل صفائح يعذّب بها صاحبها يوم القيامة قبل القضاء ، وعن سلمان بن ثروان قال : سمعت عمار بن ياسر يقول : إن أهل المائدة سألوا المائدة ثم نزلت فكفروا بها ، وإن قوم صالح سألوا الناقة فلمّا أعطوها كفروا بها ، وانكم قد نهيتم عن كنز الذهب والفضة فستكنزونها ، فقال رجل نكنزها ( وقد سمعنا ) قوله ؟ قال : نعم ، ويقتل عليه بعضكم بعضاً ، وقال شعبة : كان فصّ سيف أبي هريرة من فضة فنهاه عنها أبو ذر ، وقال : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من ترك صفراء وبيضاء كوي بها ) .
وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي امامة صديّ بن عجلان قال : إن رجلا توفي من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيّة ) ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقالج : ( كيّتان ) .
وأولى الأقاويل بالصواب القول الأول لأن الوعيد وارد في منع الزكاة لا في جمع المال
(5/38)

" صفحة رقم 39 "
الحلال . يدل عليه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه ، ومن زاد فهو خير له ) .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) .
وقال ابن عمر وسئل عن هذه الآية فقال : من كنزها ولم يؤدّ زكاتها فويل له . ثم قال : لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزّكيه وأعمل بطاعة الله عز وجل .
أما أصل الكنز في كلام العرب : كل شيء مجموع بعضه على بعض ، على ظهر الأرض كان أو في بطنها . يدلّ على ذلك قول الشاعر :
لا درّي إن أطعمت نازلهم
( قرف الحتي ) وعندي التبر مكنوز
أراد : مجموع بعضه إلى بعض والحتي : مذر المقل ، وكذلك يقول العرب للشيء المجتمع : مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض .
قرأ يحيى بن عمر يكنزون بضم النون ، وقراءة العامة بالكسر ، وهما لغتان مثل يعكُفون ويعكِفون ، ويعرُشون ويعرِشون ) وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ ( ولم يقل فينفقونهما ، اختلف النحاة فيه ، قال قطرب : أراد الزكاة أو الكنوز أو ( . . . . . ) الذهب والفضة ، وقال الفرّاء : استغنى بالخبر عن أحدهما في عائد الذكر عن الآخر لدلالة الكلام على أن الخبر على الآخر مثل الخبر عنه ، وذلك موجود في كلام العرب وأخبارهم ، قال الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
وقال ابن الانباري : قصد الأغلب والأعم لأن الفضة أعم والذهب ( أخص ) مثل قوله ) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة ( ردّ الكناية إلى الصلاة لأنّها أعم ، وقوله : ) رأوا تجارة أولهواً انفضوا إليها ( ردّ الكناية إلى التجارة لأنها أعم وأفضل .
) فَبَشِّرْهُمْ ( فأخبرهم وأنذرهم ) بِعَذَاب ألِيم }
التوبة : ( 35 ) يوم يحمى عليها . . . . .
) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا ( أي يدخل النار مرتديا
(5/39)

" صفحة رقم 40 "
ً بعض الكنوز ، ومنه يقال : حميت الحديدة في النار ) فَتُكْوَى ( فتحرق ) بِهَا جِبَاهُهُمْ ( جباه كانزيها ) وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ( .
قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره مامن رجل يكوى ، يكنز موضع دينار على دينار ودرهم على درهم ، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على خدّيه .
وسئل أبو بكر الوراق : لم خص الجباه والجنوب والظهور بالكي ؟ فقال : لأن الغني صاحب الكنز إذا رأى الفقير انقبض ، فإذا ضمّه وإياه مجلس ازورّ عنه وولّى ظهره عليه ، وقال محمد بن علي الترمذي : ذلك لأنّه يبذخ ويستكبر بماله ويقع على كنزه بجنبيه ويتساند إليه .
وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة ، فبينما أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب ، خشن الجسد ، خشن الوجه فقام عليهم ، فقال : بشّر الكنّازين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثدييه ، ويزلزل ويكوي الجباه والجنوب والظهور حتى تلتقي الحمة في أجوافهم .
قال : فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً ، قال : فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال : إن هؤلاء لايعقلون شيئاً .
) هَذَا ( أي يقال لهم : هذا ) مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ ( كقوله : ) فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد أيمانكم فَذُوقُوا العذاب بمَا كُنتُمْ تكفرون ( أي تجحدون حقوق الله في أموالكم وتمنعونها .
واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، وفيمن نزلت منهم ، فروى ابن شهاب عن خالد بن زيد بن أسلم عن ابن عمر وسئل عن قوله تعالى ) الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ( فقال ابن عمر : إنّما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلمّا نزلت جعلها الله تطهير الأموال .
مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منا يبقي لولده مالا يبقي بعده ، فقال عمر ح : أنا أُفرّج عنكم فانطلقوا ، وانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يانبي الله إنّه قد كبر على أصحابك هذه فقال : ( إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث في أموال
(5/40)

" صفحة رقم 41 "
تبقى بعدكم ) ثم قال : ( الا أخبركم بخير مايكنز المرء ، المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرّته ، وإذا أمرها أطاعته ، فإذا غاب عنها حفظته ) ( 14 ) .
وقال بعض الصحابة : هي في أهل الكتاب خاصة ، وقال السدّي : هي في أهل القبلة ، وقال الضحاك : هي عامة في أهل الكتاب وفي المسلمين ، مَن كسب مالاً حلالاً فلم يعط حق الله منه كان كنزاً وإن قلّ فكان على وجه الأرض ، وما أُعطي حق الله منه لم يكن كنزاً وإن كان كثيراً ودفنه في الأرض .
عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا انا بأبي ذر فقلت له : ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية ) والذين يكنزون ( الآية ، فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، وكان بيني وبينهم كلام في ذلك فكتب إلى عثمان ح يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة ، فقدمتها فكثر الناس علي حتى كأنّهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحّيت فكنت قريباً ، فذلك الذي أنزلني هذه المنزل ، ولو أمّروا عليَّ جيشاً لسمعت وأطعت .
وقال بعضهم : نزلت في مانعي الزكاة خاصة ، وهو أولى الاقاويل بالصحة ، يدلّ عليه ماروى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من صاحب كنز لايؤدي زكاته إلاّ حُمي عليه في نار جهنم ، فجعل صفائح فيكوي بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين الف سنة ، ثم يرسله أمّا إلى الجنة وأمّا إلى النار ، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلجاء كلّما مضى عليه أخراها ردّت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرسله إما إلى الجنة وإما إلى النار ، وما من صاحب أبل لايؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت ( . . . . . . . . ) كلّما مضى عليها أخراها ردّت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين الف سنة ثم يرسله أما إلى الجنة وأما إلى النار ) . قال سهيل : فلا أدري أذكر البقر أو لا ؟
وروى ثوبان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول : ( من ترك بعده كنزاً مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يتبعه ، يقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك ، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ، ثم يلقمه سائر جسده )
(5/41)

" صفحة رقم 42 "
التوبة : ( 36 ) إن عدة الشهور . . . . .
) إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ ( يعني عدد شهور السنة ) عِنْدَ اللهِ ا ثْنَا عَشَرَ ( قراءة العامة بفتح العين والشين ، وقرأ أبو جعفر بجزم الشين ، وقرأ طلحة بن سليمان بسكون الشين ، شهراً نصب على التمييز .
وهي المحرم وصفر وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادى الاولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة .
وأما المحرم فسمي بذلك لتحريم القتال فيه ، وسمي صفر لأن مكة تصفر من الناس فيه أي تخلو منهم ، وقيل : وقع فيه وباء فاصفرّت وجوههم ، وقال أبو عبيدة : سمّي صفر لأنه صفرت فيه وطابهم من اللبن ، وشهرا الربيع سمّيا بذلك لجمود الماء فيهما ، وسمّي رجب لأنهم كانوا يرجبونه أي يعظمونه ، رجبته ورجّبته بالتخفيف والتشديد إذا عظمته ، قال الكميت :
ولا غيرهم أبغي لنفسي جنّة
ولا غيرهم ممن أُجلّ وأرجب
وقيل : سمي بذلك لترك القتال فيه من قول العرب : رجل أرجب إذ كان أقطع لايمكنه العمل ، وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : إن في الجنة نهراً يقال له رجب ماؤه أشد بياضاً من الثلج وأحلى من العسل ، من صام يوماً من رجب شرب منه ، وقال عمر : سمّي شعبان لتشعب القبائل فيه .
وروى زياد بن ميمون أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سُمّي شعبان لأنه يتشعب فيه خير كثير لرمضان ) .
وقد مضى القول في رمضان ، وسمّي شوال لشولان النوق اللقاح بأذنابها فيه .
قال أبو زيد البلخي : سمّي بذلك لأن القبائل تشول فيه أي تبرح عن أماكنها ، وسمّي ذو القعدة لقعودهم عن القتال ، وذو الحجة لقضاء حجهم فيه ، والله أعلم .
قال بعض البلغاء : إذا رأت العرب السادات تركوا العادات وحرموا الغارات قالوا : محرم ، وإذا ضعفت أركانهم ومرضت أبدانهم ، وأصفرت ألوانهم قالوا : صفر ، وإذا ظهرت الرياحين وزهرت البساتين قالوا : ربيعان ، وإذا قل الثمار وجمد الماء قالوا : جماديان ، فإذا هاجت البحار وحمت الأنهار وترجبت الأشجار قالوا : رجب ، وإذا بانت الفضائل وتشعبت القبائل قالوا : شعبان ، وإذا حمي الفضا ، ونفي جمر الغضاء قالوا : رمضان ، وإذا انكشف
(5/42)

" صفحة رقم 43 "
السحاب ، وكثرت الذباب وشالت الناقة إلا ذبحوها قالوا : شوال ، وإذا قعد التجار عن الأسفار قالوا : ذو القعدة ، وإذا قصدوا الحج من كل فج ، وأظهروا النج والعج قالوا : ذو الحجة .
) فِي كِتَابِ اللهِ ( يعني اللوح المحفوظ وقيل في قضائه الذي قضى ) يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا ( من الشهور ) أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ( كانت العرب تعظمها وتحرم القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ، وهي : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ومحرم ، واحد فرد وثلاثة سرد .
) ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ( الحساب المستقيم ) فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أ نْفُسَكُمْ ( أي في الأشهر الحرم بالعمل بمعصية الله عز وجل وترك طاعته ، وقال ابن عباس : استحلال القتال والغارة فيهن ، وقال محمد بن إسحاق عن يسار : لا تجعلوا حلالها حراماً ولا حرامها حلالا كما فعل أهل الشرك ، وقال قتادة : إن العمل الصالح والأجر أعظم في الأشهر الحرم ، والذنب والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهنّ ، وإن كان الظلم على كل حال عظيم ، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء كما يصطفي من خلقه صفايا .
) وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً ( جميعاً عامّاً مؤتلفين غير مخلّفين ) كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ( نصب على الحال ) وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ ( .
واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم : إنه منسوخ ، وقال قتادة وعطاء الخرساني : كان القتال كثيراً في الأشهر الحرم ثم نسخ وأُحل القتال فيه بقوله ) وقاتلوا المشركين كافة ( يقول : فيهن وفي غيرهنّ .
قال الزهري : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحرّم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله سبحانه من تحريم ذلك حتى نزلت براءة فأحل قتال المشركين ، وقال أبو إسحاق : سألت سفيان الثوري عن القتال في الشهر الحرام فقال : هذا منسوخ ، وقد مضى ، ولا بأس بالقتال فيه وفي غيره ، قالوا : لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غزا هوازن بحنين وثقيفاً بالطائف في شوال وبعض ذي القعدة فيدل على أنه منسوخ ، وقال آخرون : إنه غير منسوخ ، وقال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح مايحلّ للناس أن يغزوا في المحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يُقاتَلوا فيها وما نَسخت ، وقال ابن حيان نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة .
التوبة : ( 37 ) إنما النسيء زيادة . . . . .
) إنَّمَا النَّسِيءُ ( قرأ الحسن ، وعلقمة وقتادة ومجاهد ونافع غير ورش وأبو عامر وعيسى والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر : النسيء ممدود مهموز ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ، وهو مصدر كالخرير والسعير والحريق ونحوها ، ويجوز أن يكون مفعولاً مصروفاً إلى
(5/43)

" صفحة رقم 44 "
فعيل مثل الجريح والقتيل والغريق ، تقديره : إنما الشهر المؤخَّر ، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأشهب وشبل : ( إنما النسيء ) ساكنة : السين مهموزة على المصدر لا غير ، وقرأ أبو عمرو وورش النسيّ بالتشديد من غير همزة .
وروي ذلك عن ابن كثير على معنى النسيّ أي المتروك قال الله تعالى ) نسوا الله فنسيهم ( من النسيان ، ويحتمل أن يكون أصله الهمز مخفف ، واختلفوا في أصل الكلمة ، فقال الأخفش : هو من التأخير ومنه النسيئة في البيع ، ويقال : أنسأ الله أجله ، ونسأ في أجله أي أخّره ، وقال قطرب : هو من الزيادة ، وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسيء ، وكذلك قيل للبن إذ كثر بالماء نسىء ، ونسؤ ، وللمرأة الحبلى نسؤتْ ، لزيادة الواو فيها ، وقد نسأتُ الناقة وأنسأتها إذا زجرتها ليزداد سيرها ، وقال قتادة : عهد ناس من أهل الضلالة فزادوا صفراً في الأشهر الحرم ، وكان يقوم قائمة في الموسم ويقول : ألا إن آلهتكم قد حرمت المحرم فيحرمونه ذلك العام ، ثم يقوم في العام المقبل فيقول : ألا إن آلهتكم قد حرّمت صفر فيحرمونه ذلك العام وكان يقال لهما : صفران .
وأما معنى النسيء وبدوّ أمره على ماذكره العلماء بألفاظ مختلفة ومعنى متفق ، فهو إن العرب كانت تحرّم الشهور الأربعة وكان ذلك مما تمسّكت به من ملّة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لايغزون فيها ، وقالوا : لئن توالت علينا ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئاً لنجوعنّ ، وإنما نصيب على ظهر دوابنا فربّما احتاجوا مع ذلك إلى تحليل المحرم أو غيره من الأشهر الحرم لحرب تكون بينهم فيكرهون استحلاله ويستحلون المحرم .
وكانوا يمكثون بذلك زماناً يحرّمون صفر ، وهم يريدون به المحرم ويقولون : هو أحد الصفرين ، وقد تأوّل بعض الناس قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا صفر ، على هذا ثم يحتاجون أيضاً إلى تأخير الصفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخيرالمحرم ، فيؤخّرون تحريمه إلى ربيع ، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ، ثم يحتاجون إلى مثله ، ثم كذلك فكذلك يتدافع شهراً بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلّها ، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى وضعه الذي وضعه الله عز وجل وذلك بعد عمر طويل .
وقال مجاهد : كان المشركون يحجّون في كل شهر عامين ، فحجّوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجّوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكذلك في الشهور التي وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة ، ثم حج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في العام القابل حجة الوداع فوافقت ذي الحجة ، فذلك حين قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خطبته : ( ألا إن الزمان قد ابتدأ فدعيت يوم خلق السموات والأرض إن السنة إثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاث
(5/44)

" صفحة رقم 45 "
متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب الذي بين جمادى وشعبان ) .
أراد ( صلى الله عليه وسلم ) أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء .
واختلفوا في أول من نسأ ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك : أوّل من نسأ بنو مالك بن كنانة وكان ( يليه ) أبو ثمامة عبادة بن عوف بن أمية الكناني ، كان يوافي الموسم كل عام على حمار فيقول : أيّها الناس إني أُحدّث ولا أخاف ولا مردّ لما أقول . إنّا قد حرمنا المحرم ، وأخّرنا صفر ، ثم يجيء العام المقبل فيقول : إنّا قد حرّمنا صفر وأخّرنا المحرم .
وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة ، وكان يكون قبل الناس بالموسم ، وإذا همّ الناس بالصّدر قام فخطب الناس فقال : لا مردّ لما قضيت ، أنا الذي لا أغاب ولا أخاب فيقول له المشركون : لبيك ، ثم يسألهم أن ينسئهم شهراً يغيّرون فيه ، فيقول : إن القتال العام حرام ، وإذا قال ذلك حلّوا الأوتار وقرعوا الأسنّة والأزجّة ، وإن قال : حلال عقدوا الأوتار وشددوا الأزجّة وأغاروا على الناس .
( وقيل بعد ) نعيم بن ثعلبة رجل يقال له : جنادة بن عوف وهو الذي أدركه رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أوّل من نسأ النسيء عمرو بن لحي بن بلتعة بن خندف ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو رجل من بني كنانة يقال له القملّس في الجاهلية ، وكان أهل الجاهلية لايغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم ، يلقي الرجل قاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له فيقول قائلهم : اخرجوا بنا فيقال له : هذا المحرم ، فيقول القملّس : إني قد نسأته العام صفران ، فإذا كان العام المقبل قضينا فجعلناهما محرمين ، وقال ( . . . . . . . . . . . . . ) وقال الكميت :
ألسنا الناسئين على معدَ
شهور الحلّ نجعلها حراما
فهو النسيء الذي قال الله تعالى : إنما النسيء زيادة ) زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ ( قرأ أهل المدينة وعاصم وأبو عمرو يَضِل بفتح الياء وكسر الضاد ، واختاره أبو حاتم لأنه ضمّ الضالون لقوله ) بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً ( وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو عبد الرحمن وقتادة ومجاهد وابن محيصن : يضل مكسورة الضاد ، ولها وجهان : أحدهما أن يكون ) الذين كفروا ( في محل النصب أي يضل الله به الذين كفروا
(5/45)

" صفحة رقم 46 "
والوجه الثاني أن يكون ) الذين ( في محل رفع على معنى يُضِل به الذين كفروا الناس المفسدين منهم ، وقرأ أهل الكوفة : يُضل بضم الياء وفتح الضاد وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيدة لقوله زُيّن لهم سوء أعمالهم ويحلّونه يعني النسيء عاماً ويحرّمونه عاما ) لِيُوَاطِؤُوا ( ليوافقوا ، قال ابن عباس : ليشبهوا ، قال المؤرّخ : هو أنهم لم يحلّوا شهراً من الحرم إلا حرّموا مكانه شهراً من الحلال ، ولم يحرّموا شهراً من الحلال إلاّ أحلوا مكانه شهراً من الحرم لئلاّ تكون الحرم أكثر من أربعة أشهر ممّا حرم الله فيكون موافقاً للعدد ، فذلك المراد .
) فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ ( .
) ياَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاَْرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا مِنَ الاَْخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الاَْخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذاَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 2
التوبة : ( 38 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ ( الآية فيها حثٌّ من الله سبحانه لأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على غزوة تبوك ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم ، وذلك في زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد وشدة من الحر ( حين ) فأحرقت النخل وطابت الثمار وعظم على الناس غزوة الروم ، وأحبّوا الظلال والمقام في المسكن والمال ، فشقّ عليهم الخروج إلى القتال ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قلَّ ماخرج في غزوة الاّ كنّى عنها وورّى بغيرها إلا غزوة تبوك لبُعد شقتها وكثرة العدو ليتأهب الناس وأمرهم بالجهاد ، وأخبرهم بالذي يريد ، فلمّا علم الله تثاقل الناس ، انزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا مالكم أي شيء أمركم ) إذَا قِيلَ لَكُمُ ( إذا قال لكم رسول الله ) انفِرُوا ( اخرجوا ) فِي سَبِيلِ اللهِ ( وأصل النفر مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج على ذلك ، فقالت نفر فلان إلى ثغر كذا ، ينفر نفراً ونفوراً ، ومنه نفور الدابة ونفارها ) اثَّاقَلْتُمْ ( تباطأتم .
قال المبرّد : أخلدْتم ) إلَى الأرْضِ ( ومعناه : لزمتم أرضكم ومساكنكم ، وأصله تثاقلتم فأُدغمت التاء في الثاء وأخرجت لها الف يوصل إلى الكلام بها حين الابتداء بها ، كقوله ) حتى إذا ادّاركوا فيها ( وقالوا : اطّيرنا وأرجفت ، العلاء والكسائي .
(5/46)

" صفحة رقم 47 "
تولى الضجيج إذا ما اشتاقها خضرا
عذب المذاق إذا ما اتابع القبل
أي إذا تتابع .
) أرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ( أي أرضيتم الدنيا ودِعتها عوضاً من نعيم الآخرة وثوابها ) فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ قَلِيلٌ ( ثم أوعدهم على ترك الجهاد
التوبة : ( 39 ) إلا تنفروا يعذبكم . . . . .
) إلاَّ تَنفِرُوا ( وقرأ عبيد بن عمير تنفروا بضم الفاء وهما لغتان ) يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً ألِيماً ( في الآخرة ، وقيل : هو احتباس القطر عنهم ، سُئل نجدة بن نفيع عن ابن عباس عن هذه الآية فقال : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استنفر حياً من أحياء العرب فتثاقلوا عنه ، فأمسك عنهم المطر فكذلك كان عذابهم ) وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ( خيراً منكم وأطوع ، قال سعيد بن جبير : هم أبناء فارس ، وقال أبو صلاح : هم أهل اليمن ) وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً ( بترك النفير ) وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ }
التوبة : ( 40 ) إلا تنصروه فقد . . . . .
) إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ ( هذا إعلام من الله أنه هو المتكفّل بنصر رسوله وإظهار دينه أعانوه أو لم يعينوه ، وأنه قد نصره حين كان أولياؤه قليلاً وأعدائه كثيراً ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدّة فقال عزّ من قائل : إلاّ تنفروا أيها المؤمنون إذا استنفركم ، ولا تنصروه إذا استنصركم فالله يعينه يعوّضه عنكم كما نصره ) إذْ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ( .
وقيل : ( معناه ) : إن لم تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا من مكة حين مكروا به وأرادوا ( إخراجه ) وهموا بقتله ) ثَانِيَ اثْنَيْنِ ( نصب على الحال ، وهو أحد الاثنين ، والاثنين رسول الله وأبو بكر الصديق ) إذْ هُمَا فِي الغَارِ ( وهو نقب في جبل بمكة يقال له ثور ) إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ( أبي بكر ح ) لا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا ( للعون والنصرة ، ولم يكن حزن أبي بكر ح جبناً منه ولا سوء ظن وإنما كان اشفاقاً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدلّ عليه أنه قال : يارسول الله إن قتلتُ فأنا رجل واحد ، وإن قتلتَ هلكت الأُمة .
همام عن ثابت عن أنس أن أبا بكر حدّثه قال : قلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونحن في الغار : لو أن أحداً نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال : يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما . قال مجاهد مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ي الغار ثلاثاً .
قال عروة : كان لأبي بكر منيحة من غنم فكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار .
وقال قتادة : كان عبد الرحمن بن أبي بكر يختلف إليهما ، فلمّا أراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الخروج دعاهم وكانوا أربعة : النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أُريقط الليثي .
قال الزهري : لما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر الغار أرسل الله زوجاً من حمام حتى
(5/47)

" صفحة رقم 48 "
باضا أسفل النقب ، والعنكبوت حتى نسج بيتاً ، فلمّا جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام وبيت العنكبوت ، قال لو دخلاه لتكسر البيض ، وتفسخ بيت العنكبوت ، فانصرف .
وقال النبي : ( اللهم اعم أبصارهم ) فعميت أبصارهم عن دخوله ، وجعلوا يضربون يميناً وشمالاً حول الغار .
روى السري بن يحيى عن محمد بن سيرين قال : ذكر رجال على عهد عمر بن الخطاب فكأنّهم فضّلوا عمر على أبي بكر ، قال : فبلغ ذلك عمر فقال : والله لَليلة من أبي بكر خير من آل عمر ، ولَيوم من أبي بكر خير من آل عمر ، لقد خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه حتى وصل رسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي فقال : يارسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك ، فقال : يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني ؟ قال : نعم والذي بعثك بالحق .
فلما أتيا إلى الغار قال أبو بكر ح : مكانك يارسول الله حتى أستبرئ الغار ، فدخل فاستبرأ حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنّه لم يستبرئ الحجر ، فقال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الحجر فدخل فاستبرأ ثم قال : انزل يارسول الله فنزل ، فقال عمر : والذي نفسي بيده لَتلك الليلة خير من آل عمر .
أبو عوانة عن فراس عن الشعبي قال : لقد عاتب الله أهل الأرض جميعاً غير أبي بكر ح في هذه الآية ، وقال أبو بكر :
قال النبي ولم يجزع يوقّرني
ونحن في شدة من ظلمة الغار
لا تخشَ شيئاً فإن الله ثالثنا
وقد توكل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره
كيد الشياطين كادته لكفّار
والله مهلكهم طُراً بما كسبوا
وجاعل المنتهى منها إلى النار
) فَأنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ ( سكونه وطمأنينته ) عَلَيْهِ ( أي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ابن عباس : على أبي بكر ، فأمّا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكانت السكينة عليه قبل ذلك ) وَأيَّدَهُ ( قرأ مجاهد : وأيده بالمد ) بِجُنُود لَمْ تَرَوْهَا ( وهم الملائكة ) وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ( أي المقهورة المغلوبة ) وَكَلِمَةُ اللهِ ( رفع على مبتدأ وقرأ يعقوب : وكلمة الله على النصب على العطف ) هِيَ العُلْيَا ( العالية
(5/48)

" صفحة رقم 49 "
قال ابن عباس : الكلمة السفلى : كلمة الشرك ، والعليا : لا إله إلاّ الله ) وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالا ( قال أبو الضحى : أول آية نزلت من براءة هذه الآية وقال مقاتل : قالوا : فينا الثقيل وذو الحاجة والضيعة ، والشغل والمنتشر أمره ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ، وأبى أن يعذرهم .
واختلفوا في معنى الخفاف والثقال ، فقال أنس والحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة وشمر بن عطية ومقاتل بن حيان : مشاغيل ، وقال الحكم : مشاغيل وغير مشاغيل . الحسن : مشاغيل ، وقال أبو صالح : خفافاً من المال ، أي فقراء وثقالا منه أي أغنياء ، وقال ابن زيد : الثقيل الذي له الضيعة فهو ثقيل يكبره بأن يضع ضيعته من الخفيف الذي لا ضيعة له . قال : نشاط وغير نشاط ، وقال عطية العوفي : ركباناً ومشاة ، وقال مرة الهمذاني : أصحّاء ومرضى ، وقال يمان بن رباب : عزّاباً ومتأهلين .
وقيل : خفافاً مسرعين غير خارجين ساعة اتباع النفير . قال : خفّ الرجل خفوفاً إذا مشى مسرعاً ، وثقالاً أي بعد التروية فيه والاستعداد له .
وقيل : خفافاً من السلاح أي مقلّين منه وثقالاً مستكثرين منه ، فالعرب تسمي الأعزل مخفّاً .
وقيل : خفافاً من ماشيتكم وأبنائكم وثقالا متكثّرين بهم ) وَجَاهِدُوا بِأمْوَالِكُمْ وَأنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( علي بن زيد عن أنس : إن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية
التوبة : ( 41 ) انفروا خفافا وثقالا . . . . .
) انفروا خفافاً وثقالاً ( فقال : أي بني جهّزوني جهّزوني . فقال بنوه : يرحمك الله قد غزوت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى مات ، ومع أبي بكر وعمر ذ حتى ماتا ، فنحن نغزو عنك ، فقال : جهزوني ، فغزا البحر فمات في البحر فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلاّ بعد سبعة أيام فدفنوه فيها فلم يتغير .
وقال الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزوة وقد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل له : إنّك عليل ، صاحب ضرّ فقال استنفر له الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكنني الحرب كثّرت السواد وحفظت المتاع .
( ) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ أَن
(5/49)

" صفحة رقم 50 "
يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاََوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( 2
التوبة : ( 42 ) لو كان عرضا . . . . .
ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين ) لَوْ كَانَ ( اسمه مضمر أي لو كان ما يدعوهم إليه ) عَرَضاً قَرِيباً ( غنيمة حاضرة ) وَسَفَراً قَاصِداً ( وموضعاً قريباً .
قال المبرّد : قاصداً أي ذا قصد نحو تامر ولابن ، وقيل : هو طريق مقصود فجعلت صفته على ( فاعلة بمعنى مفعولة ) كقوله ) عيشة راضية ( أي مرضية . ) لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ( يعني المسافة وقال الكسائي : هي الغزاة التي يخرجون إليها ، وقال قطرب : هي السفر البعيد سمّيت شقة لأنّها تشقّ على الانسان ، والقراءة بضم الشين وهي اللغة الغالبة ، وقرأ عبيد ابن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس .
) وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا ( قرأ الأعمش بضم الواو لأن أصل الواو الضمة ، وقرأ الحسن بفتح الواو لأن الفتح أخفّ الحركات ، وقرأ الباقون بالكسر لأن الجزم يحرّك بالكسر ) لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أنفُسَهُمْ ( بالحلف الكاذب ) وَاللهُ يَعْلَمُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( في أيمانهم ( واعتلالهم
التوبة : ( 43 ) عفا الله عنك . . . . .
) عَفَا اللهُ عَنْكَ ( قدّم العفو على القتل .
قال قتادة وعمرو بن ميمون : شيئان فعلهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين وأخذه من الأُسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون .
وقال بعضهم : إنّ الله عز وجل وقّره ورفع محله ( فهو افتتاح ) الكلام بالدعاء له ، كما يقول الرجل لمخاطبه إن كان كريماً عنده : عفا الله عنك ماصنعت في حاجتي ورضي الله عنك إلاّ زرتني ، وقيل : معناه : أدام الله لك العفو .
) لِمَ أذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ( في أعذارهم ) وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ ( فيها
التوبة : ( 44 - 45 ) لا يستأذنك الذين . . . . .
) لا يَسْتَأذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ( إلى قوله تعالى ) وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ ( شكّت ونافقت قلوبهم ) فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ( متحيّرين ،
التوبة : ( 46 ) ولو أرادوا الخروج . . . . .
ولو أرادوا الخروج إلى الغزو ) لأعَدُّوا ( لهيّأوا ) لَهُ
(5/50)

" صفحة رقم 51 "
عُدَّةً ( وهي المتاع والكراع ) وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ ( لم يرد الله ) انْبِعَاثَهُمْ ( ( خروجهم ) ) فَثَبَّطَهُمْ ( فمنعهم وحبسهم ) وَقِيلَ اقْعُدُوا ( في بيوتكم ) مَعَ القَاعِدِينَ ( يعني المرضى والزمنى ، وقيل : النساء والصبيان .
التوبة : ( 47 ) لو خرجوا فيكم . . . . .
) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ( الآية ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر الناس بالجهاد لغزوة تبوك ، فلمّا خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو وعسكره على ثنيّة الوداع ، ولم يكن بأقلّ العسكرين ، فلمّا سار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خلف عنه عبد الله بن أُبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب ، فأنزل الله تعالى ( يعزي ) نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) لو خرجوا فيكم يعني المنافقين ) مَا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالا ( فساداً ، وقال الكلبي : شرّاً وقيل : غدراً ومكرا ) وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ ( يعني ولأوضعوا ركابهم بينكم ، يقال : وضعت الناقة تضع وضعاً ووضوعاً إذا أسرعت السير ، وأوضعها أيضاعاً أي جدّ بها فأسرع ، قال الراجز :
يا ليتني فيها جذع
أخبّ فيها وأضعْ
وقال : أقصرْ فإنك طالما
أوضعت في إعجالها
قال محمد بن إسحاق يعني : أسرع الفرار في أوساطكم وأصل الخلال من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين وبين القوم في الصفوف وغيرها ، ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تراصّوا في الصفوف لايخللكم الشيطان كأولاد الحذف ) .
) يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ ( أي يبغون لكم ، يقول : يطلبون لكم ماتفتنون به ، يقولون : لقد جمع ( العدو ) لكم فعل وفعل ، يخبلونكم .
وقال الكلبي : يبغونكم الفتنة يعني الغيب والسر ، وقال الضحاك : يعني الكفر ، يقال فيه : بغيته أبغيه بغاء إذا التمسته بمعنى بغيت له ، ومثله عكمتك إن عكمت لك فيها ، وإذا أرادوا أعنتك عليه قالوا : أبغيتك وأحلبتك وأعمكمتك .
) وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ( قال مجاهد وابن زيد بينكم عيون لهم عليكم ( يوصلون ) مايسمعون منكم ، وقال قتادة وابن يسار : وفيكم من يسمع كلامهم ويطبعهم ) وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
التوبة : ( 48 ) لقد ابتغوا الفتنة . . . . .
) لَقَدْ ابْتَغَوِا الفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ( أي عملوا بها لصد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر بتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم ، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه ) وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ ( أجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي بالتخذيل عنك وتشتّت أصحابك
(5/51)

" صفحة رقم 52 "
) حَتَّى جَاءَ الحَقُّ ( أي النصر والظفر ) وَظَهَرَ أمْرُ اللهِ ( دين الله ) وَهُمْ كَارِهُونَ (
التوبة : ( 49 ) ومنهم من يقول . . . . .
) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ( الآية .
نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا تجهّز لغزوة تبوك ، قال له : يا أبا وهب ، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم وصفاء ، قيل : وإنما أمر بذلك لأن الحبش غلبت على ناحية الروم فولدت لهم بنات قد أنجبت من بياض الروم وسواد الحبشة فكنّ صفر اللعس ، فلمّا قال له ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال جد : يارسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فلا تفتنّي بهن وائذنْ لي في القعود وأُعينك بمالي ، فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : قد أذنت لك ، فأنزل الله ( ومنهم ) يعني ومن المنافقين ( من يقول أئذن لي ) في التخلف ( ولا تفتنّي ) ببنات الأصفر ، قال قتادة : ولا تأتمنّي ) ألا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا ( ألا في الإثم والشرك وقعوا بخيانتهم وخلافهم أمر الله ورسوله ) وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ ( مطيقة بهم وجامعتهم فيها ، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لبني سلمة وكان منهم : من سيّدكم ؟ قالوا : جدّ بن قيس غير أنه نحيل جبان ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأي داء أدوى من البخل ، بل سيّدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور ، فقال فيه حسّان :
وقال رسول الله والقول لاحق
بمن قال منّا من تعدّون سيّدا
فقلنا له جدّ بن قيس على الذي
نبخّله فينا وإن كان أنكدا
فقال وأي الداء أدوى من الذي
رميتم به جدا وعالى بها يدا
وسوّد بشر بن البراء لجوده
وحق لبشر ذي الندى أن يُسوّدا
إذا ما أتاه الوفد أنهب ماله
وقال خذوه إنه عائد غدا
( ) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ
(5/52)

" صفحة رقم 53 "
كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ( 2
التوبة : ( 50 ) إن تصبك حسنة . . . . .
) إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ( نصر وغنيمة ) تَسُؤْهُمْ ( ( يعني ) بهم المنافقين ) وَإنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أخَذْنَا أمْرَنَا ( عُذرنا وأخذنا الجزم في القعود وترك الغزو ) مِنْ قَبْلُ ( من قبل هذه المصيبة .
التوبة : ( 51 ) قل لن يصيبنا . . . . .
) قُلْ ( لهم يا محمد ) لَنْ يُصِيبَنَا ( وفي مصحف عبد الله : قل هل يصيبنا ، وبه قرأ طلحة ابن مصرف ) إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ( في اللوح المحفوظ ، ثم قضاه علينا ) هُوَ مَوْلانَا ( وليّنا وناصرنا وحافظنا ، وقال الكلبي : هو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة ) وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ }
التوبة : ( 52 ) قل هل تربصون . . . . .
) قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ ( تنتظرون ) بِنَا ( أيها المنافقون ) إلاَّ إحْدَى الحُسْنَيَيْنِ ( أما النصر والفتح مع الأجر الكبير ، وأمّا القتل والشهادة وفيه الفوز الكبير .
أخبرنا أبو القاسم الحبيبي قال : حدّثنا جعفر بن محمد العدل ، حدّثنا أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم العبدي ، حدّثنا أبو بكر أُمية بن بسطام ، أخبرنا يزيد بن بزيع عن بكر بن القاسم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يضمن الله لمن خرج في سبيله ألاّ يخرج إيماناً بالله وتصديقاً برسوله أن ( يرزقه ) الشهادة ، أو يردّه إلى أهله مغفوراً له مع ما نال من أجر وغنيمة .
) وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ( إحدى الحسنيين ) أنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَاب مِنْ عِنْدِهِ ( فيهلكهم الله كما أهلك الامم الخالية . قال ابن عباس : يعني الصواعق ، قال ابن جريج يعني الموت ( والعقوبة ) بالقتل بأيدينا كما أصاب الامم الخالية من قبلنا ) فَتَرَبَّصُوا ( هلاكنا ) إنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ( وقال الحسن : فتربصوا مواعيد الشيطان إنّا معكم متربّصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه ، وكان الشيطان يمنّي لهم بموت النبي ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
التوبة : ( 53 ) قل أنفقوا طوعا . . . . .
) قُلْ أنفِقُوا طَوْعاً أوْ كَرْهاً ( نزلت في منجد بن قيس حين أستاذن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في القعود عن الغزوة ، وقال : هذا مالي اُعينك به ، وظاهر الآية أمر معناه خبر وجزاء تقديره : إن أنفقتم طوعاً أو كرهاً فليس بمقبول منكم كقول الله عز وجل : ) واستغفر لهم ( الآية . قال الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملامة
لدينا ولا مقلية إن تفلت
(5/53)

" صفحة رقم 54 "
) إنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ( منافقين
التوبة : ( 54 ) وما منعهم أن . . . . .
) وَمَا مَنَعَهُمْ أنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ ( قرأ نافع وعاصم ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي : ( أن يقبل ) بالياء لنعتهم الفعل ، الباقون بالتاء ) نَفَقَاتُهُمْ ( صدقاتهم ) إلاَّ أ نَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ( الاولى في موضع نصب ، و ( أن ) الثانية في محل رفع تقديره : ومامنعهم قبول نفقاتهم إلاّ كفرهم ) وَلا يَأ تُونَ الصَّلاةَ إلاَّ وَهُمْ كُسَالَى ( مستاؤون لأنهم لا يرجون بأدائها ثواباً ، ولايخافون بتركها عقاباً ) وَلا يُنفِقُونَ إلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( لأنهم يتخذونها مغرماً ومنعها مغنماً .
التوبة : ( 55 ) فلا تعجبك أموالهم . . . . .
) فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ ( لأن العبد إذا كان من الله تعالى في استدراج ( . . . . . . . . . . ) ) إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ( قال مجاهد وقتادة والسدّي : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة .
وقال الحسن : إنما يريد الله أن يعذبهم في الحياة الدنيا بالزكاة والنفقة في سبيل الله ، وقال ابن زيد : بالمصائب فيها ، وقيل التعب في جمعه ، والوجل في حفظه وحبه . ) وَتَزْهَقَ أنفُسُهُمْ ( أي تخرج وتذهب أنفسهم على الكفر : يقال : زهقت الخيول أي خرجت عن الحلبة ، وزهق السهم إذا خرج عن الهدف ، وزهق الباطل أي اضمحل ، قال المبرّد : وفيه لغتان : زَهَق يزهِق وزهيق يزهق .
التوبة : ( 56 ) ويحلفون بالله إنهم . . . . .
) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ( على دينكم ) وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( يخافون
التوبة : ( 57 ) لو يجدون ملجأ . . . . .
) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً ( يعني حرزاً وحصناً ومعقلاً ، وقال عطاء مهرباً ، وقال ابن كيسان : قوماً يأمنون فيهم ) أوْ مَغَارَات ( غيراناً في الجبال ، وقال عطاء : سرادب ، وقال الاخفش : كلّ ما غرتَ فيه فغبت فهو مغارة ، وهي مفعلة من غار الرجل في الشيء يغور فيه إذا دخل ، ومنه غار الماء وغارت العين إذا دخلت في الحدقة ، ومنه غور تهامة ، والغور : ما انخفض من الأرض ، وقرأ عبد الرحمن بن عوف مُغارات بضم الميم جعله مفعلاً من أغار يُغير إذا أسرع ومعناه موضع فرارا ، قال الشاعر :
فعدّ طلابها وتعدّ عنها
بحرف قد تغير إذ تبوع
) أوْ مُدَّخَلا ( موضع دخول ، وهو مفتعل من تدخّل يتدخّل متدخّل ، وقال مجاهد : مدّخلا : محرزاً . قتادة : سرداباً ، وقال الكلبي وابن زيد : نفقاً كنفق اليربوع ، وقال الضحاك : مأوىً يأوون إليه ، وقال الحسن : وجهاً يدخلونه على خلاف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ابن كيسان : دخلا من مدخلا لاينالهم منكم مايخافون ( منه ) وقرأ الحسن : أو مدخلاً ، مفتوحة الميم خفيفة
(5/54)

" صفحة رقم 55 "
الدال من دخل يدخل ، وقرأ مسلمة بن محارب مُدخلاً بضم الميم وتخفيف الدال من دخل يدخل ، وقرأه أُبيّ مندخلا ، منفعل من اندخل . كما قال :
فلا يدي في حميت السكن تندخل
وقرأ الأعرج بتشديد الدال والخاء ( . . . . . . . . . . . . ) جعله متّفعلا ثم أدغم التاء في الدال كالمزمّل والمدّثر ) لَوَلَّوْا إلَيْهِ ( لأدبروا إليه هرباً منكم ، وفي حرف أُبي : لولّوا وجوههم إليه ، وقرأ الأعمش والعقيلي : لوالوا إليه بالألف من الموالاة أي تابعوا وسارعوا .
وروى معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده وكانت له صحبة لولوا إليه بتخفيف اللام لأنها من التولية يقال : ولي إليه بنفسه إذا انصرف ولولوّا إليه من المولي ) وَهُمْ يَجْمَحُونَ ( يسرعون في الفرار ( لا يردهم شيء ) . قال الشاعر أبان بن ثعلب :
سبوحاً جموحاً وإحضارها
كمعمعة السعف الموقد
وقيل : إن الجماح مشي بين مشيين وهو مثل ( الصماح ) . قال مهلهل :
لقد جمحت جماحاً في دمائهمُ
حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا
وقرأ الأعمش : وهم يجمزون أي يسرعون ويشدّون
التوبة : ( 58 ) ومنهم من يلمزك . . . . .
) وَمِنْهُمْ ( يعني من المنافقين ) مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ( .
الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري ، قال : بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقسم قسماً قال ابن عباس كانت غنائم هوازن يوم حنين جاء ابن ذي الخريصر التميمي وهو حرقوص بن زهير اصل الخوارج فقال : اعدل يارسول الله ، فقال : ويلك ومن يعدل أن لم أعدل .
فقال عمر : يارسول الله ائذن لي فأضرب عنقه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعه فأن له أصحاباً يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر فلا يوجد فيه شيء ، وقد سبق الفرث والدم ، أشبههم برجل أسود في إحدى يديه ، أو قال : أحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ، يخرجون على فترة من الناس ، وفي غير هذا الحديث : وإذا خرجوا
(5/55)

" صفحة رقم 56 "
فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا اخرجوا فاقتلوهم . فنزل ، ) ومنهم من يلمزك في الصدقات ( أي يعيبك في أمرها ، ويطعن عليك فيها يقال : همزة لمزة . قال الشاعر :
إذا لقيتُك عن شحط تكاشرني
وإنْ تغيبتُ كنتَ الهامز اللمزة
وقال مجاهد : يهمزك : يطعنك ، وقال عطاء : يغتابك ، وقال الحسن والأعرج وأبو رجاء وسلام ويعقوب : يلمزُك بضم الميم ، وروى عوف بن كثير يلمِزك بكسر الميم خفيفة ) فَإنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( وقرأ ( إياد بن لقيط ) : ساخطون . قال ابن زيد : هؤلاء المنافقون قالوا : والله لا يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثر بها إلاّ هواه .
التوبة : ( 59 ) ولو أنهم رضوا . . . . .
) وَلَوْ أ نَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ ( إلى قوله ) راغبون ( في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس ، وقال ابن عباس : راغبون إليه فيما يعطينا من الثواب ، ويصرف عنا من العقاب .
2 ( ) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذاَلِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 2
(5/56)

" صفحة رقم 57 "
التوبة : ( 60 ) إنما الصدقات للفقراء . . . . .
ثم بين ( لمن ) الصدقات فقال عز من قال ) إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ ( لا للمنافقين ، واختلف العلماء في صفة الفقر والمسكين .
وقال ابن عباس والحسن وجابر بن زيد والزهري ومجاهد وابن زيد : الفقير : المتعفف عن المسألة ، والمسكين : المحتاج السائل ، وقال قتادة : الفقير : المؤمن المحتاج ( الذي به زمانة ) والمسكين : ( الذي لا زمانة به ) ، وقال الضحاك وإبراهيم النخعي : الفقراء فقراء المهاجرين ، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين المحتاجين ، وروى ابن سلمة عن ابن علية عن ابن سيرين عن عمر بن الخطاب ح قال : ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الفقير الأخلق الكسب قال ابن علية : الأخلق المحارف عندنا ، وقال عكرمة : الفقراء فقراء المسلمين ، والمساكين من أهل الكتاب .
وقال أبو بكر العبسي : رأى عمر بن الخطاب ذميماً مكفوفاً مطروحاً على باب المدينة فقال له عمر : مالك ؟ قال : استكروني في هذه الجزيرة حتى إذا كف بصري تركوني فليس لي أحد يعود عليّ بشيء ، فقال : ما أُنصفت إذاً ، فأمر له بقوته وما يصلحه ، ثم قال : هذا من الذين قال الله تعالى : ) إنما الصدقات للفقراء ( وهم زمنى أهل الكتاب ، وقال ابن عباس : المساكين : ( الطوافون ) ، والفقراء ، من المسلمين .
أخبرنا عبد الله بن حامد . أخبرنا محمد بن جعفر . حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب . حدّثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام بن منبّه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليس المسكين هذا الطوَّاف الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، إنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يسأل الناس ، ولا يفطن له فيتصدق عليه .
قال الفرّاء : الفقراء أهل الصفة لم يكن لهم عشائر ولا مال ، كانوا يلتمسون الفضل ثم يأوون إلى مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمساكين : الطوّافون على الأبواب ، وقال عبد الله بن الحسن : المسكين الذي يخشع ويستكين وإن لم يسأل ، والفقير الذي يحتمل ويقبل الشيء سراً ولا يخشع وقال ( ابن السكيت والقتيبي ويونس ) الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له ، واحتج بقول الشاعر :
(5/57)

" صفحة رقم 58 "
إنّ الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سبد
فجعل له حلوبة وجعلها وقفاً لعياله أي قوتاً لا فضل فيه ، يدلّ عليه ماروي عن عبد الرحمن بن أبزي قال : كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو فنسبهم الله تعالى إلى أنهم فقراء وجعل لهم سهماً في الزكاة .
وقال محمد بن مسلمة : الفقير الذي له مسكن يسكنه ، والخادم إلى ( . . . . . . ) لأن ذلك المسكين الذي لا ملك له . قالوا : وكل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنياً من غيره ، قال الله تعالى : ) يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ( ، والمسكين المحتاج إلى كل شيء ، ألا ترى كيف حُضّ على إطعامه وجعل الكفّارة من الاطعمة له ، ولا فاقة أعظم من ( . . . . . . ) في شدة الجوعة .
أما قوله : ) أما السفينة فكانت لمساكين ( وإن مسكنتهم هاهنا مساكين على جهه الرحمة والاستعفاف لا بملكهم السفينة كما قيل لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية : مسكين ، وفي الحديث : ( مساكين أهل النار ) وقال الشاعر :
مساكين أهل الحبّ حتى قبورهم
( عليها ) تراب الذل بين المقابر
) وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا ( يعني سقاتها وجباتها الذين يتولّون قبضها من أهلها ووضعها في حقها ويعملون عليها يعطون ذلك بالسعاية ، أغنياء كانوا أو فقراء .
واختفلوا في قدر مايعطون ، فقال الضحّاك : يعطون : الثمن من الصدقة ، وقال مجاهد : يأكل العمال من السهم الثامن ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : يعطون على قدر عمالتهم ، وهو قول الشافعي وأبي يعفور قالا : يعطون بقدر أجور أمثالهم ، وإن كان أكثر من الثمن ، يدلّ عليه قول عبد الرحمن بن زيد قال : لم يكن عمر ولا أُولئك يعطون العامل الثمن إنما يفرضون له بقدر عمله ، وقال مالك وأهل العراق : إنّما ذلك إلى الامام وإجتهاده ، يعطيهم الامام على قدر مايرى .
) وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ( ، قال قتادة : هم ناس من الأعراب وغيرهم كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يألفهم
(5/58)

" صفحة رقم 59 "
بالعطية كيما يؤمنوا ، وقال معقل بن عبد الله : سألت الزهري عن المؤلفة قلوبهم ، قال : من أسلم من يهودي أو نصراني ، قلت : وإنْ كان غنياً ؟ قال : وإنْ كان غنياً ، وقال ابن عباس : هم قوم قد أسلموا ، كانوا يأتون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرضخ لهم من الصدقات ، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيراً قالوا : هذا دين صالح ، فإن كان غير ذلك عابوه وتركوه .
وقال ابن كيسان : هم قوم من أهل الحرب كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتألّفهم بالصدقات ليكفّوا عن حربه ، وقال الكلبي ويحيى بن أبي كثير وغيرهم : ذوو الشرف من الأحياء ، كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعطيهم في الإسلام يتألّفهم وهم الذين قسم بينهم يوم حنين الإبل ، وهم : من بني مخزوم الحرث ابن هشام ، وعبد الرحمن بن يربوع ، ومن بني أمية أبو سفيان بن حرب ومنهم من بني جمح صفوان بن أمية ، ومن بني عامر بن لؤي سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومن بني أسد بن عبد العزى حكيم بن خزام ، ومن بني هاشم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ، ومن بني فزارة عيينة بن حصين ، وحذيفة بن بدر ، ومن بني تميم الاقرع بن حابس ، ومن بني النضر مالك بن عوف بن مالك ومن بني سليم العباس بن مرادس ، ومن بني ثقيف العلاء بن خارجة ، أعطى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كل رجل منهم مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى ، قال وفي رواية أخرى : مخرمة بن نوفل ، وعمير بن وهيب وهشام بن عمرو .
وزاد الكلبي : أبا البعائل بن يعكل وجد بن قيس السهمي وعمرو بن مرداس وهشام بن عمرو . قال : أعطى كل واحد منهم خمسين ناقة ، فقال العباس بن مرادس في ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم )
فأصبح نهبي ونهب العبيد
بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولاحابس
يفوقان مرداس في المجمع
وقد كنت في الحرب ذا ( قوّة )
فلم أعط شيئاً ولم أمنع
الا أفائل أعطيتها
عديد قوائمه الأربع
وكانت نهاباً تلافيتها
بكري على المهر في الأجرع
وايقاظي القوم أن يرقدوا
إذا هجع الناس لم أهجع
وما كنت دون أمرئ منهما
ومن تضع اليوم لا يرفع
فأعطاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مائة ناقة ، وأعطى حكيم بن حزام سبعين ناقة فقال : يارسول الله ما كنت أدري أن أحداً أحق بعطائك مني فزاده عشرة أبكار ، ثم زاده عشرة أبكار حتى أتمها له مائة ، فقال حكيم : يارسول الله أعطيتُك التي رغبت عنها خيرٌ أم هذه التي زادت ؟ قال : لا ، بل هذه
(5/59)

" صفحة رقم 60 "
التي رغبت فيها . فقال : لا آخذ غيرها ، فأخذ السبعين ، فمات حكيم وهو أكثر قريش مالاً .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعطي رجلاً وأترك الآخر ، والذي أترك أحب إلي من الذي أعطي ، ولكني أتألف هذا بالعطية ، وأُوكل المؤمن إلى إيمانه ) .
وقال صفوان بن أُمية : لقد أعطاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما أعطاني وإنه لأبغض الناس اليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي .
ثم اختلفوا في وجود المؤلّفة اليوم وهل يُعطون من الصدقة وغيرها أم لا ؟ ، فقال الحسن : أما المؤلفة قلوبهم فليس اليوم ، وقال الشعبي : إنه لم يبقَ في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم ، إنما كانوا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا ولي أبو بكر انقطعت الرشى ، وهذا تأويل أهل القرآن ، يدل عليه حديث عمر بن الخطاب حين جاءه عيينة بن حصين ، فقال ) الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ( إن الإسلام أجلّ من أن يرشى عليه ، أي ليس اليوم مؤلّفة .
وروى أبو عوانة عن مهاجر أبي الحسن ، قال : أتيت أبا وائل وأبا بردة بالزكاة وهما على بيت المال فأخذاها ، ثم جئت مرة أُخرى فوجدت أبا وائل وحده فقال ردّها فضعها في مواضعها ، قلت : فما أصنع بنصيب المؤلفة قلوبهم ؟ فقال ردّه على الآخرين .
وقال أبو جعفر محمد بن علي : ( في الناس ) اليوم المؤلفة قلوبهم ثابتة ، وهو قول أبي ثور قال : لهم سهم يعطيهم الامام قدر مايرى .
وقال الشافعي : المؤلّفة قلوبهم ضربان : ضرب مشركون فلا يعطون ، وضرب مسلمون ( إذا اعطاهم الإمام كفّوا شرهم عن المسلمين ) ، فأرى أن يعطيهم من سهم النبي وهو خمس الخمس ما يتألّفون به سوى سهمهم مع المسلمين ، يدلّ عليه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعطى المؤلّفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وأعزّ أهله ، وأمّا سهمهم من الزكاة فأرى أن يصرف في تقوية الدين وفي سدّ خلة الإسلام ولايعطى مشرك تألّف على الإسلام ، ألا إنّ الله تعالى يغني دينه عن ذلك ، والله أعلم .
) وَفِي الرِّقَابِ ( مختصر أي في فك الرقاب من الرق ، واختلفوا فيهم ، فقال أكثر الفقهاء : هم المكاتبون ، وهو قول الشافعي والليث بن سعد ، ويروى أنّ مكاتباً قام إلى أبي موسى الاشعري وهو يخطب الناس يوم الجمعة فقال له : أيها الأمير حثّ الناس عليّ ، فحث أبو موسى ، فألقى الناس ملاءة وعمامة وخاتماً حتى ألقوا عليه سواداً كثيراً ، فلمّا رأى أبو موسى ما ألقى الناس ، قال أبو موسى : أجمعوه فجُمع ، ثم أمر به فبيع فأعطى المكاتب مكاتبته ، ثم أعطى الفضل في الرقاب ولم يردّه على الناس ، وقال إنما أعطى الناس في الرقاب .
وقال الحسن وابن عباس : يعتق منه الرقاب وهو
(5/60)

" صفحة رقم 61 "
مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ، وقال سعيد بن جبير والنخعي ، لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في ميقات رقبة مكاتب ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد .
قال الزهري : سهم الرقاب نصفان : نصف لكلّ مكاتب ممن يدّعي الإسلام ، والنصف الثاني لمن يشتري به رقاب ممن صلّى وصام وقدّم إسلامه من ذكر وأنثى يعتقون لله .
) وَالغَارِمِينَ ( قتادة : هم قوم غرقتهم الديون في غير إملاق ولا تبذير ولا فساد .
وقال مجاهد : من احترق بيته وذهب السيل بماله ، وأدان على عياله ، وقال أبو جعفر الباقر : الغارمون صنفان : صنف استدانوا في مصلحتهم أو معروف أو غير معصية ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد فيعطون في غرمهم ، وصنف استدانوا في جمالات وصلاح ذات بين ومعروف ولهم عروض إن بيعت أضرّ بهم فيعطى هؤلاء قدر عروضهم .
وذلك إذا كان دينهم في غير فسق ولا تبذير ولا معصية ، وأما من ادان في معصية الله فلا أرى أن يعطى ، وأصل الغرم الخسران والنقصان ، ومنه الحديث في الرحمن له غنمه وعليه غرمه ، ومن ذلك قيل للعذاب غرام ، قال الله تعالى ) إن عذابها كان غراماً ( وفلان مغرم بالنساء أي مهلك بهنّ ، وما أشدّ غرامه وإغرامه بالنساء .
) وَفِي سَبِيلِ اللهِ ( فيهم الغزاة والمرابطون والمحتاجون .
فأما إذا كانوا أغنياء فاختلفوا فيه ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لايعطى الغازي إلا أن يكون منقطعاً مفلساً ، وقال مالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور : يعطى الغازي منها وإن كان غنياً ، يدلّ عليه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : رجل عمل عليها أو رجل اشتراها بماله ، أو في سبيل الله أو ابن السبيل ، أو رجل كان له جار تصدّق عليه فأهداها له ) .
) وَابْنِ السَّبِيلِ ( المسافر المجتاز ، سمّي ابن السبيل للزومه إيّاه ، كقول الشاعر :
أيا ابن الحرب رجّعني وليداً
إلى أن شبتُ فاكتملتْ لداتي
قال مجاهد والزهري : لابن السبيل حق من الزكاة وإن كان غنياً إذا كان منتفعاً به ،
(5/61)

" صفحة رقم 62 "
وقال مالك وفقهاء العراق : هو الحاج المنقطع ، وقال الشافعي : ابن السبيل من ( جيران ) الصدقة الذين يريدون السفر في غير معصية فيعجزون من بلوغ سفرهم إلا بمعونة ، وقال قتادة : هو الضيف .
) فَرِيضَةً ( واجبة ) مِنَ اللهِ ( وهو نصب على القطع في قول الكسائي ، وعلى المصدر في قول سيبويه أي : فرض الله هذه الأشياء فريضة ، وقال إبراهيم بن أبي عبلة : رفع فريضة فجعلها خبراً كما تقول : إنّما يزيد خارج ) وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( .
واختلف العلماء في كيفية قسم الصدقات المذكورة في هذه الآية ، ( وهل ) يجب لكل صنف من هؤلاء الأصناف الثمنية فيها حق ، أو ذلك إلى رب المال ومن يتولى قسمها في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الاصناف الثمنية ، فقال بعضهم : له قسمها ووضعها في أي الأصناف يشاء وإنما سمّى الله تعالى الاصناف الثمنيه في الآية إعلاماً منه إن الصدقة لاتخرج من هذه الأصناف إلى غيرها لا إيجاد القسمة بينهم ، وهو قول عمر بن الخطاب وحذيفة وابن عباس وابن ( جبير ) وعطاء وأبي العالية وميمون بن مهران وأبي حنيفة .
أخبرنا عبد الله بن حامد . أخبرنا أبو بكر الطبري . حدّثنا علي بن حرب ، أخبرنا ابن فضيل ، حدّثنا عطاء عن سعيد ) إنما الصدقات للفقراء ( الآية ، أيُّ هذه الأصناف وجدتَ أجزاك أن تعطيه صدقتك ، ويقول أبو حنيفة : يجوز الاقتصار على رجل واحد من الفقراء ، وقال مالك يخصّ بأمسّهم حاجةً .
كان الشافعي يجري الآية على ظاهرها ويقول : إذا تولّى رب المال قسمتها فإن عليه وضعه في ثلاثة أصناف لأن سهم المؤلّفة ساقط ، وسهم العاملين يبطل بقسمته إياها ، فإذا تولّى الإمام قسمتها فإن عليه أن يقسمها على سبعة أصناف ، يجزيه أن يعطي من كل صنف منهم أقل من ثلاثة أنفس ولايصرف السهم ولا شيئاً منه عن أهله أحد يستحقه ، ولا يخرج من بلد وفيه أحد يردّ حقه ممّن لم يوجد من أهل السهام على من وجد منهم ، وهذا قول عمر بن عبد العزيز ، وعكرمة والزهري .
التوبة : ( 61 ) ومنهم الذين يؤذون . . . . .
ثمّ رجع إلى ذكر المنافقين وقال : ) وَمِنْهُمُ ( يعني من المنافقين ) الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ( نزلت في حزام بن خالد ، والجلاس بن سويد ، وإياس بن قيس ، ومخشي بن خويلد ، وسمّاك بن يزيد ، وعبيد بن هلال ورفاعة بن المقداد ، وعبيدة بن مالك ، ورفاعة بن زيد ، كانوا يؤذون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون مالا ينبغي ، فقال بعضهم : لا تفعلوا مايقولون فيقع بنا ، فقال الجلاس : بل نقول ماشئنا ، ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول : فإنّما محمد أذن سامعة فأنزل الله هذه الآية .
(5/62)

" صفحة رقم 63 "
وقال محمد بن إسحاق عن يسار وغيرة نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نهشل بن الحرث ، وكان حاسر الرأس أحمر العينين أسفح الخدين مشوّه الخلقة ، وهو الذي قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نهشل بن الحرث ) ، وكان ينمّ حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل ، فقال : إنما محمد أذن ، من حدّثه شيئاً يقبل ، نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له ويصدقنا عليه ، فأنزل : ) الذين يؤذون النبي ويقولون هو اذن ( يسمع من كل واحد ويقبل ما يقال له ومثله أذنة على وزن فعلة ويستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، وأصله : أذن يأذن أذناً إذا استمع ، ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما اذن الله لشيء كأذنه لنبي بمعنى القرآن ، وقال عدي بن زيد :
أيها القلب تعلل بددن
إن همي في سماع وأَذَن
وقال الأعشى :
صمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكرتُ به
وإن ذُكرتُ بشرَ عندهم أذنوا
وكان أُستاذنا أبو القاسم الجبيبي يحكي عن أبي زكريا العنبري عن ابن العباس الازهري عن أبي حاتم السجستاني أنّه قال : هو أذن أي ذو أذن سامعة .
) قُلْ أُذُنُ خَيْر لَكُمْ ( قراءة العامة بالإضافة أي أذن خير لا أذن شرّ ، وقرأ الحسن والأشهب العقيلي : والأعمش والبرجمي : أذن خير لكم مرفوعاً من المنافقين ومعناه : إنْ كان محمداً كما تزعمون بأن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم .
ثم كذّبهم فقال ) يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ( يعلمهم ، وقيل : يقال أمنتك وأمنت لك بمعنى صدقتك كقوله : ) الذين هم بآيات ربهم يؤمنون ( أي ( . . . . . . . . . . . . ) ربهم ) وَرَحْمَةٌ ( قرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة : ( ورحمة ) عطفاً على معنى أُذن خير وأُذن شر في قول عبد الله وأُبي ، وقرأ الباقون : ( ورحمة ) بالرفع أي : هو أُذن خير ، وهو رحمة ، جعل الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم .
) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ }
التوبة : ( 62 ) يحلفون بالله لكم . . . . .
) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ( قال قتادة والسدّي : ( اجتمع نفر ) من المنافقين منهم جلاس بن سويد وذريعة بن ثابت فوقعوا في النبي ( صلى الله عليه وسلم )
(5/63)

" صفحة رقم 64 "
وقالوا : لئن كان مايقول محمد حق لنحن شر من الحمير ، وكان سمعهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس ، فحقروه وقالوا هذه المقالة ، فغضب الغلام وقال : والله إنّ ما يقوله محمد حق وأنتم شر من الحمير ، ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا إن عامراً كذّاب ، وحلف عامر أنهم كذبة ، فصدقهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل عامر يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب ، وقد كان قال بعضهم في ذلك : يا معشر المنافقين والله إني شر خلق الله ، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
وقال مقاتل والكلبي : نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلمّا رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من تبوك أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلّفهم ، ويطلبون ويحلفون ، فأنزل الله ) يحلفون بالله لكم ليرضوكم وَاللهُ وَرَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ ( وقد كان حقه يرضوهما وقد مضت هذه المسألة ، قال الشاعر :
ما كان حبك والشقاء لتنتهي
حتى يجازونك في مغار محصد
أي الحبل .
التوبة : ( 63 - 64 ) ألم يعلموا أنه . . . . .
) ألَمْ يَعْلَمُوا ( وقراءة العامة بالياء على الخبر ، وقرأ السلمي بالتاء على الخطاب ) أنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ ( إلى قوله ) يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ( ، قال مجاهد : كانوا يقولون القول بينهم ثم يقولون : عسى الله أن لا يفشي سرّنا فقال الله لنبيّه متهدداً ) قُلْ اسْتَهْزِؤُوا إنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ( قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة الفاضحة والمثيرة والمبعثرة ، أثارت مخازيهم ومثالبهم . قال الحسن : كان المسلمون يسمّون هذه السورة الحفّارة ، حفرت مافي قلوب المنافقين فأظهرته .
قال ابن كيسان نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا حلأها ، ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبرئيل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ماقدموا له ، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، وعمار بن ياسر يقود برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحذيفة يسوق به .
فقال لحذيفة : اضرب بها وجوه رواحلهم ، فضربها حتى نحاهم ، فلمّا نزل قال لحذيفة : هل عرفت من القوم ؟ قال : لم أعرف منهم أحداً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّهم فلان وفلان حتى عدهم كلّهم ، فقال حذيفة ألا تبعث إليهم فتقتلهم ، قال : ( أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم ، بل يكفيكم الله الدبيلة ) قيل : يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال : ( شهاب من جهنم يوضع على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه فكان كذلك )
(5/64)

" صفحة رقم 65 "
التوبة : ( 65 ) ولئن سألتهم ليقولن . . . . .
) وَلَئِنْ سَأ لْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ( الآية ، قال ابن عمر وقتادة وزيد بن أسلم ومحمد ابن كعب : قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك : ما رأيت مثل ( قرائنا ) هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء ، يعني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، فقال له عوف بن مالك : كذبت ولكنك منافق ، لأُخبرن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذهب عوف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليخبره فوجد القرآن قد سبقه ، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد ارتحل وركب ناقة فقال : يارسول الله إنما كنّا نخوض ونلعب ونتحدث بحديث الركب يقطع به عنا الطريق .
قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلقاً بحقب ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والحجارة تنكبه وهو ويقول : إنا كنّا نخوض ونعلب . فيقول له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ ( فالتفت إليه وما يزيده عليه .
وقال قتادة : بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه ، فقالوا أيظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ، هيهات هيهات ، فأطلع الله نبيّه على ذلك فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) احبسوا عليَّ الركب ، فدعاهم فقال لهم : قلتم كذا وكذا ، فقالوا يانبي الله أنما كنا نخوض ونلعب ، وحلفوا على ذلك ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
وقال مجاهد : قال رجل من المنافقين : يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال ابن كيسان : نزلت في وديعة بن ثابت وهو الذي قال هذه المقالة ، وقال الضحاك : نزلت في عبد الله بن أبي ورهطه كانوا يقولون في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه مالا ينبغي ، فإذا بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك قالوا : إنّما كنا نخوض ونلعب قال الله عز وجل : ) قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون (
التوبة : ( 66 ) لا تعتذروا قد . . . . .
) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ ( بقولكم هذا ) بَعْدَ إيمَانِكُمْ ( إقراركم ) إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَة مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً ( قراءة العامة بضم الياء والتاء على غير تسمية الفاعل ، وقرأ عاصم : إن نعف بنون مفتوحة وفاء مضمومة ، نعذب بالنون وكسر الذال طائفة بالنصب ، والطائفة في هذه الآية رجل يقال له مخشي بن حمير الأشجعي ، أنكر عليهم بعدما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانباً لهم ، فلمّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال : اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أُعنى بها ، تقشعر منها الجلود وتجل وتجب فيها القلوب ، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت ، فأصيب يوم اليمامة فيمن قتل فما أحد من المسلمين الا وجدوه وعرف مصرعه غيره .
(5/65)

" صفحة رقم 66 "
وقيل : معناه إن يتب على طائفة منكم فيعفو الله عنهم ليعذب طائفة بترك التوبة ) بِأ نَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ }
التوبة : ( 67 ) المنافقون والمنافقات بعضهم . . . . .
) المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْض ( أي شكل بعض وعلى دين بعض ، يعني إنهم صنف واحد وعلى أمر واحد ، ثم ذكر أمرهم فقال ) يَأمُرُونَ بِالمُنْكَرِ ( بالكفر والمعصية ) وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ ( عن الإيمان والطاعة ) وَيَقْبِضُونَ أيْدِيَهُمْ ( يمسكونها ويكفّونها عن الصدقة والنفقة في الحق ولايبسطونها بالخير ، وأصله : إنّ المعطي يمد يده ويبسطها بالخير ، فقيل : لمن بخل ومنع قد قبض يده ، ومنه قوله : ) وقالت اليهود يد الله مغلولة ( أي ممسكة عن النفقة .
) نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ( تركوا طاعة الله فتركهم الله من توفيقه وهدايته في الدنيا ومن رحمته المنجية من عذابه وناره في العقبى ) إنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ }
التوبة : ( 68 ) وعد الله المنافقين . . . . .
) وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ ( كافيتهم عذاباً وجزاءً على كفرهم ) وَلَعَنَهُمُ اللهُ ( طردهم وأبعدهم من رحمته ولهم عذاب مقيم
التوبة : ( 69 ) كالذين من قبلكم . . . . .
) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ( يعني فعلتم كفعل الذين كانوا من قبلكم ولُعنتم وعُذّبتم كما لعن الذين كانوا من قبلكم من كفار الأُمم الخالية ) كَانُوا أشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ( بطشاً ومنعة ) وَأكْثَرَ أمْوَالا وَأوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا ( وتمتعوا وانتفعوا ) بِخَلاقِهِمْ ( بنصيبهم من الدنيا ورضوا به عوضاً من الآخرة .
قال أبو هريرة : الخلاق : الدين ) فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ ( في الباطل والكذب على الله وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين ) كَالَّذِي خَاضُوا ( أراد كالذين خاضوا وذلك أن ( الذي ) اسم ناقص مثل ( ما ) و ( من ) يعبّر بها عن الواحد والجميع نظير قوله : ) مثله كمثل الذي استوقد ( ثم قال : ) ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات ( قال الشاعر :
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
وأن شئت جعلت ( الذي ) إشارة إلى ضمير ، وقوله : خضتم كالخوض الذي خاضوا فيه إلى قوله الخاسرون .
روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لتأخذن كما أخذت الامم من قبلكم ذراعاً بذراع وشبراً بشبر وباعاً بباع ، حتى لو أن أحد من ثمّ أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه ، قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم ) كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة ( الآية ، قالوا : يارسول الله كما صنعت
(5/66)

" صفحة رقم 67 "
فارس والروم وأهل الكتاب ، قال : ( وهل الناس إلا هم ) .
قال ابن عباس في هذه الآية : ما اشبه الليلة بالبارحة ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم ، وقال ابن مسعود : أنتم أشبه الأُمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً ، تتبعون عملهم حذو القذّة بالقذّة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا .
وقال حذيفة : المنافقون الذين فيكم اليوم شرٌّ من المنافقين الذي كانوا على عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قلنا : وكيف ؟ قال : أُولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه .
2 ( ) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذاَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 2
التوبة : ( 70 - 71 ) ألم يأتهم نبأ . . . . .
) ألَمْ يَأتِهِمْ ( يعني المنافقين والكافرين ) نَبَأُ ( خبر ) الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ( حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا كيف أهلكناهم وعذّبناهم ثم ذكرهم . فقال ) قَوْمِ نُوح ( بالمعنى بدلا من الذين أهلكوا بالطوفان ) وَعَاد ( أُهلكوا بالريح ) وَثَمُودَ ( أُهلكوا بالرجفة ) وَقَوْمِ إبْرَاهِيمَ ( بسلب النعمة وهلاك نمرود ) وَأصْحَابِ مَدْيَنَ ( يعني قوم شعيب بعذاب يوم الظلّة ) وَالمُؤْتَفِكَاتِ ( المنقلبات التي جعلت عاليها سافلها ، وهم قوم لوط ) أتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ ( فكذبوهم وعصوهم كما فعلتم يامعشر الكفّار فاحذروا بتعجيل النقمة ) فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ( إلى قوله ) بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْض ( في الدين والملة والعون والنصرة والمحبة والرحمة . قال جرير بن عبد الله سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ) ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف ، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ) ، ) يَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ( بالإيمان والخير ) وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ( مالا يعرف في شريعة ولا سنّة .
قال أبو العالية كلمّا ذكر الله تعالى في كتابة من الأمر بالمعروف فهو رجوع من الشرك إلى
(5/67)

" صفحة رقم 68 "
الإسلام ، والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الاوثان والشيطان ) وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ( المفروضة ) وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ ( إلى قوله
التوبة : ( 72 ) وعد الله المؤمنين . . . . .
) وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ( ومنازل طيبة .
قال الحسن : سألت أبا هريرة وعمران بن حصين عن قول الله ) وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن ( . قالا : على الخبير سقطت ، سألنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : ( قصر في الجنة من لؤلؤ فيه سبعون دار من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً ، على كل سرير سبعون فراشاً ، على كل فراش زوجة من الحور العين ، وفي كل بيت مائدة وعلى كل مائدة سبعون لوناً من الطعام ، وفي كل بيت وصيفة ، ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة مايأتي على ذلك أجمع ) .
) فِي جَنَّاتِ عَدْن ( في بساتين ظلال وإقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام به ، ومنه المعدن ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، لايسكنها غير ثلاثة من النبيّين والصدّيقين والشهداء ، يقول الله : طوبى لمن دخلك ) .
وقال عبد الله بن مسعود : هي بطنان الجنة أي وسطها ، وقال ابن عباس : سألت كعباً عن جنات عدن فقال : هي الكروم والأعناب بالسريانية ، وقال عبد الله بن عمر : إنّ في الجنة قصراً يقال له عدن ، حوله البروج والمروج ، له خمسة آلاف باب ، على كل باب ( حبرة ) لايدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد .
قال الحسن : جنات عدن ، وما أدراك ما جنات عدن ، قصر من ذهب لايدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ، ورفع به صوته . ( في حديث آخر قصر ) في الجنة يقال له : عدن ، حوله البروج والمروج له خمسون ألف باب ، وقال الضحاك : هي مدينة الجنة فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد ، والجنان حولها .
وقال عطاء بن السايب : عدن نهر في الجنة جناته على حافتيه ، وقال مقاتل والكلبي : أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم ، والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من يوم خلقها الله عز وجل حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله ، وفيها قصور الدرةّ والياقوت والذهب ، فتهب الريح الطيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأحلى ، وقال عطاء الخراساني في قوله : ) ومساكن طيبة في جنات عدن ( قال : قصر من الزبرجد والدرّ والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في جنات عدن ، وهي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن .
) وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أكْبَرُ ( رفع على الابتداء ، أي رضا الله عنهم أكبر من ذلك كله
(5/68)

" صفحة رقم 69 "
روى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربّنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم فيقولون : ومالنا لانرضى وقد أعطيتنا مالم تعط أحدا من رضاك ؟ فيقول : ألا أعلمكم أفضل من ذلك ؟ قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً ) .
) ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ (
.
) ياَأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الاَْرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ( 2
التوبة : ( 73 ) يا أيها النبي . . . . .
) يَا أيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ ( بالسيف والقتال ) وَالمُنَافِقِينَ ( .
اختلفوا في صفة جهاد المنافقين ، قال ابن مسعود : بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فاكفهر في وجهه . قال ابن عباس : باللسان وشدة الزجر بتغليظ الكلام ، قال الحسن وقتادة : بإقامة الحدود عليهم ، ثم قال ) وَمَأوَاهُمْ ( في الآخرة ) جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ( قال ( ابن مسعود وابن عباس ) وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو ( والصلح ) والصفح .
التوبة : ( 74 ) يحلفون بالله ما . . . . .
) يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا ( قال ابن عباس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالساً في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر اليكم بعينيّ شيطان ، إذا جاء فلا تكلّموه ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ماقالوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال الضحاك : خرج المنافقون مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تبوك ، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه وطعنوا في الدين ، فنقل ماقالوا حذيفة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال النبي : ( يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم ؟ ) فحلفوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما قالوا بشيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذاباً لهم .
(5/69)

" صفحة رقم 70 "
وقال الكلبي : نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ( لأنّ ) رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسمّاهم رجساً وعابهم ، فقال الجلاس : والله إن كان محمد صادقاً فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس ، فقال : أجل والله إن محمداً لصادق مصدق وأنتم شر من الحمير .
فلما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس ، فقال الجلاّس : كَذِب يا رسول الله عليّ ، ما قلتُ شيئاً من ذلك ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحلفا عند المنبر بعد العصر ، فحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو ما قاله ، وإنه كذب عليّ عامر ، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو لقد قاله وما كذبت عليه ، ثم رفع عامر بيديه إلى السماء فقال : اللهم أنزل على نبيك الصادق منا المصدّق ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون : آمين ، فنزل جبرئيل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ ) فإن يتوبوا يكُ خيراً لهم ( فقام الجلاس ، فقال : يارسول الله أسمع الله قد عرض عليّ التوبة ، صدق عامر بن قيس في ذلك ، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه ، فقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك منه ثم تاب فحسن توبته .
قال قتادة : ذُكر لنا أن رجلين اقتتلا : رجلا من جهينة ، ورجلاً من غفار ، وكانت جهينة حلفاء الأنصار ، وظفر الغفاري على الجهيني ، فنادى عبد الله بن أُبي : أيّها الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلاّ كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك .
ثم قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأرسل ( صلى الله عليه وسلم ) إليه ، فجعل يحلف بالله ما قال ، فأنزل الله عز وجل : يحلفون بالله ما قالوا ) وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلامِهِمْ ( .
قال مجاهد : هم المنافقون بنقل المؤمن الذي يقول لنحن شر من الحمير لكي لا يفشيه عليه .
قال السدي : قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أُبي تاجاً يباهي به ( . . . . . . . . . . . . ) إليه .
وقال الكلبي : هم خمسة عشر رجلاً منهم عبد الله بن أُبي ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أُبيرق والجلاس بن سويد وعامر بن النعمان وأبو الاحوص ، همّوا بقتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك فأخبر جبرائيل بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : إنهم من قريش هموا في قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمنعه الله عز وجل .
جابر عن مجاهد عن ابن عباس ح في هذه الآية قال : هَمَّ رجل من قريش يقال له
(5/70)

" صفحة رقم 71 "
الاسود بقتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَمَا نَقَمُوا ( منه ، ما أنكروا منه ولا ( ينقمون ) ) إلاَّ أنْ أغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ( ( ويقال : إنّ القتيل ) مولى الجلاس قُتل ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بديته اثني عشر ألفا فاستغنى ، وقال الكلبي : كانوا قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ضنك من عيشهم ، لايركبون الخيل ولايحوزون الغنيمة ، فلمّا قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استغنوا بالغنائم ، وهذا مثل مشهور : اتّقِ شر من أحسنت إليه .
ثم قال الله عز وجل ) فَإنْ يَتُوبُوا ( من نفاقهم وكفرهم ) يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإنْ يَتَوَلَّوْا ( يعرضوا عن الإيمان ) يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً ألِيماً فِي الدُّنْيَا ( بالقتل والخزي ) وَالآخِرَةِ ( بالنار ) وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيَ وَلا نَصِير (
.
) وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( 2
التوبة : ( 75 ) ومنهم من عاهد . . . . .
) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ ( الآية .
روى القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أُمامة الباهلي قال : جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يارسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ويحك يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه ) ثم أتاه بعد ذلك . فقال : يارسول الله أدع الله أن يرزقني مالا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ) ولكم في رسول الله أُسوة حسنة ( ، والذي نفسي بيده لو أردت أن تصير الجبال معي ذهباً وفضة لصارت ) ثم أتاه بعد ذلك فقال : يارسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً ، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطينّ كلّ ذي حق حقه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم ارزق ثعلبة مالاً ) .
قال : فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ، فنزل وادياً من أوديتها وهي تنمو كما تنمو الدود ، وكان يصلّي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر ، ويصلّي في غنمه ساير الصلوات ، ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لايشهد إلا الجمعة ، ثم كثرت ونمت فتباعد حتى كان لايشهد جمعة ولا جماعة ، فكان إذا كان يوم الجمعة يمر على الناس يسألهم عن الأخبار ، فذكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسأل ذات يوم فقال : مافعل ثعلبة ؟ قالوا يارسول الله اتخذ ثعلبة غنماً مايسعها واد .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا ويح ثعلبة ، ياويح ثعلبة ، ياويح ثعلبة ) وأنزل الله تعالى آية الصدقة فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً من بني سليم ورجل من جهينة وكتب لهما إتيان الصدقة
(5/71)

" صفحة رقم 72 "
وكيف يأخذان وقال لهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مُرّا بثعلبة بن حاطب ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما ) .
فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وقرءا له كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أُخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ ، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان ابله ، فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلمّا زادها قالا : ما هذا عليك ، قال : خذاه فإن نفسي بذلك طيبة ، فمرّا على الناس وأخذا الصدقات ، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أروني كتابكما فقرأه ثم قال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه الا أُخت الجزية ، إذهبا حتى أرى رأيي ، قال : فأقبلا فلمّا رآهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يتكلّما قال : ( ياويح ثعلبة ، ياويح ثعلبة ، ياويح ثعلبة ) ثم دعا للسلمي بخير فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، فأنزل الله فيه ) ومنهم من عاهد الله لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ( إلى قوله ) وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( وعند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجل من أقارب ثعلبة فسمع قوله فخرج حتى أتاه فقال : ويحك ياثعلبة قد أنزل الله عز وجل فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله أن يقبل منه الصدقة .
فقال : ( إن الله تعالى منعني أن أقبل منك صدقتك ) فجعل يحثي على رأسه التراب ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني ) فلما نهى أن يُقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجع إلى منزله وقُبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يقبض ولم يقبل منه شيئاً ثم أتى أبا بكر ( ح ) حين استخلف فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) موضعي من الأنصار فاقبل صدقتي ، فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أقبلها ؟ فلم يقبل ، وقُبض أبو بكر فلم يقبلها ، فلمّا ولي عمر ( ح ) أتاه فقال : يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي ، فقال : لم يقبلها منك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا أبو بكر ، أنا لا أقبلها ، فقُبض عمر ولم يقبلها ، ثم ولي عثمان فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال : لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر ، أنا لا أقبلها منك ، فلم يقبلها منه وهلك في خلافة عثمان .
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة : أتى ثعلبة مجلساً من الأنصار فأشهدهم فقال : لئن آتاني الله من فضله أتيت منه كل ذي حق حقه ، وتصدّقت منه ، ووصلت القرابة ، فمات ابن عم له فورثه مالاً فلم يوف بما قال ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .
وقال مقاتل : مرّ ثعلبة على الأنصار وهو محتاج ، فقال : لئن آتاني الله من فضله لأصّدقن ولأكوننّ من الصالحين فآتاه الله من فضله وذلك أن مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلاً من المنافقين خطأً فدفع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ديته إلى ثعلبة ، وكان قرابة المقتول فبخل ومنع حق الله فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .
(5/72)

" صفحة رقم 73 "
وقال الحسن ومجاهد : نزلت هذه الآية في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشيو وهما رجلان من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود فقالا : والله لئن رزقنا الله لنصّدقنّ ، فلمّا رزقهما الله تعالى بخلا .
وقال الضحاك : نزلت في رجال من المنافقين ( نبتل ) بن الحرث وجدّ بن قيس وثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير قالوا : لئن آتانا الله من فضله لنصّدقنّ ، فلمّا آتاهم الله من فضله وبسط لهم الدنيا بخلوا به ومنعوا الزكاة .
وقال الكلبي : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، كان له مال بالشام فجهد لذلك جهداً شديداً فحلف بالله : لئن آتانا الله من فضله من رزقه يعني المال الذي بالشام لأصدّقن منه ولأصلنّ ولآتين حق الله منه ، فآتاه الله ذلك المال فلم يفعل ما قال ، فأنزل الله عزّ وجلّ ) ومنهم ( يعني من المنافقين ) من عاهدوا الله لئن آتانا الله من فضله لنصّدقن ( ولنوفّينّ حق الله منه ) ولنكوننّ من الصالحين ( أي نعمل ما يعمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم والنفقة في الخير
التوبة : ( 76 - 77 ) فلما آتاهم من . . . . .
) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأعْقَبَهُمْ ( فأتبعهم ، وقيل فجازاهم ببخلهم . قال النابغة :
فمن أطاعك فانفعه بطاعته
كما أطاعك وادلله على الرشد
) نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ( حرمهم الله التوبة ) بِمَا أخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( قال معبد بن ثابت : إنما هو ( شيء ) ظاهر في أنفسهم ولم يتكلموا به ، ألم تسمع قول الله عزّ وجلّ
التوبة : ( 78 ) ألم يعلموا أن . . . . .
) ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأنَّ اللهَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ( ؟
عن مسروق عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خصم فجر ) .
الأشعث عن الحسن قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاث من كُنَّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وزعم أنه مؤمن . إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، إذا أؤتمن خان ) .
وقال عبد الله بن مسعود اعتبروا المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، أنزل الله تصديق ذلك في كتابه ) ومنهم من عاهد الله ( إلى قوله ) كانوا يكذبون ( ، وهذا خبر صعب الظاهر . فمن لم يعلم تأويله عظم خطؤه وتفسيره .
أخبرني شيخي الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر ، قال : أخبرني أبي عن جدي
(5/73)

" صفحة رقم 74 "
الحسين بن جعفر ، قال : حدّثنا محمد بن يزيد السلمي ، قال : حدّثنا عمار بن قيراط عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال : كنت على قضاء سمرقند فقرأت يوماً حديث المقبري عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاث من كُنّ فيه فهو منافق : إذا حدّث كذب ، وإذا أؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف ) .
فتوزع فيه فكري وانقسم قلبي وخفت على نفسي وعلى جميع الناس وقلت من ينجو من هذه الخصال ؟ ( فأخللت ) بالقضاء وأتيت بخارى وسألت علماءها فلم أجد فرجاً ، فأتيت مرو فلم أجد فرجاً ، فأتيت نيشابور فلم أجد عند علمائها فرجاً ، فبلغني أن شهر بن حوشب بجرجان فأتيته وعرضت عليه قصتي وسألت عن الخبر ، فقال لي : لم ( أكن ) أنا ( حين ) سمعت هذا الخبر كالحبة على المقلاة خوفاً فأدركْ سعيد بن جبير فأنه متولد بالريّ فاطلبه وسله لعلك تجد لي ولك ، وسمعت أن عنده فرجاً ، فأتيت الري وطلبت سعيداً فأتيته وعرضت عليه القصة وسألته عن معنى الخبر .
فقال : أنا كذلك خائف على نفسي منذ بلغني هذا الخبر ، وأنا خائف عليك وعلى نفسي من هذه الخصال : ولقد قاسيت وعانيت سفراً طويلاً وبلاياً فعليك بالحسن البصري فإني أرجو أنك تجد عنده لي ولك وللمسلمين فرجاً ، فأتيت البصرة وطلبت الحسن وقصصت عليه القصة بطولها ، فقال رحم الله شهراً قد بلغها النصف من الخبر ولم يبلغهما النصف ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما قال هذا الخبر شغل قلوب أصحابه ( وهابوا ) أن يسألوه ، فأتوا فاطمة وذكروا لها شغل قلوبهم بالخبر ، فأتت فاطمة خ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته شغل قلوب أصحابه ، فأمر سلمان فنادى الصلاة جامعة ، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فقال : ( يا أيها الناس أما إنّي كنت قلت : ثلاث من كُنّ فيه فهو منافق : إذا حدّث كذب ، وإذا أؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف ، ما عنيتكم بها ، إنّما عنيت بها المنافقين ، إنما قولي : إذا حدّث كذب فإن المنافقين أتوني وقالوا لي : والله إن إيماننا كإيمانك وتصديق قلوبنا كتصديق قلبك ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ) إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ( الآية ، وأما قولي : إذا أؤتمن خان : فإن الأمانة الصلاة والدين كلّه أمانة ، قال الله تعالى : ) إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم فإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً ( وفيهم قال : ) فويل للمصلين الذين هم عن صلوتهم ساهون ( وأما قولي : إذا وعد أخلف ، فإنّ ثعلبة بن حاطب أتاني فقال : إني فقير ولي غنيمات فادع الله أن يبارك فيهن ، فدعوت الله فنمتْ وزادت حتى ضاقت الفجاج بها ، فسألته الصدقات فأبى عليّ وبخل بها ، فأنزل الله عزّ وجلّ ) ومنهم من عاهد الله ( إلى قوله ) بما أخلفوا الله ما وعدوه ( )
(5/74)

" صفحة رقم 75 "
فسُرّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكبّروا وتصدّقوا بمال عظيم .
وروى القاسم بن بشر عن أُسامة عن محمد ( المخرمي ) قال : سمعت الحسن يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : ( من ) إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان )
فقال الحسن : يا أبا سعيد والله لئن كان لرجل عليَّ دين فلقيني فتقاضاني وليس عندي فخفت أن يحبسني ويهلكني فوعدته أن أقضيه رأس الهلال فلم أفعل أمنافق أنا ؟ هكذا جاء الحديث .
ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو أن أباه لما حضره الموت قال : زوّجوا فلاناً فإني وعدته أن أزوجه ، لا ألقى الله بثلث النفاق ، قال : قلت : يا أبا سعيد ويكون ثلث الرجل منافقاً وثلثاه مؤمناً ؟ قال : هكذا جاء الحديث .
قال محمد : فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح فأخبرته بالحديث الذي سمعته من الحسن وما الذي قلت له عن المنافق وما قال لي : فقال لي أعجزت أن تقول له : أخبرني عن إخوة يوسف ألم يَعِدُوا أباهم فأخلفوه و حدثوه فكذبوه وائتمنهم فخانوه أفمنافقين كانوا ألم يكونوا أنبياء ، أبوهم نبيّ وجدّهم نبيّ ؟
فقلت لعطاء : يا أبا مُحَمّد حَدّثَني بأصل هذا الحديث ، فقال : حَدّثَني جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكذبوه وائتمنهم على سرّه فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه ، قال : فخرج أبو سفيان من مكة فأتى جبريل فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا ) فكتب رجل من المنافقين إليه : إن محمداً يريد بعثكم فأنزل الله عزّ وجلّ ) لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ( وأنزل في المنافقين ) ومنهم من عاهد الله لئن أتانا ( إلى قوله تعالى : ) بما كانوا يكذبون ( . قال : إذا أتيت الحسن فاقرأه مني السلام فأخبره أصل هذا الحديث وبما قلت لك .
فقدمت على الحسن وقلت : يا أبا سعيد إن أخاك محمّداً يقرئك السلام ، فأخبرته بالحديث الذي حدث . فأخذ الحسن يدي فأحالها وقال : يا أهل العراق أعجزتم أن تكونوا مثل هذا ، سمع منا حديثاً فلم يقبله حتى استنبط أصله ، صدق عطاء هكذا الحديث في المنافقين خاصة .
(5/75)

" صفحة رقم 76 "
2 ( ) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذاَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِىَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ لَاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذاَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاَْعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 2
التوبة : ( 79 ) الذين يلمزون المطوعين . . . . .
) الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ( قال أهل التفسير : حثَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف فجئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله ، فأمسكت أربعة آلاف لعيالي . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت ) .
فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى مات وعنده امرأتين يوم مات فبلغ ثمن مالهما مائة وستون ألف درهم لكل واحدة منهما ثمانون ألفاً ، وتصدّق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وستين وسقاً من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحباب بصاع من تمر وقال : يا رسول الله بتُ ليلتي أجرّ بالجرير أحبلا حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينثره في الصدقات ، فلمزهم المنافقون ، وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاّ رياء ، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبي عقيل ، ولكنه أحبَّ أن يزكي نفسه ليعطي الصدقة فأنزل الله عزّ وجلّ : ) الذين يلمزون ( أي يعيبون ويغتابون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات .
(5/76)

" صفحة رقم 77 "
وقال النضر بن شميل : هو الطيب نفسه في الصدقة يعني عبد الرحمن وعاصم .
) والذين لا يجدون إلاّ جهدهم ( طاقتهم يعني أبا عقيل . قرأ عطاء والأعرج : جهدهم بفتح الجيم ، وهما لغتان مثل الجهد والجهيد ، والضم لغة أهل الحجاز ، والفتح لغة أهل نجد .
وكان الشعبي يفرق بينهما فيقول الجُهد : في العمل والجَهد في القوة ، وقال القتيبي في الجُهد : الطاقة والجَهد المشقة ) فيسخرون منهم سخر الله منهم ( أو جازاهم ) ولهم عذاب أليم ( .
روى ابن عليّة عن الحريري عن أبي العليل قال : وقف على الحجر رجل فقال : حدثني أبي أو عمّي قال : شهدت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقول : ( من يصّدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة ) . قال : وعليَّ عمامة لي فنزعت منها لوثاً أو لوثين لأتصدق بها ثم أدركني بما يدرك ابن آدم فعصّبت بها رأسي ، قال : فجاء رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصر قامة ولا أشدّ سواد ولا أَدم منه يقود ناقة لم أرَ بالبقيع ناقة أحسن ولا أجمل منها . فقال : هي وما في بطنها صدقة يا رسول الله ، فألقى إليه بخطامها قال : فلمزه رجل جالس فقال : والله لِمَ يتصدق بها ولهي خير منه . فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( بل هو خير منك ومنها ) ، يقول ذلك ملياً فأنزل الله عزّوجل هذه الآية ثم قال
التوبة : ( 80 ) استغفر لهم أو . . . . .
) استغفر لهم ( يعني لهؤلاء المنافقين ) أولا تستغفر لهم ( لفظه ( أمر ومعناه ) جزاء تقديره : إن أستغفرت لهم أو لم تستغفر لهم ) لن يغفر الله لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ( والسبعون عند العرب غاية تستقصا بالسبعة ، والأعضاء ، والسبعة تتمة عدد الخلق ، كالسموات والأرض والبحار والأقاليم .
ورأيت في بعض التفاسير : إن تستغفر لهم سبعين مرّة بأزاء صلواتك على ( قبر ) حمزة لن يغفر الله لهم .
قال الضحاك : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنِّ الله قد رخّص لي فسأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم ) .
(5/77)

" صفحة رقم 78 "
فأنزل الله عزّ وجلّ : ) سواءً عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ( .
وذكر عروة بن الزبير أن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن أُبي حين قال لأصحابه : لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضّوا من حوله ، ثمّ قال : ) لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ( . فأنزل الله تعالى ) استغفر لهم ( . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لأزيدن على السبعين ) فأنزل الله : ) سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ( فأبى الله أن يغفر لهم ) ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين (
التوبة : ( 81 ) فرح المخلفون بمقعدهم . . . . .
) فرح المخلفون ( عن غزوة تبوك ) بمقعدهم ( بقعودهم ) خلاف رسول الله ( قال قطرب والمؤرخ : يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا ، وقال أبو عبيدة : يعني بعد رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وأنشد الحرث بن خالد :
عقب الربيع خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصيرا
أي بعدهم ، ويدل على هذا التأويل قراءة عمرو بن ميمون : خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وقالوا لا تنفروا في الحر ( وكانت غزوة تبوك في شدة الحر ) قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ( يعلمون ذلك ، هُو في مصحف عبد الله
التوبة : ( 82 ) فليضحكوا قليلا وليبكوا . . . . .
) فليضحكوا قليلا ( في الدنيا ) وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون ( قال أبو موسى الأشعري : إن أهل النار ليبكون الدموع في النار حتى لو أجريت السفن من دموعهم لجرت ، ثمّ إنهم ليبكون الدم بعد الدموع ولمثل ماهم فيه فليبكي .
وقال ابن عباس : إن أهل النفاق ليبكون في النار عمر الدنيا فلا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم .
شعبة عن قتادة عن أنس قال : قال أنس : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيراً كثيراً
التوبة : ( 83 ) فإن رجعك الله . . . . .
) فإن رجعك الله ( رجعك الله من غزوة تبوك ) إلى طائفة منهم ( يعني من المخلّفين فإنما قال طائفة منهم لأنه ليس كل من تخلّف عن تبوك كان منافقاً ) فاستأذنوك ( في أن يكونوا في غزاة أخرى ) فقل لهم ( ) لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوا ( عقوبة لهم على تخلّفهم ) أنكم رضيتم بالقعود أول مرة ( بمعنى تخلّفوا عن غزوة تبوك ) فاقعدوا مع الخالفين ( قال ابن عباس : الرجال الذين تخلفوا بغير عذر .
الضحاك : النساء والصبيان والمرضى والزمنى ، وقيل : مع الخالفين . قال الفراء : يقال : عبد خالف وتخالف إذ كان مخالفاً ، وقيل : ( ضعفاء ) الناس ويقال : خلاف أهله إذ كان ذويهم ، وقيل مع أهل الفساد من قولهم : خلف الرجل على أهله يخلف خلوفاً إذ فسد ، ونبيذ خَالِفٌ أي فاسد ( من قولك ) : خلف اللبن خلوفاً إذا حمض من طول وضعه في السقاء ، وخلف فَمُ الصائم إذا تغيَّرت ريحه ، ومنه خلف سوء ، وقرأ مالك بن دينار : مع المخالفين .
التوبة : ( 84 ) ولا تصل على . . . . .
) ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ( قال المفسرون بروايات مختلفة : بعث عبد الله بن أُبي بن سلول إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مريض فلما دخل عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : أهلكك يهود ، فقال : يارسول الله إني لم أبعث اليك لتؤنبني ولكن بعثت اليك لتستغفر لي وسأله أن
(5/78)

" صفحة رقم 79 "
يكفنه في قميصه ويصلي عليه ، فلما مات عبد الله بن أُبي إنطلق ابنه إلى النبي ( عليه السلام ) ودعاه إلى جنازة أبيه فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما اسمك ؟ قال : الحباب بن عبد الله فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنت عبد الله بن عبد الله ، فإنَّ الحباب هو الشيطان ) . ثم انطلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما قام قال له عمر بن الخطاب ( ح ) : يا رسول الله تصلي على عدو الله ابن أُبي القائل يوم كذا وكذا ، وجعل يعد أيامه ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يبتسم حتى إذا أكثر عليه قال : عني يا عمر إنما خيرني الله فاخترت ، قيل لي ) استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ( هو أعلم فإن زدت على السبعين غفر له ؟ ؟ ثم شهَّده وكفَّنه في قميصه ونفث في جنازته ودلاه في قبره .
قال عمر ( ح ) : فعجبت من جرأتي على رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) . فما لبث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ يسيراً حتى نزلت ) ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ( ) ولا تقم على قبره ( أي لا تصلي على قبره بمحل لا تتولَّ دفنه : من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره .
) إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ( فما صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض ، وعُيَّر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله والله إني كنت أرجو أن يُسلم به ألف من قومه ) .
قال الزجاج : فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الإستغفار بثوب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكروا أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسرّ إلى حذيفة أثني عشر رجلا من المنافقين فقال ستة يكفيهم الله بألف مائة شهاب من نار تأخذ كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتاً . فسأل عمر حذيفة عنهم فقال : ما أنا بمخبرك أحدٌ منهم ما كان حياً . فقال عمر : يا حذيفة أمنهم أنا ؟ قال : لا . قال : أفي أصحابي منهم أحد . فقال : رجل واحد . قال : قال : فكأنما دلّ عليهم عمر حتى نزعه من غير أن يخبره به .
التوبة : ( 85 - 86 ) ولا تعجبك أموالهم . . . . .
) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها ( الآية ) وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أُولو الطول منهم ( الغني منهم جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأمثالهما ) وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ( ورحالهم
التوبة : ( 87 ) رضوا بأن يكونوا . . . . .
) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف (
(5/79)

" صفحة رقم 80 "
يعني النساء ) وطبع على قلوبهم وهم لا يفقهون (
التوبة : ( 88 - 89 ) لكن الرسول والذين . . . . .
) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات ( يعني الحسنات .
وقال المبرد : يعني الجواري الفاضلات . قال الله تعالى : ) فيهن خيرات حسان ( واحدها الخيرة وهي الفاضلة من كل شيء . قال الشاعر :
ولقد طعنت مجامع الربلات
ربلات هند خير الملكاتِ
) وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم ( الآية
التوبة : ( 90 ) وجاء المعذرون من . . . . .
) وجاء المعذرون ( قرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن والضحاك وحميد ويعقوب ومجاهد وقتيبة : المعذرون خفيفة ، ومنهم المجتهدون المبالغون في العذرة ، وقال الضحاك : هم رهط عامر بن الطفيل تخلّفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم تبوك خوفاً على أنفسهم فقالوا : يا رسول الله إن نحن غزونا معك تُغِيرُ أعراب طيّ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لهم : ( قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنيني الله عنكم ) .
قال ابن عباس : هم الذين تخلفوا بغير إذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الميم لا تدغم في العين ، وقرأ مسلمة : المعذرون بتشديد العين والذال ولا وجه لها لأن الميم لا يدغم في العين لبعد مخرجيهما ، وقرأ الباقون : بتشديد الذال ، وهم المقصرون .
يقال : أعذر في الأمر بالمعذرة وعذر إذا قصر .
وقال الفراء : أصله المعتذر فأُدغمت التاء في الذال وقلبت حركة التاء إلى العين .
) وقعد الذين كذبوا الله ( قراءة العامة بتخفيف الذال يعنون المنافقين ، وقرأ أُبي والحسن : كذبوا الله بالتشديد ) سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ( ثم ذكر أهل العذر فقال
التوبة : ( 91 ) ليس على الضعفاء . . . . .
) ليس على الضعفاء ( قال ابن عباس : يعني الزمنى والمشايخ والعجزة ) ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ( يعني الفقراء ) حرج ( إثم ) إذا نصحوا الله ورسوله ( في مغيبهم ) ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ( .
) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ
(5/80)

" صفحة رقم 81 "
إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ الاَْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الاَْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَمِنَ الاَْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاإِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَالسَّابِقُونَ الاَْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذاَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الاَْعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 2
التوبة : ( 92 ) ولا على الذين . . . . .
قال قتادة نزلت في عايد بن عمرو وأصحابه ، وقال الضحاك : في عبد الله بن زايد وهو ابن أم مكتوم وكان ضرير البصر فقال : يا نبي الله إني شيخ ضرير البصر خفيف الحال نحيف الجسم وليس لي فائدة هل لي رخصة في التخلف عن الجهاد ؟ فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية ) ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ( نزلت في البكائين وكانوا سبعة : معقل بن يسار وصخر بن خنساء وهو الذي واقع امرأته في رمضان فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكفّر وعبد الله بن كعب الأنصاري وعلبة بن زيد الأنصاري وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن معقل أتَوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا نبي الله إن الله عزّ وجلّ قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزوا معك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا أجد ما أحملكم عليه ( فتولوا وهم يبكون فذلك قوله تعالى : ) تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألاّ يجدوا ما ينفقون ( قال مجاهد : نزلت هذه الآية ( في عبد الله وعبد الرحمن وعقيل والنعمان وسويد
(5/81)

" صفحة رقم 82 "
وسنان
التوبة : ( 93 - 94 ) إنما السبيل على . . . . .
) إنما السبيل على الذين يستأذوك ( الآية ) يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ( أن نصدّقكم ) قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ( فيما بعد أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه ) ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( من المحسن والمسيء
التوبة : ( 95 ) سيحلفون بالله لكم . . . . .
) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم ( انصرفتم ) إليهم ( عندهم ) لتعرضوا عنهم ( ( لتصفحوا عن جرمهم ولا ) تردونهم ولا تؤنبونهم ) فأعرضوا عنهم ( ودعوهم وما اختاروا لأنفسهم من الشأن والمعصية ) إنهم رجس ( نجس ، قال عطاء : أن عملهم نجس ) ومأواهم ( في الآخرة ) جهنم جزاءً بما كانوا يكسبون ( قال ابن عباس : نزلت في جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا قدموا المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم ) .
وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أُبي حَلَف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالذي لا إله إلاّ هو أن لا يرضى عنهم بعدها ، وليكون معه على عدوه وطلب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرضى عنه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية
التوبة : ( 96 ) يحلفون لكم لترضوا . . . . .
) يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }
التوبة : ( 97 ) الأعراب أشد كفرا . . . . .
) الأعراب ( يعني أهل البدو ) أشد كفراً ونفاقاً ( من أهل الحضر ) وأجدر ( أحرى وأولى ) ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ( قال قتادة : هم أقل علماً بالسنن .
وروى الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو مع أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال الأعرابي : والله ما أدري إن حديثك ليعجبني وإنَّ يدك لترعبني فقال : أي يد من يدي إنها الشمال ، فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال ؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله ) الأعراب أشد كفراً ونفاقاً ( الآية
التوبة : ( 98 ) ومن الأعراب من . . . . .
) ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ( قال عطاء : لا يرجو على إعطائه ثواباً ولا يخاف على إمساكه لها إنما ينفق خوفاً رياءً ) ويتربص بكم الدوائر ( يعني صروف الزمان التي تأتي مرّة بالخير ومرّة بالشرّ . قال : أن متى ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون ) عليهم دائرة السوء ( قرأ ابن كثير وابن محصن ومجاهد وأبو عمرو بضم السين ههنا وفي سورة الفتح ، ومعناه الشر والضر والبلاء والمكروه ، وقرأ الباقون على الفتح بالمصدر واختاره أبو عبيد وأبو حاتم في هذه الآية ) من الأعراب ( أسد وغطفان وتميم واعراب حاضري المدينة ثم استثنى فقال
التوبة : ( 99 ) ومن الأعراب من . . . . .
) ومن
(5/82)

" صفحة رقم 83 "
الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ( مجاهد : هم بنو مقرن من مزينة وقال الضحاك : يعني عبد الله ذا النجادين ورهطه .
وقال الكلبي أسلم وغفار بنو جهينة ) ويتخذ ما ينفق قربات عند الله ( جمع قرابة ) وصلوات الرسول ( يعني دعاءه واستغفاره ) ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم }
التوبة : ( 100 ) والسابقون الأولون من . . . . .
) والسابقون الأولون من المهاجرين ( الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم ) والأنصار ( الذين نصروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أعدائه من أهل المدينة وأيّدوا أصحابه وقد كانوا آمنوا قبل أن يهاجروا إليهم بحولين ) والذين اتبعوهم بإحسان ( يعني الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة .
وقال عطاء : هم الذين يذكرون المهاجرين بالوفاء والترحّم والدعاء ويذكرون مجاورتهم ويسألون الله أن يجمع بينهم .
وروي أن عمر بن الخطاب ( ح ) قرأ : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان برفع الواو وحذف الواو من الذين ، قال له أُبيّ بن كعب : إنما هو والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وإنه قد كرّرها مراراً ثلاثة ، فقال له : إني والله لقد قرأتها على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والذين اتبعوهم بإحسان ، وإنك يومئذ شيخ تسكن ببقيع الغرقد ، قال : حفظتم ونسينا وتفرغتم وشغلنا وشهدتم وغبنا ثم قال عمر لأُبيّ : أفيهم الأنصار ؟ قال : نعم ولم يستأ من الخطاب ومن ثمّ قال عمر : قد كنت أظن إنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي : بلى ، تصديق ذلك أول سورة الجمعة وأواسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال . قوله : ) وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ( إلى آخره وقوله تعالى : ) والذين جاءوا من بعدهم ( إلى آخر الآية ، وقوله : ) والذين آمنوا من بعده وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ( ، وقرأ الحسن وسلام ويعقوب : ) والأنصار ( رفعاً عطفاً على السابقين ولم يجعلوهم منهم وجعلوا السبق للمهاجرين خاصة والمقاسة على الخبر نسقاً على المهاجرين .
واختلف العلماء في السابقين الأولين من هم . فقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين : هم الذين صلّوا القبلتين جميعاً .
وقال عطاء بن أبي رباح : هم الذين شهدوا بدراً .
وقال الشعبي : هم الذين شهدوا حجة الرضوان .
واختلفوا أيضاً في أول من آمن برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد امرأته خديجة بنت خويلد مع اتفاقهم أنها أول من آمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصدّقته . فقال بعضهم : أول ذكر آمن برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصلّى معه علي بن أبي طالب ( ح ) وهو قول ابن عباس وجابر وزيد بن أرقم ومحمد بن المنكدر وربيعة الرأي وأبي حازم المدني .
(5/83)

" صفحة رقم 84 "
وقال الكلبي : أسلم علي وهو ابن تسع سنين ، وقال مجاهد وابن إسحاق : أسلم وهو ابن عشر سنين .
وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال : كان نعمة الله على علي ابن أبي طالب ( ح ) وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله للعباس وكانا من أيسر بني هاشم : ( يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ من بنيه رجلا فنكفيهما عنه ) .
فقال العباس : نعم ، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب ( فقالا : إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب ) : إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً كرم الله وجهه فضمّه إليه وأخذ العباس جعفراً يضمّه إليه فلم يزل علي ( ح ) مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بعثه الله نبيًّا فاتبعه علي ( ح ) .
فآمن به وصدقه ولم يزل جعفر مع العباس ذ حتى أسلم واستغنى عنه ( 48 ) .
وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال : كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم ، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها ، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع فرفع الغلام والمرأة فقلت : يا عباس أمرٌ عظيم فقال : أمرٌ عظيم . فقلت : ويحك ما هذا ؟ فقال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه ، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب ، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه ، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء .
قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه : ليتني كنت رابعاً . فيروي أن أبا طالب قال لعلي ( ح ) : أي بني ما هذا الذي أنت عليه قال : آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء وصليت معه لله . فقال له : أما أن محمداً لا يدعو إلاّ إلى خير فالزمه .
(5/84)

" صفحة رقم 85 "
وروى عبد الله بن موسى عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عبّاد بن عبد الله قال : سمعت عليًّا يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كذاب مفتر ، صلّيت قبل الناس بسبع سنين .
وقال بعضهم : أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر ( ح ) وهو قول إبراهيم النخعي وجماعة يدلّ عليه ما روى أبو أمامة الباهلي عن عمرو بن عنبسة قال : أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو نازل بعكاظ ، قلت : يا رسول الله من تبعك في هذا الأمر ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتبعني رجلان حر وعبد أبو بكر وبلال ) فأسلمت عند ذلك ، فلقد رأيتي إذ ذاك ربع الإسلام .
قال : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الحسن علي بن عبد الله البدخشي يقول سمعت أبا هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول : سمعت غياث بن معاذ يقول : سمعت وكيع بن الجراح يقول : عن إسماعيل بن خالد عن الشفهي قال : قال رجل لابن عباس : مَن أول الناس إسلاماً قال : أبو بكر ( ح ) أما سمعت قول حسان بن ثابت :
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبابكر بما فعلا
خير البرية أزكاها وأعدلها
بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس منهم صدّق الرسلا
قال بعضهم : أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة ، وهو قول الزهري وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس ، وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي جمع بين الأخبار فيقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة .
قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر الصديق ( ح ) أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله . قال : وكان أبو بكر رجلا مؤالفاً لقومه محباً سهلا وكان أنسب قريش لقريش ، وأعلم قريش بها وبما كان منها من خير أو شر ، وكان رجلا ( ناجياً ) ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يهابونه ويأتونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته ، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه ، فأسلم على يديه فيما بلغني عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله ، فجاء بهم إلى رسول الله ( ح ) حين استجابوا له فأسلموا وصلوا فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الاسلام من المهاجرين .
(5/85)

" صفحة رقم 86 "
فأما سبّاق الأنصار فأهل بيعة العقبة الأولى فكانوا سبعة ، والثانية كانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد الدار فعلّمهم القرآن ، فهو أول من جمع الصلاة بالمدينة وكانت الأنصار تحبه فأسلم معه سعد بن معاذ وعمرو بن الجموح وبنو عبد الأشهل كلهم وخلقٌ من النساء والصبيان ، وكان مصعب بن عمير صاحب راية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر ويوم أحد وكان وقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه يوم أحد حيث انهزم الناس ، وبقي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى نفذت المشاقص في جوفه ، فاستشهد يومئذ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( عند الله أحتسبه ما رأيت قط أشرف منه لقد رأيته بمكة وإن عليه بردين ما يدري ما قيمتهما وإنّ شراك نعليه من ذهب ، وإنّ عن يمينه غلامين وعن يساره غلامين بيد كل واحد منهما ( جفنة ) من ( طعام ) يأكل ويطعم الناس ، فآثره الله بالشهادة ) .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا ( أُهديت إليه طرفة حناها ) لمصعب بن عمير فأنزل الله تعالى فيه : ) وأما من خاف مقام ربه ( الآية ، وأُخذ أخوه يوم بدر أسيراً فقال : أنا أبو غدير بن عمير أخو مصعب فلم يشدد من الوثاق مع الأسرى وقالوا : هذا الطريق فاذهب حيث شئت ، فقال : إني أخاف أن تقتلني قريش فذهبوا به إلى ( . . . ) فيمدّ يده بالخبز والتمر وكان يمدّ يده إلى التمر ويدع الخبز ، والخبز عند أهل المدينة أعزّ من التمر ، والتمر عند أهل مكة أعزّ من الخبز فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير وقالوا له : أخوك عندنا وأخبروه بما فعلوا به . فقال : ما هو لي بأخ ولا كرامة ، فشدّوا وثاقه فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليًّا فأرسلت أمه في طلبه ثمّ أقبل يوم أحد فلما رأى أخاه مصعب بن عمير . قال في نفسه : والله لا يقتلك غيري فما زال حتى قتله وفيه أنزل الله تعالى : ) فأمّا مَن طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى ( ثمّ جمعهم في الثواب فقال ) ج ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ( وقرأ أهل مكة : من تحتها الأنهار ( وكذا هو في مصاحفهم ) ) خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ( .
قال الحسن بن الفضل : والفرق بينهما أن قوله ) تجري من تحتها الأنهار ( معناه تجري من تحت الأشجار ، وقوله : تجري من تحتها أي ينبع الماء من تحتها ثمّ تجري من تحت الأشجار .
وروي في هذه الآية أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمعاذ بن جبل : ( أين السابقون ؟ ) قال معاذ : قد مضى ناس فقال : السابقون المستهترون بذكر الله من أراد أن يرتع في رياض الجنة
(5/86)

" صفحة رقم 87 "
فليكثر ذكر الله تعالى
التوبة : ( 101 ) وممن حولكم من . . . . .
) وممن حولكم من الأعراب منافقون ( نزلت في مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانت منازلهم حول المدينة ) ومن أهل المدينة ( فيه اختصار وإضمار تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق ، أي مرّنوا وتربّوا عليه يُقال : تمرّد فلان على ربّه ومرد على معصيته أي مرن وثبت عليها واعتادها ومنه : تمريد ومارد وفي المثل : تمرّد مارد وعزّ الإباق ، وقال ابن إسحاق : لجّوا فيه وأبوا غيره ، وقال ابن زيد وابان بن تغلب : أقاموا عليه ولم يتوبوا كما تاب الآخرون ، وأنشد الشاعر :
مرد القوم على حيهم
أهل بغي وضلال وأشر
) لا تعلمهم ( أنت يا محمد ) نحن نعملهم ( قال قتادة في هذه الآية : ما بال أقوام يتكلّفون على الناس يقولون فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري أخبرني أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك قال نبي الله نوح ( عليه السلام ) : ) وما علمي بما كانوا يعملون ( وقال نبي الله شعيب ( عليه السلام ) : ) وما أنا عليكم بحفيظ ( وقال الله لنبيه عليه السلام : ) لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرّتين ( واختلفوا في هذين العذابين وروي عن أبي مالك عن ابن عباس قال : قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطيباً يوم الجمعة فقال : ( أخرج يا فلان فإنك منافق . اخرج يا فلان فإنك منافق ) .
فأخرج من المسجد ناساً وفضحهم فهذا العذاب الأول ، والثاني عذاب القبر .
وقال مجاهد : بالجوع وعذاب القبر ، وعنه أيضاً : بالجوع والقتل وعنه بالجوع مرّتين ، وعنه : بالخوف والقتل .
وقال قتادة : عذاب الدنيا وعذاب القبر ، وفيه قصة الأثني عشر في حديث حذيفة .
وقال ابن زيد : المرّة الأولى المصائب في الأموال والأولاد ، والمرة الأخرى في جهنم .
وقال ابن عباس : إن المرة الأولى إقامة الحدود عليهم والثاني عذاب القبر .
قال الحسن : إحدى المرتين أخذ الزكاة من أموالهم والأخرى عذاب القبر ، فيقول تفسيره في سورة النحل ) ثم يردون إلى عذاب عظيم ( .
وقال ابن إسحاق : هو ما يدخل عليهم في الإسلام ، ودخولهم من غير حسبة ثمّ عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ثمّ العذاب العظيم في الآخرة والخلد فيه .
(5/87)

" صفحة رقم 88 "
وفي بعض التفاسير : الاولى ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم والأخرى عذاب القبر .
وقيل : تفسيره في سورة النحل ) زدناهم عذاباً فوق العذاب ( .
وقال مقاتل بن حيان : الأول بالسيف يوم بدر والثاني عند الموت .
معمر عن الزهري عن الحسن قال : عذاب النبي وعذاب الله . يعني بعذاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قوله تعالى : ) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقُتّلوا تقتيلاً ( . قال عطاء : الأمراض في الدنيا والآخرة فإن من مرض من المؤمنين كفّر الله سيّئاته ومحض ذنوبه فأبدله لحماً من لحمه ودماً كثيراً من دمه وأعقبه ثواباً عظيماً ، ومن مرض من المنافقين زاده الله نفاقاً وإثماً وضعفاً كما قال في هذه السورة : ) أو لا يرون أنهم يُفتنون في كل عام ( يريد أنهم يمرضون في كل عام مرة أو مرتين فيردّون إلى عذاب عظيم شديد فظيع .
وقال الربيع : بلايا الدنيا وعذاب الآخرة ثم يردون إلى عذاب عظيم عذاب جهنم .
وقال إسماعيل بن زياد : أحد العذابين ضرب الملائكة والوجوه والأدبار ، والثاني عند البعث يوكل بهم عتق من النار .
وقال الضحاك : مرّة في القبر ومرّة في النار ، وقيل : المرّة الاولى بإحراق مسجدهم مسجد ضرار والثانية بإحراقهم بنار جهنم ، وقيل : مرّة بإنفاق أموالهم ومرّة بقتلهم بالسيف إن أظهروا مافي قلوبهم .
التوبة : ( 102 ) وآخرون اعترفوا بذنوبهم . . . . .
) وآخرون ( يعني ومن أهل المدينة آخرون أو من الأعراب وليس براجع إلى المنافقين ) اعترفوا ( أقرّوا بك وبربّهم ) خلطوا عملاً صالحاً ( وهو إقرارهم وتوبتهم ) وآخر سيئاً ( أي بعمل سيّء وضع الواو موضع الياء فكما يُقال : إستوى الماء والخبث أي بالخبث وخلطت الماء واللبن أي باللبن فالعمل السيء تخلفهم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتركهم الجهاد ) عسى الله أن يتوب عليهم ( وعسى ولعل من الله واجب وهما حرف ترجّ .
) إن الله غفور رحيم ( نزلت هذه الآية في قوم كانوا تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك ثم ندموا عليه وتذمموا ، وقالوا : نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد والله لنوثقنّ أنفسنا بالقيود في أيدينا حتى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يطلقنا أو يعذبنا ، وبقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مرّ بهم فرآهم فقال : مَن هؤلاء ؟ قالوا : تخلّفوا عنك فعاهدوا الله ألاّ يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم
(5/88)

" صفحة رقم 89 "
وتعذرهم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وأنا أقسم بالله لا أُطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم ، رغبوا عني وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين ) فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما نزلت أرسل إليهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأطلقهم وعذرهم فلما أُطلقوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك فتصدّق بها عنا وطهّرنا واستغفر لنا .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً
التوبة : ( 103 ) خذ من أموالهم . . . . .
فأنزل الله عزّوجل : ) خذ من أموالهم صدقة ( الآية .
واختلفوا في أعداد هؤلاء الناس وأسمائهم فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كانوا عشرة رهط منهم أبو لبابة ، وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم أبو ( منية ) : منهم هلال وأبو لبابة وكردم ومرداس وأبو قيس ، وقال قتادة والضحاك : كانوا سبعة منهم جد بن قيس وأبو لبابة وجدام وأوس ، كلّهم من الانصار .
وقال عطية عن ابن عباس : كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة ، وقال آخرون : نزلت في أبي لبابة واختلفوا في ذنبه . فقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين قال لقريظة : إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى رقبته ، وقد مضت القصة في سورة الأنفال . فندم وتاب فأقرّ بذنبه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .
قال الزهري : نزلت في تخلّفه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية فقال : والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ . فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغشياً عليه فأنزل الله تعالى ) وآخرون اعترفوا بذنوبهم ( الآية فقيل له : قد تيب عليك يا أبا لبابة فقال : والله لا أحل نفسي منها حتى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يحلّني ، فجاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فحلّهُ بيده ، ثمّ قال أبو لبابة : يا رسول الله إن من توبتي أن أبرّ دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن انخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله ، فقال : ( يجزيك يا أبا لبابة الثلث ) .
قالوا جميعاً : وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منهم ثلث أموالهم وترك الاثنين لأن الله عزّ وجلّ قال : ) خذ من أموالهم ( ولم يقل : أموالِهم ، فلذلك لم يأخذ كلها .
وقال الحسن وقتادة : هؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلّفوا ) تطهرهم بها ( من ذنوبهم والقراءة بالرفع حالاً لاجواباً ، أي خذ من أموالهم صدقة مطهرة ومزكّية كقول الحطيئة :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقف
(5/89)

" صفحة رقم 90 "
وقرأ مسلمة بن محارب : تطهرهم وتزكيهم بالجزم على الجواب ، وقرأ الحسن : تطهرهم خفيفة من أطهر تطهير ) وتزكيهم ( أي تطهرهم ، وقيل : تصلحهم ، وقيل : ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين ، وقيل : هي أموالهم .
) وصلِّ عليهم ( أي استغفر لهم وادعُ لهم ، وقيل : هو قول الوالي إذا أخذ الصدقة : آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت ، والصلاة في اللغة الدعاء ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجبه فإن كان مفطراً فليأكل وإن كان صائماً فليصلِ ) أي فليدع ، وقال الأعشى :
وقابلها الريح في دنّها
وصلّي على دنّهاوارتسم
أي دعا لها بالسلامة والبركة .
وقال أيضاً :
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا
يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
) إن صلاتك ( قرأ أهل الكوفة : صلاتك على الواحد هاهنا وفي سورة هود والمؤمنين بإضماره .
أبو عبيد قال : لأن الصلاة هي من الصلوات ، وروى ذلك عن ابن عباس ، ألا تسمع الله يقول : ) أقيموا الصلاة ( فهذه صلاة الأبد ، والصلوات للجمع كقوله : صليت صلوات أربع وخمس صلوات ، وقرأ الباقون كلها بالجمع واختاره أبو حاتم ، قال : ومن زعم أنّ الصلوات من الصلاة لأن الجمع بالتاء قليل فقد غلط ، لأن الله تعالى قال : ) مانفدت كلمات الله ( ) وصدقت بكلمات ربها ( لم يرد القليل .
) سكن لهم ( قال ابن عباس : رحمة لهم ، وقال قتادة : وقار لهم ، وقال الكلبي : طمأنينة لهم إن الله قد قبل منهم ، وقال معاذ : تزكية لهم منك ، أبو عبيدة : تثبيت
(5/90)

" صفحة رقم 91 "
) والله سميع عليم ( شعبة عن عمرو بن مرّة عن عبد الله بن أبي أوفى ، وكان من أصحاب الشجرة : أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أتاه قوم بصدقاتهم قال : ( اللهم صلّ عليهم ) ، فأتيته بصدقتي فقال : ( اللهم صلّ على أبي أوفى ) قال إبن عباس : ليس هذا صدقة الفرض ، إنما هو كصدقة كفارة اليمين ، وقال عكرمة : هو صدقة الفرض . فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يذنبوا متخلّفين : هؤلاء كانوا بالأمس معنا لايكلمون ولايجالسون فما لهم ؟ فقال الله عزّ وجلّ :
التوبة : ( 104 - 105 ) ألم يعلموا أن . . . . .
) ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ( الآية ومعنى أخذ الصدقات . قبولها .
الشافعي عن سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال : سمعت أبا القاسم ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب قوته ولا يقبل الله ( عمله ) ولا يصعد إلى السماء إلاّ طيّب إلاّ كان إنما يضعها في يدي الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى أن ( اللقمة ) لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم ) . ثم قرأ : ) إن الله هو يقبل التوبة عن عباده ( ، وتصديق ذلك في كتاب الله المنزل ) يمحق الله الربا ويربي الصدقات ( إلى قوله ) بما كنتم تعملون ( .
وقال مجاهد : هذا وعيد لهم ، وفي الخبر : لو أتى عَبَدَ الله في صخرة لا باب لها ولا كوّة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان .
( ) وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاَْمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 2
التوبة : ( 106 ) وآخرون مرجون لأمر . . . . .
) وآخرون مرجون لأمر الله ( أي مؤخرون لأمر الله ليقضي فيهم ما هو قاض ، وهم الثلاثة الذين خلفوا وربطوا بالسواري أنفسهم ولم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فرفق بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى شقهم القلق وتهتكهم الحزن وضاقت عليهم الأرض برحبها وكانوا من أهل ( بدر ، فجعل الناس ) يقولون : هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر ، وجعل آخرون يقولون : عسى أن يغفر الله لهم ،
(5/91)

" صفحة رقم 92 "
فصاروا فرحين لأمر الله لايدرون يعذبون أو يرحمون حتى تاب الله عليهم بعد خمسين ليلة ونزلت ) وعلى الثلاثة الذي خلفوا ( .
التوبة : ( 107 ) والذين اتخذوا مسجدا . . . . .
قوله تعالى : ) والذين اتخذوا مسجداً ضراراً ( الآية ، قال المفسرون : إنّ بني عمر بن عوف اتخذوا مسجد قبا وبعثوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأتيهم فأتاهم فصلى فيهم فحسدهم إخوتهم بنو غنم ابن عوف ، وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا وليصلي فيه أبو عامر النعمان الراهب إذا قدم من الشام وكان أبو عامر رجلاً منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان قد ترهّب في الجاهلية وتنصّر ولبس المسوح . فلما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة قال له أبو عامر : ما هذا الذي جئت به ؟ قال : ( جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم ) ، قال أبو عامر : فأنا عليها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإنك لست عليها ) قال : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفيّة ما ليس منها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية ) ، فقال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمات الله الكاذب منّا طريداً وحيداً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( آمين ) ، وسمي العامر الفاسق . فلما كان يوم أُحد قال أبو عامر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن أجد قوماً يقاتلونك إلاّ قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم يستنصر وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم فأُخرج محمداً وأصحابه ، وذلك قوله تعالى : ) وارصاداً لمن حارب الله ورسوله ( فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قبا وكان الذين بنوه اثنا عشر رجلاً : خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وأبو الأرعد ، وعباد بن حنيف ، وحارثة بن عامر ، ( وجارية وابناه ) مجمّع وزيد ، ونبتل بن الحارث . ولحاد بن عثمان ، ووديعة ابن ثابت ، وكان يصلي بهم مجمع بن يسار ، فلما فرغوا أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو يتجهز إلى تبوك ، وقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو بالبركة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني على جناح السفر ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه ) .
فلما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من تبوك ونزل ( بذي أوان ) بلد بينه وبين المدينة ساعة ، فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن فأخبره الله عزّ وجلّ خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي قاتل حمزة وقال لهم : ( انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ) فخرجوا سريعاً حتى اتوا سالم بن عوف واتوا رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لهم : انتظروا حتى آتي لكم بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجوا ينشدون
(5/92)

" صفحة رقم 93 "
حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدّموه وتفرّق عنه أهله وامر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والدنس والقمامة ، ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيداً غريباً وفيه يقول كعب بن مالك :
معاذ الله من فعل الخبيث
كسعيك في العشيرة عبد عمرو
فاما قلت بأن لي شرف ونخل
فقدما بعت إيماناً بكفر
قال عكرمة : سأل عمر بن الخطاب رجلاً منهم ماذا أعنت في هذا المسجد فقال : أعنت في سارية فقال عمر : أبشر بها في عنقك في نار جهنم .
ويروى أنّ بني عمر بن عوف الذين بنوا مسجد قبا سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمّهم في مسجدهم فقال : لا ولا نعمة عين أليس هو مسجد الضرار ، فقال له مجمّع : يا أمير المؤمنين لا تعجل عليَّ . فوالله لقد صليت فيه واني لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولقد علمت ما صلّيت معهم فيه كنت غلاماً قارئاً للقرآن وكانوا ثبوتاً قد رغبوا وكانوا لا يعلمون من القرآن شيئاً فصليت ولا أحسب منعوا شيئاً إلاّ أنهم يتضرعون إلى الله ولم أعلم ما في أنفسهم .
فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصلاة في مسجد قبا . فهذا قصة مسجد الضرار الذي أنزل الله عزّ وجلّ فيه ) والذين اتخذوا مسجداً ( قرأه العامة بالواو ، وقول أهل المدينة والشام بغير الواو ، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام .
قال عطاء : لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم ألاّ يتخذوا في مدينتهم مسجدين مجاوراً أحدهما لصاحبه .
وروى ليث أن شقيقاً لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا بعد . قال : لا أحب أن أُصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني على ضرار أو رياءً أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى مسجد ضرار .
) وكفراً ( نفاقاً ) وتفريقاً بين المؤمنين ( يفرقون به جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جمعاً في مسجد قبا فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم دون مسجد قبا وبعضهم في مسجد قبا فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا ) وإرصاداً ( وانتظاراً وإعداداً ) لمن حارب الله ورسوله من قبل ( وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام ويظهر على رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
(5/93)

" صفحة رقم 94 "
قرأ الأعمش وإرصاداً للذين حاربوا الله ) وليحلفن إن أردنا ( ما أردنا ) إلاّ الحسنى ( إلاّ الفعلة الحسنى وهي للمرضى المسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والله يشهد انهم لكاذبون ( في قولهم وحلفهم ثم قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم )
التوبة : ( 108 ) لا تقم فيه . . . . .
) لاتقم فيه أبداً . لمسجد ( اللام فيه لام الابتداء والقسم تقديره والله لمسجد ) أسس على التقوى ( أى بني أصله وابتدئ بناؤه ) من أول يوم ( أي من أول يوم بني ، وقيل معناه : منذ أول يوم وضع أساسه . قال المبرد : قيل في معنى البيت من حج وامن دهر . أي من هو حج وأمن دهر ، وأنشأ زهير :
لمن الديار بقنة الحجر
أقوين من حج ، ومن دهر
منذ حج ومنذ دهر . ) أحق ( أولى ) أن تقوم فيه ( مصلياً ، واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى ما هو ؟ فقال قوم : هو مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذي فيه منبره وقبره .
أخبرنا عبد الله بن حامد وأخبرنا العبدي . حدثنا أحمد بن نجدة ، حدثنا الجماني ، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عثمان بن عبد الله بن أبي رافع عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري قالوا : المسجد الذي أسس على التقوى مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) . يدل عليه ما روى حميد الخراط عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أن عبد الرحمن حدثه أنه دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بيت بعض نسائه قال : فقلت : يا رسول الله اي المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فأخذَ كفّاً من الحصى فضرب به الأرض . ثم قال : ( هو مسجدكم هذا مسجد المدينة ) .
وروى أنس بن أبي يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري : هو مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال العوفي : هو مسجد قبا ، فأتيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك فقال : هو هذا ، يعني مسجد رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
قال ابن يزيد وابن زيد وعروة بن الزبير : هو مسجد قبا ، وهي رواية علي بن أبي طلحة وعطية عن ابن عباس .
) فيه ( ومن حضر ) رجال يحبون أن يتطهروا ( من الأحداث والنجاسات بالماء ، قال الكلبي : هو غسل الأدبار بالماء ، وقال عطاء : كانوا يستنجون بالماء لاينامون بالليل على الجنابة .
يروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأهل قبا لما نزلت هذه الآية : ( إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم في الطهور فما هو ؟ ) قالوا : إنا نستنجي بالماء .
(5/94)

" صفحة رقم 95 "
) والله يحب المطهّرين ( اي المتطهرين فأدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما .
قال يزيد بن عجرة : أتت الحمّى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صورة جارية سوداء فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أنت ؟ ) قالت : أم ملدم انشف الدم ، وآكل اللحم وأُصفر الوجه وأُرقق العظم . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاقصدي الأنصار فإن لهم علينا حقوقاً ) فَحُمّ الأنصار .
فلما كان الغد قال : ( ما للأنصار ؟ ) قال : فحموا عن آخرهم . فقال : ( قوموا بنا نعودهم ) فعادهم وجعل يقول : ( أبشروا فإنها كفارة وطهور ) .
قالوا : يا رسول الله ادعوا الله أن يديمها علينا ( أعواماً ) حتى تكون كفّارة لذنوبنا ، فأنزل الله تعالى عليهم ) فيه رجال يحبون أن يتطهروا ( بالحمى عن معاصيهم ) والله يحب المطهرين ( من الذنوب .
التوبة : ( 109 ) أفمن أسس بنيانه . . . . .
) أفمن أسس بنيانه ( اختلف القرآء به فقرأ نافع وأهل الشام : أُسس بنيانه بضم الهمزة والنون على غير تسمية الفاعل ، وذكر أبو حاتم عن زيد بن ثابت ، وقرأ عمارة بن صايد : أسس بالمد وفتح السين والنون في وزن آمَنَ ، وكذلك الثانية وآسس وأُسّس واحد افعل وفعل يتقاربان في التعدية .
وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد السين الأُولى على تسمية الفاعل واختاره أبو عبيد وأبو حاتم .
) على تقوى من الله ( وقرأ عيسى بن عمر تقوىً من الله منوّناً ) ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا ( أي شفير وقال أبو عبيد : الشفا الحد وتثنيته : الشفوان .
) جرف ( قرأ عاصم وحمزة بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتثقيل وهما لغتان وهو السير الي لم تطؤ . قال أبو عبيدة : هو الهوّة وما يجرفه السيل من الأودية ) هار ( أي هائر وهو الساقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرمل والشيء الرخو . يقال هو من المقلوب يقلب ويؤخر ياؤها فيقال هار ( ولات ) كما يقال شاكي السلاح وشائك السلاح وعاق وعائق ، قال الشاعر :
ولم يعقني عن هواها عاق .
وقيل : هو من هار يهار إذا انهدم مثل : خاف يخاف ، وهذا مثل لضعف نيّاتهم وقلّة بصيرتهم في علمهم ) فانهار ( فانتثر يقال : هار وانهار ويهور بمعنى واحد إذا سقط وانهدم ومنه قيل تهوّر الليل إذا ذهب أكثره ، وفي مصحف أُبيّ : فإنهارت به قواعده ) في نار جهنم والله لا
(5/95)

" صفحة رقم 96 "
يهدي القوم الظالمين ( قال قتادة : والله ( ما تنامى ) أن وقع في النار ، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيها فرأى الدخان يخرج منه قال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار ، وقال خلف بن ياسين الكوفي : حججت مع أبي في زمان بني أُمية فرأيت في المدينة مسجد القبلتين يعني مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقبا وفيه قبلة بيت المقدس ، فلما كان زمان أبي جعفر قالوا : يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهدّم البناء الذي بني على يدي عبد الصمد بن عليّ ، ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة .
التوبة : ( 110 ) لا يزال بنيانهم . . . . .
) لايزال بنيانهم الذي بنوا ريبةً ( شكّاً ونفاقاً ) في قلوبهم ( يحسبون أنهم كانوا ببنائه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى . قال ابن عباس : شكاً ونفاقاً ، وقال الكلبي : حبّبه وزيّنه لأنّهم زعموا أنهم لا يتبعونه ، وقال السدي وحبيب والمبرد : لأنّ الله هدم بنيانهم الذي بنوا حزازة في قلوبهم ) إلاّ أن تقطع قلوبهم ( تتقطع قلوبهم فيموتوا كقوله تعالى : ) لقطعنا منهم الوتين ( لأن الحياة تنقطع بانقطاع القلب .
وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم : إلى أن تقطع ، خفيفة على الغاية ، يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة ، لا يزالون في شك منهم إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبيّنوا .
واختلف القُراء في قوله ) تقطع ( . قال أبو جعفر وشيبة وابن عامر وحمزة والمفضل وحفص : تقطع بفتح التاء والطاء مشدداً ، يعني تقطع ثم حذفت إحدى التائين ، وقرأ يحيى بن كثير ومجاهد ونافع وعاصم وأبو عمرو والكسائي ) تقطع ( بضم التاء وتشديد الطاء على غير تسمية الفاعل وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم ، وقرأ يعقوب ) تقطع ( بضم التاء خفيفة من القطع .
وروي عن ابن كثير ( تقطع ) بفتح التاء خفيفة ) قلوبهم ( نصباً أي تفعل أنت ذلك بهم ، وقرأ ابن مسعود والأعمش ولو قطعت قلوبهم .
) والله عليم حكيم ( .
2 ( ) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُون
(5/96)

" صفحة رقم 97 "
الرَاكِعُونَ السَّاجِدونَ الاَْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لاَِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ( 2
التوبة : ( 111 ) إن الله اشترى . . . . .
) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ( قال محمد بن كعب القرظي : لما بايعت الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً . قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : ( اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ) ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : ( الجنة ) .
وقال الأعمش : الجنة وهي قراءة عمر بن الخطاب ( ح ) ) يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ( قال إبراهيم النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل على معنى فيقتل بعضهم ويقتل الباقون ، وقرأ الباقون : بتقديم الفاعل على المفعول ) وعداً ( نصب على المصدر ) عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ( ثم هنّأهم فقال عزّ من قائل : ) فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ( قال قتادة : ثامنهم وأغلى ثمنهم ، وقال الحسن : أسمعوابيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن ، والله ما على وجه الأرض مؤمن إلاّ دخل في هذه البيعة .
قال : ومرّ أعرابي بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقرأ هذه الآية قال : كلام من هذا ؟ قال : كلام الله . قال : بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد .
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي . قال : أنشدنا أبو الحسن العقيلي . أنشدنا بشر بن موسى الأسدي . أنشدني الأصمعي عن جعفر الصادق ( ح ) .
أُثامن بالنفس النفيسة ربها
فليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تشترى الجنات إن أنا بعتها
بشيء سواها إن ذلكم غبن
إذا أذهبت نفسي بدنيا أصبتها
فقد ذهب الدنيا وقد ذهب الثمن
وكان الصادق يقول : أيا من ليست له قيمة أنه ليس لأبدانكم إلاّ الجنة فلا تبيعوها إلاّ بها .
(5/97)

" صفحة رقم 98 "
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي . أنشدنا القاضي أبو الربيع محمد بن علي . أنشدنا أبو علي الحسن بن عاصم الكوفي :
من يشتري قبة في العدن عالية
في ظل طوبى رفيعات مبانيها
دلالها المصطفى والله بايعها
فمن أراد وجبريل يناديها
التوبة : ( 112 ) التائبون العابدون الحامدون . . . . .
ثم وصفهم فقال ) التائبون ( أي هم التائبون ، وقرأ ابن مسعود التائبين العابدين بالنصب آخرها ، قال المفسرون : تابوا من الشرك وبرأوا من النفاق ) العابدون ( المطيعون الذي أخلصوا فيه الشهادة .
وقال الحسن وقتادة : هم قوم اتخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم فعبدوا الله على أحايينهم كلها في السراء والضراء ) الحامدون ( الله على كل حال في كل نعمة ) السائحون ( الصائمون .
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( السائحون الصائمون ) ( 61 ) .
وروى شيبان بن عبد الرحمن عن الأشعث قال : سألت سعيد بن جبير عن السائحين فقال : هم الصائمون ألم تر أنّ الله عزّ وجلّ إذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين وإذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين .
قال سفيان بن عيينة : أما إنّ الصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح .
وقال الشاعر في الصوم :
تراه يصلي ليله ونهاره
يظل كثير الذكر لله سائحاً
وقال الحسن : السائحون الذين صاموا عن الحلال وأمسكوا عن الحرام وههنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال ولا يمسكون عن الحرام فالله ساخط عليهم ، وقال عطاء : السائحون الغزاة والمجاهدون ، وعن عمرو بن نافع . قال : سمعت عكرمة وسُئل عن قول الله تعالى : ) السائحون ( قال : هم طلبة العلم ) الراكعون الساجدون ( يعني المصلين ) الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ( قال بسام بن عبد الله : المعروف السنّة والمنكر البدعة .
) والحافظون لحدود الله ( قال ابن عباس : القائمون على طاعة الله ، وقال الحسن : أهل
(5/98)

" صفحة رقم 99 "
الوفاء ببيعة الله ) وبشر المؤمنين }
التوبة : ( 113 ) ما كان للنبي . . . . .
) ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ( الآية ، واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية .
فروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أي عم إنك أعظم الناس عليَّ حقاً وأحسنهم عندي ( قولاً ) ولأنت أعظم عليَّ حقاً من والدي فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي يوم القيامة . قل : لا إله إلا الله أُحاجّ لك بها عند الله ) .
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء تكلم به : أنا على ملة عبد المطلب . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لأستغفر لك يا عم الله ) فنزلت ) ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ( الآية ، ونزلت ) إنك لا تهدي من أحببت ( الآية .
قال الحسن بن الفضل : وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة .
وقال عمرو بن دينار : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي . فقال أصحابه : لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعمّه . فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وروى جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن محمّد بن كعب ( قال حدثنا محمد بن عبد الوهاب أخبرنا جعفر بن عون ) قال : بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه الذي قبض فيه ، قالت قريش له : يا أبا طالب أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجنّة فيكون لك شفاء ، فخرج الرسول حتى وجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبو بكر معه جالس فقال زيد : إنّ عمك يقول لك يا ابن أخي إني كبير وشيخ ضعيف فادعوا إليّ من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيء يكون لي فيه شفاء
(5/99)

" صفحة رقم 100 "
فقال أبو بكر : إن الله حرّمها على الكافرين . قال : فرجع إليهم الرسول فقال : بلغت محمّداً الذي أرسلتموني به فلم يحر إليّ شيئاً فقال أبو بكر : إن الله حرمها على الكافرين قال : فحملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولاً من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله حرّمهما على الكافرين طعامها وشرابها ) ، ثم قام في أثره حتى دخل معه البيت فوجده مملوءاً رجالا فقال : ( خلوّا بيني وبين عمي ) ، فقالوا : ما نحن بفاعلين وما أنت أحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فجلس إليه فقال : ( يا عم جزيت عني خيراً كفلتني صغيراً وحفظتني كبيراً فجزيت عني خيراً . يا عماه أعنّي على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة ، قال : وما هي يا ابن أخي ؟
قال : قل لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ) . قال : إنك لي لناصح ، والله لولا أن تعيّر بها بعدي يقال جزع عمك عند الموت لأقررت بها عينك ، قال : فصاح القوم : يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ لا تحدث نساء قريش أني جزعت عند الموت . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردّني فاستغفر له بعد ما مات ) .
فقال المسلمون : ما منعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت هذه الآية .
والدليل على ما قيل أن أبا طالب مات كافراً ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا المزني . قال : حدثنا أحمد بن نجدة حدثنا سعد بن منصور حدثنا أبو الأحوص أخبرنا أبو إسحاق قال : قال علي ( عليه السلام ) لما مات أبو طالب : أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يا رسول الله إن عمك . . . . . . . قال : اذهب فادفنه ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني ، فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعليَّ أثر التراب فدعا لي بدعوات ما يسرني أنَّ لي بها ما على الأرض من شيء .
وقال أبو هريرة وبريدة : لما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ) ما كان للنبي والذين آمنوا ( الآية ، فقام وبكى وبكى من حوله فقال : ( إني استأذنت ربي أن أزورها فأذن لي واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنّها تذكّركم الموت ) ، فلم نرَ باكياً أكثر من يومئذ
(5/100)

" صفحة رقم 101 "
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار فنهاهم ولم ينتهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ، وقال قتادة : قال رجال من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم ألا نستغفر لهم ؟
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بلى ، وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه ) ، فأنزل الله تعالى ) ما كان للنبي ( أي ما ينبغي للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين .
وقال أهل المعاني : ما كان في القرآن على وجهين أحدهما بمعنى النفي كقوله تعالى : ) ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ( ) وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله ( والأُخرى بمعنى النهي كقوله تعالى : ) وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ( ، وقوله : ) ما كان للنبي والذين آمنوا ( نهي .
) من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( بموتهم على الكفر ، وتأوّل بعضهم الاستغفار في هذه الآية على الصلاة . قال عطاء بن أبي رباح : ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلاّ عن المشركين كقوله : ) ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا ( الآية ، ثم عذر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال :
التوبة : ( 114 ) وما كان استغفار . . . . .
) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ( الآية .
قال علي بن أبي طالب ( ح ) : أنزل الله قوله تعالى خبراً عن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ) سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً ( . ( قال علي : ) سمعت فلاناً يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له : أتستغفر لهما مشركان ، قال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ، فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرويت ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأنزل قوله تعالى : ) قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ( إلى قوله ) إلاّ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ( وقوله : ) إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه ( يعني بعد موعده .
وقال بعضهم : الهاء في إيّاه عائدة إلى إبراهيم ، وذلك إن أباه وعده أن يسلم فعند ذلك
(5/101)

" صفحة رقم 102 "
قال إبراهيم : ) سأستغفر لك ربّي ( وقال بعضهم : هي راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه ، وهو قوله : ) سأستغفر لك ربي ( ، وقوله : ) لأستغفرن لك ( الآية ، تدلّ عليه قراءة الحسن : وعدها أباه بالباء .
) فلما تبين له أنّه عدوٌ لله ( ( بموت أبيه ) ) تبرأ منه ( وقيل : معناه : فلمّا تبين له في الآخرة أنه عدو لله ، وذلك على ما روى في الأخبار أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) يقول يوم القيامة : رب والدي رب والدي ، فإذا كانت الثالثة يريه الله فيقول له إبراهيم : إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ولست بتاركك اليوم لشيء فخذ ( بحبري ) فتعلق به حتى تريد الجواز على الصراط حتى إذا أراد أن يجاوزه به كانت من إبراهيم ( عليه السلام ) التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة ضبع ، فتخلّى عنه وتبرأ منه يومئذ وعلى هذا التأويل يكون معنى الكلام الاستقبال ، تقديره : يتبيّن ويتبرأ ) إنَّ إبراهيم لأوّاه ( اختلفوا في معناه ، فروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد مرسلاً أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن الأوّاه فقال : الخاشع المتضرع ، وقال أنس : تكلّمت امرأة عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشيء كرهه فنهاها عمر ( ح ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعرض عنها فأنها أوّاهة ) قيل : يا رسول الله وما الأوّاهة ؟ قال : ( الخاشعة ) .
وروى عبد الله بن رباح عن كعب في قول الله تعالى : ) إنَّ إبراهيم لأوّاه ( فقال : كان إذا ذكر النار قال : أوه .
وقال عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير : الأواه الدعَّاء ، وقال الضحاك : هو الجامع الدعاء .
وروى الأعمش عن الحكم عن يحيى بن الجرار قال : جاء أبو العبيدي رجل من سواد وكان ضريراً إلى ابن مسعود قال : يا عبد الرحمن من يسأل إذا لم يسألك ، ما الأوّاه ؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال : الأواه الرحيم .
وقال الحسن وقتادة : الأواه الرحيم بعباد الله ، وقال أبو ميسرة : الأواه الرحيم يوم الحشر ، عطية عن ابن عباس الأواه المؤمن بالحبشية . علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الأواه المؤمن التواب ، مجاهد : الأواه المؤمن ( الموقن ، وروي عن . . . . . . ) عن ابن عباس وعلي ابن الحكم عن الضحاك ، وقال عكرمة : هو المستيقن ، بلغة الحبشة ، ألا ترى أنك إذا قلت للحبشي الشيء فعرفه قال : أوّه ، ابن أبي نجيح : المؤتمن . الكلبي : الأواه : المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفرة الموحشة ، وقال عقبة بن عامر : الأواه الكثير الذكر لله ، وروى الحكم عن الحسن بن مسلم بن ( ساق ) أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبيَ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إنه أوّاه ، وقيل : هو الذي يكثر تلاوة القرآن
(5/102)

" صفحة رقم 103 "
وقال ابن عباس : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دفن ميّتاً فقال : ( يرحمك الله إن كنت لأواه ) ، يعني تلاوة القرآن .
وقيل : هو الذي يجهر صوته بالذكر والدعاء والقرآن ويكثر تلاوته ، وكان إبراهيم ( عليه السلام ) يقول : آه من النار قبل أن لا تنفع آه .
وروى شعبة عن أبي يونس الباهلي عن قاضي كان يجمع الحديث عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه : أوه أوه ، فشكاه أبو ذر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( دعه فإنه أواه ) . قال : فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح .
وقال النخعي : الأواه : الفقيه ، وقال الفراء : هو الذي يتأوه من الذنوب ، وقال سعيد بن جبير : الأواه المعلم للخير ، وقال عبد العزيز بن يحيى : هو المشفق ، وكان أبو بكر ( ح ) يُسمّى الأواه لشفقته ورحمته ، وقال عطاء : هو الراجع عن كلمة ما يكره الله ، وقال أيضاً : هو الخائف من النار ، وقال أبو عبيدة : هو المتأوه شفقاً وفرقاً المتضرع يقيناً ولزوماً للطاعة . قال الزجاج : انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل : في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوتاً من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه ، وقال المثقب العبدي :
إذا ما قمت أُرحلها بليل
تأوه آهة الرجل الحزين
قال الراجز :
فأوه الراعي وضوضا كلبه
ولا يقال منه فعل يفعل
) حليم ( عمن سبه وناله بالمكروه وقد قيل أنه ( عليه السلام ) استغفر لأبيه عند وعده إياه وشتمه ، وقوله : ) لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً ( فقال له : ) سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً ( وقال ابن عباس : الحليم السيد .
( ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاَْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا
(5/103)

" صفحة رقم 104 "
كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الاَْعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذاَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( 2
التوبة : ( 115 ) وما كان الله . . . . .
) وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم ( يقول : وما كان الله ( ليحكم ) عليكم بالضلال بعد استغفاركم للمشركين قبل أن يتقدم إليكم بالنهي .
وقال مجاهد : بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة ، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة ، فافعلوا أو ذروا .
وقال مقاتل والكلبي : لما أنزل الله تعالى الفرائض فعمل بها الناس ( ثم ) نسخها من القرآن وقد غاب ( ناس ) وهم يعملون للأمر الأول من القبلة والخمر وأشباه ذلك ، فسألوا عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى ) وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم ( يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم عملوا بالمنسوخ ) حتى يبين لهم ( قال الضحاك : ما كان الله ليضل قوماً حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون ) إنَّ الله بكل شيء عليم ( ثم عظّم نفسه فقال :
التوبة : ( 116 ) إن الله له . . . . .
) إنَّ الله له ملك السموات والأرض ( يعني يحكم فيهما بما يشاء ) يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير }
التوبة : ( 117 ) لقد تاب الله . . . . .
) لقد تاب الله على النبي ( قال ابن عباس : ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبداً .
واختلفوا في معنى التوبة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أهل التفسير : بإذنه للمنافقين في التخلف عنهم ، وقال أهل المعاني : هو مفتاح كلام ما كان هو صنف توبتهم ذكر معهم كقوله ) فإن لله خمسه وللرسول ( ونحوه ) والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ( أي في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها . قال جابر : عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء .
قال الحسن : كان الناس من المسلمين يخرجون على بعير يعقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه ، كذلك كان زادهم التمر المسوس والشعير والأهالة المنتنة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلاّ التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من الماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلاّ النواة فمضوا ( في قيض شديد ) ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على صدقتهم ويقينهم
(5/104)

" صفحة رقم 105 "
وقال ابن عباس : قيل لعمر بن الخطاب ( ح ) ما في شأن العسرة ؟ فقال عمر : خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إلى قيض شديد ) فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى قلنا أن رقابنا ستقطع ، حتى أن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى أنّ الرجل سينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق ( ح ) لرسول الله : إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا ، قال : ( تحب ذلك ) ؟ قال : نعم ، فرفع يديه ولم يرجع بها حتى أظلت السماء بسحاب ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر .
) من بعد ما كاد يزيغ ( تميل ) قلوب فريق منهم ( لعظم البلاء ، وقرأ العامة : تزاغ ، بالتاء ودليله قراءة عبد الله قال : ( زغيّهم ) ، قراءة حمزة والأعمش والجحدري والعباس بن زيد الثقفي بالياء . قال الأعمش : قرأتها بالياء في نية التأخير وفيه ضمير فاعل ) ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم }
التوبة : ( 118 ) وعلى الثلاثة الذين . . . . .
) وعلى الثلاثة الذين خُلِفوا ( يعني تاب على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فلم يخرجوا ، وقيل : خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وأرجى أمرهم وقد مضت السنة .
وقرأ عكرمة وحميد : خلفوا بفتح الخاء واللام والتخفيف أي ( فدله بعقب ) رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وروي عن جعفر بن محمد الصادق ( ح ) انه قرأ : خالفوا ، وقراءة الأعمش : وعلى الثلاثة المخلفين ، وهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار وروى عبيد عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه كعب حين أُصيب بصره . قال : سمعت أن كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : لم أتخلف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك غير بدر ولم يعاتب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أحداً تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغيثين لعيرهم فالتقوا من غير موعد كما قال الله عزّ وجلّ ، ولعمري أن أشرف مشاهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الناس لبدر ، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام ، ثم لم أتخلف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد في غزوة غزاها إلى أن كانت غزوة تبوك وأذن الناس بالرحيل وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار ، وكان قلّ ما أراد غزوة إلاّ ( ورى غيرها ) وكان يقول : الحرب خدعة فأراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك أن يتأهّب الناس أهبتها وأنا أيسر ما كنت قد جهزت راحلتين ، وأنا أقدر شيء في نفسي الجهاد وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال وطيب الثمار فلم أزل كذلك حتى قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غادياً بالغداة وذلك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح
(5/105)

" صفحة رقم 106 "
غادياً فقلت : أنطلق غداً إلى السوق أشتري جهازي ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من غد فعسر عليَّ بعض شأني فرجعت فقلت : أرجع غداً إن شاء الله فألحق بهم ، فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب وتخلّفت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة فيحزنني أنّي لا أرى أحداً تخلف إلاّ رجلا مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء وكان الناس كثيراً لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلّف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بضعاً وثمانين رجلا ولم يذكرني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بلغ تبوك فقال وهو بتبوك جالس : ( ما فعل كعب بن مالك ؟ ) .
فقال رجال من قومي : يا نبيّ الله خلّفه راحلته والنظر في عطفيه ، فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم إلاّ خيراً ، فبينما هم كذلك إذا همّ برجل مبيضاً يزول به السراب فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كن أبا خيثمة وإذا به أبو خثيمة الأنصاري وهو الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون ، فلما قضى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غزوة تبوك وقفل إلى المدينة ( جعلت بما أخرج ) من سخط النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي حتى إذا قيل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( مضى يصلي ) بالغداة راح عني الباطل وعرفت أن لا أنجو إلاّ بالصدق فدخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصلّى في المسجد ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم فقبل منهم علانيتهم ووكَّل سرائرهم إلى الله تعالى فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تَبَسَّم تبسُّم المغضب فجئت فجلست بين يديه فقال : ( ألم تكن قد ابتعت ظهرك ) قلت : بلى يا رسول الله قال : ( فما خلّفك ) ؟ .
قلت : والله لو كنت بين يديّ أجد من الناس غيرك جلست لخرجته من سخطته بعذر ولقد أوتيت جدلاً ، ولكن قد علمت يا نبي الله أني أن أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حقّ فإنّي أرجو فيه عفو الله وإن حدّثتك اليوم حديثاً ترضى عني فيه وهو كذب أوشك أن يطلعك الله عليه والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذاً مني حين تخلفت عنك .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما هذا فقد صدقكم الحديث قم حتى يقضي الله فيك ) .
فقمت فإذا على أثري ناس من قومي فاتبعوني فقالوا : والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قبل هذا فهلاّ اعتذرت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يرضى عنك فيه وكان استغفار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لك كافيك من ذنبك ولم تقف نفسك موقفاً ما تدري ماذا يقضي لك به ؟ فلم يزالوا يؤنّبوني حتى صمّمت أن أرجع فأُكذب نفسي فقلت : هل قال هذا القول أحد غيري ؟ قالوا : نعم ، قالوا : هلال بن أُمية الواقفي وأبو مرارة بن ربيعة العامري . فذكروا رجلين صالحين قد شهدوا بدراً لي فيهما أُسوة فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً ، ولا أكذب نفسي قال : ونهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الناس عن كلامنا ( أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه ) قال : فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكّر لنا الناس حتى ) ما هم بالذين نعرف ، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي الحيطان التي نعرف وتنكرت
(5/106)

" صفحة رقم 107 "
لنا الأرض حتى ما هي الأرض التي نعرف ، ( وكنت أقوى أصحابي وكنت أخرج فأطوف بالأسواق وآتي المسجد فأدخل فآتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأسلّم عليه فأقول في نفسي : هل حرّك شفتيه بالسلام ، فإذا قمت فأقبلت فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ بمؤخر عينيه وإذا نظرت إليه ، واستكان أعرض عني فإستكانا صاحباي فجعلا يبكيان الليل لا يطلعان نفسيهما فلما طال علي ذلك المسلمين من جفوة حتى تسمّرت بظلّة حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ فسلمت عليه فوالله ما ردَّ عليَّ السلام فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله ؟ قال : فسكت ، فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدران فبينا أطوف في السوق إذا برجل نصراني نبطي من نبط أهل الشام جاء بطعام له يبيعه ويقول : من سيدلّ على كعب بن مالك . فطفق الناس يشيرون له إليَّ فأتاني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسّان فإذا فيه : أمّا بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ( ولست بدار مضيعة ولا هوان ) فالحق بنا نواسيك ، فقلت : هذا من البلاء والشرف فسجّرت التنور فأحرقته فلما مضيت له بغضون ليلة إذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاني فقال : ( اعتزل امرأتك ) فقلت : أطلقها . قال : ( لا ولكن لا تقربها ) وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك ، فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ، قال : فجاءت امرأة هلال فقالت : يا نبي الله إنَّ هلال بن أُمية شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه قال : ( نعم ولكن لا يقربك ) .
قالت : يا نبي الله والله ما به حركة لشيء ما زال مكبّاً يبكي الليل والنهار . قد كان من أمره ما كان . قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت : لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ماذا يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب . فلما مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن كلامنا فصلّيت على ظهر بيت لمّا صلّى الفجر وجلست وأنا في المنزلة التي قال الله عزّ وجلّ : ) قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ( وضاقت علينا أنفسنا إذ سمعت نداء من جبل سلع أن أبشر يا كعب بن مالك ، فخررت ساجداً وعلمت أن الله قد جاء بالفرج ثم جاء رجل يركض على فرس وكان الصوت أسرع من فرسه ( فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي ، فكسوتها إياه ببشارته واستعرت ثوبين فلبستهما ) قال : وكانت توبتنا نزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلثي الليل فقالت أُم سلمة عشيّتئذ : يا نبي الله ألا تبشر كعب بن مالك . قال : إذا يحطمك الناس ويمنعونكم النوم بسائر الليل وكانت أم سلمة محسنة في شأني حزنى بأمري فاستطلت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام إلي طلحة ابن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال : ( ليهنك توبة الله عليك ) ، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره وكان كعب لا ينساها لطلحة
(5/107)

" صفحة رقم 108 "
قال كعب : فلمّا سلمت على رسول الله وقلت : يا نبي الله من عند الله أم من عندك ؟ قال : ( بل من عند الله ) ثم تلا عليهم : ) لقد تاب الله على النبي والمهاجرين ( إلى قوله ) وكونوا مع الصادقين ( وقلت : يا نبي الله إن من توبتي ألاّ أحدث الأصدقاء حتى أنخلع من مالي كلّه صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال : ( أمسك عليك بعض مالك فهو اخير لك ) ، قلت : فإني أمسك سهمي الذي من خيبر قال : فما أنعم الله عليَّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين صدقته أنا وصاحباي أن لا يكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وأني لأرجو أن لا يكون الله عزّ وجلّ أبلا أحداً في الصدق ( منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما ابتلاني والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا ) وأني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي ، هذا ما انتهى الينا من حديث الثلاثة الذين خلفوا .
) حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ( المفسرون : أي ضاقت عليهم الأرض برمّتها ) وضاقت عليهم أنفسهم ( ( ضاقت صدورهم بالهمّ والوحشة ) ) وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه ( سمعت الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري وإبراهيم بن محمد بن زيد النيسابوري وعبد الله ختن والي بلد العراق يقول : سُئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح قال : أن تضيق علينا بما رحبت ويضيق عليه نفسه كتوبة كعب وصاحبه ) ثم تاب عليهم ( إعادة تأكيد ليتوبوا فهذا بالتوبة منه .
سمعت أبا القاسم بن أبي بكر السدوسي ، سمعت أبا سعيد أحمد بن محمد بن رميح الزيدي ، سمعت الحسن بن علي الدامغاني يقول : قال أبو يزيد : غلطت في أربعة أشياء : في الإبتداء مع الله سبحانه ظننت أني أحبه فإذا هو أحبّني قال الله تعالى : ) يحبهم ويحبونه ( فظننت أني أرضى عنه فاذا هو رضي عني قال الله تعالى : ) رضى الله عنهم ورضوا عنه ( وظننت أني أذكره فإذا هو ذكرني قال الله تعالى : ) ولذكر الله أكبر ( وشئت أن أتوب فإذا هو تاب عليَّ قال الله تعالى : ) ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (
التوبة : ( 119 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( قال نافع : يعني مع محمد وأصحابه . سعيد بن جبير : مع أبي بكر وعمر ، ابن جريح وابن حبّان : مع المهاجرين دليله قوله تعالى : ) للفقراء المهاجرين ( إلى قوله ) أولئك هم الصادقون ( .
أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد الله . محمد بن عثمان بن الحسن . محمد بن الحسين
(5/108)

" صفحة رقم 109 "
ابن صالح . علي بن جعفر بن موسى . جندل بن والق . محمد بن عمر المازني . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( قال : مع عليّ بن أبي طالب وأصحابه .
وأخبرني عبد الله محمد بن عثمان . محمد بن الحسن . علي بن العباس المقانعي . جعفر ابن محمد ابن الحسين . أحمد بن صبيح الأسدي . مفضل بن صالح . عن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى ) وكونوا مع الصادقين ( قال : مع آل محمد ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
يمان بن رباب : أصدقوا كما صدق الثلاثة الذين خلفوا .
ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تبوك . بإخلاص ونيّة .
قتادة : يعني الصدق في النية وقال : أو الصدق في الليل والنهار والسرّ والعلانية ، وكان ابن مسعود يقول : ) كونوا مع الصادقين ( وكذا كان يقرأها ، وابن عباس ( ورضي عنه ) عن النبي ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
أخبرنا عبد الله بن حامد . عبد الله بن محمد بن الحسين . محمد بن يحيى ، وهب بن جرير عن شعيب بن عمرو بن زيد عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : إن الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئاً ثم لا ينجز شيئاً اقرأوا إن شئتم الآية ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( هل ترون في الكذب ( رخصة
التوبة : ( 120 - 121 ) ما كان لأهل . . . . .
) ما كان لأهل المدينة ( ظاهره خبر معناه نهي كقوله تعالى : ) ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ( ) ومن حولهم من الأعراب ( سكان البوادي مزينة وجهينة وأسجح وأسلم وغفار ) أن يتخلفوا عن رسول الله ( إذا غزا ) ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ( في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه .
قال الحسن : يعني لا يرغبون بأنفسهم أن تصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ذلك بأنهم لا يُصيبهم ( في سفرهم ) ظمأ ( عطش ، وقرأ عبد بن عمير ظمأ بالمدّ وهما لغتان مثل خطا وخطأ ) ولا نصب ( ولا تعب ) ولا مخمصة ( مجاعة ) في سبيل الله ولا يطئون موطئاً ( أرضاً ) يغيظ الكفار ( وطيهم إياها ) ولا ينالون من عدو نيلا ( ولا يصيبون من عدوهم شيئاً قتلا أو أسراً أو غنيمة أو عزيمة يقال : نلت الشيء فهو منيل ) إلاّ كُتب لهم به عملٌ صالح ( قال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة ) إن الله لا يضيع أجر المحسنين ( فإن أصابهم ظمأ سقاهم الله من نهر الحيوان ولا يصيبهم ظمأ بعد ، وإن أصابهم
(5/109)

" صفحة رقم 110 "
نصب أعطاهم الله العسل من نهر الحيوان ( ولا يصيبهم ) فيهم النصب ، ومن خرج في سبيل الله لم يضع قدماً ولا يداً ولا جنباً ولا أنفاً ولا ركبة ساجداً ولا راكعاً ولا ماشياً ولا نائماً في بقعة من بقاع الله إلاّ أذن الله له بالشهادة وبالشفاعة .
واختلفوا في حكم هذه الآية ، فقال قتادة : وهذه خاصة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه خلافه إذا لم يكن للمسلمين اليه ضرورة وحاجة . قال : وذكر لنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سريّة يغزو في سبيل الله لكني لا أجد سعة فانطلق بهم معي ويشق عليَّ أن أدعهم بعدي ) . .
وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : انها لأول هذه الأمة وآخرها .
وقال ابن زيد : هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء فقال : ) وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( الآية ) ولا ينفقون ( في سبيل الله ) نفقة صغيرة ولا كبيرة ( ولو علاقة سوط ) ولا يقطعون ( ولا يتجاوزون ) وادياً ( في مسيرهم مقبلين أو مدبرين ) إلاّ كُتب لهم ( يعني آثارهم وخطاهم ) ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ( لهم بالثواب ويدخلهم الجنة بغير حساب .
قال ابن عباس : أخبرنا أبو عمر الفراتي بقراءتي عليه أخبرنا أبو موسى أخبرنا مسدّد عن هارون ابن عبد الله الجمّال أخبرنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسين عن علي ابن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدّثون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ومن أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه وأنفق في وجه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ) ثم تلا هذه الآية ) والله يضاعف لمن يشاء ( .
2 ( ) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ياَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى
(5/110)

" صفحة رقم 111 "
كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 2
التوبة : ( 122 ) وما كان المؤمنون . . . . .
) وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( الآية قال ابن عباس في رواية الكلبي كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خرج غازياً لم يتخلف إلاّ المنافقون والمعذرون فلما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين ومن نفاقهم في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلّف عن غزوة بعدها يغزوها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا عن سرية أبداً .
فلما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالسرايا إلى الجهاد ونفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحده بالمدينة فأنزل الله تعالى : ) وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( يعني ليس لهم أن يخرجوا جميعاً إلى العدو ويتركوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحده .
) فلولا نفر ( فهلاّ خرج ) من كل فرقة ( قبيلة ) منهم طائفة ( جماعة ) ليتفقّهوا في الدين ( يعني الفرقة القاعدين فإذا رجعت السرايا وقد نزلت بعدهم قوله تعالى : ) القاعدون ( . قالوا لهم اذا رجعوا : قد أنزل الله على نبيكم بعدكم قرآناً وقد تعلمنا فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيّهم من بعدهم ويبعث سرايا أُخر فذلك ليتفقهوا في الدين ) ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ( وليعلمونهم الأمر ) لعلّهم يحذرون ( ولا يعملون خلافه .
وقال الحسن : هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة ومعنى الآية : ) ليتفقهوا في الدين ( أي ليتبصّروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد فيخبروهم بنصر الله النبي والمؤمنين ، ويخبرونهم أنهم لا يدان لهم بقتال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين ، لعلهم يحذرون قتال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار .
قال الكلبي : ولها وجه آخر : ذكر أن أحياءً من بني أسد بن خزيمة أصابتهم ( سنة شديدة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر فقدموا ) حتى نزلوا بالمدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال مجاهد : في أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا
(5/111)

" صفحة رقم 112 "
وخصباً ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى . قال الناس لهم : ما نراكم إلاّ وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرج وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى : ) وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ( ويستمعوا ما أنزل إليهم ) ولينذروا قومهم ( الناس كلهم ) إذا رجعوا إليهم ( ويدعوهم إلى الله ) لعلهم يحذرون ( بأس الله ونقمته باتباعهم وطاعتهم ، وقعدت طائفة تريد المغفرة .
وقال عكرمة : لما نزلت ) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما و ( ) ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ( الآية قال المنافقون من أهل البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرجوا إلى البدو إلى قومهم ليفقهوهم ، فأنزل الله تعالى في المعذر لأولئك هذه الآية .
وروى عن عبد الرزاق بن همام في قوله ) فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ( قال : هم أصحاب الحديث .
التوبة : ( 123 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ( أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب .
قال ابن عباس : مثل قريظة والنضير وخيبر وفدك ونحوها .
ابن عمر : أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ ، والشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق .
وكان الحسن إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية .
) وليجدوا فيكم غلظة ( شدة وحمية ، وقال الضحاك : جفاء ، وقال الحسن : صبراً على جهادهم ) واعلموا أن الله مع المتقين ( بالعون والنصر .
التوبة : ( 124 ) وإذا ما أنزلت . . . . .
) وإذا ما أنزلت سورة فمنكم من يقول أيّكم ( قراءة العامة : برفع الياء لمكان الهاء وقرأ عبيد بن عمير : أيكم بفتح الياء وكلّ صواب ) زادته هذه إيماناً ( قال الله تعالى : ) فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً ( يقيناً وإخلاصاً وتصديقاً .
وقال الربيع : خشية ) وهم يستبشرون ( يفرحون بنزول القرآن . عن الضحاك عن ابن عباس : ( فإذا ما أنزلت سورة ) يعني سورة محكمة فيها الحلال والحرام ) فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا زادتهم إيماناً ( وتصديقاً بالفرائض مع إيمانهم بالرحمن ) وهم
(5/112)

" صفحة رقم 113 "
يستبشرون ( بنزول الفرائض
التوبة : ( 125 ) وأما الذين في . . . . .
) وأما الذين في قلوبهم مرض ( شك ونفاق ) فزادتهم رجساً إلى رجسهم ( كفراً إلى كفرهم وضلالا إلى ضلالهم وشكاً إلى شكهم .
وقال مقاتل : إثماً إلى أثمهم ) وماتوا وهم كافرون ( قال مجاهد في هذه الآية : الإيمان يزيد وينقص ، وقال عمر بن الخطاب ( ح ) : لو وزن إيمان أبو بكر ( ح ) بإيمان أهل الأرض لرجحهم ، بلى إن الإيمان ليزيد وينقص ، قالها ثلاث مرات .
وروى زيد الشامي عن ذر قال : كان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول : تعالوا حتى نزداد إيماناً .
قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب كلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ملك الناس حتى يبيض القلب كله ، وأن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب فكلما إزداد النفاق إزداد ذلك السواد فيسود القلب كله . فأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود .
وكتب الحسن إلى عمر بن الخطاب ( ح ) : إن للإيمان تشاد شرائع وحدود وفرائض من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان .
وقال ابن المبارك عن الحسن : إلاّ قرابة بزيادة الإيمان أو أردّ كتاب الله تعالى .
التوبة : ( 126 ) أو لا يرون . . . . .
) أو لا يرون ( قرأ العامة بالياء خبراً عن المنافقين المذكورين ، وقرأ حمزة و يعقوب : أو لا ترون بالتاء على خطاب المؤمنين ، وهي قراءة أبي بن كعب . قرأ الأعمش : أو لم تر ، وقرأ طلحة : أو لا ترى وهي قراءة عبد الله بن عمر ) أنهم يُفتنون ( يختبرون ) في كل عام مرة أو مرتين ( قال : يكذبون كذبة أو كذبتين يصلون فيه ، وقال مجاهد : يفتنون بالقحط والغلاء ، عطية : بالأمراض والأوجاع وهي روائد الموت .
قتادة : بالغزو والجهاد ، وقيل : بالعدوّ ، وقيل : يفتنون فيعرفون مرة وينكرون بأخرى . مرّة الهمداني : يفتنون يكفرون . مقاتل بن حيان : يفضحون بإظهار نفاقهم . عكرمة : ينافقون ثم يؤمنون ثمّ ينافقون كما أنهم ينقضون عهدهم في سنة مرة أو مرتين ) ثم لا يتوبون ( من نقضهم ) ولا هم يذّكّرون ( ( بما صنع الله بهم ) وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا انقضوا عهودهم بعث إليهم السرايا فيقتلونهم . الحسن : يفتنون بالجهاد في سبيل الله مع رسوله ويرون تصديق ما وعده الله من النصر والظفر على من عاداه الله ثم لا يتوبون لما يرون من صدق موعد الله ، ولا يتّعظون ، الضحاك : يفتنون بالغلاء والبلاء ومنع القطر وذهاب الثمار ثم لا يرجعون عن نفاقهم ولا يتفكرون في عظمة الله ، وفي قراءة عبد الله : وما يذكرون
(5/113)

" صفحة رقم 114 "
التوبة : ( 127 ) وإذا ما أنزلت . . . . .
) وإذا ما أنزلت سورة ( فيها عيب المنافقين وتوبيخهم ) نظر بعضهم إلى بعض ( كلام مختصر تقديره نظر بعضهم في بعض وقالوا أو أشاروا ) هل يراكم من أحد ( إن قمتم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أحداً يراهم قاموا فانصرفوا ) ثم انصرفوا ( عن الإيمان بها ، وقال الضحاك : هل يراكم من أحد يعني أطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل قال الله ) صرف الله قلوبهم ( عن الإيمان بالقرآن ) بأنهم قوم لا يفقهون ( قال ابن عباس : لا تقولوا إذا صليتم : انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا فصرف الله قلوبهم ، لكن قولوا قضينا الصلاة .
التوبة : ( 128 ) لقد جاءكم رسول . . . . .
) لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( قراءة العامة بضم الفاء أي : من نسبكم تعرفون نسبه وحسبه وأي قبيلة من العرب من بني إسماعيل . قال ابن عباس : ليس في العرب قبيلة إلاّ وقد ولدت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مضريها وربيعها ويمانيها .
قال الصادق : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية .
أخبرنا عبد الله بن حامد ، حدثنا حامد بن محمد . علي بن عبد العزيز . محمد بن أبي هاشم حدّثني المدني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية وما ولدني إلاّ نكاح كنكاح الإسلام ) فإن الله تعالى جعله من أنفسهم ، فلا تحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة .
قرأ ابن عباس وابن ثعلبة : عبد الله بن فسيط المكي وابن محيصن والزهري ) من أنفسكم ( بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم من قولك : شيء نفيس إذا كان مرغوباً فيه . قال يمان : من أعلاكم نسباً ) عزيز ( شديد ) عليه ما عنتم ( ماصلة أي عنتكم وهو دخول المشقة والمضرّة عليكم . قال ابن عباس : ما ضللتم . قال الضحاك والكلبي : أثمتم ، وقال العتيبي : ما عنتكم وضرّ بكم ، وقال ابن الأنباري : ما هلكتم عليه ) حريص عليكم ( أي على إيمانكم وهداكم وصلاحكم ، وقال قتادة : حريص على ضالهم أن يهديه الله ، وقال الفراء : الحريص الشحيح أن تدخلوا النار .
) بالمؤمنين رؤوف ( رفيق ) رحيم ( قيل : رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين رؤوف بعباده رحيم بأوليائه . رؤوف بمن يراه رحيم بمن لم يره .
قال عبد العزيز بن يحيى : نظم الآية : ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص
(5/114)

" صفحة رقم 115 "
بالمؤمنين رحيم عليه ما عنتم لا يهمه إلاّ شأنكم وهو القائم بالشفاعة فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته فإنه لا يرضيه إلاّ دخولكم الجنة ( لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من ترك مالاً فلنؤتينه ومن ترك كلاًّ وديناً فعليّ وإليَّ ) .
التوبة : ( 129 ) فإن تولوا فقل . . . . .
) فإن تولّوا ( أعرضوا عن الإيمان وناصبوك ) فقل حسبي الله لا إله إلاّ هو عليه توكّلت وهو رب العرش العظيم ( قراءة العامة بخفض الميم على العرش ، وقرأ ابن محيصن : العظيم بالرفع على نعت الربّ ، وقال الحسين بن الفضل : لم يجمع اللههِلأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلاّ للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه قال : ) بالمؤمنين رؤوف رحيم ( وقال تعالى : ) ان الله بالناس لرؤوف رحيم ( .
وقال يحيى بن جعدة : قال عمر بن الخطاب ( ح ) : لا تثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاء رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة التوبة ) لقد جاءكم ( فقال عمر : والله لا أسألك عليها بيّنة ، كذلك كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأثبتهما ، وهي آخر آية نزلت من السماء في قول بعضهم ، وآخر سورة كاملة نزلت سورة براءة .
أخبرنا أبو عبد الله بن حامد ، عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن حجاج عن همام . عن قتادة قال : إن آخر القرآن عهداً بالسماء هاتان الآيتان خاتمة براءة ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( إلى قوله ) رب العرش العظيم ( .
أُبي بن كعب : إن أحدث القرآن عهداً بالله تعالى ) لقد جاءكم رسول ( إلى آخر السورة .
(5/115)

" صفحة رقم 116 "
( سورة يونس )
( عليه السلام )
مكية ، وهي عشرة آلاف وثمانمائة وتسع وثمانون حرفاً ، وألفان وخمسمائة كلمة غير واحدة ، ومائة وتسع آيات
حدثنا حامد بن أحمد وسعيد بن محمد ، ومحمد بن القاسم . قالوا : أخبرنا محمد بن مطر . إبراهيم بن شريك . أحمد بن يونس . سلام بن سليم . هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة يونس أُعطي من الأجر ومن الحسنات بعدد من صدّق بيونس وكذّب به ، وبعدد من غرق مع فرعون ) صدق رسول الله ) بسم الله الرحمن الرحيم ( .
) الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( 2
يونس : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . .
) الر ( قُرِئ بالتفخيم والإمالة وبين اللفظين ، وكلها لغات صحيحة فصيحة .
ابن عباس والضحاك : أنا الله أرى ، وقيل : أنا الرب لا رب غيري . عكرمة والأعمش والشعبي . الر وحم ون حروف الرحمن مقطعة . فاذا وصلت كان الرحمن . قتادة : اسم من أسماء القرآن . أبو روق : فاتحة السورة ، وقيل : عزائم الله ، وقيل : هو قسم كأنّه قال : والله إنّ ) تلك آيات الكتاب ( .
قال مجاهد وقتادة : أراد به التوراة والإنجيل والكتب المقدسة ، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث .
وقال الآخرون : أراد به القرآن وهو أولى بالصواب لأنه لم يخص الكتب المقدمة قبل ذكره
(5/116)

" صفحة رقم 117 "
ولأن الحكيم من بعث القرآن ، دليله قوله : ) الر كتاب أُحكمت آياته ( ونحوها فيكون على هذا التأويل تلك يعني هذه وقد مضى القول في هذه المسألة في أول سورة البقرة ) الحكيم ( المحكوم بالحلال والحرام والحدود والأحكام .
وقال مقاتل : المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف وهو فعيل بمعنى فاعل كقول الأعمش في قصيدته :
وعزيمة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
وقيل : هو الحاكم فعيل بمعنى فاعل بأنه قرأ : نزل فيهم الكتاب بالحق ) ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ( وقيل : بمعنى المحكوم فيه فعيل بمعنى المفعول .
قال الحسن : حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه .
وقال عطاء : حكيم بما حكم فيه من الأرزاق والآجال بما شاء .
يونس : ( 2 ) أكان للناس عجبا . . . . .
) أكان للناس عجباً ( الآية ، قال ابن عباس : لما بعث الله محمداً رسولاً أنكرت الكفار وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد فأنزل الله تعالى : ) أكان للناس ( أهل مكة والألف للتوبيخ ) عجباً ( ) أن أوحينا ( أن في محل الرفع وأوحينا صلة له تقديره أكان للناس عجباً لإيحائنا ) إلى رجل منهم ( محمد ، وفي حرف عبد الله : عجيبٌ ، بالرفع على اسم كان ، وأن في محل نصب على خبره ) أن أنذر الناس ( أن على محل نصب بقصد الخافض وكذلك الثانية .
) وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ( .
قال ابن عباس : أجراً حسناً بما قدموا من أعمالهم . قال الضحاك : ثواب صدق . مجاهد : الأعمال الصالحة ، علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : سبقت لهم السعادة في الذكر الأول . سلف صدق ، زيد بن أسلم : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) شفيع لهم . يمان : إيمانهم ، عطاء : مقام صدق لا زوال فيه ولا بؤس ، نعيم مقيم وخلود وخلود لا موت فيه ، الحسن : عمل صالح أسلفوه ( فأثابهم ) عليه ، الأعمش : سابقة صدق . أبو حاتم : منزل صدق نظيره ) وقل رب أدخلني مدخل صدق ( عبد العزيز بن يحيى : قدم صدق . قوله عزّ وجلّ : ) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ( . الزجاج : منزلة رفيعة ، وقيل : هو بعثهم وتقديم الله تعالى هذه الأمة في البعث يوم
(5/117)

" صفحة رقم 118 "
القيامة ، بيانه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، وقيل : عِدَة الله تعالى لهم ، والقدم : القدم كالنقص والقبض وأُضيف القدم إلى الصدق وهو ( علة ) كما قيل : مسجد الجامع ، وحقّ اليقين .
قال ابن الأعرابي : القدم المتقدم في الشرف .
قال العجاج :
زل بنو العوام عن آل الحكم
وتركوا الملك لملك ذي قدم
أي متقدم .
قال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم . يقال : لفلان قدم في الإسلام ، وله عندي قدم صدق ، وقدم سوء ، وهو مؤنث يقال : قدم حسنة وقدم صالحة . قال حسان بن ثابت :
لنا القدم العليا إليك وخلفنا
لأوّلنا في طاعة الله تابع
قال ذو الرمّة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها
مع الحسب العاديّ طمت على البحر
وقال آخر :
قعدت بهم قدم الفجار وذكرت
أنسابهم من فضة من مالق
أي ما يقدّم لهم من الفجّار .
) قال الكافرون ان هذا لساحر مبين ( قال المفسرون : القرآن ، وقرأ أهل الكوفة : لساحر يعني محمد ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
يونس : ( 3 ) إن ربكم الله . . . . .
) إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبّر الأمر ( قال مجاهد : يقضيه وحده ) ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ( أمره ) ذلكم الله ( الذي فعل هذه الأشياء ) ربكم ( لا ربّ لكم سواه ) فاعبدوه أفلا تذكرون }
يونس : ( 4 ) إليه مرجعكم جميعا . . . . .
) إليه مرجعكم ( معادكم ) جميعاً ( نصب على الحال ) وعد الله حقاً ( صدقاً لا خُلف فيه ، وهو نصب على المصدر ، أي وعد الله وعداً حقّاً فجاء به حقّاً ، وقيل : على القطع ، وقرأ ابن أبي عبلة : وعد الله حق على الاستئناف ، ثم قال : ) إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده ( أي يحميهم ابتداءً ثم يميتهم ثم يحييهم ، وقرأ العامة : إنّه
(5/118)

" صفحة رقم 119 "
( بكسر الألف على الاستئناف . وقرأ أبو جعفر : أنه ، بالفتح على معنى : لأنه وبأنه ، كقول الشاعر :
أحقاً عباد الله أن لست زائراً
بثينة أو يلقى الثريا رقيبها
) ليجزي ( ليثيب ) الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ( بالعدل ثم قال : مبتدئاً ) والذين كفروا لهم شراب ( ماء حار قد انتهى حرّه ) حميم ( وهو بمعنى محموم فعيل بمعنى مفعول ، وكل مسخن مُغلي عند العرب فهو حميم . قال المرقش :
وكل يوم لها مقطرة
فيها كباء معدّ وحميم
) وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (
.
) هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذاَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيواةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاَْنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الاَْرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( 2
يونس : ( 5 ) هو الذي جعل . . . . .
) هو الذي جعل الشمس ضياءً ( بالنهار ) والقمر نوراً ( بالليل . قال الكلبي : تضي وجوههما لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع .
( قرأ الأكثرون : ضياءً بهمزة واحدة ) وروي عن ابن كثير : ضياء بهمزت الياء ، ولا وجه لها
(5/119)

" صفحة رقم 120 "
لأن ياءه كانت واواً مفتوحة ، وهي عين الفعل أصله ضواء فسكنت وجعلت ياءً كما جعلت في الصيام والقيام ) وقدَّره منازل ( أي قدر له بمعنى هيأ له وسوى له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها .
وقيل : جعل قدر مما يتعدى لمفعولين ولم يقل قدرهما ، وقد ذكر الشمس والقمر وفيه وجهان : أحدهما أن يكون الهاء للقمر خاصة بالأهلة يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس ، والآخر أن يكون قد اكتفى بذكر أحدهما من الآخر ، كما قال : ) الله ورسوله أحق أن يرضوه ( وقد مضت هذه المسألة ) لتعلموا عدد السنين ( دخولها وانقضائها ) والحساب ( يعني وحساب الشهور والأيام والساعات ) ما خلق الله ذلك ( مثل ما في الفصل والخلق والتقدير ، ولولا ( وجود ) الأعيان المذكور لقال : تلك ) إلاّ بالحق ( لم يخلقه باطلا بل إظهاراً لصنعه ودلالة على قدرته وحكمته ، ولتجزى كل نفس بما كسبت فهذا الحق ) يفصّل الآيات ( يبيّنها ) لقوم يعلمون ( .
قال ابن كثير وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : ) يفصّل ( بالياء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله قبله ) ما خلق الله ( وبعده ) وما خلق الله ( فيكون متبعاً له ، وقرأ ابن السميقع بضم الياء وفتح الصاد ورفع التاء من الآيات على مجهول الفعل ، وقرأ الباقون بالنون على التعظيم .
يونس : ( 6 ) إن في اختلاف . . . . .
) إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون ( يوقنون فيعلمون ويقرّون .
قال ابن عباس : قال أهل مكة : آتينا بآية حتى نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية .
يونس : ( 7 ) إن الذين لا . . . . .
) إن الذين لا يرجون لقاءنا ( يعني لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا ، والرجاء يكون بمعنى الهلع والخوف ) ورضُوا بالحياة الدنيا ( فاختاروها داراً لهم ) واطمأنوا بها ( وسكنوا إليها .
قال قتادة في هذه الآية : إذا شئت رأيت صاحب دنيا لها يفرح ولها يحزن ولها يرضى ولها يسخط .
) والذين هم عن آياتنا ( أدلتنا ) غافلون ( لا يعتبرون . قال ابن عباس ) عن آياتنا ( محمد والقرآن غافلون معرضون تاركون مكذبون
يونس : ( 8 ) أولئك مأواهم النار . . . . .
) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ( من الكفر والتكذيب
يونس : ( 9 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربُّهم بإيمانهم ( فيه إضمار واختصار أي يهديهم ربهم بإيمانهم إلى مكان ) تجري من تحتهم الأنهار ( قال أبو روق : يهديهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة ، قال عطية : يهديهم ويثيبهم ويجزيهم ، وقيل ينجيهم
(5/120)

" صفحة رقم 121 "
مجاهد ومقاتل : يهديهم بالنور على الصراط إلى الجنة يجعل لهم نوراً يمشون به . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة ( حسنة وبشارة حسنة ) فيقول له . من أنت فو الله أني لأراك أمرء صدق ؟ فيقول له : أنا عملك ، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة ، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيقول : من أنت فوالله إني لأراك امرء سوء ؟ فيقول : أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار .
وقيل : معنى الآية : بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم تجري من تحتهم الأنهار لم يرد أنها تجري تحتهم وهم فوقها ، لأن أنهار الجنة تجري من غير أخاديد . وإنما معناه أنها تجري من دونهم وبين أيديهم وتحت أمرهم كقوله تعالى : ) قد جعل ربك تحتك سريّاً ( ومعلوم أنه لم يجعل السري تحتها وهي عليه قاعدة وإنما أراد به بين يديها ، وكقوله تعالى مخبراً عن فرعون : ) أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ( ، أو من دوني وتحت أمري ) في جنات النعيم }
يونس : ( 10 ) دعواهم فيها سبحانك . . . . .
) دعواهم ( قولهم وكلامهم ) فيها سبحانك اللهم ( .
قال طلحة بن عبد الله سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن سبحان الله ، فقال : هو تنزيه الله من كل سوء ، وسأل ابن الكوّا علياً عن ذلك فقال : كلمة رضيها الله لنفسه .
قال المفسرون : ( هذه نعمة علم بين له وعين الخدام في ) الطعام فإذا اشتهوا شيئاً من الطعام والشراب قالوا : سبحانك اللهم . فيأتوهم في الوقت بما يشتهون على مائدة ، فإذا فرغوا من الطعام والشراب حمدوا الله على ما أعطاهم فذلك قوله تعالى : ) وآخر دعواهم ( قولهم ) أن الحمد لله رب العالمين ( وما يريد آخر كلام يتكلّمون به ولكن أراد ما قبله .
قال الحسن : بلغني بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال حين قرأ هذه الآية : ( إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس ) . وذلك قوله تعالى : ) دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها ( في الجنة ) سلام ( يحيّي بعضهم بعضاً بالسلام وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام .
قال ابن كيسان : يفتحون كلامهم بالتوحيد ويختمون بالتحميد .
(5/121)

" صفحة رقم 122 "
وقرأ العامة : ) أن الحمد لله ( بالتخفيف والرفع ، وقرأ بلال بن أبي بردة وابن محيصن أنّ مثقلا الحمد نصباً .
يونس : ( 11 ) ولو يعجل الله . . . . .
) ولو يعجل الله للناس الشر ( فيه اختصار ومعناه : ) ولو يعجل الله للناس ( الآية ذهابهم في الشرك استعجالهم بالإجابة في الخير ) لقضي إليهم أجلهم ( أي لفرض من هلاكهم ولماتوا جميعاً . قال مجاهد : هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب : ( اللهم أهلكه ، اللهم لا تبارك له فيه والعنه ) يتخذها الرجل على نفسه وولده وأهله وماله بما يكره أن يُستجاب له .
شهر بن حوشب .
قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملكين الموكلين : لا تكتبا على عبدي في حال ضجره شيئاً .
وقرأ العامة : لقضي إليهم آجالهم برفع القاف واللام على خبر تسمية الفاعل ، وقرأ عوف وعيسى وابن عامر ويعقوب : بفتح القاف واللام ، وقرأ الأعمش : لقضينا ، وكذلك هو في مصحف عبد الله ، وقيل : أنها نزلت في النضر بن الحرث حين قال : ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ( الآية يدل عليه قوله تعالى : ) فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ( لا يخافون البعث والحساب ولا يأملون الثواب ) في طغيانهم يعمهون }
يونس : ( 12 ) وإذا مس الإنسان . . . . .
) وإذا مس ( أصاب ) الإنسان الضر ( الشدة والجهد ) دعانا لجنبه ( على جنبه مضطجعاً ) أو قاعداً أو قائماً ( فإنما يريد جميع حالاته لأن الإنسان لا يعدو أحد هذه الخلال ) فلما كشفنا ( رفعنا وفرجنا ) عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسّه ( أي استمر على طريقته الأولى ، قيل : أن يصيبه الضرّ ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء وترك الشكر والدعاء ، قال الأخفش : كأن لم يدعُنا وكأن لم يلبثوا وأمثالها ، كأن الثقيلة والشديدة كأنه لم يدعنا ) كذلك ( أي كما زيّن لهذا الإنسان الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء كذلك ) زُيّن للمسرفين ( الآية زين الجد في الكفر والمعصية ) ما كانوا يعملون ( من الكفر والمعصية والإسراف يكون في النفس ، وفي قراءة : ضيّع نفسه وجعلها عابد وثن وضيع ماله إذ جعله ( سائباً بلا خير ) ، ومعنى الكلام أسرفوا في عبادتهم وأسرفوا في نفقاتهم .
يونس : ( 13 ) ولقد أهلكنا القرون . . . . .
) ولقد أهلكنا القرون من قبلكم ( يعني الأمم الماضية . قال ابن عباس : بين القرنين ثمان وعشرون سنة .
) لما ظلموا ( أشركوا ) وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك ( أي كما أهلكناهم بكفرهم وتكذيبهم رسلهم ) نجزي ( نهلك ) القوم المجرمين ( المشركين تكذيبهم
(5/122)

" صفحة رقم 123 "
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يخوّف كفّار مكة عذاب الأمم الخالية المكذبة
يونس : ( 14 ) ثم جعلناكم خلائف . . . . .
) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ( أي من بعد القرون التي أهلكناهم ) لننظر ( لنرى ) كيف تعملون ( وهو أعلم بهم . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله استخلفكم فيها فانظر كيف تعملون ) .
قتادة : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب ( ح ) قال : صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلاّ لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيراً بالليل والنهار والسرّ والعلانية .
وروى ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر : رأيت فيما يرى النائم كأنّ شيئاً دُلّي من السماء فانتشط رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أُعيد فانتشط أبو بكر ( ح ) ثم ذرع الناس حول المنبر ففصّل عمر بثلاثة أذرع إلى المنبر ، فقال عمر : دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها ، فلما استخلف عمر قال : قل يا عوف رؤياك ، قال : هل لك في رؤياي من حاجة ؟ أو لم تنهوني ؟ فقال : ويحك إني كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه . فقصّ عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس المنبر بهذه الثلاثة الأذرع . قال : أما إحداهن فأنّه كائن خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم ، وأما الثالثة فإنّه شهيد ، ثم قال : يقول الله تعالى : ) ثم جعلناكم خلائف في الأرض ( إلى قوله ) لننظر كيف تعملون ( فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل ، وأما قوله : فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله ، وأما قوله : إني شهيد فأنّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به ، ثم قال : إن الله على ما يشاء لقدير .
( ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِىأَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِىإِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىإِلَىَّ إِنِّىأَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ( 2
يونس : ( 15 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ( قتادة : يعني مشركي مكة ، مقاتل : هم خمسة نفر : عبد الله بن أُمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري ، والعاص بن عامر بن هاشم . قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ائت بقرآن ( ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وليس فيه عنهما أي ) بدّله ( تكلم به من تلقاء نفسك .
(5/123)

" صفحة رقم 124 "
وقال الكلبي : نزلت في المستهزئين ، قالوا : يا محمد ائت بقرآن غيره ( ليس فيه ما يغيظنا ، أو بدّله ) فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة أو آية رحمة آية عذاب أو حرام حلالا أو حلال حراماً ) قل ( لهم يا محمد ) ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي ( من قبل نفسي ومن عندي ) إن أتبع ( ما أطيع فيما آمركم وأنهاكم ) إلاّ ما يُوحى إليَّ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }
يونس : ( 16 ) قل لو شاء . . . . .
) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم ( أعلمكم ) به ( وقرأ الحسن : ولا أدراتكم به ، وهي لغة بني عقيل يحولون الياء ألفاً فيقولون : أعطأت بمعنى أعطيت ، ولبأت بمعنى لبّيت وجاراة وناصاة للجارية والناصية . فأنشد المفضل :
لقد أذنت أهل اليمامة طيّ
بحرب كناصاة الأغر المشهر
وقال زيد الخيل :
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا
على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا
أي ما بقي ، وقال آخر :
زجرت فقلنا لا نريع لزاجر
إن الغويّ إذا نَها لم يعتب
أي نهى .
وروى البري عن ابن كثير ولادراكم بالقصر على الإيجاب يريد : ولا عملكم به من غير قراءتي عليكم . وقرأ ابن عباس : ولا أدراتكم من الإنذار ، وهي قراءة الحسن ) فقد لبثت فيكم عمراً ( حيناً وهو أربعون سنة ) من قبله ( من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء ) أفلا تعقلون ( انه ليس من قبلي .
قال ابن عباس : نبّيء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ابن أربعون سنة وأقام بمكة ثلاثة عشرة وبالمدينة عشرة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة
يونس : ( 17 ) فمن أظلم ممن . . . . .
) فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( فزعم أنه له شريكاً أو صاحبة أو ولداً ) أو كذب بآياته ( محمد والقرآن ) أنه لا يفلح المجرمون ( لا يأمن ولا ينجو المشركون
يونس : ( 18 ) ويعبدون من دون . . . . .
) ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ( إن عصوه ) ولا ينفعهم ( أن أطاعوه يعني الأصنام ) ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون ( تخبرون ) الله ( قرأه العامة : بالتشديد ، وقرأ أبو الشمال العدوي : أتُنبئون بالتخفيف وهما لغتان . نبأ ينبئ بنية ، وأنبأني إنباءً بمعنى فاعل جمعها
(5/124)

" صفحة رقم 125 "
قوله تعالى : ) قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ( ) بما لا يعلم ( بما لا يعلم الله تعالى صحته وحقيقته ولا يكون ) في السموات ولا في الأرض ( ومعنى الآية : أتخبرون الله أنّ له شريكاً أو عنده شفيعاً بغير إذنه ولا يعلم الله أنّ له شريكاً في السماوات ) ولا في الأرض ( لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه نظيره قوله عزّ وجلّ : ) أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ( .
ثم نزّه نفسه فقال : ) سبحانه وتعالى عما يشركون ( قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وأبو حمزة والكسائي وخلف : تشركون بالتاء هاهنا وفي سورة النحل والروم ، وهو اختيار أبي عبيد للمخاطبة التي قبلها ، وقرأ الباقون كلها بالياء ، واختارها أبو حاتم ، وقال : كذلك تعلمناها .
يونس : ( 19 ) وما كان الناس . . . . .
) وما كان الناس إلاّ أمة واحدة ( على ملة واحدة الإسلام دين آدم ( عليه السلام ) إلى أن قتل أحد ابني آدم أخاه فاختلفوا . قاله مجاهد والسدي .
قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا على عهد نوح فبعث الله إليهم نوحاً ، وقيل : كانوا أمة واحدة مجتمعة على التوحيد يوم الميثاق . وقيل : أهل سفينة نوح ، وقال أبو روق : كانوا أمة واحدة على ملّة الإسلام زمن نوح ( عليه السلام ) بعد الغرق ، وقال عطاء : كانوا على دين واحد الإسلام من لدن إبراهيم ( عليه السلام ) إلى أن غيّره عمرو بن يحيى ، عطاء : يدلّ على صحة هذه التأويلات قراءة عبد الله : ) وما كان الناس إلاّ أمة واحدة على هدى فاختلفوا عنه ( ، وقال الكلبي : وما كان الناس إلاّ أمة واحدة كافرة على عهد إبراهيم فاختلفوا فتفرقوا ، مؤمن وكافر .
) ولولا كلمة سبقت من ربك ( بأن جعل للدنيا مدة لكل أمة أجلا لا تتعدى ذلك ، قال أبو روق وقال الكلبي : هي أن الله أخّر هذه الأمة ولا يهلكهم بالعذاب في الدنيا ، وقيل : هي أنه لا يأخذ إلاّ بعد إقامة الحجة .
وقال الحسن ، ولولا كلمة سبقت من ربك مضت في حكمه أنه لا يقضي فيهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة .
) لقضي بينهم ( في الدنيا فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين في النار بكفرهم ولكنه سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة .
(5/125)

" صفحة رقم 126 "
وقال أبو روق : لقضي بينهم ، لأقام عليهم الساعة ، وقيل : الفزع من هلاكهم ، وقال عيسى ابن عمر : لقضى بينهم بالفتح لقوله : ) من ربك ( ) فيما فيه يختلفون ( من الذين
يونس : ( 20 ) ويقولون لولا أنزل . . . . .
) ويقولون ( يعني أهل مكة ) لولا أنزل عليه ( أي على محمد ) آية من ربه فقل ( لهم يا محمد ما سألتموني الغيب ) إنما الغيب لله ( ما يعلم أحدكم بفعل ذلك إلاّ هو ، وقيل : الغيب ، نزول الآية متى تنزل نزل ) فانتظروا ( نزول الآية ) إني معكم من المنتظرين ( لنزولها ، وقيل : فانتظروا قضاء الله بيننا بإظهار الحق على الباطل . وقال الحسن : فانتظروا مواعيد الشيطان وكانوا مع إبليس على موعد فيما يعدهم ويمنيهم أني معكم من المنتظرين . فأنجز الله وعده ونصر عبده .
2 ( ) وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِىءايَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاَْرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالاَْنْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الاَْرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاَْمْسِ كَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ يَدْعُوإِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 2
يونس : ( 21 ) وإذا أذقنا الناس . . . . .
) وإذا أذقنا الناس ( يعني الكفار ) رحمة من بعد ضراء مستهم ( أي راحة ورخاء بعد شدة وبلاء ، وقيل : عنى به القطر بعد القحط ) إذا لهم مكرٌ في آياتنا ( قال مجاهد : استهزاء وتكذيب . مقاتل بن حسان : لا يقولون هذا رزق الله فإنما يقولون : سقينا بنوء كذا وهو قوله : ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( ) قل الله أسرع مكراً ( أعجل عقوبة وأشد أخذاً وأقدر على الجزاء ، وقال مقاتل صنيعاً . ) إن رسلنا ( حفظتنا ) يكتبون ما تمكرون ( قرأ العامة بالتاء لقوله ، وقراءة الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب : يمكرون بالياء لقوله : ) إذا لهم ( وهي رواية هارون عن أبي عمرو .
يونس : ( 22 ) هو الذي يسيركم . . . . .
) هو الذي يسيّركم في البر والبحر ( يبحر بكم ويحملكم على التسيير ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر : ينشركم بالنون من النشر ، وهو ( البسط ) في البر على الظهر وفي البحر على الفلك
(5/126)

" صفحة رقم 127 "
) حتى إذا كنتم في الفلك ( أي في السفن يكون واحد أو جمعاً ، وقرأ عيسى الفلك بضم اللام .
) وجرين بهم ( يعني جرت السفن بالناس وهذا خطاب تكوين رجع من الخطاب إلى الخبر ) بريح طيبة وفرحوا بها ( أي الريح ) جاءتها ( يعني الفلك وهو جواب لقوله حتى إذا جاءتها ) ريح عاصف ( شديد يقال : عصفت الريح وأعصفت والريح ، مذكر ومؤنث ، وقيل : لم يقل : عاصفة لاختصاص الريح بالعصوف ، وقيل : للنسب أي ذات عصوف ) وجاءهم ( يعني سكان السفينة ) الموج ( وهو حركة الماء وأخلاطه ) من كل مكان وظنوا ( وأيقنوا ) أنهم أحيط بهم ( إذا أحاط بهم الهلاك ) دعوا الله ( هنالك ) مخلصين له الدين ( للدعاء دون أوثانهم وكان مفزعهم إلى الله دونها .
روى ( الثوري ) عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد في قوله تعالى : ) مخلصين له الدين ( قال : قالوا في دعائهم : أهيا شراهيا وتفسيره : يا حيُّ يا قيوم ) لئن أنجيتنا ( خلصتنا يا ربنا ) من هذه ( الريح العاصف ) لنكونن من الشاكرين ( لك بالإيمان والطاعة
يونس : ( 23 ) فلما أنجاهم إذا . . . . .
) فلما أنجاهم إذا هم يبغون ( يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله ) في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ( الآن وباله راجع إليها وجزاؤه لاحق ، وأتم الكلام هاهنا كقوله تعالى : ) لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار بلاغ ( أي هذا بلاغ وقيل هو كلام متصل ، والبغي ابتداء ومتاع خبره ، وقوله على أنفسكم صلة المتاع ومعناه ) إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ( ولا يصلح لزاد المعاد لأنّكم استوجبتم غضب الله .
وقرأ ابن اسحاق وحفص : متاعاً بالنصب على الحال ) ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون }
يونس : ( 24 ) إنما مثل الحياة . . . . .
) إنما مثل الحياة الدنيا ( في فنائها وزوالها ) كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس ( من الحبوب والبقول والثمار ) والأنعام ( من الحشيش والمراعي .
) حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ( حسنها وبهجتها ) وأزّيّنت ( هذا قراءة العامة ، وتصديقها قراءة عبد الله بن مسعود : وتزينت ، وقرأ أبو عثمان النهدي والضحاك : وأزّانت على وزن اجّازت قال عوف بن أبي جميلة : كان أشياخنا يقرأونها كذلك وازيانت نحو اسوادّت ، وقرأ أبو رجاء وأبو العالية والشعبي والحسن والأعرج : وأزينت على وزن أفعلت مقطوعة الألف ( بالتخفيف ) ، قال قطرب : معناه : أتت بالزينة عليها ، كقولهم : أحبّ فأذمّ واذكرت المرأة فأنثت ) وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها ( أخبر عن الأرض ويعني للنبات إذ كان مفهوماً وقيل : ردّه إلى الغلّة وقيل : إلى الزينة ) أتاها أمرنا ( قضاؤنا بهلاكها ) ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً ( مقطوعة
(5/127)

" صفحة رقم 128 "
مقلوعة وهي محصورة صرفت إلى حصيد ) كأن لم تغن ( تكن ، وأصلة من غني المكان إذا أقام فيه وعمّره ، وقال مقاتل : تغم ، وقرأها العامة : تغن بالتاء لتأنيث الأرض ، وقرأها قتادة بالياء يذهب به إلى الزخرف ) كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون }
يونس : ( 25 ) والله يدعو إلى . . . . .
) والله يدعوا إلى دار السلام ( قال قتادة : السلام الله وداره الجنة ، وقيل : السلام والسلامة واحد كاللذاذ واللذاذة والرضاع والرضاعة . قال الشاعر :
تُحيّى بالسلامة أم بكر
وهل لك بعد رهطك من سلام
فسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات . قال الله تعالى : ) ادخلوها بسلام آمنين ( ، وقال ذو النون المصري : سميت بذلك لأن من دخلها سلم من القطيعة والفراق ، وقيل : أراد به التحية يقال : سلم تسليماً وسلاماً كما يقال : كلم تكليماً وكلاماً فسميت الجنة دار السلام لأن أهلها يحيي بعضهم بعضاً والملائكة يسلمون عليهم ، وقال الحسن : السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم .
وقال أبو بكر الوراق : سميت بذلك لأن من دخلها سلم عليه المولى وذلك أن الله يعلم ما فيه أهل الجنة من ذكر الذنوب والهيبة لعلاّم الغيوب فيبدأهم بالسلام والتحية لهم تقريباً وإيناساً وترحيباً .
قال جابر بن عبد الله خرج علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً فقال : ( إني رأيت في المنام كأن جبرائيل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا فقال : اسمع سمعت اذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعوهم إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه ، فالله هو الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول ، من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها ) .
قال يحيى بن معاذ : يا ابن آدم دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه فإن أجبته من دنياك دخلتها وإن أجبته من قبرك منعتها ثم قال : ) ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( عمّ بالدعوة إظهاراً لحجته وخصّ بالهداية استغناءً عن خلقه ، وقيل : الدعوة إلى الدار عامة لأنها الطريق إلى النعمة وهداية الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم .
(5/128)

" صفحة رقم 129 "
2 ( ) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاَْبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الاَْمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِىإِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِىإِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّىإِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 2
يونس : ( 26 ) للذين أحسنوا الحسنى . . . . .
) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ( أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بن يعقوب الفقيه في آخرين قالوا : حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار . الحسين بن عرفة العبدي حدثني سلم بن سالم البلخي عن نوح عن أُبيّ عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الآية ) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ( فقال : ( الذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنّة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ) .
وهو قول أبي بكر الصديق ( ح ) وحذيفة وأبي موسى وصهيب وعبادة بن الصامت وكعب ابن عجرة وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن سابط والحسن وعكرمة وأبي الجوزاء والضحاك والسدي وعطاء ومقاتل ، يدلّ عليه :
ما أخبرنا أبو إسحاق بن الفضل القهندري أخبرنا أبو علي الصفار . الحسن بن عرفة . يزيد ابن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال : قال : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً لم تروه ، قال : فيقولون وما هو ؟ ألم تبيّض وجوهنا وتزحزحنا عن النار وتدخلنا الجنة . قال : فيكشف الحجاب تبارك وتعالى فينظرون إليه قال : فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم منه .
(5/129)

" صفحة رقم 130 "
قال ابن عباس : الذين أحسنوا الحسنى يعني الذين شهدوا أن لا إله إلاّ الله الجنة .
وروى عطية عنه هي أن واحدة من الحسنات واحدة والزيادة التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف .
وروى جويبر عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط قال : الحسنى : النظرة ، والزيادة : النظر . قال الله تعالى : ) وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( .
وروى الحكم عن علي بن أبي طالب ( ح ) قال : الزيادة غرفة من لؤلؤ واحدة لها أربعة ألف باب . مجاهد : الحسنى : حسنة مثل حسنة والزيادة مغفرة من الله ورضوان ، ابن زيد : الحسنى : الجنة والزيادة ما أعطاهم في الدعاء لا يحاسبهم به يوم القيامة .
حكى منصور بن عمار عن يزيد بن شجرة قال : الزيادة : هي أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر ، وتقول لهم : ما تريدون ان أُمطركم ؟ فلا يريدون شيئاً إلاّ مطرتهم . ) ولا يرهق ( يغشى ويلحق ) وجوههم قتر ( غبار وهو جمع قترة . قال الشاعر :
متوج برداء الملك يتبعه
موج ترى فوقه الرايات والقترا
وقال ابن عباس وقتادة : سواد الوجوه ، وقرأ الحسن : قتر بسكون التاء وهما لغتان كالقدْر والقدَر ) ولا ذلة ( هوان ، وقال قتادة : كآبة وكسوف . قال ابن أبي ليلى : هذا بعد نظرهم إلى ربهم ) أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }
يونس : ( 27 ) والذين كسبوا السيئات . . . . .
) والذين كسبوا السيئات جزاءُ سيئة بمثلها ( يجوز أن يكون الجزاء مرفوعاً بإضمار أي : لهم جزاء ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بالياء ، فيجوز أن يكون إبتداء وخبره بمثلها أي : مثلها بزيادة الباء فيها كقولهم : بحسبك قول السوء .
) وترهقهم ذلة ما لهم من الله ( من عذاب الله ) من عاصم ( أي من مانع ، ومن صلة ) كأنما أُغشيت ( أُلبست ) وجوههم قِطعاً ( أكثر القراء على فتح الطاء وهو جمع قطعة ويكون ( مظلماً ) على هذه القراءة نصباً على الحال والقطع دون النعت كأنه أراد قطع من الليل المظلم فلما حذف الألف واللام نصب . يجوز أن يكون مظلماً صفة لقطع وسط الكلام كقول الشاعر :
لو أن مدحة حي منشر أحداً
وقرأ أبو جعفر والكسائي وابن كثير ) قطعاً ( بإسكان الطاء وتكون ) مظلماً ( على هذا نعت كقوله : بقطع من الليل ، إعتباراً بقراءة أُبيّ : كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم ) أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
يونس : ( 28 ) ويوم نحشرهم جميعا . . . . .
) ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا
(5/130)

" صفحة رقم 131 "
مكانكم ( اثبتوا وقِفوا في موضعكم ولا تبرحوا ) أنتم وشركاؤكم ( يعني الأوثان ) فزيّلنا ( ميّزنا وفرقنا بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا بذلك حين ( اتخذوا ) كل معبود من دون الله من خلقه ) وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون ( يقولون بلى كنا نعبدكم فيقول الأصنام :
يونس : ( 29 ) فكفى بالله شهيدا . . . . .
) فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم ( أي ما كنا عن عبادتكم إيّانا إلاّ غافلين ، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل .
يونس : ( 30 ) هنالك تبلو كل . . . . .
قال الله تعالى : ) هنالك تبلوا ( أي تخبر وقيل : تعلم ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى وحمزة والكسائي ( تبلوا ) بالتاء ، وهي قراءة ابن مسعود في معنى : وتقرأ .
) كل نفس ما أسلفت ( صحيفتها ، وقيل : معناه تتبع ما قدمت من خير وشرّ ، وقال ابن زيد ( تعاون ) ) وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل ( ( بطل ) ) عنهم ما كانوا يفترون ( ( من الآلهة
يونس : ( 31 ) قل من يرزقكم . . . . .
) قل من يرزقكم من السماء ( المطر ) والأرض ( النبات ) أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله ( الذي فعل هذه الأشياء ) فقل أفلا تتقون ( أفلا تخافون عقابه في شرككم
يونس : ( 32 ) فذلكم الله ربكم . . . . .
) فذلكم الله ( الذي يفعل هذه الأشياء ) ربكم الحق فماذا بعد الحق إلاّ الضلال فأنى تصرفون ( فمن أين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرّون
يونس : ( 33 ) كذلك حقت كلمة . . . . .
) كذلك ( فسرها الكلبي هكذا في جميع القرآن ) حقت ( وجبت ) كلمة ربك ( حكمه وعلمه السابق .
وقرأ الأعرج : كلمات ) على الذين فسقوا ( كفروا ) أنهم لا يؤمنون }
يونس : ( 34 ) قل هل من . . . . .
) قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ( ينشىء من غير أصل ولا ( مثال ) ) ثم يعيده ( يحييه بهيئته بعد الموت ( أي قل لهم يا محمد ذلك على وجهة التوبيخ والتقرير ) فإن أجابوك وإلاّ ) قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون ( تصرفون عن قصد السبيل
يونس : ( 35 ) قل هل من . . . . .
) قل هل من شركائكم ( أوثانكم ) من يهدي ( يرشد ) إلى الحق ( فإذا قالوا : لا ، فلابدّ لهم منه ) قل الله يهدي للحق ( أي إلى الحق ) أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتّبع أمن لا يهِدِي ( .
اختلف القراء فيه ، فقرأ أهل المدينة : مجزومة الهاء مشدّدة الدال لأن أصله يهتدي فأُدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على ( السكون ) في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله : ( تعدّوا وتخصّمون ) .
وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الهاء وتشديد الدال وقلبت الياء المدغمة إلى الهاء ، فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ عاصم وورش بكسر الهاء وتشديد الدال فراراً من إلتقاء الساكنين . ( لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته ) تحول إلى الكسر . قال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر
(5/131)

" صفحة رقم 132 "
وروى يحيى ابن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الهاء والياء وتشديد الدال ( لإتباع ) الكسر الكسر وقيل : هو على لغة من يقرأ نعبد ونستعين ولن تمسّنا النار ونحوها ، وقرأ أبو عمرو بين الفتح والجزم على مذهبه في الإخفاء ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف : بجزم الهاء وتخفيف الدال على معنى يهتدي ، يقال : هديته فهدى أي اهتدى فقال : خبرته فخبر ونقصته فنقص .
) إلاّ أن يُهدى ( في معنى الآية وجهان : فصرفها قوم إلى الرؤساء والمظلين . أراد لا يرشدون إلاّ أن يرشدوا وحملها الآخرون على الأصنام ، قالوا : وجه الكلام والمعنى لا يمشي إلاّ أن يحمل وينتقل عن مكانه إلاّ أن ينقل كقول الشاعر :
للفتى عقل يعيش به
حيث تهدي ساقه قدمه
يريد حيث يحمل ) فما لكم كيف تحكمون ( تقضون لأنفسكم
يونس : ( 36 ) وما يتبع أكثرهم . . . . .
) وما يتبع أكثرهم إلاّ ظنّاً ( منهم إنها آلهة وأنها تشفع لهم في الآخرة وأراد بالأكثر الكل ) إنّ الظنّ لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون ( .
2 ( ) وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنْتُمْ بِهِ ءَآلئْنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّىإِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 2
(5/132)

" صفحة رقم 133 "
يونس : ( 37 ) وما كان هذا . . . . .
) وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ( قال الفراء : معناه وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله تعالى : ) وما كان لنبي أن يغل ( وقوله : ) وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( ، وقال الكسائي : أن في محل نصب الخبر ويفترى صلة له وتقديره : وما كان هذا القرآن مفترى ، وقيل : أن بمعنى اللام أي وما كان القرآن ليفترى من دون الله ) ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب ( تمييز الحلال من الحرام والحق من الباطل ) لا ريب فيه من رب العالمين }
يونس : ( 38 ) أم يقولون افتراه . . . . .
) أم يقولون ( أي يقولون .
قال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه ، اختلق محمّد القرآن من قبل نفسه .
) قل فأْتوا بسورة مثله ( شبيه القرآن وقرأ ابن السميقع : بسورة مثله مضافة ، فتحتمل أن تكون الهاء كناية عن القرآن وعن الرسول ) وادعوا من استطعتم ( ممن تعبدون ) من دون الله ( ليعينوكم على ذلك ، وقال ابن كيسان : وادعوا من استطعتم على المخالفة ليعينوكم ، وقال مجاهد : شهداءكم بمعنى ناساً يشهدون لكم ) إن كنتم صادقين ( إنَّ محمداً افتراه .
يونس : ( 39 ) بل كذبوا بما . . . . .
ثم قال : ) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ( يعني القرآن ) ولما يأتِهم تأويله ( تفسيره .
وقال الضحاك : يعني عاقبته وما وعد الله في القرآن انه كائن من الوعيد والتأويل ما يؤول إليه الأمر .
وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد في القرآن ( من جهل شيئاً عاداه ؟ ) فقال : نعم في موضعين ) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ( ، وقوله : ) وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ( ) كذلك كذّب الذين من قبلهم ( من كفار الأمم الخالية ) فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( أي كما كذب هؤلاء المشركون بالقرآن كذلك كذب في هذا وبشّر المشركون بالهلاك والعذاب
يونس : ( 40 ) ومنهم من يؤمن . . . . .
) ومنهم من يؤمن به ( أي ومن قومك من سيؤمن بالقرآن ) ومنهم من لا يؤمن به ( لعلم الله السابق فيهم ) وربك أعلم بالمفسدين ( الذين لا يؤمنون
يونس : ( 41 ) وإن كذبوك فقل . . . . .
) وإن كذبوك ( يامحمد ) فقل لي عملي ( الإيمان ) ولكم عملكم ( الشرك ) أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ( .
قال مقاتل والكلبي : هذه الآية منسوخة بآية الجهاد ، ثم أخبر أن التوفيق للإيمان به لا بغيره ، وأن أحداً لا يؤمن إلاّ بتوفيقه وهدايته ، وذكر أن الكفار يستمعون القرآن وقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فينظرون إليه ويرون أعلامه وأدلته على نبوته ولا ينفعهم ذلك ولا يهتدون لإرادة الله وعلمه فيهم فقال :
يونس : ( 42 ) ومنهم من يستمعون . . . . .
) ومنهم من يستمعون إليك ( بأسماعهم الظاهرة ) أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون }
(5/133)

" صفحة رقم 134 "
يونس : ( 43 ) ومنهم من ينظر . . . . .
) ومنهم من ينظر إليك ( بأبصارهم الظاهرة ) أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ( وهذا تسلية من الله تعالى لنبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ما لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع ، ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصراً يهتدي به فكذلك لا تقدر أن توفقهم للإيمان وقد حكمت عليهم أن لا يؤمنوا
يونس : ( 44 ) إن الله لا . . . . .
) أنّ الله لا يظلم الناس شيئاً ( لأنه في جميع أفعاله عادل .
) ولكن الناس أنفسهم يظلمون ( بالكفر والمعصية وفعلهم ما ليس لهم أن يفعلوا ( وألزمهم ) ما ليس للفاعل أن يفعله .
يونس : ( 45 ) ويوم يحشرهم كأن . . . . .
) ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا ( قال الضحاك : كأن لم يلبثوا في الدنيا ) إلاّ ساعة من النهار ( قصرت الدنيا في أعينهم من هول ما استقبلوا ، وقال ابن عباس : كأن لم يلبثوا في قبورهم إلاّ قدر ساعة من النهار ) يتعارفون بينهم ( حين بعثوا من القبور يعرف بعضهم بعضاً كمعرفتهم في الدنيا ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة ) قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين (
يونس : ( 46 ) وإما نرينك بعض . . . . .
) وإما نرينك ( يا محمد في حياتك ) بعض الذي نعدهم ( من العذاب ) أو نتوفينك ( قبل ذلك ) فإلينا مرجعهم ( في الآخرة ) ثم الله شهيد على ما يفعلون ( مجزيهم به .
قال المفسرون : فكان البعض الذي أراهُ قبلهم ببدر وسائر العذاب بعد موتهم
يونس : ( 47 ) ولكل أمة رسول . . . . .
) ولكل أمة ( خلت ) رسول فإذا جاء رسولهم ( فكذبوه ) قُضي بينهم بالقسط ( أي عذبوا في الدنيا واهلكوا بالحق والعدل .
وقال مجاهد ومقاتل : فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضى بينه وبينهم بالقسط ) وهم لا يظلمون ( لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقصون من حسناتهم ويزادوا على سيئاتهم
يونس : ( 48 ) ويقولون متى هذا . . . . .
) ويقولون ( أي المشركون ) متى هذا الوعد ( الذي وعدتنا يا محمد من العذاب .
وقيل : قيام الساعة ) إن كنتم ( أنت يا محمد وأتباعك ) صادقين (
يونس : ( 49 ) قل لا أملك . . . . .
) قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً ( لا أقدر لها على ضرّ ولا نفع ) إلاّ ما شاء الله ( أن أملكه ) لكل أمة أجل ( مدة ( وأجل ) ) إذا جاء أجلهم ( وقت ( انتهاء ) أعمارهم ) فلا يستأخرون ( يتأخرون ساعة ) ولا يستقدمون (
يونس : ( 50 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) قل ( لهم ) إن أتاكم عذابه ( الله ) بياتاً ( ليلا ) أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون ( المشركون وقد وقعوا فيه
يونس : ( 51 ) أثم إذا ما . . . . .
) أثُمّ ( هنالك وحينئذ ، وليس بحرف عطف ) إذا ما وقع ( نزل العذاب ) آمنتم به ( صدقتم بالعذاب في وقت نزوله .
وقيل : بأنه في وقت البأس ) آلآن ( فيه إضمار أي ، وقيل : أنّهم الآن يؤمنون ) وقد كنتم به تستعجلون ( وتكذبون
يونس : ( 52 ) ثم قيل للذين . . . . .
) ثم قيل للذين ظلموا ( أشركوا ) ذوقوا عذاب الخلد هل تُجزون ( اليوم ) إلاّ بما كنتم تكسبون ( في الدنيا .
2 ( ) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاَْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُم
(5/134)

" صفحة رقم 135 "
ْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَلاإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ياَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذاَلِكَ وَلاأَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( 2
يونس : ( 53 ) ويستنبئونك أحق هو . . . . .
) ويستنبئونك ( ويستخبرونك يا محمد ) أحق هو ( ما تعدنا من العذاب وقيام الساعة ) قل إي ( كلمة تحقيق ) وربي إنه لحق ( لا شك فيه ) وما أنتم بمعجزين ( فأتيقن
يونس : ( 54 ) ولو أن لكل . . . . .
) ولو أنّ لكل نفس ما ظلمت ( أشركت ) ما في الأرض لافتدت به ( يوم القيامة ) وأسروا ( وأخفوا ) الندامة ( على كفرهم ) لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط ( وفرغ من عذابهم ) وهم لا يظلمون }
يونس : ( 55 - 57 ) ألا إن لله . . . . .
) ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا إن وعد الله حق ( إلى قوله ) قد جاءتكم موعظة ( تذكرة ) من ربكم وشفاء ( ودواء ) لما في الصدور ( إلى قوله تعالى :
يونس : ( 58 ) قل بفضل الله . . . . .
) قل بفضل الله وبرحمته ( .
قال أبو سعيد الخدري : فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله .
وقال ابن عمر : فضل الله الإسلام وبرحمته تزيينه في القلب .
خالد بن معدان : فضل الله الإسلام وبرحمته السنّة .
الكسائي : فضل الله النعم الظاهرة ، ورحمته النعم الباطنة . بيانه : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة .
أبو بكر الوراق : فضل الله النعماء وهو ما أعطى وجنى ورحمته الآلاء وهي ما صرف .
وروى ابن عيينة فضل الله التوفيق ورحمته العصمة .
سهل بن عبد الله : فضل الله الإسلام ورحمته السنّة .
الحسين بن الفضل : فضل الله الإيمان ورحمته الجنة .
ذو النون المصري : فضل الله دخول الجنان ورحمته النجاة من النيران .
عمر بن عثمان الصدفي : فضل الله كشف الغطاء ورحمته الرؤية واللقاء .
وقال هلال بن يساف ومجاهد وقتادة : فضل الله الإيمان ورحمته القرآن ) فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ( من الأموال قرأ العامة كلاهما بالياء على الخبر ، وقرأهما أبو جعفر
(5/135)

" صفحة رقم 136 "
بالتاء وذكر ذلك عن أبي بن كعب ، وقرأ الحسين ويعقوب : فلتفرحوا بالتاء خطاباً للمؤمنين يدل عليه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض مغازيه ( لتأخذوا ( مصافكم ) ويجمعون ) بالياء خبراً عن الكافرين
يونس : ( 59 ) قل أرأيتم ما . . . . .
) قل ( يا محمد لكفار مكة ) أرأيتم ما أنزل الله ( خلق الله ) لكم ( عبّر عن الخلق بالإنزال لأن ما في الأرض من خيراتها أنزل من السماء ) من رزق ( زرع أو ضرع ) فجعلتم منه حراماً وحلالا ( وهو ما حرموا من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي .
قال الضحاك : هو قوله تعالى : ) وجعلوا مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ( الآية ) قل آلله أذن لكم ( في هذا التحريم والتحليل ) أم ( بل ) على الله تفترون ( وهو قولهم : الله أمرنا بها
يونس : ( 60 ) وما ظن الذين . . . . .
) وما ظنُّ الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ( أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم ولا يعاتبهم عليه ) إن الله لذو فضل على الناس ( منّ على الناس حين لا يعجل عليهم بالعذاب بافترائهم ) ولكن أكثرهم لا يشكرون }
يونس : ( 61 ) وما تكون في . . . . .
) وما تكون في شأن ( عمل من الأعمال ، وجمعه : شؤون ، قال الأخفش : يقول العرب ما شأنك شأنه ، أي لمّا عملت على عمل ) وما تتلوا منه ( من الله ) من القرآن ( ثم خاطبه وأمته جميعاً فقال : ) ولا تعملون من عمل إلاّ كنا عليكم شهوداً إذ تُفيضون فيه ( أي تأخذون وتدخلون فيه ، والهاء عائدة على العمل ، يقال : أفاض فلان في الحديث وفي القول إذا أبدع فيه .
قال الراعي :
وأفضن بعد كظومهن بجرة
من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا
قال ابن عباس : تفيضون تفعلون ، الحسن : تعملون ، الأخفش : تكلمون ، المؤرّخ : تكثرون ، ابن زيد : تخرصون . ابن كيسان : تنشرون . يقال : حديث مستفيض ، وقيل : تسعون .
وقال الضحاك : الهاء عائدة إلى القرآن أي تستمعون في القرآن من الكذب . قيل : من شهد شهود الحق قطعاً ذلك عن مشاهدة الأغيار أجمع ) وما يعزُب عن ربك ( قال ابن عباس : فلا يغيب ، أبو روق : يبعد ، وقال ابن كيسان يذهب .
وقرأ يحيى والأعمش والكسائي : يعزب بكسر الزاء وقرأ الباقون : بالضم وهما لغتان ( صحيحتان ) ) من مثقال ( من صلة معناه وما يعزب عن ربك مثقال ذرة أو وزن ذرة ( وهي النملة الحمراء الصغيرة ) ، يقول العرب : ( خذ ) هذا ، فإنهما أثقل مثقالا وأخفها مثقالا أي وزناً ) في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ( قرأ الحسن وابن أبي يحيى وحمزة برفع
(5/136)

" صفحة رقم 137 "
الراء فيهما عطفاً على موضع المثقال فبرّر دخول من ، وقرأ الباقون بفتح الراء عطفاً على الذرة ولا مثقال أصغر وأكبر ) إلاّ في كتاب مبين ( بمعنى اللوح المحفوظ .
( ) أَلاإِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاَْخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلاإِنَّ للَّهِ مَن فِى السَّمَاوَات وَمَنْ فِى الاَْرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَات وَمَا فِى الاَْرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَاذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( 2
يونس : ( 62 - 64 ) ألا إن أولياء . . . . .
) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ثم وصفهم فقال ) الذين آمنوا وكانوا يتقون ( قال ابن زيد : فلن يقبل الإيمان إلاّ بالتقوى ، واختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم .
فروى سعيد بن جبير عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه سئل عن أولياء الله تعالى فقال : ( هم الذين يذكر الله لرؤيتهم ) .
وقال عمر ( ح ) في هذه الآية : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : إن من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بإيمانهم عند الله تعالى ، قالوا : يا رسول الله خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبّهم ؟ قال : هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام منهم ولا أموال يتعاطونها ، والله ان وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( .
قال علي بن أبي طالب ( ح ) : أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر ( عُمش ) العيون من العبر خمص البطون من الخواء يبس الشفاه من الذوي .
(5/137)

" صفحة رقم 138 "
وقال ابن كيسان : ( هم الذين ) تولى الله هداهم بالبرهان الذي أتاهم وتولّوا القيام بحقّه والدعاء إليه . ) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( .
عن عبادة بن الصامت قال : سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قول الله عزّ وجلّ : ) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( . قال : ( هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ) .
وعن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سئل عن هذه الآية ) لهم البشرى ( قال : لقد سألت عن ( شيء ) ما سمعت أحداً سأل عنه بعد أن سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما سألني عنها أحد قبلك منذ نزل الوحي ، هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وفي الآخرة الجنة ) .
وعن يمان بن عبيد الراسبي قال : حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا نبوة بعدي إلاّ المبشرات ) .
قيل : يا رسول الله وما المبشرات ؟ . قال : ( الرؤيا الصالحة ) .
محمد بن سيرين عن أبي هريرة ( ح ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً قال : والرؤيا ثلاثة : فرؤيا بشرى من الله ورؤيا من الشيء يحدث الرجل به نفسه ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة . فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يقصّه فليقم وليصل ، قال : وأحبّ القيد في النوم وأكره الغل ، القيد ثبات في الدين ) .
وقال عبادة بن الصامت : قلت : يا رسول الله الرجل يحبّه القوم لعمله ولا يعمل مثل عمله .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( تلك عاجل بشرى المؤمن ) .
وقال الزهري وقتادة : هي البشارة التي يبشر بها المؤمن بالدنيا عند الموت ، وقال الضحاك : هي أن المؤمن يعلم أين هو قبل أن يموت ، وقال الحسن : هي ما بشرهم الله به في كتابه ، جنته وكرم ثوابه لقوله تعالى : ) وبشر الذين آمنوا ( ) وبشرالمؤمنين ( ) وأبشروا بالجنة ( .
(5/138)

" صفحة رقم 139 "
وقال عطاء : لهم البشرى في الحياة الدنيا عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة والبشارة من الله وتأتي أعداء الله بالغلظة والفظاظة في الآخرة ساعة خروج نفس المؤمن تعرج بها إلى الله كما تزف العروس تبشر برضوان من الله ، قال الله تعالى : ) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ( الآية قال ابن كيسان : هي ما بشرهم الله في الدنيا بالكتاب والرسول بأنّهم أولياء الله وتبشرهم في قبورهم وفي كتابهم الذي فيه أعمالهم بالجنة .
وسمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الجوزقي يقول : رأيت أبا أحمد الحافظ في المنام راكباً برذوناً وعليه طيلسان وعمامة فسلمت عليه وسلم عليَّ فقلت له : أيها الحاكم نحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك ، فعطف عليَّ وقال لي : ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك ، قال الله تعالى : ) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( الثناء الحسن ، وأشار بيده ) لا تبديل لكلمات الله ( لا تغيير لقوله ولا خلف لوعده .
روى ابن عليَّة عن أيوب عن نافع . قال : أطال الحجاج الخطبة فوضع ابن عمر رأسه في حجري . فقال الحجاج : إن ابن الزبير بدّل كتاب الله ، فقعد ابن عمر فقال : لا تستطيع أنت ذلك ولا ابن الزبير . ) لا تبديل لكلمات الله ( . فقال الحجاج : لقد رأيت حلماً وسكت ( لقد أُوتيت علماً أن تفعل ، قال أيوب : فلما أقبل عليه في خاصة نفسه سكت ) .
) ذلك هو الفوز العظيم (
يونس : ( 65 ) ولا يحزنك قولهم . . . . .
) ولا يحزنك قولهم ( يعني قول المشركين ، تمّ الكلام ها هنا .
ثم قال مبتدئاً : ) إنَّ العزّة ( القدرة ) لله جميعاً ( وهو المنتقم منهم . قال سعيد بن المسيب : أنَّ العزة لله جميعاً يعني أن الله يعز من يشاء كما قال في آية أخرى : ) لله العزة ولرسوله وللمؤمنين ( ، وعزة الرسول والمؤمنين منّاً لله فهي كلها لله قال الله : ) سبحان ربك رب العزة عما يصفون ( ) هو السميع العليم (
يونس : ( 66 ) ألا إن لله . . . . .
) ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ( هو ما الاستفهام يقول وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء يعني أنهم ليسوا على شيء ، وقراءة السلمي : يدعون بالتاء أي ما تصنع شركاؤكم في الآخرة ) إن يتبعون إلاّ الظن ( يعني ظنوا أنها تشفع لهم يوم القيامة ، ويقربهم إلى الله زلفى ) وإن هم إلاّ يخرصون (
يونس : ( 67 ) هو الذي جعل . . . . .
^ ر هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا ( لتهدأوا وتقروا وتستريحوا ) فيه والنهار مبصراً ( مضيئاً يبصر فيه كقولهم : ليل نائم وسرّ كاتم وماء دافق وعيشة راضية ، وقال جرير
(5/139)

" صفحة رقم 140 "
لقد لمتنا يا أُمّ غيلان في السرى
ونمت وما ليل المطيّ بنائم
وقال قطرب : يقول العرب : أظلم الليل وأضاء النهار فأبصر ، أي صار ذا ظلّة وضياء وبصر .
) إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ( المواعظ فيعتبرون
يونس : ( 68 ) قالوا اتخذ الله . . . . .
) قالوا ( يعني المشركين ) اتخذ الله ولداً ( هو قولهم : الملائكة بنات الله ) سبحانه هو الغني ( عن خلقهما ) إن عندكم من سلطان بهذا ( ( ما عندكم من حجة ) وبرهان بهذا ، إنما سميتموها جهلاً بها سلطاناً ( ولا يمكن ) التمسك بها ) أتقولون على الله ما لا تعلمون (
يونس : ( 69 ) قل إن الذين . . . . .
) قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( .
قال الكلبي : لا يؤمنون ، وقيل : لا ينجون ، وقيل : لا يفوزون ، وقيل : لا يبقون في الدنيا ولكن
يونس : ( 70 ) متاع في الدنيا . . . . .
) متاع قليل ( يتمتعون به متاعاً وينتفعون به إلى وقت انقضاء أجلهم ، ومتاع رفع بإضمار أي لهم متاع ، قاله الأخفش ، وقال الكسائي : متاع في الدنيا .
) ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ( .
2 ( ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياَقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الاَْرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فَمَآ ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الاَْرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا
(5/140)

" صفحة رقم 141 "
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 2
يونس : ( 71 ) واتل عليهم نبأ . . . . .
) واتل عليهم ( اقرأ يا محمد على أهل مكة ) نبأ ( خبر ) نوح إذ قال لقومه ( ولد وأهل ) يا قوم إن كان كبُر ( عظُم وثقل وشق ) عليكم مقامي ( فلو شق مكثي بين أظهركم ) وتذكيري ( ووعظي إياكم ) بآيات الله ( بحججه وبيناته فعزمتم على قتلي أو طردي ) فعلى الله توكلت ( فبالله وثقت ) فأجمعوا ( قرأه العامة بقطع الألف وكسر الميم أي فأعدوا وأبرموا وأحكموا ) أمركم ( فاعزموا عليه . قال المؤرخ : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه ، وأنشد :
يا ليت شعري والمنى لا تنفع
هل أغدون يوماً وأمري مجمع
وقرأ الأعرج والجحدري موصولة مفتوحة الميم من الجمع اعتباراً بقوله فجمع كيده ، وقال أبو معاذ : ويجوز أن يكون بمعنى وأجمعوا أي فأجمعوا واحد يقال : جمعت وأجمعت بمعنى واحد .
قال أبو ذؤيب : ( عزم عليه كأنه جمع نفسه له ، والأمر مجمع ) ) وشركائكم ( فيه إضمار أي : وادعوا شركاءكم أي آلهتكم فاستعينوا ، وكذلك في مصحف أُبي ؛ وادعوا شركاءكم ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب : وشركاؤكم رفعاً على معنى : فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم ، أي وليجمع معكم شركاؤكم ، واختار أبو عبيد وأبو حاتم النصب لموافقة الكتاب وذلك أنه ليس فيه واو .
) ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ( أي خفياً مظلماً ملتبساً مبهماً من قولهم : غمّ الهلال على الناس إذا أشكل عليهم فلم يتبيّنوه ، قال طرفة :
لعمرك ما أمري عليّ بغمّة
نهاري وما ليلي عليَّ بسرمد
وقيل : هو من الغمّ لأن الصدر يضيق فلا يتبين صاحبه لأمره مصدراً ينفرج عنه ما بقلبه ، قالت الخنساء :
وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه
وغمته عن وجهه فتجلت
) ثم اقضوا إليِّ ( أي آمنوا إلى ما في أنفسكم أو افرغوا منه ، يقال : قضى فلان إذا مات ومضى وقضى منه إذا فرغ منه .
(5/141)

" صفحة رقم 142 "
وقال الضحاك : يعني انهضوا إليَّ ، وحكى الفراء عن بعض القرّاء : افضوا إليَّ بالفاء ، أي توجهوا حتى تصلوا إليَّ ، كما يقال أنصت ( الخلائق ) إلى فلان وأفضى إلى الوجه ) ولا تنظرون ( ولا تؤمرون ، وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح ( عليه السلام ) أنه كان من نصر الله واثقاً ومن كيد قومه وبوائقهم غير خائف علماً منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئاً إلاّ أن يشاء الله ، وتعزية لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتقوية لقلبه
يونس : ( 72 ) فإن توليتم فما . . . . .
) فإن توليتم ( أعرضتم عن قولي وأبيتم أن تقبلوا نصحي ) فما سألتكم ( على الدعوة وتبليغ الرسالة من أجل جعل وعوض ) إن أجري ( ما جزائي وثوابي ) إلاّ على الله وأُمرت أن أكون من المسلمين }
يونس : ( 73 ) فكذبوه فنجيناه ومن . . . . .
) فكذبوه ( يعني نوحاً ) فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف ( سكان الأرض خلفاً عن الهالكين ) وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ( يعني ( أخزى ) من الذين أنذرتهم الرسل ولم يؤمنوا
يونس : ( 74 ) ثم بعثنا من . . . . .
) ثم بعثنا من بعده ( أي من بعد نوح ) رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات ( بالآيات والأمر والنهي ) فما كانوا ليؤمنوا ( ليصدقوا ) بما كذبوا ( بما كذبت ) به ( وأنّهم ) من قبل كذلك نطبع ( نختم ) على قلوب المعتدين ( المجاوزين الحلال إلى الحرام
يونس : ( 75 ) ثم بعثنا من . . . . .
) ثم بعثنا من بعدهم ( أي من بعد نوح ) وهارون إلى فرعون وملئه ( يعني أفراد قومه ) بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين }
يونس : ( 76 ) فلما جاءهم الحق . . . . .
) فلما جاءهم ( يعني فرعون وقومه ) الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين }
يونس : ( 77 ) قال موسى أتقولون . . . . .
) قال موسى أتقولون للحق لمّا جاءكم أسحر هذا ( تقدير الكلام : أتقولون للحق لما جاءكم سحراً سحر هذا الحذف السحر الأول ، فدلالة الكلام عليه كقوله : ) فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم ( المعنى : يغشاكم ليسوؤا وجوهكم .
وقال ذو الرمّة :
فلما لبسن الليل أو حين نصبت
له من خذا آذانها وهو جانح
أي : أو حين أقبل ) ولا يفلح الساحرون }
يونس : ( 78 ) قالوا أجئتنا لتلفتنا . . . . .
) قالوا ( يعني فرعون وقومه ) أجئتنا لتلفتنا ( لتلوينا وتصرفنا ) عما وجدنا عليه آبائنا ( من الدين ) وتكون لكما الكبرياء ( الملك والسلطان ) في الأرض ( أرض ( مصر ) ) وما نحن لكما بمؤمنين }
يونس : ( 79 - 81 ) وقال فرعون ائتوني . . . . .
) وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر ( أي الذي جئتم به السحر .
وقراءة مجاهد وأبو عمر وأبو جعفر : السحر بالمد على الإستفهام ، ودليل قراءة العامة قراءة ابن مسعود : ما جئتم به السحر وقراءة أُبيّ : ما أتيتم به سحر ) إنَّ الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين }
يونس : ( 82 - 83 ) ويحق الله الحق . . . . .
) ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون فما آمن لموسى ( لم
(5/142)

" صفحة رقم 143 "
يصدق موسى مهما آتاهم من الحجج ) إلاّ ذرية من قومه ( فقال قوم : هي راجعة إلى موسى وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل .
قال ابن عباس : كانوا ستمائة ألف وذلك أن يعقوب ( عليه السلام ) دخل مصر في اثني وسبعين إنساناً فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف .
وقال مجاهد : أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى إلى بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء ، وقال آخرون : الهاء راجعة إلى فرعون .
روى عطية عن ابن عباس : هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته .
وروي عن ابن عباس من وجه آخر : أنهم سبعون أهل بيت من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله .
قال الفراء : وإنما سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين انتقلوا إلى اليمن الأبناء ، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم والذرية العقب من الصغار والكبار ) على خوف من فرعون وملائهم ( يريد الكناية في قومه إلى فرعون ، ردّ الكناية في قوله : وملائهم ، إلى الذرية ، ومن رد الكناية إلى موسى يكون : إلى ملأ فرعون .
قال الفراء : وإنما قال : ) وملائهم ( بالجمع وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى أصحابه .
( فيكون من باب حذف المضاف ) وذكر وهب بن منبه ، ( أنه ) إليه وإلى عصابته كما يقال : قدم الخليفة تريد والذين معه ، ويجوز أن يكون أراد بفرعون آل فرعون ( كقوله تعالى ) : ) اسأل القرية ( و ) يا أيها النبي إذا طلقتم ( ) أن يفتنهم ( بصرفهم عن دينهم ، ولم يقل : يفتنوهم ؛ لأنّه أخبر أنّ فرعون وقومه كانوا على ( الضلال ) .
) وإن فرعون لعال في الأرض وإنّه لمن المسرفين ( ( من المجاوزين الحدّ في العصيان والكفر ) لأنّه كان قد ادّعى الربوبية
يونس : ( 84 ) وقال موسى يا . . . . .
) وقال موسى ( لمؤمني قومه : ) يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (
يونس : ( 85 ) فقالوا على الله . . . . .
) فقالوا على الله توكّلنا ( .
ثم دعوا فقالوا : ) ربّنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ( قال أبو مجلز : ( ربّنا لا تظهر فرعون وقومه ) علينا فيروا أنّهم خير منا فيزدادوا طغياناً . وقال عطية : لا تسلّطهم علينا فيسيئون
(5/143)

" صفحة رقم 144 "
ويقتلون . وقال مجاهد : لا تعذّبنا بأيدي قوم ( ظالمين ولا تعذّبنا ) بعذاب من عندك ، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حق لما عُذّبوا ، ولا تسلّطنا عليهم فيفتتنوا
يونس : ( 86 - 87 ) ونجنا برحمتك من . . . . .
) ونجّنا برحمتك من القوم الكافرين وأوحينا إلى موسى وأخيه ( ( أمرناهما ) ) أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتاً ( يقال : تبوّأ فلان لنفسه بيتاً ( والمبوأ المنزل ومنه بوّأه الله منزلا ) إذا اتخذه له .
) واجعلوا بيوتكم قبلة ( قال أكثر المفسّرين : كانت بنو إسرائيل لا يصلّون إلاّ في كنائسهم وبيعهم ، وكانت ظاهرة ، فلما أُرسل موسى أَمرَ فرعون بمساجد بني إسرائيل فخرّبت ، ومنعهم من الصلاة ، فأُمروا أن يتّخذوا مساجد لهم يصلّون فيها خوفاً من فرعون ، وهذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وهي كذلك ، ورواية عكرمة عن ابن عباس .
قال مجاهد وخلف : ( قال موسى ) لمن معه من قوم فرعون أن صلّوا إلى الكنائس الجامعة ، فأُمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة للكعبة فيصلّون فيها سرّاً . ومعنى البيوت هنا ( يكون ) المساجد .
وتقدير الآية : واجعلوا بيوتكم إلى القبلة . وهذا رواية ابن جريج عن ابن عباس ، قال : كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه . قال سعيد بن جبير : معناه : واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً ، والقبلة الوجهة .
) وأقيموا الصلاة وبشّر المؤمنين ( يا محمد .
2 ( ) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاََهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ وَجَاوَزْنَا بِبَنِىإِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لاإِلِاهَ إِلاَّ الَّذِىءَامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ءَالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ ءايَاتِنَا لَغَافِلُونَ ( 2
يونس : ( 88 ) وقال موسى ربنا . . . . .
) وقال موسى ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينة ( من متاع الدنيا وأثاثها . مقاتل : شارة حسنة ، لقوله : ) فخرج على قومه بزينته ( ) وأموالا في الحياة الدنيا ربّنا ليضلّوا عن سبيلك ( . اختلفوا في هذه اللام فقال بعضهم هي لام ( كي ) ومعناه ( أعطيتهم لكي يضلّوا ويبطروا ويتكبّروا ) لتفتنهم بها فيضلّوا ويُضلّوا إملاءً منك ، وهذا كقوله تعالى : ) فأسقيناهم ماءاً غدقاً لنفتنهم فيه (
(5/144)

" صفحة رقم 145 "
، وقيل : هي لام العاقبة ولام الصيرورة يعني أعطاهم ليضلّوا ( . . . . . . ) آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، وقيل : هي لام أي آتيتهم لأجل ضلالهم عقوبة لهم كقوله : ) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ( أي لأجل إعراضكم عنهم ، ولم يحلفوا لتعرض عنهم .
) ربّنا اطمس على أموالهم ( ، قال عطية ومجاهد : أعفها ، فالطمس : المحو والتعفية ، وقال أكثر المفسرين : امسخها وغيّرها عن هيئتها ، قال محمد بن كعب القرضي : جعل سكّتهم حجارة ، وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم صارت حجارة ، وقال ابن عباس : إن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأثلاثاً وأنصافاً . قال ابن زيد : صارت حجارة ذهبهم ، ودراهمهم وعدسهم وكل شيء ، وقال السدّي : مسخ الله أموالهم حجارة ، النخل والثمار والدقيق والأطعمة ، وكانت احدى الآيات التسع .
) واشدد على قلوبهم ( يعني : واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان .
) فلا يؤمنوا ( قيل : هو نصب جواب الدعاء بالفاء ، وقيل : عطف على قوله : ( ليُضلوا ) .
قال الفراء : هو دعاء ومحله جزم كأنه : اللهم فلا يؤمنوا وقيل : معناه فلا آمنوا .
يونس : ( 89 ) قال قد أجيبت . . . . .
) قال قد أُجيبت دعوتكما ( ( وقرأ علي والسملي : ( دعواتكما ) بالجمع وقرأ ابن السميقع : قد أجبت دعوتكما ) خبراً عن الله تعالى .
كقول الأعشى :
فقلت لصاحبي لا تعجلانا
بنزع أصوله واجتز شيحاً
) فاستقيما ( على الرسالة والدعوة ، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم عقاب الله .
قال ابن جريج : مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة .
) ولا تتّبعانّ ( نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم ويقال في الواحد لا تتبعَنْ ، فيفتح النون لالتقاء الساكنين ، وتكسر في التثنية لهذه العلة . وقرأ ابن عامر بتخفيف النون لأن نون التوكيد تُثقّل وتخفف .
) سبيل الذين لا يعلمون ( يعني : ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي ؛ فإن قضائي ووعدي لا خلف لهما ، ووعيدي نازل بفرعون وقومه .
يونس : ( 90 ) وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . .
) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ( الآية ، وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى ( عليه السلام ) أن يخرج ببني إسرائيل من مصر و ( تَبَعا ) بنو إسرائيل من القبط ( فأخرجهم ) بعلة عرس لهم وسرى
(5/145)

" صفحة رقم 146 "
بهم موسى وهم ستمائة ألف وعشرون ألفاً لا يُعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة ، ( إلى البحر وقال لكما ) القبط تلك الليلة ، فتتبعوا بني إسرائيل حتى أصبحوا وهو قوله : ) فأتبعوهم مشرقين ( بعدما دفنوا أولادهم ، فلمّا بلغ فرعون ركب ( البحر ) ومعه ألف ألف وستمائة ألف .
قال محمد بن كعب : كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشهبان ، وكان ( . . . . . . . . ) وكان هارون على مقدمة بني إسرائيل وموسى في الساقة ، فلمّا انتهوا إلى البحر وقربت منهم مقدمة فرعون مائة ألف رجل ، كلٌ قد غطّى أعلى رأسه ببيضة وبيده حربة ، وفرعون خلفهم في الدميم ، فقالت بنو إسرائيل لموسى : أين ما وعدتنا ؟ هذا البحر أمامنا ( إن عبرناه ) غَرِقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا ، ولقد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا .
فقال موسى : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون ، وقال : كلا إنّ معي ربي سيهدين ، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم ينفلق وقال : أنا أقدم منك وأشد خلقاً ، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن كنه وقل : انفلق أبا خالد بإذن الله عزّ وجل ، ففعل ذلك فانفلق البحر وصار اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق . وكشف الله عن وجه الأرض فصارت يابسة وارتفع بين كل طريقين جبل .
وكانوا بني عمّ لا يرى بعضهم بعضاً ولا يسمع بعضهم كلام بعض ، فقال كل فريق : قد غرق أصحابنا فأوحى الله تعالى إلى الجبال من الماء تشبّكي فتشبكت وصارت فيه شبه الخروق فجعل ينظر بعضهم إلى بعض .
فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر ورأوا البحر بتلك الهيئة قال فرعون : هابني البحر ، وهابوا دخول البحر ، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى ، فجاء جبرئيل على فرس وديق وخاض البحر وميكائيل يسوقهم ، لا يشذ رجل منهم إلاّ ضمّه إليهم .
فلما شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل ، وفرعون لا يراه انْسَلّ خلف فرس جبريل ولم يملك فرعون من أمره شيئاً واقتضمت الخيول في الماء ، فلما دخل آخرهم البحر وهمّ أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم ، فلمّا أدرك فرعون الغرق : ) قال آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ( فدسّ جبرئيل في فيه من حمأة البحر ، وقال :
يونس : ( 91 ) آلآن وقد عصيت . . . . .
) آلآن وقد عصيت قبل ( .
قال أبو بكر الوراق : قال الله لموسى وهارون : ) فقولا له قولا ليّناً لعله يتذكر أو يخشى ( حين لم ينفعْه تذكّره وخشيته .
(5/146)

" صفحة رقم 147 "
قال كعب : لمّا أمسك نيل مصر عن الجري قالت القبط لفرعون : ( إن كنت ربّنا فأجرِ لنا الماء ) ، فركب وأمر جنوده بالركوب وكان مناديه ينادي كل ساعة : ليقف فلان بجنوده قائداً قائداً فجعلوا يقفون على درجاتهم ( وقفز ) حتى بقي هو وخاصته ، فأمرهم بالوقوف حتى بقي في حُجّابه وخُدّامه ، فأمرهم بالوقوف وتقدّم وحده بحيث لا يرونه ( ونزل عن دابته ) ولبس ثياباً أُخر وسجد وتضرع إلى الله ، فأجرى الله تعالى له الماء فأتاه جبرئيل وحده في هيئة مستفت وقال : ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سيد له غيره ، فكفر نعمته وجحد حقّه وادعى السيادة دونه ؟ ( فكتب فرعون : جزاؤه أن يغرق في البحر ) .
فلمّا أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل : ما مات فرعون ولا يموت أبداً ، فأمر الله تعالى بالبحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصير كأنه ثور فتراءاه بنو إسرائيل ، فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً ، فذلك قوله تعالى : ) وجاوزنا ( أي قطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جازوه ، وقرأ الحسن ( وجوزنا ، وهما لغتان ) .
) فأتبعهم ( فأدركهم ، يقال : تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه ، واتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه ( واقتدى به ) ) فرعون وجنوده ( ) بغياً وعدواً ( ظلماً واعتداءً ، يقال : عدا يعدو عدواً مثل : غزا يغزو غزواً ، وقرأ الحسن ( عُدوّاً ) بضم العين وتشديد الواو مثل : علا يعلو عُلوّاً . قال المفسرون : بغياً في القول وعدواً في الفعل .
) حتى إذا أدركه الغرق ( أي أحاط به ) قال آمنتُ أنّه ( قرأ حمزة والكسائي وخلف إنّه بالكسر أي آمنت وقلت : إنّه ، وهي قراءة عبد الله . وقرأ الآخرون : أنّ بالفتح لوقوع آمنت عليها ، وهي اختيار أبو عبيد وأبي حاتم .
) لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ( قال جبرئيل ) آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ( .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قال لي جبرئيل : ما أبغضت أحداً من عباد الله إلاّ أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ والآخر من الأنس ، فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال : أنا ربكم الأعلى ، ولو رأيتني يا محمد وأنا أدسّ الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة ) .
(5/147)

" صفحة رقم 148 "
يونس : ( 92 ) فاليوم ننجيك ببدنك . . . . .
) فاليوم نُنجّيك ببدنك ( أي نجعلك على نجوة من الأرض وهي النجو : المكان المرتفع ، قال أوس بن حجر :
فمن بعقوته كمن بنجوته
والمستكنّ كمن يمشي بقرواح
) ببدنك ( بجسدك لا روح فيك . وقال مجاهد والكسائي : البدن هاهنا الدرع وكان دارعاً . قال الأعشى :
وبيضاء كالنهى موضونة
لها قونس فوق جيب البدى
وقرأ عبد الله : فاليوم ننجيك ببدنك ، أي نلقيك على ناحية البحر . وقيل : شعرك .
) لتكون لمن خلفك آية ( عبرة وعظة . وقرأ علي بن أبي طالب ( ح ) : لمن خلقك ( بالقاف ) ، أي تكون آية لخالقك .
) وإنّ كثيراً من الناس ( قال مقاتل : يعني أهل مكة ، قال الحسن : هي عامة .
) عن آياتنا ( عن الإيمان بآياتنا ) لغافلون ( .
2 ( ) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ ( 2
يونس : ( 93 ) ولقد بوأنا بني . . . . .
) ولقد بوّأنا ( أنزلنا ) بني إسرائيل ( بعد هلاك فرعون ) مبوأ ( منزل ) صدق ( يعني خير ، وقيل الأردن وفلسطين وهي : الأرض المقدسة التي بارك الله فيها لإبراهيم وذريته . الضحاك : هي مصر والشام .
) ورزقناهم من الطيبات ( الحلالات .
) فما اختلفوا ( يعني اليهود الذين كانوا على عهد النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) حتى جاءهم العلم ( البيان بأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يقول صدقاً ودينه حق . وقيل : العلم بمعنى المعلوم لقولهم للمخلوق : خلق ، وللمقدور : قدر ، وهذا ( . . . . . . . فتم طرف الأمر ، قال الله . . . . . ) ، ومعنى الآية
(5/148)

" صفحة رقم 149 "
فما اختلفوا في محمد حتى جاءهم المعلوم وهو كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبياً لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه .
) إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( من الدين .
يونس : ( 94 ) فإن كنت في . . . . .
) فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك ( ، الآية ، وقد أكثر العلماء في تفسير معنى الآية ، قال مقاتل : قالت كفار مكة : إنما ألقى هذا الوحي على لسان محمد شيطان ، فأنزل الله تعالى : ) فإن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك ( يعني القرآن .
) فسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ( يخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة رسولا نبياً .
وقيل : الخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره من الشاكّين به ، كما ذهب العرب في خطابهم الرجل بالشيء ويريدون به غيره ، كقوله تعالى : ) يا أيها النبي اتق الله ( كأن الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به المؤمنون ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ) إن الله كان بما تعملون خبيراً ( ولم يقل : تعمل .
قال المفسرون : كان الناس على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : آمنا بالله بلسانهم ، ومنهم كافر مكذّب لا يرى إلاّ أن ما جاء به باطل ، أو شاكّ في الأمر لا يدري كيف هو يقدّم رجلا ويؤخِّر أخرى ، فخاطب الله هذا الصنف من الناس فقال : ) إن كنت ( أيها الإنسان ) في شك مما أنزلنا إليك ( من الهدى على لسان محمد ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
) فسأل ( الأكابر من علماء أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلاّم ، وسلمان الفارسي ، وتميم الداري وأشباههم فيشهدوا على صدقه ، ولم يرد المعاندين منهم .
وقيل : إنْ بمعنى ( ما ) ، وتقديره : فما كنت في شك مما أنزلنا إليك ، فاسألوا يا معاشر الناس أنتم دون النبي . كما قال : ) وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( بمعنى وما كان مكرهم .
وقيل : إنّ الله علم أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشكّ ولكنّه أراد أن يأخذ الرسول بقوله لا أشك ولا ( أماري ) إدامةً للحجة على الشاكّين من قومه كما يقول لعيسى : ) أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ( وهو يعلم أنه لم يقل ذلك ، بدليل قوله : ) سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ ( إدامة للحجة على النصارى .
وقال الفرّاء : علم الله تعالى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غير شاكّ ، فقال له : فإن كنتَ في شكّ ، وهذا كما تقول لغلامك الذي لا تشك في ملكك إياه : إن كنت عبدي فأطعني ، أو تقول لابنك : إن كنت ابني فبرّني .
(5/149)

" صفحة رقم 150 "
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : الشاك في الشيء يضيق به صدراً ، فيقال لضيِّق الصدر شاك ، يقول : إن ضقت ذرعاً بما تعاين من تعنتهم وأذاهم فاصبر ، واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك يخبروك كيف صبر الأنبياء على أذى ( قومهم ) وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر والتمكين .
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن حبيب سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن أحمد القطان في ( ذلك : ) كان جائزاً على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وسوسة الشيطان لأن المجاهدة في ردّها يستحق عليها عظيم الثواب والله ( . . . . . . . . . . . . ) وكان يضيق صدره من ذلك والله أعلم . وقال الحسين بن الفضل مع ( حيث ) الشرط لا يثبت الفعل .
والدليل عليه ما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لما نزلت هذه الآية : ( والله لا أشك ولا أسأل ) .
ثم أفتى ( وزوّدنا ) بالكلام فقال : ) لقد جاءك الحق من ربك (
يونس : ( 95 ) ولا تكونن من . . . . .
) فلا تكوننّ من الممترين ولا تكوننّ من الذين كذّبوا بآيات الله ( القرآن .
) فتكون من الخاسرين ( ( الذين تحبط أعمالهم
يونس : ( 96 ) إن الذين حقت . . . . .
) إن الذين حقّت عليهم كلمت ربك ( لعنته إياهم ( لنفاقهم ) ، قال ابن عباس : ينزل بك السخط ، وقال : إن الله خلق الخلق ( فمنهم شقي ومنهم ) سعيد ، فمن كان سعيداً لا يكفر إلاّ ريثما يراجع الإيمان ومن كان شقياً لا يؤمن إلاّ ريثما يراجع الكفر ، وإنما العمل ( . . . ) وقرأ أهل المدينة : ( كلمات ) جمعاً .
) لا يؤمنون (
يونس : ( 97 ) ولو جاءتهم كل . . . . .
) ولو جاءتهم كل آية ( دلالة ) حتى يروا العذاب الأليم ( قال الأخفش : أنّث فعل ( كل ) لأنها مضافة إلى مؤنث ، ولفظة كل للمذكر والمؤنث سواء .
( ) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاَْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
(5/150)

" صفحة رقم 151 "
فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ( 2
يونس : ( 98 ) فلولا كانت قرية . . . . .
) فلولا ( أي فهلاّ ، وكذلك هي في حرف عبد الله وأُبي ، قال الشاعر :
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم
( بني ضوطري ) لولا الكميّ المقنعا
أي فهلاّ .
وقرأ في الآية : ( فلا تكن قرية ) لأن في الاستفهام ضرباً من الجحد .
) آمنت ( عند معاينتها العذاب ) فنفعها إيمانها ( في وقت اليأس ) إلاّ قوم يونس ( فإنّهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت لما علم من صدقهم . قال أهل النحو : قومَ منصوب على الاستثناء المنقطع ، وإن شئت قلت من جنسها لأن القوم مستثنى من القرية ، ومنجون من الهالكين ، وتقديره : لكن قوم يونس كقول النابغة :
وقفت فيها أُصيلاناً أسائلها
أعيت جواباً وما بالربع من أحد
ألا الأواري لأياً ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
وفي يونس ست لغات ، ضم النون ، وقرأ ( . . . ) بضمّ الياء لكثرة من قرأ بها ، وقرأ طلحة والأعمش والحميري وعيسى بكسر النون ، وعن بعضهم بفتح النون ، وروى أبو قرظة الأنصاري عن العرب همزة مع الضمة والكسرة والفتحة .
) لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ( وهو وقت انقضاء آجالهم ، قال بعضهم : إنّما نفعهم إيمانهم في وقت اليأس لأن آجالهم بقى منها بقية فنجوا لما بقي من آجالهم ، فأما إيمان من انقضى أجله فغير نافع عند حضور العذاب .
وقصة الآية على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير والسدّي ووهب وغيرهم أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فدعاهم فأبوا ، فقيل له : أخبرهم أن العذاب يجيئهم إلى ثلاث ، فأخبرهم بذلك فقالوا : إنّا لم نجرِّب عليه كذباً فانظروا ، فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم ، فلمّا كان في جوف الليل خرج ماشياً من بين ظهرانيهم فلمّا أصبحوا تغشّاهم العذاب كما يغشي الثوب القصير إذا أدخل فيه صاحبه .
(5/151)

" صفحة رقم 152 "
قال مقاتل : كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ميل . قال ابن عباس : قدر ثلثي ميل . قال وهب : غامت السماء غيماً أسود هائلا يدخل دخاناً شديداً ، وهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم ، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيّهم فلم يجدوه ، فقذف الله في قلوبهم التوبة فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابّهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا النية ، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام ، فحنّ بعضهم إلى بعض ، وعلت أصواتهم واختلطت أصواتها بأصواتهم وحنينها بحنينهم ، وعجوا وضجوا إلى الله تعالى وقالوا : آمنّا بما جاء به يونس ، فرحمهم ربّهم واستجاب دعاءهم ، وكشف عنهم العذاب بعدما أظلّهم وتدلّى إلى سمعهم ، وذلك يوم عاشوراء .
قال ابن مسعود : بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادّوا المظالم بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس فيقلعه ويردّه .
وروى صالح المري عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد ، قال : لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم ، فقالوا له : قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟ فقال : قولوا : يا حيّ حين لا حي ويا حي ( يا ) محيي الموتى ، ويا حي لا إله إلاّ أنت ، فقالوها ، فكشف عنهم العذاب ومُتّعوا إلى حين .
قالوا : وكان يونس ( عليه السلام ) وعدهم العذلب فخرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم يرَ شيئاً ، وكان من كذب ولم تكن له بيّنة قتل ، فقال يونس لما كشف عنهم العذاب : كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم ؟ فانطلق عاتباً على ربه ، مغاضباً لقومه فأتى البحر ( فإذ سفينة قد شحنت ) فركب السفينة ( لوحده ) بغير أجر ، فلمّا دخلها وقفت السفينة ، والسفن تسير يميناً وشمالا قالوا : ما لسفينتكم ؟ قال يونس : إنّ فيها عبداً آبقاً ولا تجري ما لم تلقوه ، فقالوا : وأنت يا نبي العبد فلا نلقيك ، فاقترعوا فوقعت القرعة عليه ثلاثاً فوقع في الماء ووكل عليه حوت فابتلعه .
قال ابن مسعود : فابتلعه الحوت وجرى به حتى أتاه إلى قرار الأرض ، وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فاستجاب الله له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر ( عرياناً ) ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، فجعل يستظلّ بها ، ووكل الله به سخلا يشرب من لبنها ، فيبست الشجرة فبكى عليها ، فأوحى الله إليه : تبكي على شجرة يبست ، ولا تبكي على مائة ألف إنسان أُهلكهم فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى ، فقال : من أنت يا غلام ؟
قال : من قوم يونس ، قال : إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس ، قال الغلام : إن كنت يونس فقد تعلم أنه لم يكن لي بينة ، ( فإنْ ) قلت : فمن يشهد لي ؟ قال يونس : يشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة ، قال الغلام : أراهما ؟ قال يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له ، قالا :
(5/152)

" صفحة رقم 153 "
نعم . فرجع الغلام إلى قومه ، فقال للملك : إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام ، وكان له أخوة وكان في منعة فأمر الملك بقتله ، فقال : إنّ لي بينة فانسلّوا معه إلى البقعة والشجرة ، فقال الغلام : أنشدكما هل أشهدكما يونس ؟ قالا : نعم ، فرجع القوم مذعورين ، وقالوا للملك : شهد له الشجرة والأرض ، فأخذ الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه ، وقال : أنت أحق بهذا المكان مني ، قال ابن مسعود : فأقام لهم أميراً فيهم ذلك الغلام أربعين سنة .
يونس : ( 99 ) ولو شاء ربك . . . . .
) ولو شاء ربك ( يا محمد ) لآمن من في الأرض كلّهم جميعاً ( قال الحسين بن الفضل : لأضطرّهم إلى الإيمان . قال الأخفش : جاء بقوله : ( جميعاً ) مع ( كل ) تأكيداً كقوله : ) لا تتخذوا إلهين اثنين ( ) أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( قال ابن عباس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حريصاً على أن يؤمن جميع الناس ويبايعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى أنّه لا يؤمن إلاّ من سبق له من الله سعادة في الكتاب الأول ، ولا يضلّ إلاّ من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول .
يونس : ( 100 ) وما كان لنفس . . . . .
) وما كان لنفس ( قال الحسن : وما ينبغي لنفس . وقال المبرد : معناه وما كنت لتؤمن إلاّ بإذن الله . قال ابن عباس : بأمر الله . وقال عطاء : بمشيئة الله ، كقوله : ) وما هم بضارين به من أحد إلاّ بإذن الله ( . وقال الكوفي : ما سبق من قضائه . وقال ( الدّاني ) : بعلمه وتوفيقه .
) ويجعل ( أي ويجعل الله ، وقرأ الحسن وعاصم بالنون ) الرجس ( العذاب والسخط . وقرأ الأعمش الرجز بالزاي ) على الذين لا يعقلون ( حجج الله في التوحيد والنبوة .
يونس : ( 101 ) قل انظروا ماذا . . . . .
) قل ( يا محمد لهؤلاء المشركين السائليك الآيات ) انظروا ماذا في السماوات ( من الشمس والقمر والنجوم ) والأرض ( من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها من الآيات ثم قال : ) وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ( في علم الله .
يونس : ( 102 ) فهل ينتظرون إلا . . . . .
) فهل ينتظرون ( يعني مشركي مكة ) إلاّ مثل أيام الذين خلوا ( مضوا ) من قبلهم ( من الذين مضوا . قال قتادة : يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود ، والعرب تسمي العذاب والنعيم : أياماً ، كقوله تعالى : ) وذكّرهم بأيام الله ( وكل ما مضى عليك من خير أو شر فهو أيام .
) قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين (
يونس : ( 103 ) ثم ننجي رسلنا . . . . .
) ثم ننجّي رسلنا والذين آمنوا ( معهم عند نزول العذاب ، كذلك كما أنجيناهم .
) كذلك حقاً ( واجباً ، ) علينا ( غير شك ، ) ننجي المؤمنين ( بك يا محمد . وقرأ
(5/153)

" صفحة رقم 154 "
يعقوب : ننجي رسلنا بالتخفيف ، وقرأ الكسائي وحفص : ننجي المؤمنين بالتخفيف وشدّدهما الآخرون ، وهما لغتان فصيحتان أنجى يُنجي إنجاءً ونجّى ينجّي تنجية بمعنى واحد .
2 ( ) قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ ياَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 2
يونس : ( 104 ) قل يا أيها . . . . .
) قل يا أيها الناس إن كنتم في شكّ من ديني ( الذي أدعوكم إليه .
) فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ( من الأوثان التي لا تعقل ولا تفعل ولا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع ) ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ( تقدير أن يسلم ويقبض أرواحهم .
) وأمرت أن أكون من المؤمنين (
يونس : ( 105 ) وأن أقم وجهك . . . . .
) وأن أقم وجهك ( قال ابن عباس : عملك . وقيل : نفسك ، أي استقم على الدين ) حنيفاً ولا تكوننّ من المشركين ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على المنبر : ( لم أعبد ربي بالرهبانية وأن خير الدين الحنيفية السهلة ) .
يونس : ( 106 ) ولا تدع من . . . . .
) ولا تدع ( تعبد ) من دون الله ما لا ينفعك ( إن أطعته ) ولا يضرّك ( إن عصيته ) فإن فعلت ( فعبدت غير الله ) فإنك إذاً من الظالمين ( الضارّين لأنفسهم ، الواضعين العبادة في غير موضعها
يونس : ( 107 ) وإن يمسسك الله . . . . .
) وإن يمسسك الله بضرّ ( يصبْك الله ببلاء وشدّة ) فلا كاشف ( دافع ) له إلاّ هو وإن يردك بخير ( رخاء ونعمة ) فلا رادّ لفضله ( فلا مانع لرزقه .
) يصيب به ( واحد من الضر والخير ) من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم (
يونس : ( 108 ) قل يا أيها . . . . .
) قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ( يعني القرآن فيه البيان .
) فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ( ( أي له ثواب اهتدائه ) ) ومن ضلّ فإنّما يضل عليها ( فعلى نفسه جنا ) وما أنا عليكم بوكيل ( بكفيل وحفيظ يحفظ أعمالكم . قال ابن عباس : نسختها آية القتال
(5/154)

" صفحة رقم 155 "
يونس : ( 109 ) واتبع ما يوحى . . . . .
) واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله ( من نصرك وقهر أعدائك وإظهار دينه ) وهو خير الحاكمين ( .
قال الحسن : لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الأنصار وقد تجمع خيرتهم فقال : ( إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني ) قال أنس : فلم نصبر . فأمرهم بالصبر كما أمره الله به .
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب : لما قدم معاوية المدينة تلقّته الأنصار وتخلّف أبو قتادة ودخل عليه بعد فقال : مالك لا تلقنا ؟ قال : لم تكن عندنا دواب ، قال : فأين النواضح ؟ قال : ربطناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاصبروا حتى تلقوني ) ، قالوا : إذاً نصبر ، ففي ذلك قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت :
ألا أبلغ معاوية بن حرب
أمير المؤمنين ثنا كلام
فإنّا صابرون ومنظروكم
إلى يوم التغابن والخصام
(5/155)

" صفحة رقم 156 "
( سورة هود )
( عليه السلام )
مكية ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال : حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق ، محمد بن علي بن محمد ، محمد بن علي بن صالح عن ابن إسحاق عن أبي جحيفة قال : قيل : يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب ، قال : ( شيبتني هود وأخواتها : الحاقة ، والواقعة ، وعمّ يتساءلون ، وهل أتاك حديث الغاشية ) .
وعن زيد قال : رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام فقرأت عليه سورة هود فلمّا ختمتها قال : يا زيد قرأت ، فأين البكاء ؟ .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الاَْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( 2
هود : ( 1 ) الر كتاب أحكمت . . . . .
) الر كتاب ( قيل ) الر ( مبتدأ وكتاب خبره ، وقيل : كتاب رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره : هذا كتاب ) أُحكمت آياته ( قال ابن عباس : أُحكمت آياته : لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها ) ثم فصّلت ( بُيّنت بالأحكام والحلال والحرام ، قال الحسن وأبو العالية : فُصّلت : فُسِّرت ) من لدن حكيم خبير (
هود : ( 2 ) ألا تعبدوا إلا . . . . .
) ألاّ تعبدوا ( يحتمل أن يكون موضع أن رفعاً على مضمر تقديره : وفي ذلك الكتاب أن لا تعبدوا ، ويحتمل أن يكون محله نصباً بنزع الخافض تقديره : ثم فُصِّلت أن لا تعبدوا ) إلاّ الله ( أو لئلاّ تعبدوا إلاّ الله .
) إنني لكم منه ( من الله ) نذير وبشير ( وأن عطف على الأول
هود : ( 3 ) وأن استغفروا ربكم . . . . .
) واستغفروا ربكم ثم توبوا
(5/156)

" صفحة رقم 157 "
إليه ( أي ارجعوا إلى الله بالطاعة والعبادة ، وقال الفرّاء : ثُمّ هاهنا بمعنى ( الواو ) أي وتوبوا إليه لأنّ الاستغفار من التوبة ، والتوبة من الاستغفار ) يمتّعكم متاعاً حسناً ( أي يعيشكم عيشاً في ( منن ) ودعة وأمن وسعة ( رزق ) ، ) إلى أجل مسمى ( وهو الموت ) ويؤتِ كل ذي فضل فضله ( ويؤتِ كل ذي عمل مبلغ أجره وثوابه ( سمى فضله ) باسم الابتداء .
قال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات ، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر ، واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم قال : هلك من غلبت آحاده عشراته .
وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار ، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أهل الأعراف ، ثم يدخلون الجنة بعد ، وقال أبو العالية : من زادت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنة ، لأن الدرجات تكون بالأعمال . وقال مجاهد : إن ما يحتسب الإنسان من كلام يقوله بلسانه ، أو عمل يعمله بيده ورجله ، أو ما يتصدّق به من حق ماله .
) فإن تولوا فأني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ( وهو يوم القيامة .
هود : ( 4 - 5 ) إلى الله مرجعكم . . . . .
) إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ألا إنّهم يثنون صدورهم ( قال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعدواة ، نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام ، حلو المنظر ، يأتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره . مجاهد : يثنون صدورهم شكّاً وامتراءً ، السدّي : يعرضون بقلوبهم عنك من قولهم ( . . . . . . . . . . . . . . ) .
عن عبد الله بن شداد : نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرَّ برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نى صدره وظهره ، وطأطأ رأسه ، وتغشّى ثوبه كي لا يراه النبي ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) . قتادة : كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره . ابن زيد : هذا حين يناجي بعضهم بعضاً في أمر رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
) ليستخفوا منه ( أي من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال مجاهد : ليستخفوا من الله إن استطاعوا ، وقال ابن عباس : يثنون صدورهم على وزن يحنون ، جعل الفعل للصدور أي ( يلقون ) .
) ألا حين يستغشون ثيابهم ( يغطّون رؤوسهم بثيابهم ، وذلك أخفى ما يكون لابن آدم إذا حنى صدره وتغشّى ثوبه وأضمر همه في نفسه .
) يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور }
هود : ( 6 ) وما من دابة . . . . .
) وما من دابة ( من بغلة وليس دابّة وهي كل حيوان دبّ على وجه الأرض ، وقال بعض العلماء : كل ما أُكل فهو دابة
(5/157)

" صفحة رقم 158 "
) إلاّ على الله رزقها ( غذاؤها وقوتها وهو المتكفّل بذلك فضلا لا وجوباً ، وقال بعضهم : ( على ) بمعنى ( من ) أي من الله رزقها ، ويدل عليه قول مجاهد ، قال : ما جاء من رزق فمن الله ، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعاً ، ولكن ما كان من رزق فمن الله .
) ويعلم مستقرّها ( أي مأواها الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلا ونهاراً ، ) ومستودعها ( الموضع الذي تودع فيه أما بموتها أو دفنها ، قال ابن عباس : مستقرها حيث تأوي ، ومستودعها حيث تموت ، مجاهد : مستقرها في الرحم ومستودعها في الصلب ، عبد الله : مستقرها الرحم ، ومستودعها المكان الذي تموت فيه ، الربيع : مستقرها أيام حياتها ، ومستودعها حيث تموت ، ومن حيث تبعث .
وقيل : يعلم مستقرها في الجنة أو في النار ، ومستودعها القبر ، ويدلّ عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة والنار : ) حسنت مستقراً ومقاماً ( و ) ساءت مستقرا ومقاما ( ) كلٌّ في كتاب مبين ( كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها .
2 ( ) وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّيإِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( 2
هود : ( 7 ) وهو الذي خلق . . . . .
) وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ( قبل أن يخلق السماوات والأرض وذلك الماء على متن الريح . وقال كعب : خلق الله ياقوتة حمراء لا نظير لها ( فنظر إليها بالهيبة ) فصارت ماء ، ( يرتعد من مخافة الله تعالى ) ثمّ خلق الريح فجعل الماء ( على قشرة ) ثم وضع العرش على الماء . وقال ضمرة : إنّ الله تعالى كان عرشه على الماء ثم
(5/158)

" صفحة رقم 159 "
خلق السماوات والأرض بالحق ، وخلق القلم وكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه ، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجدّه قبل أن يخلق شيئاً من الخلق .
) ليبلوكم ( ليختبركم وهو أعلم ) أيّكم أحسن عملا ( روى عبد الله بن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( ليبلوكم أيّكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ) .
قال ابن عباس : أيّكم أعمل بطاعة الله . قال مقاتل : أيّكم أتقى لله ، الحسن : أيّكم أزهد في الدنيا زاهداً وأقوى لها تركاً .
) ولئن قلت ( يا محمد ) إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولَنّ الذين كفروا إن هذا إلاّ سحر مبين ( يعنون القرآن ، ومن قرأ : ساحر ردّه إلى محمد ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
هود : ( 8 ) ولئن أخرنا عنهم . . . . .
) ولئن أخّرنا عنهم العذاب إلى أُمّة معدودة ( إلى أجل معدود ووقت محدود ، وأصل الأُمّة الجماعة ، وإنما قيل للحين : أُمّة ، لأن فيه يكون الأُمّة ، فكأنه قال : إلى مجيء أُمّة وانقراض أُخرى قبلها ، كقوله : ) وادّكر بعد أُمّة ( .
) ليقولنّ ما يحبسه ( يقولون استعجالا للعذاب واستهزاء ، يعنون أنه ليس بشيء . قال الله تعالى : ) ألا يوم يأتيهم ( العذاب ) ليس مصروفاً عنهم ( خبر ( ليس ) عنهم . ) وحاق بهم ما كانوا يستهزئون ( أي رجع إليهم ونزل بهم وبال استهزائهم
هود : ( 9 ) ولئن أذقنا الإنسان . . . . .
) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ( سعة ونعمة ) ثم نزعناها ( سلبناها ) منه إنه ليؤوس ( قنوط في الشدّة ) كفور ( في النعمة .
هود : ( 10 ) ولئن أذقناه نعماء . . . . .
) ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسته ( بعد بلاء وشدة ) ليقولن ذهب السيئات عني ( زالت الشدائد عني ) إنه لفرح فخور ( أشر بطر ، ثم استثنى
هود : ( 11 ) إلا الذين صبروا . . . . .
فقال : ) إلاّ الذين صبروا وعملوا الصالحات ( فإنهم إن نالتهم شدّة وعسرة صبروا ، وإن نالوا نعمة شكروا ) لهم مغفرة ( لذنوبهم ) وأجر كبير ( وهو الجنة ، وإنما جاز الاستثناء مع اختلاف الحالين لأن الإنسان اسم الجنس كقوله : ) والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا (
هود : ( 12 ) فلعلك تارك بعض . . . . .
) فلعلّك ( يا محمد ) تارك بعض ما يوحى إليك ( فلا تبلِّغه إياهم ، وذلك أن مشركي مكة قالوا : آتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا .
) وضائق به صدرك أن يقولوا ( لأن يقولوا ) لولا أنزل عليه كنز ( ينفقه ) أو جاء معه ملك ( يصدّقه ، قال عبد الله بن أُمية المخزومي قال الله : يا أيها النذير ) ليس عليك إلاّ البلاغ ( والله على كل شيء وكيل
هود : ( 13 - 14 ) أم يقولون افتراه . . . . .
) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور ( مثله ) مفتريات ( بزعمكم ) وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم ( لفظه جمع والمراد به الرسول وحده كقوله : ) يا أيها الرسل ( ويعني الرسول
(5/159)

" صفحة رقم 160 "
وقال مجاهد : عنى به أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فاعلموا أنّما أنزل بعلم الله ( يعني القرآن ) وأن لا إله إلاّ هو فهل أنتم مسلمون ( لفظه استفهام ومعناه أمر .
هود : ( 15 ) من كان يريد . . . . .
) من كان يريد الحياة الدنيا ( أي من كان يريد بعمله الحياة الدنيا ) وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم ( نوفر لهم أجور أعمالهم في الدنيا ) وهم فيها لا يُبخسون ( لا ينقصون . قتادة يقول : من كانت الدنيا همّه وقصده وسروره وطلبته ونيّته جازاه الله تعالى ثواب حسناته في الدنيا ، ثم يمضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء ، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أحسن من محسن فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة ) .
واختلفوا في المعنيّ بهذه الآية فقال بعضهم : هي للكفار ، وأما المؤمن فإنه يريد الدنيا والآخرة ، وإرادته الآخرة غالبة على إرادته للدنيا ، ويدل عليه قوله
هود : ( 16 ) أولئك الذين ليس . . . . .
: ( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النار وحبط ما صنعوا فيها ( في الدنيا ) وباطل ما كانوا يعملون ( قال مجاهد : هم أهل الربا .
وروى ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال : حدثني الوليد بن أبي الوليد بن عثمان أن عقبة بن مسلم حدّثه أن شقي بن قابع الأصبحي حدّثنا أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا ؟ قيل : أبو هريرة .
قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدّث الناس ، فلما سكت وخلا ، قلت : وانشدك الله لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( عقلته وعلمته ) فقال : لأحدّثنّك حديثاً حدثنيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ( هذا البيت ) ثم غشي عليه ثم أفاق فقال : أحدثك حديثاً حدّثنيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ي هذا البيت ، ولم يكن أحد غيره وغيري ، ثم شهق أبو هريرة شهقة شديدة ثم قال : ( فأرى على وجهه ثمّ استغشى ) طويلا ثم أفاق فقال : حدثني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة دعا العباد ليقضي بينهم ، وكل أُمة جاثية فأول من يدعو رجل جمع القرآن ، ورجل قُتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال . فيقول الله للقارئ : ألم أعلّمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا رب .
قال : ماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله تعالى له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، فيقول الله تعالى : بل أردت أن يقال : فلان قارئ ، فقد
(5/160)

" صفحة رقم 161 "
قيل ذلك ، ويؤتى بصاحب المال ، فيقول الله له : ألم أوسّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى رب ، قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟
قال : كنت أصل الرحم وأتصدّق ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله تعالى : بل أردت أن يقال : فلان جواد فقد قيل ذلك .
ويؤتى بالذي قُتل في سبيل الله فيقال له : في ماذا قُتلت ؟ فيقول : أُمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قُتلت ، فيقول الله : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان جريء ، فقد قيل ذلك ) ثم ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ركبتي فقال : ( يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ) .
قال الوليد : وأخبرني غيره أن شقياً دخل على معاوية وأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية : وقد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس ؟ ثم بكى معاوية ( وضرب خدّيه ) حتى ظننّا أنه هالك ، ثم أفاق معاوية لا يمسح وجهه وقال : صدق الله ورسوله ) من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها ( وقرأ إلى قوله : ) باطل ما كانوا يعملون ( .
2 ( ) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاَْحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَائِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الاَْشْهَادُ هَاؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالاَْخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ أُولَائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاَْخِرَةِ هُمُ الاَْخْسَرُونَ ( 2
هود : ( 17 ) أفمن كان على . . . . .
) أفمن كان على بيّنة ( بيان وحجة ) من ربّه ( وهو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويتلوه شاهد منه ( يتبعه من يشهد له ويصدقه .
واختلفوا في هذا الشاهد فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وأبو صالح وأبو العالية وعكرمة : هو جبريل ( عليه السلام ) ، وقال الحسن ( ح ) : هو رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال الحسن وقتادة : هو لسان رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال محمد بن الحنفية : قلت لأبي أنت التالي ؟ قال : وما تعني بالتالي ؟ قلت : قوله : ) ويتلوه شاهد منه ( قال : وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) . وقال بعضهم : الشاهد صورة
(5/161)

" صفحة رقم 162 "
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ووجهه ومخائله ، لأنّ كل من كان له عقل ونظر إليه علم أنه رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وقال الحسين بن الفضل : هو القرآن في نظمه وإعجازه والمعاني الكثيرة منه في اللفظ القليل . وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد قال : هو ملك يحفظه ويسدّده . وقيل : هو علي بن أبي طالب .
أخبرني عبد الله الأنصاري عن القاضي أبو الحسين النصيري ، أبو بكر السبيعي ، علي بن محمد الدهان والحسن بن إبراهيم الجصاص ، قال الحسين بن حكيم ، الحسين بن الحسن عن حنان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : ) أفمن كان على بيّنة من ربه ( رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويتلوه شاهد منه ( علي خاصة ( ح ) .
وبه عن السبيعي عن علي بن إبراهيم بن محمد ( العلوي ) ، عن الحسين بن الحكيم ، عن إسماعيل بن صبيح ، عن أبي الجارود ، عن حبيب بن يسار ، عن زاذان قال : سمعت علياً يقول : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو ثنيت لي وسادة فأُجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي إلاّ وأنا أعرف به يساق إلى جنة أو يقاد إلى نار . فقام رجل فقال : ما آيتك يا أمير المؤمنين التي نزلت فيك ؟ قال : ) أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ( رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على بينة من ربه وأنا شاهد منه .
وبه عن ( السبيعي ) ، وأحمد بن محمد بن سعيد الهمداني حدثني الحسن بن علي بن برقع وعمر بن حفص الفراء ، حدثنا صباح القرامولي ، عن محارب عن جابر بن عبد الله ( الأنصاري ) ، قال علي ( ح ) : ما من رجل من قريش إلاّ وقد نزلت فيه الآية والآيتان ، فقال له رجل : فأنت أي شيء نزل فيك ؟ قال علي ( ح ) : أما تقرأ الآية التي في هود ، ) ويتلوه شاهد منه ( .
وفي الكلام محذوف تقديره : أفمن كان على بيّنة من ربه كمن هو في الضلالة ( متردّد ) ، ثم قال : ) ومن قبله ( يعني ومن قبل محمد والقرآن كان ) كتاب موسى إماماً ورحمة أولئك ( أي
(5/162)

" صفحة رقم 163 "
بني إسرائيل ) يؤمنون به ومن يكفر به ( أي بمحمد وقيل بالقرآن ، وقيل بالتوراة ) من الأحزاب فالنار موعده ( .
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يستمع لي يهودي ولا نصراني ، ولا يؤمن بي إلاّ كان من أهل النار ) .
قال أبو موسى فقلت في نفسي : إن النبي لا يقول مثل هذا القول إلاّ من الفرقان فوجدت الله يقول : ) ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ( ) فلا تك في مرية ( أي في شكّ ) منه إنه الحق من ربّك ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون (
هود : ( 18 ) ومن أظلم ممن . . . . .
) ومَن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( زعم أن لله ولداً أو شريكاً أو كذب بآيات القرآن ) أولئك ( يعني الكاذبين ، ) يُعرضون على ربهم ( فيسألهم عن أعمالهم ويجزيهم بها .
) ويقول الأشهاد ( يعني الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا ، في قول مجاهد والأعمش ، وقال الضحاك : يعني الأنبياء والرسل ، وقال قتادة : يعني الخلائق .
وروى صفوان بن محرز المازني قال : بينا نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر إذ عرض له رجل فقال : يا بن عمر ما سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول ) : ( يدنو المؤمن من ربّه حتى يضع كتفيه عليه فيقرّره بذنوبه فيقول : هل ( تعرف ما فعلت ؟ يقول : ( رب أعرف مرّتين ، حتى إذا بلغ ما شاء الله أن يبلغ فقال : وإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، وقال ( ثمّ يعطى صحيفة حسناته ، أو كتابه بيمينه قال ) : وأما الكافر والمنافق فينادى بهم على رؤوس الأشهاد ) .
) هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين (
هود : ( 19 - 20 ) الذين يصدون عن . . . . .
) الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ( قال ابن عباس : سابقين .
مقاتل بن حيان : قانتين ، قتادة : ( هراباً ) ) وما كان لهم من دون الله من أولياء ( أنصار تُغني ( عنهم ) ) يضاعف لهم العذاب ( يعني يزيد في عذابهم .
) ما كانوا يستطيعون السمع ( اختلف في تأويله : قال قتادة ( . . . . ) : ) وما كانوا يُبصرون ( الهدى ، وقوله : ) إنهم عن السمع لمعزولون ( قال ابن عباس : إن الله تعالى إنّما حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا ، وأما في الدنيا فإنه قال ) ما كانوا يستطيعون السمع وما
(5/163)

" صفحة رقم 164 "
كانوا يبصرون ( فإنه قال : فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ، وقال بعضهم : إنما عنى بذلك الأصنام .
) أولئك ( وآلهتهم ) لم يكونوا معجزين في الأرض ويضاعف لهم العذاب يوم القيامة ماكانوا يستطيعون السمع ( ولا يسمعونه ) وما كانوا يُبصرون ( ( . . . . . . ) فلا يعتبرون بها ، فحذف الباء ، كما يقول : لا يجزينك ما عملت وبما عملت .
هود : ( 21 - 22 ) أولئك الذين خسروا . . . . .
) أُولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لاجرم ( أي ( . . . . . ) ، قال الفرّاء : معناها لابدّ ولا محالة ) أنّهم في الآخرة هم الأخسرون ( يعني من غيرهم ، وإنْ كان الكل في الخسار .
2 ( ) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالاَْعْمَى وَالاَْصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّىوَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَياَقَوْمِ لاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَاكِنِّىأَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَياَقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِىأَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّىإِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِىإِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ( 2
(5/164)

" صفحة رقم 165 "
هود : ( 23 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربّهم ( قال عطية عن ابن عباس وقتادة : أنابوا وتضرّعوا إليه ، مجاهد : اطمأنّوا إلى ذكره ، مقاتل : أخلصوا ، الأخفش : تخشّعوا له ، وقيل : تواضعوا له .
) أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون }
هود : ( 24 ) مثل الفريقين كالأعمى . . . . .
) مَثَل الفريقين ( المؤمن والكافر ) كالأعمى والأصم والسميع والبصير هل يستويان مثلا ( قال الفرّاء : وإنّما لم يقل هل يستوون مثلا ، لأنّ الأعمى والأصم في خبر كأنهما واحد ، لأنهما من وصف الكافر ، والسميع والبصير في خبر كأنهما واحد ، لأنهما من وصف المؤمن .
) أفلا تذكرون }
هود : ( 25 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
) ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني ( قرأ أهل مكة وأبو عمرو والكسائي : أني بفتح الألف ويعنون بأني ، وقرأ الباقون بكسر الألف إني ، قال : إني لأن في الإرسال معنى القول .
) لكم نذير مبين }
هود : ( 26 ) أن لا تعبدوا . . . . .
) أن لا تعبدوا إلاّ الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( مؤلم ، قال مقاتل : بعث نوح وأمره ربّه ببناء ، السفينة وهو ابن ستمائة سنة وكان عمره ألفاً وخمسين عاماً ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة ، قال الله تعالى ) فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ( أي فلبث فيهم داعياً
هود : ( 27 ) فقال الملأ الذين . . . . .
) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك ( يا نوح ) إلاّ بشراً مثلنا ( آدمياً مثلنا ) وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا ( سفلتنا ) بادي الرأي ( قال مجاهد وأبي المعين وحمزة أبو عمرو وبصير على معنى بادي الرأي من غير روية ولا فكرة يعني : آمنوا من غير روية .
) وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين }
هود : ( 28 ) قال يا قوم . . . . .
) قال ( نوح ) يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني رحمة ( هدىً ومغفرة ) من عنده فعُمِيت عليكم ( التبست واشتبهت وقرأ أهل الكوفة : فعُمّيت بضم العين وتشديد الميم ، أي اشتبهت ولبّست ومعنى الكلام : عمّيت الأبصار عن الحق ، وهذا كما يقال : دخل الخاتم في أصبعي ، والخُفّ في رجلي وإنما يدخل الأصبع في الخاتم والرجل في الخُفّ ) أنلزمكموها ( يعني البيّنة والرحمة ) وأنتم لها كارهون ( لا تريدونها يعني لا يُقبل ذلك .
هود : ( 29 ) ويا قوم لا . . . . .
) ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ( أي على الوحي وتبليغ الرسالة كناية عن غير مذكور ) إنْ أجري ( ما ثوابي ) إلاّ على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا ( الباء صلة ) إنهم ملاقوا ربهم ( بالمعاد ) فيجزيهم بأعمالهم ولكني أراكم قوماً تجهلون }
هود : ( 30 - 31 ) ويا قوم من . . . . .
) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين
(5/165)

" صفحة رقم 166 "
تزدري ( تحتقر وتستصغر ) أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً ( يعني يؤخذ وانما ) الله أعلم بما في أنفسهم ( من النية والعزم والخير والشر ) إني إذاً لمن الظالمين ( إنْ فعلتُ ذلك .
هود : ( 32 ) قالوا يا نوح . . . . .
) قالوا يا نوح قد جادلتنا ( ما ريتنا وخاصمتنا ) فأكثرت جدالنا فأْتنا بما تعدنا ( يعني العذاب ) إن كنت من الصادقين }
هود : ( 33 - 34 ) قال إنما يأتيكم . . . . .
) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي ( نصيحتي ) إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ( يهلككم ويضلكم ) هو ربكم ( والأمر والحكم له ) وإليه ترجعون ( فيجازيكم بأعمالكم وهو ردّ على المعتزلة و ( المرجئة ) .
هود : ( 35 ) أم يقولون افتراه . . . . .
) أم يقولون افتراه ( قال ابن عباس : يعني نوحاً ، مقاتل يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) قل إن افتريته فعليَّ إجرامي ( إثمي ووبال أمري ، لا تؤخذون بذنبي ) وأنا بريء مما تجرمون ( لا أواخذ بذنوبكم
هود : ( 36 ) وأوحي إلى نوح . . . . .
) وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن ولا تبتئس ( ولا تحزن وهو منفعل من البؤس ) بما كانوا يفعلون ( فإني مهلكهم ومنقذك منهم فحينئذ دعا عليهم ) وقال ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ( .
هود : ( 37 ) واصنع الفلك بأعيننا . . . . .
) واصنع الفلك ( واعمل السفينة ) بأعيننا ( بمرأى منّا ، الضحاك : بمنظر منّا ، مقاتل : بعلمنا ، ربيع : بمسمعنا ) ووحينا ( ( على ما أوحينا إليك ) ، قال ابن عباس : وذلك إنّه لم يعلم كيف يصنع الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها على جؤجؤ الطائر ) ولا تخاطبني في الذين ظلموا ( ولا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا ) إنهم مغرقون ( بالطوفان ، أمر أن لا يشفع لهم عنده ، وقال : عنى امرأته وابنه .
هود : ( 38 ) ويصنع الفلك وكلما . . . . .
) ويصنع الفلك ( قيل : معناه وكان يصنع الفلك ، وقيل : معناه وصنع الفلك ) وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه ( هزئوا به .
) قال إن تسخروا منّا ( الآن ) فإنّا نسخر منكم ( إذا عاينتم عذاب الله
هود : ( 39 ) فسوف تعلمون من . . . . .
) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ( يهينه ) ويحل عليه عذاب مقيم ( دائم ، قال ابن عباس : اتخذ نوح ( عليه السلام ) السفينة في سنتين ، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسين ، وطولها في السمك ثلاثين ذراعاً ، وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام ، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام ، وركب هو في البطن الأعلى ( . . . . . ) ، عمّا يحتاج إليه من الزاد .
روي عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما
(5/166)

" صفحة رقم 167 "
يدعوهم إلى الله ، فأوحى الله عزّ وجلّ لما كان آخر زمانه وغرس شجرة ( فعظمت وذهبت كلّ مذهب ثمّ قطعها ) ويقطع ما يبس منها ، ثمّ جعل يعمل سفينة ويمّرون عليه قومه فيسألونه فيقول : أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون : يعمل سفينة في البر فكيف تجري ؟ فيقول : فسوف تعلمون ، فلّما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك ، خشيت أُمّ صبي عليه وكانت تحبّه حبّاً شديداً ، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه ، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى صعدت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء ، فلو رحم الله أحداً منهم لرحم أُمّ الصبي ) .
وروى علي بن زيد بن صوحان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فيحدّثنا عنها ، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفّاً من ذلك التراب بكفّه قال : أتدرون ماهذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا كفن حام بن نوح ، قال : فضرب الكثيب بعصاه وقال : قم بإذن الله ، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب ، قال له عيسى : هكذا هلكت ؟
قال : لا بل متُّ وأنا شاب ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثَمّ شبت ، قال : حدِّثْنا عن سفينة نوح ، قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ، فطبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير ، فلمّا كثرت فضلات الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل ، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث ، فلمّا وقع الفار بحوض السفينة وحبالها فقرضها ، وذلك أن الفار ولدت في السفينة فأوحى الله تعالى إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وهرّة فأقبلا على الفار .
فقال له عيسى : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت ؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف ، فلذلك لا يألف البيوت ، ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت قال : فطوّقها بالحمرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في قصر بأمان فمن ثم تألف البيوت .
قال : فقالوا : يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلنا فيجلس معنا ويحدّثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ فقال له : عد بإذن الله ، قال : فعاد تراباً .
(5/167)

" صفحة رقم 168 "
وروى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير أنّه كان يحدّث الأحاديث وكانوا يبطشون به ، يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال : ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون ، حتى إذا تمادوا في المعصية وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاولوا عليه ، وتطاول عليه وعليهم الشأن واشتد عليه منهم البلاء ، وانتظر البخل بعد البخل ، فلا يأتي قرن إلاّ كان أخبث من الذي قبله حتى إذا كان الآخر منهم ليقول : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً لا يقبلون منه شيئاً ، حتى شكا ذلك من أمرهم إلى الله عزّ وجل فقال : رب إنّي دعوت قومي ليلا ونهاراً ، حتى قال : ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إلى آخر القصة ، فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي بعد اليوم إنهم مغرقون .
فأقبل نوح على ( عمل ) الفلك ولجأ عن قومه إلى جبل يقطع الخشب ويضرب بيديه ( الحديد ) ، ويهيّئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلاّ هو ، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويقولون : يا نوح هل صرت نجاراً بعد النبوة ؟ وأعقم الله أرحام النساء فلبثوا سنين فلا يولد لهم ولد .
قال : ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يصنعه أزور وأن يطليه بالقار من أسفله وخارجه ، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً ، ومائة في عرضه وبطوله في السماء ثلاثين ذراعاً ، والذراع إلى المنكب ، وجعلها ثلاثة طوابق سفلى ووسطى وعليا ، فجعل فيه كوى ، ففعل نوح كما أمره الله تعالى .
هود : ( 40 ) حتى إذا جاء . . . . .
) حتى إذا جاء أمرنا ( عذابنا ) وفار التنور ( يعني انبجس الماء من وجه الأرض ، والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض ، وذلك أنه إذا قيل : إذا رأيت الماء يسيح على وجه الأرض فاركب أنت ومن اتبعك ، ومنها قول ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة ، وقال علي بن أبي طالب ( ح ) في تفسير و ) وفار التنور ( : أي طلع الفجر ونور الصبح ، ومن ذلك عبارته نوّر الفجر تنويراً ، قتادة : موضع في الأرض وأعلى مكان فيها . قال الحسن : أراد بالتنور الذي يخبز فيه وكان تنوراً من حجارة وكان لحواء حتى صار إلى نوح ، فقيل له : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك ، فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته ، وهذا قول مهران . ورواه عطية عن ابن عباس ، قال مجاهد : وكان ذلك في ناحية الكوفة ، وروى السدي عن الشعبي أنه كان يحلف بالله ما يظهر التنور إلاّ من ناحية الكوفة ، وقال : اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة ، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة ، وكان فوران الماء منه علماً لنوح ودليلا على هلاك قومه
(5/168)

" صفحة رقم 169 "
وقال مقاتل : كان ذلك تنور آدم وإنّما كان بالشام بموضع يقال له : عين وردة ، وقال ابن عباس : فار التنور بالهند ، والفور : الغليان .
) قلنا احمل فيها ( أي في السفينة ) من كل زوجين اثنين ( قال المفسرون أراد بالزوجين : اثنين ذكراً وأنثى ، وقال أهل المعاني : كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه ، فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجاً ، يقال له : زوجا نعال إذا كانت له نعلان وكذلك عنده زوجا حمام ، وعليه زوجا قيود ، قال الله تعالى ) وإنه خلق الزوجين الذكر والأُنثى ( ، وقال بعضهم : أراد بالزوجين الضربين والصنفين وكل ضرب يدعى زوج ، قال الأعشى :
وكل زوج من الديباج يلبسه
أبو قدامة محبوّ بذاك معا
أراد كل ضرب ولون . وقال لبيد :
وذي ( . . . . . ) كرّ المقاتل صولة
وذرّته أزواج ( . . . . . . . . ) يشرّب
أي ألوان وأصناف ، وقرأ حفص هاهنا وفي سورة المؤمنين ) من كل ( بالتنوين أي من كل صنف ، وجعل اثنين على التأكيد .
) وأهلك ( أي واحمل أهلك ومالك وعيالك ) إلاّ من سبق عليه القول ( بالهلاك يعني امرأته راحلة وابنه كنعان .
) ومن آمن ( يعني واحمل من آمن بك ، قال الله تعالى ) وما آمن معه إلاّ قليل ( واختلفوا في عددهم ، فقال قتادة والحكم وابن جريج ومحمد بن كعب القرضي : لم يكن في السفينة إلاّ نوح وامرأته وثلاثة بنيه ، سام وحام ويافث أخوة كنعان وزوجاتهم ( وَرَحْلِهم ) فجميعهم ثمانية ، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا الله نوحٌ أن يغير نطفته فجاء بالسودان . وقال الأعمش : كانوا سبعة : نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين له . وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم : نوح وبنوه حام وسام ويافث وستة أناس ممن كان آمن معه وأزواجهم جميعاً .
وقال مقاتل : ( كانوا ) اثنين وسبعين رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونساءهم ، فكان الجميع ثمانية وسبعين نفساً ، نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساء .
قال ابن عباس : كان في سفينة نوح ثمانون إنساناً أحدهم جرهم .
(5/169)

" صفحة رقم 170 "
قال مقاتل : وحمل نوح معه جسد آدم وجعله معترضاً بين الرجال والنساء ، وحمل نوح جميع الدواب من الغنم والوحوش والطير وفرق فيما بينها .
قال ابن عباس : أول ما حمل نوح في السفينة من الدواب الأوزة ، وآخر ما حمل الحمار ، فلمّا دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح يقول له : ادخل فينهض فلا يمشي ، حتى قال نوح : ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك ، فقال له نوح : ما أدخلك عليّ يا عدو الله ؟ فقال له : ألم تقل ادخل وان كان الشيطان معك ، قال نوح : اخرج عني يا عدو الله ، قال : ما لك بدّ من أن تحملني معك ، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك .
وفي تفسير مالك بن إبراهيم الهروي الذي أخبرني بالأسناد إلى أبي القاسم والحسن بن محمد ببعضه قراءةً وأجاز لي بالباقي في غير مرة ، قال يحدثنا أبو العباس محمد بن الحسن الهروي ، قال : حدثنا جابر بن عبد الله عنه أن الحية والعقرب أتيا نوحاً فقالتا : احملنا ، فقال نوح : إنكما سبب الضرّ والبلايا والأوجاع فلا أحملكما ، فقالتا : احملنا فنحن نضمن لك بأن لا نضر أحداً ذكرك ، فمن قرأ حين خاف مضرّتهما : ) سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ( ما ضرّتاه .
( ) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ ياَبُنَىَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِىإِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ ياَأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَياَسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِىَ الاَْمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّىأَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّىأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِىأَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 2
هود : ( 41 ) وقال اركبوا فيها . . . . .
) وقال ( نوح لهم : ) اركبوا فيها بسم الله مجراها ( قرأ أبو رجاء العطاردي : مُجرِاها ومُرسِاها بضم الميمين وكسر الراء والسين وهي قراءة عبدالله .
قال ابن عباس : مجريها حيث تجري ومرساها حيث ترسو ، أي تحسر في الماء .
وقرأ محمد بن محيصن بفتح الميمين وهما مصدران ، يعني أن الله تعالى بيده جريها
(5/170)

" صفحة رقم 171 "
ورسوّها أي ثبوتها ، جرى يجري جرياً ومجرى ، ورسا يرسو رسوّاً ومُرسى ، مثل ذهب مذهباً وضرب مضرباً . قال امرؤ القيس :
تجاوزت أحراساً وأهوال معشر
عليَّ حرامٌ لو يسرّون مقتلي
أي : قتلي .
وقرأ الباقون بضم الميمين ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، ومعناه : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، كقوله تعالى ) أنزلني منزلا مباركاً وأدخلني مُدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ( بمعنى الإنزال والإدخال والإخراج .
) إنّ ربي لغفور رحيم ( قال الضحاك : كان نوح إذا أراد أن يرسو قال : بسم الله ، فرست ، وإذا أراد أن تجري قال : بسم الله ، فجرت .
هود : ( 42 ) وهي تجري بهم . . . . .
) وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه ( كنعان وكان عنيداً وقيل وكان كافراً .
) وكان في معزل ( عنه لم يركب معه الفلك .
) يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ( فتهلك ،
هود : ( 43 ) قال سآوي إلى . . . . .
قال له ابنه : ) سآوي ( سأصير وأرجع ) إلى جبل يعصمني ( يمنعني ) من الماء ( ومنه عصام القربة الذي ( يربط ) رأسها فيمنع الماء أن يسيل منها .
) قال نوح ( ) لا عاصم اليوم من أمر الله ( عذاب الله إلاّ من رحمناه ، وأنقذناه منه ، ومن في محل رفع ، وقيل : في محل النصب ومعناه لا معصوم اليوم من أمر الله إلاّ من رحمه الله ، كقوله تعالى ) عيشة راضية و ( ) ماء دافق ( قال الشاعر :
بطيء القيام رخيم الكلام
أمسى فؤادي به فاتنا
أي مفتوناً .
) وحال بينهما الموج وكان ( فصار ) من المغرقين (
هود : ( 44 ) وقيل يا أرض . . . . .
) وقيل ( بعدما تناهى أمر الطوفان ) يا أرض ابلعي ( أي اشربي ) ماءك ويا سماء أقلعي ( امسكي ) وغيض الماء ( فذهب ونقص ومصدره الغيض والغيوض .
) وقضي الأمر ( أي وفرغ من العذاب ) واستوت ( يعني السفينة استقرّت ورست وحلّت ) على الجوديّ ( وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل ، قال مجاهد : تشامخت الجبال وتطاولت لئلاّ ينالها الماء فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعاً وتواضع الجودي وتطامن لأمر ربّه فلم يغرق ، فأرسيت السفينة عليه .
(5/171)

" صفحة رقم 172 "
) وقيل بعداً ( هلاكاً ) للقوم الظالمين ( الكافرين ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( في أوّل يوم من رجب وفي بعض الأخبار : لعشر مضت من رجب ركب نوح في السفينة فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر ، ومرّت بالبيت فطاف به سبعاً وقد رفعه الله من الغرق ، وأرسيت السفينة على الجودي يوم عاشوراء ، فصام نوح وأمر جميع من معه من الوحوش والدواب فصاموا شكراً لله عزّ وجلّ ) .
هود : ( 45 ) ونادى نوح ربه . . . . .
) ونادى نوح ربّه فقال ربّ إن ابني من أهلي ( وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ) وإنّ وعدك الحق ( أي الصدق ) وأنت أحكم الحاكمين ( أي تحكم على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك .
هود : ( 46 ) قال يا نوح . . . . .
) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح ( وقرأ أهل الكوفة ( عَمِلَ ) بكسر الميم وفتح اللام ، غير بنصب الراء على الفعل ومعناه : إنه عمل الشرك والكفر ، وقرأ الباقون عَملٌ بفتح الميم وضمّ اللام وتنوين غير بالرفع ومعناه : إنّ سؤالك إياي أن أنجيه عملٌ غيرُ صالح .
) فلا تسألني ( يا نوح ) ما ليس لك به علم ( بما لا تعلم وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتحه ، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسره .
) إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين ( واختلفوا في هذا الابن فقال بعضهم : إنه لم يكن ابن نوح ، ثم اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : كان ولد خبث من غيره ، ولم يعلم بذلك نوح ، فقال الله تعالى : إنه ليس من أهلك أي من ولدك ، وهو قول مجاهد والحسن ، وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان بابنه ، وقرأ ) فخانتاهما ( فقال : إن الله حكى عنه إنه قال : إن ابني من أهلي ، وقال : ونادى نوح ابنه وأنت تقول : لم يكن ابنه ، وإن أهل الكتابين لا يختلفون في انه كان ابنه . فقال الحسن : ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب ، إنهم يكذبون .
وقال ابن جريج : ناداه وهو يحسب أنه ابنه ، وكان ولدَ على فراشه ، وقال عبيد بن عمير ، نرى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قضى أن الولد للفراش من أجل ابن نوح ، وقال بعضهم : إنه كان ابن امرأته واستدلّوا بقول نوح : إن ابني من أهلي ولم يقل : منّي ، وهو قول أبي جعفر الباقر .
وقال الآخرون : كان ابنه ومن فصيلته ، ومعنى قوله : إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم ، وقالوا : ما بغت امرأته ولا امرأة لوط وإنما كانت خيانتهما في الدين لا في الفراش ، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون ، وهذه كانت تدلّ على الأضياف ، وهو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران .
قال أبو معاوية البجلي : قال رجل لسعيد بن جبير : قال نوح إن ابني من أهلي ، أكان ابن نوح ؟ فسبّح طويلا ، وقال : لا إله إلاّ الله يحدث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) انه ابنه وتقول ليس ابنه ، كان
(5/172)

" صفحة رقم 173 "
ابنه ولكنه كان مخالفاً في النية والعمل والدين ، فمن ثم قال تعالى : انه ليس من أهلك ، وهذا القول أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب .
فقال نوح ( عليه السلام ) عند ذلك
هود : ( 47 - 48 ) قال رب إني . . . . .
) رب إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط ( انزل من السفينة إلى الأرض ) بسلام ( بأمن وسلامة ) منّا وبركات عليك وعلى أُمم ممن معك ( وهم الذين كانوا معه في السفينة .
وقال أكثر المفسّرين : معناه وعلى قرون تجيء من ذريّة من معك من الذين آمنوا معك من ولدك ، وهم المؤمنون وأهل السعادة من ذريته ) وأُمم سنمتعهم ( في الدنيا ) ثم يمسّهم منّا ( في الآخرة ) عذاب أليم ( وهم الكافرون وأهل الشقاوة . وقال محمد بن كعب القرضي : داخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، وكذلك داخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة .
قال الضحاك : زعم أُناس إن من غرق من الولدان مع آبائهمن وإنّما ليس كذلك وإنّما الولدان بمنزلة الطير ، وسائر من أغرق الله يعود لابنه ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم والمذكورين من الرجال والنساء ممّن كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا ثم مصيرهم إلى النار .
2 ( ) تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ ياَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ياَقَوْمِ لاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِىأَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَياَقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ قَالُواْ ياَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِىءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّىأُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاإِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( 2
هود : ( 49 ) تلك من أنباء . . . . .
) ذلك ( الذي ذكرت ) من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ( يا محمد ) ولا قومك من قبل هذا ( من قبل إخباري إياك ) فاصبر ( على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من أذى الكفار كما صبر نوح ) إن العاقبة ( آخر الأمر بالسعادة والظفر والمغفرة ) للمتقين ( كما كان لمؤمني قوم نوح وسائر الأمم .
(5/173)

" صفحة رقم 174 "
هود : ( 50 ) وإلى عاد أخاهم . . . . .
) وإلى عاد ( أي فأرسلنا إلى عاد ) أخاهم هوداً ( في النسب لا في الدين ) قال يا قوم اعبدوا الله ( وحّدوا الله وأكثروا العبادة في القرآن بمعنى التوحيد ) ما لكم من إله غيره إن أنتم إلاّ مفترون ( ما أنتم في إشراككم معه الأوثان إلاّ كاذبون .
هود : ( 51 ) يا قوم لا . . . . .
) يا قوم لا أسألكم عليه ( على تبليغ الرسالة ولا أبتغي جعلا ) إن أجري إلاّ على الذي فطرني ( والفطرة ابتداء الخلقة ) أفلا تعقلون ( وذلك أن الأمم قالت للرسل : ما تريدون إلاّ أن تأخذوا أموالنا فقالت الرسل لهم هذا .
هود : ( 52 ) ويا قوم استغفروا . . . . .
) ويا قوم استغفروا ربكم ( أي آمنوا به يغفر لكم ، والإستغفار هنا بمعنى الإيمان ) ثم توبوا إليه ( من عبادتكم غيره وسالف ذنوبكم ، وقال الفرّاء : معناه وتوبوا إليه لأن التوبة استغفار والاستغفار توبة .
) يُرسل السماء عليكم مدراراً ( متتابعاً ، وقال مقاتل بن حيان وخزيمة بن كيسان : غزيراً كثيراً .
) ويزدكم قوة إلى قوتكم ( شدّة مع شدّتكم ، وذلك أن الله حبس عنهم القطر في سنين وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فقال لهم هود : إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد .
) ولا تتولوا ( ولا تدبروا مشركين
هود : ( 53 ) قالوا يا هود . . . . .
) قالوا يا هود ما جئتنا ببيّنة ( بيان وبرهان على ما تقول فنقر ونسلّم لك ) وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ( أي بقولك ، والعرب تضع الباء موضع عن ، وعن موضع الباء .
) وما نحن لك بمؤمنين ( بمصدّقين
هود : ( 54 ) إن نقول إلا . . . . .
) إن نقول إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء ( يعني لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسبّ آلهتنا إلاّ أن بعض آلهتنا اعتراك وأصابك بسوء ، بل جنون ، وهذيان ، هو الذي يحملك على ما تقول وتفعل ، ولا نقول فيك إلاّ هذا ولا نحمل أمرك إلاّ على هذا ، فقال لهم هود : ) إني أُشهد الله ( على نفسي ) واشهدوا أني بريء مما تشركون }
هود : ( 55 ) من دونه فكيدوني . . . . .
) من دونه ( يعني الأوثان ) فكيدوني جميعاً ( فاحتالوا جميعاً في ضرّي ومكري أنتم وأوثانكم ) ثم لا تنظرون }
هود : ( 56 ) إني توكلت على . . . . .
) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها ( .
قال الضحاك : يحييها ويميتها ، قال الفرّاء : مالكها والقادر عليها ، قال القتيبي : يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته ، قال ابن جرير : إنما خصّ الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنساناً بالذلة والخضوع فيقولون : ما ناصية فلان إلاّ بيد فلان أي إنه مطيع له يصرفه كيف شاء ، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا اطلاقه والمنّ عليه جزوا ( ناصيته ) ليغتروا بذلك فخراً عليه ، فخاطبهم بما يعرفون في كلامهم .
(5/174)

" صفحة رقم 175 "
) إنّ ربي على صراط مستقيم ( يقول : إنّ ربي على طريق الحق يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بمعصيته ولا يظلم أحداً غيّاً ولا يقبل إلاّ الإسلام ، والقول فيه إضمار أنيّ : إنّ ربي يدلّ أو يحثّ أو يحملكم على صراط مستقيم .
هود : ( 57 ) فإن تولوا فقد . . . . .
) فإن تولوا فقد أبلغتكم ( أي قل يا محمد : فقد أبلغتكم ) ما أُرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ( يوحّدونه ويعبدونه ) ولا تضرونه شيئاً ( بتولّيكم وإعراضكم وإنما تضرون أنفسكم ، وقيل : معناها لا تقدرون له على خير إن أراد أن يضلكم ، وقرأ عبدالله : ولا يضره هلاككم إذا أهلككم ولا تنقصونه شيئاً ، لأنه سواء عنده كنتم أو لم تكونوا .
) إن ربي على كل شيء حفيظ ( أي لكل شيء حافظ ، على بمعنى اللام ، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء .
هود : ( 58 ) ولما جاء أمرنا . . . . .
) ولما جاء أمرنا ( عذابنا ) نجينا هوداً والذين آمنوا معه ( وكانوا أربعة آلاف ) برحمة ( بنعمة ) منّا ونجيناهم من عذاب غليظ ( وقيل : الريح ، قيل : أراد بالعذاب الغليظ عذاب القيامة أي كما نجّيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجّيناهم في الآخرة من العذاب .
هود : ( 59 ) وتلك عاد جحدوا . . . . .
) وتلك عاد ( رده إلى القبيلة ) جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ( يعني هوداً وحده لأنه لم يُرسل إليهم من الرسل سوى هود ، ونظيره قوله تعالى ) يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ( يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإنه لم يكن في عصره رسول سواه ، وإنما جمع هاهنا لأن من كذّب رسولا واحداً فقد كذّب جميع الرسل .
) واتّبعوا أمر كلّ جبار عنيد ( متكبّر لا يقبل الحق ولا يذعن له ، قال أبو عبيد : العنيد والعنود والعاند والمعاند : المعارض لك بالخلاف ، ومنه قيل للعرق الذي يفجر دماً فلا يرقى : عاند قال الراجز :
إنّي كبيرٌ لا أطيقُ العندا
هود : ( 60 ) وأتبعوا في هذه . . . . .
) وأُتبعوا ( ألحقوا وأردفوا ) في هذه الدنيا لعنة ( يعني بعداً وعذاباً وهلاكاً ) ويوم القيامة ( أي وفي يوم القيامة أيضاً كذلك لعنوا في الدنيا والآخرة ) ألا إنّ عاداً كفروا ربهم ( أي بربهم ، كما يقال : شكرته وشكرت له ، وكفرته وكفرت به ونصحته ونصحت له ، قيل بمعنى : كفروا نعمة ربهم .
) ألا بُعداً لعاد قوم هود ( البُعد بعدان : أحدهما البُعد ضد القرب ، يقال : بعد يبعد بُعداً ، والآخر بمعنى الهلاك ويقال منه : بَعد يَبعد بَعداً وبُعْداً .
(5/175)

" صفحة رقم 176 "
2 ( ) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الاَْرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَاذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ ياَقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّى وَءَاتَانِى مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَياقَوْمِ هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِىأَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ ( 2
هود : ( 61 ) وإلى ثمود أخاهم . . . . .
) وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم ( ابتدأ خلقكم ) من الأرض ( وذلك أن آدم خلق من الأرض وهم منه ) واستعمركم فيها ( وجعلكم عمّارها وسكانها ، قال ابن عباس : أعاشكم فيها ، الضحّاك : أطال أعماركم ، مجاهد : أعمركم من العمر أي جعلها داركم وسكنكم ، قتادة : أسكنكم فيها .
) فاستغفروا ثم توبوا إليه إنّ ربي قريب ( ممّن رجاه ) مجيب ( لمن دعاه .
هود : ( 62 ) قالوا يا صالح . . . . .
) قالوا ( يعني قوم ثمود ) يا صالح قد كنت فينا مرجوّاً قبل هذا ( القول أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّداً ، وقيل : كنا نرجو أن تعود إلى ديننا ) أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ( من الآلهة .
) وإنّنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( موقع في الريبة وموجب إليها ، يقال : أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة ، قال الهذلي :
كنت إذا أتيته من غيبِ
يشم عطفي ويبز ثوبى
كأنما أربته بريب
هود : ( 63 ) قال يا قوم . . . . .
) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني منه رحمة ( نبوة وحكمة ) فمن ينصرني من الله ( لا يمنعني من عذاب الله ) إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ( قال ابن عباس : غير خسارة في خسارتكم ، الفرّاء : تضليل ، قال الحسين بن الفضيل : لم يكن صالح في خسارة حين قال ، علمت علم العرب ، فما تزيدونني غير تخسير ، وإنما المعنى ما تزيدونني ، كما يقولون : ما أسبق إياكم إلى الخسارة ، وهو قول العرب : فسقته وفجرته إذا نسبته إلى الفسق والفجور ، وكذلك خسرته : نسبته إلى الخسران .
(5/176)

" صفحة رقم 177 "
هود : ( 64 ) ويا قوم هذه . . . . .
) ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية ( نصب على الحال والقطع ) فذروها ( أي دعوها تأكل في أرض الله من العشب والنبات فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها .
) ولا تمسوها بسوء ( ولا تصيبوها بعقر ونحر ) فيأخذكم ( إن قتلتموها ) عذاب قريب ( من عقرها
هود : ( 65 ) فعقروها فقال تمتعوا . . . . .
) فعقروها فقال ( لهم صالح ) تمتعوا ( حتى يحين ( عذابه ) ) في داركم ( منازلكم ) ثلاثة أيام ( تمهلون ) ذلك وعد غير مكذوب ( غير كذب وقيل : غير مكذوب فيه .
هود : ( 66 ) فلما جاء أمرنا . . . . .
) فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة ( نعمة وعصمة ) منا ومن خزي يومئذ ( عذابه وهوانه .
) إن ربك هو القوي العزيز (
هود : ( 67 ) وأخذ الذين ظلموا . . . . .
) وأخذ الذين ظلموا الصيحة ( يعني صيحة جبريل ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( صرعى ، هلكى
هود : ( 68 ) كأن لم يغنوا . . . . .
) كأن لم يغنوا ( يقيموا ويكونوا ) فيها ألا إنّ ثمودَ كفروا ربهم ألا بُعداً لثمود ( .
2 ( ) وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ ياوَيْلَتَا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ( 2
هود : ( 69 ) ولقد جاءت رسلنا . . . . .
) ولقد جاءت رسلنا ( يعني الملائكة ، واختلفوا في عددهم ، فقال ابن عباس : كانوا ثلاثة : جبرئيل وميكائيل وإسرافيل . الضحّاك : تسعة ، السدّي : أحد عشر ، وكانوا على صورة الغلمان الوِضاء وجوههم .
) إبراهيم ( الخليل ) بالبشرى ( بالبشارة بإسحاق ويعقوب ، وبإهلاك قوم لوط ) قالوا ( لإبراهيم ) سلاماً ( سلّموا عليه ونصب ) سلاماً ( بإيقاع القول عليه ، لأن السلام قول أي ( مِثل ) قالوا وسلّموا سلاماً ( قال ) إبراهيم ( سلام ) أي عليكم سلام ، وقيل : لكم سلام وقيل : رُفِع على الحكاية ، ( قيل : الحمد لله ) ( وقولوا حطّة ) ، وقرأ حمزة والكسائي سِلام بكسر السين من غير ألف ومثله في والذاريات ، وكذلك هو في مصحف عبد الله ومعناه : نحن سِلام صالح لكم غير حرب ، وقيل : هو بمعنى السِلم أيضاً كما يقال : حِل وحلال ، وحِرم وحرام . وأنشد الفراء :
مررنا فقلنا إيه سلّم فسلمت
كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح
(5/177)

" صفحة رقم 178 "
) فما لبث ( فما أقام ومكث إبراهيم ) أن ( بمعنى حتى بإسقاط الخافض أي بأن ) جاء بعجل حنيذ ( قال ابن عباس : مشوي بالحجارة الحارة في خد من الأرض ، قتادة ومجاهد : نضج بالحجارة وشوي ، ابن عطية : شوي بعضه بحجارة ، أبو عبيدة : كل ما أسخنته فقد حنذته فهو حنيذ ومحنوذ وأصل يحنذ أن إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق .
هود : ( 70 ) فلما رأى أيديهم . . . . .
) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ( أي للعجل ) نكرهم ( أي : أنكرهم ، ويقال : نكرت الشيء وأنكرته بمعنى واحد . قال الأعشى :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
من الحوادث إلاّ الشيب والصلعا
فجمع المعنيين في وقت واحد .
) وأوجس منهم خيفة ( أضمر وأحسّ منهم خوفاً ، وقال مقاتل : وقع في قلبه ، الأخفش : خامر نفسه . الفرّاء : استشعر . الحسن : حدّث نفسه ، وأصل الوجوس الدخول ، وكان الخوف دخل قلبه . قتادة : وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجئ لخير وأنّه يحدّث نفسه بشرّ .
) قالوا لا تخف ( يا إبراهيم فإنّا ملائكة الله ) إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( قال الوالبي : لمّا عرف إبراهيم أنهم ملائكة خاف أنه وقومه المقصودون بالعذاب ؛ لأن الملائكة كانت تنزل إذ ذاك بالعذاب ، نظير ما في الحجر ) ما تتنزل الملائكة إلاّ بالحق ( أي بالعذاب ، قالت الملائكة : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط لا إلى قومك .
هود : ( 71 ) وامرأته قائمة فضحكت . . . . .
) وامرأته ( سارة بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغوا بن فالغ وهي ابنة عم إبراهيم ) قائمة ( من وراء الستر تسمع كلام الملائكة وكلام إبراهيم ، وقيل : كانت قائمة ( . . . . . . ) الرسل وإبراهيم جالس معهم فهو كلام أوّلي ، وقرأ ابن مسعود : وامرأته قائمة وهو جالس ) فضحكت ( .
واختلفوا في العلة الجالبة للضحك ، فقال السدي : لما قرب إليهم الطعام فلم يأكلوا خاف إبراهيم فظنهم لصوصاً ، فقال لهم : ألا تأكلون ؟ فقالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاماً إلاّ بثمن ، قال : فإن لهذا ثمناً ، قالوا : وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوّله وتحمدون على آخره ، فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال : حق أن يتخذك خليلا ، فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل
(5/178)

" صفحة رقم 179 "
إليه نكرهم ، فضحكت سارة وقالت : إنا قمنا لأضيافنا هؤلاء أنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم ، وهم لا يأكلون طعامنا .
وقال قتادة : فضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم ، وقال مقاتل والكلبي : فضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر وهو فيما بين خدمه وحشمه ، وقال ابن عباس ووهب : ضحكت عجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنّها وسنّ زوجها ، وقالوا : هو من التقديم الذي معناه التأخير ، وكان بمعنى : ( . . . . . . ) وامرأته قائمة .
) فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( فضحكت
هود : ( 72 ) قالت يا ويلتى . . . . .
وقالت ) يا ويلتى أألد وأنا عجوز ( الآية ، وقيل : ضحكت سروراً بالأمن عليهم لما قالوا : لا تخف . وقال مجاهد وعكرمة : فضحكت أي حاضت في الوقت ، تقول العرب : ضحكت الأرنب إذا حاضت ، وقال الشاعر :
وضحكت الأرانب فوق الصفا
كمثل دم الخوف يوم اللقا
) فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( قال ابن عباس والشعبي : الوراء ولد الولد ، واختلف القّراء في قوله : يعقوب ، فنصبه ابن عامر وعاصم وقيل : في موضع جر في الصفة أي من وراء إسحاق بيعقوب ، فلمّا حذف الباء نصب ، وقيل : بإضمار فعل له ، ووهبنا له يعقوب . ورفعه الآخرون على خبر حذف الصفة ، فلمّا بُشّرت بالولد والحفيد ) صكّت وجهها ( أي ضر الله تعجباً ) وقالت يا ويلتى ( والأصل : يا ويلتاه ) أألد وأنا عجوز ( وكانت لتسعين سنة في قول ابن إسحاق ، وتسع وتسعين سنة في قول مجاهد .
) وهذا بعلي ( زوجي سمي بذلك لأنه قيّم أمرها كما سمّي مالك الشيء بعله ، والنخل الذي استغنى بالأمطار عن ماء الأنهار يسمّى بعلا ) شيخاً ( وكان إبراهيم ابن مائة سنة في قول مجاهد ، وعشرين ومائة سنة في قول ابن إسحاق .
) إن هذا لشيء عجيب (
هود : ( 73 ) قالوا أتعجبين من . . . . .
فقالت الملائكة ) أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ( يعني هنا إبراهيم ) إنه حميد مجيد ( قال السدّي : قالت سارة لإبراهيم ( عليه السلام ) : ما آية قولك ؟ قال : فأخذ بيده عوداً يابساً فلواه بين أصابعه ، فاهتزّ أخضر فقال إبراهيم : هو لله إذاً ذبيحاً .
( ) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا
(5/179)

" صفحة رقم 180 "
لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ هَاؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِىإِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ( 2
هود : ( 74 - 75 ) فلما ذهب عن . . . . .
) فلما ذهب عن إبراهيم الروع ( الخوف ) وجاءته البشرى ( بإسحاق ويعقوب ) يجادلنا ( في ( . . . . . . . ) لأنّ إبراهيم لا يجادل ربّه إنّما يسأله ويطلب إليه .
وقال عامّة أهل التفسير معناه يجادل رسلنا وذلك أنهم لما قالوا : إنا مهلكوا أهل هذه القرية ، قال لهم : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا لا ، فقال إبراهيم : وأربعون ؟
قالوا : لا ، قال : أو ثلاثون ؟ قالوا : لا ، قال : حتى بلغ عشرة ، قالوا : لا ، فقال : خمسة قالوا : لا ، قال : أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونه ؟ قالوا : لا ، فقال إبراهيم عند ذلك : إن فيها لوطاً ، فقالوا : نحن أعلم بمن فيها لننجّينه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين .
قال ابن جريج : وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف ، قال قتادة : في هذه الآية لا يرى مؤمن إلاّ لوط المؤمن ، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم :
هود : ( 76 ) يا إبراهيم أعرض . . . . .
) يا إبراهيم أعرض عن هذا ( أي دع عنك الجدال ، وأعرض عن هذا المقال ) إنه قد جاء أمر ربك ( عذاب ربك ) وإنهم آتيهم ( نازل بهم ، يعني قوم لوط ) عذاب غير مردود ( غير مدفوع ولا ممنوع .
هود : ( 77 ) ولما جاءت رسلنا . . . . .
) ولمّا جاءت رسلنا ( يعني الملائكة ) لوطاً سيء بهم ( حزن لمجيئهم ، يقال : سؤته فسيء مثل شغلته فانشغل ، وسررته فانسر ) وضاق بهم ذرعاً ( قلباً ) وقال هذا يوم عصيب ( شديد ، ومنه عصبصب ، كالعصب به الشر والبلاء أي شدّ ومنه عصابة الرأس ، قال عدي بن زيد :
وكنت لزاز خصمك لم أعرد
وقد سلكوك في يوم عصيب
وقال آخر :
وانك إلاّ تُرض بكر بن وائل
يكن لك يوم بالعراق عصيب
(5/180)

" صفحة رقم 181 "
وقال الراجز :
يوم عصيب يعصب الأبطالا
عصب القوي السلم الطوالا
وذلك أن لوطاً ( عليه السلام ) لم يكن يعلم أنهم رسل الله في تلك الحال ، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيان الفواحش فخاف عليهم ، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه
قال قتادة والسدّي : خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام نحو قرية لوط فأتوا لوطاً وهو في أرض يعمل فيها ، وقد قال الله تعالى لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطاً أربع شهادات ، واستضافوه فانطلق معهم ، فلمّا خشي عليهم ، قال لهم : ما بلغكم ، أمر هذه القرية ؟ قالوا : وما أمرهم ؟ قال : أشهد بالله إنها لشرّ قرية في الأرض عملا يقول ، ذلك أربع مرات ، فدخلوا معه منزله ، ولم يعلم بذلك أحد إلاّ أهل بيت لوط ، فخرجت امرأته فأخبرت قومها ، وقالت : إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط .
هود : ( 78 ) وجاءه قومه يهرعون . . . . .
) وجاءه قومه يُهرعون إليه ( قال ابن عباس وقتادة والسدّي : يُسرعون ، ومجاهد : يهرولون ، الضحاك : يسعون ، ابن عيينة : كأنهم يُدفعون ، شمر بن عطية : مشي بين الهرولة والجمزى ، الحسن : مشي بين مشيتين ، قال أهل اللغة : يقال : أهرع الرجل من برد وغضب أو أهرع إذا أرعد فهو مُهرع إذا كان معجلا مسرعاً ، قال مُهلهل :
فجاءوا يهرعون وهم أُسارى
يقودهم على رغم الأنوفِ
وقال الراجز :
بمعجلات نحوه مهارع
) ومن قبل كانوا يعملون السيئات ( أي من قبل مجيء الرسل إلى لوط كانوا يأتون الرجال في أدبارهم ، فقال لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان : ) يا قوم هؤلاء بناتي هُنّ أطهر لكم ( واختلفوا في معنى قوله ، قال محمد بن الفضل : يعني على شريعة الإسلام . وقال تميم : فلعلّ ذلك إلاّ إذا كان تزويجه بناته من الكفرة جائزاً كما زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : أراد بقوله بناتي : النساء ، وكلّ نبي أبو أمّته . وقرأ بعض القراء ) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ( وهو أب لهم ، وقال بعضهم : كان لهم سيّدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه ، زعوراء وريثا .
(5/181)

" صفحة رقم 182 "
وقوله : ( هنّ أطهر لكم ) قراءة العامة برفع الراء ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو : ( أطهر ) بالنصب على الحال ، فإن قيل : فأي طهارة في نكاح الرجال حتى قال لبناته هن أطهر لكم ؟ قيل : ليس هذا زيادة النسل ، إنما يقال ليس ألف ( أطهر ) للتفضيل وهذا سائغ جائز في كلام العرب كقول الناس : الله أكبر ، فهل يكابر الله أحد حتى يكون هو أكبر منه ؟ ويدلّ عليه ما روي عن أبي سفيان حين قال يوم أحد : أعلُ هبل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر : ( قل الله أعلى وأجل ) ، وهبل لم يكن قط عالياً .
) واتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي ( أي لا تهينوني فيهم بركوبهم ، وهم لا يركبون ، وعجزي من دفعهم عنهم . وقيل : أراد ولا تشهروني بهم . تقول العرب : خزي خزياً إذا افتضح ، وخزي يخزي خزاية بمعنى الاستحياء ، قال ذو الرمة :
خزاية أدركته بعد جولته
من جانب الحبل مخلوطاً بها الغضب
) أليس فيكم رجل رشيد ( صالح ، قال ابن عباس : معناه رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
هود : ( 79 ) قالوا لقد علمت . . . . .
) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ( أي ليس لنا أزواجاً ( نلتصقهنّ ) بالتزويج ) وإنك لتعلم ما نريد ( من إتيان الأضياف ،
هود : ( 80 ) قال لو أن . . . . .
فقال لهم لوط عند ذلك ) ولو أن لي بكم قوة ( أي منعة وشيعة تنصرني ) أو آوي إلى ركن شديد ( أي ألجأ وأنضوي إلى عشيرة مانعة ، وجواب ) لو ( مضمر ( تقديره : لرددت أهل الفساد ) ، وقالوا : ما بعث الله بعده نبياً إلاّ في ثروة من قومه ، وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قرأ هذه الآية قال : ( رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) .
قال ابن عباس وأهل التفسير : أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب ، وهم يعالجون تسوّر الجدار ، فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب والنصب بسببهم ،
هود : ( 81 ) قالوا يا لوط . . . . .
قالوا : يا لوط إنّ ركنك لشديد وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ) إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ( فافتح الباب ودعنا وإيّاهم ففتح الباب ودخلوا ، فاستأذن جبريل ( عليه السلام ) ربه في عقوبتهم فأذن له ، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان ( وعليه وشاح من در منظوم وهو برّاق الثنايا أجلى الجبين ، ورأسه ( حبك حبك ) مثل المرجان وهو اللؤلؤ كأنّه ثلج ، وقدماه إلى الخضرة فقال : يا لوط إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك ، امضِ يا
(5/182)

" صفحة رقم 183 "
لوط من الباب ، ودعني وإيّاهم ، فتنحى لوط عن الباب فخرج عليهم فنشر جناحه فضرب به ) وجوههم فطمس أعينهم فعموا وانصرفوا على أعقابهم فلم يعرفوا طريقاً ولم يهتدوا إلى بيوتهم .
فانصرفوا وهم يقولون : النجا النجا فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقد سحرونا ، وجعلوا يقولون : يا لوط كما أنت حتى نصبح ، يتوعدونه ، فقال لهم لوط : متى موعد هلاكهم ؟ فقالوا : الصبح قال : أريد أسرع من ذلك أن تهلكونهم الآن ، فقالوا : أليس الصبح بقريب
قالوا له : فأسر بأهلك ، قرأ أهل الحجاز بوصل الألف من سرى يسري ويدلّ عليه قوله تعالى : ) والليل إذا يسري ( وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يسري اعتباراً بقوله ) سبحان الذي أسرى بعبده ( وهما بمعنى واحد .
) فأسر بأهلك بقطع من الليل ( قال ابن عباس : بطائفة من الليل ، الضحّاك : ببقية ، قتادة : بعد مضي صدره ، الأخفش : بعد جنح ، وقيل : بعد هدوء ، وبعضها قريب من بعض .
) ولا يلتفت منكم أحد إلاّ امرأتك ( قرأ ابن كثير وأبو عمرو : أمراتك برفع التاء على الاستثناء من الالتفات أي ولا يلتفت منكم أحد إلاّ امرأتُك فإنها تلتفت وتهلك ، وإنّ لوطاً خرج بها ، ونهى من معه ممن أُسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته ، فإنها لما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : واقوماه فأدركها حجر فقتلها .
وقرأ الباقون بنصب المرأة على الاستثناء من الأهل ، أي فأسر بأهلك بقطع من الليل إلاّ امرأتك ولا يلتفت منكم أحد ، فإنه مصيبها ما أصابهم من العذاب غير مخطيها ولا يُخطيهم .
) إن موعدهم الصبح ( أي إن موعد هلاكهم هو الصبح ، فقال لوط : أُريد أسرع من ذلك ، فقالوا : ) أليس الصبح بقريب }
هود : ( 82 ) فلما جاء أمرنا . . . . .
) فلمّا جاء أمرنا ( عذابنا ) جعلنا عاليها سافلها ( وذلك أن جبريل ( عليه السلام ) أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات سدوم وعامورا ودادوما وصبوا ، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ، ثم جعل عاليها سافلها .
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لجبريل ( عليه السلام ) : ( إن الله تبارك وتعالى سمّاك بأسماء ففسّرها لي ، قال الله في وصفك ) ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ( فأخبرْني عن قوّتك ، قال : يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهراً لبطن ، قال : فأخبرني عن قوله ) مطاع ( قال : إن رضوان خازن الجنان ، ومالكاً خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي ، قال : فأخبرْني عن قوله ) أمين ( قال : إن الله عزّ وجلّ أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري ) .
(5/183)

" صفحة رقم 184 "
) وأمطرنا عليها ( أي على شذاذها وسافليها ، وقال أبو عبيدة : مَطَر في الرحمة ، وأمطر في العذاب ) حجارة من سجيل ( قال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين ، وقال ابن عباس ووهب وسعيد بن جبير ( سنك ) : و ( كل ) حجارة وطين ، قتادة وعكرمة : السجّيل : الطين دليله قوله تعالى ) لنرسل عليهم حجارة من طين ( قال الحسن : كان أصل الحجارة طيناً فشدّدت .
وروى عكرمة أيضاً أنه قال : هو حجر معلق في الهواء بين الأرض والسماء منه أنزل الحجارة ، وقيل : هو جبال في السماء وهي التي أشار الله إليها فقال : ) ونزل من السماء من جبال فيها من برد ( وقال أهل المعاني : السجّيل والسجّين واحد ، وهو الشديد من الحجر والضرب . قال ابن مقبل :
ورجلة يضربون البيض عن عرض
ضرباً تواصت به الأبطال سجينا
والعرب تعاقب بين اللام والنون ، قالوا : لأنّها كلها ذلقة من مخرج واحد ونظيره في الكلام هلّت العين وهنّت إذا أصيبت وبكت ، وقيل : هو فعيل من قول العرب أسجلته إذا أرسلته فكأنها مرسلة عليهم ، وقيل : من سجلت لهم سجلا إذا أعطيتهم كأنهم أُعطوا ذلك البلاء والعذاب ، قال الفضل بن عباس :
من يُساجلْني يساجلْ ماجداً
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
) منضود ( قال ابن عباس : متتابع ، قتادة : بعضها فوق بعض ، الربيع : قد نضد بعضه على بعض ، عكرمة : مصفوف ، أبو بكر الهذلي : معدّ وهي من عدة ( الله ) التي أُعدت للظلمة .
هود : ( 83 ) مسومة عند ربك . . . . .
) مسوَّمة ( من نعت الحجارة ، وهي نصب على الحال ومعناها مُعلّمة قتادة وعكرمة : مطوقة بها نضح من حمرة ، ابن جريج : كانت لا تشاكل حجارة الأرض ، الحسن والسدّي : مختومة ، وقيل : مشهورة ، ربيع : مكتوب على كل حجر اسم من رُمي به .
) وما هي ( يعني تلك الحجارة ) من الظالمين ( من مشركي مكّة ) ببعيد ( قال مجاهد : يرهب بها قريشاً ، قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الأُمة والله ما أجار الله منها ظالماً بعد ، وقال أنس بن مالك : سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جبريل ( عليه السلام ) عن قوله تعالى ) وما هي من الظالمين ببعيد ( قال : يعني بها ظالمي أمتك ، ما من ظالم منهم إلاّ هو يعرف أي حجر سقط عليه .
(5/184)

" صفحة رقم 185 "
2 ( ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّىأَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قَالُواْ ياَشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِىأَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاََنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ ياقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِىإِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِىأَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِىأَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ذَالِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاَْخِرَةِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاَِجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاَْرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاَْرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَاؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءَابَاؤهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ( 2
هود : ( 84 ) وإلى مدين أخاهم . . . . .
) وإلى مدين ( يعني وأرسلنا إلى قوم مدين بن إبراهيم ، ) أخاهم شعيباً ( بن شرون بن أيوب بن مدين بن إبراهيم .
) قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان ( وكانوا يطفِّفون
(5/185)

" صفحة رقم 186 "
) إني أراكم بخير ( قال ابن عباس ( ح ) : موسرين في نعمة ، الحسن : الغنى ورخص السعر ، قتادة : المال وزينة الدنيا ، الضحاك : رغد العيش وكثرة المال ، مجاهد : خصب وسعة ، وغيرهم في غلاء السعر وزوال النعمة وحلول النقمة إن لم يتوبوا ) وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( محيط بكم فلا يفلت منكم أحد .
هود : ( 85 ) ويا قوم أوفوا . . . . .
) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان ( اكتالوا بالقسط ) ولا تبخسوا ( ولا تنقصوا ) الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين }
هود : ( 86 ) بقية الله خير . . . . .
) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ( قال ابن عباس : ما أبقى الله لكم من الحلال ، وإيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف ، قال مجاهد : الطاعة ، سفيان : رزق الله ، قتادة : حظكم من ربكم ، ابن زيد : الهلاك في العذاب والبقية : الرحمة ، الفرّاء : مراقبة الله ) وما أنا عليكم بحفيظ ( وإنما قال هذا لأن شعيباً لم يؤمر بالقتال .
هود : ( 87 ) قالوا يا شعيب . . . . .
) قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ( من الأوثان ، قال ابن عباس : كان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا ، قال الأعمش : يعني قراءتك ) أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ( يعني أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، وقرأ بعضهم : تفعل وتشاء بالتاء يعني : تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء فيكون راجعاً إلى الأمر لا إلى الترك .
قال أهل التفسير : كان هذا نهياً لهم عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم . فلذلك قالوا : وأن نفعل ما نشاء ) إنك لأنت الحليم الرشيد ( قال ابن عباس : السفية الغاوي . قال القاضي : والعرب تصف الشيء بضده ، للتطير والفأل كما قيل للدّيغ : سليم ، وللفأرة : مفازة .
وقيل : هو على الاستهزاء ، كقولهم للحبشي : أبو البيضاء ، وللأبيض : أبو الجون ، ومنه قول خزنة النار لأبي جهل : ) ذق إنّك أنت العزيز الكريم ( . وقيل : معناه الحليم الرشيد بزعمك وعندكن ومثله في صفة أبي جهل ، وقال ابن كيسان : هو على الصحة أي أنّك يا شعيب لنا حليم رشيد ، فليس يجمل بك شق عصا قومك ولا مخالفة دينهم ، كقول قوم صالح له : ) يا صالح قد كنت فينا مرجوا 2 )
هود : ( 88 ) قال يا قوم . . . . .
) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة ( حجّة وبصيرة وبيان وبرهان ) من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً ( حلالا طيباً من غير بخس ولا تطفيف ، وقيل : علماً ومعرفة ) وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ( ما أريد أن أنهاكم عن أمر وأرتكبه ) إن أريد ( ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه ) إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أُنيب ( أي أرجع فيما ينزل بي من النوائب ، وقيل : إليه أرجع في الآخرة .
(5/186)

" صفحة رقم 187 "
هود : ( 89 ) ويا قوم لا . . . . .
) ويا قوم لا يجرمنّكم ( لا يحملنكم ) شقاقي ( خلافي وفراقي ) أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح ( من العذاب ) وما قوم لوط منكم ببعيد ( وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط ، وقيل : ما دارُ قوم لوط منكم ببعيد ) ويا قوم }
هود : ( 90 ) واستغفروا ربكم ثم . . . . .
) استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ( محبّ المؤمنين ، وقيل : مودود للمؤمنين ومحبوبهم .
هود : ( 91 ) قالوا يا شعيب . . . . .
) قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ( وذلك أنه كان ضريراً ، قال سفيان : كان ضعيف البصر ، وكان يقال له خطيب الأنبياء ) ولولا رهطك ( عشيرتك وكان في عزة ومنعة من قومه ) لرجمناك ( لقتلناك ) وما أنت علينا بعزيز }
هود : ( 92 ) قال يا قوم . . . . .
) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريّاً ( قيل : الهاء راجعة إلى الله وقيل : إلى أمر الله وما جاء به شعيب ، أي نبذتموه وراء ظهوركم وتركتموه ، يقال : جعلت أمري بظهر إذا قصر في أمره وأخلّ بحقه .
) إنّ ربي بما تعملون محيط }
هود : ( 93 ) ويا قوم اعملوا . . . . .
) ويا قوم اعملوا على مكانتكم ( أي تؤدتكم ومكانكم ، يقال : فلان يعمل على مكانته ومكنته إذا عمل على تؤدّهُ تمكن . ويقال : مُكن يمكن مكناً مكاناً ومكانة ، ) إني عامل فسوف تعلمون ( أيّنا الجاني على نفسه ، والأخطى في فعله ، وذلك قوله ) من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ( قيل :
) من ( في محل النصب أي فسوف تعلمون من هو كاذب ، وقيل : ويخزي من هو كاذب ، وقيل : محله رفع تقديره : ومن هو كاذب فيعلم كذبه ويذوق وبال أمره ) فارتقبوا ( وانتظروا العذاب ) إني معكم رقيب ( منتظر .
هود : ( 94 ) ولما جاء أمرنا . . . . .
) ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منّا وأخذت الذين ظلموا الصيحة ( صيحة من السماء أخذتهم وأهلكتهم ، ويقال : إن جبريل صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم .
) فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ميتين ساقطين هلكى صرعى
هود : ( 95 ) كأن لم يغنوا . . . . .
) كأن لم يغنوا ( يكونوا ) فيها ألا بعداً ( هلاكاً وغضباً ) لمدين كما بعدت ( هلكت ) ثمود}
هود : ( 96 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . .
) ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ( حجة بيّنة
هود : ( 97 ) إلى فرعون وملئه . . . . .
) إلى فرعون وملائه واتّبعوا أمر فرعون ( وخالفوا أمر موسى ) وما أمر فرعون برشيد }
هود : ( 98 ) يقدم قومه يوم . . . . .
) يقدم قومه ( أي يتقدمهم ويقودهم إلى النار يوم القيامة ) فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( وبئس المدخل المدخول فيه .
هود : ( 99 ) وأتبعوا في هذه . . . . .
) واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ( العون المعان ، وذلك أنه ترادفت عليهم اللعنات ، لعنة في الدنيا ، ولعنة في الآخرة .
هود : ( 100 ) ذلك من أنباء . . . . .
) ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ( خراب ، ابن عباس : قائم ينظرون إليه ، وحصيد قد خرب وهلك أهله ، مقاتل : قائم يعني له أثر ، وحصيد لا أثر له ، مجاهد :
(5/187)

" صفحة رقم 188 "
قائم : خاوية على عروشها وحصيد : مستأصل يعني محصوداً كالزرع إذا حصد ، قال قتادة : القائم منها لم يذهب أصلا ، ومنها حصيد قد ذهب أصلا ، القرضي : منها قائم بجدرانهاوحيطانها ، وحصيد : ساقط ، محمد بن إسحاق : منها قائم يعني ( . . . . . ) وأمثالها من القرى التي لم تهلك ، وحصيد يعني التي قد أهلكت .
هود : ( 101 ) وما ظلمناهم ولكن . . . . .
) وما ظلمناهم ( بالعذاب والأهلاك ) ولكن ظلموا أنفسهم ( بالكفر والمعصية يظلمون ) فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله لما جاء أمر ( عذاب ) ربك وما زادوهم غير تتبيب ( غير تخسير .
هود : ( 102 ) وكذلك أخذ ربك . . . . .
) وكذلك ( وهكذا أخذ ربك ) إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( نظير قوله : ) إن بطش ربك لشديد 2 )
هود : ( 103 ) إن في ذلك . . . . .
) إن في ذلك ( لعبرة وعظة ) لمن خاف عذاب الآخرة ذلك ( يعني يوم القيامة ) يوم مجموع له الناس ( قال عبد الله بن مسعود لأصحابه : إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد تسمعون الداعي ( . . . . . . ) ) وذلك يوم مشهود ( يشهده أهل السماء وأهل الأرض .
هود : ( 104 ) وما نؤخره إلا . . . . .
) وما نؤخّره ( يعني وما نؤخّر ذلك اليوم ولا نقيم عليكم القيامة ) إلاّ لأجل معدود ( أي مؤقّت لا يتقدم ولا يتأخر
هود : ( 105 ) يوم يأت لا . . . . .
) يوم يأتي ( وقرئ بإثبات الياء وحذفه ، وهما لغتان وحذف الياء له طريقان كالكسرة عن الياء والضمة من الواو ، كقول الشاعر :
كفاك كفّ ما تليق ودرهما
جوداً وأخرى تُعط بالسيف الدما
) لا تكلم ( أي : لا تتكلم ) نفسٌ إلاّ بإذنه ( نظير ) تنزّل الملائكة ( أي : تتنزل .
قال لبيد :
والعين ساكبة على أطلائها
عوذا تأجّل بالفضاء بهامها
( أي تتأجل ) .
) فمنهم شقيّ وسعيد ( قال ابن عباس : فمنهم شقي كتبت عليه السعادة ، وروى عبد الله ابن دينار عن ابن عمر عن عمر ، قال : لمّا نزلت هذه الآية سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يا نبي الله
(5/188)

" صفحة رقم 189 "
فعلى ما عملنا ، على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( على شيء قد فرغ منه يا عمر ، وجرت به الأقلام ولكن كلٌّ ميسّر لما خلق له ) .
وروي عنه ( عليه السلام ) : ( الشقي من شقي في بطن أُمّه ، والسعيد من سعد في بطن أُمّه ) .
هود : ( 106 ) فأما الذين شقوا . . . . .
) فأما الذين شقوا ففي النار خالدين فيها لهم فيها زفير وشهيق ( قال ابن عباس : الزفير : الصوت الشديد ، والشهيق : الصوت الضعيف ، الضحّاك ومقاتل : الزفير : أول نهيق الحمار ، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا ردّده في الجوف . أبو العالية : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر
هود : ( 107 ) خالدين فيها ما . . . . .
) خالدين ( لابثين ومقيمين ) فيها ما دامت السماوات والأرض ( يسمى هنا ) ما ( الوقت .
قال ابن عباس : ما دامت السماوات والأرض من ابتدائها إلى وقت فنائها ، قال الضحّاك : ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما ، وكل ما علاك فأظلَّك فهو سماء ، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض .
قال الحسين : أراد ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها ، قال أهل المعاني : العرب ( . . . ) في معنى التأبيد والخلود ، يقولون : هو باق ما ( . . . ) وأطت الإبل ، وأينع الثمر ، وأورق الشجر ، ومجن الليل وسال سيل ، وطرق طارق ، وذرّ شارقن ونطق ناطق ، وما اختلف الليل والنهار ، وما اختلف الذرة والجمرة ، وما دام عسيب ، وما لألأت العفراء ونابها ، وما دامت السماوات والأرض ، فخاطبهم الله تعالى بما تعارفوا بينهم .
ثم استثنى فقال : ) إلاّ ما شاء ربك ( اختلف العلماء في هذين الاستثناءين ، من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة ، فقال بعضهم هو في أهل التوحيد الذين يخرجهم الله من النار .
قال ابن عباس : وما شاء ربك أن يخرج أهل التوحيد منها ، وقال في قوله في وصف السعداء : ألا ما شاء ربك أن يخلدهم في الجنة ، وقال قتادة : في هذه الآية الله أعلم بها ، وذكر لنا أن ما أقوله سيصيبهم سفع من النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم الله منها ، وعلى هذا القول يكون استثناء من غير جنسه لأن الأشقياء في الحقيقة هم الكافرون ، والسعداء في الحقيقة هم المؤمنون
(5/189)

" صفحة رقم 190 "
وقال أبو مجلز : هو جزاؤه إلاّ أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم ، ولا يدخلهم النار ، وفي وصف السعداء إلاّ ما شاء ربك بقاءهم في الجنة . قال ابن مسعود : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها إلاّ ما شاء ربك . وهو أن يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ثم يجدّد خلقهم .
قال : وليأتين على جهنم زمان تغلق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً ، وقال الشعبي : جهنم أسرع الدارين عمراً وأسرعهما خراباً ، وقال ابن زيد : في هذه الآية أخبرنا بالذي أنشأ لأهل الجنة فقال : هذا غير مجذوذ ، ولم يخبرنا بالذي أنشأ لأهل النار ، وقال ابن كيسان : إلاّ ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار ، وقيل : ما شاء ربك من احتباس الفريقين في البرزخ ما بين الموت والبعث .
الزجّاج : في هذه الآية أربعة أقوال : قولان منها لأهل اللغة ، وقولان لأهل المعاني ، فأمّا أحد قولي أهل اللغة فإنهم قالوا : ) إلاّ ( ههنا بمعنى سوى كما يقال في الكلام : ما كان معنا رجل إلاّ زيد ، ولي عليك ألف درهم إلاّ الألفان التي لي عليك ، فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود ، والقول الثاني : إنّه استثنى من الاخراج وهو لا يريد أن يخرجهم منها ، كما يقول في الكلام : أردت أن أفعل كذا إلاّ أن أشاء غيره ، وأنت مقيم على ذلك الفعل ، والمعنى أنّه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم ، ولكنّه أعلمهم أنهم خالدون فيها ، قال الزجّاج : فهذان مذهبا أهل اللغة .
وأما قولا أهل المعاني ، فإنهم قالوا : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربك من مقدار مواقفهم على رأس قبورهم وللمحاسبة إلاّ ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم ، وزيادة العذاب لأهل الجحيم ، وقال الفراء : معناه : وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة ، و ) إلاّ ( بمعنى الواو سائغ جائز في اللغة ، قال الله تعالى ) لئلاّ يكون للناس عليكم حجّة إلاّ الذين ظلموا منهم ( ومعناه ، ولا الذين ظلموا ، وأنشدني أبو ثروان :
من كان أشرك في تفرّق فالج
فلبونه جربت معاً وأغدت
إلاّ كناشرة الذي ضيعتم
كالغصن في غلوائه المثبت
معناه ، لكن هنا كناشرة ، وهي كاسم قبيلة ، وقال : معناه كما شاء ربك كقوله ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلاّ ما قد سلف ( معناه كما قد سلف .
هود : ( 108 ) وأما الذين سعدوا . . . . .
) وأما الذين سعدوا ( قرأ أهل الكوفة : ( سُعدوا ) بضم السين أي رُزقوا السعادة ، وسعد وأُسعد بمعنى واحد ، وقرأ الباقون بفتح السين قياساً على الذين شقوا ، واختاره أبو عبيد وأبو
(5/190)

" صفحة رقم 191 "
حاتم ) ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربك ( . الضحّاك : إلاّ ما مكثوا في النار حتى أُدخلوا الجنة ، أبو سنان : إلاّ ما شاء ربك من الزيادة على قدر مدة دوام السماء والأرض ، وذلك هو الخلود فيها ، قال الله ) عطاءً غير مجذوذ ( غير مقطوع .
وكيع بن الجراح : كفرت الجهمية بأربع آيات من كتاب الله ، قال الله تعالى في وصف نعيم الجنة ) مقطوعة ولا ممنوعة ( وقالت الجهمية : يقطع فيمنع عنهم ، وقال الله ) أُكلها دائم وظلها ( وقالوا : لا يدوم ، وقال الله ) وما عندكم ينفد وما عند الله باق ( وقالوا : لا يبقى ، وقال الله ) عطاءً غير مجذوذ ( وقالوا : يُجذ ويُقطع .
هود : ( 109 ) فلا تك في . . . . .
) فلا تك ( يا محمد ) في مرية ( في شك ) ممّا يعبد هؤلاء ( فهم ضُلاّل .
) ما يعبدون إلاّ كما يعبد ( فيه إضمار أي : ( كعبادة ) ) آباؤهم من قبل وإنّا لموفوهم نصيبهم ( حظهم من الجزاء ) غير منقوص ( .
2 ( ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 2
هود : ( 110 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) ولقد آتينا ( أعطينا ) موسى الكتاب فاختلف فيه ( ممّن صدف عنه وكذبّ به ، كما فعل قومك بالقرآن يُعزّي نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولولا كلمة سبقت من ربك ( في تأخير العذاب ) لقضي بينهم ( أُفرغ من عقابهم وإهلاكهم ، يعني المختلفين المخالفين .
) وأنهم لفي شك منه مريب ( موقع في الريب والتهمة ، يقال : أراب الرجل ، أي جاء بريبة ، وألام إذا أتى بما يُلام عليه ، قال الشاعر :
تعد معاذراً لا عذر فيها
ومن يخذل أخاه فقد ألاما
هود : ( 111 ) وإن كلا لما . . . . .
) وأن كلاً لما ( اختلف فيه القُرّاء ، فقرأ ابن عامر وأبو جعفر وحمزة ) وأن ( بتخفيف النون ) ولمّا ( بتشديد الميم على معنى فأنّ كلاً لمّا ) ليوفينّهم ( ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، كقول الشاعر :
كان من أخرها لقادم
مخرم نجد فارع المحارم
(5/191)

" صفحة رقم 192 "
أراد إلى القادم ، فحذف اللام عند اللام وتكون ) ما ( بمعنى من تقديره لممّن يوفينّهم ، كقول الشاعر :
وأنّيَ لمّا أصدر الأمر وجهه
إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
وقيل : أراد وأن كلا لمّاً بالتنوين والتشديد ، قرأها الزهري بالتنوين أي وإن كلاً شديداً وحقاً ليوفينّهم ) ربك أعمالهم ( من قوله تعالى : كلاّ لمّا ، أي شديداً فحذفوا التنوين وأخرجوه على هذا فعلى ، كما فعلوا في قوله : ثم أرسلنا رسلنا تترى ، وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف النون والميم على معنى إن الثقيلة مخفّف ، وأنشد أبو زيد :
ووجه مشرق النحر كأنْ ثدييه حُقّان
أراد كان فخفّف ونصب به ، و ) ما ( صلة تقديره وإن كلا ليوفينّهم . وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب وحفص وأيوب وخلف بتشديد النون وتخفيف الميم على معنى وأن كُلاً ليوفينّهم ، جعلوا ) ما ( صلة . وقيل : أرادوا وأن كلا لممّن كقوله ) فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ( أي من . وقرأ أبو بكر بن عياش بتخفيف النون وتشديد الميم أراد أن الثقيلة فخفّفها .
وقيل : ) أن ( بمعنى ) ما ( الجحد و ) لمّا ( بمعنى ) إلاّ ( تقديره وما كلاً إلاّ ليوفينّهم ، ولكنه نصب كلاّ بإيقاع التوفية عليه أي ليوفينّ كلا وهو أبعد القراءات فيها من الصواب ، ) إنه بما تعملون خبير ( .
هود : ( 112 ) فاستقم كما أمرت . . . . .
) فاستقم ( يا محمد على أمر ربك والعمل به والدعاء إليه ) كما أُمرت ( أن لا تشرك بي شيئاً وتوكّل عليّ مما ينوبك ، قال السدّي : الخطاب له ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أُمته .
) ومن تاب معك ( فليستقيموا ، يعني المؤمنين ) ولا تطغوا ( ولا تجاوزوا أمري ، وقال ابن زيد : ولا تعصوا الله ولا تخالفوه ، وقيل : ولا تتخيّروا .
) إنّه بما تعملون بصير ( لا يخفى عليه من أعمالكم شيء ، قال ابن عباس : ما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشقّ عليه من هذه الآية ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب ، فقال : ( شيبتني سورة هود وأخواتها ) .
هود : ( 113 ) ولا تركنوا إلى . . . . .
) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ( قال ابن عباس : ولا تميلوا على غيّهم ولا تدهنوا لهم
(5/192)

" صفحة رقم 193 "
قال ، أبو العالية : لا ترضوا على أعمالهم . قتادة : لا تلحقوا بالمشركين . السدّي وابن زيد ، ولا تداهنوا الظلمة ، ابن كيسان : لا تسكنوا إلى الذين ظلموا .
) فتمسّكم ( تصيبهم النار ) وما لكم من دون الله من أولياء ( أي أعوان يمنعون ) ثم لا تنصرون }
هود : ( 114 ) وأقم الصلاة طرفي . . . . .
) وأقم الصلاة طرفي النهار ( يعني الغداة والعشي ، قال ابن عباس : يعني صلاة العصر والمغرب . مجاهد : صلاة الفجر وصلاة العشاء ، القرظي : هي الفجر والظهر والعصر ، الضحاك : صلاة الفجر والعصر ، ( وقيل : الطرفان ) صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف .
) وزلفاً من الليل ( يعني صلاة العتمة ، وقال الحسن : هما المغرب والعشاء ، قال الأخفش : يعني ساعات الليالي واحدتها زلفة ، وأصل الزلفة المنزلة والقربة ، ومنه المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة ، قال العجاج :
طيّ الليالي زلفاً فزلّفا
سماوة الهلال حتى أحقوقفا
وفيه أربع لغات زُلُفاً : بفتح الفاء وضم اللام وهي قراءة العامة ، وقرأ أبو جعفر بضم الزاي واللام ، وقرأ ابن محيصن بضم الزاي وجزم اللام ، وقرأ مجاهد زُلفى ، مثل قُربى .
) إن الحسنات يذهبن السيئات ( يعني : إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات ، هذا قول أكثر المفسرين ، وقال مجاهد : هي قول العبد : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر .
نزلت هذه الآية في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري وكان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع تمراً فقال : إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه ، فهل لك فيه ، فقالت : نعم ، فذهب بها إلى بيته فضمها إليه وقبّلها ، فقالت له : اتق الله فتركها وندم على ذلك ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها ولم يبق شيئاً مما يفعل الرجال بالنساء إلاّ ركبه غير أنه لم يجامعها ، فقال عمر بن الخطاب : لقد ستر الله عليك لو سترت على نفسك ، فلم يردّ عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً ، وقال : أنظر فيه أمر ربي ، وحضرت صلاة العصر ، فصلّى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) العصر ، فلما فرغ أتاه جبريل بهذه الآية ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أين أبو اليسر ؟ ) فقال : ها أناذا يا رسول الله ، قال : ( أشهدت معنا هذه الصلاة ؟ ) قال : نعم ، قال : ( اذهب فإنها كفارة لما عملت ) فقال عمر : يا رسول الله أهذا له خاصّة أم لنا عامة ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل للناس عامة ) .
) ذلك ( الذي ذكرناه ، وقيل : هو إشارة إلى القرآن ) ذكرى ( عظة ) للذاكرين }
هود : ( 115 ) واصبر فإن الله . . . . .
) واصبر ( يا
(5/193)

" صفحة رقم 194 "
محمد على ما تلقى من الأذى ، وقيل : على الأذى ، وقيل : على الصلاة ، نظير قوله ) وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ( ) فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( من أعمالهم ، وقال فيه ابن عباس : يعني المصلّين .
2 ( ) فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الاَْرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاَْمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 2
هود : ( 116 ) فلولا كان من . . . . .
) فلولا كان ( فهلاّ كان ) من القرون ( التي أهلكناهم ) من قبلكم أُولو بقية ( أصحاب دين وعقل ) ينهون عن الفساد في الأرض ( ومعناه : فلم يكن ، لأن في الاستفهام ضرباً من الجحد ) إلاّ قليلا ( استثناء منقطع ) ممن أنجينا منهم ( وهم أتباع الأنبياء وأهل الحق .
) واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ( قال ابن عباس : ما أُنظروا فيه ، وروي عنه : أُبطروا . الضحّاك : اعتلّوا ، مقاتل بن سليمان : أُعطوا ، ابن حيان : خوّلوا ، مجاهد : تجبّروا في الملك وعتوا عن أمر الله ، الفرّاء : ما سوّدوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا على الآخرة ) وكانوا مجرمين ( كافرين
هود : ( 117 ) وما كان ربك . . . . .
) وما كان ربك ليُهلك القرى بظلم ( ( بظلم منه لهم ) ) وأهلها مصلحون ( في أعمالهم غير مسيئين ، لكنه يهلكها بكفرهم وإتيانهم السيئات ، وقيل : معناه لم يكن ليهلكهم بشركهم وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون ، ويتعاطون الحق بينهم وإن كانوا مشركين ، وإنّما يهلكهم إذا ظلموا .
هود : ( 118 ) ولو شاء ربك . . . . .
) ولو شاء ربك لجعل الناس ( كلّهم ) أُمة ( جماعة ) واحدة ( على ملّة واحدة ) ولا يزالون مختلفين ( على أديان شتى من يهودي ونصراني ومجوسي ونحو ذلك
هود : ( 119 ) إلا من رحم . . . . .
) إلاّ من رحم ربك ( ويعني بهم المؤمنون وأهل الحق .
) ولذلك خلقهم ( قال الحسن ومقاتل بن حيان ويمان وعطاء : وللاختلاف خلقهم ، قال الأشهب : سألت مالكاً عن هذه الآية فقال : خلقهم ليكون فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، وقيل : اللام بمعنى على ، أي وعلى ذلك خلقهم ، كقول الرجل للرجل : أكرمتك على برّك بي ولبرّك بي ، ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : وللرحمة خلقهم ولم يقل : ولتلك ، والرحمة مؤنّثة لأنها مصدر وقد مضت هذه المسألة ، وهذا باب سائغ في اللغة ( وهو أن يُذكر ) لفظان
(5/194)

" صفحة رقم 195 "
متضادان ثم يشار إليهما بلفظ التوحيد فمن ذلك قوله تعالى ) لا فارض ولا بكر ( ثم قال : ) عوانٌ بين ذلك ( ، وقوله ) ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( وقوله : ) قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا ( فكذلك معنى الآية ، ولذلك أي وللاختلاف والرحمة خلقهم أحسن خلق ، هؤلاء لجنّته ، وهؤلاء لناره .
) وتمت كلمة ربك لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين }
هود : ( 120 ) وكلا نقص عليك . . . . .
) وكلاّ نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك ( قال ابن عباس : نسدد ، الضحاك : نقوّي ، ابن جريج : نصبّر حتى لا تجزع ، أهل المعاني : ما نثبّت به قلبك .
) وجاءك في هذه الحق ( قال الحسن وقتادة : في هذه الدنيا ، وقال غيرهما : في هذه السورة ، ) وموعظة وذكرى للمؤمنين }
هود : ( 121 - 122 ) وقل للذين لا . . . . .
) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا ( ما يحلّ بنا من رحمة الله ) إنّا منتظرون ( ما يحل بكم من النقمة .
هود : ( 123 ) ولله غيب السماوات . . . . .
) ولله غيب السماوات والأرض ( قال ابن عباس : خزائن الله ، الضحّاك : جميع ما غاب عن العباد ، وقال الباقون : غيب نزول العذاب من السماء ) وإلينا يرجع الأمر كله ( في المعاد حتى لا يكون للخلق أمر ، وقرأ نافع وحفص بضم الياء أي يُرجع ) فاعبده ( وحده ) وتوكّل عليه ( توثّق به
) وما ربك بغافل عما تعملون ( قال كعب : خاتمة التوراة خاتمة هود والله أعلم . يعملون قراءة العامة بالياء ، وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء .
(5/195)

" صفحة رقم 196 "
( سورة يوسف )
عليه السلام
مكية ، وهي سبعة آلاف وستة وسبعون حرفاً ، وألفوسبعمائة وستة وسبعون كلمة ، ومائة وإحدى عشرة آية
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقرئ غير مرة ، قال : أخبرنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني ، وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصفهاني قالا : حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك ، قال : حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي ، قال : حدثنا سلام بن سليم المدائني ، قال : حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( علّموا أرقّاءكم سورة يوسف فإنه أيّما مسلم تلاها وعلّمها أهله وما ملكت يمينه هوّن الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلماً ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( 2
يوسف : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . .
) الر تلك آيات الكتاب المبين ( يعني البيّن حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وهداه وبركته ، قال معاذ بن جبل : بيّن فيه الحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف .
يوسف : ( 2 ) إنا أنزلناه قرآنا . . . . .
) إنا أنزلناه ( يعني الكتاب ) قرآناً عربياً ( بلغتكم يا معشر العرب ) لعلكم تعقلون ( لكي تعلموا معانيه وتقيموا ما فيه
يوسف : ( 3 ) نحن نقص عليك . . . . .
) نحن نقصّ عليك ( أي نقرأ ، وأصل القصص تتبع الشيء ، ومنه قوله تعالى ) وقالت لأُخته قصّيه ( فالقاص يتتبع الآثار ويخبر بها .
) أحسن القصص ( يعني قصة يوسف ) بما أوحينا إليك ( و ) ما ( المصدر أي بإيحائنا إليك هذا القرآن ) وإن كنت من قبله ( من قبل وحينا ) لمن الغافلين ( قال سعد بن أبي وقاص : أُنزل القرآن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتلاه عليهم زماناً ، وكأنهم ملّوا فقالوا : لو قصصت علينا ، فأنزل الله تعالى ) نحن نقص عليك أحسن القصص ( الآية ، فقالوا : يا رسول الله لو ذكرتنا وحدثتنا فأنزل الله تعالى ) ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم ( الآية ، فقال الله تعالى على هذه الآية : أحسن القصص .
واختلف الحكماء فيها لم سميت أحسن القصص من بين الأقاصيص ؟ فقيل : سماها أحسن
(5/196)

" صفحة رقم 197 "
القصص لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة ، وقيل : سمّاها أحسن لامتداد الأوقات فيما بين مبتداها إلى منتهاها ، قال ابن عباس : كان بين رؤيا يوسف ومصير أبيه وأخوته إليه أربعون سنة ، وعليه أكثر المفسرين ، وقال الحسن البصري : كان بينهما ثمانون سنة .
وقيل : سماها أحسن القصص لحسن مجاورة يوسف إخوته ، وصبره على أذاهم ، وإغضائه عند الإلتقاء بهم عن ذكر ما تعاطوه ، وكرمه في العفو عنهم وقيل : لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والأنس والجن والأنعام والطير ، وسير الملوك والمماليك ، والتجار والعلماء والجهال ، والرجال والنساء ، وحيلهن ومكرهن ، وفيها أيضاً ذكر التوحيد والعفة والسير وتعبير الرؤيا والسياسة وتدبير المعاش ، وجعلت أحسن القصص لما فيها من المعاني الجزيلة والفوائد الجليلة التي تصلح للدين والدنيا ، وقيل : لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب . وقيل : أحسن القصص هاهنا بمعنى أعجب .
يوسف : ( 4 ) إذ قال يوسف . . . . .
) إذ قال يوسف ( قراءة العامة يوسف بضم السين ، وقرأ طلحة بن مصرف بكسر السين ، واختلفوا فيه فقال أكثرهم : هو اسم عبريّ فلذلك لا يجري ، وقال بعضهم : هو اسم عربي .
سمعت أبا القاسم الحبيبي ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت أبا الحسن الأقطع ، وكان حكيماً ، وسئل عن يوسف ، فقال : الأسف : الحزن ، والأسيف : العبد واجتمعا في يوسف فلذلك سمي يوسف .
) لأبيه ( يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ( عليهم السلام ) . روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ( عليهم السلام ) ) .
) يا أبتِ ( قرأ أبو جعفر وابن عامر بفتح التاء في جميع القرآن على تقدير يا أبتاه ، وقرأ الباقون بالكسر ، لأنه أصله يا أبه على هاء الوقف والجر .
) إني رأيت أحد عشر كوكباً ( نصب الكوكب على التمييز ، ) والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ( ولم يقل : رأيتها لي ساجدة ، والهاء والميم والياء والنون من كنايات ما يعقل ؛ لأن السجود فعل ما يعقل فعبّر عنها بكنايتها كقوله ) يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ( الآية .
روى السدّي عن عبد الرحمن بن ( ساريا ) ، عن جابر ، قال : سأل النبيَّ ( صلى الله عليه وسلم ) رجلٌ من اليهود يقال له بستان ، فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها ، فسكت ؟ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( هل أنت مؤمن إن أخبرتُ بأسمائها ؟ ) قال : نعم ،
(5/197)

" صفحة رقم 198 "
فقال : ( حرثان والطارق والذيال وذو النقاب وقابس ووثاب وعمودان والمصبح والفليق والضروح وذو الفرغ ، رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء فسجدن له ) فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها .
قال ابن عباس : الشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر . وقال قتادة : الشمس أبوه والقمر خالته ، وذلك أن أمه راحيل كانت قد ماتت ، قال وهب : وكان يوسف رأى وهوابن سبع سنين ، أن احدى عشرة عصاً طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة ثبتت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه ، فقال له : إياك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثم رأى وهو ابن اثني عشرة سنة أنّ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر سجدن له فقصّها على أبيه فقال له :
يوسف : ( 5 ) قال يا بني . . . . .
) لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً ( فيبغوا لك الغوايل ويحتالوا في إهلاكك ، لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك ) إنّ الشيطان للإنسان عدو مبين ( .
واختلف النحاة في وجه دخول اللام في قوله لك ، فقال بعضهم : معناه فيكيدوك واللام صلة ، كقوله ) لربهم يرهبون ( وقال آخرون : هو مثل قولهم : نصحتك ونصحت لك ، وشكرتك وشكرت لك ، وحمدتك وحمدت لك ، وقصدتك وقصدت لك .
يوسف : ( 6 ) وكذلك يجتبيك ربك . . . . .
) وكذلك يجتبيك ربّك ( كقوله : ( يصطفيك ويختارك ) ليوسف ) ويعلّمك من تأويل الأحاديث ( تعبير الرؤيا وسمي تأويلا لأنه يؤوّل أمره إلى ما رأى في منامه ) ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم ( بالخلة وإنجائه من النار قال عكرمة : بأن نجّاه من الذبح وفداه بذبح عظيم . وقال الباقون : بإخراج يعقوب ، والأسباط من صلبه .
) إن ربك عليم حكيم ( ولهذا قيل : العرق نزّاع والأصل لا يخطئ ، فلمّا بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه ، قال ابن زيد : كانوا أنبياء ، وقالوا : ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه ، فبغوه بالعداوة .
( ) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ ياأَبتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ قَالَ يابُنَىَّ لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَكَذالِكَ
(5/198)

" صفحة رقم 199 "
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىءالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لِّلسَّآئِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِىأَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَا لَّخَاسِرُونَ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ قَالُواْ يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( 2
يوسف : ( 7 ) لقد كان في . . . . .
يقول الله تعالى : ) لقد كان في يوسف ( أي في خبره وخبر إخوته ) وإخوته ( وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم ، وشمعون ، ولاوي ، ويهودا ، وزيالون ، وأمنجر ، وأُمهم ليا بنت ايان وهي ابنة خال يعقوب ، وولد له من سريّتين له اسم احداهما زاد والأُخرى ملده ، أربعة نفر ، دان ونفتالي وجاد وآشر ، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا .
) آيات ( قرأ أهل مكة آية على الواحد ، أي عظة وعبرة ، وقيل : عجب ، يقال : فلان آية في الحسن والعلم أي عجب ، وقرأ الباقون : آيات على الجمع ) للسائلين ( وذلك أن اليهود سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا منه وقالوا : من أين لك هذا يا محمد ؟ قال : ( علّمنيه ربي ) وقيل : معناه للسائلين ولمن لم يسأل ، كقوله : ) سواء للسائلين 2 )
يوسف : ( 8 ) إذ قالوا ليوسف . . . . .
) إذ قالوا لَيوسف ( اللام فيه جواب القسم تقديره : تالله ليوسف وأخوه بنيامين ) أحب إلى أبينا منّا ونحن عصبة ( أي جماعة والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى الخمسة عشر ، وقيل : ما بين العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط ) إن أبانا لفي ضلال مبين ( خطأ بيّن في إيثاره يوسف وأخاه علينا .
يوسف : ( 9 ) اقتلوا يوسف أو . . . . .
) اقتلوا يوسف ( اختلفوا في تأويل هذا القول ، فقال وهب : قاله شمعون ، كعب : دان ، مقاتل : روبيل ) أو اطرحوه أرضاً ( أي في أرض ) يخل لكم ( يخلص ويصفو لكم .
) وجه أبيكم ( عن شغله بيوسف فإنه قد شغله عنّا وصرف وجهه إليه عنّا ) وتكونوا من
(5/199)

" صفحة رقم 200 "
بعده ( من بعد قتل يوسف ) قوماً صالحين ( تائبين ، وقال مقاتل : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم .
يوسف : ( 10 ) قال قائل منهم . . . . .
) قال قائل منهم ( وهو روبيل ، وقال السدي : هو يهودا ، وهو أعظمهم وكان ابن خالة يوسف ، وكان أحسنهم فيدايا نهاهم عن قتله وقال لهم : ) لا تقتلوا يوسف ( فإن قتله عظيم .
) وألقوه في غيابة الجبّ ( أي في قعر الجب وظلمته حيث يغيب خبره ، قتادة : في أسفله ، والغيابة : كل شيء غَيَّبَ شيئاً ، وأصلها من الغيبوبة ، وقرأ أهل المدينة : غيابات الجب ، على الجمع ، والباقون : غيابة ، على الواحد ، والجبّ : البئر غير المطويّة ، قتادة : هو بئر بيت المقدس ، وقال وهب : هو بأرض الأردن ، كعب : بين مدين ومصر ، مقاتل : على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب .
) يلتقطه ( بعض السيارة يأخذه ، قراءة العامة بالياء لأنه البعض وقرأ الحسن : تلتقطه بالتاء لأجل السيارة ، والعرب تفعل ذلك في كل خبر كان عن مضاف إلى مؤنث يكون الخبر عن بعضه خبراً عن جميعه ، كقول الشاعر :
أرى مرّ السنين أخذن مني
كما أخذ السرار من الهلال
ولم يقل أخذت وقال الآخر :
إذا مات منهم سيد قام سيد
فدانت له أهل القرى والكنائس
) بعض السيّارة ( بعض مارّي الطريق من المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فينستر خبره ) إن كنتم فاعلين ( ما أقول لكم .
قيل للحسن : أيحسد المؤمن ؟ قال : ما أنساك بني يعقوب ؟ ولهذا قيل : الأب جلاب ، والأخ سلاب ، فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضرب من الاحتيال ، فقالوا ليعقوب
يوسف : ( 11 ) قالوا يا أبانا . . . . .
) قالوا يا أبانا مالك لا تأمنّا ( قرأ أبو جعفر بالنون ، وقرأ الباقون بإشمام النون للضمّة ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لأن أصله تأمننا بنونين فأُدغمت أحدهما في الأخرى .
) وإنّا له لناصحون ( نحوطه ونحفظه حتى نردّه إليك ، مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير وذلك أن أخوة يوسف قالوا لأبيهم
يوسف : ( 12 - 13 ) أرسله معنا غدا . . . . .
) أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ( قال أبوهم : ) إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ( فحينئذ قالوا ) مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غداً ( إلى الصحراء ) يرتع ويلعب ( .
(5/200)

" صفحة رقم 201 "
وقرأ أبو عمرو بالنون فيهما وكذلك ابن عامر قال ، هارون : فقلت لأبي عمرو : كيف تقرأ نرتع ونلعب وهم أنبياء ؟ قال : لم يكونوا يومئذ أنبياء ، وقرأ أهل الكوفة كلاهما بالياء أي ننعم ونأكل وننشط ونلهو ، يقال : رتع فلان في ماله إذا أنعم وأنفقه في شهواته . قال القطامي :
أكفراً بعد ردّ الموت عنّي
وبعد عطائك المائة الرتاعا
وقال ابن زيد : معناه يرعى غنمه ، وينظر ويعقل فيعرف ما يعرف الرجل .
وقرأ يعقوب ) نرتع ( بالنون ) ويلعب ( بالياء ردّاً للعب إلى يوسف والرتوع إلى إخوته ، وقرأ أهل الحجاز نرتع بكسر العين من الارتعاء ، أي نتحارس ويحفظ بعضنا بعضاً ) وإنا له لحافظون ( ) قال ( لهم يعقوب ) إنّي ليحزنني أن تذهبوا به ( أي ذهابكم ) وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ( لا تشعرون ، وذلك أن يعقوب رأى في منامه أن الذئب قد شدّ على يوسف وكان يحذره ، ومن ثم قال هذا فلقّنهم العلة وكانوا لا يدرون
يوسف : ( 14 ) قالوا لئن أكله . . . . .
فقالوا : ) لئن أكله الذئب ونحن عصبة ( عشرة رجال ) إنا إذاً لخاسرون ( ضعفة عجزة مغبونون .
يوسف : ( 15 ) فلما ذهبوا به . . . . .
) فلما ذهبوا به ( في الكلام إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلمّا ذهبوا به ) وأجمعوا ( وعزموا على ) أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه ( هذه الواو مقحمة زائدة تقديره أوحينا ، كقوله تعالى ) فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه ( أي ناديناه وقال امرؤ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى
بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل
أراد انتحى .
) لتنبّئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ( يعني أوحينا إلى يوسف ، ( سوف تتحقق ) رؤياك ، ولتخبرنّ إخوتك بصنيعهم هذا وما فعلوه بك ، وهم لا يشعرون بوحي الله إليه وإعلامه إياه ذلك ، وهذا معنى قول مجاهد ، وقيل : معناه وهم لا يشعرون أنك يوسف .
قال ابن عباس : لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنَّ وقال : أنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف ، يدنيه دونكم ، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب ثم جئتم أباكم فقلتم : إن
(5/201)

" صفحة رقم 202 "
الذئب أكله وبعتموه بثمن بخس ، فذلك قوله ) لتُنبنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ( .
قال السدّي : أرسل يعقوب يوسف معهم فأخرجوه وبه عليهم من الكرامة ، فلمّا برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ، فجعل لا يجد منهم رحمة ، فضربوه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويقول : يا أبتاه يا يعقوب ، لو تعلم ما يصنع بابنك هؤلاء الأبناء .
فلمّا كادوا ليقتلوه قال يهودا : أليس سألنا أبانا موثقاً ألاّ تقتلوه ؟ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فجعلوا يدلونه في البئر ، فتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال : يا إخوتاه ، ردّوا عليّ القميص أتوارى به في الجب ، فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك ، قال : إنّي لم أرَ شيئاً .
فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيه فقام عليها ، فلمّا ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنّها رحمة أدركتهم ، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه فقام يهودا فمنعهم وقال : قد أعطيتموني موثقاً ألاّ تقتلوه ، وكان يهودا يأتيه بالطعام .
ويقال : إن الله تعالى أمر صخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقف يوسف عليها وهو عريان ، وكان إبراهيم الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) حين أُلقي في النار جرّد من ثيابه وقذف في النار عرياناً فأتاه جبريل ( عليه السلام ) بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه وكان ذلك ( القميص ) عند إبراهيم ، فلمّا مات ورثه إسحاق ، فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب ، فلمّا شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنقه ، فكان لا يفارقه ، فلمّا أُلقي في البئر عرياناً جاء جبرئيل وكان عليه ذلك التعويذ فأخرج القميص منه وألبسه إياه ، قال ابن عباس : ثم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف .
يوسف : ( 16 ) وجاؤوا أباهم عشاء . . . . .
) وجاؤا أباهم عشاءً يبكون ( ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار وترويج ما مكروا ، وقد قيل : لا تطلب الحاجة بالليل وإن الحياء في العينين ، ولا يعتذر من ذنب في النهار فيتلجلج في الاعتذار فلا يقدر على إتمامه ، وقيل : أخّروا المجيء إلى وقت العشاء الآخرة ليدلّسوا على أبيهم
قال السدّي : فلمّا سمع أصواتهم فزع وقال : ما لكم يا بنىّ ؟ وهل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا ، قال : فما أصابكم ؟ وأين يوسف ؟
(5/202)

" صفحة رقم 203 "
يوسف : ( 17 ) قالوا يا أبانا . . . . .
) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق ( أي نترامى ، دليله قول عبد الله : ننتضل ، السدّي وابن حيان : نشتد ) وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن ( مصدّق ) لنا ولو كنّا صادقين ( لسوء ظنّك بنا وتهمتك لنا ، وهذا قميصه ملطخ بالدم فذلك
يوسف : ( 18 ) وجاؤوا على قميصه . . . . .
قوله ) وجاؤا على قميصه بدم كذب ( أي بدم كذب ، وقيل : بدم ذي كذب لأنه لم يكن دم يوسف وإنما كان دم شاة ، وهذا كما يقال : الليلة الهلال ، وقيل : معناه بدم مكذوب فيه ، فوضع المصدر موضع الاسم ، كما يقال : ماله عقل ولا معقول .
وقرأت عائشة : بدم كدب بالدال غير المعجمة ، أي طري ، فبكى يعقوب عند ذلك ، وقال لبنيه : أروني قميصه فأروه ، فقال : يالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يخرق عليه قميصه ، فحينئذ ) قال بل سولت لكم أنفسكم ( رتبت ) لكم أمراً فصبر ( أي فمنّي أو فعليَّ صبر ، وقيل : فصبري صبرٌ ) جميل ( وقرأ الأشهب والعقيلي : فصبراً على المصدر أي فلأصبرنّ صبراً جميلا ، وهو الصبر الذي لا جزع ولا شكوى فيه .
وقيل : معناه لا أعاشركم على كآبة الوجه وحبوس الحنين ، بل أكون في المعاشرة معكم جميلا كما كنت .
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن حبيب بن ثابت أن يعقوب النبي ( عليه السلام ) كان قد سقط حاجباه على عينيه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له : ما هذا ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني ؟ قال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي .
) والله المستعان على ما تصفون ( من الكذب ، قالوا : وكان يوسف حين أُلقي في الجب ابن ثماني عشرة سنة ، وقيل : سبع عشرة سنة ، وقيل : كان ابن عشر ، ومكث فيه ثلاثة أيام .
2 ( ) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَاهِدِينَ وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاَْرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ ( 2
يوسف : ( 19 ) وجاءت سيارة فأرسلوا . . . . .
) وجاءت سيارة ( أي رفقة مارة من قبل مدين يريدون مصر ، فأخطأوا الطريق فانطلقوا يمشون على غير الطريق حتى نزلوا قريباً من الجب ، وكان الجب في قفرة بعيداً من العمران ، إنما هو للرعاة والمجتازة ، وكان ماؤه مالحاً فعذب حين أُلقي فيه يوسف ، فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر ليطلب لهم الماء فذلك قوله ) فأرسلوا واردهم ( الوارد : الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيُهيّئ الأرشية والدلاء ، فوصل إلى البئر ) فأدلى ( فيها
(5/203)

" صفحة رقم 204 "
) دلوه ( أي أرسلها يقال : أدليت الدلو في الماء إذا أرسلتها فيها ، ودلَوتها دلواً إذا أخرجتها منها ، فتعلّق يوسف ( عليه السلام ) بالحبل ، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أُعطي يوسف شطر الحسن والنصف الآخر لسائر الناس ) ، قال كعب الأحبار : كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ، ضخم العينين ، مستوي الخلق ، أبيض اللون ، غليظ الساقين والساعدين والعضدين ، خميص البطن ، صغير السرة ، وكان إذا ابتسم رأيت النور في ضواحكه ، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور ، ينبهر بين ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه ، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل ، وكان يشبه آدم ( عليه السلام ) يوم خلقه الله وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية ، ويقال : إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة وكانت قد أُعطيت سدس الحسن .
فلمّا رآه مالك بن ذعر ) قال يا بشرى هذا غلام ( واختلفت القراء في قوله : يا بشري ، فقرأ أهل الكوفة بسكون الياء ، وقالوا : نادى مالك في رجلا من أصحابه ، اسمه بشري ، فقال : يا بشر ، كما يقول : يا زيد ، وهذا في محل رفع على النداء المفرد ، وهذا قول السدّي .
وقرأ الباقون : يا بشرايَ بالألف وفتح الياء على الإضافة وقالوا : بشّر المستقي أصحابه بأنه أصاب عبداً .
) وأسرّوه ( واخفوه ) بضاعة ( نصب على الحال ، قال مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معه وقالوا لهم : هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه الشركة إنْ علموا بثمنه ، عطية عن ابن عباس : يعني بذلك إخوة يوسف ، أسرّوا شأن يوسف أن يكون أخاهم وقالوا : هو عبد لنا أبق منّا .
قال الله تعالى ) والله عليم بما تعملون ( فأتى يهودا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر فأخبر أخوته بذلك فطلبوه ، فإذا هم مالك وأصحابه نزول ، فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا : هذا عبد أبق منّا ، وقال وهب : كان يهودا ( مستنداً ) من بعيد ينظر ما يطرأ على يوسف ، فلمّا أخرجوه رآه فأخبر الآخرين ، فأتوا مالكاً وقالوا : هذا عبدنا ، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، فقال مالك : أنا اشتريه منكم ، فباعوه منه فذلك قوله تعالى
يوسف : ( 20 ) وشروه بثمن بخس . . . . .
) وشروه ( أي باعوه ، قال ابن مفرغ الحميري :
وشريتُ بُرداً ليتني
من بعد بُرد كنتُ هامه
أي بعت برداً وهو غلامه .
) بثمن بخس ( ناقص وهو مصدر وضع موضع الاسم ، قال قتادة : ظلم ، الضحاك ومقاتل
(5/204)

" صفحة رقم 205 "
والسدي : حرام ، لأن ثمن الحر حرام ، عكرمة والشعبي : قليل ، ابن حيان : زيف ) دراهم ( بدل من الثمن ) معدودة ( وذكر العدد عبارة عن القلة ، أي باعوه بدراهم معدودة قليلة غير موزونة ، ناقصة غير وافية ، وقال قوم : إنما قال معدودة لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقل من أربعين درهماً ، إنما كان يعدونها عدّاً ، فإذا بلغ أوقية وزنوه ، لأن أقل أوزانهم وأصغرها يومئذ كان أوقية ، والأوقية أربعون درهماً .
واختلف العلماء في مبلغ عدد الدراهم التي باعوه بها ، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن قتادة والسدّي : عشرون درهماً ، فاقتسموها درهمين درهمين ، مجاهد : اثنان وعشرون درهماً ، عكرمة : أربعون درهماً .
) وكانوا ( يعني أخوة يوسف ) فيه ( في يوسف ) من الزاهدين ( لم يعلموا كرامته على الله ولا منزلته عنده .
ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق ، فذهبوا حتى قدموا به مصر ، فاشتراه قطفير ، قاله ابن عباس ، وقيل : اطفير بن روجيت وهو العزيز وكان على خزائن مصر .
وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها الريان بن الوليد بن ثروان بن ارامة بن فاون بن عمرو ابن عملاق بن لاود بن سام بن نوح ، وقيل : إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ثم مات ويوسف بعد حيّ ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن اليبلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوي بن سام بن نوح وكان كافراً فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل .
قال ابن عباس : لما دخلوا مصر تلقى قطفير مالك بن ذعر فابتاع يوسف منه بعشرين ديناراً وزوج نعل وثوبين أبيضين ، وقال ابن منبه : قدمت السيّارة بيوسف مصر ( فعرضوه ) للبيع فترافع الناس في ثمنه وتزايد حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً فابتاعه قطفير بن مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى
يوسف : ( 21 ) وقال الذي اشتراه . . . . .
) وقال الذي اشتراه من مصر ( .
فإن قيل : كيف أثبت الشرى في قوله وشروه واشتراه ولم ينعقد عليه ؟ والجواب : إن الشراء هو المماثلة فلمّا ماثله بمال من عنده جاز أن يقال : اشتراه ، على التوسع ، كقوله تعالى : ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ( الآية ، فلمّا مرّ قطفير وأتى به منزله قال لامرأته واسمها راحيل بنت رعابيل ، قاله محمد بن إسحاق بن يسار .
قال الثعلبي : وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن منبه ، قال : حدثنا أبو حامد المستملي ، حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : اسم امرأة العزيز التي ضمّت يوسف زليخا بنت موسى
(5/205)

" صفحة رقم 206 "
) أكرمي مثواه ( منزله ومقامه ، قتادة وابن جريج : منزلته ) عسى أن ينفعنا ( فيكفينا إذا بلغ وفهم الأُمور وبعض ما نحن ( نستقبله ) من أُمورنا .
) أو نتخذه ولداً ( أي نتبنّاه ، قال ابن إسحاق : كان قطفير لا يأتي النساء ، وكانت امرأته راحيلحسناء ناعمة طاعمة في ملك ودنيا .
قال الثعلبي : أخبرنا أبو بكر الجوزقي ، أخبرنا أبو العباس الدغولي ، حدثنا علي بن الحسن الهلالي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن أبي عبيد عن عبد الله قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرّس في يوسف فقال : أكرمي مثواه ، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها : يا أبت استأجره ، وأبو بكر حين استخلف عمر .
) وكذلك ( أي وكما أنقذ يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله فأخرجناه من الجُبّ بعد أن ألقي فيه ، فصيرناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر ) مكنّا له في الأرض ( يعني أرض مصر ، فجعلناه على خزائنها ، قال أهل الكتاب : لما تمّت ليوسف ( عليه السلام ) ثلاثون سنة ، استوزره فرعون .
) ولنعلّمه من تأويل الأحاديث ( أي ولكي نعلّمه من عبارة الرؤيا ، مكنّا له في الأرض ) والله غالبٌ على أمره ( اختلفوا في هذه الكناية ، فقال قوم : هي راجعة إلى الله عزّ وجلّ ، وتقدير الكلام : لا يغلب الله شيء ، بل هو الغالب على أمره يفعل ما يشاء ، ويعلم ما يريد ، وقال آخرون : راجعة إلى يوسف ، ومعنى الآية : والله مستول على أمر يوسف يسوسه ويحوطه ويدبّر أمره ، ولا يكله إلى غيره .
) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ما الله صانع بيوسف ، و ( ما ) إليه يوسف من أمره صائر ، وهم الذين زهدوا فيه وباعوه بثمن بخس وفعلوا به ما فعلوا .
قالت الحكماء في هذه : والله غالب على أمره حيث أمر يعقوب يوسف ( عليهما السلام ) أن لا يقصّ رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حين قصّ ، ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوا فغلب أمره حتى كادوا ، ثم أراد أخوة يوسف قتله فغلب أمره حتى لم يقتلوه ، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة فيندرس اسمه ، فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه وصار مذكوراً مشهوراً .
ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره حتى صار ملكاً والعبيد بين يديه ، ثم أرادوا أن يخلوا لهم وجه أبيهم ، فغلب أمره حتى ضاق عليهم قلب أبيهم ، ثم تدبّروا أن يكونوا من بعده قوماً
(5/206)

" صفحة رقم 207 "
صالحين تائبين ، فغلب أمره حتى نسوا الذنب وأصروا حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد أربعين سنة ، وقالوا : وإن كنا خاطئين ، وقالوا لأبيهم : إنا كنا خاطئين .
ثم أرادوا أن يغرّوا باسم القميص والدم والبكاء ، فغلب أمره حتى لم يخدع ، وقال : ) بل سولت لكم أنفسكم أمراً ( ثم احتالوا أن تذهب محبته من قبل أبيه ، فغلب أمره حتى ازدادت المحبة والشوق في قلبه ، ثم تدبّر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي ، فغلب أمره حتى نسي الساقي في ذكره ، ولبث في السجن بضع سنين ، ثم احتالت امرأة العزيز أن ( تترك ) المراودة عن نفسها حتى قالت ) ما جزاء من أراد بأهلك سوءً ( الآية ، فغلب أمره حتى شهد الشاهد من أهلها .
يوسف : ( 22 ) ولما بلغ أشده . . . . .
) ولما بلغ أشدّه ( أي منتهى شبابه وشدّة قوته ، قال مجاهد : ثلاثاً وثلاثين سنة ، الضحاك : عشرين سنة ، وروى ابن عباس أنه ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة ، وقيل : إلى أربعين ، وقيل : إلى ستين ، والأشُدّ : جمع شد ، مثل قدّ ، أقُدّ ، وشرّ وأشُرّ ، وضر وأضرّ ، قال حميد :
وقد أتى لو تعبت العواذل
بعد الاشل أربع كوامل
قال الشاعر :
هل غير أن كثر الأشل وأهلكت
حرب الملوك أكاثر الأموال
) آتيناه حكماً وعلماً ( قال مجاهد : العقل والفهم والعلم قبل النبوة ، وقال أهل المعاني : يعني إصابة في القول ، وعلماً بتأويل الرؤيا وموارد الأُمور ومصادرها .
) وكذلك نجزي المحسنين ( قال ابن عباس : المؤمنين ، وعنه أيضاً : المهتدين ، وقال ( الصدوق ) عن الضحاك : يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف ، وقال محمد بن كعب : هذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن ، فإن المراد به محمد نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : كما فعلت بيوسف بعدما لقي من إخوته ما لقي وقاسى من البلاء ما قاسى فمكّنته في الأرض ، ووطّأت له في البلاد ، وآتيته الحكم والعلم فكذلك أفعل بك ، أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة ، وأُمكّن لك في الأرض ، وأزيدك الحكم والعلم ؛ لأن ذلك جزائي لأهل الإحسان في أمري ونهيي .
( ) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاَْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّىأَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاأَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَالِكَ
(5/207)

" صفحة رقم 208 "
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ( 2
يوسف : ( 23 ) وراودته التي هو . . . . .
) وراودته التي هو في بيتها ( يعني امرأة العزيز ، وطلبت منه أن يواقعها ) وغلّقت الأبواب ( وكانت سبعة .
) وقالت هيت لك ( ، اختلف القراء فيه ، فقرأ ابن عباس والسلمي وأبو وائل وقتادة : هِئتُ لك بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً ، بمعنى تهيأتُ لك ، وأنكرها أبو عمرو ، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : سمعت أبا عمرو وسئل عن قراءة من قرأ : هِئتُ لك بكسر الهاء وهمز الياء فقال أبو عمرو : باطل ، جعلها من تهيأت ، اذهب واستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن ، هل تعرف أحداً يقول هذا ؟
وقال الكسائي أيضاً : لم يُحكَ هئت عن العرب ، وقال عكرمة : هِئتُ لك : أي زيّنت لك وحسنت وهي قراءة غير مرضية ، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وعبدالله بن أبي إسحاق : هيت لك بفتح الهاء وكسر التاء ، وقرأ يحيى بن وثاب : هِيتُ بكسر الهاء وضم التاء ، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وضم التاء ، وأنشد طرفة :
ليس قومي بالأبعدين إذا
ما قال داع من العشيرة هَيتَ
هم يجيبون إذا هم سراعا
كالأبابيل لا يغادر بيت
وقرأ أهل المدينة والشام بكسر الهاء وفتح التاء ، وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء ، وهي لغة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واللغة المعروفة عند العرب ، الشعبي عن عبد الله بن مسعود : أقرأني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هَيتَ لك .
وروى الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ هيت لك ، فقيل له : هيت لك ، فقال ابن مسعود : إنما نقرأها كما تعلّمناها وسمعناها جميعاً هلُمَّ وأقبل وادنُ ، قال الشاعر ( يخاطب ) أمير المؤمنين علي ( ح ) :
أَبلغْ أمير المؤمنين اهل العراق إذا أتيتا
أن العراق وأهله سلم ( إليك ) فهيت هيتا
(5/208)

" صفحة رقم 209 "
قال السّدّي : هي بالقبطيّة هلمّ لك ، وقال الحسين : هيت لك كلمة بالسريانية أي عليك ، قال أبو عُبيد : كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران وقعت إلى الحجاز معناها تعالَ ، قال أبو عبيد : سألتُ شيخاً عالماً من حوران فذكرَ أنها لغُتهم ، وكذا قال عكرمة ، وقال مجاهد وغيره : هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حَثّ وإقبال على الشيء ، وأصلهما من ( الدعوة ) والصياح تقول العرب : هيّتَ فُلان بفلان إذا دعاهُ وصاحَ به ، قال الشاعر :
قَدْ رابني أنّ الكريّ أسكتا
لو كان مَعْنيّاً بها لهَيَّتا
أي صاح به ، والكريّ المكاريّ .
وقال أُستاذنا أبو االقاسم بن حبيب : رأيتُ في بعض التفاسير هيتَ لك يقول : هل لك رغبة في حُسني وجمالي ، وذكر أبو عبيدة أن العرب لاتُثنّي هَيتَ ولا تجمع ولا تؤنّث ، وإنّها بصورة واحدة في كلّ حال وإنّما تتميّز بما بَعدها وبما قبلها .
قال يوسف ( عليه السلام ) عندَ ذلك : ) مَعَاذَ الله ( أعتصمُ وأستجيرُ بالله ممّا دعوتِني إليه وهو مصدر تقديره : عياذاً بالله .
) إنّهُ ربِّي ( يعني إنّ زَوجكِ قطفير سيديّ ، ) أحْسَنَ مَثْوايَ ( أي منزلتي ، وعلى هذا أكثر المفسّرين ، قال بعضهم : إنّها مردودة إلى الله ) أحسن مثواي ( أي آواني ومن بلاء الحب عافاني .
) إنّهُ لا يُفْلِحُ الظالِمُون ( يعني إن فعلتُ ، وأْتَمنني هذا فخنتُه في أهلهِ بعدما أكرمني وأْتمَنني وأحسنَ مثواي فأنا ظالم ولا يُفلح الظالمون ، وقيل الزناة .
يوسف : ( 24 ) ولقد همت به . . . . .
) ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ( يعني الهَمُّ بالشيء : حَديث المرء نفسَهُ به ، ولمّا يفعل ذلك . يقول الشاعر :
هممتُ وَلمْ أفعلْ وكِدتُ وليتني
تركتُ على عثمان تبكي حَلائلهُ
فأما ما كان من همّ يوسف ( عليه السلام ) بالمرأة وهمتها بهِ ، فإنّ أهل العلم ( اختلفوا ) في ذلك ، فروى سفيان بن عُيينة عن عُبيد الله بن أبي يزيد قال : سَمِعتُ ابن عباس سُئِلَ : ما بلغَ من همّ يوسف قال : حَلَّ الهميان وجلس منها مجلس المُجامع .
وروى ابن جريح عن ابن أبي عطية ، قال : سألتُ ابن عباس ( ح ) : ما بلغَ من همّ يوسف ، قال : استلقتْ له على قفاها وقعد بين رجليها لينزع ثيابَهُ .
(5/209)

" صفحة رقم 210 "
سعيد بن جُبير : أطلق تكة سراويله ، مُجاهد : حَلَ السراويل حَتّى بلغَ الثفن ، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته .
الضحاك : جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف ، وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتّى جمع بينهما .
قال السَديّ وابن اسحاق : لمّا أرادت امرأة العزيز مُراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر لهُ محاسن نفسه وتُشوّقه إلى نفسها فقالت له : يا يوسف ما أحسن شعرك قال : هو أوّل ما ينتثر من جسدي ، قالت : يا يوسف ما أحسنَ عينك قال : هي أوّل ما تسيلُ إلى الأرض من جسدي ، قالت : ما أحسن وجهك قال : هو للتُراب يأكله ، فلم تزل تُطيعه مرّة وتخيفه أُخرى وتدعوه إلى اللذّة ، وهو شاب مستقبل بجد من شبق الشباب ما يجد الرجل ، وهي حسناء جميلة حتى لانَ لها ممّا يرى من كلفها به ولما يتخوف منها حتى خليا في بعض البيوت وهمَّ بها ، فهذه أقاويل المفسّرين من السلف الصالحين .
وقالت جماعة من المتأخرين : لا يليق هذا بالأنبياء ( : ) فأوّلوا الآية بضروب من التأويل ، وقال بعضهم : وهمَّ بالفرار منها ، وهذا لا يصحّ لأنّ الفرار مذكور وليس له في الآية ذكر ، وقيل : هَمَّ بضربها ودفعها ، وقيل : هَمَّ بمخاصمتها ومرافعتها إلى زوجها ، وقيل : وهَمَّ بها هو كناية عن غير مذكور ، وقيل : تَمَّ الكلام عند قوله : ولقد همّت به ثمّ ابتدأ الخبر عن يوسف وقال : وهمَّ بها .
) لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهانَ رَبِّه ( : على التقديم والتأخير تقديرها : لولا أن رأى برهان ربّه لهمَّ بها ولكنّه رأى البرهان فلم يهمّ كقوله : ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم وَرَحمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشَّيْطانُ (
وهذا فاسدٌ عند أهلِ اللغة لأنّ العرب لا تُقدّم جواب ( لولا ) قبلها ، لا يقول : لقد قمت لولا زيد ، وهو يُريد ، لولا زيد لقمتُ ، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال : همّت بيوسف أن يفترشها وهمّ بها يوسف يعني تمنّاها أن تكون له زوجة .
وهذه التأويلات التي حكيناها كلها غير قوّية ولا مُرضية لمخالفتها أقوال القُدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم التأويل ، وهم قد أخذوا عن الذين شهدوا التنزيل .
وكما روي في الخبر الصحيح أنّ يوسف لما دخل على الملك وأقرّت المرأة ، وقال يوسف : ) ذلِك لِيَعْلَمَ أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بِالغَيْب ( قال له جبرئيل عليه السلام : ولا حين هَمَمت بها يا يوسف ؟ فقال يوسف عند ذلك ) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إنّ النفسَ لأَمَّارةٌ بالسُّوءِ إلاّ ما رَحِمَ رَبِّي ( .
(5/210)

" صفحة رقم 211 "
وأما أهل الحقائق فإنّهم قالوا في وجه هذه الآية : إنّ الهمّ همّان : همٌّ مُقيمٌ ( ثابت ) وهو إذا كان مع عزيمة وعقد ونيّة ورضى مثل همّ امرأة العزيز فالعهد مأخوذ .
وهمٌّ عارض وارد وهو الخطرة والفكرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزيمة مثل همّ يوسف ( عليه السلام ) ، والعهد غير مأخوذ ما لم يتكلّم به أو يفعله ، يدلّ عليه ما روي عن ابن ( المبارك ) قال : قلتُ لسفيان : أيؤخذ العهد بالهمّة ؟ قال : إذا كان عزماً أُخذ بها .
وروي عن أبي هُريرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : يقول الله عزّ وجل : ( إذا همّ عبدي بالحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة ، وإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هَمَّ عبدي بالسيّئة ولم يعملها لم أكتبها عليه ، فإنْ عملها كتبتها عليه سيّئة واحدة ، فإنْ تركها من أجلي كتبتها له حسنة ) .
والقول بإثبات مثل هذه : الزلاّت والصغائر على الأنبياء ( عليهم السلام ) غير محظور لضرب من الحكمة :
أحدها : ليكونوا من الله تعالى على وجل إذا ذكروها فيجدّون في طاعته إشفاقاً منها ولا يتّكلون على سعة رحمة الله .
والثاني : ليُعرّفهم موقع نعمته وامتنانه عليهم بصرفه عنهم .
والثالث : ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك اليأس من عفوه وفضله .
وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من أحد إلاّ يلقى الله عزّ وجل قد هَمّ بخطيئة أو عملها إلاّ يحيى بن زكريا فإنّه لم يهم ولم يعملها ) .
وعن مصعب بن عبدالله قال : حدّثني مصعب بن عثمان قال : كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهاً ، فدخلت عليه امرأة تستفتيه : ( فتأمنته ) بنفسه فامتنع عليها وذكّرها ، فقالت له : إن لم تفعل لأشهّرنَّ بك ولأصيحنَّ بك ، قال : فخرج وتركها ، فرأى في منامه يوسف النبي ( عليه السلام ) ، فقال له : أنت يوسف ؟ قال : أنا يوسف النبي هممتُ وأنت سُليمان الذي لم تَهمّ .
وأمّا البرهان الذي رآه يوسف ( عليه السلام ) فإنّ العلماء اختلفوا فيه ، فأخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى عن أبي العباس الأصمّ عن الحسن بن علي ، عن الحسين بن عطية عن إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد عن ابن عباس ) لَوْلاَ أَن رَّأى بُرْهانَ رَبِّهِ ( قال : مثل له يعقوب فضرب يده في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله
(5/211)

" صفحة رقم 212 "
وقال الحسن وسعيد بن جُبير وحميد بن عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وابن سيرين وأبو صالح وشمر بن عطية والضحّاك : انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضاً على إصبعه .
وقال ابن جبير : فكل ولد يعقوب ولِدَ له اثنا عشر ولداً إلاّ يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل نقص من شهوته حين رأى صورة أبيه فاستحياهُ .
قُتادة : رأى صورة يعقوب فقال : يا يوسف تعمل عمل السُّفهاء وأنت مكتوبٌ من الأنبياء ؟
ابن أبي مليكه : عن ابن عباس قال : نودي : يا يوسف أتزني فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له ؟
السدّي : نودي يا يوسف تواقعها ؟ إنّما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يُطلق ، ومثلُكَ إنْ واقعتها مثل ( الطير ) إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يُعمل عليه ، ومثلك إنْ واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه ، فلا يستطع أن يدفع عنه نفسه .
أبو مردود عن محمّد بن كعب القرضي : قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين همّ فرأى كتاباً في حائط البيت ) لاَ تَقْرَبُوا الزِّنا إِنَّهُ كَانَ فاحِشَةً وَسَاءً سَبِيْلا ( .
أبو معشر عنه : لولا ما رأى بالقرآن من تعظيم الزنا وتحريمه ، وزاد القرضي : بالقرآن وصحف إبراهيم ( عليه السلام ) .
ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى ) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمّ بِها ( قال : حَلّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته وإذا بكفّ قد مُدّت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها : ) إِنّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِيْنَ كِراماً كاتِبِيْنَ يَعْلَمُوْنَ ما تَفْعَلون ( .
قال : فقام هارباً وقامت ، فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد ، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته فإذا بكف قد مدّتْ فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها ) وَاتّقُوا يَوْماً تُرجَعُوْنَ فِيْهِ إلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْس ما كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظلَمُون ( ، فقام هارباً وقامت فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد ، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته ، قال الله تعالى لجبريل ( عليه السلام ) : يا جبرئيل أدرك عبدي قبل أن يُصيب الخطيئة ، فرأى جبريل عاضّاً على أصبعه أو كفّه وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء ؟ فذلك قوله تعالى : ) كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوْءَ وَالفَحْشاء (
.
(5/212)

" صفحة رقم 213 "
قتادة عن عطية عن وهب بن مُنبه ، إنّه قال : لمّا همّ يوسف وامرأة العزيز بما همّا خرجت كفّ بلا جسد بينهما مكتوبٌ عليها بالعبرانية ) أفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِما كَسَبَت ( ثُمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما ، ثُمّ رجعت الكفّ بينهما مكتوبٌ عليها بالعبرانية ) إِنّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِيْنَ كِراماً كاتِبِيْنَ يَعْلَمُوْنَ ما تَفْعَلون ( ، ثمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما ، فعادت الكفّ بالعبرانية مكتوب عليها : ) ولاَ تَقْرَبُوا الزِّنا إنّهُ كَانَ فاحِشَةً وَسَاءً سَبِيْلا ( فانصرفت الكفّ وقاما مقامهما ، فعادت الكفّ رابعة مكتوبٌ عليها بالعبرانية : ) وَاتّقُوا يَوْماً تُرجَعُوْنَ فِيْهِ إلى الله ( فولّى يوسف هارباً .
وروى عطية عن ابن عباس ، أنّ البرهان الذي رآه يوسف أنّه أُرِيَ تمثال الملك ، وروى عمر بن اسحاق عن بعض أهل العلم أنّه قطفير سيّده حين دنا من الباب في ذلك الحين ، إنّه لما هرب منها واتّبعته ألفاه لدى الباب .
روى علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر الصادق ج قال : حدّثني أبي عن أبيه علي ابن الحسين ، في قوله تعالى : ) لَوْلاَ أن رَّأى بُرهانَ رَبِّهِ ( قال : قامت امرأة العزيز إلى الصنم فاظلت دونه بثوب فقال لها يوسف : ما هذا ؟ فقالت : أستحيي من الصنم أن يرانا ، فقال يوسف : أتستحيين ممَّن لا يسمع ولا يُبصر ولا يفقه ولا يشهد ولا أستحيي ممّن خلق الأشياء وعلّمها ؟
وقال جعفر بن محمد : البرهان النبوّة التي : أودع الله صدره هي التي حالت بينه وبين ما يسخط الله .
وقيل : هو ما آتاه الله من العلم والحكمة ، وقال أهل الإشارة : إنّ المؤمن له بُرهان من ربّه في سرّه من معرفته فرأى ذلك البُرهان وهو زاجره .
فالبرهان الآية والحجّة ، وجواب ( لولا ) محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربّه لزنا ، وحقّق الهمّة الغريزية بهمّة الكسب ، لقوله تعالى : ) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَته ( ) وأن الله تواب حكيم ( ) وأَنّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيْم ( مجازه لهلكتم ، وقال امرؤ القيس :
فلو أنّها نفس تموت سوية
ولكنّها نفسٌ تساقط أنفسنا
أراد ( بسقطت ) فنيت ولهان عليَّ ، ونحوها .
قال الله تعالى : ) كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوْء ( الإثم ) والفحشاء ( الزنا .
) إِنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلصين ( قرأ أهل مكّة والبصرة بكسر اللام أي المُخلِصين التوحيد
(5/213)

" صفحة رقم 214 "
والعبادة لله ، وقرأ الآخرون بفتح اللام أي المختارين للنبوّة ، دليلها قوله ) إنّا أخلصناهم بخالصة ( .
وروى الزهري عن حمزة بن عبيدالله بن عمران بن عمر قال : قال : لمّا اشتكى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الألم الذي توفّي فيه ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يصلّي بالناس أبو بكر ) ، قالت عائشة : يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل رقيق ، وإنّه لا يملك نفسه حين يقرأ القُرآن ، فَمُره عمر يصلّي بالناس ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يصلّي بالناس أبو بكر ) فراجعته ، فقال ( ليصلِّ بالناس أبو بكر فإنّكن صويحبات يوسف ) ، قالت عائشة : والله ما حملني في ذلك الأمر عليهم أن يكون أوّل رجل قام مقام رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبدالله بن محمد بن شيبة قال : حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال : حدّثنا بعض أصحابنا قال : قال جعفر بن سليمان : سمعتُ امرأة في بعض الطرق وهي تتكلّم ببعض الرفث فقلت لها ( . . . . ) إنّكن صويحبات يوسف ، فقالت له المرأة : واعجباً نحنُ دعوناه إلى اللذّة ، وأنتم أردتم قتله ، فمن أصحابه نحن أو أنتم ، وقتل النفس أعظم ممّا أردناه ؟
يوسف : ( 25 ) واستبقا الباب وقدت . . . . .
) وَاسْتَبَقا الباب ( وذلك أنّ يوسف لمّا رأى البُرهان قامَ مُبادراً إلى باب البيت ، هارباً ممّا أرادته منه ، واتبعته المرأة فذلك قوله تعالى .
) واستبقا الباب ( : يعني بادر يوسف وراحيل إلى الباب ، أمّا يوسف ففراراً من ركوب الفاحشة ، وأمّا المرأة فطلبها ليوسف لتقضي حاجتها أيّ راودته عليها ، فأدركته فتعلّقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها مانعة له من الخروج .
) وَقَدَّتْ ( أي خرّقتْ وشقّت ) قَمِيْصُهُ مِن دُبُر ( : من خلف لا من قُدّام ، لأنّ يوسف كان الهارب والمرأة الطالبة ، فلمّا خرجا ) وَأَلْفَيَا سَيِّدَها لَدَى الْبَاب ( ، أي وجدا زوجها قطفير عند الباب جالساً مع ابن عمّ لراحيل ، فلمّا رأته هابته فقالت : سابقة بالقول لزوجها : ) قالَتْ ما جَزَاءُ مَنْ أَرادَ بأهْلِكَ سُوْءاً ( يعني الزنا ، ) إلاّ أنْ يُسْجَن ( يُحبس ، ) أوْ عَذَاب أَلِيْم ( يعني الضرب بالسياط ، قاله ابن عباس :
يوسف : ( 26 - 27 ) قال هي راودتني . . . . .
) قَالَ ( يُوْسِف : بل ) هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن أَهْلِها ( ، اختلفوا في هذا الشاهد ، قال سعيد بن جُبير وهلال بن يسار والضحّاك : كان صبيّاً في المهد أنطقه الله بقدرته
(5/214)

" صفحة رقم 215 "
وحدّثنا العوفي عن ابن عباس وشهر بن حوشب عن أبي هريرة ، ويدلّ عليه ما روى عطاء ابن السائب عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : تكلّم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب بن جُريج ، وعيسى ابن مريم ( عليه السلام ) .
وقيل : كان ذلك الصبيّ ابن خال المرأة ، وقال الحسن : غلامه ، قتادة والضحّاك ومجاهد برواية ( . . . ) : ما كان بصبي ولكنه كان رجلا حكيماً ذا لحية ، له رأي ومقال وآية ، وهو رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس ، قال : وكان من خاصّة الملك . وقال السدي : هو ابن عمّ راحيل ، وكان جالساً مع زوجها على الباب فحُكِّم وأخبر الله تعالى عنه : ) إِنْ كانَ قَمِيْصه ( الآية .
قال عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّ الشاهد قميصه المقدود من دُبر ، ومعنى شَهِد شاهد حَكم حاكم من أهلها ، قال مجاهد : قال الشاهد : تبيان هذا الأمر في القميص .
) إن كان قَمِيْصُهُ قُدَّ مِنْ دُبر فكذبت وهو من الصادقين وإنْ كان قميصه قُدَّ من قُبُل ( أي قدام ) فصدقت وَهُوَ مِنَ الكاذِبِيْن ( وخفّف ابن أبي إسحاق القُبل والدُبر وثقّلهما الآخرون وهما لغتان .
يوسف : ( 28 ) فلما رأى قميصه . . . . .
فجيء بالقميص فإذا هو قُدّ من دُبر ، فلمّا رأى قطفير قميصه قُدّ من دُبر عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف ) فَقَالَ ( لها ) إنّهُ ( أي إنّ هذا الصنيع ) مِن كَيْدُكُنّ إنّ كَيْدَكُنّ عَظِيْم ( ، وقيل : إنّ هذا من قول الشاهد .
يوسف : ( 29 ) يوسف أعرض عن . . . . .
ثمّ أقبل قطفير على يوسف فقال : ) يُوْسُف ( يعني يا يوسف ، لفظ مفرد ) أعْرِضْ عَنْ هَذا ( الحديث فلا تذكره لأحد ، وقيل : معناه لا تكترث له فقد كان عفوك لبراءتك ، ثمّ قال لامرأته : ) وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ( وقيل : هو من الشاهد ليوسف والراحيل ، وأراد بقوله : واستغفري لذنبك ، يقول : سلي زوجك ألاّ يعاقبكَ على ذنبك ويصفح عنك ، وهذا معنى قول ابن عباس .
) إنّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطِئِيْن ( من المذنبين حين راودت شابّاً عن نفسه وخُنتِ زوجك ، فلمّا استعصم كذبت عليه ، يقال خطأ يخطأ خطأً ، وخِطأً ، وخطاً وخِطاءً ، إذا أذنب والاسم منه الخطيئة ، قال الله تعالى : ) إنَّهُ كَانَ خِطْأً كَبِيْراً ( وقال أُميّة :
عبادك يخطأون وأنتَ ربٌّ
بكفّيك المنايا والحتومُ
أيّ يُذنبون ؛ فإذا أرادوا التعمّد قيل : خَطأ خطأْ هنا لأنّ الفعل بالألف قال الله تعالى : ) ومَا كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاّ خَطَاً ( ، وإنّما قال ) مِنَ الخاطِئِيْن ( ولم يقل : الخاطئات
(5/215)

" صفحة رقم 216 "
لأنّه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء ، وإنّما قصد به الخبر عمّن يفعل ذلك ، وتقديره : من القوم الخاطئين . ومثله قوله : ) وَكانَت مِنَ القانِتين ( ، بيانه قوله : إنّها كانت من قوم كافرين .
( ) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىإِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ( 2
يوسف : ( 30 ) وقال نسوة في . . . . .
) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِيْنَةِ ( يقول : شاع أمر يوسف والمرأة في مدينة مصر وتحدّثت النساء بذلك ، وقلن يعني امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب ، قاله مقاتل ) امرأة العزيز ( وهو في كلام العرب الملك ، قال أبو داود :
درّةٌ غاصَ عليها تاجِرٌ
جُليت عند عزيز يومَ طلّ
أيّ ملك .
) تُرَاوِدُ فَتَاهَا ( عدّها الكنعاني عن نفسه .
) قَدْ شَغَفَها حُبّاً ( أي أحبّها حتى دخل حبّه شغاف قلبها ، وهو حجابه وغلافه . قال السدّي : الشغاف جلدة رقيقة على القلب يُقال لها : لسان القلب ، تقول : دخل الحُبّ الجلد حتى أصاب القلب ، قال النابغة الذبياني :
وقَدْ حال هَمّ دون ذلك داخلٌ
دخولَ الشِّغافِ تبتغيه الأصابعُ
وقال ابن عباس : علقها حُبّاً ، الحسن : بطنها حُباً ، قتادة : استبطنها حبّها إيّاه ، أبو رجاء : صدقها حُبّاً ، الكلبي : حجب حبّه قلبها حتى لا يعقل سواه .
وقرأ أبو رجاء العطاردي والشعبي والأعرج ، شعفها بالعين غير معجمة واختلفوا في معناها فقال الفرّاء : ذهب بها كلّ مذهب ، وأصله من شعف الجبال وهي رؤوسها ، والنخعي والضحّاك : فتنها ، وذهب بها ، وأصله من شعف الدابة حين تتمرّغ بذُعر ، قال امرؤ القيس
(5/216)

" صفحة رقم 217 "
أتقتلني وقد شعفتُ فؤادها
كما شعف المهنوءة الرجل الطالي
ومراده : ذهب قلب امرأته كما ذهب الطالي بالإبل بالقطران يتلو بها ، والإبل تخاف من ذلك ثمّ تستروح إليه ، وقال الأخفش : من حبُّها ، وقال محمد بن جرير : عمّها الحُب .
) إنّا لَنَراها فِي ضَلال مُبِيْن ( : خطاً بيّن ،
يوسف : ( 31 ) فلما سمعت بمكرهن . . . . .
) فلمّا سَمِعَتْ ( راحيل ، ) بِمَكْرِهِنّ ( بقولهنّ وحديثهنّ ، قال قتادة والسدّي وقال ابن إسحاق : وإنّما قلنّ ذلك مكراً بها ليَرينَ يهمّن يوسف وكان قد وصِف لهُنّ حُسنه وجماله ) أَرْسَلَتْ إلَيْهِنّ ( قال وهب : اتخذّت مأدبة ودعت أربعين امرأة فيهنّ هؤلاء اللائي عيّرنها ، ) وأَعْتَدَت ( وأعدّت وهو أفعلت العَتاد وهو العِدَّة ، قال الله تعالى : ) إنّا أَعْتَدْنا للظَّالِمِيْنَ نَاراً ( .
) لَهُنّ مُتّكأً ( مجلساً للطعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد ، يُقال : ألقى له مُتّكأً أيّ ما يُتّكأ عليه ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة . وقال سعيد بن جُبير والحسن وقتادة وأبي إسحاق وابن زيد : طعاماً ، قال القتبيّ : والأصل فيه أنّ من دعوته إلى مطعم عندك أعددت له وسادة أو متّكأ ، فسُمّي الطعام مُتّكأ على الاستعارة ، يُقال : اتّكأنا عند فلان أي أكلنا ، قال عدي بن زيد :
فظللنا بنعمة واتّكأنا
وشَربنا الحلال من قُلَلِهِ
وروي عن الحسن أنّه قال : متّكاء بالتشديد والمدّ وهي غير فصيحة ، وعن الحسن : فما أظنّ بصحيحة ، وقرأ مجاهد مُتّكأ خفيفة غير مهموزة ، وروي ذلك عن ابن عباس .
واختلفوا في معناه ، فقال ابن عباس : هو الأترج ، عكرمة : هو الطعام ، وأبو روق عن الضحّاك : الزماوَرد ، علي بن الحكم وعبيد بن حكيم ، عنه : كلّ شيء يُحزّ بالسكّين فهو عند العرب المتّكأ ، والمتك والبتك : القطع والعرب تُعاقب بين الباء والميم تقول سمد رأسه وسبده ، وأغبطت عليه وأغمطته ( لازب ) ولازم قال الله تعالى : ) فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأَنْعام ( .
) وآتَتْ كُلَّ واحِدَة مِنْهُنّ سِكِّيناً وقالت ( ليوسف ) أُخْرُجْ عَلَيْهِن ( وذلك أنّها قد كانت أجلسته في مجلس غير المجلس الذي هُنّ فيه جلوس ، فخرج عليهنّ يوسف ( عليه السلام ) ، قال عِكْرمة : وكان فضل يوسف على الناس في الحسن والجمال كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء .
(5/217)

" صفحة رقم 218 "
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مررتُ ليلة أُسري بي إلى السماء فرأيتُ يوسف ، فقلت : يا جبرئيل من هذا ؟ قال : هذا يوسف ) قالوا : وكيف رأيته يا رسول الله ، قال : ( كالقمر ليلة البدر ) .
وعن عبدالله بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( هبط جبرئيل فقال : يا محمد إنّ الله تعالى يقول : كسوتُ حُسنَ يوسف من نور الكُرسي ، وكسوتُ نورُ حُسن وجهك من نور عرشي ) .
وروى الوليد بن مسلم عن إسحاق عن عبدالله بن أبي فروة قال : كان يوسف إذا سارَ في أزقّة مصر يُرى تلألؤ وجهه على الجُدران كما يُرى نور الشمس والماء على الجدران .
) فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرنه ( أي أعظمنه وأجللنه ، قال أبو العالية : هالَهنّ أمره وبُهتن ، وروى عبدالصمد بن علي عن عبدالله بن عباس عن أبيه عن جده ابن عباس في قوله تعالى : ) فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَه ( قال حضن من الفرح ، ثم قال :
نأتي النساء على أطهارهنّ ولا
نأتي النساء إذا أكبرنَ إكباراً
وعلى هذا التأويل يكون أكبرنه بمعنى أكبرن له أي حِضن لأجله من جماله ، ووجدن ما تجد النساء في مثل تلك الحال وهذا كقول عنترة :
ولقد أبيتُ على الطوى وأظلّه
حتى أنال به كريم المطعم
أي وأظلّ عليه .
قال الأصمعي : أُنشد بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذا البيت ، فقال :
ما من شاعر جاهلي أحببت أن أراه
دون ( . . . . . . . . . . . . . ) البيت
) وَقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ ( ، يعني وحَزَزْنَ أيديهنّ بالسكاكين التي معهنّ وكُنّ يحسبن أنّهنّ يقطّعن الأترج ، عن قتادة : قطّعن أيديهنّ حتى ألقينها ، وقال مجاهد : فما أَحسسنَ إلاّ بالدم ومنهنّ لم يجدن من ألم إلاّ يُرى الدم لشغل قلوبهنّ بيوسف ، قال وهب : وبلغني أنّ تسعاً من الأربعين مِتنَ في ذلك المجلس وُجْداً بيوسف
(5/218)

" صفحة رقم 219 "
) وَقُلنَ حاشَ للهِ ( أي معاذ الله ، قال أبو عبيدة : لهذه الكلمة معنيان : التنزيه والاستثناء ، واختلف القُرّاء فيها فقرأت العامّة : حاشَ لله ، ( . . . ) حذفوا الألف لكثرة دورها على الألسن كما حذفت العرب الألف من قولهم : لأب لغيرك ولأب لشانئِكَ ، وهم يعنون لا أبَ ، واختار أبو عُبيدة هذه القراءة وقال : اتّباعاً للكتاب وهو الذي عليه الجمهور الأعظم ، مع إنّي قرأتها في الإمام مصحف عثمان ( عليه السلام ) : حاشَ لله والأخرى مثلها . وقرأ أبو عمرو : حاشي لله بإثبات الياء على الأصل ، وقرأ ابن مسعود حاشى الله ، كقول الشاعر :
حاشا أبي ثوبان إن به
ضَنّا عن الملحاة والشتم
) مَا هَذَا بَشَراً ( نصب بنزع حرف الصفة وعلى خبر ما الجحد كما تقول : ما زيدٌ قائماً ، وقرأ الأعمش : ما هذا بشرٌ بالرفع وهي لغةُ أهل نجد ، وأنشد الفرّاء :
ويزعم حسل أنه فرعُ قومه
وما أنتَ فرعٌ يا حُسيل ولا أصلُ
وأنشد آخر :
لشتّان ما أنوي وينوي بنو أبي
جميعاً فما هذان مستويان
تمنّوا ليَّ الموت الذي يشعب الفتى
وكلُّ فتىً والموت يلتقيانِ
وروى الفرّاء عن دعامة بن رجاء التيمي عن أبي الحويرث الحنفي أنّه قرأ : ما هذا بِشَريّ ، قال الفرّاء : يعني بمُشتري ، ) إنْ هذا ( ما هذا ) إلاّ مَلَكٌ كَريْم ( من الملائكة .
قال الثعلبي : سمعت ابن فورك يقول : إنّما قلن له مَلكٌ كريم لأنّه خالف ميوله وأعرض عن الدنيا وزينتها وشهوتها حين عُرِضْنَ عليه ، وذلك خلاف طبائع البشر .
يوسف : ( 32 ) قالت فذلكن الذي . . . . .
قالت : راحيل للنسوة : ) فذلِكُنَّ الذي لُمْتُنني فِيْه ( أي في حُبّه وشغفي فيه ، ثمّ أقرّت لهنّ فقالت : ) وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَن نَفْسِهِ فاسْتَعْصَم ( أي امتنع و استعصى ، فقلن له أطع مولاتك ، فقالت راحيل : ) وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَل ما آمُرهُ ( ولئن لم يُطاوعني فيما دعوته إليه ، ) لَيسْجنَّنَ ( أحبسنّه ، ) وَلَيكَونَنَّ مِنَ الصّاغِرِيْن ( أي الأذلاّء ونون التوكيد تثقّل وتخفّف والوقف على قوله : ) لسجنَنّ ( بالنون لكنّها مُشدّدة . وعلى قوله : وليكوناً بالألف لأنّها مخفّفة وهي تشبه نون الإعراب في
(5/219)

" صفحة رقم 220 "
الأسماء كقولك : رأيتُ رجلا ، فإذا وقفت قلت : رجلا ومثله قوله تعالى : ) لَنَسْفَعن بِالنَاصِيَة ( ، ونحوه الوقف عليها بالألف كقول الأعشى :
وصلّ على حين العشيّات والضُحى
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
أي أراد فاعبدنْ ، فلمّا وقف عليه كان الوقف بالألف .
واختار يوسف حين عاودته المرأة في المراودة وتوعّدته ، السجن على المعصية ،
يوسف : ( 33 ) قال رب السجن . . . . .
) قال ربّ ( : يا ربّ ، منادى مضاف ، ) السجن ( المحبس ، قراءة العامّة بكسر السين على الاسم وقرأ يعقوب برفع السين على المصدرية يعني الحبس ، ) أَحَبُّ إليَّ ممّا يَدعونَني إليه ( ، ثمّ علم أنّه لا يستعصم إلاّ بعصمة الله فقال : ) وإلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنَّ أصبُ ( أمِلْ ) إلَيْهِنّ ( وأُبايعهن ، فقال صبا فلان إلى كذا ، وصبا يصبو ، صبواً وصبوة ، إذا مال واشتاق إليه ، قال يزيد بن ضُبّة :
إلى هند صبا قلبي
وهندٌ مثلها يُصبي
) وأَكُنْ مِنَ الجاهِلِيْن }
يوسف : ( 34 ) فاستجاب له ربه . . . . .
) فاسْتَجابَ لَهُ رَبّه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنّهُ هُوَ السَّمِيْع ( لدعائه وشكايته ، ) العَلِيْم ( بمكرهنّ .
يوسف : ( 35 ) ثم بدا لهم . . . . .
) ثمّ بَدا لَهُم ( أي العزيز وأصحابه ، في الرأي ) مِن بَعْدِ ما رَأُوا الآيات ( الدّالة على براءة يوسف ، وهي قدّ القميص من دُبر وخمش في الوجه وتقطيع النسوة أيديهنّ ) لَيَسْجُنَّنهُ ( قال الفرّاء : هذه اللام في اليمين وفي كلّ مضارع القول كقوله تعالى : ) وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشتَراهُ ( ) وظنّوا ما لَهُمْ مِن مَحِيْص ( دخلتهما ( اللام وما ) لأنّهما في معنى القول واليمين .
) حَتَّى حِيْن ( يعني إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم .
قال عِكْرمة : تسع سنين ، الكلبي : خمس سنين ، و ( حتى ) بمعنى ( إلى ) كقوله تعالى : ) حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ ( ، وقال السدّي : وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها : إنّ هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس ، يعتذر إليهم ويخبرهم أنّي راودته عن نفسه ، ولستُ أُطيق أن أعتذر بعُذري ، فإمّا أن تأذن لي فأخرج فأعتذر ، وأمّا أن تحبسوه كما حبستني ، فحبسه بعد علمه ببراءته ، وذكر أنّ الله تعالى جعل ذلك الحبس تطهيراً ليوسف من همّته بالمرأة وتكفيراً لزلّته .
قال ابن عباس : عثر يوسف ثلاث عثرات : حين همّ بها فسجن ، وحين قال : ) اذْكُرْنِي
(5/220)