نيل الأوطار
الشوكاني ج 1

[ 1 ]
نيل الاوطار من أحاديث سيد الاخيار شرح منتقي الاخبار للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي ابن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 ه‍ الجزء الاول - 1973 دار الجيل بيروت - لبنان ص، پ - 8747
[ 2 ]
باب قضاء الفوائت عن أنس بن مالك: أن النبي (ص) قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك متفق عليه. ولمسلم: إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عزوجل يقول: * (أقم الصلاة لذكري) * (طه: 14). وعن أبي هريرة: عن النبي (ص) قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول: * (أقم الصلاة لذكري) * رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. قوله: من نسي تمسك بدليل الخطاب من قال: إن العامد لا يقضي الصلاة، لان انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي، وإلى ذلك ذهب داود وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي، وحكاه في البحر عن ابني الهادي والاستاذ ورواية عن القاسم والناصر. قال ابن تيمية حفيد المصنف: والمنازعون لهم ليس لهم حجة قط يرد إليها عند التنازع وأكثرهم يقولون: لا يجب القضاء إلا بأمر جديد وليس معهم هنا أمر، ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط، بل ننازع في قبول القضاء منه وصحة الصلاة في غير وقتها، وأطال البحث في ذلك واختار ما ذكره داود ومن معه، والامر كما ذكره فإني لم أقف مع البحث الشديد للموجبين للقضاء على العامد، وهم من عدا من ذكرنا على دليل ينفق في سوق المناظرة ويصلح للتعويل عليه في مثل هذا الاصل العظيم إلا حديث: فدين الله أحق أن يقضى باعتبار ما يقتضيه اسم الجنس المضاف من العموم ولكنهم لم يرفعوا إليه رأسا، وأنهض ما جاؤوا به في هذا المقام قولهم: إن الاحاديث الواردة بوجوب القضاء على الناسي يستفاد من مفهوم خطابها وجوب القضاء على العامد لانها من باب التنبيه بالادنى على الاعلى، فتدل بفحوى الخطاب وقياس الاولى على المطلوب، وهذا مردود لان القائل بأن العامد لا يقضي لم يرد أنه أخف حالا من
[ 3 ]
الناسي، بل صرح بأن المانع من وجوب القضاء على العامد أنه لا يسقط الاثم عنه فلا فائدة فيه، فيكون إثباته مع عدم النص عبثا، بخلاف الناسي والنائم فقد أمرهما الشارع بذلك، وصرح بأن القضاء كفارة لهما لا كفارة لهما سواه، ومن جملة حججهم أن قوله في الحديث: لا كفارة لها إلا ذلك يدل على أن العامد مراد بالحديث لان النائم والناسي لا إثم عليهما، قالوا: فالمراد بالناسي التارك سواء كان عن ذهول أم لا. ومنه قوله تعالى: * (نسوا الله فنسيهم) * (التوبة: 67) وقوله تعالى: * (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) * (الحشر: 19) ولا يخفى عليك أن هذا الكلام يستلزم عدم وجوب القضاء على الناسي والنائم لعدم الاثم الذي جعلوا الكفارة منوطة به، والاحاديث الصحيحة قد صرحت بوجوب ذلك عليهما، وقد استضعف الحافظ في الفتح هذا الاستدلال، وقال: الكفارة قد تكون عن الخطأ كما تكون عن العمد، على أنه قد قيل: إن المراد بالكفارة هي الاتيان بها تنبيها على أنه لا يكفي مجرد التوبة والاستغفار من دون فعل لها. وقد أنصف ابن دقيق العيد فرد جميع ما تشبثوا به، والمحتاج إلى إمعان النظر ما ذكرنا لك سابقا من عموم حديث: فدين الله أحق أن يقضى لا سيما على قول من قال: إن وجوب القضاء بدليل هو الخطاب الاول الدال على وجوب الاداء، فليس عنده في وجوب القضاء على العامد فيما نحن بصدده تردد لانه يقول: المتعمد للترك قد خوطب بالصلاة ووجب عليه تأديتها فصارت دينا عليه، والدين لا يسقط إلا بأدائه، إذا عرفت هذا علمت أن المقام من المضايق. وأن قول النووي في شرح مسلم بعد حكاية قول من قال: لا يجب القضاء على العامد أنه خطأ من قائله وجهالة من الافراط المذموم. وكذلك قول المقبلي في المنار: إن باب القضاء ركب على غير أساس ليس فيه كتاب ولا سنة إلى آخر كلامه من التفريط. قوله: لا كفارة لها إلا ذلك استدل بالحصر الواقع في هذه العبارة على الاكتفاء بفعل الصلاة عند ذكرها، وعدم وجوب إعادتها عند حضور وقتها من اليوم الثاني، وسيأتي الكلام على ذلك عند الكلام على حديث عمران بن حصين من آخر هذا الباب. والامر بفعلها عند الذكر يدل على وجوب المبادرة بها، فيكون حجة لمذهب من قال بوجوبه على الفور وهو الهادي والمؤيد بالله والناصر وأبو حنيفة وأبو يوسف والمزني والكرخي. وقال القاسم ومالك والشافعي وروي عن المؤيد بالله أنه على التراخي، واستدلوا في قضاء الصلاة بما في بعض روايات حديث نوم الوادي من أنه لما استيقظ النبي (ص) بعد فوات الصلاة بالنوم
[ 4 ]
أخر قضائها واقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي، ورد بأن التأخير لمانع آخر وهو ما دل عليه الحديث بأن ذلك الوادي كان به شيطان، ولاهل القول الاول حجج غير مختصة بقضاء الصلاة، وكذلك أهل القول الآخر. واعلم أن الصلاة المتروكة في وقتها لعذر النوم والنسيان لا يكون فعلها بعد خروج وقتها المقدر لها لهذا العذر قضاء وإن لزم ذلك باصطلاح الاصول، لكن الظاهر من الادلة أنها أداء لا قضاء، فالواجب الوقوف عند مقتضى الادلة حتى ينتهض دليل يدل على القضاء. والحديثان يدلان على وجوب فعل الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان وهو إجماع. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق حديث أبي هريرة: وفيه أن الفوائت يجب قضاؤها على الفور، وإنها تقضي
[ 5 ]
مقدمة الناشر قال الله سبحانه وتعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه. وما نهاكم عنه فانتهوا "، وقال سبحانه " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول "، وقال تعالى " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ".. صدق الله العظيم.. الدين الحنيف، والرسالة العامة الشاملة، والشريعة الجامعة، التي أرسل بها الله سبحانه وتعالى خاتم النبيين محمدا عليه الصلاة والسلام، غايتها تزكية النفس وتطهيرها عن طريقة المعرفة بالله والإيمان به وعبادته.. كما تهدف رسالة الاسلام إلى ثوثيق وتدعيم العلاقات والروابط الإنسانية وإقامتها على أساس متين راسخ من الاخاء والعدل والمساواة، والحب والعطف والرحمة، والتسامح والتعاون.. ولقد نظم التشريع الاسلامي حياة الناس، وحدد الاحكام على ضوء ماء ورد في القران الكريم والسنة الشريفة.. من الآيات البينات، والأحاديث النبوية الصحيحة.. وليس في أحكام الدين الحنيف ما يصعب على الناس اعتقاده أو ما يشق عليهم العمل به، فلم يكلف الله نفسا إلا وسعها.... ولقد تولى العديد من الأئمة والعلما والفقهاء قديما وحديثا تفسير آيات القران الكريم في كتب التفسير المعروفة.. كما تولى عدد منهم جمع الأحاديث النبوية الشريفة، بسندها الصحيح، نقلا عن حفظة الحديث ورواته من أهل الفضل والثقة.
[ 6 ]
ثم كانت المهمة الجليلة للعلماء الفضلاء، تيسير إطلاع المسلمين على أحكام التشريع الاسلامي وبيان ما جاء في الكتاب والسنة متعلقا بأمور الدين والدنيا.. ومن الأئمة العلما الأفاضل، قاضي القضاة الشيخ محمد بن علي بن محمد الشوكاني، المتوفي سنة 1255 ه‍، الذى شرح بالتفضيل الوافي أحكام الشرع في العبادات وغيرها، مستقاة من صحيح أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.. في كتابه الشامل المبوب هذا " نيل الأوطار ".. الذى اكتمل بتعليقات وشروح المرحوم السيد منير أغا الدمشقي.. والذي تعتز دار الجيل بأن تستهل بنشره عامها الجديد فتقدمه إلى كل مسلم حريص على معرفة تعاليم الدين الحنيف الصحيحة واتباعها في هذه الطبعة الجديدة، اعتزازها بنشر كل تراث السلف الصالح من الأئمة والفقهاء.. هذا التراث الحاد الذي يسعد الدار أن تكون من العاملين على حفظه وإحيائه، ومن المساهمين في تيسير الاطلاع على روائعه وكنوزه لكل قارئ ودراس.. والله الموفق. دار الجيل
[ 7 ]
محتويات الجزء الأول مقدمة وتراجم كتاب الطهارة كتاب النفاس كتاب الصلاة
[ 1 ]
نيل الأوطار من الأحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني قاضي قضاة القطر اليماني محمد بن علي ابن محمد الشوكاني المتوفي سنة 1255 ه‍ الجزء الأول 1973 م دار الجيل
[ 2 ]
بسمه الله الرحمن الرحيم أحمدك يا من شرح صدورنا بنيل الأوطار علوم السنة * وأفاض على قلوبنا من أنوار معارفها ما أزاح عنا من ظلم الجهالات كل دجنة (1) * حماها بحماة صفدوا بسلاسل أسانيدهم الصادقة أعناق الكاذبين * وكفاها بكفاة كفوا عنها أكف غير المتأهلين من االمناتبين المرتابين * فغدا معينها الصافي غير مقذر بالأكدار * وزلال عذبها الشافي غير مكدر بالاقذار * والصلاة والسلام علي المنتقي من عالم السكون والفساد * المصطفي لحمل أعباء أسرار الرسالة الالهية من بين العباد * المخصوص بالشفاعة العظمي في يوم يقول فيه كل رسول نفسي ويقول أنا لها أنا لها * القائل بعثت إلى الأحمر والأسود أكرم بها مقالة ما قالها نبى قبله ولا نالها * وعلي آله المطهرين من جميع الادناس والارجاس * الحافظين لمعالم الدين عن الاندراس والانطماس * وعلى أصحابه الجالين باشعة بريق صوارمهم دياجر (2) الكفران * الخائضين بخيلهم ورجلهم لنصرة دين الله بين يدى رسول الله كل معركة تتقاعس عنها الشجعان * (وبعد) (3) فانه لما كان الكتاب الموسوم بالمنتقي من الأخبار في الأحكام * مما لم ينسج على بديع منواله ولا حرر علي شكله ومثاله احد من الأئمة الاعلام * قد جمع من السنة المطهرة ما لم يجتمع في غيره من الاسفار * وبلغ إلى غاية في الاحاطة باحاديث الاحكام تتقاصر عنها الدفاتر الكبار * وشمل من دلائل المسائل جملة نافعة تفني دون الظفر ببعضها طوال الأعمار * وصار مرجعا لجلة العلماء عند الحاجة إلى طلب الدليل لا سيما في هذه الديار وهذه الاعصار * فانها تزاحمت علي مورده العذب أنظار المجتهدين * وتسابقت على الدخول في أبوابه أقدام االباحثين من المحققين * وغدا ملجا
[ 3 ]
للنظار يأوون إليه * ومفزعا للحاربين من رق التقليد يعولون عليه * وكان كثيرا ما يتردد الناظرون في صحة بعض دلائله * ويتشكك الباحثون في الراجح والمرجوح عند تعارض بعض مستندات مسائلة * حمل حسن ظن بي جماعة من حملة العلم بعضهم من مشايخي علي أن التمسوا مني القيام بشرح هذا الكتاب * وحسنوا لي السلوك في هذه المسالك الضيقة التي يتلون الخريت (1) في موعرات شعابها والهضاب * فأخذت في القاء المعاذير: وأبنت تعسر هذا المقصد على جميع التقادير: وقلت القيام بهذا الشأن يحتاج إلى جملة من الكتب يعز وجودها في هذه الديار: والموجود منها محجوب بايدى جماعة الابصار بالاحتكار والادخار كما تحجب الابكار: ومع هذا فأوقاتي مستغرقة بوظائف الدرس والتدريس: والنفس مؤثرة لمطارحة مهرة المتدربين في المعارف كل نفيس: وملكتي قاصرة عن القدر المعتبر في هذا العلم الذي قد درس رسمه: وذهب أهله منذ أزمان قد تصرمت فلم يبق بأيدى المتأخرين الا اسمه: لا سيما وثوب الشباب قشيب: وردن الحداثة بمائها خصيب: ولا ريب أن لعلو السن . طول الممارسة في هذا الشأن أوفر نصيب * فلما لم ينفعني الاكثار من هذه الاعذار ولا خلصني من ذلك المطلب ما قدمته من الموانع الكبار: صممت علي الشروع في هذا المقصد المحمود: وطمعت أن يكون قد أنيح لي أني من خدم السنة المطهرة معدود: وربتما أدرك الظالع شأوالضليع وعد في جملة العقلاء المتعاقل الرقيع: وقد سلكت في هذا الشرح لطول المشروح مسلك الاختصار. وجردته عن كثير من التفريعات والمباحثات التي تقضي الى الا كثار لا سيما في المقامات التي يقل فيها الاختلاف: ويكثر بين أئمة المسلمين في مثلها الائتلاف: وأما في مواطن الجدال والخصام فقد أخذت فيها بنصيب من إطالة ذيول الكلام لانها معارك تتبين عندها مقادير الفحول: ومفاوز لا يقطع شعابها وعقابها الانحارير الاصول: ومقامات تتكسر فيها النصال علي النصال: ومواطن تلجم عندها أفواه الابطال باحجار الجدال: ومواكب تعرق فيها جباه رجال حل الاشكال والاعضال * وقد قمت ولله الحمد في هذه المقامات مقاما لا يعرفه الا المتأهلون: ولا يقف على مقدار كهنه من حملة العلم الا المبرزون. فدونك يا من لم تذهب ببصر بصيرته أقوال
[ 4 ]
الرجال. ولا تدنست فطرة عرفانه بالقيل والقال. شرحا يشرح الصدور ويمشي على سنن الدليل وإن خالف الجمهور وإنى معترف بأن الخطأ والزلل هما الغالبان علي من خلقه الله من عجل ولكني قد نصرت ما أظنه الحق بمقدار ما بلغت إليه الملكة. ورضت النفس حتى صفت عن قذر التعصب الذي هو بلا ريب الهلكة. وقد اقتضرت فيما عدا هذه المقامات الموصوفات علي بيان حال الحديث وتفسير غريبه وما يستفاد منه بكل الدلالات وضممت الى ذلك في غالب الحالات الاشارة الي بقية الاحاديث الواردة في الباب مما لم يذكر في الكتاب. لعلمي بأن هذا من أعظم الفوائد التي يرغب في مثلها أرباب الالباب من الطلاب. ولم أطول ذيل هذا الشرح بذكر تراجم رواة الأخبار. لأن ذلك مع كونه علما آخر يمكن الوقوف عليه في مختصر من كتب الفن من المختصرات الصغار. وقد أشير في النادر إلي ضبط إسم راو أو بيان حاله علي طريق التنبيه. لا سيما في المواطن التي هي مظنة تحريف أو تصحيف لا ينجو منه غير النبيه. وجعلت ما كان للمصنف من الكلام علي فقه الأحاديث وما يستطرده من الادلة في غضونه من جملة الشرح في الغالب ونسبت ذلك إليه وتعقبت ما يتبغي تعقبه عليه وتكلمت علي ما لا يحسن السكوت عليه مما لا يستغني عنه الطالب كل ذلك لمحبة رعاية الاختصار وكراهة الاملال بالتطويل والاكثار. وتقاعد الرغبات وقصور الهمم عن المطولات * وسميت هذا الشرح لرعاية التفاؤل الذي كان يعجب المختار نيل الاوطار من أسرار منتقي الأخبار والله المسؤول أن ينفعني به ومن رام الانتفاع من أخواني وان يجعله من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في اكفاني * وقبل الشروع في شرح كلام المصنف نذكر ترجمته علي سبيل الاختصار فنقول. هو الشيخ الامام علامة عصره المجتهد المطلق أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين عبد الاسلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن محمد بن الخضر بن محمد بن علي بن عبد الله الحراني المعروف بابن تيمية قال الذهبي في النبلاء ولد سنة تسعين وخمسمائة تقريبا وتفقه علي عمه الخطيب وقدم بغدا ذو هو مراهق مع السيف ابن عمه وسمع من أحمد بن سكينة وإبن طبر زد ويوسف بن كامل وعدة. وسمع بحران من حنبل وعبد القادر الحافظ وتلا بالعشر علي الشيخ عبد الواحد بن سلطان. حدث عنه ولده شهاب الدين والدمياطى وأمين الدين بن شقير. وعبد الغني ين منصور. ومحمد بن البزاز. والواعظ محمد بن عبد المحسن وغيرهم وتفقه وبرع واشتغل وصنف التصانيف وانتهت إليه الا أمة في الفقه ودرس القرات وصنف فيها أرجوزة تلا
[ 5 ]
عليه الشيخ القيرواني. وحج في سنة احدى وخمسين علي درب العراق وابتهر علماء بغداد لذكائه وفضائله والتمس منه أستاذ دار الخلافة محيي الدين بن الجوزي الاقامة عندهم فتعلل بالاهل والوطن. قال الذهبي سمعت الشيخ تقي الدين أبا العباس يقول كان الشيخ ابن مالك يقول ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديد. قال الشيخ وكانت في جدنا حدة اجتمع ببعض الشيوخ وأورد عليه مسألة فقال الجواب عنها من ستين وجها الاول كذا والثاني كذا وسردها الى آخرها وقد رضينا عنك باعادة أجوبة الجميع فخضع له وابتهر. قال العلامة ابن حمدان كنت أطالع علي درس الشيخ وما أبقى ممكنا فإذا أصبحت وحضرت ينقل أشياء غريبة لم أعرفها. قال الشيخ تقى الدين وجدناه عجيبا في سرد المتون وحفظ المذاهب بلا كلفة وسافر مع ابن عمه إلى العراق ليخدمه وله ثلاث عشرة سنة فكان يبيت عنده ويسمعه يكرر مسائل الخلاف فيحفظ المسألة. وأبو البقاء شيخه في النحو والفرائض وأبو بكر بن غنيمة شيخه في الفقه وأقام ببغداد ستة أعوام مكبا علي الاشنغال ثم ارتحل الى بغداد قبل العشرين وستمائة فتزيد من العلم وصنف التصانيف مع الدين والتقوى وحسن الاتباع. وتوفى بحران يوم الفطر سنة اثنتين وخمسين وستمائة وإنما قيل لجده تيمية لانه حج علي درب تيماء فرأي هناك طفلة فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتا فقال يا تيمية يا تيمية فلقب بذلك وقيل ان أم جده كانت تسمى تيمية وكانت واعظة وقد يلتبس علي من لا معرفة بأحوال الناس صاحب الترجمة هذا بحفيدة شيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم شيخ ابن القيم الذي له المقالات التي طال بينه وبين أهل عصره فيها الخصام وأخرج من مصر بسببها وليس الأمر كذلك. قال في تذكرة الحفاظ في ترجمة شيخ الاسلام هو أحمد ابن المفتي عبد الحليم ابن الشيخ الامام المجتهد عبد السلام بن أبي القاسم الحراني وعم المصنف الذي أشار الذهبي في الاول الترجمة إنه تفقه عليه ترجم له ابن خلكان في تاريخه فقال هو أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر بن على بن عبد الله المعروف بابن تيمية الحراني الملقب فخر الدين الخطيب الواعظ الفقيه الحنبلي كان فاضلا تفرد في بلده بالعلم ثم قال وكانت إليه الخطابة بحران ولم يزل أمره جاريا علي سداد ومولده في أواخر شعبان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة بمدينة حران وتوفي بها في حادي عشر صفر سنة احدي وعشرين وستمائة ثم قال وكان أبوه أحد الابدال ئالزهاد * قال المصنف قدس الله روحه ونور ضريحة *
[ 6 ]
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا افتتح الكتاب بحمدالله سبحانه وتعالى اداء لحق شئ مما يجب عليه من شكر النعمة الي من آثارها تأليف هذا الكتاب وعملا بالاحاديث الواردة في الابتداء به كحديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي. ابن ماجه وأبي عوانة والدار قطني وابن حيان والبيهقي عنه صلي الله عليه وسلم " كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم " واختلف في وصله وارساله فرجح النسائي والدار قطني الارسال واخرج الطبراني في الكبير والرهاوي عن كعب بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم انه قال " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع " وأخرج أيضا ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع " وأخرجه أيضا أبو داود عنه وكذلك النسائي وابن ماجه وفي رواية " أبتر " بدل " أقطع " وله ألفاظ أخر أوردها الحافظ عبد القادر الرهاوي في الاربعين له وسيذكر المنصف رحمه الله حديث أبي هرير ة هذا في باب اشتمال الخطبة على حمد الله من ابواب الجمعة. والحمد في الاصل مصدر منصوب بفعل مقدر حذف حذفا قياسيا كما صرح بذلك الرضي ورجحه أو سماعيا كما ذهب إليه غيره. وعدل به الى الرفع للدلالة على الدوام المستفاد من الجملة الاسمية ولو بمعونة المقام لامن مجرد العدوال اذلا مدخلية له في ذلك. وحلي باللام ليفيد الاختصاص الثبوتي. هو مستلزم للقصر فيكون الحمد مقصورا عليه تعالى اما باعتباران كل حمد لغيره آيل إليه أو منزل منزلة العدم مبالغة وادعا أو لكون الحمد له جل جلاله هو الفرد الكامل * والحمد هو الوصف بالجميل على الجميل الاختياري للتعظيم واطلاق الجميل الاول لادخال وصفه تعالى بصفاته الذاتية فانه حمد له وتفييد الثاني بالاختياري لاخراج المدح فيكون على هذا اعم من الحمد مطلقا وقيل هما أخوان وذكر قيد التعظيم لاخراج ما يؤتي به من المعشرات بالتعظيم على سبيل الاستهزاء والسخرية ولكنه يستلزم اعتيار فعل الجنان وفعل الاركان في الحمد لان التعظيم لا يحصل بدونهما وأجيب بأنهما فيه شرطان لا جزآن ولا جزئيان ومن ههنا يلوح صحة ما قاله الجمهور من أن الحمد أعم من الشكر متعلقا وأخص موردا لا كما زعمه البعض منأن الحمد أعم مطلقا لمساواته الشكر في المورد وزيادته عليه بكونه أعم متعلقا. ومما ينبغي أن يعلم ههنا أن الحمد يقتضي متعلقين هما المحمود به والمحمود عليه فالاول ما حصل به الحمد والثاني الحامل عليه كحمدك لزيد بالكرم في مقابلة الانعام وقد يكون التغاير اعتياريا مع
[ 7 ]
الاتحاد ذاتا كالحمد منك لمنعم بانعامه عليك في مقابلة ذلك الانعام فان الانعام من حيث الصدور من المنعم محمود به ومن حيث الوصول اليك محمود عليه. وتقديم الحمد الذي هو الميتدا على لله الذي هو الخبر لا بد له من نكتة وان كان أصل المبتدا التقديم وهي ترجيح مطابقة مقتضي المقام فانه مقام الحمد والاسم الشريف وان كان مستحقا للتقديم من جهة ذاته فرعاية ما يقتضيه المقام الصق بالبلاغة من رعاية ما تقضيه الذات * لا يقال الحمد الذي هو إثبات الصفة الجميلة للذات لا يتم الا بمجموع الموضوع والمحمول لانا نقول لفظ الحمد هو الدال على مفهومه فقدم من هذه الحيثية وإن كان لا يتم ذلك الاثبات الا بالمجموع واللام الداخلة على اسمه تعالى تفيد الاختصاص الاثباتي وهو لا يستلزم القصر كما يستلزمه الثبوتي * والله اسم للذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد ولذلك آثره علي غيره من اسمائه جل جلاله وإنما كان هذا الاسم هو المستجمع لجميع الصفات دون غيره من الاسماء لان الذات المخصوصة هي المشهورة بالاتصاف بصفات الكمال فما يكون علما لها دالا عليها بخصوصها يدل على هذه الصفات لا ما يكون موضوعا لمفهوم كلي وان اختص الاستعمال بها كالرحمن وهذا انما يتم علي القول بان لفظ الله علم للذات كما هو الحق وعليه الجمهور لا للمفهوم كما زعمه البعض (1) وأصله الاله حذفت الهمزة وعوضت منها لام التعريف تخفيفا ولذلك لزمت ووصفه بنفي الولد والشريك لان من هذا الصفة التي يكون اثباتها ذريعة من ذرائع منع المعروف لكون الولد مبخلة والشريك مانعا من التصرف رديفا لاثبات ضدها على سبيل الكناية. وانما افتتح المصنف رحمه الله تعالى كتابه بهذة الآية مع امكان تأدية الحمد الذي يشرع في الافتتاح بغيرها لما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الاية أخرجه عبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة في مصنفه وابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عمرو بن شعيب أن أبيه أن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ثم عطف تلك الصفة النفية صفة إثباتية مشتملة على إنه جل جلاله خالق الاشياء يأسرها ومقدرها دقها وجلها: ولاشك إن نعمة
[ 8 ]
خلق الخلق وتقديره عظم البواعث على الحمد وتكريره لكون ذلك أول نعمة أنعم الله بها على الحامد * وصلى الله على محمد النبي الأمي المرسل كافة للناس بشيرا ونذيرا * وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أدرف الحمدلله بالصلاة على رسوله صلي الله عليه وسلم لكونه الواسطة في وصول الكمالات العلمية والعملية الينا من الرفيع عز سلطانه ونعالى شأنه وذلك لان الله تعالى لما كان في نهاية الكمال ونحن في نهاية النقصان لم يكن لنا استعداد لقبول الفيض الالهى لتعقلنا بالعلائق البشرية والعوائق البدنية وتدنسنا بادناس اللذات الحسية والشهوات الجسمية. وكونه تعالى في غاية التجرد ونهاية التقدس فاحتجنا في قبول الفيض منه جل وعلا الى واسطة له وجه تجرد ونوع تعلق فبوجه التجرد يستفيض من الحق وبوجه التعلق يفيض علينا وهذه الواسطة هم الأنبياء وأعظمهم رتبة وأرفعهم منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم فذكر عقب ذكره جل جلاله تشريفا لشأنه مع الامتثال لامر الله سبحانه. ولحديث أبي هريرة عند الرهاوي بلفظ " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمدالله والصلاة علي فهو أقطع " وكذلك التوسل بالصلاة علي الآل والاصحاب لكونهم لجنابه أكثر من ملاء متنا له * والصلاة في الاصل الدعا (1) وهي من الله الرحمة هكذا في كتب اللغة وقال القشيرى هي من الله لنبيه تشريف وزيادة تكرمة ولسائر عباده رحمة. قال في شرح المنهاج ان معني قولنا اللهم صل علي محمد عظمه في الدنيا باعلاء ذكره وإظهار دعوته وابقاء شريعته وفي الاخر ة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبة * وههنا أمر يشكل في الظاهر هو أمر الله أمرنا بأن نصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ونحن أحلنا الصلاة عليه في قولنا اللهم صل على محمد وكان حق الامتثال أن نقول صلينا على التبي وسلمنا فما النكتة في ذلك. قال في شرح المنهاج في نكتة شريفة كأنتا نقول يا ربنا أمرتنا بالصلاة عليه وليس في وسعنا أن نصلى صلاة تليق بجنابه لانا لا نقدر قدر ما أنت عالم بقدره صلي الله عليه وسلم فأنت تقدر أن تصلي عليه صلاة تليق بجنابه انتهى * ومحمد علم لذاته الشريفة ومعناه الوصفي كثير المحامد ولا مانع من ملاحظته مع
[ 9 ]
العلمية كما تقرر في مواطنه. وآثر لفظ النبي لما فيه من الدلالة على الشرف والرفعة علي ما قيل إنه من النبوة وهي ما ارتفع من الارض قال في الصحاح ان جعلت لفظ النبي مأخوذا من ذلك فمعناه أنه شرف علي سائر الخلق وأصله غير الهمز وهو فعيل بمعني مفعول. والنبى في لسان الشرع من بعث إليه بشرع فان أمر بتبليغه فرسول وقيل هو المبعوث الى الخلق بالوحى لتبليغ ما أوحاه. والرسول قد يكون مرادفا له وقد يختص بمن هو صاحب كتاب. وقيل هو المبعوث لتجديد شرع أو تقريره والرسول هو المبعوث للتجديد فقط. وعلى الاقوال النبي أعم من الرسول: والأمي من لا يكتب وهو في حقه صلى الله عليه وسلم وصف مادح لما فيه من الدلالة على صحة المعجزة وقونها باعتبار صدورها ممن هو كذلك. وذكر المرسل بعد ذكر النبي لبيان أنه مأمور بالتبليغ أو صاحب كتاب أو مجدد شرع بطريق أدل على هذه الامور من الطريق الاولى وان اشتركا في أصل الدلالة على ذلك وايثار هذه الصفة أعني ارساله الى الناس كافة لكونه لا يشاركه فيها غيره من الانبياء. وكافة منصوب عاى الحال وصاحبها الضمير الذي في المرسل والهاء فيه للمبالغة وليس بحال من الناس لان الحال لا تتقدم عاى صاحبها المجرور على الاصح وعند أبي عاى وابن كيسان وغيرهما من النحويين أنه يجوز تقدم الحال على الصاحب المجرور. وقيل إنه منصوب على صيغة المصدرية والتقدير المرسل رسالة كافة ورد بأن كافة لا تستعمل إلا حالا. والبشير النذير المبشر المنذر وإنما عدل بهما الى صيغة فعيل لقصد المبالغة. والآل أصله أهل بدليل تصغيرة علي أهيل ولو كان أصله غيره لسمع تصغيره عليه ولا يستعمل الا فيما له شرف في الغالب واختصاصه بذلك لا يستلزم عدم تصغيره إذ يجوز تحقير منله خطر أو تقليله على أن الخطر في نفسه لا ينافي التصغير بالنسبة الى من له خطر أعظم من ذلك وأيضا لا ملازمه بين التصغير وبين التحقير أو التقليل لانه يأتي للتعظيم كقوله وكل أناس سوف تدخل بينهم * دوبهية تصفر منها الانامل (1) وللتلطف كقوله * ياما أميلح غزلانا شدن لنا * وقد اختلف في تفسير الآل على أقوال يأتي ذكرها في باب ما يستدل به على تفسير آله المصلى عليهم من أبواب صفة
[ 10 ]
الصلاة. والصحب بفتح الصاد واسكان الحاء المهملتين اسم جمع لصاحب كركب لراكب وقد أختلف في تفسير معني الصحابي علي أقوال * منها أنه من رأي النبي مسلما وان لهم يرو عنه ولا جالسه. ومنهم من اعتبر طول المجالسة. ومنهم من اعتبر الرواية عنه. ومنهم من اعتبر أن يموت على دينه * وبيان حجج هذه الاقوال وراجحها من مرجوحها مبسوط في الاصول وعلم الاصطلاح فلا نطول بذكره. وذكر السلام بعد الصلاة امتثالا لقوله تعالى (صلوا عليه وسلموا) وفي معناه أقوال الاول أنه الامان أي التسليم من النار. وقيل هو اسم من أسمائه تعالى والمراد السلام علي حفظك ورعايتك متول لهما وكفيل بهما وقيل هو المسالمة والانقياد * (هذا كتاب يشمل علي جملة من الأحاديث النبوية التي يرجع أصول الاحكام إليها ويعتمد علماء أهل الاسلام عليها) الاشارة بقوله هذا الى المرتب الحاضر في الذهن من المعاني المخصوصة أو ألفاظها أو نقوش ألفاظها أو المعاني مع الالفاظ أو مع النقوش أو الالفاظ والنقوش أو مجموع الثلاثة وسواء كان وضع ديباجة قبل التصنيف أو بعده اذلا وجود لواحد منها في الخارج. قد يقال إن نفي وجود النقوش في الخارج خلاف المحسوس فكيف يصح جعل الاشارة الى ما في الذهن على جميع التقادير ويجاب بأن الوجود من النقوش في الخارج لا يكون الا شخصا ومن المعلوم أن نقوش كتاب المصنف الموجود حال الاشارة مثلا ليست المقصودة بالتسمية بل المقصود وصف النوع وتسميته وهو الدال على تلك الالفاظ المخصوصة أعم من أن يكون ذلك الشخص إو غيره مما يشاركه في ذلك المفهوم ولا شك أنه لا حصول لهذا الكلى فالاشارة علي جميع التقادير الى الحاضر في الذهن فيكون استعمال اسم الاشارة ههنا مجازا تنزيلا للمعقول منزلة المحسوس للترغيب والتنشيط. قال الدواني من ههنا علمت أن أسامي الكتب من أعلام الاجناس عند التحقيق * (انتقيتها من صحيحي البخاري ومسلم. ومسند الامام أحمد بن حنبل. وجامع أبي عيسي الترمذي وكتاب السنن لابي عبد الرحمن النسائي وكتاب السنن لابي داود السجستاني. وكتاب السنن لابن ماجه القزويني واستغنيت بالعزوالي هذه المسانيد عن الاطالة بذكر الاسانيد) قوله انتقيتها الانتقاء الاختيار والمنتفي المختار * ولنتبرك بذكر بعض أحوال هؤلاء الأئمة علي أبلغ وجه في الاختصار فنقول. أما البخاري فهو أبو عبد الله محمد بن اسمعيل بن ابراهيم ابن المغيرة الجعفي البخاري حافظ الاسلام وامام أئمته الاعلام. ولد ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة اربع وتسعين ومائة وتوفي ليلة الفطر سنة ست
[ 11 ]
وخمسين ومائتين وعمره اثنتان وستون سنة الا ثلاثة عشر يوما ولم يعقب ولدا ذكرا رحل في طلب العلم محدثي الامصار وكتب بخرسان والجبال والعراق والحجاز والشام ومصر وأخذ الحديث عن جماعة من الحفاظ منهم مكى بن ابراهيم البلخى. وعبدان بن المروزى. وعبد الله بن موسى العبسى. وأبو عاصم الشيباني. ومحمد بن عبد الله الانصاري. ومحمد بن الفريابى. وأبو نعيم الفضل بن دكين. وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل. ويحيى بن معين واسمعيل بن أبي أويس المدني وغير هولاء من الائمة وأخذ الحديث عنه خلق كثير قال الفربرى سمع كتاب البخاري تسعون ألف رجل فما بقى أحد يروى عنه غيرى قال البخاري خرجت كتاب الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث وما وضعت فيه حديثا الا وصليت ركعتين. وله وقائع وامتحانات وما جريات مبسوطة في المطولات من تراجمه * وأما مسلم فهو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيشابوري أحد الائمة الحفاظ ولد سنة أربع ومائتين كذا قاله ابن الاثير وقال الذهبي في النبلاء سنة ست وتوفي عيشة يوم الأحد لست أو لخمس أو لاربع بقين من رجب سنة احدى وستين ومائتين وهو ابن خمس وخمسين سنة. رحل الى العراق والحجاز والشام ومصر وأخذ الحديث عن يحيى بن يحيى النيشابوري. وقتيية بن سعيد. واسحق بن راهويه. وعلي بن الجعد. وحمد بن حنبل وعبد الله القواريري. وشريح بن يونس. وعبالله بن القعنبي. وحرملة بن يحيى. وخلف بن هشام وغير هولاء من ائمة الحديث. وروى عنه الحديث خلق كثير منهم ايراهيم بن محمد بن سفيان وأبو زرعه وأبو حاتم. قال الحسن بن محمد الماسر جسي سمعت أبي يقول سمعت مسلما يقول صنف المسند الصحيح من ثلاثمائة الف حديث مسموعة قال محمد بن يعقوب الاخرم قلما يفوت البخاري ومسلما مما ثبت في الحديث حديث. وقال الخطيب إبو بكر البغدادي انما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه * وأما احمد بن حنبل فهو الامام الكبير المجمع على امامته وجلالته احمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني رحل الي الشام والحجاز واليمن وغيرها وسمع من سفيان بن عيينة وطبقته وروي عنه جماعة من شيوخه وخلائق آخرون لا يحصون منهم البخاري ومسلم قال أبو زرعة كانت كتب احمد بن حنبل اثني عشر حملا وكان يحفظها على ظهر قلبه وكان يحدث الف الف حديث ولد في شهر ربيع الاول سنة اربع وستين ومائة وتوفى سنة احدى واربعين ومائتين علي الاصح وله
[ 12 ]
كرامات جليلة وامتحن المحنة المشهورة. وقد طول المؤرخون ترجمته وذكروا فيها عجائب وغرائب. وترجمه الذهبي في النبلاء في مقدار خمسين ورقة وافردت ترجمته بمصنفات مستقلة وله رحمه الله المسند الكبير انتقاه من اكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين الف حديث ولم يدخل فيه الا ما يحتج به وبالغ بعضهم فاطلق علي جميع ما فيه أنه صحيح. وأما ابن الجوزي فادخل كثيرا منه في موضوعاته وتعقبه بعضهم في بعضها وقد حقق الحافظ نفي الوضع عن جميع أحاديثه وأنه أحسن انتقاء وتحريرا من الكتب التي لم يلتزم مصنوفها الصحة في جميعها كالموطأ والسنن إربع وليست الاحاديث الزائدة فيه على الصحيحين بأكثر ضعفا من الاحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمزدى وقد ذكر العراقى أن فيه تسعة احاديث موضوعة وأضاف إليها خمسة عشر حديثا أوردها ابن الجوزى في الموضوعات وهى فيه وأجاب عنها حديثا حديثا. قال السيوطي وقد فاته إحاديث أخر أوردها ابن الجوزى وهي فيه جمعها السيوطي في جزء سماء الذيل الممهد وذب عنها وعدتها أربعة عشر حديثا قال الحافظ ابن حجر في كتابه تعجيل المنفعة في رجال الاربعة ليس في المسند حديث لا أصل له الا ثلاثة أحاديث أو أربعة منها حديث عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفا قال والاعتذار عنه أنه مما أمر إحمد بالضرب عليه فترك سهوا قال الهيثمي في زوائد المسند إن مسند أحمد أصح صحيحا من غيره لا يوازي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته قال السيوطي في خطبة كتابه الجامع الكبير ما لفظه وكل ما كان في مسند أحمد فهو مقبول فان الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن انتهى * وأما الترمذي فهو أبو عيسي محمد بن عيسي بن سوره بفتح السين المهملة وسكون الواو وبفتح الراء المهملة مخففة ابن موسى بن الضحاك السلمى الترمذي بتثليث الفوقية وكسر الميم أو ضمها بعدها ذال معجمة ولد في ذي الحجة سنة مائتين وتوفي بترمذ ليلة اثنين الثالث عشر من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين هكذا في جامع الاصول وتذكرة الحفاظ وهو أحد الاعلام الحفاظ اخذ الحديث عن جماعة مثل قتيبة بن سعيد واسحق بن موسى ومحمود ابن غيلان وسعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن بشار وعلي بن حجر واحمد بن منيع ومحمد بن المثنى وسفيان بن وكيع ومحمد بن اسمعيل البخاري وغيرهم. وأخذ عنه خلق كثير منهم محمد بن احمد بن محبوب المحبوبي وغيره وله تصانيف في علم الحديث وكتابه الجامع أحسن الكتب وأكثرها فائدة وأحكمها ترتيبا وأقلها تكرارا وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال والاشارة الي ما في الباب من الاحاديث وتبيين
[ 13 ]
أنواع الحديث من الصحة والحسن والغرابة والضعف وفيه جرح وتعديل وفي آخره كتاب العلل قد جمع فيه فوائد حسنة. قال النووي في التقريب وتختلف النسخ من سنن الترمذي في قوله حسن أو حسن صحيح ونحوه فيتبغى أن تعتني بمقابلة أصلك بأصول معتمدة وتعتمد ما اتفقت عليه انتهى. قال الترمذي صنفت كتابي هذا فعرضته علي علماء الحجاز فرضه به عرضته على علماء العراق فرضوا به وعرضته علي علماء خراسان فرضوا به ومن كان في بيته هذا فكأنما في بيته نبي يتكلم * وأما النسائي فهو أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان النسائي أحد الائمة الحفاظ والمهرة الكبار ولد سنة إربع عشرة ومائتين ومات بمكة سنة ثلاث ثلثمائة وهو مدفون بها روى الحديث عن قتيبة بن سعيد وأسحق بن إبراهيم وحميد بن مسعدة وعلى بن خشرم ومحمد بن عبد الاعلى والحرث بن مسكين وهناد بن السري ومحمد بن بشار ومحمود بن غيلان وأبي داود سليمان بن الاشعث السجستاني وغير هؤلاء وأخذ عنه الحديث خلق منهم أبو بشر الدولابي وأبو القاسم الطبري وأبو جعفر الطحاوي ومحمد بن هرون بن شعيب وأبو الميمون بن راشد وابراهيم بن محمد بن صالح بن سنان وأبو بكر أحمد بن أسحاق السني الحافظ. وله مصنفات كثيرة في الحديث والعلل. منها السنن وهي أقل السنن الاربع بعد الصحيح حديثنا ضعيفا قال الذهبي والتاج السبكي إن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح * وأما أبو داود فهو سليمان بن الاشعث بن اسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الازدي السجستاني بفتح السين وكسر الجيم والكسر أكثر أحد من رحل وطوف البلاد وجمع وصنف وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين ولد سنة ثنتين ومائتين وتوفي بالبصرة لاربع عشرة ليلة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين وأخذ الحديث عن مسلم ابن ابراهيم وسليمان بن حرب وعثمان بن أبي شيبة. وأبى الوليد الطيالسي. وعبد الله ابن مسلمة القعني ومسدد بن مسر هد ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وقتيبة بن سعيد وأحمد بن يونس وغيرهم ممن لا يحصي كثرة. وأخذ عنه الحديث ابنه عبد الله وأبو عبد الرحمان النسائي وأحمد بن محمد الخلال. وأبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي. قال أبو بكر بن داسة قال أبو داود كتبت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم خمسمائة الف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه. قال الخطابى كتاب السنن
[ 14 ]
لابي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله وقد رزق القبول من كافة الناس علي اختلاف مذاهبهم فصار حكما بين العلماء وطبقات المحدثين ولكل واحد فيه ورد ومنه شرب وعليه معول أهل العراق ومصر وبلاد المغرب وكثير من مدن اقطار الارض: قال قال أبو داود ما ذكرت في كتابي حديثنا أجمع الناس على تركه. قاله الخطابى أيضا هو أحسن وضعا وأكثر فقها من الصحيحين * وأما ابن ماجه فهو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن عبد الله بن ماجه القزويني مولى ربيعة بن عبد الله: ولد سنة تسع ومائتين ومات يوم الثلاثاء لثمان بقين من رمضان سنة ثلاث أو خمس وسبعين ومائتين وهو أحد الاعلام المشاهير ألف سننه المشهورة وهى إحدي السنن الاربع واحدي الامهات الست وأول من عدها من الامهات ابن طاهر في الاطراف ثم الحافظ عبد الغني: قال ابن كثيرانها كتاب مفيد قوى التبويب في الفقه رحل ابن ماجه وطوف الاقطار وسمع من جماعة منهم أصحاب مالك والليث وروى عنه جماعة منهم أبو الحسن القطان والعلامة لما رواه البخاري ومسلم اخرجاه ولبقيتهم رواه الخمسة ولهم سبعتهم رواه الجماعة: ولا حمد مع البخاري ومسلم متفق عليه وفيما سوي ذلك أسمى من رواه منهم ولم أخرج فيما عزوته عن كتبهم الا في مواضع يسيرة وذكرت في ضمن ذلك شيئا يسيرا من آثار الصحابة رضي الله عنهم ورتبت الاحاديث في هذا الكتاب على ترتيب فقهاء أهل زماننا لتسهل علي مبتغيها وترجمت لها أبوابا ببض ما دلت عليه من الفوائد ونسأل الله أن يوفقنا للصواب ويعصمنا من كل خطأ وزلل إنه جواد كريم قوله ولا حمد مع البخاري الخ المشهور عند الجمهور أن المتفق عليه هو ما اتفق عليه الشيخان من دون اعتبار أن يكون معهما غيرهما والمصنف رحمة الله قد جعل المتفق عليه ما اتفقا عليه وأحمد ولا مشاححة في الاصطلاح. قوله. ولم أخرج هو من الخروج لا من التخريج أي أنه اقتصر في كتابه هذا على العزو الي الائمة المذكورين وقد يخرج عن ذلك في مواضع يسيرة فيروى عن غيرهم كالدار قطني والبيهقي وسعيد بن منصور والاثرم. واعلم أن ما كان من الاحاديث في الصحيحين أو في أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث لانهما التزما الصحة وتلقت ما فيهما الامة بالقبول قال ابن الصلاح إن العلم اليقيني النظرى واقع بما أسناده لان ظن المعصوم لا يخطئ وقد سبقه الى مثل ذلك محمد بن طاهر المقدسي وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف واختاره ابن كثير وحكاه ابن تيمية عن أهل الحديث وعن السلف وعن جماعات كثيرة من الشافعية والخابلة والأشاعرة والحنفية وغيرهم قال النووي
[ 15 ]
وخالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون فقالوا يفيد الظن ما لم يتواترو نحو ذلك حكى زين الدين عن المحققين قال وقد استثني ابن الصلاح أحرفا يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد كالدار قطني وغيره وهى معروفة عند أهل هذا الشأن وهكذا يجوز الاحتجاج بما صححه أحد الائمة المعتبرين مما كان خارجا عن الصحيحين وكذا يجوز الاحتجاج بما كان في المصنفات المختصة بجمع الصحيح كصحيح ابن خزيمة وابن حبان ومستدرك الحاكم والمستخرجات علي الصحيحين لان المصنفين لها قد حكموا بصحة كل ما فيها حكما عاما. وهكذا يجوز الاحتجاج بما صرح أحد الائمة المعتبرين بحسنه لان الحسن يجوز العمل به عند الجمهور ولم يخالف في الجواز الا البخاري وابن العربي والحق ما قاله الجمهور لان أدلة وجوب العمل بالآحاد وقبولها شاملة له. ومن هذا القبيل ما سكت عنه أبو داود وذلك لما رواه ابن الصلاح عن أبى داود انه قال ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض. قال وروينا عنه انه قال ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه. قال الامام الحافظ محمد بن ابراهيم الوزير انه أجاز ابن الصلاح والنوري وغيرهما من الحافظ العمل بما سكت عنه أبو داود لاجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله مما روي عنه. قال النووي الا أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة والحسن وجب ترك ذلك. قال ابن الصلاح وعلي هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا. ولم نعلم صحته عرفنا أنه من الحسن عند أبي داود لان ما سكت عنه يحتمل عند أبي داود الصحة والحسن انتهي. وقد اعتني المنذرى رحمه الله في نقد الاحاديث المذكورة في سنن أبى داود وبين ضعف كثير مما سكت عنه فيكون ذلك خارجا عما يجوز العمل به وما سكتا عليه جميعا فلا شك أنه صالح للاحتجاج الا في مواضع يسيرة قد نبهت علي بعضها في هذا الشرح. وكذا قيل إن ما سكت عنه الامام أحمد من أحاديث مسنده صالح للاحتجاج لما قدمنا في ترجمته. وأما بقية السنن والمسانيد التى لم يلتزم مصنفوها الصحة فما وقع التصريح بصحته أو حسنه منهم أو من غيرهم جاز العمل به وما وقع التصريح كذلك بضعفه لم يجز العمل به وما أطلقوه ولم يتكلموا عليه ولا تكلم عليه غيرهم لم يجز العمل به الا بعد البحث عن حاله ان كان الباحث أهلا لذلك وقد بحثنا عن الاحاديث الخارجة عن الصحيحين في هذا الكتاب وتكلمنا عليها بما أمكن الوقوف عليه من كلام الحفاظ وما بلغت إليه القدرة. ومن عرف طول ذيل هذا الكتاب الذى تصدينا لشرحه وكثرة
[ 16 ]
ما اشتمل عليه من احاديث الاحكام علم ان الكلام علي بعض احاديثه علي الحد المعتبر متعسر لاسيما ما كان منها في مسند الامام أحمد. وقد ذكر جماعة من أئمة فن الحديث ان هذا الكتاب من أحسن الكتب المصنفة في الفن لو لا عدم تعرض مؤلفه رحمه الله للكلام علي التصحيح والتحسين والتضعيف في الغالب. قال في البد المنير ما لفظه واحكام الحافظ مجد الدين عبد السلام ابن تيمية المسمى بالمنتفى هو كاسمه وما أحسنه لولا أطلاقه في كثير من الاحاديث العزوالى الأئمة دون التحسين والتضعيف فيقول مثلا رواه أحمد رواه الدار قطني رواه أبو دواد ويكون الحديث ضعيفا. وأشد من ذلك كون الحديث في جامع الترمذي مبنيا ضعفه فيعزوه إليه من دون بيان ضعفه وينبغى للحافظ جمع هذه المواضع وكتبها على حواشى هذا الكتاب أو جمعها في مصنف يستكمل فائدة الكتاب المذكور انتهى. وقد اعان الله وله الحمد على القيام بما أرشد إليه هذا الحافظ مع زيادات إليها تشد رحال الطلاب * تنقيهات تنقطع بتحقيقها علائق الشك والارتياب * والمسؤول من الله جل جلاله الاعانة على التمام وتبليغنا بما لاقيناه في تحريره وتقريره الى دار السلام * كتاب الطهارة الكتاب مصدر، يقال: كتب كتابا وكتابة، وقد استعملوه فيما يجمع شيئا من الابواب والفصول، وهو يدل على معنى الجمع والضم ومنه الكتيبة، ويطلق على مكتوب القلم حقيقة لانضمام بعض الحروف والكلمات المكتوبة إلى بعض وعلى المعاني مجازا. وجمعه كتب بضمتين وبضم فسكون. وقد اشتهر في لسان الفقهاء اشتقاق الكتابة من الكتب، واعترضه أبو حيان بما حاصله أن المصدر لا يشتق من المصدر. والطهارة يجوز أن تكون مصدر طهر اللازم فتكون للوصف القائم بالفاعل، وأن تكون مصدر طهر المتعدي، فتكون للاثر القائم بالمفعول، وأن تكون اسم مصدر طهر تطهيرا ككلم تكليما. وأما الطهور فقال جمهور أهل اللغة: إنه بالضم للفعل الذي هو المصدر، وبالفتح للماء الذي يتطهر به، هكذا نقله ابن الانباري وجماعات من أهل اللغة عن الجمهور. وذهب الخليل والاصمعي وأبو حاتم السجستاني والازهري وجماعة إلى أنه بالفتح فيهما، قال صاحب
[ 17 ]
المطالع: وحكي فيهما الضم. والطهارة في اللغة النظافة والتنزه عن الاقذار. وفي الشرع صفة حكمية تثبت لموصوفها جواز الصلاة به أو فيه أو له ولما كانت مفتاح الصلاة التي هي عماد الدين افتتح المؤلفون بها مؤلفاتهم. والابواب جمع باب وهو حقيقة لما كان حسيا يدخل منه إلى غيره، ومجاز لعنوان جملة من المسائل المتناسبة. والمياه جمع الماء وجمعه مع كونه جنسا للدلالة على اختلاف الانواع. باب طهورية ماء البحر وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال: رسول الله (ص): هو الطهور ماؤه الحل ميتته رواه الخمسة وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وابن الجارود في المنتقى، والحاكم في المستدرك، والدارقطني والبيهقي في سننهما، وابن أبي شيبة. وحكى الترمذي عن البخاري تصحيحه، وتعقبه ابن عبد البر بأنه لو كان صحيحا عنده لاخرجه في صحيحه، ورده الحافظ وابن دقيق العيد بأنه لم يلتزم الاستيعاب، ثم حكم ابن عبد البر مع ذلك بصحته لتلقي العلماء له بالقبول فرده من حيث الاسناد، وقبله من حيث المعنى، وقد حكم بصحة جملة من الاحاديث لا تبلغ درجة هذا ولا تقاربه. وصححه أيضا ابن المنذر وابن منده والبغوي وقال: هذا الحديث صحيح متفق على صحته. وقال ابن الاثير في شرح المسند: هذا حديث صحيح مشهور أخرجه الائمة في كتبهم واحتجوا به ورجاله ثقات. وقال ابن الملقن في البدر المنير: هذا الحديث صحيح جليل مروي من طرق الذي حضرنا منها تسع ثم ذكرها جميعا وأطال الكلام عليها وسيأتي تلخيصها. وقد ذكر ابن دقيق العيد في شرح
[ 18 ]
الالمام جميع وجوه التعليل التي يعلل بها الحديث قال ابن الملقن في البدر المنير: قلت وحاصلها كما قال فيه أنه يعلل بأربعة أوجه ثم سردها وطول الكلام فيها. وملخصها: أن الوجه الاول: الجهالة في سعيد بن سلمة والمغيرة بن أبي بردة المذكورين في إسناده، لانه لم يرو عن الاول إلا صفوان بن سليم، ولم يرو عن الثاني إلا سعيد بن سلمة، وأجاب بأنه قد رواه عن سعيد الجلاح بضم الجيم وتخفيف اللام وآخره مهملة وهو ابن كثير، رواه من طريقه أحمد والحاكم والبيهقي. وأما المغيرة فقد روى عنه يحيى بن سعيد ويزيد القرشي وحماد، كما ذكره الحاكم في المستدرك. الوجه الثاني: من التعليل الاختلاف في اسم سعيد بن سلمة، وأجاب بترجيح رواية مالك أنه سعيد بن سلمة من بني الازرق ثم قال: فقد زالت عنه الجهالة عينا وحالا. الوجه الثالث: التعليل بالارسال لان يحيى بن سعيد أرسله وأجاب بأنه قد أسنده سعيد بن سلمة، وهو وإن كان دون يحيى بن سعيد فالرفع زيادة مقبولة عند أهل الاصول وبعض أهل الحديث. الوجه الرابع: التعليل بالاضطراب، وأجاب بترجيح رواية مالك كما جزم به الدارقطني وغيره، وقد لخص الحافظ ابن حجر في التلخيص ما ذكره ابن الملقن في البدر المنير فقال: ما حاصله ومداره على صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة، قال الشافعي: في إسناد هذا الحديث من لا أعرفه، قال البيهقي: يحتمل أنه يريد سعيد بن سلمة أو المغيرة أو كليهما، ولم يتفرد به سعيد عن المغيرة، فقد رواه عنه يحيى بن سعيد الانصاري إلا أنه اختلف عليه فيه فروى عنه عن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة أن ناسا من بني مدلج أتوا النبي (ص) فذكره، وروى عنه عن المغيرة عن رجل من بني مدلج، وروى عنه عن المغيرة عن أبيه، وروى عنه عن المغيرة بن عبد الله أو عبد الله بن المغيرة، وروى عنه عن عبد الله بن المغيرة عن أبيه عن رجل من بني مدلج اسمه عبد الله، وروى عنه عن عبد الله بن المغيرة عن أبي بردة مرفوعا، وروى عنه عن المغيرة عن عبد الله المدلجي، هكذا قال الدارقطني وقال: أشبهها بالصواب عن المغيرة عن أبي هريرة. وكذا قال ابن حبان والمغيرة معروف كما قال أبو داود وقد
[ 19 ]
وثقه النسائي، وقال ابن عبد الحكم: اجتمع عليه أهل إفريقية بعد قتل يزيد بن أبي مسلم فأبى، قال الحافظ: فعلم من هذا غلط من زعم أنه مجهول لا يعرف: وأما سعيد بن سلمة فقد تابع صفوان بن سليم في روايته له عنه الجلاح بن كثير رواه جماعة. منهم الليث بن سعد وعمرو بن الحرث. ومن طريق الليث رواه أحمد والحاكم والبيهقي، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن حماد بن خالد عن مالك بسنده عن أبي هريرة. وفي الباب عن جابر عند أحمد وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم بنحو حديث أبي هريرة، وله طريق أخرى عنه عند الطبراني في الكبير والدارقطني والحاكم. قال الحافظ: وإسناده حسن ليس فيه إلا ما يخشى من التدليس انتهى. وذلك لان في إسناده ابن جريج وأبا الزبير وهما مدلسان، قال ابن السكن: حديث جابر أصح ما روي في هذا الباب. وعن ابن عباس عند الدارقطني والحاكم بلفظ ماء البحر طهور، قال في التلخيص: ورواته ثقات ولكن صحح الدارقطني وقفه. وعن ابن الفراسي عند ابن ماجه بنحو حديث أبي هريرة، وقد أعله البخاري بالارسال لان ابن الفراسي لم يدرك النبي (ص). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدار قطني والحاكم بنحو حديث أبي هريرة، وفي إسناده المثنى الراوي له عن عمرو وهو ضعيف. قال الحافظ: ووقع في رواية الحاكم الاوزاعي بدل المثنى وهو غير محفوظ وعن علي بن أبي طالب عند الدارقطني والحاكم بإسناد فيه من لا يعرف. وعن ابن عمر عند الدارقطني بنحو حديث أبي هريرة. وعن أبي بكر الصديق عند الدارقطني، وفي إسناده عبد العزيز بن أبي ثابت وهو كما قال الحافظ ضعيف، وصحح الدارقطني وقفه وابن حبان في الضعفاء. وعن أنس عند الدارقطني وفي إسناده أبان بن أبي ثوبان قال: وهو متروك. قوله: سأل رجل وقع في بعض الطرق التي تقدمت أن اسمه عبد الله، وكذا ساقه ابن بشكوال بإسناده، وأورده الطبراني فيمن اسمه عبد، وتبعه أبو موسى الحافظ الاصبهاني في كتاب معرفة الصحابة فقال: عبد أبو زمعة البلوي الذي سأل النبي (ص) عن ماء البحر، قال ابن منيع: بلغني أن اسمه عبد، وقيل اسمه عبيد بالتصغير، وقال السمعاني في الانساب: اسمه العركي وغلط في ذلك وإنما العركي وصف له وهو ملاح السفينة. قوله: هو الطهور قد تقدم في أول الكتاب ضبطه وتفسيره وهو عند الشافعية المطهر، وبه قال أحمد. وحكى بعض أصحاب أبي حنيفة عن مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة أن الطهور هو
[ 20 ]
الطاهر واحتج الاولون بأن هذه اللفظة جاءت في لسان الشرع للمطهر كقوله تعالى: * (ماء طهورا) * (الفرقان: 48) وأيضا السائل إنما سأل النبي (ص) عن التطهر بماء البحر لا عن طهارته، ويدل على ذلك أيضا قوله (ص) في بئر بضاعة: إن الماء طهور لانهم إنما سألوه عن الوضوء به. قال في الامام شرح الالمام فإن قيل: لم لم يجبهم بنعم حين قالوا: أفنتوضأ به؟ قلنا: لانه يصير مقيدا بحال الضرورة وليس كذلك. وأيضا فإنه يفهم من الاقتصار على الجواب بنعم أنه إنما يتوضأ به فقط ولا يتطهر به لبقية الاحداث والانجاس (فإن قيل): كيف شكوا في جواز الوضوء بماء البحر؟ قلنا: يحتمل أنهم لما سمعوا قوله (ص): لا تركب البحر إلا حاجا أو معتمرا أو غازيا في سبيل الله فإن تحت البحر نارا أو تحت النار بحرا أخرجه أبو داود وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عمر مرفوعا ظنوا أنه لا يجزئ التطهر به. وقد روي موقوفا على ابن عمر بلفظ: ماء البحر لا يجزئ من وضوء ولا جنابة إن تحت البحر نارا ثم ماء ثم نارا حتى عد سبعة أبحر وسبع أنيار. وروي أيضا عن ابن عمرو بن العاص أنه لا يجزئ التطهر به، ولا حجة في أقوال الصحابة لاسيما إذا عارضت المرفوع والاجماع. وحديث ابن عمر المرفوع قال أبو داود: رواته مجهولون. وقال الخطابي: ضعفوا إسناده. وقال البخاري: ليس هذا الحديث بصحيح. وله طريق أخرى عند البزار وفيها ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. قال في البدر المنير: في الحديث جواز الطهارة بماء البحر، وبه قال جميع العلماء إلا ابن عبد البر وابن عمر وسعيد بن المسيب. وروي مثل ذلك عن أبي هريرة وروايته ترده، وكذا رواية عبد الله بن عمر. وتعريف الطهور باللام الجنسية المفيدة للحصر لا ينفي طهورية غيره من المياه لوقوع ذلك جوابا لسؤال من شك في طهورية ماء البحر من غير قصد للحصر، وعلى تسليم أنه لا تخصيص بالسبب ولا يقصر الخطاب العام عليه، فمفهوم الحصر المفيد لنفي الطهورية عن غير مائه عموم مخصص بالمنطوقات الصحيحة الصريحة القاضية باتصاف غيره بها. قوله: الحل ميتته فيه دليل على حل جميع حيوانات البحر حتى كلبه وخنزيره، وثعبانه وهو المصحح عند الشافعية، وفيه خلاف سيأتي في
[ 21 ]
موضعه. ومن فوائد الحديث مشروعية الزيادة في الجواب على سؤال السائل لقصد الفائدة وعدم لزوم الاقتصار، وقد عقد البخاري لذلك بابا فقال: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله، وذكر حديث ابن عمر: أن رجلا سأل النبي (ص) ما يلبس المحرم؟ فقال: لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران، فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين فكأنه سأله عن حالة الاختيار فأجابه عنها وزاد حالة الاضطرار، وليست أجنبية عن السؤال لان حالة السفر تقتضي ذلك؟ قال الخطابي: وفي حديث الباب دليل على أن المفتي إذا سئل عن شئ وعلم أن للسائل حاجة إلى ذكر ما يتصل بمسألته استحب تعليمه إياه، ولم يكن ذلك تكلفا لما لا يعنيه لانه ذكر الطعام وهم سألوه عن الماء لعلمه أنهم قد يعوزهم الزاد في البحر انتهى. وأما ما وقع في كلام كثير من الاصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال، فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة، بل المراد أن الجواب يكون مفيدا للحكم المسؤول عنه. وللحديث فوائد غير ما تقدم. قال ابن الملقن: إنه حديث عظيم أصل من أصول الطهارة مشتمل على أحكام كثيرة وقواعد مهمة. قال الماوردي في الحاوي. قال الحميدي. قال الشافعي: هذا الحديث نصف علم الطهارة. وعن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله (ص) وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوا فأتي رسول الله (ص) بوضوء فوضع رسول الله (ص) في ذلك الاناء يده وأمر الناس أن يتوضأوا منه فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضأوا من عند آخرهم متفق عليه ومتفق على مثل معناه من حديث جابر بن عبد الله. لفظ حديث جابر: وضع يده (ص) في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، قال: كنا خمس عشرة مائة. قوله: وحانت الواو للحال بتقدير قد. قوله: الوضوء بفتح الواو أي الماء الذي يتوضأ به. قوله: فأتي بضم الهمزة على البناء للمفعول، وقد
[ 22 ]
بين البخاري في رواية أن ذلك كان بالزوراء وهي سوق بالمدينة. وقوله: بوضوء بفتح الواو أيضا أي بإناء فيه ماء ليتوضأ به. ووقع في رواية للبخاري فجاء رجل بقدح فيه ماء يسير فصغر أن يبسط فيه صلى الله عليه وسلم كفه فضم أصابعه. قوله: ينبع بفتح أوله وضم الموحدة ويجوز كسرها وفتحها قاله في الفتح. قوله: حتى توضأوا من عند آخرهم قال الكرماني: حتى للتدريج، ومن للبيان أي توضأ الناس حتى توضأ الذين عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم، وعند بمعنى في لان عند وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقضي أن تكون لمطلق الظرفية فكأنه قال: الذين هم في آخرهم: وقال التيمي: المعنى توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر. وقال النووي: من هنا بمعنى إلى وهي لغة، وتعقبه الكرماني بأنها شاذة، ثم إن إلى لا يجوز أن تدخل على عند ولا يلزم مثله في من إذا وقعت بمعنى إلى، قال في الفتح: وعلى توجيه النووي يمكن أن يقال عند زائدة. والحديث يدل على مشروعية المواساة بالماء عند الضرورة لمن كان في مائة فضل عن وضوئه، وعلى أن اغتراف المتوضئ من الماء القليل لا يصير الماء مستعملا، واستدل به الشافعي على أن الامر بغسل اليد قبل إدخالها الاناء ندب لا حتم، وسيأتي تحقيق ذلك. قال ابن بطال: هذا الحديث شهده جمع من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس وذلك لطول عمره ولطلب الناس علو السند، وناقضه القاضي عياض فقال: هذه القصة رواها العدد الكثير من الثقات عن الجم الغفير عن الكافة متصلا عن جملة من الصحابة، بل لم يؤثر عن أحد منهم إنكار ذلك فهو ملتحق بالقطعي. قال الحافظ: فانظر كم بين الكلامين من التفاوت انتهى. ومن فوائد الحديث أن الماء الشريف يجوز رفع الحدث به. ولهذا قال المصنف رحمه الله: وفيه تنبيه أنه لا بأس برفع الحدث من ماء زمزم، لان قصاراه أنه ماء شريف متبرك به، والماء الذي وضع رسول الله (ص) يده فيه بهذه المثابة. وقد جاء عن علي كرم الله وجهه في حديث له قال فيه: ثم أفاض رسول الله (ص) فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ رواه أحمد انتهى. وهذا الحديث هو في أول مسند علي من مسند أحمد بن حنبل ولفظه: حدثنا عبد الله يعني ابن أحمد بن حنبل حدثني أحمد بن عبدة البصري حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث عن أبيه عن زيد بن علي بن حسين بن علي عن أبيه علي بن حسين عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله (ص) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي (ص) وقف بعرفة فذكر
[ 23 ]
حديثا طويلا وفيه: ثم أفاض فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ ثم قال: انزعوا فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت ا لحديث. وهذا إسناد مستقيم لان عبد الله بن أحمد ثقة إمام وأحمد بن عبدة الضبي البصري وثقه أبو حاتم والنسائي، والمغيرة بن عبد الرحمن قال في التقريب: ثقة جواد من الخامسة وأبوه عبد الرحمن قال في التقريب من كبار ثقات التابعين، وعبيد الله بن أبي رافع كان كاتب علي وهو ثقة من الثالثة كما في التقريب، وقال ابن معين: لا بأس به، وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه. وأما الامامان زيد بن علي ووالده زين العابدين فهما أشهر من نار على علم، وقد أخرج هذا الحديث أهل السنن، وصححه الترمذي وغيره، وشربه (ص) من زمزم عند الافاضة ثابت في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من حديث جابر الطويل بلفظ: فأتى يعني النبي (ص) بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم، لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه. وهو في المتفق عليه من حديث ابن عباس بلفظ: سقيت النبي (ص) من زمزم فشرب وهو قائم وفي رواية: استسقى عند البيت فأتيته بدلو والسجل بسين مهملة مفتوحة فجيم ساكنة، الدلو المملوء فإن تعطل فليس بسجل. ويأتي تمام الكلام عليه في باب تطهير الارض. ولحديث الباب فوائد كثيرة خارجة عن مقصود ما نحن بصدده فلنقتصر على هذا المقدار. باب طهارة الماء المتوضأ به عن جابر بن عبد الله قال: جاء رسول الله (ص) يعودني وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب وضوءه علي متفق عليه. وفي حديث صلح الحديبية من رواية المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: ما تنخم رسول الله (ص) نخامة إلا وقعت في كف رجل فدلك بها وجهه وجلده وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وهو بكماله لاحمد والبخاري. قوله: يعودني زاد البخاري في الطب ماشيا. قوله: لا أعقل أي لا أفهم وحذف مفعوله إشارة إلى عظم الحال أو لغرض التعميم أي لا أعقل شيئا من الامور، وصرح البخاري بقوله شيئا في التفسير من صحيحه. وله في الطب: فوجدني قد أغمي علي. قوله: وضوءه يحتمل أن يكون المراد صب علي بعض الماء الذي توضأ به،
[ 24 ]
ويدل على ذلك ما في رواية للبخاري بلفظ: من وضوئه ويحتمل أنه صب عليه ما بقي منه، والاول أظهر لقوله في حديث الباب: فتوضأ وصب وضوءه علي ولابي داود: فتوضأ وصبه علي فإنه ظاهر في أن المصبوب هو الماء الذي وقع به الوضوء. قوله: ما تنخم التنخم دفع الشئ من الصدر أو الانف: وقد استدل الجمهور بصبه (ص) لوضوئه على جابر وتقريره للصحابة على التبرك بوضوئه وعلى طهارة الماء المستعمل للوضوء، وذهب بعض الحنفية وأبو العباس إلى أنه نجس واستدلوا على الماء المستعمل للوضوء، وذهب بعض الحنفية وأبو العباس إلى أنه نجس واستدلوا على ذلك بأدلة: منها حديث أبي هريرة بلفظ: لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب. وفي رواية: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه وسيأتي قالوا: والبول ينجس الماء فكذا الاغتسال لانه (ص) قد نهى عنهما جميعا. ومنها الاجماع على إضاعته وعدم الانتفاع به. ومنها أنه ماء أزيل به مانع من الصلاة فانتقل المنع إليه كغسالة النجس المتغيرة، ويجاب عن الاول بأنه أخذ بدلالة الاقتران وهي ضعيفة. وبقول أبي هريرة يتناوله تناولا كما سيأتي. فإنه يدل على أن النهي إنما هو عن الانغماس لا عن الاستعمال، وإلا لما كان بين الانغماس والتناول فرق. وعن الثاني بأن الاضاعة لاغناء غيره عنه لا لنجاسته وعن الثالث بالفرق بين مانع هو النجاسة ومانع هو غيرها، وبالمنع من أن كل مانع يصير له بعد انتقاله الحكم الذي كان له قبل الانتقال، وأيضا هو تمسك بالقياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار، ويلزمهم أيضا تحريم شربه وهم لا يقولون به. ومن الاحاديث الدالة على ما ذهب إليه الجمهور، حديث أبي جحيفة عند البخاري قال: خرج علينا رسول الله (ص) بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به. وحديث أبي موسى عنده أيضا قال: دعا النبي (ص) بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال لهما يعني أبا موسى وبلالا: اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما. وعن السائب بن يزيد عنده أيضا قال: ذهبت بي خالتي إلى النبي (ص) فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وقع أي مريض فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ثم توضأ فشربت من وضوئه ثم قمت خلف ظهره الحديث. فإن قال الذاهب إلى نجاسة المستعمل للوضوء أن هذه الاحاديث غاية ما فيها الدلالة على طهارة ما توضأ به (ص) ولعل ذلك من خصائصه. قلنا: هذه دعوى غير نافقة فإن الاصل أن حكمه وحكم أمته واحد، إلا
[ 25 ]
أن يقوم دليل يقضي بالاختصاص ولا دليل. وأيضا الحكم يكون الشئ نجسا حكم شرعي يحتاج إلى دليل يلتزمه الخصم فما هو. وعن حذيفة بن اليمان: أن رسول الله (ص) لقيه وهو جنب فحاد عنه فاغتسل ثم جاء فقال: كنت جنبا، فقال: إن المسلم لا ينجس رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. وروى الجماعة كلهم نحوه من حديث أبي هريرة. حديث أبي هريرة المشار إليه له ألفاظ منها: أن النبي (ص) لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء فقال له: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس. قوله: وهو جنب يعني نفسه. وفي رواية أبي داود: وأنا جنب وهذه اللفظة تقع على الواحد المذكر والمؤنث والاثنين والجمع بلفظ واحد. قال الله تعالى في الجمع: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * (المائدة: 6). وقال بعض أزواج النبي (ص): إني كنت جنبا. وقد يقال: جنبان وجنبون وأجناب. قوله: فحاد عنه أي مال وعدل. قوله: لا ينجس فيه لغتان: ضم الجيم وفتحها، وفي ماضيه أيضا لغتان: نجس ونجس بكسر الجيم وضمها، فمن كسرها في الماضي فتحها في المضارع، ومن ضمها في الماضي ضمها في المضارع أيضا، قال النووي: وهذا قياس مطرد ومعروف عند أهل العربية إلا أحرفا مستثناة من الكسر. قوله: إن المسلم تمسك بمفهومه بعض أهل الظاهر وحكاه في البحر عن الهادي والقاسم والناصر ومالك فقالوا: إن الكافر نجس عين وقووا ذلك بقوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) وأجاب عن ذلك الجمهور بأن المراد منه أن المسلم طاهر الاعضاء لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن النجاسة وعن الآية بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار، وحجتهم على صحة هذا التأويل أن الله أباح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك فلا يجب من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليهم من غسل المسلمة، ومن جملة ما استدل به القائلون بنجاسة الكافر حديث إنزاله (ص) وفد ثقيف المسجد وتقريره لقول الصحابة قوم أنجاس لما رأوه أنزلهم المسجد، وقوله لابي ثعلبة لما قال له: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وسيأتي في باب آنية الكفار. وأجاب الجمهور عن
[ 26 ]
حديث إنزال وفد ثقيف بأنه حجة عليهم لا لهم، لان قوله: ليس على الارض من أنجاس القوم شئ إنما أنجاس القوم على أنفسهم بعد قول الصحابة قوم أنجاس صريح في نفي النجاسة الحسية التي هي محل النزاع، ودليل على أن المراد نجاسة الاعتقاد والاستقذار. وعن حديث أبي ثعلبة بأن الامر بغسل الآنية ليس لتلوثها برطوباتهم، بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر فيها يدل على ذلك ما عند أحمد وأبي داود من حديث أبي ثعلبة أيضا بلفظ: إن أرضنا أرض أهل كتاب وأنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ وسيأتي. ومن أجوبة الجمهور عن الآية ومفهوم حديث الباب بأن ذلك تنفير عن الكفار وإهانة لهم، وهذا وإن كان مجازا فقرينته ما ثبت في الصحيحين من أنه (ص) توضأ من مزادة مشركة، وربط ثمامة بن أثال وهو مشرك بسارية من سواري المسجد. وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر. وأكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى، كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر. وأكل من خبز الشعير والاهالة لما دعاه إلى ذلك يهودي، وسيأتي في باب آنية الكفار، وما سلف من مباشرة الكتابيات والاجماع على جواز مباشرة المسبية قبل إسلامها، وتحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة وهي آخر ما نزل، وإطعامه (ص) وأصحابه للوفد من الكفار من دون غسل للآنية ولا أمر به، ولم ينقل توقي رطوبات الكفار عن السلف الصالح ولو توقوها لشاع. قال ابن عبد السلام: ليس من التقشف أن يقول: اشتري من سمن المسلم لا من سمن الكافر لان الصحابة لم يلتفتوا إلى ذلك. وقد زعم المقبلي في المنار أن الاستدلال في بالآية المذكورة على نجاسة الكافر وهم لانه حمل لكلام الله ورسوله على اصطلاح حادث، وبين النجس في اللغة وبين النجس في عرف المتشرعة عموم وخصوص من وجه، فالاعمال السيئة نجسة لغة لا عرفا، والخمر نجس عرفا وهو أحد الاطيبين عند أهل اللغة، والعذرة نجس في العرفين فلا دليل في الآية انتهى. ولا يخفاك أن مجرد تخالف اللغة والاصطلاح في هذه الافراد لا يستلزم عدم صحة الاستدلال بالآية على المطلوب، والذي في كتب اللغة أن النجس ضد الطاهر. قال في القاموس: النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك، وككتف وعضد ضد الطاهر انتهى. فالذي ينبغي التعويل عليه في عدم صحة الاحتجاج بها هو ما عرفناك، وحديث الباب أصل في طهارة المسلم حيا وميتا. أما الحي فإجماع، وأما الميت
[ 27 ]
ففيه خلاف. فذهب أبو حنيفة ومالك ومن أهل البيت الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبو طالب إلى نجاسته، وذهب غيرهم إلى طهارته. واستدل صاحب البحر للاولين على النجاسة بنزح زمزم من الحبشي، وهذا مع كونه من فعل ابن عباس كما أخرجه الدارقطني عنه، وقول الصحابي وفعله لا ينهض للاحتجاج به على الخصم محتمل أن يكون للاستقذار لا للنجاسة، ومعارض بحديث الباب وبحديث ابن عباس نفسه عند الشافعي والبخاري تعليقا بلفظ: المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا وبحديث أبي هريرة المتقدم. وبحديث ابن عباس أيضا عند البيهقي: أن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم وترجيح رأي الصحابي على روايته عن النبي (ص) ورواية غيره من الغرائب التي لا يدري ما الحامل عليها. وفي الحديث من الفوائد مشروعية الطهارة عند ملابسة الامور العظيمة، واحترام أهل الفضل وتوقيرهم ومصاحبهم على أكمل الهيئات، وإنما حاد حذيفة عن النبي (ص) وانخنس أبو هريرة لانه (ص) كان يعتاد مماسحة أصحابه إذا لقيهم والدعاء لهم، هكذا رواه النسائي وابن حبان من حديث حذيفة، فلما ظنا أن الجنب يتنجس بالحدث خشيا أن يماسحهما كعادته فبادرا إلى الاغتسال، وإنما ذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث في باب طهارة الماء المتوضأ به لقصد تكميل الاستدلال على عدم نجاسة الماء المتوضأ به، لانه إذا ثبت أن المسلم لا ينجس فلا وجه لجعل الماء نجسا بمجرد مما سته له، وسيأتي في هذا الكتاب باب معقود لعدم نجاسة المسلم بالموت وسيشير المصنف إلى هذا الحديث هنالك. باب بيان زوال تطهيره عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقالوا: يا أبا هريرة كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولا. رواه مسلم وابن ماجه. ولاحمد وأبي داود: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة. قوله: في الماء الدائم هو الساكن، قال في الفتح: يقال دوم الطائر تدويما إذا صف جناحيه في الهواء فلم يحركهما. والرواية الاولى من حديث الباب تدل على المنع من الاغتسال في الماء الدائم للجنابة وإن لم يبل فيه. والرواية الثانية تدل على المنع من كل
[ 28 ]
واحد من البول والاغتسال فيه على انفراده، وسيأتي في باب حكم الماء إذا لاقته نجاسة حديث أبي هريرة هذا بلفظ ثم يغتسل فيه، ويأتي البحث عن حكم البول في الماء الدائم والاغتسال فيه هنالك. وقد استدل بالنهي عن الاغتسال في الماء الدائم على أن الماء المستعمل يخرج عن كونه أهلا للتطهير، لان النهي ههنا عن مجرد الغسل فدل على وقوع المفسدة بمجرده، وحكم الوضوء حكم الغسل في هذا الحكم، لان المقصود التنزه عن التقرب إلى الله تعالى بالمستقذرات، والوضوء يقذر الماء كما يقذره الغسل، وقد ذهب إلى أن الماء المستعمل غير مطهر أكثر العترة، وأحمد بن حنبل والليث والاوزاعي والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنهما، وأبو حنيفة في رواية عنه، واحتجوا بهذا الحديث بحديث النبي عن التوضئ بفضل وضوء المرأة، واحتج لهم في البحر بما روي عن السلف من تكميل الطهارة بالتيمم عند قلة الماء لا بما تساقط منه. وأجيب عن الاستدلال بحديث الباب بأن علة النهي ليست كونه يصير مستعملا بل مصيره مستخبثا بتوارد الاستعمال فيبطل نفعه، ويوضح ذلك قول أبي هريرة يتناوله تناولا، وباضطراب متنه وبأن الدليل أخص من الدعوى لان غاية ما فيه خروج المستعمل للجنابة، والمدعى خروج كل مستعمل عن الطهورية. وعن حديث النهي عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة بمنع كون الفضل مستعملا ولو سلم فالدليل أخص من الدعوى، لان المدعي خروج كل مستعمل عن الطهورية لا خصوص هذا المستعمل، وبالمعارضة بما أخرجه مسلم وأحمد من حديث ابن عباس أن رسول الله (ص) كان يغتسل بفضل ميمونة وأخرجه أحمد أيضا وابن ماجه بنحوه من حديثه، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديثه بلفظ: اغتسل بعض أزواج النبي (ص) في جفنة فجاء النبي (ص) ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنبا، فقال: إن الماء لا يجنب. وأيضا حديث النهي عن التوضئ بفضل وضوء المرأة فيه مقال سيأتي بيانه في بابه، وعن الاحتجاج بتكميل السلف للطهارة بالتيمم لا بما تساقط بأنه لا يكون حجة إلا بعد تصحيح النقل عن جميعهم، ولا سبيل إلى ذلك لان القائلين بطهورية المستعمل منهم كالحسن البصري والزهري والنخعي وما لك والشافعي وأبي حنيفة في إحدى الروايات عن الثلاثة المتأخرين، ونسبه ابن حزم إلى عطاء وسفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر، وبأن المتساقط قد فني لانهم لم يكونوا يتوضأون إلى إناء، والملتصق بالاعضاء حقير لا يكفي بعض عضو من أعضاء الوضوء، وبأن سبب الترك بعد
[ 29 ]
تسليم صحته عن السلف وإمكان الانتفاع بالبقية هو الاستقذار، وبهذا يتضح عدم خروج المستعمل عن الطهورية وتحتم البقاء على البراءة الاصلية، لاسيما بعد اعتضادها بكليات وجزئيات من الادلة كحديث: خلق الماء طهورا وحديث مسحه (ص) رأسه بفضل ماء كان بيده وسيأتي وغيرهما. وقد استدل المصنف رحمه الله بحديث الباب على عدم صلاحية المستعمل للطهورية فقال: وهذا النهي عن الغسل فيه يدل على أنه لا يصح ولا يجزي، وما ذاك إلا لصيرورته مستعملا بأول جزء يلاقيه من المغتسل فيه، وهذا محمول على الذي لا يحمل النجاسة، فأما ما يحملها فالغسل فيه مجزئ، فالحدث لا يتعدى إليه حكمه من طريق الاولى انتهى. وعن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل حدثتني الربيع بنت معوذ ابن عفراء فذكر حديث وضوء النبي (ص) وفيه: ومسح (ص) رأسه بما بقي من وضوئه في يده مرتين بدأ بمؤخره ثم رده إلى ناصيته وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا رواه أحمد وأبو داود مختصرا ولفظه: أن رسول الله (ص) مسح رأسه من فضل ماء كان بيديه. قال الترمذي: عبد الله بن محمد بن عقيل صدوق ولكن تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه. وقال البخاري: كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديثه. الخلاف بين الائمة في الاحتجاج بحديث ابن عقيل مشهور وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب. والكلام على أطراف هذا الحديث محله الوضوء. ومحل الحجة منه مسح رأسه بما بقي من وضوء في يده، فإنه مما استدل به على أن المستعمل قبل انفصاله عن البدن يجوز التطهر به. قيل: وقد عارضه مع ما فيه من المقال أن النبي (ص) مسح رأسه بماء غير فضل يديه كحديث مسلم: أن النبي (ص) مسح رأسه بماء غير فضل يديه. وأخرج الترمذي من حديث عبد الله بن زيد أنه رأى النبي (ص) توضأ وأنه مسح رأسه بماء غير فضل يديه. وأخرج أيضا من حديثه أن النبي (ص) أخذ لرأسه ماء جديدا. وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديثه أيضا نحوه. وأنت خبير بأن كونه (ص) أخذ لرأسه ماء جديدا كما وقع في هذه الروايات لا ينافي ما في حديث الباب من أنه (ص) مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه، لان التنصيص على شئ بصيغة لا تدل إلا على مجرد الوقوع، ولم يتعرض فيها لحصر على المنصوص عليه ولا نفي لما
[ 30 ]
عداه لا يستلزم عدم وقوع غيره. والاولى الاحتجاج بما أخرجه الترمذي والطبراني من رواية ابن جارية بلفظ: خذ للرأس ماء جديدا فإن صح هذا دل على أنه يجب أن يؤخذ للرأس ماء جديد، ولا يجزي مسحه بفضل ماء اليدين، ويكون المسح ببقية ماء اليدين إن صح حديث الباب مختصا به (ص) لما تقرر في الاصول من أن فعله (ص) لا يعارض القول الخاص بالامة بل يكون مختصا به، وذلك لان أمره (ص) للامة أمرا خاصا بهم أخص من أدلة التأسي القاضية باتباعه في أقواله وأفعاله فيبنى العام على الخاص، ولا يجب التأسي به في هذا الفعل الذي ورد أمر الامة بخلافه وما نحن فيه من هذا القبيل، وإن كان خطابا لواحد لانه يلحق به غيره إما بالقياس أو بحديث: حكمي على الواحد كحكمي على الجماعة وهو وإن لم يكن حديثا معتبرا عند أئمة الحديث فقد شهد لمعناه حديث: إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة ونحوه، قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث ما لفظه: وعلى تقدير أن يثبت أن النبي (ص) مسح رأسه بما بقي من بلل يديه فليس يدل على طهورية الماء المستعمل، لان الماء كلما تنقل في محال التطهير من غير مفارقة إلى غيرها فعمله وتطهيره باق، ولهذا لا يقطع عمله في هذه الحال تغيره بالنجاسات والطهارات انتهى. وقد قدمنا ما هو الحق في الماء المستعمل. باب الرد على من جعل ما يغترف منه المتوضئ بعد غسل وجهه مستعملا عن عبد الله بن زيد بن عاصم: أنه قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله (ص) فدعا بإناء فأكفأ منه على يديه فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله (ص) متفق عليه ولفظه لاحمد. قوله: فأكفأ منه أي أمال وصب، وفي رواية لمسلم أكفأ منها أي المطهرة أو الاداوة. قوله: ثم أدخل يده هكذا وقع في صحيح مسلم أدخل يده بلفظ الافراد، وكذا في أكثر روايات البخاري، وفي رواية له: ثم أدخل يديه فاغترف بهما وفي أخرى له
[ 31 ]
من حديث ابن عباس: ثم أخذ غرفة فعل بها هكذا أضافها إلى يده الاخرى فغسل بها وجهه ثم قال: هكذا رأيت رسول الله (ص) يتوضأ. وفي سنن أبي داود والبيهقي من رواية علي عليه السلام في صفة وضوء رسول الله (ص): ثم أدخل يديه في الاناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه. فهذه الروايات في بعضها يديه وفي بعضها يده فقط وفي بعضها يده وضم الاخرى إليها، فهي دالة على جواز الامور الثلاثة وأنها سنة. قال النووي: ويجمع بين ذلك بأن النبي (ص) فعل ذلك في مرات وهي ثلاثة أوجه لاصحاب الشافعي، ولكن الصحيح منها والمشهور الذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي في البويطي والمزني، أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعا لكونه أسهل وأقرب إلى الاسباغ. والكلام على أطراف الحديث يأتي في الوضوء إن شاء الله، وإنما ساقه المصنف ههنا للرد على من زعم أن الماء المغترف منه بعد غسل الوجه يصير مستعملا لا يصلح للطهورية، وهي مقالة باطلة يردها هذا الحديث وغيره. وقد زعم بعض القائلين بخروج المستعمل عن الطهورية أن إدخال اليد في الاناء للغرفة التي يغسلها بها يصيره مستعملا، وللحنفية والشافعية وغيرهم مقالات في المستعمل ليس عليها أثارة من علم وتفصيلات وتفريعات عن الشريعة السمحة السهلة بمعزل. وقد عرفت بما سلف أن هذه المسألة أعني خروج المستعمل عن الطهورية مبنية على شفا جرف هار. ومن فوائد هذا الحديث جواز المخالفة بين غسل أعضاء الوضوء، لانه اقتصر في غسل اليدين على مرتين بعد تثليث غيرهما. قوله: فمسح برأسه لم يذكر فيه عددا كسائر الاعضاء، وهكذا أطلق في حديث عثمان المتفق عليه، وصرح بواحدة في حديث علي عليه السلام عند الترمذي وصححه. وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وقد ورد التثليث في حديث علي عليه السلام من طريق خالفت الحفاظ، وكذلك في حديث عثمان من طريق فيها عبد الرحمن بن وردان، وسيأتي بسط الكلام على ذلك في الوضوء إن شاء الله تعالى. باب ما جاء في فضل طهور المرأة عن الحكم بن عمر والغفاري: أن رسول الله (ص) نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة رواه الخمسة إلا أن ابن ماجه والنسائي قالا: وضوء المرأة وقال الترمذي، هذا حديث حسن. وقال ابن ماجه: وقد روى بعده حديثا آخر الصحيح الاول يعني حديث الحكم. الحديث صححه ابن حبان أيضا. وقال البيهقي في سننه الكبرى: قال البخاري حديث
[ 32 ]
الحكم ليس بصحيح. وقال النووي: اتفق الحفاظ على تضعيفه. قال ابن حجر في الفتح: وقد أغرب النووي بذلك، وله شاهد عند أبي داود والنسائي من حديث رجل صحب النبي (ص) قال: نهى رسول الله (ص) أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعا. قال الحافظ في الفتح رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل مردودة لان إبهام الصحابي لا يضر وقد صرح التابعي بأنه لقيه. ودعوى ابن حزم أن داود الذي رواه عن حميد بن عبد الرحمن الحميري هو ابن يزيد الاودي وهو ضعيف مردودة، فإنه ابن عبد الله الاودي وهو ثقة، وقد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره. وصرح الحافظ أيضا في بلوغ المرام بأن إسناده صحيح. والحديث يدل على أنه لا يجوز للرجل أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة، وقد ذهب إلى ذلك عبد الله بن سرجس الصحابي، ونسبه ابن حزم إلى الحكم بن عمرو راوي الحديث وجويرية أم المؤمنين وأم سلمة وعمر بن الخطاب، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري، وهو أيضا قول أحمد وإسحاق لكن قيداه بما إذا خلت به. وروي عن ابن عمر والشعبي والاوزاعي المنع لكن مقيدا بما إذا كانت المرأة حائضا. ونقل الميموني عن أحمد أن الاحاديث الواردة في منع التطهر بفضل وضوء المرأة وفي جوازه مضطربة لكن قال: صح عن عدة من الصحابة المنع فيما إذا خلت به، وعورض بأن الجواز أيضا نقل عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس، واستدلوا بما سيأتي من الادلة، وقد جمع بين الاحاديث بحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الاعضاء لكونه قد صار مستعملا والجواز على ما بقي من الماء وبذلك جمع الخطابي، وأحسن منه ما جمع به الحافظ في الفتح من حمل النهي على التنزيه بقرينة أحاديث الجواز الآتية. وعن ابن عباس: أن رسول الله (ص) كان يغتسل بفضل ميمونة رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عباس عن ميمونة: أن رسول الله (ص) توضأ بفضل غسلها من الجنابة رواه أحمد وابن ماجه. وعن ابن عباس قال: اغتسل بعض أزواج النبي (ص) في جفنة فجاء النبي (ص) ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له: يا رسول الله إني كنت جنبا، فقال: إن الماء لا يجنب رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. حديثه الاول مع كونه في صحيح مسلم قد أعله قوم بتردد وقع في رواية عمرو بن دينار حيث قال: وعلمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني فذكر الحديث. وقد
[ 33 ]
ورد من طريق أخرى بلا تردد. وأعل أيضا بعدم ضبط الراوي ومخالفته، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ: أن النبي (ص) وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد. وحديثه الآخر أخرجه أيضا الدارقطني وصححه ابن خزيمة وغيره، كذا قال الحافظ في الفتح. وقال الدارقطني: قد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة لانه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه شعبة وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم. قوله: لا يجنب في نسخة بفتح الياء التحتية وفي أخرى بضمها، فالاولى من جنب بضم النون وفتحها، والثانية من أجنب. قال في القاموس: وقد أجنب وجنب وجنب واستجنب وهو جنب يستوي للواحد والجمع اه. وظاهر حديثي ابن عباس وميمونة معارض لحديث الحكم السابق وحديث الرجل الذي من الصحابة فيتعين الجمع بما سلف لا يقال إن فعل النبي (ص) لا يعارض قوله الخاص بالامة لانا نقول: إن تعليله الجواز بأن الماء لا يجنب. مشعر بعدم اختصاص ذلك به. وأيضا النهي غير مختص بالامة لان صيغة الرجل تشمله (ص) بطريق الظهور، وقد تقرر دخول المخاطب في خطاب نفسه، نعم لو لم يرد ذلك التعليل كان فعله (ص) مخصصا له من عموم الحديثين السابقين، وقد نقل النووي الاتفاق على جواز وضوء المرأة بفضل الرجل دون العكس، وتعقبه الحافظ بأن الطحاوي قد أثبت فيه الخلاف. قال المصنف رحمه الله تعالى: قلت وأكثر أهل العلم على الرخصة للرجل من فضل طهور المرأة والاخبار بذلك أصح، وكرهه أحمد وإسحاق إذا خلت به وهو قول عبد الله بن سرجس، وحملوا حديث ميمونة على أنها لم تخل به جميعا بينه وبين حديث الحكم. فأما غسل الرجل والمرأة ووضوءهما جميعا فلا اختلاف فيه، قالت أم سلمة: كنت أغتسل أنا ورسول الله (ص) من إناء واحد من الجنابة متفق عليه: وعن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله (ص) من إناء واحد تختلف أيدينا پفيه من الجنابة متفق عليه. وفي لفظ للبخاري: من إناء واحد نغترف منه جميعا. ولمسلم: من إناء بيني وبينه واحد فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي وفي لفظ النسائي: من إناء واحد يبادرني وأبا دره حتى يقول: دعي لي، وأنا أقول: دع لي اه. وقد وافق المصنف في نقل الاتفاق على جواز اغتسال الرجل والمرأة من الاناء الواحد جميعا الطحاوي والقرطبي والنووي، وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة أنه كان ينهى عنه، وحكاه ابن عبد البر عن قوم، ومن جملة ما يدل على جواز الاغتسال
[ 34 ]
والوضوء للرجل والمرأة من الاناء الواحد جميعا ما أخرج أبو داود من حديث أم صبية الجهنية: قالت اختلفت يدي ويد رسول الله (ص) في الوضوء من إناء واحد. ومن حديث ابن عمر قال كان الرجال والنساء يتوضأون (ص) في زمان رسول الله (ص)، قال مسدد من الاناء الواحد جميعا قال في الفتح: ظاهره أنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحدة. وحكى ابن التين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضأون جميعا في موضع واحد هؤلاء على حدة، وهؤلاء على حدة، والزيادة المتقدمة في قوله: من إناء واحد ترد عليه. وكأن هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الاجانب. وقد أجاب ابن التين عنه بما حكاه سحنون أن معناه كان الرجال يتوضأون ويذهبون ثم يأتي النساء، وهو خلاف الظاهر، لان قوله جميعا معناه ضد المفترق كما قال أهل اللغة. وقد وقع مصرحا بوحدة الاناء في صحيح ابن خزيمة في هذا الحديث من طريق معتمر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: أنه أبصر النبي (ص) وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهرون منه. والاولى في الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده فيختص بالمحارم والزوجات. باب حكم الماء إذا لاقته النجاسة عن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله (ص): الماء طهور لا ينجسه شئ. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وقال أحمد بن حنبل: حديث بئر بضاعة صحيح. وفي رواية لاحمد وأبي داود: إنه يستقى لك من بئر بضاعة وهي بئر تطرح فيها محايض النساء ولحم الكلاب وعذر الناس، فقال رسول الله (ص): إن الماء طهور لا ينجسه شئ. قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها قلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة، قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فمددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غير بناؤها عما كان عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماء متغير اللون.
[ 35 ]
الحديث أخرجه أيضا الشافعي في الام والنسائي وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي. وقد صححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم والحاكم وجوده أبو أسامة، ونقل ابن الجوزي أن الدارقطني قال: إنه ليس بثابت. قال في التلخيص: ولم نر ذلك في العلل له ولا في السنن، وأعله ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد، واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه. قال ابن القطان: وله طريق أحسن من هذه ثم ساقها عن أبي سعيد، وقال ابن منده في حديث أبي سعيد: هذا إسناده مشهور. وفي الباب عن جابر عند ابن ماجة بلفظ: إن الماء لا ينجسه شئ وفي إسناده أبو سفيان طريف بن شهاب وهو ضعيف متروك. وعن ابن عباس عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان بنحوه. وعن سهل بن سعد عند الدارقطني. وعن عائشة عند الطبراني في الاوسط وأبي يعلى والبزار وابن السكن في صحاحه. ورواه أحمد من طريق أخرى صحيحة لكنه موقوف. وأخرجه أيضا بزيادة الاستثناء الدارقطني من حديث ثوبان ولفظه: الماء طهور لا ينجسه شئ إلا ما غلب على ريحه أو طعمه وفي إسناده رشدين بن سعد وهو متروك. وعن أبي أمامة مثله عند ابن ماجه والطبراني وفيه أيضا رشدين ورواه البيهقي بلفظ: إن الماء طهور إلا أن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه من طريق عطية بن بقية عن أبيه عن ثور عن راشد بن سعد عن أبي أمامة، وفيه تعقب على من زعم أن رشدين بن سعد تفرد بوصله. ورواه الطحاوي والدارقطني من طريق راشد بن سعد مرسلا. وصحح أبو حاتم إرساله. وقال الشافعي: لا يثبت أهل الحديث مثله. وقال الدارقطني: لا يثبت هذا الحديث. وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه، قال في البدر المنير: فتلخص أن الاستثناء المذكور ضعيف فتعين الاحتجاج بالاجماع كما قال الشافعي والبيهقي وغيرهما، يعني الاجماع على أن المتغير بالنجاسة ريحا أو لونا أو طعما نجس. وكذا نقل الاجماع ابن المنذر فقال: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعما أو لونا أو ريحا فهو نجس انتهى. وكذا نقل الاجماع المهدي في البحر. قوله: أتتوضأ بتاءين مثناتين من فوق خطاب للنبي (ص) كذا قال في التلخيص. قوله: النتن بنون مفتوحة وتاء مثناة من فوق ساكنة ثم نون، قال ابن رسلان: وينبغي أن يضبط بفتح النون وكسر التاء وهو الشئ الذي له رائحة كريهة من قولهم: نتن الشئ بكسر التاء ينتن بفتحها فهو نتن. قوله: بئر بضاعة أهل اللغة يضمون الياء ويكسرونها، والمحفوظ في الحديث الضم. قوله: والحيض بكسر الحاء جمع حيضة بكسر الحاء أيضا مثل سدر وسدرة، والمراد بها خرقة الحيض التي تمسحه المرأة بها، وقيل:
[ 36 ]
الحيضة الخرقة التي تستثفر المرأة بها. قوله: وعذر الناس بفتح العين المهملة وكسر الذال المعجمة جمع عذرة ككلمة وكلم وهي الجزء، وأصلها اسم لفناء الدار ثم سمي بها الخارج من باب تسمية المظروف باسم الظرف. قوله: إلى العانة قال الازهري وجماعة: هي موضع منبت الشعر فوق قبل الرجل والمرأة. قوله: دون العورة قال ابن رسلان: يشبه أن يكون المراد به عورة الرجل أي دون الركبة لقوله (ص) عورة الرجل ما بين سرته وركبته. قوله: ماء متغير اللون قال النووي: يعني بطول المكث وأصل المنبع لا بوقوع شئ أجنبي فيه. والحديث يدل على أن الماء لا يتنجس بوقوع شئ فيه، سواء كان قليلا أو كثيرا ولو تغيرت أوصافه أو بعضها، لكنه قام الاجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة خرج عن الطهورية، فكان الاحتجاج به لا بتلك الزيادة كما سلف، فلا ينجس الماء بما لاقاه ولو كان قليلا إلا إذا تغير. وقد ذهب إلى ذلك ابن عباس وأبو هريرة والحسن البصري وابن المسيب وعكرمة وابن أبي ليلى والثوري وداود الظاهري والنخعي وجابر بن زيد ومالك والغزالي. ومن أهل البيت القاسم والامام يحيى، وذهب ابن عمر ومجاهد والشافعية والحنفية وأحمد بن حنبل وإسحاق. ومن أهل البيت الهادي والمؤيد بالله وأبو طالب والناصر إلى أنه ينجس القليل بما لاقاه من النجاسة، وإن لم تتغير أوصافه إذ تستعمل النجاسة باستعماله. وقد قال تعالى: * (والرجز فاهجر) * (المدثر: 5) ولخبر الاستيقاظ وخبر الولوغ ولحديث: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم وحديث القلتين ولترجيح الحظر. ولحديث: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون عند أحمد وأبي يعلى والطبراني وأبي نعيم مرفوعا. وحديث: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك أخرجه النسائي وأحمد وصححه ابن حبان والحاكم والترمذي من حديث الحسن بن علي. قالوا فحديث: الماء طهور لا ينجسه شئ مخصص بهذه الادلة، واختلفوا في حد القليل الذي يجب اجتنابه عند وقوع النجاسة فيه، فقيل: ما ظن استعمالها وإليه ذهب أبو حنيفة والمؤيد بالله وأبو طالب، وقيل: دون القلتين، على اختلاف في قدرهما وإليه ذهب الشافعي وأصحابه والناصر والمنصور بالله، وأجاب القائلون بأن القليل لا ينجس بالملاقاة للنجاسة، إلا أن يتغير باستلزام الاحاديث الواردة في اعتبار الظن للدور لانه لا يعرف القليل إلا بظن الاستعمال ولا يظن إلا إذا كان قليلا، وأيضا الظن لا ينضبط بل يختلف باختلاف الاشخاص، وأيضا جعل ظن الاستعمال مناطا يستلزم استواء القليل والكثير. وعن حديث القلتين بأنه مضطرب الاسناد والمتن كما سيأتي. والحاصل أنه لا معارضة بين حديث القلتين وحديث الماء طهور
[ 37 ]
لا ينجسه شئ فما بلغ مقدار القلتين فصاعدا فلا يحمل الخبث ولا ينجس بملاقاة النجاسة إلا أن يتغير أوصافه فنجس بالاجماع، فيخص به حديث القلتين وحديث لا ينجسه شئ. وأما ما دون القلتين فإن تغير خرج عن الطهارة بالاجماع، وبمفهوم حديث القلتين فيخص بذلك عموم حديث لا ينجسه شئ وإن لم يتغير بأن وقعت فيه نجاسة لم تغيره، فحديث لا ينجسه شئ يدل بعمومه على عدم خروجه عن الطهارة لمجرد ملاقاة النجاسة، وحديث القلتين يدل بمفهومه على خروجه عن الطهورية بملاقاتها، فمن أجاز التخصيص بمثل هذا المفهوم قال به في هذا المقام، ومن منع منه منعه فيه. ويؤيد جواز التخصيص بهذا المفهوم لذلك العموم بقية الادلة التي استدل بها القائلون بأن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه، وإن لم تغيره كما تقدم، وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إلى ما هو الصواب فيها إلا الافراد. وقد حققت المقام بما هو أطول من هذا وأوضح في طيب النشر على المسائل العشر. وللناس في تقدير القليل والكثير أقوال ليس عليها أثاره من علم فلا تشتغل بذكرها. وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله (ص) وهو يسأل عن الماء يكون بالفلاة من الارض وما ينوبه من السباع والدواب فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث رواه الخمسة. وفي لفظ ابن ماجه ورواية لاحمد لم ينجسه شئ. الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدار قطني والبيهقي، وقال الحاكم صحيح على شرطهما. وقد احتجا بجميع رواته واللفظ الآخر من حديث الباب أخرجه أيضا الحاكم. وأخرجه أبو داود بلفظ: لا ينجس وكذا أخرجه ابن حبان. وقال ابن منده: إسناد حديث القلتين على شرط مسلم انتهى. ومداره على الوليد بن كثير فقيل عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقيل عنه عن محمد بن عباد بن جعفر، وقيل عنه عن عبيد الله بن عمر. وقيل عنه عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر. وهذا اضطراب في الاسناد وقد روي أيضا بلفظ: إذا كان الماء قدر قلتين أو ثلاث لم ينجس كما في رواية لاحمد والدارقطني. وبلفظ: إذا بلغ الماء قلة فإنه لا يحمل الخبث كما في رواية للدارقطني وابن عدي والعقيلي. وبلفظ: أربعين قلة عند الدارقطني وهذا اضطراب في المتن، وقد أجيب عن دعوى الاضطراب في الاسناد بأنه على تقدير أن يكون محفوظا من جميع تلك الطرق لا يعد اضطرابا لانه انتقال من ثقة إلى ثقة. قال الحافظ: وعند
[ 38 ]
التحقيق أنه عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عمر المكبر وعن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر. ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وهم. وله طريق ثالثة عند الحاكم جود إسنادها ابن معين. وعن دعوى الاضطراب في المتن بأن رواية أو ثلاث شاذة، ورواية أربعين قلة مضطربة، وقيل إنهما موضوعتان، ذكر معناه في البدر المنير. ورواية أربعين ضعفها الدارقطني بالقاسم بن عبد الله العمري، قال ابن عبد البر في التمهيد ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الاثر، لانه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم، ولان القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، وقال في الاستذكار: حديث معلول رده إسماعيل القاضي وتكلم فيه. وقال الطحاوي: إنما لم نقل به لان مقدار القلتين لم يثبت. وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث قد صححه بعضهم وهو صحيح على طريقة الفقهاء ثم أجاب عن الاضطراب. وأما التقييد بقلال هجر فلم يثبت مرفوعا إلا من رواية المغيرة بن صقلاب عند ابن عدي وهو منكر الحديث، قال النفيلي: لم يكن مؤتمنا على الحديث، وقال ابن عدي: لا يتابع على عامة حديثه، ولكن أصحاب الشافعي قووا كون المراد قلال هجر بكثرة استعمال العرب لها في أشعارهم كما قال أبو عبيد في كتاب الطهور. وكذلك ورد التقييد بها في الحديث الصحيح، قال البيهقي: قلال هجر كانت مشهورة عندهم ولهذا شبه رسول الله (ص) ما رأى ليلة المعراج من نبق سدرة المنتهى بقلال هجر، قال الخطابي: قلال هجر مشهورة الصنعة معلومة المقدار، والقلة لفظ مشترك وبعد صرفها إلى أحد معلوماتها وهي الاواني تبقى مترددة بين الكبار والصغار، والدليل على أنها من الكبار جعل الشارع الحد مقدرا بعده، فدل على أنه أشار إلى أكبرها لانه لا فائدة في تقديره بقلتين صغيرتين مع القدرة على التقدير بواحدة كبيرة، ولا يخفى ما في هذا الكلام من التكلف والتعسف. قوله: ما ينوبه هو بالنون أي يرد عليه نوبة بعد أخرى. وحكى الدار قطني أن ابن المبارك صحفه فقال: يثوبه بالثاء المثلثة. قوله: لم يحمل الخبث هو بفتحتين النجس كما وقع تفسير ذلك بالنجس في الروايات المتقدمة، والتقدير لم يقبل النجاسة بل يدفعها عن نفسه، ولو كان المعنى أنه يضعف عن حملها لم يكن للتقييد بالقلتين معنى، فإن ما دونهما أولى بذلك، وقيل
[ 39 ]
معناه لا يقبل حكم النجاسة. وللخبث معان أخر ذكرها في النهاية والمراد ههنا ما ذكرنا. والحديث يدل على أن قدر القلتين لا ينجس بملاقاة النجاسة، وكذا ما هو أكثر من ذلك بالاولى ولكنه مخصص أو مقيد بحديث: إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه وهو وإن كان ضعيفا فقد وقع الاجماع على معناه، وقد تقدم تحقيق الكلام والجمع بين الاحاديث. وعن أبي هريرة: أن النبي (ص) قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه رواه الجماعة، وهذا لفظ البخاري، ولفظ الترمذي: ثم يتوضأ منه. ولفظ الباقين: ثم يغتسل منه. قوله: الدائم تقدم تفسيره. قوله: الذي لا يجري قيل: هو تفسير للدائم وإيضاح لمعناه، وقد احترز به عن راكد يجري بعضه كالبرك. وقيل: احترز به عن الماء الراكد لانه جار من حيث الصورة ساكن من حيث المعنى، ولهذا لم يذكر البخاري هذا القيد حيث جاء بلفظ الراكد بدل الدائم وكذلك مسلم في حديث جابر وقا ابن الانباري: الدائم من حروف الاضداد يقال للساكن والدائر. وعلى هذا يكون قوله: لا يجري صفة مخصصة لاحد معنى المشترك. وقيل: الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن الدائم الذي له نبع والراكد الذي لا نبع له. قوله: ثم يغتسل فيه ضبطه النووي في شرح مسلم بضم اللام، قال في الفتح: وهو المشهور، وقال النووي أيضا: وذكر شيخنا أبو عبد الله بن مالك أنه يجوز أيضا جزمه عطفا على موضع يبولن ثم نصبه بإضمار أن وإعطاء ثم حكم واو الجمع، فأما الجزم فلا مخالفة بينه وبين الاحاديث الدالة على أنه يحرم البول في الماء الدائم على انفراده والغسل على انفراده، كما تقدم في باب بيان زوال تطهيره لدلالته على تساوي الامرين في النهي عنهما. وأما النصب فقال النووي: لا يجوز لانه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقله أحد بل البول فيه منهي عنه سواء أراد الاغتسال فيه أم لا، وضعفه ابن دقيق العيد بأنه لا يلزم أن يدل على الاحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث إن ثبتت رواية النصب، ويؤخذ النهي عن الافراد من حديث آخر، وتعقبه ابن هشام في المغني فقال: إنه وهم وإنما أراد ابن مالك إعطاءها حكمها في النصب لا في المعية. قال: وأيضا ما أورده إنما جاء من قبيل المفهوم لا المنطوق، وقد قام دليل
[ 40 ]
آخر على عدم إرادته ونظيره إجازة الزجاج والزمخشري في قوله تعالى: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق) * (البقرة: 42) كون تكتموا مجزوما وكونه منصوبا مع أن النصب معناه النهي اه. وقد اعترض الجزم القرطبي بما حاصله أنه لو أراد النهي عنه لقال: ثم يغتسلن بالتأكيد، وتعقب بأنه لا يلزم من تأكيد النهي أن لا يعطف عليه نهي آخر غير مؤكد، لاحتمال أن يكون للتأكيد معنى في أحدهما ليس في الآخر اه. والحاصل أنه قد ورد النهي عن مجرد الغسل من دون ذكر للبول كحديث أبي هريرة المتقدم في باب بيان زوال تطهيره الماء، وورد النهي عن مجرد البول من دون ذكر للغسل كما في صحيح مسلم أنه (ص) نهى عن البول في الماء الراكد والنهي عن كل واحد منهما على انفراده يستلزم النهي عن فعلهما جميعا بالاولى. وقد ورد النهي عن الجمع بينهما في حديث الباب إن صحت رواية النصب، والنهي عن كل واحد منهما في حديث عند أبي داود. ويدل عليه حديث الباب على رواية الجزم، وأما على رواية الرفع فقال القرطبي: إنه نبه بذلك على مآل الحال ومثله بقوله (ص) لا يضربن أحدكم امرأته ضرب الامة ثم يضاجعها أي ثم هو يضاجعها، والمراد النهي عن الضرب، لان الزوج يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها فتمتنع لاساءته إليها، فيكون المراد ههنا النهي عن البول في الماء، لان البائل يحتاج في مآل حاله إلى التطهر به، فيمتنع ذلك للنجاسة. قال النووي: وهذا النهي في بعض المياه للتحريم وفي بعضها للكراهة، فإن كان الماء كثيرا جاريا لم يحرم البول فيه ولكن الاولى اجتنابه وإن كان قليلا جاريا، فقد قال جماعة من أصحاب الشافعي: يكره، والمختار أنه يحرم لانه يقذره وينجسه، ولان النهي يقتضي التحريم عند المحققين والاكثرين من أهل الاصول، وهكذا إذا كان كثيرا راكدا أو قليلا، لذلك قال: وقال العلماء من أصحابنا وغيرهم: يكره الاغتسال في الماء الراكد قليلا كان أو كثيرا، وكذا يكره الاغتسال في العين الجارية، قال: وهذا كله على كراهة التنزيه لا التحريم انتهى. وينظر ما القرينة الصارفة للنهي عن التحريم، ولا فرق في تحريم البول في الماء بين أن يقع البول فيه أو في إناء ثم يصب إليه خلافا للظاهرية. والتغوط كالبول وأقبح، ولم يخالف في ذلك أحد إلا ما حكي عن داود الظاهري. قال النووي: وهو خلاف الاجماع وهو أقبح ما نقل عنه في الجمود على الظاهر. وقد نصر قول داود بن حزم في المحلى وأورد للفقهاء الاربعة من هذا الجنس الذي أنكره أتباعهم على داود شيئا واسعا. واعلم أنه لا بد عن إخراج هذا الحديث عن ظاهره بالتخصيص أو التقييد، لان الاتفاق واقع على أن
[ 41 ]
الماء المستبحر الكثير جدا لا تؤثر فيه النجاسة، وحملته الشافعية على ما دون القلتين لانهم يقولون إن قدر القلتين فما فوقهما لا ينجس إلا بالتغير. وقيل حديث القلتين عام في الانجاس فيخص ببول الآدمي، ورد بأن المعنى المقتضى للنهي هو عدم التقرب إلى الله بالمتنجس، وهذا المعنى يستوي فيه سائر النجاسات، ولا يتجه تخصيص بول الآدمي منها بالنسبة إلى هذا المعنى. قوله: ثم يتوضأ منه فيه دليل على أن النهي لا يختص بالغسل بل الوضوء في معناه، ولو لم يرد هذا لكان معلوما لاستواء الوضوء والغسل في المعنى المقتضي للنهي كما تقدم. قوله: ثم يغتسل منه هذا اللفظ ثابت أيضا في البخاري من طريق أبي الزناد، وللبخاري ومسلم من طريق أخرى ثم يغتسل فيه. قال ابن دقيق العيد: وكل واحد من اللفظين يفيد حكما بالنص وحكما بالاستنباط انتهى، وذلك لان الرواية بلفظ فيه تدل على منع الانغماس بالنص وعلى منع التناول بالاستنباط، والرواية بلفظ منه بعكس ذلك. وقد استدل بهذا الحديث أيضا على نجاسة المستعمل، وعلى أنه طاهر مسلوب الطهورية، وقد تقدم الكلام على البحثين. قال المصنف رحمه الله تعالى: ومن ذهب، إلى خبر القلتين حمل هذا الخبر على ما دونهما، وخبر بئر بضاعة على ما بلغهما جمعا بين الكل انتهى. وقد تقدم تحقيق ذلك. باب أسآر البهائم حديث ابن عمر في القلتين يدل على نجاستها، وإلا يكون التحديد بالقلتين في جواب السؤال عن ورودها على الماء عبثا. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات رواه مسلم والنسائي. الحديث له ألفاظ هذا أحدها. وفي الباب أحاديث منها عن عبد الله بن مغفل وسيأتي في باب اعتبار العدد في الولوغ. وحديث ابن عمر الذي أشار إليه المصنف في القلتين تقدم. وقد استدل به على نجاسة اسآر البهائم لمذكره. قوله: إذا ولغ قال في الفتح يقال: ولغ يلغ بالفتح فيهما إذا شرب بطرف لسانه فيه فحركه، قال ثعلب:
[ 42 ]
هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع فيحركه زاد ابن درستويه: شرب أو لم يشرب. قال مكي: فإن كان غير مائع يقال لعقه. قوله: في إناء أحدكم ظاهره العموم في الآنية وهو يخرج ما كان من المياه في غير الآنية، وقيل أصل الغسل معقول المعنى وهو النجاسة فلا فرق بين الاناء وغيره. وقال العراقي: ذكر الاناء خرج مخرج الاغلب لا للتقييد. قوله: فليرقه قال النسائي: لم يذكر فليرقه غير علي بن مسهر. وقال ابن منده: تفرد بذكر الاراقة فيه علي بن مسهر ولا يعرف عن النبي (ص) بوجه من الوجوه. قال الحافظ:، ورد الامر بالاراقة عند مسلم من طريق الاعمش عن أبي صالح، وأبي رزين عن أبي هريرة وقد حسن الدارقطني حديث الاراقة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه ورواه مسلم بزيادة: أولاهن بالتراب كما سيأتي والحديث يدل على وجوب الغسلات السبع من ولوغ الكلب، وإليه ذهب ابن عباس وعروة بن الزبير ومحمد بن سيرين وطاوس وعمرو بن دينار والاوزاعي ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود. وذهبت العترة والحنفية إلى عدم الفرق بين لعاب الكلب وغيره من النجاسات، وحملوا حديث السبع على الندب، واحتجوا بما رواه الطحاوي والدارقطني موقوفا على أبي هريرة، أنه يغسل من ولوغه ثلاث مرات وهو الراوي للغسل سبعا، فثبت بذلك نسخ السبع، وهو مناسب لاصل بعض الحنفية من وجوب العمل بتأويل الراوي وتخصيصه ونسخه، وغير مناسب لاصول الجمهور من عدم العمل به. ويحتمل أن أبا هريرة أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها أو أنه نسي ما رواه. وأيضا قد ثبت عنه أنه أفتى بالغسل سبعا، ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الاسناد ومن حيث النظر. أما من حيث الاسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه وهذا من أصح الاسانيد، والمخالفة من رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه وهو دون الاول في القوة بكثير قاله الحافظ في الفتح. وأما من حيث النظر فظاهر، وأيضا قد روى التسبيع غير أبي هريرة فلا يكون مخالفة فتياه قادحة في مروي غيره، وعلى كل حال فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله (ص). ومن جملة أعذارهم عن العمل بالحديث أن العذرة أشد نجاسة من سؤر الكلب ولم تقيد بالسبع، فيكون الولوغ كذلك من باب الاولى، ورد بأنه لا يلزم من كونها أشد في الاستقذار أن لا يكون الولوغ أشد منها في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النص الصريح وهو فاسد الاعتبار. ومنها أيضا أن الامر
[ 43 ]
بذلك كان عند الامر بقتل الكلاب، فلما نهى عن قتلها نسخ الامر بالغسل، وتعقب بأن الامر بقتلها كان في أوائل الهجرة، والامر بالغسل متأخر جدا، لانه من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفل وكان إسلامهما سنة سبع، وسياق حديث ابن مغفل الآتي ظاهر في أن الامر بالغسل كان بعد الامر بقتل الكلاب. وقد اختلف أيضا في وجوب التتريب للاناء الذي ولغ فيه الكلب، وسيأتي بيان ذلك في باب اعتبار العدد. واستدل بهذا الحديث أيضا على نجاسة الكلب لانه إذا كان لعابه نجسا وهو عرق فمه ففمه نجس، ويستلزم نجاسة سائر بدنه، وذلك لان لعابه جزء من فمه، وفمه أشرف ما فيه فبقية بدنه أولى، وقد ذهب إلى هذا الجمهور. وقال عكرمة ومالك في رواية عنه أنه طاهر. ودليلهم قول الله تعالى: * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * (المائدة: 4) ولا يخلو الصيد من التلوث بريق الكلاب ولم نؤمر بالغسل، وأجيب عن ذلك بأن إباحة الاكل مما أمسكن لا تنافي وجوب تطهير ما تنجس من الصيد، وعدم الامر للاكتفاء بما في أدلة تطهير النجس من العموم، ولو سلم فغايته الترخيص في الصيد بخصوصه. واستدلوا أيضا بما ثبت عند أبي داود من حديث ابن عمر بلفظ: كانت الكلاب تقبل وتدبر زمان رسول الله (ص) في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك وهو في البخاري. وأخرجه الترمذي بزيادة وتبول، ورد بأن البول مجمع على نجاسته، فلا يصلح حديث بول الكلاب في المسجد حجة يعارض بها الاجماع. وأما مجرد الاقبال والادبار فلا يدلان على الطهارة، وأيضا يحتمل أن يكون ترك الغسل لعدم تعيين موضع النجاسة أو لطهارة الارض بالجفاف. قال المنذري: انها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها ثم تقبل وتدبر في المسجد. قال الحافظ: والاقرب أن يقال إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الاباحة، ثم ورد الامر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الابواب عليها. واستدلوا على الطهارة أيضا بما سيأتي من الترخيص في كلب الصيد والماشية والزرع، وأجيب بأنه لا منافاة بين الترخيص وبين الحكم بالنجاسة غاية الامر أنه تكليف شاق وهو لا ينافي التعبد به. باب سؤر الهرة عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة: أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الاناء حتى شربت منه، قالت كبشة: فرآني أنظر فقال أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت نعم، فقال: إن رسول الله (ص)
[ 44 ]
قال: إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات رواة الخمسة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعن عائشة عن النبي (ص): أنه كان يصغي إلى الهرة الاناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها رواه الدارقطني. الحديث الاول أخرجه أيضا البيهقي وصححه البخاري والعقيلي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني، وأعله ابن منده بأن حميدة الراوية له عن كبشة مجهولة وكذلك كبشة قال: ولم يعرف لهما إلا هذا الحديث وتعقبه الحافظ بأن لحميدة حديثا آخر في تشميت العاطس رواه أبو داود. ولها ثالث رواه أبو نعيم في المعرفة. وقد روى عنها مع إسحاق ابنه يحيى وهو ثقة عند ابن معين فارتفعت جهالتها. وأما كبشة فقيل إنها صحابية، فإن ثبت فلا يضر الجهل بحالها على ما هو الحق من قبول مجاهيل الصحابة، وقد حققنا ذلك في القول المقبول في رد رواية المجهول من غير صحابة الرسول. وفي الباب عن جابر عند ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ مثله. والحديث الثاني الذي رواه الدارقطني عن عائشة قد اختلف فيه على عبد ربه وهو عبد الله بن سعيد المقبري، ورواه الدارقطني من وجه آخر عن عائشة وفيه الواقدي، وروي من طرق أخر كلها واهية، والحديثان يدلان على طهارة فم الهرة وطهارة سؤرها، وإليه ذهب الشافعي والهادي وقال أبو حنيفة: بل نجس كالسبع لكن خفف فيه فكره سؤره، واستدل بما ورد عنه (ص) من أن الهرة سبع في حديث أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: السنور سبع وبما تقدم من قوله (ص) عند سؤاله عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شئ وأجيب بأن حديث الباب مصرح بأنها ليست بنجس، فيخصص به عموم حديث السباع بعد تسليم ورود ما يقضي بنجاسة السباع. وأما مجرد الحكم عليها بالسبعية فلا يستلزم أنها نجس، إذ لا ملازمة بين النجاسة والسبعية على أنه قد أخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة قال: سئل رسول الله (ص) عن الحياض التي تكون
[ 45 ]
بين مكة والمدينة فقيل إن الكلاب والسباع ترد عليها فقال: لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور وأخرج الشافعي والدارقطني والبيهقي في المعرفة وقال: له أسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض كانت قوية بلفظ: أتتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم وبما أفضلت السباع كلها وأخرج الدارقطني وغيره عن ابن عمر قال: خرج رسول الله (ص): في بعض أسفاره فسار ليلا فمروا على رجل جالس عند مقراة له وهو الحوض الذي يجتمع فيه الماء فقال عمر أولغت السباع عليك الليلة في مقراتك، فقال له النبي (ص): يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور وهذه الاحاديث مصرحة بطهارة ما أفضلت السباع. وحديث عائشة المذكور في الباب نص في محل النزاع. وأيضا حديث أبي هريرة الذي استدل به أبو حنيفة فيه مقال. ويمكن حمل حديث القلتين المتقدم على أنه إنما كان كذلك لان ورودها على الماء مظنة لالقائها الابوال والازبال عليه. قوله: فأصغى لها الاناء هو بالصاد المهملة بعدها غين معجمة ذكره في الاساس. وقال: أصغى الاناء للهرة: أماله. وفي القاموس: وأصغى استمع وإليه مال بسمعه والاناء أماله. قوله: إنها من الطوافين الخ تشبيه للهرة بخدم البيت الذين يطوفون للخدمة. [ رم ] باب اعتبار العدد في الولوغ عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص) قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا متفق عليه. ولاحمد ومسلم: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب. وعن عبد الله بن مغفل قال: أمر رسول الله (ص) بقتل الكلاب ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم وقال: إذا ولغ الكلب في الاناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب رواه الجماعة إلا الترمذي والبخاري. وفي رواية لمسلم: ورخص في كلب الغنم والصيد والزرع. الحديثان يدلان على أنه يغسل الاناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك، وبيان ما هو الحق في باب اسآر البهائم. قوله: أولاهن بالتراب
[ 46 ]
لفظ الترمذي والبزار أولاهن أو أخراهن. ولابي داود السابعة بالتراب، وفي رواية صحيحة للشافعي: أولاهن أو اخراهن بالتراب. وفي رواية لابي عبيد القاسم بن سلام في كتاب الطهور له؟ إذا ولغ الكلب في الاناء غسل سبع مرات أولاهن أو إحداهن بالتراب وعند الدارقطني بلفظ إحداهن أيضا وإسناده ضعيف فيه الجارود بن يزيد وهو متروك، والذي في حديث عبد الله بن مغفل المذكور في الباب بلفظ وعفروه الثامنة بالتراب أصح من رواية إحداهن. قال في البدر المنير بإجماعهم. وقال ابن منده إسناده مجمع على صحته وهي زيادة ثقة فتعين المصير إليها وقد ألزم الطحاوي الشافعية بذلك، واعتذار الشافعي بأنه لم يقف على صحة هذا الحديث لا ينفع الشافعية، فقد وقف على صحته غيره لاسيما مع وصيته بأن الحديث إذا صح مذهبه فتعين حمل المطلق على المقيد. وأما قول ابن عبد البر لا أعلم أحدا أفتى بأن غسله التراب غير الغسلات السبع بالماء غير الحسن، فلا يقدح ذلك في صحة الحديث وتحتم العمل به. وأيضا قد أفتى بذلك أحمد بن حنبل وغيره وروي عن مالك أيضا. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر. وجواب البيهقي عن ذلك بأن أبا هريرة أحفظ من غيره فروايته أرجح، وليس فيها هذه الزيادة مردود بأن في حديث عبد الله بن مغفل زيادة وهو مجمع على صحته، وزيادة الثقة يتعين المصير إليها إذا لم تقع منافية. وقد خالفت الحنفية والعترة في وجوب التتريب كما خالفوا في التسبيع، ووافقهم ههنا المالكية مع إيجابهم التسبيع على المشهور عندهم، قالوا: لان التتريب لم يقع في رواية مالك، قال القرافي منهم قد صحت فيه الاحاديث، فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها، وقد اعتذر القائلون بأن التتريب غير واجب بأن رواية التتريب مضطربة لانها ذكرت بلفظ أولاهن وبلفظ أخراهن وبلفظ إحداهن، وفي رواية السابعة وفي رواية الثامنة، والاضطراب يوجب الاطراح، وأجيب بأن المقصود حصول التتريب في مرة من المرات، وبأن إحداهن مبهمة وأولاهن معينة وكذلك أخراهن، والسابعة والثامنة، ومقتضى حمل المطلق على المقيد أن تحمل المبهمة على إحدى المرات المعينة، ورواية أولاهن أرجح من حيث الاكثرية والاحفظية ومن حيث المعنى أيضا، لان التتريب الآخرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى لتنظيفه، وقد نص الشافعي على أن الاولى أولى كذا في الفتح. وقد وقع الخلاف هل يكون التتريب في الغسلات السبع أو خارجا عنها؟ وظاهر حديث عبد الله بن مغفل أنه خارج عنها وهو أرجح من غيره لما عرفت فيما تقدم. قوله: ما بالهم وبال الكلاب فيه دليل على تحريم قتل الكلاب، وقد اشتهر في السنة إذنه (ص) بقتل الكلاب، وسبب ذلك كما في صحيح مسلم أنه وعده جبريل
[ 47 ]
عليه السلام أن يأتيه فلم يأته، فقال النبي (ص): أما والله ما أخلفني فظل رسول الله (ص) يومه ذلك ثم وقع في نفسه جرو وكلب تحت فسطاط فأمر به فأخرج، فأتاه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة، فقال: أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب، فأصبح رسول الله (ص) فأمر بقتل الكلاب ثم ثبت عنه (ص) النهي عن قتلها ونسخه، وقد عقد الحازمي في الاعتبار لذلك بابا، وثبت عنه (ص) الترخيص في كلب الصيد والزرع والماشية والمنع من اقتناء غير ذلك وقال: من اقتنى كلبا ليس كلب صيد ولا ماشية نقص من عمله كل يوم قيراط وثبت عنه الامر بقتل الكلب الاسود البهيم ذي النقطتين وقال: إنه شيطان وللبحث في هذا موطن آخر ليس هذا محله فلنقتصر على هذا المقدار، وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في أبواب الصيد. باب الحت والقرص والعفو عن الاثر بعدهما عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي (ص) فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع؟ فقال: تحته ثم تقرضه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه متفق عليه. قوله جاءت امرأة في رواية للشافعي أنها أسماء، قال في الفتح: وأغرب النووي فضعف هذه الرواية بلا دليل وهي صحيحة الاسناد لا علة لها. ولا بعد في أن يبهم الراوي اسم نفسه. قوله: من دم الحيضة بفتح الحاء أي الحيض قاله النووي. قوله: تحته بفتح الفوقانية وضم المهملة وتشديد المثناة الفوقانية أي تحكه. وكذا رواه ابن خزيمة والمراد بذلك: إزالة عينه. قوله: ثم تقرصه بفتح أوله وإسكان القاف وضم الراء والصاد المهملتين، وحكى القاضي عياض وغيره فيه ضم المثناة من فوق وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة، أي تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل بذلك. ويخرج ما يشربه الثوب منه، ومنه تقريص العجين، قاله أبو عبيدة. وسئل الاخفش عنه فضم إصبعيه الابهام والسبابة وأخذ شيئا من ثوبه بهما وقال: هكذا تفعل بالماء في موضع الدم، وورد في رواية ذكر الغسل مكان القرص. روى ذلك الشيخ تقي الدين من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء قالت: سمعت رسول الله (ص) وسألته امرأة عن دم الحيض يصيب ثوبها فقال: اغسليه وأخرجه الشافعي من حديث سفيان عن هشام عن فاطمة عن أسماء قالت: سألت رسول الله (ص) عن دم الحيضة يصيب
[ 48 ]
الثوب فقال: حتيه ثم اقرصيه بالماء ورشيه وصلي فيه ورعن مالك عن هشام بلفظ: أن امرأة سألت ورواه ابن ماجه بلفظ: اقرصيه واغسليه وصلي فيه وابن أبي شيبة بلفظ: اقرصيه بالماء واغسليه وصلي فيه وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن أنها سألت رسول الله (ص) عن دم الحيضة يصيب الثوب فقال: حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة ولا أعلم له علة، والصلع بفتح الصاد المهملة وإسكان اللام ثم عين هو الحجر، ذكره الحافظ في التلخيص عن ابن دقيق العبد قال: وقال ووقع في بعض المواضع بكسر الضاد المعجمة، ولعله تصحيف لانه لا معنى يقتضي تخصيص الضلع بذلك، لكن قال الصغاني في العباب في مادة ضلع بالمعجمة، وفي الحديث: حتيه بضلع قال ابن الاعرابي: الضلع ههنا العود الذي فيه الاعوجاج، وكذا ذكره الازهري في مادة الضاد المعجمة. قوله: ثم تنضحه بفتح الضاد المعجمة أي تغسله قاله الخطابي، وقال القرطبي: المراد به الرش لان غسل الدم استفيد من قوله تقرصه، وأما النضح فهو لما شكت فيه من الثوب قال في الفتح: وعلى هذا فالضمير في تنضحه يعود على الثوب، بخلاف حتيه فإنه يعود على الدم فيلزم منه اختلاف الضمائر وهو على خلاف الاصل، ثم إن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئا، لانه إن كان طاهرا فلا حاجة إليه، وإن كان متنجسا لم يتطهر بذلك، فالاحسن ما قاله الخطابي الحديث فيه دليل على أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات، قاله الخطابي والنووي، قال في الفتح: لان جميع النجاسات بمثابة الدم ولا فرق بينه وبينها إجماعا. قال: وهو قول الجمهور أي تعين الماء لازالة النجاسة. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر وهو مذهب الداعي من أهل البيت، واحتجوا بقول عائشة: ما كان لاحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه فإذا أصابه شئ من دم الحيض، قالت بريقها فمصعته بظفرها. وأجيب بأنها ربما فعلت ذلك تحليلا لاثره ثم غسلته بعد ذلك، والحق أن الماء أصل في التطهير لوصفه بذلك كتابا وسنة وصفا مطلقا غير مقيد، لكن القول بتعينه وعدم إجزاء غيره يرده حديث مسح النعل وفرك المني وحته وإماطته بأذخرة وأمثال ذلك كثير، ولم يأت دليل يقضي بحصر التطهير في الماء، ومجرد الامر به في بعض النجاسات لا يستلزم الامر به مطلقا، وغايته تعينه في ذلك المنصوص بخصوصه إن سلم. فالانصاف أن يقال إنه يطهر كل فرد من أفراد النجاسة المنصوص على تطهيرها، بما اشتمل عليه النص إن كان فيه إحالة على فرد من أفراد المطهرات، لكنه إن كان ذلك
[ 49 ]
الفرد المحال عليه هو الماء فلا يجوز العدول إلى غيره للمزية التي اختص بها وعدم مساواة غيره له فيها، وإن كان ذلك الفرد غير الماء جاز العدول عنه إلى الماء لذلك، وإن وجد فرد من أفراد النجاسة لم يقع من الشارع إلا حالة في تطهيره على فرد من أفراد المطهرات، بل مجرد الامر بمطلق التطهير، فالاقتصار على الماء هو اللازم لحصول الامتثال به بالقطع وغيره مشكوك فيه، وهذه طريقة متوسطة بين القولين لا محيص عن سلوكها. (فإن قلت): مجرد وصف الماء بمطلق الطهورية لا يوجب له المزية، فإن التراب يشاركه في ذلك. قلت: وصف التراب بالطهورية مقيد بعدم وجدان الماء بنص القرآن فلا مشاركة بذلك الاعتبار (واعلم) أن دم الحيض نجس بإجماع المسلمين كما قال النووي: وللحديث فوائد منها ما يأتي بيانه في باب الحيض، ومنها ما ذكره المصنف ههنا فقال: وفيه دليل على أن دم الحيض لا يعفى عن يسيره وإن قل لعمومه، وإن طهارة السترة شرط للصلاة، وأن هذه النجاسة وأمثالها لا يعتبر فيها تراب ولا عدد، وأن الماء متعين لازالة النجاسة اه. وقد عرفت ما سلف. وعن أبي هريرة: أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه، قال: فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه، قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره؟ قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره. رواه أحمد وأبو داود. وعن معاذة قالت: سألت عائشة عن الحائض يصيب ثوبها الدم فقالت تغسله، فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشئ من صفرة، قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله (ص) ثلاث حيض جميعا لا أغسل لي ثوبا. رواه أبو داود. الحديث الاول أخرجه الترمذي أيضا، وأخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي من طريقين عن خولة بنت يسار وفيه ابن لهيعة. قال إبراهيم الحربي: لم يسمع بخولة بنت يسار إلا في هذا الحديث، قال ابن حجر: وإسناده ضعيف. ورواه الطبراني في الكبير من حديث خولة بنت حكيم الانصارية. قال ابن حجر أيضا: وإسناده أضعف من الاول. والحديث الثاني أخرجه أيضا الدارمي. قوله: ولا يضرك أثره استدل به على عدم وجوب استعمال الحواد وهو مذهب الناصر والمنصور بالله وكثير من أصحاب الشافعي وأكثر أصحاب أبي حنيفة. وذهب الشافعي ورواه الامام يحيى عن العترة إلى أنه يجب استعمال الحاد المعتاد لما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن مرفوعا بلفظ: حكيه بضلع
[ 50 ]
واغسليه بماء وسدر. قال ابن القطان: إسناده في غاية الصحة. وأجيب بأنه لا يفيد المطلوب لان الحك إنما هو الفرك بالاصابع والنزاع في غيره، ويرد بأن آخر الحديث وهو قوله: واغسليه بماء وسدر يدل على وجوب استعمال الحاد. وكذلك قوله في حديث عائشة المذكور فلتغيره بشئ من صفرة وأجيب بأن التغيير ليس بإزالة، ويؤيده ما في آخر الحديث من قولها: ولقد كنت أحيض عند رسول الله (ص) ثلاث حيض لا أغسل ويرد بأن مجرد استعمال الصفرة يفيد المطلوب كاستعمال السدر. وقيل: يكون استعمال الحواد مندوبا جمعا بين الادلة. ويستفاد من قوله: لا يضرك أثره أن بقاء أثر النجاسة الذي عسرت إزالته لا يضر، لكن بعد التغيير بزعفران أو صفرة أو غيرهما حتى يذهب لون الدم لانه مستقذر، وربما نسبها من رآه إلى التقصير في إزالته. قوله: لا أغسل لي ثوبا فيه دليل على أن ما كان الاصل فيه الطهارة فهو باق على طهارته حتى تظهر فيه نجاسة فيجب غسلها. باب تعين الماء لازالة النجاسة عن عبد الله بن عمر: أن أبا ثعلبة قال: يا رسول الله أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها، قال: إذا اضطررتم، إليها فاغسلوها بالماء واطبخوا فيها رواه أحمد. وعن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل الكتاب فنطبخ في قدورهم ونشرب في آنيتهم، فقال رسول الله (ص): إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. والرحض الغسل. الحديث الثاني يشهد لصحة الحديث الاول، وهو متفق عليه من حديث أبي ثعلبة بلفظ: قال قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وفي رواية لاحمد وأبي داود: إن أرضنا أرض أهل الكتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم قال: إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء واطبخوا فيها واشربوا وفي لفظ للترمذي: فقال أنقوها غسلا واطبخوا فيها. وقد استدل المصنف رحمه الله بما ذكره في الباب على أنه يتعين الماء لازالة النجاسة وكذلك فعل غيره، ولا يخفاك أن مجرد الامر به لازالة خصوص هذه النجاسة لا يستلزم أنه يتعين لكل نجاسة، فالتنصيص عليه في هذه النجاسة الخاصة لا ينفي أجزاء ما عداه من
[ 51 ]
المطهرات فيما عداها، فلا حصر على الماء ولا عموم باعتبار المغسول، فأين دليل التعين المدعى. وقد تقدم في باب الحت والقرص ما هو الحق. وقد استدل بالحديث أيضا على نجاسة الكفار، وقد تقدم في باب طهارة الماء المتوضأ به ما فيه كفاية. وسيأتي لذلك مزيد تحقيق إن شاء الله في باب آنية الكفار. باب تطهير الارض النجسة بالمكاثرة عن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به فقال النبي (ص): دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين رواه الجماعة إلا مسلما. قوله: قام أعرابي قال الحافظ في الفتح: زاد ابن عيينة عند الترمذي وغيره في أوله أنه صلى ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال النبي (ص): لقد تحجرت واسعا فلم يلبث أن بال في المسجد وقد أخرج هذه الزيادة البخاري في الادب من صحيحه. وروى ابن ماجة الحديث تاما من حديث أبي هريرة، وحديث واثلة بن الاسقع. وأخرجه أبو موسى المديني أيضا من رواية سليمان بن يسار. والاعرابي المذكور قيل هو ذو الخويصرة اليماني ذكره أبو موسى المديني. وقيل هو الاقرع بن حابس التميمي حكاه التاريخي عن عبد الله بن نافع المدني. وقيل هو عيينة بن حصن قاله أبو الحسين بن فارس. قوله: ليقعوا به في رواية عند البخاري فزجره الناس. وفي أخرى له فثار إليه الناس. وفي أخرى له أيضا فتناوله الناس. وله أيضا من حديث أنس فقال الصحابة: مه مه سيأتي. وللبيهقي: فصاح به الناس وكذا النسائي. قوله: سجلا بفتح المهملة وسكون الجيم. قال أبو حاتم السجستاني، هو الدلو ملاى ولا يقال لها ذلك وهي فارغة. وقال ابن دريد: السجل دلو واسعة، وفي الصحاح: الدلو الضخمة، وقد تقدم إشارة إلى بعض هذا في أول الكتاب. قوله: أو ذنوبا قال الخليل: هو الدلو ملاى. وقال ابن فارس: الدلو العظيمة. وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من المل ء ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب فتكون أو للشك من الراوي أو للتخيير، والمراد بقوله: من ماء مع أن الذنوب من شأنها ذلك رفع الاشتباه، لان الذنوب مشترك بينه وبين الفرس الطويل وغيرهما. قوله: فإنما بعثتم إسناد البعث إليهم على طريق المجاز لانه هو المبعوث (ص) بما ذكر، لكنهم لما كانوا
[ 52 ]
في مقام التبليغ عنه في حضوره وغيبته أطلق عليهم ذلك. أو هم مبعوثون من قبله بذلك أي مأمورون، وكان ذلك شأنه (ص) في حق كل من بعثه إلى جهة من الجهات يقول: يسروا ولا تعسروا. وفي الحديث دليل على أن الصب مطهر للارض ولا يجب الحفر خلافا للحنفية روى ذلك عنهم النووي. والمذكور في كتبهم أن ذلك مختص بالارض الصلبة دون الرخوة، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني من حديث أنس بلفظ: احفروا مكانه ثم صبوا عليه وأعله بتفرد عبد الجبار به دون أصحاب ابن عيينة الحفاظ. وكذا رواه سعيد بن منصور من حديث عبد الله بن معقل بن مقرن المزني وهو تابعي مرفوعا بلفظ: خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء قال أبو داود: روي مرفوعا يعني موصولا ولا يصح وكذا رواه الطحاوي مرسلا وفيه: واحفروا مكانه قال الحافظ في التلخيص: إن الطريق المرسلة مع صحة إسنادها إذا ضمت إلى أحاديث الباب أوجدت قوة ولها إسنادان موصولان أحدهما عن أبي مسعود رواه الدارمي والدارقطني. ولفظه: فأمر بمكانه فاحتفر وصب عليه دلو من ماء وفيه سمعان بن مالك وليس بالقوي قاله أبو زرعة، وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة وهو حديث منكر وكذا قال أحمد. وقال أبو حاتم: لا أصل له. وثانيهما عن وائلة بن الاسقع رواه أحمد والطبراني وفيه عبيد الله بن أبي حميد الهذلي وهو منكر الحديث، قاله البخاري وأبو حاتم. واستدل بحديث الباب أيضا على نجاسة بول الآدمي وهو مجمع عليه. وعلى أن تطهير الارض المتنجسة يكون بالماء لا بالجفاف بالريح أو الشمس، لانه لو كفى ذلك لما حصل التكليف بطلب الماء وهو مذهب العترة والشافعي ومالك وزفر. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: هما مطهران لانهما يحيلان الشئ، وكذا قال الخراسانيون من الشافعية في الظل واستدلوا بحديث: زكاة الارض يبسها ولا أصل له في المرفوع. وقد رواه ابن أبي شيبة من قول محمد بن علي الباقر، ورواه عبد الرزاق من قول أبي قلابة بلفظ: جفاف الارض طهورها وفي الحديث أيضا دليل على جواز التمسك بالعموم إلى أن يظهر الخصوص، إذ لم ينكر (ص) على الصحابة ما فعلوه مع الاعرابي بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة. وفيه أيضا دليل على ما أشار إليه المصنف رحمه الله من أن الارض تطهر بالمكاثرة. وعلى الرفق بالجاهل في التعليم. وعلى الترغيب في التيسير والتنفير عن
[ 53 ]
التعسير. وعلى احترام المساجد وتنزيهها لان النبي (ص) قررهم على الانكار وإنما أمرهم بالرفق. وعن أنس بن مالك قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله (ص) إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله (ص): مه مه، قال: فقال رسول الله (ص): لا تزرموه دعوه فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله (ص) دعاه ثم قال: إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عزوجل والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله (ص) قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه متفق عليه، لكن ليس للبخاري فيه أن هذه المساجد إلى تمام الامر بتنزيهها. وقوله: لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله. قوله: أعرابي هو الذي يسكن البادية وقد سبق الخلاف في اسمه. قوله: مه مه اسم فعل مبني على السكون معناه اكفف. قال صاحب المطالع: هي كلمة زجر أصلها ما هذا، ثم حذف تخفيفا، وتقال مكررة ومفردة. ومثله به به بالباء الموحدة، وقال يعقوب هي لتعظيم الامر كبخ بخ، وقد تنون مع الكسر، وينون الاول ويكسر الثاني بغير تنوين، وكذا ذكره غير صاحب المطالع. قوله: لا تزرموه بضم التاء الفوقية وإسكان الزاي بعدها راء أي لا تقطعوه. والازرام القطع. قوله: إن هذه المساجد الخ مفهوم الحصر مشعر بعدم جواز ما عدا هذه المذكورة من الاقذار والقذى والبصاق ورفع الصوت والخصومات والبيع والشراء وسائر العقود، وإنشاد الضالة والكلام الذي ليس بذكر، وجميع الامور التي لا طاعة فيها، وأما التي فيها طاعة كالجلوس في المسجد للاعتكاف والقراءة للعلم وسماع الموعظة وانتظار الصلاة ونحو ذلك فهذه الامور وإن لم تدخل في المحصور فيه لكنه أجمع المسلمون على جوازها كما حكاه النووي، فيخصص مفهوم الحصر بالامور التي فيها طاعة لائقة بالمسجد لهذا الاجماع، وتبقى الامور التي لا طاعة فيها داخلة تحت المنع. وحكى الحافظ في الفتح الاجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به، قال: ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها خلاف الاولى. قوله: فجاء بدلو فشنه عليه يروى بالشين المعجمة والسين المهملة. قال النووي: وهو في أكثر الاصول والروايات بالمعجمة. ومعناه صبه. وفرق بعض العلماء بينهما فقال هو بالمهملة الصب بسهولة، وبالمعجمة التفريق في صبه، وقد تقدم الكلام على فقه الحديث. قال المصنف رحمه الله:
[ 54 ]
وفيه دليل على أن النجاسة على الارض إذا استهلكت بالماء فالارض والماء طاهران، ولا يكون ذلك أمرا بتكثير النجاسة في المسجد انتهى. باب ما جاء في أسفل النعل تصيبه النجاسة عن أبي هريرة: أن رسول الله (ص) قال: إذا وطئ أحدكم بنعله الاذى، فإن التراب له طهور وفي لفظ: إذا وطئ الاذى بخفيه فطهورهما التراب رواهما أبو داود. وعن أبي سعيد أن النبي (ص) قال: إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالارض ثم ليصل فيهما رواه أحمد وأبو داود. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن السكن والحاكم والبيهقي، واختلف فيه على الاوزاعي، ورواه ابن ماجه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: الطريق يطهر بعضها بعضا وإسناده ضعيف، والرواية الاولى المذكورة في حديث الباب في إسنادها مجهول لان أبا داود رواها بسنده إلى الاوزاعي قال: انبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة ولم يسم الاوزاعي شيخه. والرواية الثانية منه فيها محمد بن عجلان، وقد أخرج له البخاري في الشواهد ومسلم في المتابعات ولم يحتجا به، وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه غير واحد، ولعله الرجل الذي أبهمه الاوزاعي في الرواية الاولى، لان أبا داود قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن كثير يعني الصنعاني عن الاوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. وحديث أبي سعيد أخرجه الحاكم وابن ان، واختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول. وفي الباب عن أم سلمة عند الاربعة بلفظ: يطهره ما بعده وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف. وعن امرأة من بني عبد الاشهل عند البيهقي كلها هذه الاحاديث في معنى حديث أبي هريرة. وورد في معنى حديث أبي سعيد أحاديث منها عند الحاكم من حديث أنس، وعنده أيضا من حديث ابن مسعود. وعند الدارقطني من حديث ابن عباس وإسناده ضعيف. وعند الدارقطني أيضا من حديث عبد الله بن الشخير وإسناده ضعيف أيضا. وعند البزار من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف معلول، وهذه الروايات يقوي بعضها بعضا فتنتهض للاحتجاج بها، وعلى أن النعل يطهر بدلكه في الارض رطبا أو يابسا. وقد ذهب إلى ذلك الاوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف والظاهرية أبو ثور وإسحاق
[ 55 ]
وأحمد في رواية وهي إحدى الروايتين عن الشافعي. وذهبت العترة والشافعي ومحمد إلى أنه لا يطهر بالدلك لا رطبا ولا يابسا. وذهب الاكثر إلى أنه يطهر بالدلك يابسا لا رطبا. وقد احتج للآخرين في البحر بحجة واهية جدا، فقال بعد ذكر الحديثين السابقين: قلنا محتملان للرطبة والجافة. فتعين الموافق للقياس وهي الجافة والثاني لا يسلم كالثوب. قال صاحب المنار: حاصل كلام المصنف إلغاء الحديث انتهى. والظاهر أنه لا فرق بين أنواع النجاسات، بل كل ما علق بالنعل مما يطلق عليه اسم الاذى، فطهوره مسحه بالتراب. قال ابن رسلان في شرح السنن: الاذى في اللغة هو المستقذر طاهرا كان أو نجسا انتهى. ويدل على التعميم ما في الرواية الاخرى حيث قال: فإن رأى خبثا فإنه لكل مستخبث، ولا فرق بين النعل والخف للتنصيص على كل واحد منهما في حديثي الباب، ويلحق بهما كل ما يقوم مقامهما لعدم الفارق. قوله: ثم ليصل فيهما سيأتي الكلام على الصلاة في النعلين في باب مستقل من كتاب الصلاة إن شاء الله. باب نضح بول الغلام إذا لم يطعم عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله (ص) فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله رواه الجماعة. وعن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رسول الله (ص) قال: بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل. قال قتادة: وهذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا جميعا، رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. وعن عائشة قالت: أتي رسول الله (ص) بصبي يحنكه فبال عليه فأتبعه الماء رواه البخاري وكذلك أحمد وابن ماجه وزاد: ولم يغسله. ولمسلم: كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتي بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله. وعن أبي السمح خادم رسول الله (ص) قال: قال النبي (ص): يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وعن أم كرز الخزاعية قالت: أتي النبي (ص): بغلام فبال عليه فأمر به فنضح، وأتي بجارية فبالت عليه فأمر به فغسل رواه أحمد. وعن أكرز أن النبي (ص) قال: بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل رواه ابن ماجه وعن أم الفضل لبابة بنت الحرث قالت: بال الحسين بن علي في حجر النبي (ص)
[ 56 ]
فقلت: يا رسول الله أعطني ثوبك والبس ثوبا غيره حتى أغسله، فقال: إنما ينضح من بول الذكر ويغسل من بول الانثى رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. حديث علي أخرجه أيضا أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح لانه من طريق هشام عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الاسود عن أبيه عنه. وأخرجه أيضا أبو داود موقوفا من حديث مسدد عن يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة بالاسناد السابق إلى علي موقوفا بلفظ: يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم وأخرجه أيضا مرفوعا من حديثه بدون ما لم يطعم وجعله من قول قتادة. وكذلك أخرج عن أم سلمة أنها كانت تصب على بول الغلام ما لم يطعم، فإذا طعم غسلته، وكانت تغسل بول الجارية، وحديث أبي السمح أخرجه أيضا البزار وابن خزيمة من حديثه بلفظ: كنت أخدم رسول الله (ص) فأتى بحسن أو بحسين فبال على صدره فجئت أغسله فقال يغسل الحديث. وصححه الحاكم، قال أبو زرعة والبزار: ليس لابي السمح غير هذا الحديث ولا يعرف اسمه وقال البخاري: حديث حسن، وحديث أم كرز الاول والثاني في إسنادهما انقطاع لانهما من طريق عمرو بن شعيب عنها ولم يدركها، وقد اختلف فيه على عمرو بن شعيب فقيل عنه عن أبيه عن جده كما رواه الطبراني، وحديث أم الفضل أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والطبراني. قوله: لم يأكل الطعام المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرضعه، والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة وغير ذلك وقيل: المراد بالطعام ما عدا اللبن فقط، ذكر الاول النووي في شرح مسلم وشرح المهذب وأطلق في الروضة تبعا لاصلها الثاني، وقال في نكت التنبيه: إن لم يأكل غير اللبن وغير ما يحنك به وما أشبهه، وقيل: لم يأكل أي لم يستقل بجعل الطعام في فيه، ذكره الموفق الحموي في شرح التنبيه، قال الحافظ ابن حجر: والاول أظهر وبه جزم الموفق ابن قدامة وغيره، قال ابن التين: يحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوت بالطعام ولم يستغن به عن الرضاع، ويحتمل أنها إنما جاءت به عند ولادته ليحنكه (ص) فيحمل النفي على عمومه. قوله: على ثوبه أي ثوب النبي (ص) وأغرب ابن شعبان من المالكة فقال: المراد به ثوب الصبي. قوله: فنضحه في صحيح مسلم من طريق الليث عن ابن شهاب فلم يزد على أن نضح بالماء. وله من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب فرشه زاد أبو عوانة في صحيحه عليه. قال الحافظ: ولا تخالف بين الروايتين أي بين نضح ورش، لان المراد به أن الابتداء كان بالرش وهو تنفيض الماء فانتهى إلى النضح وهو صب الماء. ويؤيده رواية مسلم في حديث عائشة من
[ 57 ]
طريق جرير عن هشام فدعا بماء فصبه عليه ولابي عوانة فصبه على البول يتبعه إياه انتهى. والذي في النهاية والكشف والقاموس أن النضح الرش. قوله: ولم يغسله ادعى الاصيلي أن هذه الجملة من كلام ابن شهاب راوي الحديث، وأن المرفوع انتهى عند فنضحه. قال: وكذلك روى معمر عن ابن شهاب، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة قال: فرشه لم يزد. قال الحافظ في الفتح: وليس في سياق معمر ما يدل على ما ادعاه من الادراج، وقد أخرجه عبد الرزاق بنحو سياق مالك لكنه لم يقل: ولم يغسله وقد قالها مع ذلك الليث وعمرو بن الحرث ويونس بن يزيد كلهم عن ابن شهاب، أخرجه ابن خزيمة والاسماعيلي وغيرهما من طريق ابن وهب عنهم وهو لمسلم عن يونس وحده، نعم زاد معمر في روايته قال ابن شهاب: فمضت السنة أن يرش بول الصبي ويغسل بول الجارية، فلو كانت هذه الزيادة هي التي زادها مالك ومن تبعه لامكن دعوى الادراج لكنها غيرها فلا إدراج. وأما ما ذكره عن ابن أبي شيبة فلا اختصاص له بذلك، فإن ذلك لفظ رواية ابن عيينة عن ابن شهاب، وقد ذكرناها عن مسلم وغيره، وبينا أنها غير مخالفة لرواية مالك. قوله: بول الغلام الرضيع هذا تقييد للفظ الغلام بكونه رضيعا، وهكذا يكون تقييدا للفظ الصبي والصغير والذكر الواردة في بقية الاحاديث. وأما لفظ ما لم يطعم فقد عرفت عدم صلاحيته لذلك لانه ليس من قوله (ص). وقد شذ ابن حزم فقال: إنه يرش من بول الذكر أي ذكر كان، وهو إهمال للقيد الذي يجب حمل المطلق عليه كما تقرر في الاصول. ورواية الذكر مطلقة، وكذلك رواية الغلام فإنه كما قال في القاموس لمن طر شاربه أو من حين يولد إلى أن يشب، وقد ثبت إطلاقه على من دخل في سن الشيخوخة. ومنه قول علي عليه السلام في يوم النهروان: [ شع ] أنا الغلام القرشي المؤتمن أبو حسين فاعلمن والحسن [ / شع ] وهو إذ ذاك في نحو ستين سنة. ومنه أيضا قول ليلى الاخيلية في مدح الحجاج أيام أمارته على العراق: [ شع ] شفاها من الداء العضال الذي بها * غلام إذا هز القناة سقاها [ / شع ] ولكنه مجاز، قال الزمخشري في أساس البلاغة: إن الغلام هو الصغير إلى حد الالتجاء، فإن قيل له بعد ذلك غلام فهو مجاز. قوله: بصبي قال الحافظ: يظهر لي أنه ابن أم قيس، ويحتمل أن يكون الحسن بن علي أو الحسين، فقد روى الطبراني في الاوسط من حديث أم سلمة بإسناد حسن قالت: بال الحسن أو الحسين على بطن رسول الله (ص) فتركه حتى قضى بوله ثم دعا بماء فصبه عليه ولاحمد عن أبي ليلى نحوه. ورواه الطحاوي
[ 58 ]
من طريقه قال: فجئ بالحسن ولم يتردد. وكذا للطبراني عن أبي أمامة ورجح الحافظ أنه غيره. قوله: فاتبعه بإسكان المثناة من فوق أي أتبع رسول الله (ص) البول الذي على الثوب الماء. قوله: يحنكه قال أهل اللغة: التحنيك أن تمضغ التمر أو نحوه ثم تدلك به حنك الصغير. قوله: فيبرك عليهم أي يدعو لهم أو يمسح عليهم. وأصل البركة ثبوت الخير وكثرته. وقد استدل بأحاديث الباب على أن بول الصبي يخالف بول الصبية في كيفية استعمال الماء، وأن مجرد النضح يكفي في تطهير بول الغلام، وقد اختلف الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب: الاول الاكتفاء بالنضح في بول الصبي لا الجارية وهو قول علي عليه السلام وعطاء والحسن والزهري وأحمد وإسحاق وابن وهب وغيرهم، وروي عن مالك وقال أصحابه: هي رواية شاذة، ورواه ابن حزم أيضا عن أم سلمة والثوري والاوزاعي والنخعي وداود وابن وهب. والثاني يكفي النضح فيهما وهو مذهب الاوزاعي وحكي عن مالك والشافعي، والثالث هما سواء في جواب الغسل وهو مذهب العترة والحنفية وسائر الكوفيين والمالكية. وأحاديث الباب ترد المذهب الثاني والثالث، وقد استدل في البحر لاهل المذهب الثالث بحديث عمار المشهور وفيه: إنما تغسل ثوبك من البول الخ وهو مع اتفاق الحفاظ على ضعفه لا يعارض أحاديث الباب لانها خاصة وهو عام، وبناء العام على الخاص واجب، ولكن جماعة من أهل الاصول منهم مؤلف البحر لا يبنون العام على الخاص إلا مع المقارنة أو تأخر الخاص، وأما مع الالتباس كمثل ما نحن بصدده فقد حكى بعض أئمة الاصول أنه يبنى العام على الخاص اتفاقا، وصرح صاحب البحر أن الواجب الترجيح مع الالتباس، ولا يشك من له أدنى إلمام بعلم الحديث أن أحاديث الباب أرجح وأصح من حديث عمار، وترجيحه لحديث عمار بالظهور غير ظاهر، وقد جزم صاحب البحر في المعيار، وشرحه بأن الواجب مع الالتباس الاطراح فتخالف كلامه. وجزم صاحب المنار بأن العام متقدم والخاص متأخر ولم يذكر لذلك دليلا يشفي. وأما الحنفية والمالكية فاستدلوا لما ذهبوا إليه بالقياس، فقالوا: المراد بقوله: ولم يغسله أي غسلا مبالغا فيه وهو خلاف الظاهر، ويبعده ما ورد في الاحاديث من التفرقة بين بول الغلام والجارية فإنهم لا يفرقون بينهما. والحاصل أنه لم يعارض أحاديث الباب شئ يوجب
[ 59 ]
الاشتغال به. باب الرخصة في بول ما يؤكل لحمه عن أنس بن مالك أن رهطا من عكل أو قال عرينة قدموا فاجتووا المدينة فأمر لهم رسول الله (ص) بلقاح وأمرهم أن يخرجوا فيشربوا من أبوالها وألبانها متفق عليه. اجتووها أي استوخموها. وقد ثبت عنه أنه قال: صلوا في مرابض الغنم. قوله: من عكل بضم المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم. قوله: أو عرينة بالعين والراء المهملتين مصغرا حي من قضاعة وحي من بجيلة، والمراد هنا الثاني، كذا ذكره. موسى بن عقبة في المغازي والشك من حماد. ورواه البخاري في المحاربين عن حماد أن رهطا من عكل، أو قال من عرينة قال: ولا أعلمه إلا قال من عكل. ورواه في الجهاد عن وهيب عن أيوب أن رهطا من عكل ولم يشك. وفي الزكاة رواه من طريق شعبة عن قتادة أن ناسا من عرينة ولم يشك أيضا. وكذا لمسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس. ورواه أيضا البخاري في المغازي عن قتادة من عكل وعرينة بالواو العاطفة، قال الحافظ: وهو الصواب، ويؤيده ما رواه أبو عوانة والطبراني من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل. وزعم ابن التين تبعا للداودي أن عرينة هم عكل وهو غلط بل هما قبيلتان متغايرتان، فعكل من عدنان وعرينة من قحطان. قوله: فاجتووا قال ابن فارس: اجتويت المدينة إذا كرهت المقام فيها وإن كنت في نعمة. وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالاقامة وهو المناسب لهذه القصة. وقيل: الاجتواء عدم الموافقة في الطعام ذكره القزاز، وقيل: داء من الوباء ذكره ابن العربي. وقيل: داء يصيب الجوف والاجتواء بالجيم. قوله: فأمر لهم بلقاح بلام مكسورة فقاف فحاء مهملة، النوق ذوات اللبن واحدتها لقحة بكسر اللام وإسكان القاف. قال أبو عمرو: يقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر ثم هي لبون، واللقاح المذكورة ظاهر الروايات أنها للنبي (ص). وثبت في رواية للبخاري في الزكاة من طريق شعبة عن قتادة بلفظ: فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة قال الحافظ: والجمع بينهما أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة وصادف بعث رسول (ص) بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج. قوله: أن يخرجوا فيشربوا في رواية للبخاري: وأن يشربوا أي وأمرهم أن يشربوا. وفي آخرى له: فاخرجوا فاشربوا وفي أخرى له أيضا: فرخص لهم أن يأتوا فيشربوا. قوله: وقد ثبت الخ هو ثابت من حديث جابر بن سمرة عند
[ 60 ]
مسلم. ومن حديث البراء عند أبي داود والترمذي وابن ماجه. قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم: قد صح في هذا الباب حديث البراء بن عازب وجابر بن سمرة. وقد استدل بهذا الحديث من قال بطهارة بول ما يؤكل لحمه وهو مذهب العترة والنخعي والاوزاعي والزهري ومالك وأحمد ومحمد وزفر وطائفة من السلف، ووافقهم من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والاصطخري والروياني. أما في الابل فبالنص، وأما في غيرها مما يؤكل لحمه فبالقياس. قال ابن المنذر: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الاقوام فلم يصب إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، ويؤيد ذلك تقرير أهل العلم لمن يبيع أبعار الغنم في أسواقهم واستعمال أبوال الابل في أدويتهم ويؤيده أيضا أن الاشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة، وأجيب عن التأييد الاول بأن المختلف فيه لا يجب إنكاره، وعن الاحتجاج بالحديث بأنها حالة ضرورية، وما أبيح للضرورة لا يسمى حراما وقت تناوله لقوله تعالى: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) * (الانعام: 119) ومن أدلة القائلين بالطهارة، حديث الاذن بالصلاة في مرابض الغنم السابق. وأجيب عنه بأنه معلل بأنها لا تؤذي كالابل، ولا دلالة فيه على جواز المباشرة، والالزام نجاسة أبوال الابل وبعرها للنهي عن الصلاة في مباركها. ويرد هذا الجواب بأن الصلاة في مرابض الغنم، تستلزم المباشرة لآثار الخارج منها، والتعليل بكونها لا تؤذي أمر وراء ذلك، والتعليل للنهي عن الصلاة في معاطن الابل بأنها تؤذي المصلي، يدل على أن ذلك هو المانع لا ما كان في المعاطن من الابوال والبعر. واستدل أيضا بحديث لا بأس ببول ما أكل لحمه عند الدارقطني من حديث جابر والبراء مرفوعا. وأجيب بأن في إسناده عمرو بن الحصين العقيلي وهو واه جدا. قال أبو حاتم: ذاهب الحديث ليس بشئ. وقال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال الازدي: ضعيف جدا. وقال ابن عدي: حدث عن الثقات بغير حديث منكر وهو متروك. وفي إسناده أيضا يحيى بن العلاء أبو عمر البجلي الرازي قد ضعفوه جدا قاله الدارقطني، وكان وكيع شديد الحمل عليه. وقال أحمد: كذاب. وقال يحيى: ليس بثقة. وقال النسائي والازدي: متروك. واحتجوا أيضا بحديث: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم عند مسلم والترمذي وأبي داود من حديث وائل بن حجر وابن حبان والبيهقي من حديث أم سلمة، وعند الترمذي وأبي داود من حديث أبي هريرة بلفظ: نهى رسول الله (ص) عن كل دواء خبيث والتحريم يستلزم النجاسة، والتحليل يستلزم الطهارة، فتحليل التداوي بها دليل على طهارتها، فأبوال الابل وما يلحق بها طاهرة. وأجيب عنه بأنه محمول على
[ 61 ]
حالة الاختيار، وأما في الضرورة فلا يكون حراما كالميتة للمضطر، فالنهي عن التداوي بالحرام باعتبار الحالة التي لا ضرورة فيها، والاذن بالتداوي بأبوال الابل باعتبار حالة الضرورة وإن كان خبيثا حراما ولو سلم، فالتداوي إنما وقع بأبوال الابل فيكون خاصا بها، ولا يجوز إلحاق غيره به، لما ثبت من حديث ابن عباس مرفوعا: إن في أبوال الابل شفاء للذربة بطونهم ذكره في الفتح، والذرب فساد المعدة فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه، على أن حديث تحريم التداوي بالحرام وقع جواب من سأل عن التداوي بالخمر كما في صحيح مسلم وغيره، ولا يجوز إلحاق غير المسكر به من سائر النجاسات، لان شرب المسكر يجر إلى مفاسد كثيرة، ولانهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء فجاء الشرع بخلاف ذلك، ويجاب بأنه قصر للعام على السبب بدون موجب، والمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب. واحتج القائلون بنجاسة جميع الابوال والازبال وهم الشافعية والحنفية ونسبه في الفتح إلى الجمهور. ورواه ابن حزم في المحلى عن جماعة من السلف بالحديث المتفق عليه أنه (ص) مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذب ان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر عن البول الحديث، قالوا: فعم جنس البول ولم يخصه ببول الانسان ولا أخرج عنه بول المأكول، وهذا الحديث غاية ما تمسكوا به. وأجيب عنه بأن المراد بول الانسان لما في صحيح البخاري بلفظ: كان لا يستتر من بوله قال البخاري: ولم يذكر سوى بول الناس فالتعريف في البول للعهد، قال ابن بطال: أراد البخاري أن المراد بقوله: كان لا يستتر من البول بول الانسان لا بول سائر الحيوان، فلا يكون فيه حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان، وكأنه أراد الرد على الخطابي حيث قال فيه دليل على نجاسة الابوال كلها، قال في الفتح: ومحصل الرد أن العموم في رواية من البول أريد به الخصوص لقوله: من بوله أو الالف واللام بدل من الضمير انتهى. والظاهر طهارة الابوال والازبال من كل حيوان يؤكل لحمه تمسكا بالاصل واستصحابا للبراءة الاصلية، والنجاسة حكم شرعي ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الاصل والبراءة، فلا يقبل قول مدعيها إلا بدليل يصلح للنقل عنهما، ولم تجد للقائلين بالنجاسة دليلا كذلك، وغاية ما جاؤوا به حديث صاحب القبر وهو مع كونه مرادا به الخصوص كما سلف عموم ظني الدلالة لا ينتهض على معارضة تلك الادلة المعتضدة بما سلف. وقد طول ابن حزم الظاهري في المحلى الكلام على هذه المسألة بما لم نجده لغيره، لكنه لم يدل بحثه على غير حديث صاحب القبر (فإن قلت): إذا كان الحكم بطهارة بول ما يؤكل لحمه وزبله لما تقدم حتى يرد
[ 62 ]
دليل فما الدليل على نجاسة بول غير المأكول وزبله على العموم؟ قلت: قد تمسكوا بحديث إنها ركس قاله (ص) في الروثة، أخرجه البخاري والترمذي والنسائي. وبما تقدم في بول الآدمي وألحقوا سائر الحيوانات التي لا تؤكل به بجامع عدم الاكل، وهو لا يتم إلا بعد تسليم أن علة النجاسة عدم الاكل، وهو منتقض بالقول بنجاسة زبل الجلالة، والدفع بأن العلة في زبل الجلالة هو الاستقذار منقوض باستلزامه لنجاسة كل مستقذر كالطاهر إذا صار منتنا، إلا أن يقال: إن زبل الجلالة هو محكوم بنجاسته لا للاستقذار، بل لكونه عين النجاسة الاصلية التي جلتها الدابة لعدم الاستحالة التامة. وأما الاستدلال بمفهوم حديث لا بأس ببول ما يؤكل لحمه المتقدم فغير صالح لما تقدم من ضعفه الذي لا يصلح معه للاستدلال به حتى قال ابن حزم: إنه خبر باطل موضوع، قال: لان في رجاله سوار بن مصعب وهو متروك عند جميع أهل النقل متفق على ترك الرواية عنه، يروي الموضوعات فالذي يتحتم القول به في الابوال والازبال هو الاقتصار على نجاسة بول الآدمي وزبله والروثة. وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير ولكنه زاد ابن خزيمة في روايته أنها ركس أنها روثة حمار. وأما سائر الحيوانات التي لا يؤكل لحمها فإن وجدت في بول بعضها أو زبله ما يقتضي إلحاقه بالمنصوص عليه طهارة أو نجاسة ألحقته، وإن لم تجد فالمتوجه البقاء على الاصل والبراءة كما عرفت. قال المصنف رحمه الله في الكلام على حديث الباب ما لفظه: فإذا أطلق الاذن في ذلك ولم يشترط حائلا بقي من الابوال وأطلق الاذن في الشرب لقوم حديثي العهد بالاسلام جاهلين بأحكامه، ولم يأمرهم بغسل أفواههم وما يصيبهم منها لاجل صلاة ولا غيرها مع اعتيادهم شربها، دل ذلك على مذهب القائلين بالطهارة انتهى. باب ما جاء في المذي عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء أكثر منه الاغتسال فذكرت ذلك لرسول الله (ص) فقال: إنما يجزيك من ذلك الوضوء، فقلت: يا رسول الله كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه قد أصاب منه رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ورواه الاثرم ولفظه قال: كنت ألقى من المذي عناء فأتيت النبي (ص) فذكرت ذلك له فقال: يجزيك أن تأخذ حفنة من ماء
[ 63 ]
فترش عليه. وعن علي بن أبي طالب قال: كنت رجلا مذاء فاستحيت أن أسأل رسول الله (ص) فأمرت المقداد بن الاسود فسأله فقال فيه الوضوء أخرجاه. ولمسلم: يغسل ذكره ويتوضأ ولاحمد وأبي داود: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ. وعن عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله (ص) عن الماء يكون بعد الماء فقال: ذلك من المذي وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة رواه أبو داود. الحديث الاول في إسناده محمد بن إسحاق وهو ضعيف إذا عنعن لكونه مدلسا ولكنه ههنا صرح بالتحديث، وحديث عبد الله بن سعد أخرجه الترمذي وحسنه. وقال الحافظ في التلخيص: في إسناده ضعف. وفي الباب عن المقداد: أن عليا أمره أن يسأل رسول الله (ص) أخرجه أبو داود من طريق سليمان بن يسار عنه. وفي رواية لاحمد والنسائي وابن حبان أنه أمر عمار بن ياسر، وفي رواية لابن خزيمة أن عليا سأل بنفسه. وجمع بينها ابن حبان بتعدد الاسئلة. ورواه أبو داود من طريق عروة عن علي وفيه يغسل أنثييه وذكره، وعروة لم يسمع من علي لكن رواه أبو عوانة في صحيحه من طريق عبيدة عن علي بالزيادة وإسناده لا مطعن فيه. قوله: ألقى من المذي شدة في المذي لغات فتح الميم وإسكان الذال المعجمة وفتح الميم مع كسر الذال وتشديد الياء وبكسر الذال مع تخفيف الياء، فالاوليان مشهورتان أولاهما أفصح وأشهر، والثالثة حكاها أبو عمر الزاهد عن ابن الاعرابي. والمذي ماء رقيق أبيض لزج يخرج عند الشهوة بلا شهوة ولا دفق ولا يعقبه فتور وربما لا يحس بخروجه، ذكره النووي ومثله في الفتح. قوله: فتنضح به ثوبك قد سبق الكلام على معنى النضح في باب نضح بول الغلام، وهكذا ورد الامر بالنضح في الفجر عند مسلم وغيره. قال النووي: معناه الغسل فإن النضح يكون غسلا ويكون رشا. وقد جاء في الرواية الاخرى فاغسل وفي الرواية المذكورة في الباب يغسل ذكره وفي التي بعدها كذلك. وفي الاخرى: فتغسل من ذلك فرجك فتعين حمله عليه، ولكنه قد ثبت في الرواية المذكورة في الباب من رواية الاثرم بلفظ فترش عليه، وليس المصير إلى الاشد بمتعين بل ملاحظة التخفيف من مقاصد الشريعة المألوفة فيكون الرش مجزئا كالغسل. قوله: مذاء صيغة مبالغة من المذي، يقال: مذى يمذي كمضى يمضي ثلاثيا، ويقال: أمذى يمذي كأعطى يعطي، ومذى يمذي كغطى يغطي.
[ 64 ]
قوله: وأنثييه أي خصيتيه. وله: عن الماء يكون بعد الماء المراد به خروج المذي عقيب البول متصلا به. قوله: وكل فحل يمذي الفحل الذكر من الحيوان، ويمذي بفتح الياء وضمها يقال: مذى الرجل وأمذى كما تقدم. وقد استدل بأحاديث الباب على أن الغسل لا يجب لخروج المذي، قال في الفتح: وهو إجماع، وعلى أن الامر بالوضوء منه كالامر بالوضوء من البول، وعلى أنه يتعين الماء في تطهيره لقوله: كفا من ماء وحفنة من ماء واتفق العلماء على أن المذي نجس، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الامامية محتجين بأن النضح لا يزيله، ولو كان نجسا لوجبت الازالة ويلزمهم القول بطهارة العذرة لان النبي (ص) أمر بمسح النعل منها بالارض والصلاة فيها والمسح لا يزيلها وهو باطل بالاتفاق، وقد اختلف أهل العلم في المذي إذا أصاب الثوب، فقال الشافعي وإسحاق وغيرهما: لا يجزيه إلا الغسل أخذا برواية الغسل، وفيه ما سلف على أن رواية الغسل إنما هي في الفرج لا في الثوب الذي هو محل النزاع، فإنه لم يعارض رواية النضح المذكورة في الباب معارض، فالاكتفاء به صحيح مجز. واستدل أيضا بما في الباب على وجوب غسل الذكر والانثيين على الممذي، وإن كان محل المذي بعضا منهما، وإليه ذهب الاوزاعي وبعض الحنابلة وبعض المالكية، وذهبت العترة والفريقان وهو قول الجمهور، إلى أن الواجب غسل المحل الذي أصابه المذي من البدن، ولا يجب تعميم الذكر والانثيين ويؤيد ذلك ما عند الاسماعيلي في رواية بلفظ: توضأ واغسله فأعاد الضمير على المذي، ومن العجيب أن ابن حزم مع ظاهريته ذهب إلى ما ذهب إليه الجمهور وقال: إيجاب غسل كله شرع لا دليل عليه، وهذا بعد أن روي حديث فليغسل ذكره وحديث واغسل ذكرك ولم يقدم في صحتهما، وغاب عنه أن الذكر حقيقة لجميعه ومجازا لبعضه، وكذلك الانثيان حقيقة لجميعهما، فكان اللائق بظاهريته الذهاب إلى ما ذهب إليه الاولون. واختلف الفقهاء هل المعنى معقول أو هو حكم تعبدي؟ وعلى الثاني تجب النية، وقيل: الامر بغسل ذلك ليتقلص الذكر قاله الطحاوي. باب ما جاء في المني عن عائشة قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله (ص) ثم يذهب فيصلي فيه رواه الجماعة إلا البخاري: ولاحمد: كان رسول الله (ص) يسلت المني من ثوبه بعرق الاذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسا
[ 65 ]
ثم يصلي فيه وفي لفظ متفق عليه: كنت أغسله من ثوب رسول الله (ص) ثم يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء. وللدارقطني عنها: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله (ص) إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا قلت: فقد بان من مجموع النصوص جواز الامرين. وعن إسحاق بن يوسف قال: حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس قال: سئل النبي (ص) المني يصيب الثوب فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بأذخرة رواه الدارقطني وقال: لم يرفعه غير إسحاق الازرق عن شريك، قلت: وهذا لا يضر لان إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين فيقبل رفعه وزيادته. حديث عائشة لم يسنده البخاري وإنما ذكره في ترجمة باب. ولفظ أبي داود ثم يصلي فيه ولفظ الترمذي: ربما فركته من ثوب رسول الله (ص) بأصابعي وفي رواية: وإني لاحكه من ثوب رسول الله (ص) يابسا بظفري وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي والدارقطني عن عائشة: أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله (ص) وهو يصلي وأخرج أبو عوانة في صحيحه وأبو بكر البزار من حديث عائشة كنت أفرك المني من ثوب رسول الله إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا كحديث الباب وأعله البزار بالارسال. قال الحافظ: وقد ورد الامر بفركه من طريق صحيحة رواها ابن الجارود في المنتقى عن محمد بن يحيى عن أبي حذيفة عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام ابن الحرث قال: كان عند عائشة ضيف فأجنب فجعل يغسل ما أصابه فقالت عائشة: كان رسول الله (ص) يأمرنا بحته. قال: وأما الامر بغسله فلا أصل له. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا البيهقي والطحاوي مرفوعا، وأخرجه أيضا البيهقي موقوفا على ابن عباس وقال: الموقوف هو الصحيح. قوله: أفرك أي أدلك. قوله: بعرق الاذخر هو حشيش طيب الريح. قوله: كنت أغسله أي أثر الجنابة أو المني. قوله: بقع الماء هو بدل من أثر الغسل. وقد استدل بما في الباب على أنه يكتفي في إزالة المني من الثوب بالغسل أو الفرك أو الحت. وقد اختلف أهل العلم في المني فذهبت العترة وأبو حنيفة ومالك إلى نجاسته، إلا أن أبا حنيفة قال: يكفي في تطهيره
[ 66 ]
فركه إذا كان يابسا وهو رواية عن أحمد. وقالت العترة ومالك: لا بد من غسله رطبا ويابسا. وقال الليث: هو نجس ولا تعاد منه الصلاة. وقال الحسن بن صالح لا تعاد الصلاة من المني في الثوب وإن كان كثيرا، وتعاد منه إن كان في الجسد وإن قل. قال ابن حزم في المحلى: وروينا غسله عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأنس وسعيد بن المسيب، وقال الشافعي وداود: وهو أصح الروايتين عن أحمد بطهارته ونسبه النووي إلى الكثيرين وأهل الحديث قال: وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة قال: وقد غلط من أوهم أن الشافعي منفرد بطهارته احتج القائلون بنجاسته بما روى في غسله، والغسل لا يكون إلا لشئ نجس. وأجيب بأنه لم يثبت الامر بغسله من قوله (ص) في شئ من أحاديث الباب، وإنما كانت تفعله عائشة، ولا حجة في فعلها إلا إذا ثبت أن رسول الله (ص) علم بفعلها وأقرها، على أن علمه بفعلها وتقريره لها لا يدل على المطلوب، لان غاية ما هناك أنه يجوز غسل المني من الثوب وهذا مما لا خلاف فيه، بل يجوز غسل ما كان متفقا على طهارته كالطيب والتراب فكيف بما كان مستقذرا؟ وأما الاحتجاج بحديث عمار مرفوعا بلفظ: إنما تغسل الثوب من الغائط والبول والمذي والمني والدم والقئ أخرجه البزار وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما، وابن عدي في الكامل والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء، وأبو نعيم في المعرفة، فأجيب عنه بأنه الجماعة المذكورين كلهم ضعفوه، إلا أبا يعلى لان في إسناده ثابت بن حماد أتهمه بعضهم بالوضع. وقال اللالكائي: أجمعوا على ترك حديثه، وقال البزار: لا يعلم لثابت إلا هذا الحديث. وقال الطبراني انفرد به ثابت بن حماد ولا يروي عن عمار إلا بهذا الاسناد. وقال البيهقي: هذا حديث باطل إنما رواه ثابت بن حماد وهو منهم. قال الحافظ: قلت ورواه البزار والطبراني من طريق إبراهيم بن زكريا عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد، لكن إبراهيم ضعيف وقد غلط فيه إنما يرويه ثابت بن حماد انتهى. فهذا مما لا يجوز الاحتجاج بمثله. واحتج القائلون بالطهارة برواية الفرك،. ويجاب عنه بمثل ما سلف من أنه من فعل عائشة، إلا أنه إذا فرض اطلاع النبي (ص) على ذلك أفاد المطلوب وهو الاكتفاء في إزالة المني بالفرك، لان الثوب ثوب النبي (ص) وهو يصلي فيه بعد ذلك كما ثبت في الرواية المذكورة في الباب، ولو كان الفرك غير مطهر لما اكتفى به ولا صلى فيه، ولو فرض عدم اطلاع النبي (ص)
[ 67 ]
على الفرك فصلاته في ذلك الثوب كافية، لان لو كان نجسا لنبه عليه حال الصلاة بالوحي، كما نبه بالقذر الذي في النعل. وأثبت السلت للرطب والحك لليابس من فعله (ص) كما في حديث الباب، وثبت أمره بالحت وقال: إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو أذخرة وأجيب بأن ذلك لا يدل على الطهارة وإنما يدل على كيفية التطهير، فغاية الامر أنه نجس خفف في تطهيره بما هو أخف من الماء، والماء لا يتعين لازالة جميع النجاسات كما حررناه في هذا الشرح سابقا، وإلا لزم طهارة العذرة التي في النعل لان النبي (ص) أمر بمسحها في التراب ورتب على ذلك الصلاة فيها. قالوا: قال (ص): إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق والبصاق كما في الحديث السابق، وأجيب بأنه موقوف كما قال البيهقي. قالوا: الاصل الطهارة فلا تنتقل عنها إلا بدليل. وأجيب بأن التعبد بالازالة غسلا أو مسحا أو فركا أو حتا أو سلتا أو حكا ثابت، ولا معنى لكون الشئ نجسا إلا أنه مأمور بإزالته بما أحال عليه الشارع. فالصواب أن المني نجس يجوز تطهيره بأحد الامور الواردة، وهذا خلاصة ما في المسألة من الادلة من جانب الجميع. وفي المقام مطاولات ومقاولات والمسألة حقيقة بذاك، ولكنه أفضى الامر إلى تلفيق حجج واهية كالاحتجاج بتكرمة بني آدم. ويكون الآدمي طاهرا من جانب القائل بالطهارة، وكالاحتجاج بأنه فضلة مستحيلة إلى مستقذر. وبأن الاحداث الموجبة للطهارة، نجسة والمني منها، وبكونه جاريا من مجرى البول من جانب القائل بالنجاسة. وهذا الكلام في مني الآدمي، وأما مني غير الآدمي ففيه وجوه وتفصيلات مذكورة في الفروع فلا نطول بذكرها. (فائدة) صرح الحافظ في الفتح بأنه لا معارضة بين حديث الغسل والفرك، لان الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني، بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب، قال: وهذه طريقة الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث. وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطبا والفرك على ما كان يابسا، وهذه طريقة الحنفية، قال: والطريقة الاولى أرجح لان فيها العمل بالخبر والقياس معا، لانه لو كان نجسا لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره فيما لا يعفى عنه من الدم بالفرك، ويرد الطريقة الثانية أيضا ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة: كان يسلت المني من ثوبه بعرق الاذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه فإنه تضمن ترك الغسل في
[ 68 ]
الحالتين. انتهى كلامه والحق ما عرفته. باب أن ما لا نفس له سائلة لم ينجس بالموت عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه. ولاحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد نحوه. حديث أبي سعيد لفظه: في أحد جناحي الذباب سم وفي الآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام فامقلوه فيه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء وأخرجه أيضا النسائي وابن حبان والبيهقي. وفي الباب من حديث أنس نحوه عند ابن أبي خيثمة في تاريخه الكبير قال الحافظ: وإسناده صحيح. قوله: فليغمسه هذا لفظ البخاري، وعند أبي داود وابن خزيمة وابن حبان: وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله ثم لينزعه ورواه أيضا الدارمي وابن ماجه. ولفظ ابن السكن: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله أي يغمسه فإن في أحد جناحيه دواء وفي الآخر داء أو قال سما واستدل بالحديث على أن الماء القليل لا ينجس بموت ما لا نفس له سائلة فيه، إذ لم يفصل بين الموت والحياة، وقد صرح بذلك في حديث الذباب والخنفساء اللذين وجدهما (ص) ميتين في الطعام فأمر بإلقائهما والتسمية عليه والاكل منه. ويدل على جواز قتل الذباب بالغمس لصيرويته بذلك عقورا، وعلى تحريم أكل المستخبث للامر بطرحه. ورواية إناء أحدكم تشمل إناء الطعام والشراب وغيرهما فهي أعم من رواية شراب أحدكم. والفائدة في الامر بغمسه جميعا هي أن يتصل ما فيه من الدواء بالطعام أو الشراب كما اتصل به الداء فيتعادل الضار والنافع فيندفع الضرر. باب في أن الآدمي المسلم لا ينجس بالموت ولا شعره وأجزاؤه بالانفصال قد أسلفنا قوله (ص): المسلم لا ينجس وهو عام في الحي والميت. قال البخاري: وقال ابن عباس: المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا وعن أنس بن مالك: أن النبي (ص) لما رمى الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول
[ 69 ]
الحلاق شقه الايمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الانصاري فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الايسر فقال: احلقه فحلقه فأعطاه أبا طلحة وقال: اقسمه بين الناس متفق عليه. وعن أنس قال: لما أراد رسول الله (ص) أن يحلق الحجام رأسه أخذ أبو طلحة بشعر أحد شقي رأسه بيده فأخذ شعره فجاء به إلى أم سليم قال: وكانت أم سليم تدوفه في طيبها رواه أحمد. وعن أنس بن مالك أن أم سليم كانت تبسط للنبي (ص) نطعا فيقيل عندها على ذلك النطع، فإذا قام أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جعلته في سك، قال: فلما حضرت أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه أخرجه البخاري. وفي حديث صلح الحديبية من رواية مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن عروة بن مسعود قام من عند رسول الله (ص) وقد رأى ما يصنع به أصحابه ولا يبسق بساقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شئ إلا أخذوه رواه أحمد. وعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر رسول الله (ص) فكان إذا أصاب الانسان عين أو شئ بعث إليها بإناء فخضخضت له فشرب منه فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمرا رواه البخاري. وعن عبد الله بن زيد وهو صاحب الاذان أنه شهد النبي (ص) عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحي فلم يصبه شئ ولا صاحبه فخلق رسول الله (ص) رأسه في ثوبه فأعطاه منه وقسم منه على رجال وقلم أظفاره فأعطى صاحبه قال: وإن شعره عندنا لمخضوب بالحناء والكتم رواه أحمد. أحاديث الباب يشهد بعضها لبعض، وقد أخرج أحمد كل حديث منها من طرق. قوله في ترجمة الباب قد أسلفنا قوله (ص): المسلم لا ينجس الخ قد تقدم الحديث في باب طهارة الماء المتوضأ به وتقدم شرحه هنالك. قوله: وعن أنس سيأتي هذا الحديث بنحو ما هنا في الحج في باب النحر والحلاق، وقد روي بألفاظ منها ما ذكره المصنف هنا، ومنها ما أخرجه أبو عوانة في صحيحه بلفظ: أن رسول الله (ص) أمر الحلاق فحلق رأسه ودفع إلى أبي طلحة الشق الايمن ثم حلق الشق الآخر فأمره أن يقسمه بين الناس ولمسلم من رواية: أنه قسم الايمن فيمن بليه
[ 70 ]
وفي لفظ: فوزعه بين الناس الشعرة والشعرتين وأعطى الايسر أم سليم وفي لفظ: فأما الايمن فوزعه أبو طلحة بأمره (ص) وأما الايسر فأعطاه لام سليم زوجته بأمره (ص) لتجعله في طيبها. قال النووي: فيه استجاب البداءة بالشق الايمن من رأس المحلوق وهو قول الجمهور خلافا لابي حنيفة. وفيه طهارة شعر الآدمي وبه قال الجمهور. وفيه التبرك بشعره (ص). وفيه المواساة بين الاصحاب بالعطية والهدية. قال الحافظ: وفيه أن المواساة لا تستلزم المساواة. وفيه تنفيل من يتولى التفرقة على غيره واختلفوا في اسم الحالق فالصحيح أنه معمر بن عبد الله كما ذكره البخاري، وقيل: أبوخراش بن أمية والصحيح أنه كان الحالق بالحديبية. وذهب جماعة من الشافعية إلى أن الشعر نجس وهي طريقة العراقيين، وأحاديث الباب ترد عليهم واعتذارهم عنها بأن النبي (ص) مكرم لا يقاس عليه غيره اعتذار فاسد، لان الخصوصيات لا تثبت إلا بدليل. قال الحافظ: فلا يلتفت إلى ما وقع في كثير من كتب الشافعية مما يخالف القول بالطهارة، فقد استقر القول من أئمتهم على الطهارة هذا كله في شعر الآدمي. وأما شعر غيره من غير المأكول ففيه خلاف مبني على أن الشعر هل تحله الحياة فينجس بالموت أو لا؟ فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا ينجس بالموت، وذهبت الشافعية إلى أنه ينجس بالموت، واستدل للطهارة بما ذكره ابن المنذر من أنهم أجمعوا على طهارة ما يجز من الشاة وهي حية، وعلى نجاسة ما يقطع من أعضائها وهي حية، فدل ذلك على التفرقة بين الشعر وغيره من أجزائها، وعلى التسوية بين حالتي الموت والحياة. قوله: تدوفه الدوف الخلط والبل بماء ونحوه، دفت المسك فهو مدوف ومدووف أي مبلول أو مسحوق، ولا نظير له سوى مصوون، كذا في القاموس ومثله في النهاية. قوله: نطعا بكسر النون وفتحها مع سكون الطاء وتحريكها بساط من الادم الجميع انطاع ونطوع. قوله: في سك بمهملة مضمومة فكاف مشددة وهو طيب يتخذ من الرامك مدقوقا منخولا معجونا بالماء ويعرك شديدا ويمسح بدهن الخيري لئلا يلصق بالاناء ويترك ليلة ثم يسحق المسك ويعرك شديدا ويترك يومين ثم يثقب بمسلة وينظم في خيط قنب ويترك سنة، وكلما عتق طابت رائحته قاله في القاموس، والرامك بالراء كصاحب شئ أسود يخلط بالمسك. والقنب نوع من الكتان. وفيه دليل على طهارة العرق لانه وقع منه (ص) التقرير لام سليم وهو مجمع على طهارته من الآدمي. قوله:
[ 71 ]
يجلجل بجيمين مضمومتين بينهما لام الجرس. قال الكرماني: ويحمل على أنه كان مموها بفضة لا أنه كان كله فضة. قال الحافظ: وهذا ينبني على أن أم سلمة كانت لا تحيز استعمال آنية الفضة في غير الاكل والشرب ومن أين له ذلك؟ فقد أجاز ذلك جماعة من العلماء قلت: والحق الجواز إلا في الاكل والشرب لان الادلة لم تدل على غيرها بين الحالتين. قوله: فخضخضت بخاءين وضادين معجمات والخضخضة تحريك الماء. قوله: والكتم هو نبت يخلط بالحناء وسيأتي ضبطه وتفسيره. باب النهي عن الانتفاع بجلد ما لا يؤكل لحمه عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه أن رسول الله (ص) نهى عن جلود السباع رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وزاد: أن يفترش. وعن معاوية بن أبي سفيان أنه قال لنفر من أصحاب النبي (ص): أتعلمون أن رسول الله (ص) نهى عن جلود النمور أن يركب عليها؟ قالوا: اللهم نعم رواه أحمد وأبو داود. ولاحمد: أنشدكم الله أنهى رسول الله (ص) عن ركوب صفف النمور؟ قالوا: نعم قال: وأنا أشهد. وعن المقدام بن معدي كرب أنه قال لمعاوية: أنشدك الله هل تعلم أن رسول الله (ص) نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال: نعم رواه أبو داود والنسائي. وعن المقدام بن معدي كرب قال: نهى رسول الله (ص) عن الحرير والذهب ومياثر النمور رواه أحمد والنسائي. وعن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر رواه أبو داود. حديث أبي المليح قال الترمذي لا نعلم رواه عن أبي المليح عن أبيه غير سعيد بن أبي عروبة، وأخرجه عن أبي المليح عن النبي (ص) مرسلا قال: وهذا أصح. وحديث معاوية أخرجه أيضا ابن ماجه. وحديث المقدام الاول رواه أبو داود عن عمرو بن عثمان بن سعيد الحمصي حدثنا بقية عن بجير عن خالد قال: وفد المقدام وذكر فيه قصة طويلة. وبقية بن الوليد فيه مقال مشهور. وحديثه الثاني إسناده صالح. وحديث أبي هريرة في إسناده أبو العوام عمران القطان وثقه عفان بن مسلم واستشهد به البخاري وتكلم فيه غير واحد. قوله: النمور في رواية النمار وكلاهما جمع نمر
[ 72 ]
بفتح النون وكسر الميم ويجوز التخفيف بكسر النون وسكون الميم وهو سبع أجرا وأخبث من الاسد، وهو منقط الجلد نقط سود وبيض وفيه شبه من الاسد إلا أنه أصغر منه، ورائحة فمه طيبة بخلاف الاسد، وبينه وبين الاسد عداوة، وهو بعيد الوثبة فربما وثب أربعين ذراعا. وإنما نهى عن استعمال جلده لما فيه من الزينة والخيلاء ولانه زي العجم. قوله: صفف بالصاد المهملة كصرد جمع صفة وهي ما يجعل على السرج. قوله: ومياثر النمور المياثر جمع ميثرة والميثرة بكسر الميم وسكون التحتية وفتح المثلثة بعدها راء ثم هاء ولا همزة فيها وأصلها من الوثارة. وقد روى البخاري عن بعض الرواة أنه فسرها بجلود السباع. قال النووي: هو تفسير باطل لما أطبق عليه أهل الحديث، قال الحافظ: ليس بباطل بل يمكن توجيهه، وهو ما إذا كانت الميثرة وطاء وصنعت من جلد ثم حشيت، والنهي حينئذ عنها إما لانها من زي الكفار، وإما لانها لا تذكى غالبا. وقيل: إن المياثر مراكب تتخذ من الحرير والديباج، وسيأتي الكلام على الحرير في كتاب اللباس. قوله: لا تصحب الملائكة رفقة الخ فيه أنه يكره اتخاذ جلود النمور واستصحابها في السفر وإدخالها البيوت، لان مفارقة الملائكة للرفقة التي فيها جلد نمر تدل على أنها لا تجامع جماعة أو منزلا وجد فيه ذلك، ولا يكون إلا لعدم جواز استعمالها كما ورد: إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير وجعل ذلك من أدلة تحريم التصاوير وجعلها في البيوت. وهذا الحديث والذي قبله يدلان على قوة تفسير الميثرة بجلود السباع. وأحاديث الباب استدل بها المصنف رحمه الله على أن جلود السباع لا يجوز الانتفاع بها. وقد اختلف في حكمه النهي فقال البيهقي: يحتمل أن النهي وقع لما يبقى عليها من الشعر لان الدباغ لا يؤثر فيه. وقال غيره: يحتمل أن النهي عما لم يدبغ منها لاجل النجاسة أو أن النهي لاجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء. وأما الاستدلال بأحاديث الباب على أن الدباغ لا يطهر جلود السباع بناء على أنها مخصصة للاحاديث القاضية بأن الدباغ مطهر على العموم فغير ظاهر، لان غاية ما فيها مجرد النهي عن الركوب عليها وافتراشها، ولا ملازمة بين ذلك وبين النجاسة، كما لا ملازمة بين النهي عن الذهب والحرير ونجاستهما فلا معارضة، بل يحكم بالطهارة بالدباغ مع منع الركوب عليها ونحوه، مع أنه يمكن أن يقال إن أحاديث هذا الباب أعم من أحاديث الباب الذي بعده من وجه لشمولها لما كان مدبوغا من جلود السباع وما كان غير مدبوغ. قال المصنف رحمه الله: وهذه النصوص تمنع استعمال جلد ما لا يؤكل لحمه
[ 73 ]
في اليابسات وتمنع بعمومها طهارته بذكاة أو دباغ انتهى. باب ما جاء في تطهير الدباغ عن ابن عباس قال تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله (ص) فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها رواه الجماعة إلا ابن ماجه قال فيه عن ميمونة جعله من مسندها وليس فيه للبخاري والنسائي ذكر الدباغ بحال. وفي لفظ لاحمد: أن داجنا لميمونة ماتت فقال رسول الله إلا انتفعتم بإهابها ألا دبغتموه فإنه ذكاته وهذا تنبيه على أن الدباغ إنما يعمل فيما تعمل فيه الذكاة. وفي رواية لاحمد والدارقطني: يطهرها الماء والقرظ رواه الدارقطني مع غيره وقال: هذه أسانيد صحاح. في الباب عن أم سلمة عند الطبراني في الاوسط والدارقطني وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف. وعن ميمونة عند مالك وأبي داود والنسائي وابن حبان والدارقطني بلفظ: أنه مر برسول الله (ص) رجال يجرون شاة لهم مثل الحمار فقال: لو أخذتم إهابها، فقالوا: إنها ميتة فقال: يطهرها الماء والقرظ وصححه ابن السكن والحاكم. قوله: أخذتم إهابها الاهاب ككتاب الجلد أو ما لم يدبغ قاله في القاموس. قال أبو داود في سننه: قال النضر بن شميل إنما يسمى إهابا ما لم يدبغ فإذا دبغ لا يقال له إهاب إنما يسمى شنا وقربة، وسيذكره المصنف فيما بعد وفي الصحاح: والاهاب الجلد ما لم يدبغ. وبقية الكلام على الاهاب تأتي في حديث عبد الله بن عكيم. قوله: أن داجنا الداجن المقيم بالمكان ومنه الشاة إذا ألفت البيت. قوله: فإنه ذكاته أراد أن الدباغ في التطهير بمنزلة الزكاة في إحلال الشاة، وهو تشبيه بليغ. وأخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي وابن حبان من حديث الجون بن قتادة عن سلمة بن المحبق بلفظ: دباغ الاديم ذكاته قال الحافظ: وإسناده صحيح. قال أحمد: الجون لا أعرفه وبهذا أعله الاثرم، قال الحافظ: وقد عرفه غيره علي بن المديني وروى عنه يعني الجون الحسن وقتادة، وصحح ابن سعد وابن حزم وغير واحد أن له صحبة، وتعقب أبو بكر بن مفوز ذلك على ابن حزم. وفي الباب أيضا عن ابن عباس عند الدارقطني وابن شاهين من طريق فليح عن زيد بن أسلم عن أبي وعلة عنه بلفظ: دباغ كل إهاب طهوره وأصله في مسلم من حديث أبي الخير عن أبي وعلة بلفظ: دباغه
[ 74 ]
طهوره ورواه الدولابي في الكنى من حديث ابن عباس بلفظ: سمعت رسول الله (ص) يقول ذكاة كل مسك دباغه ورواه البزار والطبراني والبيهقي عنه قال: قال رسول الله (ص) في شاة ميمونة: ألا استمعتم بإهابها فإن دباغ الاديم طهوره وفي إسناده يعقوب بن عطاء ضعفه يحيى بن معين وأبو زرعة. وأخرج أحمد وابن خزيمة والحاكم والبيهقي من حديثه أيضا: أن رسول الله (ص) أراد أن يتوضأ من سقاء فقيل له: إنه ميتة فقال: دباغه يزيل خبثه أو نجسه أو رجسه وصححه الحاكم والبيهقي. وعن عائشة عند النسائي وابن حبان والطبراني والدارقطني والبيهقي بلفظ: دباغ جلود الميتة طهورها وعن المغيرة بن شعبة عند الطبراني، وعن زيد بن ثابت عند الطبراني أيضا، وعند الحاكم أبي أحمد في الكنى وفي تاريخ نيسابور. وعن أبي أمامة عنده أيضا، وعن ابن عمر عنده أيضا وعند ابن شاهين وعن بعض أزواج النبي (ص) عند البيهقي وأيضا عن أنس عند ابن منده. وعن جابر عنده أيضا وعن ابن مسعود عنده أيضا الحديث المذكور في الباب يدل على طهارة أديم الميتة بالدباغ، نص في الشاة المعينة التي هي السبب أو نوعه على الخلاف وظاهر فيما عداه، لان قوله: إنما حرم من الميتة أكلها بعد قولهم: إنها ميتة يعم كل ميتة، والاحاديث المذكورة في هذا الباب تدل على عدم اختصاص هذا الحكم بنوع من أنواع الميتة. وقد اختلف أرباب العلم في ذلك على أقوال سبعة ذكرها النووي في شرح مسلم، وسنذكرها ههنا غير مقتصرين على المقدار الذي ذكره، بل نضم إليه حجج الاقوال مع نسبة بعض المذاهب إلى جماعات من العلماء لم يذكرهم فنقول: المذهب الاول أنه يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما، ويطهر بالدباغ ظاهر الجلد وباطنه، ويجوز استعماله في الاشياء اليابسة والمائعة، ولا فرق بين مأكول اللحم وغيره، وإلى هذا ذهب الشافعي واستدل على استثناء الخنزير بقوله: فإنه رجس وجعل الضمير عائدا إلى المضاف إليه، وقاس الكلب عليه بجامع النجاسة قال: لانه لا جلد له. قال النووي: وروي هذا المذهب عن علي بن أبي طالب وابن مسعود. المذهب الثاني: أنه لا يطهر شئ من الجلود بالدباغ، قال النووي: وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة وهو أشهر الروايتين عن أحمد، وإحدى الروايتين عن مالك، ونسبه في البحر إلى أكثر العترة، واستدلوا بحديث عبد الله بن عكيم الآتي بلفظ: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وكان ذلك قبل موته (ص)
[ 75 ]
بشهر فكان ناسخا لسائر الاحاديث. وأجيب بأنه قد أعل بالاضطراب والارسال كما سيأتي، فلا ينتهض لنسخ الاحاديث الصحيحة، وأيضا التاريخ بشهر أو شهرين كما سيأتي فعل لانه من رواية خالد الحذاء، وقد خالفه شعبة وهو أحفظ منه وشيخهما واحد، ومع إعلال التاريخ يكون معارضا للاحاديث الصحيحة وهي أرجح منه بكل حال، فإنه قد روي في ذلك أعني تطهير الدباغ للاديم خمسة عشر حديثا عن ابن عباس حديثان، وعن أم سلمة ثلاثة، وعن أنس حديثان، وعن سلمة بن المحيق وعائشة والمغيرة وأبي أمامة وابن مسعود وشيبان وثابت وجابر. وأثران عن سودة وابن مسعود على أنه لا حاجة إلى الترجيح بهذا لان حديث ابن حكيم عام وأحاديث التطهير خاصة فيبنى العام على الخاص، أما على مذهب من يبني العام على الخاص مطلقا كما هو قول المحققين من أئمة الاصول فظاهر، وأما على مذهب من يجعل العام المتأخر ناسخا فمع كونه مذهبا مرجوحا لا نسلم تأخر العام هنا لما ثبت في أصول الاحكام والتجريد من كتب أهل البيت أن عليا قال: قال رسول الله (ص): لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب فلما كان من الغد خرجت فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق فقال: ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها؟ فقلت: يا رسول الله أين قولك بالامس؟ فقال: ينتفع منها بالشئ ولو سلمنا تأخر حديث ابن عكيم لكان ما أسلفنا عن النضر بن شميل من تفسير الاهاب بالجلد الذي لم يدبغ، وما صرح به صاحب الصحاح ورواه صاحب القاموس كما قدمنا موجبا لعدم التعارض، إذ لا نزاع في نجاسة إهاب الميتة قبل دباغه. فالحق أن الدباغ مطهر، ولم يعارض أحاديثه معارض من غير فرق بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل وهو مذهب الجمهور، قال الحازمي: وممن قال بذلك يعني جواز الانتفاع بجلود الميتة ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن والشعبي وسالم يعني بن عبد الله وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك وسعيد بن جيبر ويحيى بن سعيد الانصاري ومالك والليث والاوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن المبارك والشافعي وأصحابه وإسحاق الحنظلي، وهذا هو مذهب الظاهرية كما سيأتي. المذهب الثالث: أنه يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم ولا نطهر غيره. قال النووي: وهو مذهب الاوزاعي وابن المبارك وأبي ثور وإسحاق بن راهويه، واحتجوا بما في الاحاديث من جعل الدباغ في الاهب كالذكاة، وقد تقدم بعض ذلك
[ 76 ]
ويأتي بعض. قالوا: والذكاة المشبه بها لا يحل بها غير المأكول، فكذلك المشبه لا يطهر جلد غير المأكول، وهذا إن سلم لا ينفي ما استفيد من الاحاديث العامة للمأكول وغيره، وقد تقرر في الاصول أن العام لا يقصر على سببه، فلا يصح تمسكهم بكون السبب شاة ميمونة. المذهب الرابع: يطهر جلود جميع الميتات إلا الخنزير، قال النووي: وهو مذهب أبي حنيفة واحتج بما تقدم في المذهب الاول. المذهب الخامس: يطهر الجميع إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فلا ينتفع به في المائعات، قال النووي: وهو مذهب مالك المشهور في حكاية أصحابنا عنه انتهى. وهو تفصيل لا دليل عليه. المذهب السادس: يطهر الجميع والكلب والخنزير ظاهرا وباطنا، قال النووي: وهو مذهب داود وأهل الظاهر، وحكى عن أبي يوسف وهو الراجح كما تقدم، لان الاحاديث الواردة في هذا الباب لم يفرق فيها بين الكلب والخنزير وما عداهما. واحتجاج الشافعي بالآية على إخراج الخنزير وقياس الكلب عليه لا يتم إلا بعد تسليم أن الضمير يعود إلى المضاف إليه دون المضاف، وأنه محل نزاع، ولا أقل من الاحتمال إن لم يكن رجوعه إلى المضاف راجحا، والمحتمل لا يكون حجة على الخصم. وأيضا لا يمتنع أن يقال رجسية الخنزير على تسليم شمولها لجميعه لحما وشعرا وجلدا وعظما مخصصة بأحاديث الدباغ. المذهب السابع: أنه ينتفع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، ويجوز استعمالها في المائعات واليابسات، قال النووي: وهو مذهب الزهري وهو وجه شاذ لبعض أصحابنا لا تعريج عليه ولا التفات إليه انتهى. واستدل لذلك بحديث الشاة باعتبار الرواية التي لم يذكر فيها الدباغ، ولعله لم يبلغ الزهري بقية الروايات وسائر الاحاديث وقد رده في البحر بمخالفة الاجماع. وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله (ص) يقول أيما إهاب دبغ فقد طهر رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وقال: قال إسحاق عن النضر بن شميل: إنما يقال الاهاب لجلد ما يؤكل لحمه. وعن ابن عباس عن سودة زوج النبي (ص) قالت: ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا. رواه أحمد والنسائي والبخاري وقال: إن سودة مكان عن. وعن عائشة أن النبي (ص) أمر أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت رواه الخمسة إلا الترمذي. والنسائي: سئل النبي (ص) عن جلود الميتة فقال: دباغها ذكاتها. وللدارقطني عنها عن النبي (ص)
[ 77 ]
قال: طهور كل أديم دباغه قال الدارقطني: إسناده كلهم ثقات. الحديث الاول قال الترمذي: حسن صحيح، ورواه الشافعي وابن حبان والدارقطني بإسناد على شرط الصحة وقال: إنه حسن، ورواه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث جابر، والحديث الثالث أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني والبيهقي. قوله لجلد ما يؤكل لحمه هذا يخالف ما قدمنا عن أبي داود أن النضر بن شميل فسر الاهاب بالجلد قبل أن يدبغ ولم يخصه بجلد المأكول، ورواية أبي داود عنه أرجح لموافقتها ما ذكره أهل اللغة كصاحب الصحاح والقاموس والنهاية وغيرها. والمبحث لغوي فيرجح ما وافق اللغة، ولم نجد في شئ من كتب اللغة ما يدل على تخصيص الاهاب بإهاب مأكول اللحم كما رواه الترمذي عنه قوله: مسكها بفتح الميم وإسكان السين المهملة هو الجلد. قوله: شنا بفتح الشين المعجمة بعدها نون أي قربة خلفه. قوله: دباغها ذكاتها استدل بهذا من قال إنه يطهر بالدبغ جلد ميتة المأكول فقط وقد تقدم الجواب عليه. قوله: طهور كل أديم وكذا قوله: أيما إهاب دبغ يشملان جلود ما لا يؤكل لحمه كالكلب والخنزير وغيرهما شمولا ظاهرا، وقد تقم البحث في ذلك. باب تحريم أكل جلد الميتة وإن دبغ عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة فقال: فلولا أخذتم مسكها، قالوا: أنأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله (ص): إنما قال الله تعالى: * (قل لا أجد في ما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) * (الانعام: 145) وأنتم لا تطعمونه أن تدبغوه فتنتفعوا به، فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها رواه أحمد بإسناد صحيح. الحديث يدل على تحريم أكل جلود الميتة، وأن الدباغ وإن أوجب طهارتها لا يحلل أكلها. ومما يدل على تحريم الاكل أيضا قوله (ص) في حديث ابن عباس المتقدم: إنما حرم من الميتة أكلها وهذا مما لا أعلم فيه خلافا، ويدل أيضا على طهارة جلود الميتة بالدبغ وقد تقدم الكلام عليه.
[ 78 ]
باب ما جاء في نسخ تطهير الدباغ عن عبد الله بن عكيم قال: كتب إلينا رسول الله (ص) قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميت بإهاب ولا عصب رواه الخمسة ولم يذكر منهم المدة غير أحمد وأبي داود قال الترمذي: هذا حديث حسن. وللدارقطني: أن رسول الله (ص) كتب إلى جهينة أني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. وللبخاري في تاريخه عن عبد الله بن عكيم قال: حدثنا مشيخة لنا من جهينة أن النبي (ص) كتب إليهم أن لا تنتفعوا من الميتة بشئ. وأخرجه أيضا الشافعي والبيهقي وابن حبان، وقال عبد الله بن عكيم: شهد كتاب رسول الله (ص) حيث قرئ عليهم في جهينة، وسمع مشايخ جهينة يقولون ذلك. وقال البيهقي والخطابي: هذا الخبر مرسل. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: ليست لعبد الله بن عكيم محبة وإنما روايته كتابه، وخالفه الحاكم فأثبت لعبد الله صحبة، قال الحافظ: وأغرب الماوردي فزعم أنه نقل عن علي بن المديني أن رسول الله (ص) مات ولعبد الله بن عكيم سنة. وقال صاحب الامام: تضعيف من ضعفه ليس من قبيل الرجال فإنهم كلهم ثقات، وإنما ينبغي أن يحمل الضعف على الاضطراب كما نقل عن أحمد. ومن الاضطراب فيه ما رواه ابن عدي والطبراني من حديث شبيب بن سعيد عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه ولفظه: جاءنا كتاب رسول الله (ص) ونحن بأرض جهينة أني كنت رخصت لكم في إهاب الميتة وعصبها فلا تنتفعوا بإهاب ولا عصب قال الحافظ: إسناده ثقات وتابعه فضالة بن المفضل عند الطبراني في الاوسط. ورواه أبو داود من حديث خالد عن الحكم عن عبد الرحمن أنه انطلق هو وأناس معه إلى عبد الله بن عكيم فدخلوا وقعدت على الباب فخرجوا إلي وأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم الحديث، فهذا يدل على أن عبد الرحمن ما سمعه من ابن عكيم، لكن إن وجد التصريح بسماعه منه حمل على أنه سمعه منه بعد ذلك. وفي الباب عن ابن عمر رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ وفيه عدي بن الفضل وهو ضعيف. وعن جابر رواه ابن وهب وفيه زمعة وهو ضعيف. ورواه أبو بكر الشافعي في فوائده من طريق أخرى قال الشيخ الموفق: إسناده حسن. قال
[ 79 ]
الحازمي في الناسخ والمنسوخ: في إسناد حديث ابن عكيم اختلاف، رواه الحكم مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن عكيم، ورواه عنه القاسم بن مخيمرة عن خالد عن الحكم وقال: إنه لم يسمعه من ابن عكيم، ولكن من أناس دخلوا عليه ثم خرجوا وأخبروه، ولولا هذه العلل لكان أولى الحديثين أن يؤخذ به حديث ابن عكيم، ثم قال: وطريق الانصاف فيه أن يقال: إن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ لو صح ولكنه كثير الاضطراب لا يقاوم حديث ميمونة في الصحة، ثم قال: فالمصير إلى حديث ابن عباس أولى لوجوه من الترجيح، ويحمل حديث ابن عكيم على منع الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يسمى إهابا، وبعد الدباغ يسمى جلدا ولا يسمى إهابا، هذا معروف عند أهل اللغة، وليكون جمعا بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضاد انتهى. ومحصل الاجوبة على هذا الحديث الارسال لعدم سماع عبد الله بن عكيم من النبي (ص)، ثم الانقطاع لعدم سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عبد الله بن عكيم ثم الاضطراب في سنده، فإنه تارة قال عن كتاب النبي (ص)، وتارة عن مشيخة من جهينة، وتارة عمن قرأ الكتاب، ثم الاضطراب في متنه فرواه الاكثر من غير تقييد، ومنهم من رواه بتقييد شهر أو شهرين أو أربعين يوما أو ثلاثة أيام، ثم الترجيح بالمعارضة بأن أحاديث الدباغ أصح، ثم القول بموجبه بأن الاهاب اسم للجلد قبل الدباغ لا بعده، حمله على ذلك ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما، ثم الجمع بين هذا الحديث والاحاديث السابقة بأن هذا عام وتلك خاصة، وقد سبق الكلام على ذلك في باب ما جاء في تطهير الدباغ مستكملا. قال المصنف رحمه الله: وأكثر أهل العلم على أن الدباغ يطهر في الجملة لصحة النصوص به، وخبر ابن عكيم لا يقاربها في الصحة والقوة لينسخها، قال الترمذي: سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل وفاته بشهرين وكان يقول: هذا آخر أمر رسول الله (ص)، ثم ترك أحمد هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم فقال: عن عبد الله بن عكيم عن أشياخ من جهينة اه. قال الخلال: لما رأى أبو عبد الله تزلزل الرواية فيه توقف. باب نجاسة لحم الحيوان الذي لا يؤكل إذا ذبح عن سلمة بن الاكوع قال: لما أمسى اليوم الذي فتحت عليهم فيه خيبر أوقدوا نيرانا كثيرة فقال رسول الله (ص): ما هذه النار على أي شئ
[ 80 ]
توقدون؟ قالوا: على لحم، قال: على أي لحم؟ قالوا: على لحم الحمر الانسية، فقال: أهريقوها وأكسروها، فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها؟ فقال: أو ذاك وفي لفظ فقال: اغسلوا. وعن أنس قال: أصبنا من لحم الحمر يعني يوم خيبر فنادى منادي رسول الله (ص) إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس أو نجس متفق عليهما. وأخرجاه أيضا من حديث علي بلفظ: نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية وهو متفق عليه أيضا من حديث جابر وابن عمر وابن عباس والبراء وأبي ثعلبة وعبد الله بن أبي أوفى. وأخرجه البخاري من حديث زاهر الاسلمي والترمذي عن أبي هريرة والعرباض بن سارية وأبو داود والنسائي عن خالد بن الوليد وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأبو داود والبيهقي من حديث المقدام بن معد يكرب. ورواه الدارمي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وفي الصحيحين من رواية الشعبي: لا أدري أنهى عنها من أجل أنها كانت حمولة الناس أو حرمت وفي البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن زيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الحمر الاهلية قال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ولكن أبى ذلك البحر يعني ابن عباس، والحديثان استدل بهما على تحريم الحمر الاهلية وهو مذهب الجماهير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال ابن عباس: ليست بحرام. وعن مالك ثلاث روايات وسيأتي تفصيل ذلك وبسط الحجج في باب النهي عن الحمر الانسية من كتاب الاطعمة إن شاء الله تعالى. وقد أوردهما المصنف هنا للاستدلال بهما على نجاسة لحم الحيوان الذي لا يؤكل، لان الامر بكسر الآنية أولا ثم الغسل ثانيا، ثم قوله: فإنها رجس أو نجس ثالثا يدل على النجاسة، ولكنه نص في الحمر الانسية وقياس في غيرها مما لا يؤكل بجامع عدم الاكل، ولا يجب التسبيع إذ أطلق الغسل ولم يقيده بمثل ما قيده في ولوغ الكلب. وقال أحمد في أشهر الروايتين عنه أنه يجب التسبيع ولا أدري ما دليله، فإن كان القياس على لعاب الكلب فلا يخفى ما فيه، وإن كان غيره فما هو. وقوله: الانسية بكسر الهمزة وفتحها مع سكون النون، والانسي الانس
[ 81 ]
من كل شئ. [ رم ] باب ما جاء في آنية الذهب والفضة عن حذيفة قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة متفق عليه. وهو لبقية الجماعة إلا حكم الاكل منه خاصة. قال ابن منده: مجمع على صحته. قوله: في صحافها الصحاف جمع صحفة وهي دون القصعة. قال الجوهري: قال الكسائي أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة. والحديث يدل على تحريم الاكل والشرب في آنية الذهب والفضة، أما الشرب فبالاجماع، وأما الاكل فأجازه داود والحديث يرد عليه ولعله لم يبلغه. قال النووي: قال أصحابنا انعقد الاجماع على تحريم الاكل والشرب وسائر الاستعمالات في إناء ذهب أو فضة إلا رواية عن داود في تحريم الشرب فقط، ولعله لم يبلغه حديث تحريم الاكل، وقول قديم للشافعي والعراقيين فقال بالكراهة دون التحريم وقد رجع عنه. وتأوله أيضا صاحب التقريب ولم يحمله على ظاهره فثبتت صحة دعوى الاجماع على ذلك، وقد نقل الاجماع أيضا ابن المنذر على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة، وقد أجيب من جهة القائلين بالكراهة عن الحديث بأنه للتزهيد بدليل: أنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ورد بحديث فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم وهو وعيد شديد ولا يكون إلا على محرم، ولا شك أن أحاديث الباب تدل على تحريم الاكل والشرب، وأما سائر الاستعمالات فلا، والقياس على الاكل والشرب قياس مع فارق، فإن علة النهي عن الاكل والشرب هي التشبيه بأهل الجنة حيث يطاف عليهم بآنية من فضة وذلك مناط معتبر للشارع كما ثبت عنه لما رأى رجلا متختما بخاتم من ذهب فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة أخرجه الثلاثة من حديث بريدة، وكذلك في الحرير وغيره وإلا لزم تحريم التحلي بالحلي والافتراش للحرير لان ذلك استعمال، وقد جوزه البعض من القائلين بتحريم الاستعمال. وأما حكاية النووي للاجماع على
[ 82 ]
تحريم الاستعمال فلا تتم مع مخالفة داود والشافعي وبعض أصحابه، وقد اقتصر الامام المهدي في البحر على نسبة ذلك إلى أكثر الامة على أنه لا يخفى على المصنف ما في حجية الاجماع من النزاع والاشكالات التي لا مخلص عنها. والحاصل أن الاصل الحل، فلا تثبت الحرمة إلا بدليل يسلمه الخصم، ولا دليل في المقام بهذه الصفة، فالوقوف على ذلك الاصل المعتضد بالبراءة الاصلية هو وظيفة المنصف الذي لم يخبط بسوط هيبة الجمهور، لاسيما وقد أيد هذا الاصل حديث: ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبا أخرجه أحمد وأبو داود، ويشهد له ما سلف أن أم سلمة جاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر رسول الله فخضخضت. الحديث في البخاري وقد سبق. وقد قيل: إن العلة في التحريم الخيلاء أو كسر قلوب الفقراء، ويرد عليه جواز استعمال الاواني من الجواهر النفيسة وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة ولم يمنعها إلا من شذ. وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الاجماع على الجواز وتبعه الرافعي ومن بعده. وقيل: العلة التشبه بالاعاجم، وفي ذلك نظر لثبوت الوعيد لفاعله ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك، وأما اتخاذ الاواني بدون استعمال فذهب الجمهور إلى منعه ورخصت فيه طائفة. وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليه. ولمسلم: إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة. وعن عائشة رضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في الذي يشرب في إناء فضة: كأنما يجرجر في بطنه نارا رواه أحمد وابن ماجه. حديث أم سلمة أخرجه أيضا الطبراني وزاد: إلا أن يتوب، وقد تفرد علي بن مسهر بزيادة إناء الذهب الثابتة عند مسلم. وحديث عائشة رواه أيضا الدارقطني في العلل من طريق شعبة والنووي عن سعد بن إبراهيم عن نافع عن امرأة ابن عمر سماها الثوري صفية. وأخرجه أيضا أبو عوانة في صحيحه بلفظ: الذي يشرب في الفضة إنما يجرجر في جوفه نارا وفيه اختلاف على نافع فقيل عنه عن ابن عمر أخرجه الطبراني في الصغير، وأعله أبو زرعة وأبو حاتم، وقيل عنه عن أبي هريرة ذكره الدارقطني في العلل أيضا، وخطأه من رواية عبد العزيز بن أبي رواد قال: والصحيح فيه عن نافع عن زيد بن عبد الله بن عمر كما تقدم يعني عن زيد بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن
[ 83 ]
عبد الرحمن بن أبي بكر عن أم سلمة. قال الحافظ: فرجع الحديث إلى حديث أم سلمة. قوله: يجرجر الجرجرة صب الماء في الحلق كالتجرجر، والتجرجر أن تجرعه جرعا متداركا. جرجر الشراب صوت، وجرجره سقاه على تلك الصفة. قاله في القاموس. وقوله: نار جهنم يروى بالرفع وهو مجاز لان النار لا تجرجر على الحقيقة، ولكنه جعل صوت جزع الانسان للماء في هذه الاواني المخصوصة لوقوع النهي عنها واستحقاق العقاب عليها كجرجرة نار جهنم في بطنه على طريق المجاز. والاكثر الذي عليه شراح الحديث وأهل الغريب واللغة النصب. والمعنى كأنما تجرع نار جهنم. قال في الفتح: وقوله يجرجر بضم التحتانية وفتح الجيم وسكون الراء وجيم مكسورة وهو صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج، ثم حكى الخلاف في ضبط هذه اللفظة في كتاب الاشربة، والحديث قد تقدم الكلام عليه. وعن البراء بن عازب قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب في الفضة فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة مختصر من مسلم الحديث قد تقدم الكلام عليه. باب النهي عن التضبيب بهما إلا بيسير الفضة عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شئ من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم رواه الدارقطني. الحديث أخرجه أيضا البيهقي كلاهما من طريق يحيى بن محمد الجاري عن زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن ابن عمر بهذا اللفظ. وزاد البيهقي في رواية له عن جده وقال: إنها وهم. وقال الحاكم في علوم الحديث: لم نكتب هذه اللفظة أو إناء فيه شئ من ذلك إلا بهذا الاسناد. وقال البيهقي: المشهور عن ابن عمر في المضبب موقوفا عليه، ثم أخرجه بسند له على شرط الصحيح أنه كان لا يشرب في قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة، ثم روى النهي في ذلك عن عائشة وأنس. وفي حرف الباء الموحدة من الاوسط للطبراني من حديث أم عطية: نهانا رسول الله (ص) عن لبس الذهب وتفضيض الاقداح قال: تفرد به عمر بن يحيى بن معاوية بن
[ 84 ]
عبد الكريم، ويحيى بن محمد الجاري راوي تلك الزيادة، قال البخاري: يتكلمون فيه، وقال ابن عدي: هذا حديث منكر كذا في الميزان، وفي الكاشف ليس بالقوي. وفي الميزان أيضا رواية يحيى عن زكريا بن إبراهيم وليس بالمشهور. الحديث استدل به من قال بتحريم الاكل والشرب في الآنية المذهبة والمفضضة. وقال أبو حنيفة: يجوز إذا وضع الشارب فمه على غير محل الذهب والفضة، واستدل له بما سيأتي، وأجيب عن حديث الباب بما سلف من المقال فيه. وعن أنس: أن قدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة رواه البخاري. ولاحمد عن عاصم الاحول قال: رأيت عند أنس قدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه ضبة فضة. وفي لفظ للبخاري من حديث عاصم الاحول: رأيت قدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند أنس بن مالك وكان انصدع فسلسله بفضة. وحكى البيهقي عن موسى بن هارون أو غيره أن الذي جعل السلسلة هو أنس، لان لفظه فجعلت مكان الشعب سلسلة وجزم بذلك ابن الصلاح. قال الحافظ: وفيه نظر لان في الخبر عند البخاري عن عاصم قال: وقال ابن سيرين أنه كان فيه حلقة من حديد فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة فقال له أبو طلحة: لا تغير شيئا صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا يدل على أنه لم يغير شيئا: الحديث يدل على جواز اتخاذ سلسلة أو ضبة من فضة في إناء الطعام والشراب وهو حجة لابي حنيفة، والحديث السابق الذي فيه أو إناء فيه شئ من ذلك على فرض صحته لا يعارض هذا لان شيئا عام وهذا مخصص له، وكذلك حديث النهي عن تفضيض الاقداح السابق مخصص بهذا فلا يعارض. قوله: الشعب هو الصدع والشق. وقوله: سلسلة السلسلة بفتح الفاء المراد بها إيصال الشئ بالشئ. باب الرخصة في آنية الصفر ونحوها عن عبد الله بن زيد قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه. وعن زينب بنت جحش: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يتوضأ في
[ 85 ]
مخضب من صفر رواه أحمد. قوله: في تور التور بفتح المثناة الفوقية يشبه الطشت وقيل هو الطشت. والطشت بفتح الطاء وكسرها وبإسقاط التاء لغات. قوله: من صفر: الصفر بصاد مهملة مضمومة نوع من النحاس. قوله: في مخضب المخضب بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة بعدها موحدة المشهور أنه الاناء الذي يغسل فيه الثياب من أي جنس كان، وقد يطلق على الاناء صغر أو كبر. والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على جواز استعمال آنية الصفر للوضوء وغيره وهو كذلك. وله فوائد محلها الوضوء. باب استحباب تخمير الاواني عن جابر بن عبد الله في حديث له: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوك سقاءك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو أن تعرض عليه عودا متفق عليه. ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: غطوا الاناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غناء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء. الحديث أيضا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ولفظ أبي داود: أغلق بابك واذكر اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا واطف مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله وله في أخرى من حديث جابر: فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يحل وكاء ولا يكشف إناء وإن الفويسقة تضرم على الناس بيتهم أو بيوتهم وأخرجها أيضا مسلم والترمذي وابن ماجه. وفي رواية له أيضا عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستسقى فقال رجل من القوم ألا نسقيك نبيذا؟ قال: بلى، فخرج الرجل يشتد فجاء بقدح فيه نبيذ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا خمرته ولو أن تعرض عليه عودا وأخرجها أيضا مسلم. قوله: أوك سقاءك الوكاء ككساء رباط القربة، وقد وكأها وأوكأها أي ربطها. قوله: وخمر إناءك التخمير التغطية. قوله: ولو أن تعرض عليه عودا أي تضعه على العرض وهو الجانب من الاناء من عرض العود على الا ناء، والسيف على الفخذ يعرضه ويعرضه فيهما. قوله: وباء الوباء محركة الطاعون أوكل مرض عام، قاله
[ 86 ]
في القاموس. والحديث يدل على مشروعية التبرك بذكر اسم الله عند إيكاء السقاء وتخمير الاناء، وكذلك عند تغليق الباب وإطفاء المصباح كما في الروايات التي ذكرناها. وقد أشعر التعليل بقوله: فإن الشيطان إلى آخره أن في التسمية حرزا عن الشيطان وأنها تحول بينه وبين مراده. والتعليل بقوله: فإن في السنة ليلة كما في رواية مسلم يشعر بأن شرعية التخمير للوقاية عن الوباء وكذلك الايكاء، وقد تكلف بعضهم لتعيين هذه الليلة ولا دليل له على ذلك. باب آنية الكفار عن جابر بن عبد الله قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك عليهم رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي ثعلبة قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها متفق عليه: ولاحمد وأبي داود: إن أرضنا أرض أهل الكتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ قال: إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء واطبخوا فيها واشربوا. وللترمذي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قدور المجوس قال: أنقوها غسلا واطبخوا فيها. حديث جابر أخرجه ابن أبي شيبة بمعناه، واستدل به من قال بطهارة الكافر وهو مذهب الجماهير من السلف والخلف كما قاله النووي، لان تقرير المسلمين على الاستمتاع بآنية الكفار مع كونها مظنة لملابستهم ومحلا للمنفصل من رطوبتهم مؤذن بالطهارة. وحديث أبي ثعلبة استدل به من قال بنجاسة الكافر وهو مذهب الهادي والقاسم والناصر ومالك، وقد نسبه القرطبي في شرح مسلم إلى الشافعي قال في الفتح: وقد أغرب. ووجه الدلالة أنه لم يأذن بالاكل فيها إلا بعد غسلها ورد بأن الغسل لو كان لاجل النجاسة لم يجعله مشروطا بعدم الوجد أن لغيرها، إذ الاناء المتنجس لا فرق بينه وبين ما لم يتنجس بعد إزالة النجاسة فليس ذلك إلا للاستقذار. ورد أيضا بأن الغسل إنما هو لتلوثها بالخمر ولحم الخنزير، كما ثبت في رواية أبي ثعلبة عند أحمد وأبي داود أنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر، وبما ذكره في البحر من أنها لو حرمت رطوبتهم لاستفاض نقل
[ 87 ]
توقيهم لقلة المسلمين حينئذ، وأكثر مستعملاتهم لا يخلو منها ملبوسا ومطعوما، والعادة في مثل ذلك تقتضي الاستفاضة انتهى. وأيضا قد أذن الله بأكل طعامهم وصرح بحله بحله وهو لا يخلو من رطوباتهم في الغالب. وقد استدل من قال بالنجاسة بقوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) وقد استوفينا البحث في هذه المسألة وصرحنا بما هو الحق في باب طهارة الماء المتوضأ به وهو الباب الثاني من أبواب الكتاب فراجعه. وعن أنس أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه رواه أحمد والاهالة الودك والسنخة الزنخة المتغيرة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوضوء من مزادة مشركة. وعن عمر الوضوء من جرة نصرانية. الكلام على فقه الحديثين قد سبق، قال في النهاية في حرف السين السنخة المتغيرة الريح ويقال بالزاي. وقال في حرف الزاي: إن رجلا دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقدم إليه إهالة زنخة فيها عرف أي متغيرة الرائحة، ويقال سنخة بالسين انتهى. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقد ذهب بعض أهل العلم إلى المنع من استعمال آنية الكفار حتى تغسل إذا كانوا ممن لا تباح ذبيحته، وكذلك من كان من النصارى بموضع متظاهرا فيه بأكل لحم الخنزير متمكنا فيه، أو يذبح بالسن والظفر ونحو ذلك، وأنه لا بأس بآنية من سواهم جمعا بذلك بين الاحاديث. واستحب بعضهم غسل الكل لحديث الحسن بن علي قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه اه. وصححه أيضا ابن حبان والحاكم. [ رم ] باب ما يقول المتخلي عند دخوله وخروجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث رواه الجماعة. ولسعيد بن منصور في سننه كان يقول: بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. قوله: إذا دخل الخلاء قال في الفتح: أي كان يقول هذا الذكر عند إرادة الدخول لا بعده، وقد صرح بهذا البخاري في الادب المفرد قال: حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد بن زيد ثنا عبد العزيز
[ 88 ]
بن صهيب قال: حدثني أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال فذكر مثل حديث الباب، وهذا في الامكنة المعدة لذلك، وأما في غيرها فيقوله في أول الشروع عند تشمير الثياب وهذا مذهب الجمهور. قوله: الخبث بضم المعجمة والموحدة كذا في الرواية. وقال الخطابي أنه لا يجوز غيره، وتعقب بأنه يجوز إسكان الباء الموحدة كما في نظائره مما جاء على هذا الوجه ككتب وكتب قاله في الفتح. قال النووي: وقد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة منهم أبو عبيدة إلا أن يقال: إن ترك التخفيف أولى لئلا يشتبه بالمصدر. والخبث جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة، قال الخطابي وابن حبان وغيرهما: يريد ذكران الشياطين وإناثهم، قال في الفتح: قال البخاري: ويقال الخبث أي بإسكان الباء، فإن كانت مخففة عن المحركة فقد تقدم توجيهه، وإن كانت بمعنى المفرد فمعناه كما قال ابن الاعرابي المكروه، قال: فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الافعال المذمومة ليحصل التناسب، قال: وقد روى المعمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الامر قال: إذا دخلتم الخلاء فقولوا: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث وإسناده على شرط مسلم وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية اه. وهذه الرواية تشهد لما في حديث الباب من رواية سعيد بن منصور. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك رواه الخمسة إلا النسائي. الحديث صححه الحاكم وأبو حاتم، قال في البدر المنير: ورواه الدارمي وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وقوله: غفرانك إما مفعول به منصوب بفعل مقدر أي أسألك غفرانك أو أطلب، أو مفعول مطلق أي اغفر غفرانك، قيل إنه استغفر لتركه الذكر في تلك الحالة لما ثبت أنه كان يذكر الله على كل أحواله إلا في حال قضاء الحاجة فجعل ترك الذكر في هذه الحالة تقصيرا وذنبا يستغفر منه. وقيل: استغفر لتقصيره في شكر نعمة الله عليه بإقداره على إخراج ذلك الخارج وهو المناسب للحديث الآتي في الحمد. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الاذى وعافاني رواه ابن ماجه.
[ 89 ]
الحديث رواه ابن ماجه عن هارون بن إسحاق: حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن وقتادة عن أنس. فهارون بن إسحاق وثقه النسائي، وقال في التقريب: صدوق، وعبد الرحمن المحاربي هو ابن محمد وثقه ابن معين والنسائي. وقال في التقريب: لا بأس به وكان يدلس، قاله أحمد وإسماعيل بن مسلم، إن كان العبدي فقد وثقه أبو حاتم، وإن كان البصري فهو ضعيف وكلاهما يروي عن الحسن. وقد رواه أيضا النسائي وابن السني عن أبي ذر. ورمز السيوطي بصحته. وفي حمده صلى الله عليه وآله وسلم إشعار بأن هذه نعمة جليلة ومنة جزيلة، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك فخروجه من النعم التي لا تتم الصحة بدونها، وحق على من أكل ما يشتهيه من طيبات الاطعمة فسد به جوعته وحفظ به صحته وقوته، ثم لما قضى منه وطره ولم يبق فيه نفع واستحال إلى تلك الصفة الخبيثة المنتنة خرج بسهولة من مخرج معد لذلك أن يستكثر من محامد الله جل جلاله، اللهم أوزعنا شكر نعمك. باب ترك استصحاب ما فيه ذكر الله عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي. وقد صح أن نقش خاتمه كان محمد رسول الله. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم، قال النسائي: هذا حديث غير محفوظ، وقال أبو داود: منكر، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وأشار إلى شذوذه، وأما الترمذي فصححه، قال النووي: هذا مردود عليه ذكره في الخلاصة. وقال المنذري: الصواب عندي تصحيحه فإن رواته ثقات أثبات، وتبعه أبو الفتح القشيري في آخر الاقتراح، وعلته أنه من رواته همام عن ابن جريج، وابن جريج لم يسمع من الزهري وإنما رواه عن زياد بن سعد عن الزهري بلفظ آخر، وقد رواه مع همام مرفوعا يحيى بن الضريس البجلي ويحيى بن المتوكل أخرجهما الحاكم والدارقطني، وقد رواه عمر بن عاصم وهو من الثقات عن همام موقوفا على أنس. وأخرج له البيهقي شاهدا وأشار إلى ضعفه ورجاله ثقات، ورواه الحاكم أيضا ولفظه: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لبس خاتما نقشه محمد رسول الله فكان إذا دخل الخلاء وضعه وله شاهد من حديث ابن عباس رواه
[ 90 ]
الجوزقاني في الاحاديث الضعيفة، وينظر في سنده فإن رجاله ثقات إلا محمد بن إبراهيم الرازي فإنه متروك قاله الحافظ. قوله: وقد صح أن نقش خاتمه أخرجه البيهقي والحاكم، قال الحافظ: ووهم النووي والمنذري في كلاميهما على المهذب فقالا: هذا من كلام المصنف لا من الحديث، ولكنه صحيح من طريق أخرى في أن نقش الخاتم كان كذلك. والحديث يدل على تنزيه ما فيه ذكر الله تعالى عن إدخاله الحشوش والقرآن بالاولى، حتى قال بعضهم: يحرم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة، وقد خالف في ذلك المنصور بالله فقال: لا يندب نزع الخاتم الذي فيه ذكر الله لتأديته إلى ضياعه، وقد نهى عن إضاعة المال والحديث يرده. باب كف المتخلي عن الكلام عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا مر ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبول فسلم عليه فلم يرد عليه رواه الجماعة إلا البخاري. الحديث زاد فيه أبو داود من طريق ابن عمر وغيره: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تيمم ثم رد على الرجل السلام ورواه أيضا من طريق المهاجر بن قنفذ بلفظ أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهت أن أذكر الله عزوجل إلا على طهر أو قال: على طهارة وأخرج هذه الرواية أيضا النسائي وابن ماجه، وهو يدل على كراهة ذكر الله حال قضاء الحاجة، ولو كان واجبا كرد السلام، ولا يستحق المسلم في تلك الحال جوابا. قال النووي: وهذا متفق وسيأتي بقية الكلام على الحديث في باب استحباب الطهارة لذكر الله، وفيه أنه ينبغي لمن سلم عليه في تلك الحال أن يدع الرد حتى يتوضأ أو يتيمم ثم يرد، وهذا إذا لم يخش فوت المسلم، أما إذا خشي فوته فالحديث لا يدل على المنع، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمكن من الرد بعد أن توضأ أو تيمم على اختلاف الرواية، فيمكن أن يكون تركه لذلك طلبا للاشرف وهو الرد حال الطهارة، ويبقى الكلام في الحمد حال العطاس، فالقياس على التسليم المذكور في حديث الباب وكذلك التعليل بكراهة الذكر إلا على طهر يشعر أن المنع من ذلك. وظاهر حديث: إذا عطس أحدكم فليحمد الله يشعر بشرعيته في جميع الاوقات التي منها وقت قضاء الحاجة، فهل يخصص عموم كراهة الذكر
[ 91 ]
المستفادة من المقام بحديث العطاس أو يجعل الامر بالعكس، أو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه فيتعارضان فيه تردد وقد قيل إنه يحمد بقلبه وهو المناسب لتشريف مثل هذا الذكر وتعظيمه وتنزيهه. وعن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. الحديث فيه عكرمة بن عمار العجلي، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وضعف بعض الحفاظ حديث عكرمة هذا عن يحيى بن أبي كثير، ولكنه لا وجه للتضعيف بهذا، فقد أخرج مسلم حديثه عن يحيى، واستشهد بحديثه البخاري عن يحيى أيضا، وفي الترغيب والترهيب أن في إسناده عياض بن هلال أو هلال بن عياض وهو في عداد المجهولين. وأخرجه ابن السكن وصححه، وابن القطان من حديث جابر بلفظ: إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدثا قال الحافظ ابن حجر: وهو معلول. والحديث يدل على وجوب ستر العورة وترك الكلام، فإن التعليل بمقت الله يدل على حرمة الفعل المعلل ووجوب اجتنابه، لان المقت هو البغض كما في القاموس، وروي أنه أشد البغض وقيل: إن الكلام في تلك الحال مكروه فقط، والقرينة الصارفة إلى معنى الكراهة الاجماع على أن الكلام غير محرم في هذه الحالة، ذكره الامام المهدي في الغيث، فإن صح الاجماع صلح للصرف عند القائل بحجيته ولكنه يبعد حمل النهي على الكراهة ربطه بتلك العلة. قوله: يضربان الغائط يقال: ضربت الارض إذا أتيت الخلاء، وضربت في الارض إذا سافرت، روي ذلك عن ثعلب، والمراد هنا يمشيان إلى الغائط. قوله: كاشفين قال النووي: كذا ضبطناه في كتب الحديث وهو منصوب على الحال، قال: ووقع في كثير من نسخ المهذب كاشفان وهو صحيح أيضا خبر مبتدأ محذوف أي وهما كاشفان والاول أصوب. وذكر الرجلين في الحديث خرج مخرج الغالب وإلا فالمرأتان والمرأة والرجل أقبح من ذلك.
[ 92 ]
باب الابعاد والاستتار للمتخلي في الفضاء عن جابر قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى رواه ابن ماجة ولابي داود: كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. الحديث رجاله عند ابن ماجه رجال الصحيح إلا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي فقال البخاري: يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي وقال في التقريب: صدوق كثير الوهم، وقد أخرجه أيضا النسائي وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح من حديث المغيرة بلفظ: كان إذا ذهب أبعد وأخرجه أبو داود من حديث جابر بلفظ كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد وفي إسناده أيضا إسماعيل بن عبد الملك الكوفي نزيل مكة وقد تكلم فيه غير واحد. وقال في التقريب: صدوق كثير الوهم من السادسة. قوله: لا يأتي البراز البراز بفتح الباء اسم للفضاء الواسع من الارض، كني به عن حاجة الانسان كما كني عنها بالغائط والخلاء. والحديث يدل على مشروعية الابعاد لقاضي الحاجة، والظاهر أن العلة إخفاء المستهجن من الخارج فيقاس عليه إخفاء الاخراج لان الكل مستهجن. وعن عبد الله بن جعفر قال: كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. وحائش نخل أي جماعته ولا واحد له من لفظه. قوله: هدف الهدف محركة كل مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل. قوله: أو حائش نخل بالحاء المهملة فألف فياء مثناة تحتية فشين معجمة هو في كتب اللغة كما ذكره المصنف. والحديث يدل على استحباب أن يكون قاضي الحاجة مستترا حال الفعل بما يمنع من رؤية الغير له وهو على تلك الصفة، ولعل قضاءه صلى الله عليه وآله وسلم للحاجة في حائش النخل في غير وقت الثمرة لما عند الطبراني في الاوسط من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخلى الرجل تحت شجرة مثمرة أو على ضفة نهر جار ولكنه لم يروه عن ميمون إلا فرات بن السائب وفرات متروك قاله البخاري وغيره.
[ 93 ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. الحديث رواه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي، ومداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي وفيه اختلاف، وقيل: إنه صحابي ولا يصح، والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول. وقال أبو زرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل. والحديث فيه الامر بالتستر معللا بأن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، وذلك أن الشيطان يحضر وقت قضاء الحاجة لخلوه عن الذكر الذي يطرد به، فإذا حضر في ذلك الوقت أمر الانسان بكشف العورة وحسن له البول في المواضع الصلبة التي هي مظنة رشاش البول، وذلك معنى قوله: يلعب بمقاعد بني آدم فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاضي الحاجة بالتستر حال قضائها مخالفة للشيطان ودفعا لوسوسته التي يتسبب عنها النظر إلى سوأة قاضي الحاجة المفضي إلى أئمة. قوله: إلا أن يجمع كثيبا من رمل الكثيب بالثاء المثلثة قطعة مستطيلة تشبه الربوة، أي فإن لم يجد سترة فليجمع من التراب والرمل قدرا يكون ارتفاعه بحيث يستره. قوله: فليستدبره أي يجعله دبر ظهره وفيه أن الساتر حال قضاء الحاجة يكون خلف الظهر. باب نهي المتخلي عن استقبال القبلة واستدبارها عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها رواه أحمد ومسلم في رواية الخمسة إلا الترمذي قال: إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروثة والرمة وليس لاحمد فيه الامر بالاحجار. الحديث أخرجه أيضا مالك. وفي الباب عن أبي أيوب في الصحيحين كما سيأتي، وعن سلمان في مسلم، وعن عبد الله بن الحرث بن جزء في ابن ماجه وابن حبان، وعن معقل بن أبي معقل في أبي داود، وعن سهل بن حنيف في مسند الدارمي، وزيادة
[ 94 ]
لا يستطب بيمينه هي أيضا في المتفق عليه من حديث أبي قتادة بلفظ: فلا يمس ذكره بيمينه وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه قال ابن منده: مجمع على صحته وزيادة وكان يأمر بثلاثة أحجار أخرجها أيضا ابن خزيمة وابن حبان والدارمي وأبو عوانة في صحيحه، والشافعي من حديث أبي هريرة بلفظ: وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار وأخرجها أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وصححها من حديث عائشة بلفظ: فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهن فإنها تجزي عنه وأخرجها مسلم من حديث سلمان وأبو داود من حديث خزيمة بن ثابت بلفظ: فليستنج بثلاثة أحجار وعند مسلم من حديث سلمان بلفظ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نجتزي بأقل من ثلاثة أحجار. والحديث يدل على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط، وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال: الاول: لا يجوز ذلك لا في الصحارى ولا في البنيان وهو قول أبي أيوب الانصاري الصحابي ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وأبي ثور وأحمد في رواية كذا قاله النووي في شرح مسلم، ونسبه في البحر إلى الاكثر، ورواه ابن حزم في المحلى عن أبي هريرة وابن مسعود وسراقة بن مالك وعطاء والاوزاعي وعن السلف من الصحابة والتابعين. المذهب الثاني: الجواز في الصحارى والبنيان وهو مذهب عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك وداود الظاهري، كذا رواه النووي في شرح مسلم عنهم وهو مذهب الامير الحسين. المذهب الثالث: أنه يحرم في الصحارى لا في العمران وإليه ذهب مالك والشافعي وهو مروي عن العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، صرح بذلك النووي في شرح مسلم أيضا، وزاد في البحر عبد الله بن العباس ونسبه في الفتح إلى الجمهور. المذهب الرابع: أنه لا يجوز الاستقبال لا في الصحارى ولا في العمران، ويجوز الاستدبار فيهما وهو أحد الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد. المذهب الخامس: أن النهي للتنزيه فيكون مكروها، وإليه ذهب الامام القاسم بن إبراهيم وأشار إليه في الاحكام وحصله القاضي زيد لمذهب الهادي عليه السلام، ونسبه في البحر إلى المؤيد بالله وأبي طالب والناصر والنخعي، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي أيوب الانصاري. المذهب السادس: جواز الاستدبار في البنيان فقط وهو قول أبي يوسف، ذكره في
[ 95 ]
الفتح. المذهب السابع: التحريم مطلقا حتى في القبلة المنسوخة وهي بيت المقدس، وهو محكى عن إبراهيم وابن سيرين، ذكره أيضا في الفتح وقد ذهب إلى عدم الفرق بين القبلتين الهادوية ولكنهم صرحوا بأنه مكروه فقط. المذهب الثامن: أن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها، فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا، قاله أبو عوانة صاحب المزني هكذا في الفتح. احتج أهل المذهب الاول بالاحاديث الصحيحة الواردة في النهي مطلقا كحديث الباب وحديث أبي أيوب وحديث سلمان وغيرها عن غيرهم كما تقدم قالوا: لان المنع ليس إلا لحرمة القبلة، وهذا المعنى موجود في الصحارى والبنيان، ولو كان مجرد الحائل كافيا لجاز في الصحارى لوجود الحائل من جبل أو واد أو غيرهما من أنواع الحائل. وأجابوا عن حديث ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستقبل الشام مستدبر الكعبة بأنه ليس فيه أنه كان ذلك بعد النهي، وبأنه موافق لما كان عليه الناس قبل النهي فهو منسوخ، صرح بذلك ابن حزم. وعن حديث جابر الذي قال فيه: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها بأن فيه أبان بن صالح وليس بالمشهور قاله ابن حزم. وفيه أنه قد حسن الحديث الترمذي والبزار، وصححه البخاري وابن السكن، والاولى في الجواب عنه أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا كما تقرر في الاصول وعن حديث عائشة قالت: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال: أو قد فعلوها حولوا مقعدي قبل القبلة بأنه من طريق خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا ندري من هو، قاله ابن حزم. وقال الذهبي في ترجمته: إن حديث حولوا مقعدي منكر وفيه أنه قال النووي في شرح مسلم أن إسناده حسن. واحتج أهل المذهب الثاني بحديث ابن عمر وجابر وعائشة، وسيأتي ذكر من أخرجها في الباب الذي بعد هذا وقالوا إنها ناسخة للنهي. واحتج أهل المذهب الثالث بحديث ابن عمر وعائشة لان ذلك كان في البنيان قالوا: وبهذا حصل الجمع بين الاحاديث، والجمع بينها ما أمكن هو الواجب، قال الحافظ في الفتح وهو أعدل الاقوال لاعماله جميع الادلة اه. ويرده حديث جابر الآتي فإنه لم يقيد الاستقبال فيه بالبنيان، وقد يجاب بأنها حكاية فعل لا عموم لها، وسيأتي تحقيق الكلام في الباب الذي بعد هذا. وما روي عن ابن عمر أنه قال: إنما نهى عن ذلك في الفضاء كما سيأتي يؤيد هذا المذهب. واحتج أهل
[ 96 ]
المذهب الرابع بحديث سلمان الذي في صحيح مسلم، وليس فيه إلا النهي عن الاستقبال فقط وهو باطل، لان النهي عن الاستدبار في الاحاديث الصحيحة وهو زيادة يتعين الاخذ بها. واحتج أهل المذهب الخامس بحديث عائشة وجابر وابن عمر وسيأتي ذكر ذلك، قالوا: إنها صارفة للنهي عن معناه الحقيقي وهو التحريم إلى الكراهة، وهو لا يتم في حديث ابن عمر وجابر لانه ليس فيهما إلا مجرد الفعل، وهو لا يعارض القول الخاص بنا كما تقرر في الاصول، ولا شك أن قوله: لا تستقبلوا القبلة خطاب للامة، نعم إن صح حديث عائشة صلح لذلك. واحتج أهل المذهب السادس بحديث ابن عمر لان فيه أنه رآه مستدبر القبلة مستقبل الشام وفيه ما سلف. واحتج أهل المذهب السابع بما رواه أبو داود قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط رواه أبو داود وابن ماجه، قال الحافظ في الفتح: وهو حديث ضعيف لان فيه راويا مجهول الحال، وعلى تقدير صحته فالمراد بذلك أهل المدينة ومن على سمتها، لان استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة، فالعلة استدبار الكعبة لا استقبال بيت المقدس. وقد ادعى الخطابي الاجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة وفيه نظر لما ذكرنا عن إبراهيم وابن سيرين انتهى. وقد نسبه في البحر إلى عطاء والزهري والمنصور بالله والمذهب. واحتج أهل المذهب الثامن بعموم قوله: شرقوا أو غربوا وهو استدلال في غاية الركة والضعف. إذا عرفت هذه المذاهب وأدلتها لم يخف عليك ما هو الصواب منها، وسيأتيك التصريح به والمقام من معارك النظار فتدبره. وفي الحديث أيضا دلالة على أنه يجب الاستنجاء بثلاثة أحجار، ولا يجوز الاستنجاء بدونها لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الاستنجاء بدون ثلاثة أحجار، وأما بأكثر من ثلاث فلا بأس به لانه أدخل في الانقاء. وقد ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور إلى وجوب الاستنجاء، وأنه يجب أن يكون بثلاثة أحجار أو ثلاث مسحات، وإذا استنجى للقبل والدبر وجب ست مسحات لكل واحد ثلاث مسحات، قالوا: والافضل أن يكون بست أحجار، فإن اقتصر على حجر واحد له ست أحرف أجزأه، وكذلك تجزئ الخرقة الصفيقة التي إذا مسح بأحد جانبيها لا يصل البلل إلى الجانب الآخر، قالوا: وتجب الزيادة على ثلاثة أحجار إن لم يحصل الانقاء بها. وذهب مالك وداود إلى أن الواجب الانقاء، فإن حصل بحجر أجزأه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي، وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أنه ليس بواجب، وإنما يجب عند
[ 97 ]
الهادوية على المتيمم إذا لم يستنج بالماء لازالة النجاسة، قالوا: إذ لا دليل على الوجوب كذا في البحر وفيه إنه قد ثبت الامر بالاستجمار والنهي عن تركه، بل النهي عن الاستجمار بدون الثلاث، فكيف يقال: لا دليل على الوجوب؟ وفي الحديث أيضا النهي عن الاستطابة باليمين. قال النووي: وقد أجمع العلماء على أنه نهى عنه، ثم الجمهور على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام، قال: وأشار إلى تحريمه جماعة من أصحابنا انتهى. قلت: وهو الحق لان النهي يقتضي التحريم ولا صارف له، فلا وجه للحكم بالكراهة فقط. وفي الحديث أيضا دلالة على كراهة الاستجمار بالروثة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم عند البخاري أنه قال: إنها ركس ولم يستجمر بها، وكذلك الرمة وهي العظم لانها من طعام الجن. وسيأتي الكلام على ذلك في باب النهي عن الاستجمار بدون الثلاثة الاحجار. وعن أبي أيوب الانصاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله تعالى متفق عليه. قوله: إذا أتيت الغائط هو الموضع المطمئن من الارض كانوا ينتابونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث كراهية منهم لذكره بخاص اسمه. قوله: ولكن شرقوا أو غربوا محمول على محل يكون التشريق والتغريب فيه مخالفا لاستقبال القبلة واستدبارها كالمدينة وما في معناها من البلاد، ولا يدخل فيه ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب. قوله: مراحيض بفتح الميم وبالحاء المهملة وبالضاد المعجمة جمع مرحاض وهو المغتسل وهو أيضا كناية عن موضع التخلي. قوله: ونستغفر الله قيل: يراد به الاستغفار لباني الكنف على هذه الصفة الممنوعة عنده، وإنما وجب المصير إلى هذا التأويل لان المنحرف لا يحتاج إلى استغفار. والحديث استدل به على المنع من استقبال القبلة، واستدل بقول أبي أيوب من لم يفرق بين الصحارى والبنيان، وقد تقدم الكلام على فقه الحديث في الذي قبله.
[ 98 ]
باب جواز ذلك بين البنيان عن ابن عمر رضي الله عنه قال: رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة رواه الجماعة. وقع في رواية لابن حبان مستقبل القبلة مستدبر الشام، قال الحافظ: وهي خطأ تعد من قسم المقلوب. قوله: رقيت رقي إلى الشئ بكسر القاف رقيا ورقوا صعد وترقى مثله ورقى غيره، والمرقاة والمرقاة الدرجة، ونظيره مسقاة ومسقاة ومثناة ومثناة للحبل، ومبناة ومبناة للعيبة أو النطع يعني بفتح الميم وكسرها فيها، قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي. قوله: على بيت حفصة وقع في رواية: على ظهر بيت لنا وفي أخرى على ظهر بيتنا وكلها في الصحيح. وفي رواية لابن خزيمة: دخلت على حفصة بنت عمر فصعدت ظهر البيت وطريق الجمع أن يقال: أضاف البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته، وأضافه إلى حفصة لانه البيت الذي أسكنها فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أضافه إلى نفسه باعتبار ما آل إليه الحال لانه ورث حفصة دون إخوته لكونه شقيقها. الحديث يدل على جواز استدبار القبلة حال قضاء الحاجة، وقد استدل به من قال: بجواز الاستقبال والاستدبار، ورأى أنه ناسخ واعتقد الاباحة مطلقا. وبه احتج من خص عدم الجواز بالصحارى كما تقدم، ومن خص المنع بالاستقبال دون الاستدبار في الصحارى والعمران، ومن جوز الاستدبار في البنيان وهي أربعة مذاهب من المذاهب الثمانية التي تقدمت، ولكنه لا يخفى أن الدليل باعتبار الثلاثة المذاهب الاول من هذه الاربعة أخص من الدعوى. أما الاول منها فظاهر. وأما الثاني فلان المدعي جواز الاستقبال والاستدبار في البنيان وليس في الحديث إلا الاستدبار. وأما الثالث فلان المدعي جواز الاستدبار في الصحارى والعمران، وليس في الحديث إلا الاستدبار في العمران فقط، ويمكن تأييد الاول من الاربعة بأن اعتبار خصوص كونه في البنيان وصف ملغى فيطرح ويؤخذ منه الجواز مجردا عن ذلك، ولكنه يفت في عضد هذا التأييد أن الواجب أن يقتصر في مخالفة مقتضى العموم على مقدار الضرورة، ويبقى العام على مقتضى عمومه فيما بقي من الصور، إذ لا معارض له فيما عدا تلك الصورة المخصوصة التي ورد بها الدليل الخاص، وهذا لو فرض أن حديث أبي
[ 99 ]
أيوب وغيره ورد بصيغة واحدة تعم الاستقبال والاستدبار، فكيف وهو قد ورد بصيغتين: صيغة دلت على منع الاستقبال، وصيغة دلت على منع الاستدبار، فغاية ما في حديث ابن عمر تخصيص الصيغة الثانية لانه وارد في البنيان وهي عامة لكل استدبار، ويمكن أيضا تأييد المذهب الثاني من هذه الاربعة بأن الاستقبال في البنيان يقاس على الاستدبار، ولكنه يخدش فيه ما قاله ابن دقيق العيد: أن هذا تقديم للقياس على مقتضى اللفظ العام، وفيه ما فيه على ما عرف في أصول الفقه، وبأن شرط القياس مساواة الفرع للاصل أو زيادة عليه في المعنى المعتبر في الحكم ولا تساوي ههنا، فإن الاستقبال يزيد في القبح على الاستدبار على ما يشهد به العرف، ولهذا اعتبر بعض العلماء هذا المعنى، فمنع الاستقبال وأجاز الاستدبار، وإذا كان الاستقبال أزيد في القبح من الاستدبار فلا يلزم من إلغاء المفسدة الناقصة في القبح في حكم الجواز إلغاء المفسدة الزائدة في القبح في حكم الجواز انتهى. وفيه أن دعوى الزيادة في القبح ممنوعة ومجرد اقتصار بعض أهل العلم على منع الاستقبال ليس لكونه أشد بل لانه لم يقم دليل على جوازه كما قام على جواز الاستدبار، والتخصيص بالقياس مذهب مشهور راجح، وهذا على تسليم أنه لا دليل على الجواز إلا مجرد القياس وليس كذلك، فإن حديث جابر الآتي بلفظ أنه رآه قبل أن يقبض بعام مستقبل القبلة نص في محل النزاع، لولا ما أسلفناه في الباب الاول من أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض قوله الخاص بنا كما تقرر في الاصول. ويمكن تأييد المذهب الثالث من الاربعة بأن الاستدبار في الفضاء ملحق بالاستدبار في البنيان، لان الامكنة أوصاف طردية ملغاة ويقدح فيه ما سلف. وأما المذهب الرابع فلا مطعن فيه إلا ما ذكرناه أنه لا تعارض بين قوله الخاص بنا وفعله، لاسيما ورؤية ابن عمر كانت اتفاقية من دون قصد منه ولا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كان يترتب على هذا الفعل حكم لعامة الناس لبينه لهم، فإن الاحكام العامة لا بد من بيانها، فليس في المقام ما يصلح التمسك به في الجواز إلا حديث عائشة الآتي إن صلح للاحتجاج. ومن جملة المستدلين بحديث ابن عمر القائلون بكراهة التنزيه وفيه ما مر وبقية الكلام على الحديث تقدمت في الباب الاول. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها رواه الخمسة إلا النسائي.
[ 100 ]
وأخرجه أيضا البزار وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني وحسنه الترمذي ونقل عن البخاري تصحيحه. وحسنه أيضا البزار وصححه أيضا ابن السكن، وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره، وضعفه ابن عبد البر بأبان بن صالح القرشي، قال الحافظ: ووهم في ذلك فإنه ثقة بالاتفاق. وادعى ابن حزم أنه مجهول فغلط. والحديث استدل به من قال بجواز الاستقبال والاستدبار في الصحارى والعمران وجعله ناسخا وفيه مسلف، إلا أن الاستدلال به أظهر من الاستدلال بحديث ابن عمر، لان فيه التصريح بتأخره عن النهي ولا تصريح في حديث ابن عمر، ولعدم تقييده بالبنيان كما فحديث ابن عمر، ولعدم ما يدل على أن الرؤية كانت اتفاقية بخلاف حديث ابن عمر، وهو يرد على من قال بجواز الاستدبار فقط، سواء قيده بالبنيان كما ذهب إليه البعض، أو لم يقيده كما ذهب إليه آخرون، وقد سبق ذكرهم في الباب الاول، وبرد أيضا على من قيد جواز الاستقبال والاستدبار بالبنيان لعدم التقييد من جابر، وقد يجاب بأنها حكاية فعل لا عموم لها، فيحتمل أن يكون لعذر وأن يكون في بنيان، هكذا أجاب الحافظ ابن حجر، ذكر ذلك في التلخيص، ولا يخفى أن احتمال أن يكون ذلك الفعل لعذر يقال مثله في حديث ابن عمر، فلا يتم للشافعية ومن معهم الاحتجاج به على تخصيص الجواز بالبنيان، وقد تقدم الكلام على الحديث في الذي قبله وفي الباب الاول. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال: أو قد فعلوها حولوا مقعدتي قبل القبلة رواه أحمد وابن ماجه. الحديث قال ابن حزم في المحلى أنه ساقط لان راويه خالد الحذاء وهو ثقة عن خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا ندري من هو، وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن الصلت وهذا أبطل وأبطل، لان خالدا الحذاء لم يدرك كثير ابن الصلت، ثم لو صح لما كانت فيه حجة لان نصه صلى الله عليه وآله وسلم يبين أنه إنما كان قبل النهي، لان من الباطل المحال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك، هذا ما لا يظنه مسلم ولا ذو عقل، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم، فلو صح لكان منسوخا بلا شك، ثم
[ 101 ]
لو صح لما كان فيه إلا إباحة الاستقبال فقط لا إباحة الاستدبار أصلا فبطل تعلقهم به انتهى، وقال الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن أبي الصلت: إن هذا الحديث منكر، وقال النووي في شرح مسلم: إن إسناده حسن. والحديث استدل به من ذهب إلى النسخ وقد عرفناك أنه لا دليل يدل على الجواز إلا هذا الحديث، لانه لا يصح دعوى اختصاصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله: أوقد فعلوها. وأما حديث ابن عمر وجابر فقد قررنا لك أن فعله لا يعارض القول الخاص بالامة. وقوله: لا تستقبلوا لا تستدبروا من الخطابات الخاصة بهم، فيكون فعله بعد القول دليل الاختصاص به لعدم شمول ذلك الخطاب له بطريق الظهور، ولا صيغة تكون فيها النصوصية عليه، وهذا قد تقرر في الاصول، ولم يذهب إلى خلافه أحد من أئمته الفحول، ولكن الشأن في صحة هذا الحديث وارتفاعه إلى درجة الاعتبار وأين هو من ذاك، فالانصاف الحكم بالمنع مطلقا والجزم بالتحريم حتى ينتهض دليل يصلح للنسخ أو التخصيص أو المعارضة، ولم نقف على شئ من ذلك، إلا أنه يؤنس بمذهب من خص المنع بالفضاء ما سيأتي عن ابن عمر من قوله: إنما نهى عن هذا في الفضاء بالصيغة القاضية بحصر النهي عليه وسيأتي ما فيه. وعن مروان الاصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها فقلت: أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن ذلك؟ فقال بلى إنما نهى عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شئ يسترك فلا بأس رواه أبو داود. أخرجه وسكت عنه، وقد صح عنه أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج، وكذلك سكت عنه المنذري ولم يتكلم عليه في تخريج السنن، وذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه بشئ، وذكر في الفتح أنه أخرجه أبو داود والحاكم بإسناد حسن، وروى البيهقي من طريق عيسى الخياط قال: قلت للشعبي: إني لاعجب لاختلاف أبي هريرة وابن عمر، قال نافع عن ابن عمر: دخلت إلى بيت حفصة فحانت مني التفاتة فرأيت كنيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستقبل القبلة، وقال أبو هريرة: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. قال الشعبي: صدقا جميعا، أما قول أبي هريرة فهو في الصحراء فإن لله عبادا ملائكة وجنا يصلون فلا يستقبلهم أحد ببول ولا غائط ولا يستدبرهم، وأما كنفكم هذه فإنما هي بيوت بنيت لا قبلة فيها، وأخرجه ابن ماجه مختصرا. وقول ابن عمر يدل على أن النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما هو في الصحراء
[ 102 ]
مع عدم الساتر، وهو يصلح دليلا لمن فرق بين الصحراء والبنيان، ولكنه لا يدل على المنع في الفضاء على كل حال كما ذهب إليه البعض بل مع عدم الساتر، وإنما قلنا بصلاحيته للاستدلال. لان قوله إنما نهى عن هذا في الفضاء يدل على أنه قد علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل أنه قال ذلك استنادا إلى الفعل الذي شاهده ورواه، فكأنه لما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيت حفصة مستدبرا القبلة فهم اختصاص النهي بالبنيان، فلا يكون هذا الفهم حجة، ولا يصلح هذا القول للاستدلال به وأقل شئ الاحتمال فلا ينتهض لافادة المطلوب. وقد سقنا في شرح أحاديث هذا الباب والذي قبله من الكلام على هذه المسألة المعضلة أبحاثا لا تجدها في غير هذا الكتاب، ولعلك لا تحتاج بعد إمعان النظر فيها إلى غيره. (فائدة) قال المنصور بالله والغزالي والصيمري: إنه يكره استقبال القمرين والنيرات، قالوا: لشرفها بالقسم بها فأشبهت الكعبة كذا في البحر وقد استقوى عدم الكراهة وقد قيل في الاستدلال على الكراهة بأنه روى الحكيم الترمذي عن الحسن قال: حدثني سبعة رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم: أبو هريرة وجابر وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين ومعقل بن يسار وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك يزيد بعضهم على بعض في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يبال في المغتسل، ونهى عن البول في الماء الراكد، ونهى عن البول في الشارع، ونهى أن يبول الرجل وفرجه باد إلى الشمس والقمر فذكر حديثا طويلا في نحو خمسة أوراق على هذا الاسلوب. قال الحافظ: وهو حديث باطل لا أصل له، بل هو من اختلاق عباد بن كثير وذكر أن مداره عليه. وقال النووي في شرح المهذب: هذا حديث باطل، وقال ابن الصلاح: لا يعرف وهو ضعيف انتهى. باب ارتياد المكان الرخو وما يكره من التخلي فيه عن أبي موسى قال: مال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى دمث إلى جنب حائط فبال وقال: إذا بال أحدكم فليرتد لبوله رواه أحمد وأبو داود. الحديث فيه مجهول لان أبا داود قال في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا أبوالتياح حدثني شيخ قال: لما قدم عبد الله بن عباس البصرة فكان يحدثنا عن أبي موسى فكتب عبد الله إلى أبي موسى يسأله عن أشياء فكتب إليه أبو موسى: إني كنت مع رسول الله
[ 103 ]
صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فأراد أن يبول، فأتى دمثا في أصل جدار فبال ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا. قوله: إلى دمث هو بدال مهملة فميم مفتوحتين فثاء مثلثة ذكر معناه في المصباح وفي القاموس: دمث المكان وغيره كفرح سهل انتهى: فالصفة منه دمث بميم مكسورة قبلها دال مفتوحة، لان الاكثر في الصفة المشبهة من فعل بكسر العين أن يكون على فعل بكسر عينه أيضا إلا أن يكون ما ذكره في المصباح من النادر، فإنه قجاء ندس وندس، وحذر وحذر، وعجل وعجل بالضم والكسر فيها. وجاء أيضا فعل بسكون العين نحو شكس بوزن قلس، وحر بوزن فلك، وصفر بوزن حبر، والكل من فعل بكسر العين كما تقرر في الصرف، فينظر هل تأتي منه الصفة على فعل بفتح العين كما ذكره صاحب المصباح، اللهم إلا أن يكون مصدرا وصف به المكان مبالغة. وقد ضبطه ابن رسلان في شرح السنن بكسر الميم على ما هو القياس كما ذكرنا. قوله: فليرتد أي يطلب محلا سهلا لينا. والحديث يدل على أنه ينبغي لمن أراد قضاء الحاجة أن يعمد إلى مكان لين لا صلابة فيه ليأمن من رشاش البول ونحوه، وهو وإن كان ضعيفا فأحاديث الامر بالتنزه عن البول تفيد ذلك. وعن قتادة عن عبد الله بن سرجس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبال في الجحر، قالوا لقتادة: ما يكره من البول في الجحر؟ قال: يقال إنها مساكن الجن رواه أحمد والنسائي وأبو داود. وأخرجه الحاكم والبيهقي، وقيل: إن قتادة لم يسمع من عبد الله بن سرجس، حكاه حرب عن أحمد، وأثبت سماعه منه علي بن المديني، وصححه ابن خزيمة وابن السكن. قوله: في الجحر هو بضم الجيم وسكون الحاء كل شئ تحتفره السباع والهوام لانفسها كالجحران، والجمع جحرة كعنبة وأحجار كأقفال. قوله: قالوا لقتادة ما يكره هو بضم أوله مبني لما لم يسم فاعله قاله ابن رسلان في شرح السنن، والحديث يدل على كراهة البول في الحفر التي تسكنها الهوام والسباع، إما لما ذكره قتادة، أو لانه يؤذي حافيها من الحيوانات. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
[ 104 ]
وفي لفظ مسلم: اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان الحديث، قال الخطابي: المراد باللاعنين الامران الجالبان للعن الحاملان الناس عليه والداعيان إليه، وذلك أن من فعلهما لعن وشتم، يعني عادة الناس لعنه، فلما صارا سببا أسند اللعن إليهما على طريق المجاز العقلي، قال: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون أي الملعون فاعلهما فهو كذلك من المجاز العقلي. وقوله: الذي يتخلى في طريق الناس على حذف مضاف وتقديره تخلى الذي يتخلى. قوله: أو في ظلهم المراد بالظل هنا على ما قاله الخطابي وغيره مستظل الناس الذي يتخذونه مقيلا ومنزلا ينزلونه ويقعدون فيه، وليس كل ظلم يحرم قضاء الحاجة فيه، فقد قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاجته في حائش النخل كما سلف وله ظل بلا شك. والحديث يدل على تحريم التخلي في طرق الناس وظلهم لما فيه من أذية المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره. وعن أبي سعيد الحميري عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل رواه أبو داود وابن ماجه وقال: هو مرسل. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وصححه أيضا ابن السكن، قال الحافظ: وفيه نظر لان أبا سعيد لم يسمع من معاذ ولا يعرف بغير هذا الاسناد قاله ابن القطان. وفي الباب عن ابن عباس نحوه، رواه أحمد وفيه ضعف لاجل ابن لهيعة، والراوي عن ابن عباس مبهم، وعن سعد بن أبي وقاص في علل الدارقطني. وعن أبي هريرة رواه مسلم في صحيحه بلفظ: اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم وفي رواية لابن حبان: وأفنيتهم وفي رواية ابن الجارود: أو مجالسهم وفي لفظ للحاكم: من سل سخيمته أي غائطه على طريق عامرة من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وإسناده ضعيف قال الحافظ ابن حجر: وفي ابن ماجه عن جابر بإسناد حسن مرفوعا: إياكم والتعريس على جواد الطريق فإنها مأوى الحيات والسباع وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن وعن ابن عمر: نهى أن يصلى على قارعة الطريق أو يضرب عليها الخلاء أو يبال فيها وفي إسناده ابن لهيعة. وقال الدارقطني: رفعه غير ثابت. وقال في التقريب: إن أبا سعيد الحميري شامي مجهول، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن الشعبي مرسلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتقوا الملاعن
[ 105 ]
وأعدوا النبل ورواه أبو عبيد من وجه آخر عن الشعبي عمن سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن حجر: وإسناده ضعيف. ورواه ابن أبي حاتم في العلل من حديث سراقة مرفوعا وصحح أبوه وقفه. والنبل بضم النون وفتحها الاحجار الصغار التي يستنجى بها. والحديث يدل على المنع من قضاء الحاجة في الموارد والظل وقارعة الطريق لما في ذلك من الاذية للمسلمين، والبراز قد سبق ضبطه في باب الابعاد والاستتار. والمراد بالموارد المجاري والطرق إلى الماء واحدها مورد، والمراد بقارعة الطريق أعلاه، سمي بذلك لان المارين عليه يقرعونه بنعالهم وأرجلهم قاله ابن رسلان. والمراد بالظل الموضع الذي يستظل به الناس ويتخذونه مقيلا وينزلونه لا كل ظل. وعن عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه رواه الخمسة لكن قوله: ثم يتوضأ فيه لاحمد وأبي داود فقط. قال الترمذي: حديث غريب، وأخرجه الضياء في المختارة بنحوه. قوله: في مستحمه المستحم المغتسل سمي باسم الحميم وهو الماء الحار الذي يغتسل به، وأطلق على كل موضع يغتسل فيه وإن لم يكن الماء حارا، وقد صرح في حديث آخر بذكر المغتسل ولفظه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسله أخرجه أبو داود والنسائي، ورواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجهول، وجهالة الصحابي لا تضر. قوله: عامة الوسواس هو بكسر الواو الاولى حديث النفس والشيطان بما لا نفع فيه، وأما بفتحها فاسم للشيطان. والحديث يدل على المنع من البول في محل الاغتسال لانه يبقى أثره، فإذا انتضح إلى المغتسل شئ من الماء بعد وقوعه على محل البول نجسه فلا يزال عند مباشرة الاغتسال متخيلا لذلك، فيفضي به إلى الوسوسة التي علل صلى الله عليه وآله وسلم النهي بها. وقد قيل: إنه إذا كان للبول مسلك ينفذ فيه فلا كراهة، وربط النهي بعلة إفضاء المنهي عنه إلى الوسوسة يصلح قرينة لصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة. وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أ نه نهى أن يبال في الماء الراكد رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. قد تقدم الكلام على الحديث في باب بيان زوال تطهير الماء، وفي باب حكم الماء فليرجع إليهما.
[ 106 ]
باب البول في الاواني للحاجة عن أميمة بنت رقيقة عن أمها قالت: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل. رواه أبو داود والنسائي. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والحاكم. ورواه أبو ذر الهروي في مستدركه، وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده، والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم من حديث أبي مالك النخعي عن الاسود بن قيس عن نبيح العنزي عن أم أيمن قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الليل إلى فخارة له في جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أم أيمن قومي فأهريقي ما في تلك الفخارة، قلت: قد والله شربته، قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: أما والله لا ييجعن بطنك أبدا ورواه أبو أحمد العسكري بلفظ: لن تشتكي بطنك وأبو مالك ضعيف ونبيح لم يلحق أم أيمن. وله طريق أخرى رواها عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره، فجاء فإذا القدح ليس فيه شئ، فقال لامرأة يقال لها بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة: أين البول الذي كان في القدح؟ قالت: شربته، قال: صحة يا أم يوسف وكانت تكني أم يوسف، فما مرضت حتى كان مرضها الذي ماتت فيه. والحديث يدل على جواز إعداده الآنية للبول فيها بالليل، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا. قوله: من عيدان هو بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة التحتية طوال النخل الواحدة عيدانة. وفي القاموس: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدح من عيدانة يبول فيها بالليل انتهى. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى إلى علي لقد دعى بالطست ليبول فيها فانخنثت نفسه وما شعرت فإلى من أوصى رواه النسائي انحنثت أي انكسرت وانثنت. الحديث أخرجه الشيخان أيضا من حديث الاسود بن يزيد قال: ذكروا عند عائشة رضي الله عنها أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه كان وصيا لرسول الله صلى
[ 107 ]
الله عليه وآله وسلم قالت: متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري فدعا بالطست فلقد انحنث في حجري وما شعرت أنه مات فمتى أوصى إليه؟ قوله: انخنثت هو كما ذكر المصنف الانثناء والانكسار، والمراد بقوله في رواية الصحيحين انخنث أي استرخى فانخنثت أعضاؤه. والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على جواز البول في الآنية مؤيدا به الحديث الاول لما كان فيه ذلك المقال، ولكنه وقع في حال المرض، ولم يذكر المصنف الحديث هذا في الوصايا كغيره حتى يحيل الكلام عليه إلى هنالك. والانكار لوصاية أمير المؤمنين علي المفهوم من استفهام أم المؤمنين لا يدل على عدم ثبوتها وعدم وقوعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الوقت الخاص لا يدل على العدم المطلق وقد استوفينا الكلام على ذلك في رسالة مستقلة لما سأل عن ذلك بعض العلماء. باب ما جاء في البول قائما عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وآله بال قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا جالسا رواه الخمسة إلا أبا داود وقال الترمذي: هو أحسن شئ في هذا الباب وأصح. قال الترمذي: وفي الباب عن عمر وبريدة، وحديث عمر إنما روي من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: رآني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبول قائما فقال: يا عمر لا تبل قائما، فما بلت قائما بعد قال الترمذي: وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه أيوب السختياني وتكلم فيه. وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: ما بلت قائما منذ أسلمت، وهذا أصح من حديث عبد الكريم وحديث بريدة هذا غير محفوظ وهو بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائما، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده ورواه البزار. وفي إسناده حديث الباب شريك بن عبد الله وقد أخرج له مسلم في المتابعات. وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: من الجفاء أن يبول الرجال قائما والحديث يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يبول حال القيام بل كان هديه في البول القعود، فيكون البول حال القيام مكروها، ولكن قول عائشة هذا لا ينفي إثبات من
[ 108 ]
أثبت وقوع البول منه حال القيام كما سيأتي من حديث حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما ولا شك أن الغالب من فعله هو القعود، والظاهر أن بوله قائما لبيان الجواز. وقيل: إنما فعله لوجع كان بمأبضه، ذكره ابن الاثير في النهاية، وروى الحاكم والترمذي من حديث أبي هريرة قال: إنما بال قائما لجرح كان في مأبضه، قال الحافظ: ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي، والمأبض باطن الركبة وقيل: فعله استشفاء كما سيأتي عن الشافعي. وقيل: لان السباطة رخوة يتخللها البول فلا يرتد إلى البائل منه شئ وقيل: إنما بال قائما لكونها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت ففعل ذلك لكونه قريبا من الديار، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه قال: البول قائما أحصن للدبر. قال ابن القيم في الهدى: والصحيح إنما فعل ذلك تنزها وبعدا من إصابة البول، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم وهو ملقى الكناسة وتسمى المزبلة وهي تكون مرتفعة، فلو بال فيها الرجل قاعدا لارتد عليه بوله، وهو صلى الله عليه وآله وسلم استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط، فلم يكن بد من بوله قائما، ولا يخفى ما في هذا الكلام من التكلف. (والحاصل) أنه قد ثبت عنه البول قائما وقاعدا والكل سنة. فقد روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يأتي تلك السباطة فيبول قائما، هذا إذا لم يصح في الباب إلا مجرد الافعال، أما إذا صح النهي عن البول حال القيام كما سيأتي من حديث جابر أنه (ص) نهى أن يبول الرجل قائما وجب المصير إليه والعمل بموجبه، ولكنه يكون الفعل الذي صح عنه صارفا للنهي إلى الكراهة على فرض جهل التاريخ أو تأخر الفعل، لان لفظ الرجل يشمله صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الظهور، فيكون فعله صالحا للصرف لكونه وقع بمحضر من الناس، فالظاهر أنه أراد التشريع، ويعضده نهيه صلى الله عليه وآله وسلم لعمر وإن كان فيه ما سلف، وقد صرح أبو عوانة في صحيحه وابن شاهين بأن البول عن قيام منسوخ، واستدلا عليه بحديث عائشة السابق وبحديثها أيضا: ما بال قائما منذ أنزل عليه القرآن رواه أبو عوانة في صحيحه والحاكم، قال الحافظ: والصواب أنه غير منسوخ. والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة وهو من كبار الصحابة، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن. وقد ثبت عن أمير المؤمنين علي
[ 109 ]
وعمر وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياما، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عنه شئ، انتهى. وعن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبول الرجل قائما رواه ابن ماجه. الحديث في إسناده عدي بن الفضل وهو متروك، وقد عرفت ما قاله الحافظ من عدم ثبوت شئ في النهي عن البول من قيام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد حكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول من قيام، ويدل عليه ما في حديث عبد الرحمن ابن حسنة الذي أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما فإن فيه: بال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا فقلنا انظروا إليه يبول كما تبول المرأة وما في حديث حذيفة بلفظ: فقام كما يقوم أحدكم وذلك يشعر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخالفهم ويقعد لكونه أستروا بعد من مماسة البول قال الحافظ في الفتح: وهو يعني حديث عبد الرحمن صحيح صححه الدارقطني وغيره، ويدل عليه حديث عائشة الذي رواه أبو عوانة في صحيحه والحاكم بلفظ: ما بال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما منذ أنزل عليه القرآن ويدل عليه أيضا حديثها السالف وقد روي عن أبي موسى التشديد في البول من قيام فروي عنه أنه رأى رجلا يبول قائما فقال: ويحك أفلا قاعدا، ثم ذكر قصة بني إسرائيل من أنه كان إذا أصاب جسد أحدهم البول قرضه. وقد ذهبت العترة والاكثر إلى كراهة البول قائما، وذهب أبو هريرة والشعبي وابن سيرين إلى عدم الكراهة، والحديث لو صح وتجرد عن الصوارف لصلح متمسكا للتحريم ولكنه لم يصح كما قاله الحافظ، وعلى فرض الصحة فالصارف موجود فيكون البول من قيام مكروها، وقد عرفت بقية الكلام في الحديث الاول. وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما فتنحيت فقال: ادنه فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ ومسح على خفيه رواه الجماعة. والسباطة: ملقى التراب والقمام. قوله: سباطة قوم السباطة بمهملة مضمومة بعدها موحدة هي المزبلة، والكناسة تكون بفناء الدور مرفقا لاهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك، لانها لا تخلو عن النجاسة، وبهذا يندفع
[ 110 ]
إيراد من استشكل الرواية التي ذكر فيها الجدار قائلا: إن البول يوهي الجدار ففيه إضرار، قال في الفتح: أو نقول إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار وهو صريح في رواية أبي عوانة في صحيحه وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره، أو لكونه مما يتسامح الناس به أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره لانه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى لكنه لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: فقال ادنه استدل به على جواز الكلام في حال البول، وفيه أن هذه الرواية قد بينت في رواية البخاري أن قوله ادنه كان بالاشارة لا باللفظ فلا يتم الاستدلال قاله الحافظ. وقد استشكل بأن قرب حذيفة منه بحيث يسمع نداءه ويفهم إشارته مخالف لما عرف من عادته من الابعاد عند قضاء الحاجة عن أعين الناظرين. وقد أجيب عن ذلك بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان مشغولا بمصالح المسلمين، فلعله طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول فلو أبعد لتضرر. وقيل: فعل ذلك لبيان الجواز. وقيل: إنه فعل ذلك في البول وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشف ولما يقترن به من الرائحة وقيل: إن الغرض من الابعاد التستر وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر. والحديث يدل على جواز البول من قيام وقد سبق الكلام على ذلك، قال المصنف رحمه الله، ولعله لم يجلس لمانع كان بها أو وجع كان به، وقد روى الخطابي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بال قائما من جرح كان بمأبضه ويحمل قول عائشة رضي الله عنها على غير حال العذر، والمأبض ما تحت الركبة من كل حيوان، وقد روي عن الشافعي أنه قال: كانت العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائما، فيرى أنه لعله كان به إذ ذاك وجع الصلب اه. وقد عرفت تضعيف الدارقطني والبيهقي لحديث أبي هريرة في الحديث الاول من هذا الباب. باب وجوب الاستنجاء بالحجر أو الماء عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزي عنه رواه أحمد والنسائي وأبو داود والدارقطني وقال: إسناده صحيح حسن
[ 111 ]
الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه، وأخرج نحوه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث أبي هريرة، وهو يدل على وجوب الاستجمار بثلاثة أحجار، وفيه خلاف قد أسلفناه في باب نهي المتخلي عن استقبال القبلة، قال في البحر: الاستجمار بثلاثة أحجار مشروع إجماعا. وقوله: فإنها تجزي عنه أي تكفيه، وهو دليل لمن قال بكفاية الاحجار وعدم وجوب الاستنجاء بالماء، وإليه ذهبت الشافعية والحنفية، وبه قال ابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وابن المسيب وعطاء. وسيأتي الكلام على ذلك في باب الاستنجاء بالماء إن شاء الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة رواه الجماعة. وفي رواية للبخاري والنسائي: وما يعذبان في كبير ثم قال: بلى كان أحدهما وذكر الحديث. قوله: فقال إنهما يعذبان أعاد الضمير إلى القبرين مجازا والمراد من فيهما. قوله: لا يستتر بمثناتين من فوق الاولى مفتوحة والثانية مكسورة وهو هكذا في أكثر الروايات، قاله ابن حجر في الفتح. وفي رواية لمسلم وأبي داود يستنزه بنون ساكنة بعدها زاي ثم هاء وفي رواية لابن عساكر يستبرئ بموحدة ساكنة من الاستبراء فعلى الرواية الاولى معنى الاستتار أن لا يجعل بينه وبين بوله سترة يعني لا يتحفظ منه فتوافق الرواية الثانية لانها من التنزه وهو الابعاد وقد وقع عند أبي نعيم: كان لا يتوقى وهو مفسر للمراد، وأجراه بعضهم على ظاهره فقال معناه لا يستر عورته وضعف لان التعذيب لو وقع على كشف العورة لاستقل الكشف بالسببية واطرح اعتبار البول وسياق الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، فالحمل على ما يقتضيه الحديث المصرح بهذه الخصوصية أولى وقد ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعا: أكثر عذاب القبر من البول أي بسبب ترك التحرز منه وقد صححه ابن خزيمة وسيأتي حديث: تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه قال ابن دقيق العيد وأيضا فإن لفظة من لما أضيفت إلى البول وهي لابتداء الغاية حقيقة، وأما يرجع إلى معنى ابتداء الغاية مجازا تقتضي نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول، يعني أن ابتداء سبب عذابه من البول، وإذا حملناه على كشف العورة زال هذا المعنى. قوله: من بوله هذه الرواية ترد مذهب من حمل البول على العموم، واستدل
[ 112 ]
به على نجاسة جميع أبوال الحيوانات، وقد سبق الكلام على ذلك في باب الرخصة في بول ما يؤكل لحمه. قوله: يمشي بالنميمة قال النووي: هي نقل كلام الغير بقصد الاضرار وهي من أقبح القبائح، وتعقبه الكرماني فقال: هذا لا يصلح على قاعدة الفقهاء فإنهم يقولون: الكبيرة هي الموجبة الحد، ولا حد على المشي بالنميمة. وتعقبه الحافظ بأنه ليس قول جميعهم، لكن كلام الرافعي يشعر بترجيحه حيث حكى في تعريف الكبيرة وجهين: أحدهما هذا، والثاني ما فيه وعيد شديد، قال: وهم إلى الاول أميل، والثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر انتهى. وللبحث في ذلك موضع غير هذا الموضع. قوله: ثم قال بلى أي وإنه لكبير، وقد صرح بذلك البخاري في الادب من طريق عبيدة بن حميد عن منصور عن الاعمش ولم يخرجها مسلم. وهذه الزيادة ترد ما قاله ابن بطال من أن الحديث يدل على أن التعذ يب لا يختص بالكبائر بل قد يقع على الصغائر، وقد ورد مثلها من طريق أبي بكرة عند أحمد والطبراني. وقد اختلف في معنى هذه الزيادة بعد قوله: وما يعذبان في كبير فقال أبو عبد الملك: يحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم ظن أن ذلك غير كبير فأوحى إليه في الحال بأنه كبير فاستدرك وتعقب بأنه يستلزم أن يكون نسخا والنسخ لا يدخل الخبر، وأجيب بأن الخبر بالحكم يجوز نسخه، وقيل: يحتمل أن الضمير في قوله: وإنه يعود على العذاب لما ورد في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة: يعذبان عذابا شديدا في ذنب هين وقيل: الضمير يعود على أحد الذنبين وهي النميمة لانها من الكبائر بخلاف كشف العورة، وهذا مع ضعفه غير مستقيم، لان الاستتار المنفي ليس المراد به كشف العورة كما سلف وقال الداودي: إن الكبير المنفي بمعنى أكبر والمثبت واحد الكبائر، أي ليس ذلك بأكبر الكبائر كالقتل مثلا وإن كان كبيرا في الجملة وقيل: المعنى ليس بكبير في الصورة لان تعاطي ذلك يدل على الدناءة والحفارة وهو كبير في الذنب وقيل: ليس بكبير في اعتقادهما أو في اعتقاد المخاطبين وهو عند الله كبير. وقيل: إنه ليس بكبير في مشقة الاحتراز أي كان لا يشق عليهما الاحتراز من ذلك، وهذا الاخير جزم به البغوي وغيره، ووجحه ابن دقيق العيد وجماعة. وقيل: ليس بكبير بمجرده وإنما صار كبيرا بالمواظبة عليه، ويرشد إلى ذلك السياق فإنه وصف كلا منهما بما يدل على تجدد ذلك منه واستمراره عليه للاتيان بصيغة المضارعة بعد كان ذكر معناه في الفتح. والحديث يدل على نجاسة البول من الانسان ووجوب اجتنابه وهو إجماع. ويدل
[ 113 ]
أيضا على عظم أمره وأمر النميمة، وأنهما من أعظم أسباب عذاب القبر، قال ابن دقيق العيد: وهو محمول على النميمة المحرمة، فإن النميمة إذا اقتضى تر مفسدة تتعلق بالغير، أو فعلها نصيحة يستضر الغير بتركها لم تكن ممنوعة، كما نقول في الغيبة إذا كانت للنصيحة أو لدفع المفسدة لم تمنع، ولو أن شخصا أطلع من آخر على قول يقتضي إيقاع ضرر بإنسان، فإذا نقل إليه ذلك القول احترز عن ذلك الضرر لوجب ذكره له انتهى، والحديث أيضا يدل على إثبات عذاب القبر، وقد جاءت الاحاديث المتواترة بإثباته، وخلاف بعض المعتزلة في ذلك من الاباطيل التي لا مستند لها إلا مجرد الهوى. (فائدة) لم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما، والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة لقصد الستر عليهما وهو عمل مستحسن، وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذم به. وما حكاه القرطبي في التذكرة وضعفه أن أحدهما سعد بن معاذ، فقال الحافظ: إنه قول باطل لا ينبغي ذكره إلا مقرونا ببيانه، ومما يدل على بطلان الحكاية المذكورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر دفن سعد بن معاذ كما ثبت في الحديث الصحيح وأما قصة المقبورين ففي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: من دفنتم اليوم ههنا فدل على أنه لم يحضرهما، وقد اختلف في المقبورين فقيل كانا كافرين وبه جزم أبو موسى المديني واستدل بما وقع في حديث جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم: مر على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية وفي إسناده ابن لهيعة، وجزم ابن العطار في شرح العمدة بأنهما كانا مسلمين، قال: لانهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه لهما، ولو كان ذلك من خصائصه لبينه كما في قصة أبي طالب. قال الحافظ: الظاهر من مجموع طرق حديث الباب أنهما كان مسلمين، ففي رواية ابن ماجه: مر بقبرين جديدين فانتفى كونهما في الجاهلية. وفي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر بالبقيع
[ 114 ]
فقال: من دفنتم اليوم ههنا كما تقدم، فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين لان البقيع مقبرة المسلمين، قال: ويؤيده ما في رواية أبي بكر عند أحمد والطبراني بإسناد صحيح يعذبان وما يعذبان في كبير وبلى وما يعذبان إلا في الغيبة والبول فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين لان الكافر يعذب على كفره بلا خلاف قال: وأما ما احتج به أبو موسى فهو ضعيف كما اعترف به وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه ذكر سبب التعذيب فهو من تخليط ابن لهيعة، انتهى ملتقطا من الفتح. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تنزهوا من البول فإن عامة عذا ب القبر منه رواه الدارقطني. الحديث رواه الدارقطني من طريق أبي جعفر الرازي عن قتادة عنه وصحح إرساله، ونقل عن أبي زرعة أنه المحفوظ وقال أبو حاتم: رويناه من حديث تمامة عن أنس والصحيح إرساله. ورواه الدارقطني من حديث أبي هريرة وفي لفظ له وللحاكم وابن ماجه وأحمد وأكثر عذاب القبر من البول قال الحافظ في بلوغ المرام: وهو صحيح الاسناد انتهى وأعله أبو حاتم فقال: إن رفعه باطل. وفي الباب عن ابن عباس رواه عبد بن حميد في مسنده والحاكم والطبراني وغيرهم، وإسناده حسن ليس فيه غير أبي يحيى القتات وفيه لين. ولفظه: أن عامة عذاب القبر من البول فتنزهوا منه وعن عبادة بن الصامت في مسند البزار ولفظه: سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البول فقال: إذا مسكم شئ فاغسلوه فإني أظن أن منه عذاب القبر وإسناده حسن. وقال سعيد بن منصور: حدثنا خالد عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر من البول ورواته ثقات مع إرساله. ويؤيد الحديث ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في الحديث الذي قبل هذا. قوله: تنزهوا من البول التنزه البعد. قوله: فإن عامة عذاب القبر منه عامة الشئ معظمه، والمراد أنه أكثر أسبابه. والحديث يدل على وجوب الاستنزاه من البول مطلقا من غير تقييد بحال الصلاة، وإليه ذهب أبو حنيفة وهو الحق، لكن غير مقيد بما ذكره من استثناء مقدار الدرهم فإنه تخصيص بغير مخصص وقال مالك: إزالته في غير وقت الصلاة ليست بفرض، واعتذر له عن الحديث بأن صاحب القبر إنما عذب لانه كان يترك البول يسيل عليه فيصلي بغير طهور، لان الوضوء لا يصح مع وجوده وهو تقييد لم يدل عليه دليل،
[ 115 ]
وقد أمر الله بتطهير الثياب ولم يقيده بحالة مخصوصة. [ رم ] باب النهي عن الاستجمار بدون الثلاثة الاحجار عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قيل لسلمان علمكم نبيكم كل شئ حتى الخراءة، فقال سلمان أجل نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن يستنجي برجيع أو بعظم رواه مسلم وأبو داود والترمذي. أما الاستقبال بالغائط والبول فقد تقدم الكلام عليه في باب نهي المتخلي عن استقبال القبلة، وأما الاستنجاء باليمين فقد تقدم أيضا طرف من الكلام عليه في ذلك الباب. قال النووي: قد أجمع العلماء على أنه منهي عنه، ثم الجماهير على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام، قال: وأشار إلى تحريمه جماعة من أصحابنا ولا تعويل على إشارتهم، قال: قال أصحابنا ويستحب أن لا يستعين باليد اليمنى في شئ من أحوال الاستنجاء إلا لعذر، فإذا استنجى بماء صبه باليمنى ومسح باليسرى، وإذا استنجى بحجر فإن كان في الدبر مسح بيساره، وإن كان في القبل وأمكنه وضع الحجر على الارض أو بين قدميه بحيث يتأتى مسحه أمسك الذكر بيساره ومسحه على الحجر، وإن لم يمكنه واضطر إلى حمل الحجر حمله بيمينه وأمسك الذكر بيساره ومسح بها ولا يحرك اليمنى هذا هو الصواب، قال: وقال بعض أصحابنا يأخذ الحجر بيساره والذكر بيمينه ويمسح ويحرك اليسرى وهذا ليس بصحيح لانه يمس الذكر من غير ضرورة وقد نهى عنه، ثم إن في النهي عن الاستنجاء باليمين تنبيها على إكرامها وصيانتها عن الاقذار ونحوها اه. والحاصل أنه قد ورد النهي عن مس الذكر باليمين في الحديث المتفق عليه، وورد النهي عن الاستنجاء باليمين في هذا الحديث وغيره، فلا يجوز استعمال اليمين في أحد الامرين، وإذا دعت الضرورة إلى الانتفاع بها في أحدهما استعملها قاضي الحاجة في أخف الامرين في نظره. وأما النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار فقد ذكرنا في باب نهي المتخلي عن استقبال القبلة الروايات الواردة في هذا المعنى، وذكرنا هنالك طرفا من فقه هذه الجملة فليرجع إليه وقد قال بعض أهل الظاهر: إن الاستجمار بالحجر متعين لنصه صلى الله عليه وآله وسلم عليها فلا يجزي غيره، وذهب
[ 116 ]
الجمهور إلى أن الحجر ليس متعينا بل تقوم الخرقة والخشب وغير ذلك مقامه، قال النووي: فلا يكون له مفهوم كما في قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) * (الانعام: 151) ويدل على عدم تعين الحجر نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن العظم والبعر والرجيع، ولو كان متعينا لنهى عما سواه مطلقا، وعلى الجملة كل جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة يجزئ الاستجمار به، وأما النهي عن الاستنجاء برجيع أو بعظم فقد ثبت من طرق متعددة والرجيع الروث. وفيه تنبيه على النهي عن جنس النجس، فلا يجزئ الاستنجاء بنجس أو متنجس. وقد ذهبت العترة والشافعي وأصحابه إلى عدم إجزاء العظم والروث، وقال أبو حنيفة: يكره ويجزئ إذ القصد تخفيف النجاسة وهو يحصل بهما، ويدل للاول ما أخرجه الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة وفيه أنهما لا يطهران. والنهي عن العظم لكونه طعام الجن كما سيأتي، وفيه تنبيه على جميع المطعومات ويلتحق بها المحترمات، كأجزاء الحيوانات وأوراق كتب العلم وغير ذلك. قوله: الخراءة هي العذرة، قال في القاموس: خرئ كسمع خرءا وخروأة ويكسر وخروءا سلح، والخرءة بالضم العذرة. قوله: الخراءة الخراءة الممدودة لفظا المذكورة في الحديث بقوله: علمكم الخ المراد بها الفعل نفسه لا الخارج فينظر في تفسيرها به. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا رواه أحمد. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. الحديث الاول فيه ابن لهيعة، وقد أخرجه أيضا الضياء وابن أبي شيبة، ورواه النسائي في شيوخ الزهري، وابن منده في المعرفة، والطبراني من حديث أبي غسان محمد بن يحيى الكناني عن أبيه ابن أخي ابن شهاب عن ابن شهاب، أخبرني خلاد بن السائب عن أبيه أنه سمع النبي (ص) يقول: إذا تغوط الرجل فليتمسح ثلاث مرات وله طريق أخرى عن خلاد بن السائب عن أبيه في حديث البغوي عن هدبة، وأعل ابن حزم الطريق الاولى بأن محمد بن يحيى مجهول وأخطأ بل هو معروف أخرج له البخاري، وقال النسائي: ليس به بأس قاله الحافظ. وأما الحديث الثاني فأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي ومداره على أبي سعيد الحبراني الحمصي وفيه اختلاف.
[ 117 ]
وقيل: إنه صحابي، قال الحافظ: ولا يصح والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول، وقال أبو زرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل. والحديث الاول يدل على شرعية الاستجمار بثلاثة أحجار ووجوبه وقد تقدم ذكر الخلاف فيه في باب نهي المتخلي عن استقبال القبلة. والحديث الثاني يدل على الايثار وعلى استحبابه وعدم وجوبه. لقوله: ومن لا فلا حرج قال الحافظ في الفتح: وهذه الزيادة حسنة الاسناد، وقد أخذ بظاهره القاسمية وأبو حنيفة ومالك فقالوا: لا يعتبر العدد بل المعتبر الايتار، وخالفهم الشافعي وأصحابه وغيرهم كما تقدم. وقالوا: لا يجوز الاستجمار بدون ثلاث ويجوز بأكثر منها إن لم يحصل الانقاء بها وقد أشار المصنف رحمه الله إلى ما هو الحق وهو الذي لاح لي فقال: وهذا محمول على أن القطع على وتر سنة فيما إذا زاد على ثلاث جمعا بين النصوص اه. والادلة المتعاضدة قد دلت على عدم جواز الاستجمار بدون ثلا ث، وليس لمن جوز دليل يصلح للتمسك به في مقابلتها، وسيأتي الكلام عليه وقد تقدم أيضا. باب في إلحاق ما كان في معنى الاحجار بها عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الاستطابة فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وعن سلمان قال: أمرنا يعني النبي (ص) أن لا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم رواه أحمد وابن ماجه. الحديث الاول رجال إسناده ثقات، فإنه أخرجه أبو داود عن شيخه عبد الله بن محمد النفيلي عن أبي معاوية عن هشام بن عروة عن عمرو بن خزيمة عن عمارة بن خزيمة عن خزيمة بن ثابت. والحديث الثاني هو أيضا في صحيح مسلم، وقد عارضت الحنفية هذا الحديث الدال على وجوب الثلاث بحديث ابن مسعود الذي سيأتي وفيه: فأخذ الحجرين وألقى الروثة. قال الطحاوي: هو دليل على أن عدد الاحجار ليس بشرط لانه قعد للغائط في مكان ليس فيه أحجار لقوله: ناولني فلما ألقى الروثة دل على أن الاستنجاء بالحجرين يجزئ إذ لو لم يكن ذلك لقال ابغني ثالثا، ورده الحافظ وقال: قد روى أحمد فيه هذه الزيادة بإسناد رجاله ثقات، قال في آخره: فألقى الروثة وقال: إنها
[ 118 ]
ركس ائتني بحجر قال: مع أنه ليس فيما ذكر استدلال لانه مجرد احتمال، وحديث سلمان نص في عدم الاقتصار على ما دونها، ثم حديث سلمان قول، وحديث ابن مسعود فعل، وإذا تعارضا قدم القول اه. وأيضا في سائر الاحاديث الناصة على وجوب الثلاث زيادة يجب المصير إليها مع عدم منافاتها بالاتفاق، ولم تقع هنا منافية، فالاخذ بها متحتم، وقد تقدم الكلام على الحديثين في مواضع من هذا الكتاب فلا نعيده قال المصنف رحمه الله: ولولا أنه أراد الحجر وما كان نحوه في الانقاء لم يكن لاستثناء العظم والروث معنى، ولا حسن تعليل النهي عنهما بكونهما من طعام الجن، وقد صح عنه التعليل بذلك اه. وهذا الكلام هو وجه ترجمة الباب بتلك الترجمة وهو حسن. [ رم ] باب النهي عن الاستجمار بالروث والرمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتمسح بعظم أو بعرة رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يستنجى بروث أو بعظم وقال: إنهما لا يطهران رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. النهي عن العظم قد تقدم في أحاديث متعددة في المتن والشرح. والنهي عن البعرة ثابت في رواية جابر وغيره. وقد أخرج الحديث الثاني ابن خزيمة بهذا اللفظ، ورواه البخاري بلفظ: ولا تأتني بعظم ولا روث وزاد في باب المبعث: إنهما من طعام الجن وهو عند مسلم من حديث ابن مسعود وعند أبي داود والدارقطني والنسائي الحاكم من حديثه. وأخرجه البيهقي مطولا، وهو عند الطبراني من حديث الزبير بسند ضعيف. وعند أحمد بإسناد واه من حديث سهل بن حنيف. وعند أبي داود والنسائي من حديث رويفع. وعند الدارقطني عن رجل من الصحابة. وفي الحديثين دليل على وجوب اجتناب العظم والروث وعدم الاجتزاء بهما. وقوله: إنهما لا يطهران يرد قول أبي حنيفة الذي أسلفناه من أنه يجزئ بهما. قيل: والعلة في النهي عن العظم اللزوجة المصاحبة له التي لا يكاد يتماسك معها. وقيل: عدم خلوه في الغالب عن الدسومة. وقيل: لكونه طعام الجن، وهذا هو المتعين لورود النص به فيلحق به سائر المطعومات، وأما الروث فعلة النهي عنه النجاسة والنجاسة لا تزال بمثلها.
[ 119 ]
باب النهي أن يستنجى بمطعوم أو بما له حرمة [ رح ] عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم رواه أحمد ومسلم. الحديث رواه أيضا أبو داود والدارقطني والنسائي والحاكم. وفي الباب عن الزبير بن العوام رواه الطبراني بسند ضعيف. وعن سلمان رواه مسلم. وعن جابر عند مسلم وغيره كما سلف وقد ورد في الباب أحاديث متعددة مصرحة بالنهي عن العظم والروث قد ذكرنا بعض طرقها في الحديث الذي قبل هذا. ورواه أيضا أبو عبد الله الحاكم في دلائل النبوة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لابن مسعود ليلة الجن: أولئك جن نصيبين جاؤوني فسألوني الزاد فمنعتهم بالعظم والروث، قال: وما يغني عنهم ذلك يا رسول الله؟ قال: إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أخذ، ولا يجدون روثا إلا وجدوا فيه حبه الذي كان يوم أكل، فلا يستنجى أحد لا بعظم ولا بروث وفي رواية أبي داود عن عبد الله بن مسعود قال: قدم وفد الجن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا محمد إنه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقا، قال: فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وفي إسناده إسماعيل بن عياش. والحديث قد تقدم الكلام على فقهه في مواضع. قال المصنف رحمه الله، وفيه تنبيه على النهي عن إطعام الدواب النجاسة اه، لان تعليل النهي عن الاستجمار بالبعرة بكونها طعام دواب الجن يشعر بذلك. [ رح ] وعن أبي هريرة: أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها قال: من هذا؟ قال: أنا أبو هريرة، قال: ابغني أحجارا أستنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبيه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: هما من طعام الجن وأنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن
[ 120 ]
فسألوني الزاد فدعوت الله لهم لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاما رواه البخاري. الحديث هكذا ساقه البخاري في باب ذكر الجن وهو أتم مما ساقه في الطهارة. وأخرجه البيهقي من الوجه الذي أخرجه منه مطولا. قوله: ابغني أحجارا بالوصل من الثلاثي أي اطلب لي، يقال: بغيتك الشئ أي طلبته لك. وفي رواية بالقطع يقال: أبغيتك الشئ أي أعنتك على طلبه والوصل أنسب بالسياق كذا في الفتح. قوله: أستنفض بفاء مكسورة وضاد معجمة مجزوم لانه جواب الامر ويجوز الرفع على الاستئناف. ومعنى الاستنفاض النفض وهو أن يهز الشئ ليطير غباره. وفي القاموس استنفضه استخرجه وبالحجر استنجي. قال الحافظ: ومن رواه بالقاف فقد صحف. قوله: ولا تأتني قال الحافظ كأنه صلى الله عليه وآله وسلم خشي أن أبا هريرة فهم من قوله: أستنجي أن كل ما يزيل الاثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالاحجار فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزئ، ولو كان ذلك مختصا بالاحجار كما يقوله بعض الحنابلة والظاهرية لم يكن لتخصيص هذين للنهي معنى، وإنما خص الاحجار بالذكر لكثرة وجودها. قوله: هما من طعام الجن قال الحافظ: الظاهر من هذا التعليل اختصاص المنع بهما. والحديث قد تقدم الكلام على فقهه. [ رم ] باب ما لا يستنجى به لنجاسته عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد فأخذت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذه ركس رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وزاد فيه أحمد في رواية له: ائتني بحجر. قوله: فلم أجد في رواية للبخاري فلم أجده والضمير للحجر. قوله: فأخذت روثة زاد ابن خزيمة في رواية له في هذا الحديث أنها كانت روثة حمار، ونقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير. قوله: وألقى الروثة استدل به الطحاوي على عدم وجوب الثلاث، وقد سبق الرد عليه برواية أحمد المذكورة ههنا في باب إلحاق ما كان في معنى الاحجار. قوله: هذه ركس
[ 121 ]
الركس بكسر الراء وإسكان الكاف قيل: هي لغة في رجس، ويدل عليه رواية ابن ماجه وابن خزيمة في هذا الحديث فإنها عندهما بالجيم. وقال ابن بطال: لم أر هذا الحرف في اللغة يعني ركس، وتعقبه أبو عبد الملك أن معناه الرد من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة. قال الله تعالى: * (أركسوا فيها) * (النساء: 91) أي ردوا. قال الحافظ: ولو ثبت ما قال لكان بفتح الراء، يقال: اركسه ركسا إذا رده. وفي رواية الترمذي: هذا ركس يعني نجسا. وأغرب النسائي فقال: الركس طعام الجن، قال الحافظ: وهذا إن ثبت في اللغة فهو مزيج للاشكال. وفي القاموس: الركس رد الشئ مقلوبا وقلب أوله على آخره، وشد الركاس وهو حبل يشد في خطم الجمل إلى رسغ يديه فيضيق عليه فيبقى رأسه معلقا، وبالكسر النجس انتهى. وقد ذكر الشاذكوني أن في الحديث تدليسا وقال: إنه لم يسمع في التدليس بأخفى منه وقد رده في الفتح فليرجع إليه. والحديث يدل على المنع من الاستجمار بالروثة وقد تقدم الكلام عليه. باب الاستنجاء بالماء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء متفق عليه. قوله: إداوة هي بكسر الهمزة إناء صغير من جلد. قوله: وعنزة هي بفتح النون عصا أقصر من الرمح لها سنان، وقيل: هي الحربة القصيرة. قوله: فيستنجي قال الاصيلي متعقبا على البخاري: استدلاله بهذه الزيادة على الاستنجاء أنها من قول أبي الوليد أحد الرواة عن شعبة لا من قول أنس، قال: وقد رواه سليمان بن حرب عن شعبة فلم يذكرها، وقد رده الحافظ بأنها قد ثبتت للاسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة بلفظ: فانطلقت أنا وغلام من الانصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وللبخاري من طريق روح بن القاسم عن عطاء بن أبي ميمونة بلفظ: إذا تبرز أتيته بماء فتغسل به ولمسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس بلفظ: فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد استنجى بالماء قال: وقد بان بهذه الروايات الرد على الاصيلي، وكذا فيه الرد
[ 122 ]
على من زعم أن قوله: يستنجي بالماء مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس، كما حكاه ابن التين عن أبي عبد الملك، فإن رواية خالد الحذاء السابقة تدل على أنه قول أنس. والحديث يدل على ثبوت الاستنجاء بالماء، وقد أنكره مالك وأنكر أن يكون النبي (ص) استنجى بالماء. وقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إذ لا يزال في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء. وعن ابن الزبير قال ما كنا نفعله. وذكر ابن دقيق العيد أن سعيد بن المسيب سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إنما ذلك وضوء النساء. قال: وعن غيره من السلف ما يشعر بذلك. والسنة دلت على الاستنجاء بالماء في هذا الحديث وغيره فهي أولى بالاتباع، قال: ولعل سعيدا رحمه الله فهم من أحد غلوا في هذا الباب بحيث يمنع الاستنجاء بالاحجار، فقصد في مقابلته أن يذكر هذا اللفظ لازالة ذلك الغلو، وبالغ بإيراده إياه على هذه الصيغة. وقد ذهب بعض من أصحاب مالك إلى أن الاستجمار بالحجارة إنما هو عند عدم الماء، وإذا ذهب إليه بعض الفقهاء فلا يبعد أن يقع لغيرهم ممن في زمان سعيد رحمه الله انتهى. وقد اختلف العلماء في الاكتفاء بالاحجار وعدم تعين الماء، فذهبت الشافعية والحنفية إلى عدم وجوب الماء وأن الاحجار تكفي إلا إذا تعدت النجاسة الشرج أي حلقة الدبر، وقال بقولهم سعد بن أبي وقاص وابن الزبير وابن المسيب وعطاء واستدلوا بحديث: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه كما تقدم وبنحوه من أحاديث الاستطابة. وذهبت العترة والحسن البصري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبو علي الجبائي إلى عدم الاجتزاء بالحجارة للصلاة ووجوب الماء وتعينه، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * (النساء: 43) وأجيب بأن الآية في الوضوء ولا شك أن الماء متعين له، ولا يجزئ التيمم إلا عند عدمه، وأما محل النزاع فلا دلالة في الآية عليه. قالوا: حديث الباب ونحوه مصرح بأن النبي (ص) استنجى بالماء، قلنا: النزاع في تعينه وعدم الاجتزاء بغيره ومجرد فعل النبي له لا يدل على المطلوب، وإلا لزمكم القول بتعين الاحجار، لان النبي (ص) فعله وهو عكس مطلوبكم. قالوا: أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي من حديث عائشة أنها قالت للنساء: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم وأن رسول الله (ص) فعله، قلنا: صرحت بالمستند وهو مجرد فعل النبي له، ولم تنقل عنه الامر به ولا حصر الاستطابة عليه. قالوا: حديث قباء وفيه الثناء عليهم لانهم كانوا
[ 123 ]
يستنجون بالماء كما سيأتي، قلنا: هو حجة عليكم لا لكم، لان تخصيص أهل قباء بالثناء يدل على أن غيرهم بخلافهم، ولو كان واجبا لشاركهم غيرهم سلمنا، فمجرد الثناء لا يدل على الوجوب المدعى وغاية ما فيه الاولوية لاصالة الماء في التطهير وزيادة تأثيره في إذهاب أثر النجاسة، على أن حديث قباء فيه كلام سيأتي في هذا الباب. قال المهدي في البحر رادا على حجة أهل القول الاول ما لفظه: قلنا مسلم فأين سقوط الماء؟ انتهى. ونقول له: ومتى ثبت وجوب الماء حتى نطلب دليل سقوطه؟ ثم إن السنة باعترافك قد وردت بالاستطابة بالاحجار وإنها مجزئة فأين دليل عدم إجزائها؟ وعن معاذة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: مرن أزواجكن أن يغسلوا عنهم أثر الغائط والبول فإنا نستحيي منهم وأن رسول الله (ص) كان يفعله رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. الحديث يرد على من أنكر الاستنجاء بالماء منه (ص)، والكلام عليه قد تقدم في الذي قبله. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) * (التوبة: 108) قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. الحديث قال الترمذي: غريب، وأخرجه البزار في مسنده من حديث ابن عباس بلفظ: نزلت هذه الآية في أهل قباء: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) * فسألهم رسول الله (ص) فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء قال البزار: لا نعلم أحدا رواه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز ولا عنه إلا ابنه. قال الحافظ: ومحمد بن عبد العزيز ضعفه أبو حاتم فقال: ليس له ولا لاخويه عمران وعبد الله حديث مستقيم، وعبد الله بن شبيب الذي رواه البزار من طريقه ضعيف أيضا. وقد روى الحاكم هذا الحديث وليس فيه إلا ذكر الاستنجاء بالماء فحسب، وهكذا صرح النووي وابن الرفعة بأنه ليس في الحديث أنهم كانوا يجمعون بين الاحجار والماء، ولا يوجد هذا في كتب الحديث، وكذا قال المحب الطبري. ورواية البزار واردة عليهم وإن كانت ضعيفة. وحديث الباب قال الحافظ: هو بسند ضعيف وروى أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم عن عويم بن ساعدة نحوه، وأخرجه الحاكم من طريق مجاهد قال: لما نزلت الآية بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله
[ 124 ]
عليكم به؟ قال: ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل دبره فقال (ص): هو هذا ورواه ابن ماجة والحاكم من حديث أبي سفيان طلحة بن نافع قال: أخبرني أبو أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وإسناده ضعيف. ورواه أحمد وابن أبي شيبة وابن قانع من حديث محمد بن عبد الله بن سلام. وحكى أبو نعيم في معرفة الصحابة الخلاف فيه على شهر بن حوشب ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة، وذكره الشافعي في الام بغير إسناد والحديث يدل على ثبوت الاستنجاء بالماء والثناء على فاعله لما فيه من كمال التطهير، وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب. باب وجوب تقدمة الاستنجاء على الوضوء عن سليمان بن يسار قال: أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المقداد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن الرجل يجد المذي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يغسل ذكره ثم ليتوضأ رواه النسائي. الحديث قال ابن حجر منقطع، وقد ساقه المصنف للاستدلال به على وجوب تقديم الاستنجاء على الوضوء وترجم الباب بذلك، لان لفظة ثم تشعر بالترتيب، ويشكل عليه ما وقع في البخاري من تقديم الامر بالوضوء على الغسل، قال الحافظ: ووقع في العمدة نسبة ذلك إلى البخاري بالعكس. قال ابن دقيق العبد: قد يؤخذ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات: توضأ وانضح فرجك جواز تأخير الاستنجاء عن الوضوء، وقد صرح به بعضهم قال: وهذا يتوقف على القول بأن الواو للترتيب وهو مذهب ضعيف انتهى. وأنت خبير بأن صحة استدلال ذلك البعض لا تتوقف على ما ذكره ابن دقيق العيد من كون الواو للترتيب بل يصح على المذهب المشهور، وهو أن الواو لمطلق الجمع من غير ترتيب ولا معية، لان الواو على هذا تدل على جواز تقدم ما قبلها على ما بعدها وعكسه، وإيقاع الامرين معا فيما يمكن فيه ذلك، وليس مطلوب ذلك المستدل إلا جواز التقديم، والعطف بالواو الجامعة تدل عليه من دون توقف ذلك على القول بكونها للترتيب. ويمكن أن يقال في جواب ذلك الاشكال على حديث الباب بأن رواية حديث الباب مقيدة، والروايات الواردة بالواو مطلقة، فيحمل المطلق
[ 125 ]
على المقيد، ويصح استدلال المصنف رحمه الله. وقد تقدم الكلام على المذي في باب ما جاء في المذي من أبواب تطهير النجاسة. [ رح ] وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل، قال: يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي أخرجاه. الكلام على الحديث محله الغسل، وسيأتي الخلاف في نسخه وعدمه. والمصنف رحمه الله أورده هنا للاستدلال به على وجوب تقديم الاستنجاء على الغسل لترتيبه الوضوء على غسل ما مس المرأة منه، قال رحمه الله: وحكم هذا الخبر في ترك الغسل من ذلك منسوخ وسيذكر في موضعه انتهى. [ رم ] باب الحث على السواك وذكر ما يتأكد عنده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) قال: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب رواه أحمد والنسائي وهو للبخاري تعليق. وأخرجه أيضا ابن حبان موصولا من حديث عبد الرحمن بن أبي عتيق: سمعت أبي سمعت عائشة بهذا، قال ابن حبان: أبو عتيق هذا هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر ابن أبي قحافة. وقال الحافظ: إنما هو من رواية ابنه عبد الله عنها. قال: ورواه أحمد بن حنبل عن عبد الله عنها وقد طول الكلام عليه في التلخيص. قوله: أبواب السواك وسنن الفطرة قال أهل اللغة: السواك بكسر السين وهو يطلق على الفعل وعلى العود الذي يتسوك به وهو مذكر، قال الليث: وتؤنثه العرب قال الازهري: هذا من أغاليط الليث القبيحة، وذكر صاحب المحكم أنه يؤنث ويذكر، والسواك فعلك بالمسواك، ويقال: ساك فمه يسوكه سوكا، فإن قلت: استاك لم تذكر الفم، وجمع السواك سوك بضمتين ككتاب وكتب، وذكر صاحب المحكم أنه يجوز سؤك بالهمز، قال النووي: ثم قيل إن السواك مأخوذ من ساك إذا دلك وقيل: من جاءت الابل تستاك أي تتمايل هزالا. وهو في اصطلاح العلماء استعمال عودا ونحوه في الاسنان ليذهب الصفرة وغيرها عنها. وأما الفطرة فقد اختلف العلماء في المراد بها ههنا، قال الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة، وكذا ذكر جماعة غير الخطابي. وقيل: هي الدين حكاه في الفتح عن
[ 126 ]
طائفة من العلماء، وبه جزم أبو نعيم في المستخرج. وقال الراغب: أصل الفطرة الشق طولا، ويطلق على الوهي وعلى الاختراع. وقال أبو شامة أصل الفطرة الخلقة المبتدأة ومنه: * (فاطر السموات والارض) * (يوسف: 101) أي المبتدئ خلقهن، والمراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولود يولد على الفطرة أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * (الروم: 30) والمعنى أن كل أحد لو ترك في وقت ولادته وما يؤديه إليه نظره لاداه إلى الدين الحق وهو التوحيد ويؤيده أيضا قوله تعالى: * (فأقم وجهه للدين حنيفا فطرة الله) * (الروم: 30) وإليه يشير في بقية الحديث حيث عقبه بقوله: فأبواه يهودانه أو ينصرانه والحديث يدل على مشروعية السواك، لانه سبب لتطهير الفم وموجب لرضا الله على فاعله، وقد أطلق فيه السواك ولم يخصه بوقت معين ولا بحالة مخصوصة، فأشعر بمطلق شرعيته، وهو من السنن المؤكدة، وليس بواجب في حال من الاحوال لما سيأتي في حديث أبي هريرة: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك ونحوه قال النووي: بإجماع من يعتد به في الاجماع. وحكى أبو حامد الاسفراييني عن داود الظاهري أنه أوجبه في الصلاة، وحكى الماوردي عنه أنه واجب لا تبطل الصلاة بتركه. وحكي عن إسحاق بن راهويه أنه واجب تبطل الصلاة بتركه عمدا قال النووي: وقد أنكر أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد وغيره، نقل الوجوب عن داود وقالوا مذهبه أنه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه عن داود لم يضر مخالفته في انعقاد الاجماع على المختار الذي عليه المحققون والاكثرون، قال: وأما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه انتهى وعدم الاعتداد بخلاف داود مع علمه وورعه وأخذ جماعة من الائمة الاكابر بمذهبه من التعصبات التي لا مستند لها إلا مجرد الهوى والعصبية، وقد كثر هذا الجنس في أهل المذاهب، وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة علماء المسلمين، فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة فهي بالنسبة إلى مقالات غيره المؤسسة على محض الرأي المضادة لصريح الرواية في حيز القلة المتبالغة، فإن التعويل على الرأي وعدم الاعتناء بعلم الادلة قد أفضى بقوم إلى التمذهب بمذاهب لا يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر، وأما داود فما في مذهبه من البدع التي أوقعه فيها تمسكه بالظاهر وجموده عليه هي في غاية الندرة. ولكن لهوى النفوس سريرة لا تعلم قال النووي: والسواك مستحب في جميع الاوقات لكن في خمسة أوقات أشد استحبابا أحدها عند الصلاة سواء كان متطهرا بماء أو بتراب أو غير متطهر
[ 127 ]
كمن لم يجد ماء ولا ترابا. الثاني: عند الوضوء. الثالث: عند قراءة القرآن. الرابع: عند الاستيقاظ من النوم الخامس: عند تغير الفم. وتغيره يكون بأشياء منها ترك الاكل والشرب، ومنها أكل ماله رائحة كريهة. ومنها طول السكوت. ومنها كثرة الكلام. وقد قامت الادلة على استحبابه في جميع هذه الحالات التي ذكرها. وسيأتي ذكر بعضها في هذا الباب قال: ومذهب الشافعي أن السواك يكره للصائم بعد زوال الشمس لئلا تزول رائحة الخلوف المستحبة، وسيأتي الكلام عليه في باب السواك للصائم إن شاء الله. ويستحب أن يستاك بعود من أراك وبأي شئ استاك مما يزيل التغير حصل السواك كالخرقة الخشنة والاسنان. وللفقهاء في السواك آداب وهيئات لا ينبغي للفطن الاغترار بشئ منها إلا أن يكون موافقا لما ورد عن الشارع، ولقد كرهوه في أوقات وعلى حالات، حتى كاد يفضي ذلك إلى ترك هذه السنة الجليلة واطراحها وهي أمر من أمور الشريعة ظهر ظهور النهار وقبله من سكان البسيطة أهل الانجاد والاغوار. قوله: مطهرة للفم المطهرة بكسر الميم وتفتح قال في الديوان: الفتح أفصح. وعن زيد بن خالد قال: قال رسول الله (ص) لولا أن أشق على أمتي لاخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل ولامرتهم بالسواك عند كل صلاة رواه أحمد والترمذي وصححه. الحديث رواه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ: لفرضت عليهم السواك مع الوضوء ولاخرت صلاة العشاء إلى نصف الليل وروى النسائي الجملة الاولى، ورواه العقيلي وأبو نعيم والبيهقي من طريق أخرى عن سعيد به. ورواه أبو داود ومسلم بلفظ: لولا أن أشق على المؤمنين لامرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة ورواه أيضا أبو داود عن زيد بن خالد باللفظ الذي في الكتاب. ورواه البزار وأحمد من حديث على نحوه. وروى الجملة الاولى أيضا الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة. ولفظ الترمذي: إلى ثلث الليل أو نصفه ولفظ أحمد وابن حبان إلى ثلث الليل ولم يشك، وروى الجملة الثانية النسائي وأحمد وابن خزيمة من حديث أبي هريرة وعلقها البخاري. وروى ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك مع الوضوء عند كل صلاة وروى ابن أبي خيثمة في تاريخه بسند حسن عن أم حبيبة
[ 128 ]
لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلاة كما يتوضأون والحديث يدل على ندبية تأخير العشاء إلى ثلث الليل، لان لولا لامتناع الثاني لوجود الاول، فإذا ثبت وجود الاول ثبت امتناع الثاني وبقي الندب. ومحل الكلام على هذه الجملة الصلاة إن شاء الله تعالى. ويدل أيضا على ندبية السواك بمثل ما ذكرناه في صلاة العشاء، ويرد على من قال: لا يستحب السواك للصلاة، وقد نسبه في البحر إلى الاكثر، ويرد مذهب الظاهرية القائلين بالوجوب إن صح عنهم وقد سبق كلام النووي في ذلك. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلاة رواه الجماعة. وفي رواية لاحمد: لامرتهم بالسواك مع كل وضوء وللبخاري تعليقا: لامرتهم بالسواك عند كل وضوء قال: ويروى نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي (ص). الحديث قال ابن منده: إسناده مجمع على صحته. وقال النووي: غلط بعض الائمة الكبار فزعم أن البخاري لم يخرجه وهو خطأ منه، وقد أخرجه من حديث مالك عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة، وليس هو في الموطأ من هذا الوجه بل هو فيه عن ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة قال: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك مع كل وضوء ولم يصرح برفعه. قال ابن عبد البر: وحكمه الرفع، وقد رواه الشافعي عن مالك مرفوعا. وفي الباب عن زيد بن خالد عند الترمذي وأبي داود وعن علي عند أحمد وعن أم حبيبة عند أحمد أيضا وعن عبد الله بن عمرو وسهل بن سعد وجابر وأنس عند أبي نعيم قال الحافظ: وإسناد بعضها حسن. وعن ابن الزبير عند الطبراني وعن ابن عمر وجعفر بن أبي طالب عند الطبراني أيضا. والحديث يدل على أن السواك غير واجب وعلى شرعيته عند الوضوء وعند الصلاة، لانه إذا ذهب الوجوب بقي الندب كما تقدم، وعلى أن الامر للوجوب لان كلمة لولا تدل على انتفاء الشئ لوجود غيره، فيدل على انتفاء الامر لوجود المشقة، والمنفي لاجل المشقة إنما هو الوجوب لا الاستحباب. فإن استحباب السواك ثابت عند كل صلاة فيقتضي ذلك أن الامر للوجوب، وفيه خلاف في الاصول على أقوال. ويدل الحديث أيضا على أن المندوب غير مأمور به لمثل ما ذكرناه، وفيه أيضا خلاف في الاصول مشهور. ويدل أيضا على أن للنبي (ص) أن يحكم بالاجتهاد، ولا يتوقف حكمه على النص لجعله المشقة سببا لعدم الامر منه، ولو
[ 129 ]
كان الامر موقوفا على النص لكان سبب عدم الامر منه عدم النص لا مجرد المشقة، وفيه احتمال للبحث والتأويل كما قاله ابن دقيق العيد. وهو أيضا يدل بعمومه على استحباب السواك للصائم بعد الزوال، لان الصلاتين الواقعتين بعده داخلتان تحت عموم الصلاة، فلا تتم دعوى الكراهة إلا بدليل يخصص هذا العموم وسيأتي الكلام على ذلك. وعن المقدام بن شريح عن أبيه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: بأي شئ كان يبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. الحديث رواه ابن حبان في صحيحه وفي بيان فضيلة السواك في جميع الاوقات وشدة الاهتمام به وتكراره لعدم تقييده بوقت الصلاة والوضوء. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك رواه الجماعة إلا الترمذي والشوص الدلك. وللنسائي عن حذيفة قال: كنا نؤمر بالسواك إذا قمنا من الليل. الحديث متفق عليه من حديث حذيفة بلفظ: كان إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك وفي لفظ لمسلم: كان إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك واستغرب ابن منده هذه الزيادة، وقد رواها الطبراني من وجه آخر بلفظ: كنا نؤمر بالسواك إذا قمنا من الليل ورواه أيضا النسائي كما في حديث الباب، ورواه مسلم وأبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث ابن عباس في قصة نومه عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فلما استيقظ من منامه أتى طهوره فأخذ سواكه فاستاك وفي رواية أبي داود التصريح بتكرار ذلك. وفي رواية للطبراني كان يستاك من الليل مرتين أو ثلاثا وفي رواية له عن الفضل بن عباس: لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم إلى الصلاة بالليل إلا استن ورواه أبو داود من حديث عائشة بلفظ: كان يوضع له سواكه ووضوؤه فإذا قام من الليل تخلى ثم استاك وصححه ابن منده، ورواه ابن ماجه والطبراني من وجه آخر عن ابن أبي مليكة عنها، وصححه الحاكم وابن السكن. ورواه أبو داود عن عائشة أيضا بلفظ: كان لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ وفيه علي بن زيد وفي الباب عن ابن عمر عند أحمد، وعن معاوية عند الطبراني وإسناده ضعيف. وعن أنس عند البيهقي، وعن أبي أيوب عند أبي نعيم قال الحافظ:
[ 130 ]
وكلها ضعيفة. قوله: يشوص بضم المعجمة وبسكون الواو شاصة يشوصه وماصه يموصه إذا غسله، والشوص بالفتح الغسل والتنظيف كذا في الصحاح. وقيل: الغسل. وقيل: التنقية. وقيل: الدلك. وقيل: الامرار على الاسنان من أسفل إلى فوق، وعكسه الخطابي فقال: هو ذلك الاسنان بالسواك والاصابع عرضا. والحديث يدل على استحباب السواك عند القيام من النوم لانه مقتض لتغير الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة والسواك ينظفه ولهذا أرشد إليه. وظاهر قوله من الليل ومن النوم العموم لجميع الاوقات قال ابن دقيق العيد: ويحتمل أن يخص بما إذا قام إلى الصلاة، قال الحافظ: ويدل عليه رواية البخاري بلفظ: إذا قام للتهجد ولمسلم نحوه انتهى. فيحمل المطلق على المقيد، ولكنه بعد معرفة أن العلة التنظيف لا يتم ذلك لانه مندوب إليه في جميع الاحوال. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يرقد ليلا ولا نهارا فيستيقظ إلا تسوك رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا ابن أبي شيبة، وقد تقدم الكلام عليه وعلى فقهه في الذي قبله. باب تسوك المتوضئ بأصبعه عند المضمضة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه دعا بكوز من ماء فغسل وجهه وكفيه ثلاثا وتمضمض ثلاثا فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثا وغسل ذراعيه ثلاثا ومسح رأسه واحدة وذكر باقي الحديث وقال: هكذا كان وضوء نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد. الحديث يأتي الكلام على أطرافه في الوضوء، وقد ساقه المصنف للاستدلال بقوله: فأدخل بعض أصابعه في فيه على أنه يجزي التسوك بالاصبع. وقد روى ابن عدي والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الله بن المثنى عن النضر بن أنس عن أنس مرفوعا بلفظ: يجزى من السواك الاصابع قال الحافظ: وفي إسناده نظر. وقال أيضا: لا أرى بسنده بأسا وقال البيهقي: المحفوظ عن ابن المثنى عن بعض أهل بيته عن أنس نحوه. ورواه أبو نعيم والطبراني وابن عدي من حديث عائشة وفيه المثنى بن الصباح. ورواه أبو نعيم أيضا من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وكثير ضعفوه. قال الحافظ: وأصح من ذلك ما رواه أحمد في مسنده
[ 131 ]
من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر حديث الباب. وروى أبو عبيد في كتاب الطهور عن عثمان أنه كان إذا توضأ يسوك فاه بأصبعه. وروى الطبراني من حديث عائشة قلت: يا رسول الله الرجل يذهب فوه أيستاك؟ قال: نعم قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل أصبعه في فيه رواه بإسناد فيه عيسى بن عبد الله الانصاري وقال: لا يروى إلا بهذا الاسناد، قال الحافظ: وعيسى ضعفه ابن حبان وذكر له ابن عدي هذا الحديث من مناكيره. باب السواك للصائم عن عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. قال الحافظ: رواه أصحاب السنن وابن خزيمة وعلقه البخاري وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف، قال ابن خزيمة: وأنا أبرأ من عهدته لكن حسن الحديث غيره. وقال الحافظ أيضا إسناده حسن. والحديث يدل على استحباب السواك للصائم من غير تقييد بوقت دون وقت، وهو يرد على الشافعي قوله بالكراهة بعد الزوال للصائم مستدلا بحديث الخلوف الذي سيأتي. وقد نقل الترمذي أن الشافعي قال: لا بأس بالسواك للصائم أول النهار وآخره، واختاره جماعة من أصحابه منهم أبو شامة وابن عبد السلام والنووي والمزني قال ابن عبد السلام في قواعده الكبرى: وقد فضل الشافعي تحمل الصائم مشقة رائحة الخلوف على إزالته بالسواك مستدلا بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولا يوافق الشافعي على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لانه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرجحان بالافضلية ألا ترى أن الوتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر مع قوله عليه السلام: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها وكم من عبادة قد أثنى الشارع عليها وذكر فضيلتها وغيرها أفضل منها، وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما، فإن السواك نوع من التطهر المشروع لاجل الرب سبحانه، لان مخاطبة العظماء مع طهارة الافواه تعظيم لا شك فيه ولاجله شرع السواك، وليس في الخلوف تعظيم ولا إجلال، فكيف يقال: إن فضيلة الخلوف تربى على تعظيم ذي الجلال بتطييب الافواه، إلى أن قال: والذي
[ 132 ]
ذكره الشافعي رحمه الله تخصيص للعام بمجرد الاستدلال المذكور المعارض بما ذكرنا، قال الحافظ في التلخيص: استدلال أصحابنا بحديث خلوف فم الصائم على كراهة الاستياك بعد الزوال لمن يكون صائما فيه نظر، لكن في رواية للدارقطني عن أبي هريرة قال: لك السواك إلى العصر فإذا صليت فألقه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لخلوف فم الصائم الحديث، قال: وقد عارضه حديث عامر بن ربيعة يعني حديث الباب وقال: وفي الباب حديث على إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كانتا له نورا بين عينيه يوم القيامة أخرجه البيهقي، قال الحافظ: وإسناده ضعيف انتهى. وقول أبي هريرة مع كونه لا يدل على المطلوب لا حجة فيه على أن فيه عمر بن قيس وهو متروك، وكذلك حديث علي مع ضعفه لم يصرح فيه بالرفع فالحق أنه يستحب السواك للصائم أول النهار وآخره وهو مذهب جمهور الائمة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من خير خصال الصائم السواك رواه ابن ماجه. قال البخاري: وقال ابن عمر يستاك أول النهار وآخره. الحديث قال في التلخيص هو ضعيف ورواه أبو نعيم من طريقين آخريين عنها وروى النسائي في الكنى، والعقيلي وابن حبان في الضعفاء، والبيهقي من طريق عاصم عن أنس: يستاك الصائم أول النهار وآخره برطب السواك ويابسه ورفعه. وفيه إبراهيم بن بيطار الخوارزمي، قال البيهقي: انفرد به إبراهيم بن بيطار، ويقال إبراهيم بن عبد الرحمن قاضي خوارزم وهو منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يصح ولا أصل له من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا من حديث أنس وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. قال الحافظ: قلت له شاهد من حديث معاذ رواه الطبراني في الكبير. وقال أحمد بن منيع في مسنده: حدثنا الهيثم بن خارجة، حدثنا يحيى بن حمزة عن النعمان بن المنذر عن عطاء وطاو س ومجاهد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسوك وهو صائم. الحديث يدل على أن السواك من خير خصال الصائم من غير فرق بين قبل الزوال وبعده، وقد تقدم الكلام على ذلك في الحديث الاول. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك متفق عليه.
[ 133 ]
الحديث له طرق وألفاظ، ورواه مسلم من حديث أبي سعيد، والبزار من حديث علي، وابن حبان من حديث الحرث الاشعري، وأحمد من حديث ابن مسعود والحسن بن سفيان من حديث جابر. قوله: لخلوف بضم الخاء. قال القاضي عياض قيدناه عن المتقنين بالضم وأكثر المتحدثين يفتحون خاءه وهو خطأ، وعده الخطابي في غلطات المحدثين وهو تغير رائحة الفم. وقد استدل الشافعي بالحديث على كراهة الاستياك بعد الزوال للصائم، لانه يزيل الخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك، وهذا الاستدلال لا ينتهض لتخصيص الاحاديث القاضية باستحباب السواك على العموم ولا على معارضة تلك الخصوصيات. وقد سبق الكلام على ذلك في حديث عامر بن ربيعة. قال المصنف رحمه الله: وبه احتج من كره السواك للصائم بعد الزوال اه. باب سنن الفطرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس من الفطرة: الاستحداد والختان وقص الشارب ونتف الابط وتقليم الاظفار رواه الجماعة. قوله: خمس من الفطرة قد تقدم الكلام فيه في أول أبواب السواك، والمراد بقوله خمس من الفطرة في حديث الباب أن هذه الاشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة. وقد رد البيضاوي الفطرة في حديث الباب إلى مجموع ما ورد في معناه مما تقدم فقال: هي السنة القديمة التي اختارها الانبياء واتفقت عليها الشرائع فكأنها أمر جبلي ينطوون عليها، وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله خمس أنه صفة موصوف محذوف والتقدير خصال خمس ثم فسرها أو على الاضافة أي خمس خصال، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير الذي شرع لكم خمس. قوله: الاستحداد هو حلق العانة، سمي استحدادا لاستعمال الحديدة وهي الموسى وهو سنة بالاتفاق، ويكون بالحلق والقص والنتف والنورة. قال النووي: والافضل الحلق، والمراد بالعانة الشعر فوق ذكر الرجل وحواليه، وكذلك الشعر حول فرج المرأة. ونقل عن أبي العباس بن
[ 134 ]
سريج أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر. قال النووي: فيحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما انتهى. وأقول الاستحداد إن كان في اللغة حلق العانة كما ذكره النووي فلا دليل على سنية حلق الشعر النابت حول الدبر، وإن كان الاحتلاق بالحديد كما في القاموس فلا شك أنه أعم من حلق العانة، ولكنه وقع في مسلم وغيره بدل الاستحداد في حديث عشر من الفطرة حلق العانة فيكون مبينا لاطلاق الاستحداد في حديث: خمس من الفطرة فلا يتم دعوى سنية حلق شعر الدبر أو استحبابه إلا بدليل، ولم نقف على حلق شعر الدبر من فعله صلى الله عليه وآله وسلم ولا من فعل أحد من أصحابه. قوله: والختان اختلف في وجوبه وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا. والختان قطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف جميع الحشفة، وفي المرأة قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج. قوله: وقص الشارب هو سنة بالاتفاق، والقاص مخير بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يوليه غيره لحصول المقصود، بخلاف الابط والعانة، وسيأتي مقدار ما يقص منه في باب أخذ الشارب. قوله: ونتف الابط هو سنة بالاتفاق أيضا، قال النووي: والافضل فيه النتف إن قوي عليه، ويحصل أيضا بالحلق والنورة. وحكي عن يونس بن عبد الاعلى قال: دخلت على الشافعي وعنده المزين يحلق إبطه فقال الشافعي: علمت أن السنة النتف ولكن لا أقوى على الوجع. ويستحب أن يبدأ بالابط الايمن لحديث التيمن وفيه: كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله وكذلك يستحب أن يبدأ في قص الشارب بالجانب الايمن لهذا الحديث. قوله: تقليم الاظفار وقع في الرواية الآتية في صحيح مسلم وغيره قص الاظفار وهو سنة بالاتفاق أيضا، والتقليم تفعيل من القلم وهو القطع. قال النووي: ويستحب أن يبدأ باليدين قبل الرجلين، فيبدأ بمسبحة يده اليمنى ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الابهام، ثم يعود إلى اليسرى فيبدأ بخنصرها ثم ببنصرها إلى آخره، ثم يعود إلى الرجل اليمنى فيبدأ بخنصرها ويختم بخنصر اليسرى انتهى.
[ 135 ]
وعن أنس بن مالك قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الابط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة رواه مسلم وابن ماجه. ورواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وقالوا: وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: وقت لنا في الرواية الاولى على البناء للمجهول، وقد وقع خلاف في علم الاصول والاصطلاح هل هي صيغة رفع أو لا؟ والاكثر أنها صيغة رفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قالها الصحابي مثل قوله: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، وقد صرح في الرواية الثانية من حديث الباب بأن الموقت هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فارتفع الاحتمال، لكن في إسنادها صدقة بن موسى أبو المغيرة ويقال أبو محمد السلمي البصري الدقيقي، قال يحيى بن معين، ليس بشئ، وقال مرة: ضعيف. وقال النسائي: ضعيف. وقال الترمذي: ليس بالحافظ. وقال أبو حاتم الرازي: لين الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به ليس بالقوي. وقال أبو حاتم بن حبان: كان شيخا صالحا إلا أن الحديث لم يكن صناعته فكان إذا روى قلب الاخبار حتى خرج عن حد الاحتجاج به. وقد أخرج الرواية الاولى في صحيح مسلم عن يحيى بن يحيى وقتيبة كلاهما عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك بذلك اللفظ، قال القاضي عياض: قال العقيلي في حديث جعفر هذا نظر. وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يروه إلا جعفر بن سليمان وليس بحجة لسوء حفظه وكثرة غلطه: قال النووي: وقد وثق كثير من الائمة المتقدمين جعفر بن سليمان ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به وقد تابعه غيره انتهى. قوله: أن لا نترك قال النووي: معناه تركا نتجاوز به أربعين لا أنه وقت لهم الترك أربعين، قال: والمختار أنه يضبط بالحاجة والطول فإذا طال حلق انتهى. قلت: بل المختار أنه يضبط بالاربعين التي ضبط بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يجوز تجاوزها، ولا يعد مخالفا للسنة من ترك القص ونحوه بعد الطول إلى انتهاء تلك الغاية. وعن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الاظفار وغسل البراجم ونتف الابط وحلق العانة وانتقاص الماء يعني الاستنجاء، قال زكريا: قال مصعب ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي.
[ 136 ]
الحديث أخرجه أيضا أبو داود من حديث عمار وصححه ابن السكن، قال الحافظ: وهو معلول: ورواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس موقوفا في تفسير قوله تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) * (البقرة: 124) قال: خمس في الرأس وخمس في الجسد فذكره وقد تقدم الكلام على قص الشارب والسواك وقص الاظفار ونتف الابط وحلق العانة. قوله: وإعفاء اللحية إعفاء اللحية توفيرها كما في القاموس. وفي رواية للبخاري: وفروا اللحى وفي رواية أخرى لمسلم: أوفوا اللحى وهو بمعناه وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشارع عن ذلك وأمر بإعفائها، قال القاضي عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحريقها وأما الاخذ من طولها وعرضها فحسن، وتكره الشهرة في تعظيمها كما تكره في قصها وجزها. وقد اختلف السلف في ذلك فمنهم من لم يحد بحد بل قال: لا يتركها إلى حد الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جدا. ومنهم من حد بما زاد على القبضة فيزال ومنهم من كره الاخذ منها إلا في حج أو عمرة. قوله: واستنشاق الماء سيأتي الكلام عليه في الوضوء. قوله: وغسل البراجم هي بفتح الباء الموحدة وبالجيم جمع برجمة بضم الباء والجيم وهي عقد الاصابع ومعاطفها كلها، وغسلها سنة مستقلة ليست بواجبة. قال العلماء: ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الاذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح ونحوه. قوله: وانتقاص الماء هو بالقاف والصاد المهملة، وقد ذكر المصنف تفسيره بأنه الاستنجاء وكذلك فسره وكيع، وقال أبو عبيد وغيره: معناه انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره. وقيل: هو الانتضاح، وقد جاء في رواية بدل الانتقاص الانتضاح، والانتضاح نضح بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وذكر ابن الاثير أنه روي انتفاص بالفاء والصاد المهملة، وقال في فصل الفاء قيل الصواب أنه بالفاء، قال: والمراد نضحه على الذكر لقولهم لنضح الدم القليل نفصة وجمعها نفص. قال النووي: وهذا الذي نقله شاذ قوله: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة هذا شك منه، قال القاضي عياض، ولعلها الختان المذكور مع الخمس الاولى، قال النووي وهو أولى وسيأتي الكلام على المضمضة في الوضوء. وقد استدل الرافعي بالحديث على أن المضمضة والاستنشاق سنة وروي الحديث بلفظ: عشر من السنة ورده الحافظ في التلخيص بأن لفظ الحديث عشر من الفطرة قال: بل ولو ورد
[ 137 ]
بلفظ من السنة لم ينتهض دليلا على عدم الوجوب لان المراد به السنة أي الطريقة لا السنة بالمعنى الاصطلاحي الاصولي. قال: وفي الباب عن ابن عباس مرفوعا المضمضة والاستنشاق سنة رواه الدارقطني وهو ضعيف. باب الختان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعدما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم متفق عليه إلا أن مسلما لم يذكر السنين. قوله الختان بكسر المعجمة وتخفيف المثناة مصدر ختن أي قطع، والختن بفتح ثم سكون قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص، والاختتان والختان اسم لفعل الخاتن ولموضع الختان كما في حديث عائشة: إذا التقى الختانان قال الماوردي: ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطي الحشفة، والمستحب أن تستوعب من أصلها عند أول الحشفة، وأقل ما يجزئ أن لا يبقى منها ما يتغشى به وقال إمام الحرمين: المستحق في الرجال قطع القلفة وهي الجلدة التي تغطي الحشفة حتى لا يبقى من الجلدة شئ يتدلى وقال ابن الصباغ: حتى تنكشف جميع الحشفة. وقال ابن كج فيما نقله الرافعي: يتأدى الواجب بقطع شئ مما فوق الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها، قال النووي: وهو شاذ والاول هو المعتمد، قال الامام: والمستحق من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم، وقال الماوردي: ختانها قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله، قال النووي: ويسمى ختان الرجل أعذارا بذال معجمة، وختان المرأة خفضا بخاء وضاد معجمتين، وقال أبو شامة: كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل أعذارا والخفض يختص بالنساء، قال أبو عبيد: عذرت الجارية والغلام، وأعذرتهما ختنتهما واختتنتهما وزنا ومعنى. قال الجوهري: والاكثر خفض الجارية، قال: وتزعم العرب أن الولد إذا ولد في القمر اتسعت قلفته فصار كالمختون، وقد استحب جماعة من العلماء فيمن ولد مختونا أن يمر بالموسى على موضع الختان من غير قطع. قال أبو شامة: وغالب من يكون كذلك لا يكون ختانه تاما بل يظهر طرف الحشفة،
[ 138 ]
فإن كان كذلك وجب تكميله. قوله: بالقدوم بفتح القاف وضم الدال وتخفيفها آلة النجارة وقيل: اسم الموضع الذي اختتن فيه إبراهيم وهو الذي في القاموس، يقال بل قد ذكره في باب فضل إبراهيم الخليل من رواية أبي هريرة مع ذكر الستين. وأورد المصنف الحديث في هذا الباب للاستدلال به على أن مدة الختان لا تختص بوقت معين وهو مذهب الجمهور، وليس بواجب في حال الصغر، وللشافعية وجه أنه يجب على الولي أن يختن الصغير قبل بلوغه، وبرده حديث ابن عباس الآتي، ولهم أيضا وجه أنه يحرم قبل عشر سنين ويرده حديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ختن الحسن والحسين يوم السابع من ولادتهما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث عائشة، وأخرجه البيهقي من حديث جابر. قال النووي بعد أن ذكر هذين الوجهين: وإذا قلنا بالصحيح استحب أن يختتن في اليوم السابع من ولادته، وهل يحسب يوم الولادة من السبع أو يكون سبعة سواه؟ فيه وجهان، أظهرهما يحسب انتهى. واختلف في وجوب الختان فروى الامام يحيى عن العترة والشافعي وكثير من العلماء أنه واجب في حق الرجال والنساء. وعند مالك وأبي حنيفة والمرتضى. قال النووي. وهو قول أكثر العلماء أنه سنة فيهما. وقال الناصر والامام يحيى أنه واجب في الرجال لا النساء. احتج الاولون بما سيأتي من حديث عثيم بلفظ: ألق عنك شعر الكفر واختتن وهو لا ينتهض للحجية لما فيه من المقال الذي سنبينه هنالك. وبحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أسلم فليختتن وقد ذكره الحافظ في التلخيص ولم يضعفه وتعقب بقول ابن المنذر ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع. وبحديث أم عطية وكانت خافضة بلفظ: اشمي ولا تنهكي عند الحاكم والطبراني والبيهقي وأبي نعيم من حديث الضحاك بن قيس، وقد اختلف فيه على عبد الملك بن عمير فقيل عنه عن الضحاك. وقيل عنه عن عطية القرظي رواه أبو نعيم. وقيل عنه عن أم عطية رواه أبو داود في السنن وأعله بمحمد بن حسان فقال: إنه مجهول ضعيف، وتبعه ابن عدي في تجهيله والبيهقي، وخالفهم عبد الغني بن سعيد
[ 139 ]
فقال: هو محمد بن سعيد المصلوب في الزندقة. ورواه ابن عدي من حديث سالم بن عبد الله ابن عمر. والبزار من حديث نافع كلاهما عن عبد الله بن عمر مرفوعا بلفظ: يا نساء الانصار اختضبن غمسا واختفضن ولا تنهكن وإياكن وكفران النعم قال الحافظ: وفي إسناد أبي نعيم مندل بن علي وهو ضعيف، وفي إسناد ابن عدي خالد بن عمرو القرشي وهو أضعف من مندل. ورواه الطبراني وابن عدي من حديث أنس نحو حديث أبي داود، قال ابن عدي: تفرد به زائدة وهو منكر قاله البخاري عن ثابت. وقال الطبراني: تفرد به محمد بن سلام. واحتج القائلون بأنه سنة بحديث الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء رواه أحمد والبيهقي من حديث الحجاج بن أرطأة عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه، والحجاج مدلس وقد اضطرب فيه قتادة رواه هكذا، وتارة رواه بزيادة شداد بن أوس بعد والد أبي المليح أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم في العلل والطبراني في الكبير، وتارة رواه عن مكحول عن أبي أيوب أخرجه أحمد، وذكره ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه خطأ من حجاج أو من الراوي عنه وهو عبد الواحد بن زياد. وقال البيهقي: هو ضعيف منقطع. وقال ابن عبد البر في التمهيد. هذا الحديث يدور على حجاج بن أرطأة وليس ممن يحتج به، قال الحافظ: وله طريق أخرى من غير رواية حجاج، فقد رواه الطبراني في الكبير والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا، وضعفه البيهقي في السنن وقال في المعرفة: لا يصح رفعه وهو من رواية الوليد عن أبي ثوبان عن ابن عجلان عن عكرمة عنه، ورواته موثقون إلا أن فيه تدليسا اه. ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج لا حجة فيه على المطلوب، لان لفظة السنة في لسان الشارع أعم من السنة في اصطلاح الاصوليين. واحتج المفصلون لوجوبه على الرجال بحجج القول الاول، ولعدم وجوبه على النساء بما في الحديث الذي احتج به أهل القول الثاني من قوله: مكرمة في النساء والحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب والمتيقن السنة كما في حديث: خمس من الفطرة ونحوه والواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه. قال البيهقي، أحسن الحجج أن يحتج بحديث أبي هريرة المذكور في الباب أن إبراهيم اختتن وهو ابن ثمانين سنة وقد قال الله تعالى: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * (النحل: 123) وصح عن ابن عباس أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هن خصال الفطرة ومنهن الختان، والابتلاء غالبا إنما يقع بما يكون واجبا. وتعقب بأنه لا يلزم ما ذكر
[ 140 ]
إلا إن كان إبراهيم فعله على سبيل الوجوب فإنه من الجائز أن يكون فعله على سبيل الندب، فيحصل امتثال الامر باتباعه على وفق ما فعل، وقد تقرر أن الافعال لا تدل على الوجوب. وأيضا فباقي الكلمات العشر ليست واجبة. وقال الماوردي: إن إبراهيم لا يفعل ذلك في مثل سنة إلا عن أمر من الله. والحاصل أن الاستدلال بفعل إبراهيم على الوجوب يتوقف على أنه كان عليه واجبا، فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال. وعن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: أنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك رواه البخاري. قوله: حتى يدرك الادراك في أصل اللغة بلوغ الشئ وقته وأراد به ههنا البلوغ. والحديث يدل على ما أسلفناه من أن الختان غير مختص بوقت معين، وقد تقدم الكلام فيه في الحديث الذي قبله. ومن فوائد هذا الحديث أن ابن عباس كان عند موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سن البلوغ، وسيأتي ذكر الاختلاف في عمره عند موت النبي (ص) في باب ما يقطع الصلاة بمروره من أبواب السترة. وعن ابن جريج قال: أخبرت عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: قد أسلمت، قال: ألق عنك شعر الكفر، يقول احلق، قال: وأخبرني آخر معه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لآخر: ألق عنك شعر الكفر واختتن رواه أحمد وأبو داود. وأخرجه أيضا الطبراني وابن عدي والبيهقي، قال الحافظ: وفيه انقطاع وعثيم وأبوه مجهولان قاله ابن القطان، وقال عبدان: هو عثيم بن كثير بن كليب والصحابي هو كليب وإنما نسب عثيم في الاسناد إلى جده وقد وقع مبينا في رواية الواقدي، أخرجه ابن منده في المعرفة، وقال ابن عدي: الذي أخبر ابن جريج به هو إبراهيم بن أبي يحيى، وعثيم بضم العين المهملة ثم ثاء مثلثة بلفظ التصغير. والحديث استدل به من قال بوجوب الختان لما فيه من لفظ الامر به وقد تقدم الكلام عليه. (فائدة) اختلف في ختان الخنثى فقيل: يجب ختانه في فرجيه قبل البلوغ. وقيل: لا يجوز حتى يتبين وهو الاظهر قاله النووي. وأما من له ذكران فإن كانا عاملين وجب ختانهما، وإن كان أحدهما عاملا دون الآخر ختن، وإذا مات إنسان قبل أن يختتن
[ 141 ]
فلاصحاب الشافعي ثلاثة أوجه: الصحيح المشهور لا يختن كبيرا كان أو صغيرا. والثاني يختن. والثالث يختن الكبير دون الصغير. باب أخذ الشارب وإعفاء اللحية عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يأخذ من شاربه فليس منا رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حديث صحيح. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب متفق عليه، زاد البخاري: وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه. الكلام على ألفاظ هذه الاحاديث قد تقدم في باب سنن الفطرة. وقد اختلف الناس في حد ما يقص من الشارب، وقد ذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه لظاهر قوله: احفوا وأنهكوا وهو قول الكوفيين، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال وإليه ذهب مالك وكان يري تأديب من حلقه. وروى عنه ابن القاسم أنه قال: إحفاء الشارب مثله. قال النووي: المختار أنه يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفيه من أصله، قال: وأما رواية: احفوا الشوارب فمعناها احفوا ما طال عن الشفتين، وكذلك قال مالك في الموطأ: يؤخذ من الشارب حتى يبدو أطراف الشفة. قال ابن القيم: وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشوارب أن الاحفاء أفضل من التقصير، وذكر بعض المالكية عن الشافعي أن مذهبه كمذهب أبي حنيفة في حلق الشارب، قال الطحاوي: ولم أجد عن الشافعي شيئا منصوصا في هذا، وأصحابه الذين رأيناهم المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما. ويدل ذلك أنهما أخذاه عن الشافعي. وروى الاثرم عن الامام أحمد أنه كان يحفي شاربه إحفاء شديدا، وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يحفى. وقال حنبل: قيل لابي عبد الله: ترى للرجل يأخذ شاربه ويحفيه أم كيف يأخذه؟ قال إن أحفاه فلا بأس، وإن أخذه قصا فلا بأس وقال أبو محمد في المغني: هو مخير بين أن يحفيه وبين أن يقصه. وقد روى النووي في شرح مسلم
[ 142 ]
عن بعض العلماء أنه ذهب إلى التخيير بين الامرين: الاحفاء وعدمه وروى الطحاوي الاحفاء عن جماعة من الصحابة أبي سعيد وأبي أسيد ورافع بن خديج وسهل بن سعد و عبد الله بن عمر وجابر وأبي هريرة. قال ابن القيم: واحتج من لم ير إحفاء الشارب بحديث عائشة وأبي هريرة المرفوعين: عشر من الفطرة فذكر منها قص الشارب. وفي حديث أبي هريرة: أن الفطرة خمس وذكر منها قص الشارب، واحتج المحفون بأحاديث الامر بالاحفاء وهي صحيحة. وبحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحفي شاربه انتهى. والاحفاء ليس كما ذكره النووي من أن معناه احفوا ما طال عن الشفتين، بل الاحفاء الاستئصال كما في الصحاح والقاموس والكشاف وسائر كتب اللغة. ورواية القص لا تنافيه لان القص قد يكون على جهة الاحفاء وقد لا يكون، ورواية الاحفاء معينة للمراد، وكذلك حديث الباب الذي فيه: من لم يأخذ من شاربه فليس منا لا يعارض رواية الاحفاء لان فيها زيادة يتعين المصير إليها، ولو فرض التعارض من كل وجه لكانت رواية الاحفاء أرجح لانها في الصحيحين. وروى الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ من شارب المغيرة على سواكه قال: وهذا لا يكون معه إحفاء، ويجاب عنه بأنه محتمل، ودعوى أنه لا يكون معه إحفاء ممنوعة، وهو إن صح كما ذكر لا يعارض تلك الاقوال منه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: وأرخوا اللحى قال النووي: هو بقطع الهمزة والخاء المعجمة ومعناه اتركوا ولا تتعرضوا لها بتغيير، قال القاضي عياض: وقع في رواية الاكثرين بالخاء المعجمة، ووقع عند ابن ماهان أرجوا بالجيم قيل هو بمعنى الاول وأصله أرجئوا بالهمزة فحذفت تخفيفا ومعناه أخروها واتركوها. قوله: وفروا اللحى هي إحدى الروايات وقد حصل من مجموع الاحاديث خمس روايات: اعفوا وأوفوا وأرخوا وأرجوا ووفروا، ومعناها كلها تركها على حالها. قال ابن السكيت وغيره: يقال في جمع اللحية لحى ولحى بكسر اللام وضمها لغتان والكسر أفصح. قوله: خالفوا المجوس قد سبق أنه كان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك. قوله: فما فضل بفتح الفاء والضاد المعجمة ويجوز كسر الضاد كعلم والاشهر الفتح. وقد استدل بذلك بعض أهل العلم والروايات المرفوعة ترده، ولكنه قد أخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها وقال غريب: قال سمعت محمد بن إسماعيل
[ 143 ]
يعني البخاري يقول: عمر بن هارون يعني المذكور في إسناده مقارب الحديث لا أعرف له حديثا ليس له أصل، أو قال: ينفرد به إلا هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديثه انتهى. وقال في التقريب: إنه متروك وكان حافظا من كبار التاسعة انتهى. فعلى هذا أنها لا تقوم بالحديث حجة. (فائدة) قال النووي: وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها أشد من بعض: الخضاب بالسواد لا لغرض الجهاد. والخضاب بالصفرة تشبها بالصالحين لا لاتباع السنة. وتبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة لاجل الرياسة والتعظيم وإيهام لقي المشايخ. ونتفها أول طلوعها إيثارا للمردودة وحسن الصورة. ونتف الشيب. وتصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا لتستحسنه النساء وغيرهن. والزيادة فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك. وتسريحها تصنعا لاجل الناس. وتركها شعثة منتفشة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه. هذه عشر والحادية عشرة عقدها وضفرها. والثانية عشرة حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها. باب كراهة نتف الشيب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الاسلام إلا كتب الله له بها حسنة ورفعه بها درجة وحط عنه بها خطيئة رواه أحمد أبو داود. وأخرجه أيضا الترمذي وقال: حسن. والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: كنا نكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته وفي رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مقال معروف عند المحدثين. والحديث يدل على تحريم نتف الشيب
[ 144 ]
لانه مقتضى النهي حقيقة عند المحققين، وقد ذهبت الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم إلى كراهة ذلك لهذا الحديث، ولما أخرجه الخلال في جامعه عن طارق بن حبيب أن حجاما أخذ من شارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرأى شيبة في لحيته فأهوى بيده إليها ليأخذها فأمسك النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده وقال: من شاب شيبة في الاسلام كانت له نورا يوم القيامة ولما أخرجه البزار والطبراني عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من شاب شيبة في الاسلام كانت له نورا يوم القيامة، فقال له رجل عند ذلك: فإن رجالا ينتفون الشيب، فقال: من شاء فلينتف نوره قال النووي: لو قيل يحرم النتف للنهي الصريح الصحيح لم يبعد، قال: ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس والشارب والحاجب والعذار ومن الرجل والمرأة. قوله: فإنه نور المسلم في تعليله بأنه نور المسلم ترغيب بليغ في إبقائه وترك التعرض لازالته وتعقيبه بقوله: ما من مسلم يشيب شيبة في الاسلام والتصريح بكتب الحسنة ورفع الدرجة وحط الخطيئة نداء يشرف الشيب وأهله، وأنه من أسباب كثرة الاجور، وإيماء إلى أن الرغوب عنه بنتفه رغوب عن المثوبة العظيمة. وقد أخرج الترمذي من حديث كعب بن مرة وحسنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من شاب شيبة في الاسلام كانت له نورا يوم القيامة وأخرجه بهذا اللفظ من حديث عمرو بن عبسة وقال: حسن صحيح غريب. باب تغيير الشيب بالحناء والكتم ونحوهما وكراهة السواد عن جابر بن عبد الله قال: جئ بأبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكأن رأسه ثغامة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيره بشئ وجنبوه السواد رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. قوله: بأبي قحافة هو والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قوله: ثغامة بثاء مثلثة مفتوحة ثم غين معجمة مخففة. قال أبو عبيد: هو نبت أبيض الزهر والثمر يشبه بياض المشيب به. وقال ابن الاعرابي: هو شجر مبيض كأنه الثلج قال في القاموس: الثغام كسحاب نبت واحدته بهاء، وأثغماء اسم الجمع، وأثغم الوادي أنبته، والرأس صار
[ 145 ]
كالثغامة بياضا، ولون ثاغم أبيض كالثغام. والحديث يدل على مشروعية تغيير الشيب وأنه غير مختص باللحية، وعلى كراهة الخضاب بالسواد، قال بذلك جماعة من العلماء. قال النووي: والصحيح بل الصواب أنه حرام يعني الخضاب بالسواد، وممن صرح به صاحب الحاوي انتهى وقد أخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة قال المنذري: وفي إسناده عبد الكريم، ولم ينسبه أبو داود ولا النسائي انتهى وهو الجريري كما وقع في بعض نسخ السنن. وقد ورد في استحباب خضاب الشيب وتغييره أحاديث سيأتي بعضها منها ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود من حديث ابن عباس بلفظ: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم وأخرجه الترمذي بلفظ: غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أحسن ما غير به هذا الشيب الحناء والكتم وسيأتي. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يصبغ لحيته بالصفرة ويقول: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها ولم يكن أحب إليه منها وكان يصبغ بها ثيابه أخرجه أبو داود والنسائي، ويعارضه ما سيأتي عن أنس قال: ما خضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يبلغ منه الشيب إلا قليلا، قال: ولو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه لفعلت والحديث أخرجه الشيخان وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره عشر خلال الصفرة يعني الخلوق وتغييره الشيب الحديث، ولكنه لا ينتهض لمعارضة أحاديث تغيير الشيب قولا وفعلا. قال القاضي عياض: اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه فقال بعضهم: ترك الخضاب أفضل وروى حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي عن تغيير الشيب، ولانه صلى الله عليه وآله وسلم لم يغير شيبه روي هذا عن عمر وعلي وأبي بكر وآخرين. وقال آخرون: الخضاب أفضل، وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للاحاديث الواردة في ذلك، ثم اختلف هؤلاء فكان أكثرهم يخضب بالصفرة منهم ابن عمر وأبو هريرة وآخرون، وروي ذلك عن علي. وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم وبعضهم بالزعفران. وخضب جماعة بالسواد روي ذلك عن عثمان والحسن والحسين بن علي وعقبة بن عامر وابن سيرين
[ 146 ]
وأبي بردة وآخرين. قال الطبري: الصواب أن الاحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض، بل الامر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة، والنهي لمن له شمط فقط، قال: واختلاف السلف في فعل الامرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك، مع أن الامر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالاجماع ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض. وعن محمد بن سيرين قال: سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن شاب إلا يسيرا، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحناء والكتم متفق عليه. وزاد أحمد قال: وجاء أبو بكر بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة يحمله حتى إذا وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابي بكر: لو أقررت الشيخ في بيته لاتيناه تكرمة لابي بكر فأسلم ولحيته ورأسه كالثغامة بياضا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: غيروهما وجنبوه السواد. قصة أبي قحافة قد تقدم الكلام عليها، وفي هذه الرواية زيادة الامر بتغيير بياض اللحية، وحديث أنس وإنكاره لخضاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعارضه ما سيأتي من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران وما سبق من حديثه أنه كان يصبغ بالصفرة وما في الصحيحين وإن كان أرجح مما كان خارجا عنهما، ولكن عدم علم أنس بوقوع الخضاب منه صلى الله عليه وآله وسلم لا يستلزم العدم، ورواية من أثبت أولى من روايته لان غاية ما في روايته أنه لم يعلم وقد علم غيره. وأيضا قد ثبت في صحيح البخاري ما يدل على اختضابه كما سيأتي، على أنه لو فرض عدم ثبوت اختضابه لما كان فادحا في سنية الخضاب لورود الارشاد إليها قولا في الاحاديث الصحيحة. قال ابن القيم: واختلف الصحابة في خضابه صلى الله عليه وآله وسلم فقال أنس: لم يخضب، وقال أبو هريرة: خضب، وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال: رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخضوبا قال حماد: وأخبرني عبد الله بن محمد بن عقيل قال: رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند أنس بن مالك مخضوبا وقالت طائفة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما يكثر الطيب قد احمر شعره فكان يظن مخضوبا ولم يخضب انتهى. وقد أثبت اختضابه
[ 147 ]
صلى الله عليه وآله وسلم مع ابن عمر أبو رمثة كما سيأتي. قوله: الكتم في القاموس والكتم محركة والكتمان بالضم نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر انتهى. وهو النبت المعروف بالوسمة يعني ورق النيل، وفي كتب الطب أنه نبت من نبت الجبال ورقه كورق الآس يخضب به مدقوقا. وعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلنا على أم سلمة فأخرجت إلينا من شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هو مخضوب بالحناء والكتم رواه أحمد وابن ماجه والبخاري ولم يذكر بالحناء وبالكتم. وعن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعل ذلك رواه أبو داود والنسائي. الحديث الاول يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خضب وقد تقدم الكلام عليه، وقد أجيب بأن الحديث ليس فيه بيان أن النبي صلى اللهعليه وآله وسلم هو الذي خضب، بل يحتمل أن يكون احمر بعده لما خالطه من طيب فيه صفرة، وأيضا كثير من الشعور التي تنفصل عن الجسد إذا طال العهد يؤول سوادها إلى الحمرة، كذا قال الحافظ. وأيضا هذا الحديث معارض لحديث أنس المتقدم وقد سبق البحث عن ذلك. وقال الطبري في الجمع بين الحديثين: من جزم بأنه خضب فقد حكى ما شاهده كان ذلك في بعض الاحيان، ومن نفى ذلك فهو محمول على الاكثر الاغلب من حاله صلى الله عليه وآله وسلم والحديث الثاني في إسناده عبد العزيز بن أبي رواد وفيه مقال معروف وهو في صحيح البخاري بأطول من هذا ذكره في أبواب الوضوء، ولكنه لم يقل يصفر لحيته، بل قال: وأما الصفرة فإن رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها. الحديث. وأخرجه أيضا مسلم. قوله: السبتية بكسر السين جلود البقر وكل جلد مدبوغ أو بالقرظ ذكره في القاموس، وإنما قيل لها سبتية أخذا من السبت وهو الحلق لان شعرها قد حلق عنها وأزيل. قوله: ويصفر لحيته قال الماوردي: لم ينقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه صبغ شعره، ولعله لم يقف على هذا الحديث وهو مبين للصبغ المطلق في الصحيحين، وكذا قال ابن عبد البر، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بالصفرة إلا ثيابه، ورده ابن قدامة في المغني. قوله: بالورس والزعفران الورس بفتح الواو نبت أصفر يزرع باليمين ويصبغ به، والزعفران معروف،
[ 148 ]
وظاهر العطف أنه كان يصبغ لحيته بالزعفران، ويحتمل أن يكون التقدير أنه كان يصفر لحيته بالورس وثيابه الزعفران. وقد روى أبو داود من طرق صحاح ما يدل على أن ابن عمر كان يصبغ لحيته وثيابه بالصفرة ولفظه: أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تملا ثيابه فقيل له في ذلك فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبغ بها ولم يكن شئ أحب إليه منها كان يصبغ ثيابه بها حتى عمامته والحديث يدل على تغيير الشيب سنة وقد تقدم الكلام عليه. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم رواه الخمسة وصححه الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم رواه الجماعة. الحديث الاول يدل على أن الحناء والكتم من أحسن الصباغات التي يغير بها الشيب، وأن الصبغ غير مقصور عليهما لدلالة صيغة التفضيل على مشاركة غيرهما من الصباغات لهما في أصل الحسن، وهو يحتمل أن يكون على التعاقب ويحتمل الجمع وقد أخرج مسلم من ديث أنس قال: اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بحتا أي منفردا، وهذا يشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائما، والكتم نبات يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة وصبغ الحناء أحمر، فالصبغ بهما معا يخرج بين السواد والحمرة، واستنبط ابن أبي عاصم من قوله: جنبوه السواد في حديث جابر أن الخضاب بالسواد كان من عادتهم. والحديث الثاني يدل على أن العلة في شرعية الصباغ وتغيير الشيب هي مخالفة اليهود والنصارى، وبهذا يتأكد استحباب الخضاب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها، وهذه السنة قد كثر اشتغال السلف بها، ولهذا ترى المؤرخين في التراجم لهم يقولون: وكان يخضب وكان لا يخضب. قال ابن الجوزي: قد اختضب جماعة من الصحابة والتابعين وقال أحمد بن حنبل وقد رأى رجلا قد خضب لحيته: إني لارى رجلا يحيي ميتا من السنة وفرح به حين رآه صبغ بها. قال النووي: مذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة، ويحرم خضابه بالسواد على الاصح، قال: وللخضاب فائدتان: إحداهما تنظيف الشعر مما تعلق به، والثانية مخالفة أهل الكتاب. قال في الفتح: وقد رخص فيه أي في الخضب بالسواد طائفة من
[ 149 ]
السلف منهم سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد، واختاره ابن أبي عاصم في كتاب الخضاب، وأجاب عن حديث ابن عباس رفعه يكون قوم يخضبون بالسواد لا يجدون ريح الجنة بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد بل فيه الاخبار عن قوم هذه صفتهم وعن حديث جابر: جنبوه السواد بأنه ليس في حق كل أحد، وقد أخرج الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي الدرداء رفعه: من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة قال الحافظ: وسنده لين، ويمكن تعقب الجواب الاول بأن يقال: ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وقد وصف القوم المذكورين بأنهم يخضبون بالسواد، ويمكن تعقب الجواب الثاني بأنه مبني على أن حكمه على الواحد ليس حكما على الجماعة، وفيه خلاف معروف في الاصول. وعن ابن عباس قال: مر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل قد خضب بالحناء فقال: ما أحسن هذا، فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال: هذا أحسن من هذا، فمر آخر وقد خضب بالصفرة فقال: هذا أحسن من هذا كله رواه أبو داود وابن ماجه. في إسناده حميد بن وهب القرشي الكوفي وهو منكر الحديث، ومحمد بن طلحة الكوفي وكان ممن يخطئ حتى خرج عن حد التعديل، ولم يغلب خطؤه صوابه حتى يستحق الترك، وهو ممن يحتج به إلا بما انفرد، كذا قاله المنذري: والحديث يدل على حسن الخضب بالحناء على انفراده، فإن انضم إليه الكتم كان أحسن، ويدل على أن الخضب بالصفرة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحسن في عينه من الحناء على انفراده ومع الكتم. وقد سبق حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خضب بالصفرة وتقدم الكلام فيه. وعن أبي رمثة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخضب بالحناء والكتم وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه رواه أحمد. وفي لفظ لاحمد والنسائي وأبي داود: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أبي وله لمة بها ردع من حناء ردع بالعين المهملة أي لطخ يقال به ردع من دم أو زعفران. وفي لفظ من حديث أبي رمثة: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ابن لي فقال: ابنك؟ قلت: نعم أشهد به، فقال: لا تجني عليه ولا يجني عليك، قال: ورأيت الشيب
[ 150 ]
أحمر. قال الترمذي: هذا أحسن شئ روي في هذا الباب وأفسره، لان الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبلغ الشيب. قال حماد بن سلمة عن سماك بن حرب: قيل لجابر بن سمرة أكان في رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيب؟ قال: لم يكن في رأسه شيب إلا شعرات في مفرق رأسه إذا ادهن وأراهن الدهن، قال أنس: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر دهن رأسه ولحيته. قوله: لمة بكسر اللام وتشديد الميم هي الشعر المجاوز شحمة الاذن كذا في القاموس. وفي رواية لابي داود من هذا الحديث وكان يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد لطخ لحيته بالحناء. قوله: ردع وهو بالراء المهملة المفتوحة والدال المهملة الساكنة. باب جواز اتخاذ الشعر وإكرامه واستحباب تقصيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوق الوفرة ودون الجمة رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. ولفظ ابن ماجه فوق الجمة قال الترمذي: هو حديث صحيح غريب من هذا الوجه وقد روي من غير وجه عن عائشة أنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء واحد ولم يذكروا فيه هذا الحرف وكان له شعر فوق الجمة، وإنما ذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ثقة حافظ انتهى وعبد الرحمن مدني سكن بغداد وحدث بها إلى حين وفاته، وثقه الامام مالك بن أنس واستشهد به البخاري وتكلم فيه غير واحد. قوله: فوق الوفرة بفتح الواو قال في القاموس: الوفرة الشعر المجتمع على الرأس، أو ما سال على الاذنين منه، أو ما جاوز شحمة الاذن، ثم الجمة ثم اللمة والجمع وقار، وقال في الجمة: إنها مجتمع شعر الرأس وهي بضم الجيم وتشديد الميم. قال ابن رسلان في شرح السنن: إنها قريب المنكبين. قال المصنف رحمه الله: الوفرة الشعر إلى شحمة الاذن، فإذا جاوزها فهو اللمة، فإذا بلغ المنكبين فهو الجمة انتهى. والحديث يدل على استحباب ترك الشعر على الرأس إلى أن يبلغ ذلك المقدار. وعن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يضرب شعره منكبيه. وفي لفظ: كان شعره رجلا ليس بالجعد والسبط بين أذنيه وعاتقه أخرجاه، ولاحمد ومسلم: كان شعره إلى أنصاف أذنيه. قوله: كان شعره رجلا براء مهملة مفتوحة وجيم مكسورة هو الشعر بين السبوطة
[ 151 ]
والجعودة والسبط: بسين مهملة مفتوحة وباء موحدة ساكنة وتحرك وتكسر، قال في القاموس: وهو نقيض الجعودة. وفي المشارق: وهو المسترسل كشعر العجم. والجعد قال في القاموس: خلاف السبط، وفي المشارق: هو المتكسر، فإذا كان شديد التكسر فهو القطط مثل شعر السودان. والحديث يدل على استحباب ترك الشعر وإرساله بين المنكبين أو بين الاذنين والعاتق، وقد أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث البراء قال: ما رأيت من ذي لمة أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أبو داود: زاد محمد بن سليمان له شعر يضرب منكبيه، قال وكذا رواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء يضرب منكبيه، وقال شعبة: تبلغ شحمة أذنيه، قال أبو داود: وهم شعبة فيه وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي من حديث أنس قال: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنصاف أذنيه وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه قال القاضي: الجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الاذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو الذي بين أذنه وعاتقه، وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه. وقيل: كان ذلك لاختلاف الاوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب، وإذا قصرها كانت إلى أنصاف أذنيه. وكان يقصر ويطول بحسب ذلك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان له شعر فليكرمه رواه أبو داود. الحديث قال في الفتح: وإسناده حسن، وله شاهد من حديث عائشة في الغيلانيات وإسناده حسن أيضا، وسكت عنه أبو داود والمنذري، وقد صرح أبو داود أيضا أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج، ورجال إسناده أئمة ثقات، وفيه دلالة على استحباب إكرام الشعر بالدهن والتسريح وإعفائه عن الحلق لانه يخالف الاكرام إلا أن يطول، كما ثبت عند أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث وائل بن حجر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولي شعر طويل فلما رآني قال: ذباب ذباب، قال: فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد فقال: إني لم أعنك وهذا أحسن. وفي إسناده عاصم بن كليب
[ 152 ]
الحرمي وقد احتج به مسلم في صحيحه، وقال الامام أحمد: لا بأس بحديثه. وقال أبو حاتم الرازي: صالح. وقال علي بن المديني: لا يحتج به إذا انفرد وأخرج مالك عن عطاء بن يسار قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته ففعل ثم رجع فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان والثائر الشعث بعيد العهد بالدهن والترجيل. وعن عبد الله بن المغفل قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الترجل إلا غبا رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي. الحديث صححه ابن حبان قال المنذري: ولكن أخرجه النسائي مرسلا، وأخرجه عن الحسن البصري وعن محمد بن سيرين من قولهما. وقال أبو الوليد الباجي: هذا وإن كان رواته ثقات إلا أنه لا يثبت، وأحاديث الحسن عن عبد الله بن مغفل فيها نظر، وفيما قاله نظر، فقد قال الامام أحمد ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي أن الحسن سمع من عبد الله بن مغفل غير أن الحديث في إسناده اضطراب. قوله: عن الترجل الترجل والترجيل تسريح الشعر. وقيل: الاول المشط والثاني التسريح. وقوله: إلا غبا أي في كل أسبوع مرة، كذا روي عن الحسن. وفسره الامام أحمد بأن يسرحه يوما ويدعه يوما وتبعه غيره وقيل: المراد به في وقت دون وقت، وأصل الغب في إيراد الابل أن ترد الماء يوما وتدعه يوما. وفي القاموس: الغب في الزيارة أن تكون كل أسبوع، ومن الحمى ما تأخذ يوما وتدع يوما. والحديث يدل على كراهة الاشتغال بالترجيل في كل يوم لانه نوع من الترفه، وقد ثبت من حديث فضالة بن عبيد عند أبي داود قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهانا عن كثير من الارفاه وفي ترك الترجيل الايام نوع من البذاذة وقد ثبت عند أبي داود وابن ماجة من حديث أبي أمامة قال: ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما عنده الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تسمعون ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الايمان إن البذاذة من الايمان قال أبو داود في سننه: إن البذاذة التقحل. وفي النهاية قحل إذا التزق جلده بعظمه من الهزال والبلا انتهى. والارفاه الاستكثار من الزينة وأن لا يزال يهيئ نفسه وأصله من الرفه، وهو أن ترد الابل الماء كل يوم فإذا وردت يوما ولم ترد يوما فذلك الغب قاله الخطابي في المعالم.
[ 153 ]
وحديث أبي أمامة في إسناده محمد بن إسحاق ولم يصرح بالتحديث بل عنعن وفيه مقال مشهور. وقال أبو عمر النمري: إنه اختلف في إسناد هذا الحديث اختلافا سقط معه الاحتجاج ولا يصح من جهة الاسناد. وعن أبي قتادة أنه كانت له جمة ضخمة فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمره أن يحسن إليها وأن يترجل كل يوم رواه النسائي. الحديث رجال إسناده كلهم رجال الصحيح، وأخرجه أيضا مالك في الموطأ، ولفظ الحديث عن أبي قتادة قال قالت: يا رسول الله إن لي جمة أفأرجلها؟ قال، نعم وأكرمها فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله صلى الله عليه وآله وسلم نعم وأكرمها وعلى هذا فلا يعارض الحديث المتقدم في النهي عن الترجل إلا غبا، لان الواقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مجرد الاذن بالترجيل والاكرام، وفعل أبي قتادة ليس بحجة. والواجب حمل مطلق الامر بالترجيل والاكرام على المقيد، لكن الاذن بالترجيل كل يوم كما في حديث أبي قتادة الذي ذكره المصنف يخالف ما في حديث عبد الله بن المغفل من النهي عن الترجيل إلا غبا، فإن لم يمكن الجمع وجب الترجيح. وقد تقدم ذكر حديث إكرام الشعر وتقدم أيضا تفسير الجمة والترجيل. باب ما جاء في كراهية القزع والرخصة في حلق الرأس عن نافع عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن القزع، فقيل لنافع؟ ما القزع؟ قال: أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعض متفق عليه. وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجه، وذكر أبو داود في سننه بعد ذكره تفسير القزع بمثل ما في المتن تفسيرا آخر فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القزع وهو أن يحلق الصبي ويترك له ذؤابة وهذا لا يتم لانه قد أخرج أبو داود نفسه من حديث أنس بن مالك قال: كانت لي ذؤابة فقالت لي أمي لا أجزها كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمدها ويأخذ بها. وفسر القزع في القاموس بحلق رأس الصبي وترك مواضع منه متفرقة غير حلوقة تشبيها بقزع السحاب بعد أن ذكر أن القزع قطع من السحاب الواحدة بها. وقال في شرح مسلم بعد أن ذكر تفسير ابن عمر: وهذا الذي فسره به نافع وعبيد الله
[ 154 ]
هو الاصح، قال: والقزع حلق بعض الرأس مطلقا. ومنهم من قال: هو حلق مواضع متفرقة منه، والصحيح الاول لانه تفسير الراوي وهو غير مخالف للظاهر فوجب العمل به، وفي البخاري في تفسير القزع قال: فأشار لنا عبيد الله: أما القصة والقفا للغلام فلا بأس بهما، وكل خصلة من الشعر قصة سواء كانت متصلة بالرأس أو منفصلة، والمراد بها هنا شعر الناصية، يعني أن حلق القصة وشعر القفا خاصة لا بأس به. وقال النووي: المذهب كراهيته مطلقا كما سيأتي، وأخرج أبو داود من حديث أنس قال: كان لي ذؤابة فقالت أمي لا أجذها فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمدها ويأخذ بها وأخرج النسائي بسند صحيح عن زياد بن حصين عن أبيه أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله فوضع يده على ذؤابته وسمت عليه ودعا له ومن حديث ابن مسعود وأصله في الصحيحين قال: قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورة وأن زيد بن ثابت لمع الغلمان له ذؤابتان ويمكن الجمع بأن الذؤابة الجائز اتخاذها ما يفرد من الشعر فيرسل ويجمع ما عداها بالضفر وغيره، والتي تمنع أن يحلق الرأس كله ويترك ما في وسطه فيتخذ ذؤابة، وقد صرح الخطابي بأن هذا مما يدخل في معنى القزع، انتهى من الفتح. والحديث يدل على المنع من القزع قال النووي: وأجمع العلماء على كراهة القزع كراهة تنزيه، وكرهه مالك في الجارية والغلام مطلقا، وقال بعض أصحابه: لا بأس به للغلام ومذهبنا كراهته مطلقا للرجل والمرأة لعموم الحديث، قال العلماء: والحكمة في كراهته أنه يشوه الخلق، وقيل: لانه زي أهل الشرك. وقيل: لانه زي اليهود، وقد جاء هذا مصرحا به في رواية لابي داود انتهى، ولفظه في سنن أبي داود أن الحجاج بن حسان قال: دخلنا على أنس بن مالك فحدثتني أختي المغيرة قالت: وأنت يومئذ غلام ولك قرنان أو قصتان فمسح رأسك وبرك عليك وقال احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى صبيا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال: احلقوا كله أو ذروا كله رواه أحمد وأبو داود
[ 155 ]
والنسائي بإسناد صحيح. قال المنذري: وأخرجه مسلم بالاسناد الذي أخرجه أبو داود ولم يذكر لفظه، وذكر أبو مسعود الدمشقي في تعليقه أن مسلما أخرجه بهذا اللفظ. والحديث يدل على المنع من حلق بعض الرأس وترك بعضه، وقد سبق الكلام عليه في الذي قبله، وهو مؤيد لتفسير القزع بما فسره به ابن عمر في الحديث السابق، وفيه دليل على جواز حلق الرأس جميعه. قال الغزالي: لا بأس به لمن أراد التنظيف، وفيه رد على من كرهه لما رواه الدارقطني في الافراد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة ولقول عمر لضبيع: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف. ولحديث الخوارج: إن سيماهم التحليق. قال أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموسى، أما بالمقراض فلبس به بأس لان أدلة الكراهة تختص بالحلق. وعن عبد الله بن جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي بني أخي، قال: فجئ بنا كأننا أفرخ، فقال: ادعوا لي الحلاق، قال: فجئ بالحلاق فحلق رؤوسنا روا أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث إسناده حسن، وقد سكت عنه أبو داود والمنذري لذلك، ورجال إسناده عند أبي داود ثقات، وأما عند النسائي فشيخه فيه مقال والبقية ثقات. قوله: كأننا أفرخ جمع فرخ وهو صغير ولد الطير. ووجه التشبيه أن شعرهم يشبه زغب الطير وهو أول ما يطلع من ريشه. والحديث يدل على أن الكبير من أقارب الاطفال يتولى أمرهم وينظر في مصالحهم، وهو يدل على الترخيص في حلق جميع الرأس ولكن في حق الرجال، وأما النساء فقد أخرج النسائي من حديث علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تحلق المرأة رأسها. ويدل على الترخيص للرجال أيضا الحديث الذي قبل هذا لانه أمر بحلقه كله أو تركه كله. باب الاكتحال والادهان والتطيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. هذا طرف من حديث طويل ولفظه: من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، ومن أكل
[ 156 ]
فما تخلل فليلفظ، وما لاك بلسانه فليبتلع من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج وفي إسناده أبو سعيد الحبراني الحمصي الراوي عن أبي هريرة. قال أبو زرعة الرازي: لا أعرفه. وقيل: إنه صحابي، قال الحافظ: ولا يصح، والراوي عنه حصين الحبراني وهو مجهول. وقال أبو زرعة: شيخ. وذكره ابن حبان في الثقات. وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل، وقد أخرج الحديث ابن حبان والحاكم والبيهقي وهو يدل على مشروعية الايتار في الكحل، وظاهره عدم الاقتصار على الثلاثة إلا أن يقيد الايتار بما سيأتي من فعله صلى الله عليه وآله وسلم. قال ابرسلان: وفي كيفية الوتر في الاكتحال وجهان: أحدهما أن يضع في كل عين ثلاث مرات وهذا هو الاصح لحديث ابن عباس الآتي والثاني يضع في اليمنى ثلاث مرات وفي اليسرى مرتين فيكون المجموع وترا، أو في عين ثلاث مرات وفي عين أربع مرات. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه رواه ابن ماجه والترمذي وأحمد. ولفظه: كان يكتحل بالاثمد كل ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال. الحديث حسنه الترمذي وقال: إنه روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال عليكم بالاثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ثم ذكر أنها كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مكحلة الخ، وساق الحديث عن علي بن حجر ومحمد بن يحيى عن يزيد بن هارون عن عثمان بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: وفي الباب عن جابر وابن عمر. والحديث يدل على استحباب أن يكون الاكتحال في كل عين ثلاثة أميال وأن يكون بالاثمد وهو بالكسر حجر للكحل معروف، وأن يكون في كل ليلة، وأن يكون عند النوم. وقد أخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خيار ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الاثمد يجلو البصر وينبت الشعر وأخرجه الترمذي وابن ماجه مختصرا وليس فيه ذكر الكحل. وفي رواية الطبراني فإنه منبتة للشعر
[ 157 ]
مذهبة للقذى مصفاة للبصر. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة رواه النسائي. وأخرجه أيضا أحمد وابن أبي شيبة والحاكم من حديثه، وفي إسناده في سنن النسائي سيار بن حاتم وسلام بن مسكين، ومن طريق سيار رواه أحمد في الزهد والحاكم في المستدرك. ومن طريق سلام أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن سعد والبزار وأبو يعلى وابن عدي في الكامل وأعله به والعقيلي في الضعفاء كذلك. وقال الدارقطني في علله: رواه أبو المنذر سلام بن أبي الصهباء وجعفر بن سليمان، ورواه عن ثابت عن أنس وخالد بن حماد بن زيد عن ثابت مرسلا، وكذا رواه محمد بن عثمان بن ثابت البصري والمرسل أشبه بالصواب. وقد رواه عبد الله بن أحمد في زيادات الزهد عن أبيه من طريق يوسف بن عطية عن ثابت موصولا أيضا، ويوسف ضعيف، وله طريق أخرى معلولة عند الطبراني في الاوسط عن محمد بن عبد الله الحضري عن يحيى بن عثمان الحربي عن الهبل بن زياد عن الاوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مثله، قال الحافظ في التلخيص: إن إسناده حسن وقال في تخريج الكشاف: والتلخيص ليس في شئ من طرقه لفظ ثلاث بل أوله عند الجميع حبب إلي من دنياكم النساء الحديث وزيادة ثلاث تفسد المعنى، على أن الامام أبا بكر بن فورك شرحه في جزء مفرد بإثباتها، وكذلك أورده الغزالي في الاحياء واشتهر على الالسنة انتهى، وإنما قال: إن زيادة لفظ ثلاث تفسد المعنى لان الصلاة ليست من حب الدنيا وقد وجه ذلك السعد في حاشية الكشاف فقال: وقرة عيني مبتدأ قصد به الاعراض من حب الدنيا وما يحب فيها، وليس عطفا على الطيب كما سبق إلى الفهم لانها ليست من حب الدنيا. ووجه ذلك بعضهم بأن من بمعنى في، قال: وقد جاءت كذلك في قوله تعالى: * (ماذا خلقوا من الارض) * (فاطر: 40) أي في الارض، ورده صاحب الثمرات بأنه قد حبب إليه أكثر من ذلك نحو الصوم والجهاد ونحو ذلك من الطاعات انتهى، ومثل ما قال الحافظ قال شيخ الاسلام زين الدين العراقي في أماليه وصرح بأن لفظ ثلاث ليس في شئ من كتب الحديث وأنها مفسدة للمعنى، وكذلك قال الزركشي وغيره وقال الدماميني: لا أعلمها ثابتة من طريق صحيحة، والحديث يدل على أن الطيب والنساء محببان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد ما يدل على أن الطيب محبب إلى الله تعالى، فأخرج الترمذي عن ابن المسيب أنه كان يقول: إن الله تعالى طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم،
[ 158 ]
جواد يحب الجود، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود قال، يعني الراوي عن ابن المسيب: فذكرت ذلك لمهاجر بن مسمار فقال: حدثنيه عامر بن سعد عن أبيه عن النبي (ص) مثله. قال الترمذي: وهذا حديث غريب وخالد بن الياس يضعف ويقال ابن إياس. وعن نافع قال: كان ابن عمر يستجمر بالالوة غير مطراة وبكافور يطرحه مع الالوة ويقول: هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه النسائي ومسلم. الالوة العود الذي يتبخر به. قوله: يستجمر الاستجمار هنا التبخر، وهو استفعال من المجمرة وهي التي توضع فيها النار. قوله: الالوة بفتح الهمزة وضمها وضم اللام وتشديد الواو وفتحها العود الذي يتبخر به كما قال المصنف، وحكى الازهري كسر اللام. قوله: غير مطراة أي غير مخلوطة بغيرها من الطيب، ذكره في شرح مسلم. والحديث يدل على استحباب التبخر بالعود وهو نوع من أنواع الطيب المندوب إليه على العموم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من عرض عليه طيب فلا يرده فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. لم يخرجه مسلم بهذا اللفظ بل بلفظ: من عرض عليه ريحان فلا يرده وهكذا أخرجه الترمذي بلفظ: إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة وقال: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه من طريق حنان قال: ولا يعرف لحنان غير هذا الحديث انتهى وهو أيضا مرسل لانه رواه حنان عن أبي عثمان النهدي، وأبو عثمان وإن أدرك زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يره ولم يسمع منه. وحديث الباب صححه ابن حبان، وقد أخرج الترمذي عن ثمامة بن عبد الله قال: كان أنس لا يرد الطيب. وقال أنس: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يرد الطيب، قال: وهذا حديث حسن صحيح. وفي الباب عن أنس أيضا من وجه آخر عند البزار بلفظ: ما عرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم طيب قط فرده قال الحافظ في الفتح: وسنده حسن. وعن ابن عباس عند الطبراني بلفظ: من عرض عليه طيب فليصب منه وقد بوب البخاري لهذا فقال: باب من لم يرد الطيب وأورد فيه بلفظ كان لا يرد الطيب. والحديث يدل على أن رد الطيب خلاف السنة ولهذا نهى النبي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم
[ 159 ]
أعقب النهي بعلة تفيد انتفاء موجبات الرد لانه باعتبار ذاته خفيف لا يثقل حامله، وباعتبار عرضه طيب لا يتأذى به من يعرض عليه فلم يبق حامل على الرد، فإن ما كان بهذه الصفة محبب إلى كل قلب مطلوب لكل نفس. قوله: المحمل قال القرطبي: هو بفتح الميمين ويعني به الحمل. وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في المسك: هو أطيب طيبكم رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. وعن محمد بن علي قال: سألت عائشة رضي الله عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتطيب؟ قالت: نعم بذكارة الطيب المسك والعنبر رواه النسائي والبخاري في تاريخه. وأخرجه الترمذي أيضا من حديث عائشة بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتطيب بذكارة الطيب المسك والعنبر ويقول: أطيب الطيب المسك وحديث الباب في إسناده أبو عبيدة بن أبي السفر وفيه مقال واسمه أحمد بن عبد الله. وقولها: بذكارة الطيب الذكارة بالكسر للمعجمة ما يصلح للرجال قاله في النهاية. والمراد الطيب الذي لا لون له لان طيب الرجال ما ظهريحه وخفي لونه. وقولها: المسك والعنبر بدل من ذكارة الطيب. والحديث الاول يدل على أن المسك خير الطيب وأحسنه وهو كذلك. وفي التصريح بأنه أطيب الطيب ترغيب في التطيب به وإيثاره على سائر أنواع الطيب. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن. وقال الترمذي بعد أن ذكر للحديث طريقا أخرى عن الجريري عن أبي نضرة عن الطفاوي عن أبي هريرة: إلا أن الطفاوي لا نعرفه إلا في هذا الحديث ولا يعرف اسمه. وأخرجه أيضا من طريق ثالثة عن عمران بن حصين بلفظ: إن خير طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه وقال: هذا حديث حسن غريب، وفي رجال إسناده عند النسائي مجهول، ثم بينه في إسناد آخر بأنه الطفاوي وهو أيضا مجهول كما سبق. والحديث يدل على أنه ينبغي للرجال أن يتطيبوا بما له ريح ولا يظهر له لون كالمسك والعنبر والعطر والعود، وأنه يكره لهم
[ 160 ]
التطيب بما له لون كالزباد والعبير ونحوه، وأن النساء بالعكس من ذلك. وقد ورد تسمية المرأة التي تمر بالمجالس ولها طيب له ريح زانية، كما أخرج الترمذي وصححه وأبو داود والنسائي من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة. باب الاطلاء بالنورة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أطلى بدأ بعورته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله رواه ابن ماجه. الحديث قال الحافظ ابن كثير في كتابه الذي ألفه في الحمام بعد أن ذكر حديث الباب هذا إسناده جيد، وقد أخرجه ابن ماجه أيضا من طريق أخرى عن أم سلمة. وقد رواه عبد الرزاق عن حبيب بن أبي ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا بإسناد جيد قاله الاسيوطي. وقد أخرجه الخرائطي في مساوي الاخلاق من طريقين عن أم سلمة وثوبان، وأخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق ثوبان بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل الحمام وكان يتنور وأخرجه ابن عساكر في تاريخه من طريقه أيضا. وأخرج أيضا من طريق واثلة بن الاسقع أنه صلى الله عليه وآله وسلم أطلى يوم فتح خيبر وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن إبراهيم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أطلى ولي عانته بيده وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن إبراهيم بنحوه، قال ابن كثير: وهو مرسل فيقوي الموصول الذي أخرجه ابن ماجه. وأخرج سعيد بن منصور عن مكحول أنه قال: لما افتتح رسول الله عليه وآله وسلم خيبر أكل متكئا وتنور وهو مرسل أيضا وذكر أبو داود في المراسيل عن أبي معشر زياد بن كليب أن رجلا نور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى. وفي تاريخ ابن عساكر بإسناد ضعيف عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان
[ 161 ]
يتنور كل شهر وأخرج أحمد عن عائشة قالت: اطلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنورة فلما فرغ منها قال: يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طلية وطهور وأن الله يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم وقد روي الاطلاء بالنورة عن جماعة من الصحابة. فرواه الطبراني عن يعلى بن مرة الثقفي والطبراني أيضا بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن عمر. والبيهقي عن ثوبان. والخرائطي عن أبي الدرداء وجماعة من الصحابة. وعبد الرزاق عن عائشة. وابن عساكر عن خالد بن الوليد، وجاءت أحاديث قاضية بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتنور. منها عند ابن أبي شيبة عن الحسن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر لا يطلون قال ابن كثير: هذا من مراسيل الحسن وقد تكلم فيها. وأخرج البيهقي في سننه عن قتادة أن رسول الله بنحوه وزاد ولا عثمان وهو منقطع. وأخرج البيهقي عن أنس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتنور. وفي إسناده مسلم الملائي قال البيهقي: وهو ضعيف الحديث. قال السيوطي: والاحاديث السابقة أقوى سندا وأكثر عددا وهي أيضا مثبتة فتقدم. ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنور تارة ويحلق أخرى. وأما ما روي عن ابن عباس أنه ما أطلى نبي قط فقال صاحب النهاية وصاحب الملخص وعبد الغافر الفارسي: أن المراد به ما مال إلى هواه. [ رم ] أبواب صفة الوضوء فرضه وسننه قال جمهور أهل اللغة: يقال الوضوء بضم أوله إذا أريد به الفعل الذي هو المصدر، ويقال الوضوء بفتح أوله إذا أريد به الماء الذي يتطهر به، هكذا نقله ابن الانباري وجماعات من أهل اللغة وغيرهم. وذهب الخليل والاصمعي وأبو حاتم السجستاني والازهري وجماعة إلى أنه بالفتح فيهما. قال صاحب المطالع: وحكي الضم فيهما جميعا، وأصل الوضوء من الوضاءة وهي الحسن والنظافة، وسمي وضوء الصلاة وضوءا لانه ينظف المتوضئ ويحسنه. باب الدليل على وجوب النية له عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنما الاعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله
[ 162 ]
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه رواه الجماعة. الحديث مداره على يحيى بن سعيد الانصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب، ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة من لم يخرجه سوى مالك فإنه لم يخرجه في الموطأ، ووهم ابن دحية فقال: إنه فيه، ولعل الوهم اتفق له لما رأى الشيخين والنسائي رووه من حديث مالك. وما وقع في الشهاب بلفظ الاعمال بالنيات بجمع الاعمال وحذف إنما، فنقل النووي عن أبي موسى المديني الاصبهاني أنه لا يصح له إسناد وأقره النووي. قال الحافظ: وهو وهم، فقد رواه كذلك الحاكم في الاربعين له من طريق مالك، وكذا أخرجه ابن حبان من وجه آخر في مواضع تسعة من صحيحه منها في الحادي عشر من الثالث والرابع والعشرين منه والسادس والستين منه ذكره في هذه المواضع بحذف إنما. وكذا رواه البيهقي في المعرفة، وفي البخاري الاعمال بالنية بحذف إنما وإفراد النية. قال الحافظ أبو سعيد محمد بن علي الخشاب: رواه عن يحيى بن سعيد نحو مائتين وخمسين إنسانا. وقال أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الانصاري: كتبت هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد. قال الحافظ: تتبعته من الكتب والاجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا، ثم رأيت في المستخرج لابن منده عدة طرق فضممتها إلى ما عندي فزادت على ثلثمائة. وقال البزار والخطابي وأبو علي بن السكن ومحمد بن عتاب وابن الجوزي وغيرهم: أنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا عن عمر بن الخطاب. ورواه ابن عساكر من طريق أنس وقال: غريب جدا. وذكر ابن منده في مستخرجه أنه رواه عن النبصلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عشرين نفسا، قال الحافظ: وقد تتبعها شيخنا أبو الفضل بن الحسين في النكت التي جمعها على ابن الصلاح وأظهر أنها في مطلق النية لا بهذا اللفظ. وهذا الحديث قاعدة من قواعد الاسلام حتى قيل إنه ثلث العلم. ووجهه أن كسب العبد بقلبه وجوارحه ولسانه وعمل القلب أرجحها لانه يكون عبادة بانفراده دون الآخرين. قوله: إنما الاعمال هذا التركيب يفيد الحصر من جهتين: الاولى إنما فإنها من صيغ الحصر، واختلف هل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم أو بالوضع أو العرق وبالحقيقة أم بالمجاز؟
[ 163 ]
ومذهب المحققين أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا. قال الحافظ: ونقله شيخنا شيخ الاسلام عن جميع أهل الاصول من المذاهب الاربعة إلا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية وموضع البحث عن بقية أبحاث إنما الاصول وعلم المعاني فليرجع إليهما. الجهة الثانية الاعمال لانه جمع محلى باللام المفيد للاستغراق وهو مستلزم للقصر لان معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية، وهذا التركيب من المقتضى المعروف في الاصول، وهو ما احتمل أحد تقديرات لاستقامة الكلام، ولا عموم له عند المحققين فلا بد من دليل في تعيين أحدها، وقد اختلف الفقهاء في تقديره ههنا، فمن جعل النية شرطا قدر صحة الاعمال، ومن لم يشترط قدر كمال الاعمال. قال ابن دقيق العبد: وقد رجح الاول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة فالحمل عليها أولى، لان ما كان ألزم للشئ كان أقرب إلى خطورة بالبال اه. قال الحافظ: وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقاصد واختلفوا في الوسائل، ومن ثم خالفت الحنفية في اشتراطها للوضوء. وقد نسب القول بفرضية النية المهدي عليه السلام في البحر إلى علي عليه السلام وسائر العترة والشافعي ومالك والليث وربيعة وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. قوله: بالنية الباء للمصاحبة ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده. قال النووي: والنية القصد وهو عزيمة القلب، وتعقبه الكرماني بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد. وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرر، حالا أو مآلا، والشرع خصصه بالارادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه. والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليصح تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل. والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو ذلك المقدر، أعني الكمال أو الصحة أو الحصول أو الاستقرار. قال الطيبي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع، لان المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع، فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي. قوله: وإنما لامرئ ما نوى فيه تحقيق لاشتراط النية والاخلاص في الاعمال قاله القرطبي، فيكون على هذا جملة مؤكدة للتي قبلها. وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الاولى، لان الاولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها فيترتب الحكم على ذلك. والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه. قال ابن دقيق العيد: والجملة الثانية أن من نوى شيئا يحصل له، وكل ما لم ينوه لم يحصل، فيدخل
[ 164 ]
في ذلك ما لا ينحصر من المسائل، قال: ومن ههنا عظموا هذا الحديث إلى آخر كلامه. ويدل على صحة كلامه أحاديث كثيرة واردة بثبوت الاجر لمن نوى خيرا ولم يعمله كحديث رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله وينفقه في حقه ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل العمل الذي يعمل فهما في الاجر سواء قال الحافظ: والمراد أنه يحصل إذا عمله بشرائطه أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا بعدم عمله، والمراد بعدم الحصول إذا لم تقع النية لا خصوصا ولا عموما، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية تشمله فهذا مما اختلف فيه أنظار العلماء ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى. قوله: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الهجرة الترك والهجرة إلى الشئ الانتقال إليه عن غيره. وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الاسلام على وجوه: الهجرة إلى الحبشة. والهجرة إلى المدينة. وهجرة القبائل. وهجرة من أسلم من أهل مكة. وهجرة من كان مقيما بدار الكفر. والهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن. وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سيكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الارض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الارض شرار أهلها ورواه أيضا أحمد في المسند. قوله: فهجرته إلى الله ورسوله وقع الاتحاد بين الشرط والجزاء وتغايرهما لا بد منه، وإلا لم يكن كلاما مفيدا. وأجيب بأن التقدير فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا فلا اتحاد. وقيل: يجوز الاتحاد في الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لقصد التعظيم أو التحقير كانت أنت أي العظيم أو الحقير. ومنه قول أبي النجم: وشعري أي التعظيم. وقيل: الخبر محذوف في الجملة الاولى منهما أي فهجرته إلى الله ورسوله محمودة أو مثاب عليها، وفهجرته إلى ما هاجر إليه مذمومة أو قبيحة أو غير مقبولة. قوله: دنيا يصيبها بضم الدال وحكى ابن قتيبة كسرها وهي فعلى من الدنو أي القرب سميت بذلك لسبقها للاخرى. وقيل: لدنوها إلى الزوال. واختلف في حقيقتها فقيل ما على الارض من الهواء والجو. وقيل: كل المخلوقات من الجواهر والاعراض. وإطلاق الدنيا على بعضها كما في الحديث مجاز. قوله: أو امرأة يتزوجها إنما خص المرأة بالذكر بعد ذكر ما يعمها وغيرها للاهتمام بها، وتعقبه النووي بأن لفظ دنيا نكرة وهي لا تعم في الاثبات، فلا يلزم دخول المرأة
[ 165 ]
فيها وتعقب بأنها نكرة في سياق الشرط فتعم. ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير لان الافتتان بها أشد. وحكى ابن بطال عن ابن سراج أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية ويراعون الكفاءة في النسب، فلما جاء الاسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها. وتعقبه ابن حجر بأنه يفتقر إلى نقل أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربية. ومنع أن يكون عادة العرب ذلك، ومنع أيضا أن الاسلام أبطل الكفاءة، ولو قيل إن تخصيص المرأة بالذكر لان السبب في الحديث مهاجر أم قيس فذكرت المرأة بعد ذكر ما يشملها لما كانت هجرة ذلك المهاجر لاجلها لم يكن بعيدا من الصواب وهذه نكتة سرية. والحديث يدل على اشتراط النية في أعمال الطاعات، وأن ما وقع من الاعمال بدونها غير معتد به وقد سبق ذكر الخلاف في ذلك. وفي الحديث فوائد مبسوطة في المطولات لا يتسع لها المقام، وهو على انفراده حقيق بأن يفرد له مصنف مستقل. باب التسمية للوضوء [ رح ] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. ولاحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد وأبي سعيد مثله والجميع في أسانيدها مقال قريب. وقال البخاري: أحسن شئ في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن يعني حديث سعيد بن زيد. وسئل إسحاق بن راهويه: أي حديث أصح في التسمية؟ فذكر حديث أبي سعيد. الحديث الاول أخرجه أيضا الترمذي في العلل والدار قطني وابن السكن والحاكم والبيهقي من طريق محمد بن موسى المخزومي عن يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة بهذا اللفظ. ورواه الحاكم من هذا الوجه فقال: يعقوب بن أبي سلمة وادعى أنه الماجشون وصححه لذلك فوهم، والصواب أنه الليثي قاله الحافظ. قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه ولا لابيه من أبي هريرة، وأبوه ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ، وهذه عبارة عن ضعفه فإنه قليل الحديث جدا، ولم يرو عنه سوى ولده، فإذا كان يخطئ مع قلة ما روى فكيف يوصف بكونه ثقة؟ قال ابن الصلاح: انقلب إسناده على الحاكم
[ 166 ]
فلا يحتج لثبوته بتخريجه له وتبعه النووي. وله طريق أخرى عند الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة بلفظ: ما توضأ من لم يذكر اسم الله على يه وما صلى من لم يتوضأ وفي إسناده محمود بن محمد الظفري وليس بالقوي، وفي إسناده أيضا أيوب بن النجار عن يحيى بن أبي كثير، وقد روى يحيى بن معين عنه أنه لم يسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثا واحدا غير هذا. وأخرج الطبراني في الاوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا هريرة إذا توضأت فقل بسم الله والحمد لله فإن حفظتك لا تزال تكتب لك الحسنات حتى تحدث من ذلك الوضوء قال: قال: تفرد به عمرو بن أبي سلمة عن إبراهيم بن محمد عنه وإسناده واه. وفيه أيضا من طريق الاعرج عن أبي هريرة رفعه إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الاناء حتى يغسلها ويسمي قبل أن يدخلها تفرد بهذه الزيادة عبد الله بن محمد عن هشام بن عروة وهو متروك. وفي الباب عن أبي سعيد وسعيد بن زيد كما ذكره المصنف، وعائشة وسهل بن سعد وأبي سبرة وأم سبرة وعلي وأنس. فحديث أبي سعيد رواه أحمد والدارمي والترمذي في العلل، وابن ماجه وابن عدي وابن السكن والبزار والدارقطني والحاكم والبيهقي بلفظ حديث الباب. وزعم ابن عدي أن زيد بن الحباب تفرد به عن كثير بن زيد، قال الحافظ: وليس كذلك فقد رواه الدارقطني من حديث أبي عامر العقدي وابن ماجه من حديث أبي أحمد الزهري وكثير بن زيد قال ابن معين: ليس بالقوي. وقال أبو زرعة. صدوق فيه لين. وقال أبو حاتم: صالح الحديث ليس بالقوي يكتب حديثه، وكثير بن زيد رواه عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد وربيح، قال أبو حاتم: شيخ وقال البخاري: منكر الحديث: وقال أحمد: ليس بالمعروف وقال المروزي: لم يصححه أحمد وقال: ليس فيه شئ يثبت. وقال البزار: كل ما روي في هذا الباب فليس بقوي، وذكر أنه روي عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة. وقال العقيلي: الاسانيد في هذا الباب فيها لين. وقد قال أحمد بن حنبل: إنه أحسن شئ في هذا الباب، وقد قال أيضا: لا أعلم في التسمية حديثا صحيحا وأقوى شئ فيه حديث كثير بن زيد عن ربيح وقال إسحاق: هذا يعني حديث أبي سعيد أصح ما في الباب. وأما حديث سعيد بن زيد فرواه الترمذي والبزار وأحمد وابن ماجه والدار قطني والعقيلي والحاكم
[ 167 ]
وأعل بالاختلاف والارسال. وفي إسناده أبوثفال عن رباح مجهولان، فالحديث ليس بصحيح، قاله أبو حاتم وأبو زرعة وقد أطال الكلام على حديث سعيد بن زيد في التلخيص. وأما حديث عائشة فرواه البزار وأبو بكر بن أبي شيبة في مسنديهما، وابن عدي وفي إسناده حارثة بن محمد وهو ضعيف. وأما حديث سهل بن سعد فرواه ابن ماجه والطبراني وفيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد وهو ضعيف، وتابعه أخوه أبي بن عباس وهو مختلف فيه. وأما حديث أبي سبرة وأم سبرة فرواه الدولابي في الكنى، والبغوي في الصحابة. والطبراني في الاوسط وفيه عيسى بن سبرة بن أبي سبرة وهو ضعيف. وأما حديث علي فرواه ابن عدي وقال: إسناده ليس بمستقيم. وأما حديث أنس فرواه عبد الملك بن حبيب الاندلسي وعبد الملك شديد الضعف. قال الحافظ: والظاهر أن مجموع الاحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله. قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: ولا يخلو هذا الباب من حسن صريح وصحيح غير صريح. والاحاديث تدل على وجوب التسمية في الوضوء، لان الظاهر أن النفي للصحة لكونها أقرب إلى الذات وأكثر لزوما للحقيقة فيستلزم عدمها عدم الذات، وما ليس بصحيح لا يجزي ولا يقبل ولا يعتد به. وإيقاع الطاعة الواجبة على وجه يترتب قبولها واجزأها عليه واجب. وقد ذهب إلى الوجوب والفرضية العترة والظاهرية وإسحاق وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل. واختلفوا هل هي فرض مطلقا أو على الذاكر؟ فالعترة على الذاكر والظاهرية مطلقا. وذهبت الشافعية والحنفية ومالك وربيعة وهو أحد قولي الهادي إلى أنها سنة. احتج الاولون بأحاديث الباب واحتج الآخرون بحديث ابن عمر مرفوعا: من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لاعضاء وضوئه أخرجه الدارقطني والبيهقي وفيه أبو بكر الداهري عبد الله بن الحكم وهو متروك ومنسوب إلى الوضع. ورواه الدارقطني والبيهقي أيضا من حديث أبي هريرة وفيه مرداس بن محمد بن عبد الله بن أبان عن أبيه وهما ضعيفان. ورواه الدارقطني والبيهقي أيضا من حديث ابن مسعود وفي إسناده يحيى بن هشام السمسار وهو متروك. قالوا: فيكون هذا الحديث قرينة
[ 168 ]
لتوجه ذلك النفي إلى الكمال لا إلى الصحة كحديث: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فلا وجوب. ويؤيد ذلك حديث ذكر الله على قلب المؤمن سمى أو لم يسم. واحتج البيهقي على عدم الوجوب بحديث: لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله وتقريره أن التمام لم يتوقف على غير الاسباغ فإذا حصل حصل. واستدل النسائي وابن خزيمة والبيهقي على استحباب التسمية بحديث أنس قال: طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضوءا فلم يجد فقال: هل مع أحد منكم ماء فوضع يده في الاناء فقال: توضأوا باسم الله وأصله في الصحيحين بدون قوله: توضأوا باسم الله. وقال النووي: يمكن أن يحتج في المسألة بحديث أبي هريرة: كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم ولا يخفى على الفطن ضعف هذه المستندات وعدم صراحتها وانتفاء دلالتها على المطلوب، وما في الباب إن صلح للاحتجاج أفاد مطلوب القائل بالفرضية لما قدمنا، ولكنه صرح ابن سيد الناس في شرح الترمذي بأنه قد روي في بعض الروايات لا وضوء كاملا، وقد استدل به الرافعي، قال الحافظ: لم أره هكذا انتهى. فإن ثبتت هذه الزيادة من وجه معتبر فلا أصرح منها في إفادة مطلوب القائل بعدم وجوب التسمية. وقد استدل من قال بالوجوب على الذاكر فقط بحديث: من توضأ وذكر اسم الله كان طهورا لجميع بدنه وقد تقدم الكلام عليه. قالوا: فحملنا أحاديث الباب على الذاكر وهذا على الناسي جمعا بين الادلة ولا يخفى ما فيه. باب استحباب غسل اليدين قبل المضمضة وتأكيده لنوم الليل عن أوس بن أوس الثقفي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا أي غسل كفيه رواه أحمد والنسائي. الحديث رجاله عند النسائي ثقات إلا حميد بن مسعدة فهو صدوق. قوله: أوس بن أوس ويقال ابن أبي أوس في صحبته خلاف وقد ذكره أبو عمر في الصحابة. وهذا الحديث معناه في الصحيحين من حديث عثمان بلفظ: فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما. وقال في آخره: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وسيأتي في هذا الكتاب. وأخرج أبو داود من حديث عثمان أيضا بلفظ: أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما إلى الكوعين وثبت نحوه أيضا من حديث علي عليه
[ 169 ]
السلام وعبد الله بن زيد عند أهل السنن. والحديث يدل على شرعية غسل الكفين قبل الوضوء، وقد اختلف الناس في ذلك، فعند الهادي في أحد قوليه، والمؤيد بالله وأبي طالب والمنصور بالله والشافعية والحنفية أنه مسنون ولا يجب لحديث توضأ كما أمرك الله ولم يذكر فيه غسل اليدين. وقال القاسم وهو أحد قولي الهادي: وإليه ذهب ابنه أحمد بن يحيى أنه واجب لخبر الاستيقاظ الذي سيأتي بعد هذا. وأجيب بأنه لا يدل على الوجوب لقوله فيه: فإنه لا يدري أين باتت يده وليعلم أن محل النزاع غسلهما قبل الوضوء، وحديث الاستيقاظ الغسل فيه لا للوضوء فلا دلالة له على المطلوب، ومجرد الافعال لا تدل على الوجوب، وسيأتي الكلام على ما هو الحق في الحديث الذي بعد هذا إن شاء الله. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده رواه الجماعة إلا أن البخاري لم يذكر العدد. وفي لفظ الترمذي وابن ماجه: إذا استيقظ أحدكم من الليل. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الاناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده أو أين طافت يده رواه الدارقطني وقال: إسناد حسن. للحديث طرق منها ما ذكره المصنف ومنها عند ابن عدي بزيادة: فليرقه وقال: إنها زيادة منكرة. ومنها عند ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي بزيادة: أين باتت يده منه قال ابن منده: هذه الزيادة رواها ثقات ولا أراها محفوظة وفي الباب عن جابر عند الدارقطني وابن ماجه وابن عمر رواه ابن ماجه وابن خزيمة بزيادة لفظ منه. وعائشة رواه ابن أبي حاتم في العلل وحكى عن أبيه أنه وهم. قوله: من نومه أخذ بعمومه الشافعي والجمهور فاستحبوه عقب كل نوم، وخصه أحمد وداود بنوم الليل لقوله في آخر الحديث: باتت يده لان حقيقة المبيت تكون بالليل. ويؤيده ما ذكره المصنف رحمه الله في رواية الترمذي وابن ماجه، وأخرجها أيضا أبو داود وساق مسلم إسنادها وما في رواية لابي عوانة ساق مسلم إسنادها أيضا: إذا قام أحدكم للوضوء حين يصبح لكن التعليل بقوله: فإنه لا يدري أين باتت يده يقضي بإلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة. قال النووي: وحكي عن أحمد في رواية أنه إن قام من
[ 170 ]
نوم الليل كره له كراهية تحريم، وإن قام من نوم النهار كره له كراهة تنزيه، قال: ومذهبنا ومذهب المحققين أن هذا الحكم ليس مخصوصا بالقيام من النوم، بل المعتبر الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الاناء قبل غسلها، سواء كان قام من نوم الليل أو النهار أو شك انتهى. والحديث يدل على المنع من إدخال اليد إلى إناء الوضوء عند الاستيقاظ، وقد اختلف في ذلك فالامر عند الجمهور على الندب، وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل، واعتذر الجمهور عن الوجوب بأن التعليل بأمر يقتضي الشك قرينة صارفة عن الوجوب إلى الندب، وقد دفع بأن التشكيك في العلة لا يستلزم التشكيك في الحكم وفيه أن قوله: لا يدري أين باتت يده ليس تشكيكا في العلة بل تعليلا بالشك وأنه يستلزم ما ذكر ومن جملة ما اعتذر به الجمهور عن الوجوب حديث: أنه (ص) توضأ من الشن المعلق بعد قيامه من النوم ولم يرو أنه غسل يده كما ثبت في حديث ابن عباس. وتعقب بأن قوله: أحدكم يقتضي اختصاص الامر بالغسل بغيره فلا يعارضه ما ذكر، ورد بأنه صح عنه (ص) غسل يديه قبل إدخالهما في الاناء حال اليقظة، فاستحبابه بعد النوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز. ومن الاعذار للجمهور أن التقييد بالثلاث في غير النجاسة العينية يدل على الندبية، وهذه الامور إذا ضمت إليها البراءة الاصلية لم يبق الحديث منتهضا للوجوب ولا لتحريم الترك، ولا يصح الاحتجاج به على غسل اليدين قبل الوضوء، فإن هذا ورد في غسل النجاسة وذاك سنة أخرى. ويدل على هذا ما ذكره الشافعي وغيره من العلماء أن السبب في الحديث أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالاحجار وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق، فلا يأمن النائم أن تطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على قذر غير ذلك، فإذا كان هذا سبب الحديث عرفت أن الاستدلال به على وجوب غسل اليدين قبل الوضوء ليس على ما ينبغي. (فإن قلت) هذا قصر على السبب وهو مذهب مرجوح. قلت: سلمنا عدم القصر على السبب، فليس في الحديث إلا نهي المستيقظ عن نوم الليل أو مطلق النوم فهو أخص من الدعوى، أعني مشروعية غسل اليدين قبل الوضوء مطلقا، فلا يصلح للاستدلال به على ذلك، ونحن لا ننكر أن غسل اليدين قبل الوضوء من السنن الثابتة بالاحاديث الصحيحة كما في حديث عثمان الآتي وغيره، وكما في الحديث الذي في أول الباب، ولا منازعة في سنيته إنما النزاع في دعوى وجوبه والاستدلال عليها بحديث الاستيقاظ. وقد سبق ذكر الخلاف في
[ 171 ]
ذلك في الحديث الذي قبل هذا. قوله: فلا يدخل يده في الاناء في رواية للبخاري في وضوئه. وفي رواية لابن خزيمة في إنائه أو وضوئه. والظاهر اختصاص ذلك بإناء الوضوء، ويلحق به الغسل بجامع أن كل واحد منهما يراد التطهر به. وخرج بذكر الاناء البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها على تقدير نجاستها فلا يتناولها النهي. وفي الحديث أيضا دلالة على أن الغسل سبعا ليس عاما لجميع النجاسات كما زعمه البعض، بل خاصا بنجاسة الكلب باعتبار ريقه، والجمهور من المتقدمين والمتأخرين على أنه لا ينجس الماء إذا غمس يده فيه، وحكي من الحسن البصري أن ينجس إن قام من نوم الليل، وحكي أيضا عن إسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري، قال النووي: وهو ضعيف جدا فإن الاصل في اليد والماء الطهارة فلا ينجس بالشك، وقواعد الشريعة متظاهرة على هذا قال المصنف رحمه الله: وأكثر العلماء حملوا هذا على الاستحباب مثل ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستتر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه متفق عليه انتهى. وإنما مثل المصنف محل النزاع بهذا الحديث لانه قد وقع الانفاق على عدم وجوب الاستتار عند الاستيقاظ، ولم يذهب إلى وجوبه أحد، وإنما شرع لانه يذهب ما يلصق بمجرى النفس من الاوساخ وينظفه فيكون سببا لنشاط القارئ وطرد الشيطان. والخيشوم أعلى الانف وقيل هو الانف كله، وقيل هو عظام رقاق لينة في أقصى الانف بينه وبين الدماغ. وقد وقع في البخاري في بدئ الخلق بلفظ: إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه فيحمل المطلق على المقيد ويكون الامر بالاستنثار باعتبار إرادة الوضوء، وفي وجوبه خلاف سيأتي. باب المضمضة والاستنشاق عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه دعابإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يمينه في الاناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلا ث مرات ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ
[ 172 ]
نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه متفق عليه. قوله: فأفرغ على كفيه ثلاث مرات هذا دليل على أن غسلهما في أول الوضوء سنة. قال النووي: وهو كذلك باتفاق العلماء، وقد أسلفنا الكلام عليه في الباب الذي قبل هذا. قوله: فمضمض المضمضة هي أن يجعل الماء في فيه ثم يديره ثم يمجه، قال النووي: وأقلها أن يجعل الماء في فيه، ولا يشترط إدارته على المشهور عند الجمهور، وعند جماعة من أصحاب الشافعي وغيرهم أن الادارة شرط والمعول عليه في مثل هذا الرجوع إلى مفهوم المضمضة لغة وعلى ذلك تنبني معرفة الحق. والذي في القاموس وغيره أن المضمضة تحريك الماء في الفم. قوله: واستنثر في رواية للبخاري واستنشق والاستنثار أعم قاله في الفتح. قال النووي: قال جمهور أهل اللغة والفقهاء والمحدثون: الاستثنار هو إخراج الماء من الانف بعد الاستنشاق. وقال ابن الاعرابي وابن قتيبة: الاستنثار هو الاستنشاق، قال: قال أهل اللغة هو مأخوذ من النثرة وهي طرف الانف. وقال الخطابي وغيره: هي الانف والمشهور الاول، قال الازهري: روى سلمة عن الفراء أنه يقال: نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة في الطهارة انتهى. وفي القاموس: استنثر استنشق الماء ثم استخرج ذلك بنفس الانف كانتثر. وقال في الاستنشاق: استنشق الماء أدخله في أنفه. إذا تقرر لك معنى المضمضة والاستنثار والاستنشاق لغة فاعلم أنه قد اختلف في الوجوب وعدمه، فذهب أحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر، ومن أهل البيت الهادي والقاسم والمؤيد بالله إلى وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار، وبه قال ابن أبي ليلى وحماد بن سليمان. وفي شرح مسلم للنووي أن مذهب أبي ثور وأبي عبيد وداود الظاهري وأبي بكر بن المنذر ورواية عن أحمد أن الاستنشاق واجب في الغسل والوضوء والمضمضة سنة فيهما، وما نقل من الاجماع على عدم وجوب الاستنثار متعقب بهذا. واستدلوا على الوجوب بأدلة منها أنه من تمام غسل الوجه فالامر بغسله أمر بها. وبحديث أبي هريرة المتفق عليه: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر وبحديث سلمة بن قيس عند الترمذي والنسائي بلفظ: إذا توضأت فانتثر وبما أخرج أحمد والشافعي وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي وأهل السنن الاربع من حديث لقيط بن صبرة في حديث طويل وفيه: وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما وفي رواية من هذا الحديث: إذا توضأت
[ 173 ]
فمضمض أخرجها أبو داود وغيره. قال الحافظ في الفتح: إن إسنادها صحيح، وقد رد الحافظ أيضا في التلخيص ما أعل به حديث لقيط من أنه لم يرو عن عاصم بن لقيط بن صبرة إلا إسماعيل بن كثير وقال ليس بشئ لانه روى عنه غيره وصححه الترمذي والبغوي وابن القطان، وقال النووي: هو حديث صحيح، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بالاسانيد الصحيحة. ومن أدلة القائلين بالوجوب حديث أبي هريرة الذي سيذكره المصنف في هذا الباب بلفظ: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمضمضة والاستنشاق عند الدارقطني. وذهب مالك والشافعي والاوزاعي والليث والحسن البصري والزهري وربيعة ويحيى بن سعيد وقتادة والحكم بن عتيبة ومحمد بن جرير الطبري والناصر من أهل البيت إلى عدم الوجوب. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وزيد بن علي من أهل البيت عليهم السلام إلى أنهما فرض في الجنابة وسنة في الوضوء، فإن تركهما في غسله من الجنابة أعاد الصلاة، واستدلوا على عدم الوجوب في الوضوء بحديث: عشر من سنن المرسلين وقد رده الحافظ في التلخيص وقال: إنه لم يرد بلفظ عشر من السنن بل بلفظ من الفطرة، ولو ورد لم ينتهض دليلا على عدم الوجوب، لان المراد به السنة أي الطريقة لا السنة بالمعنى الاصطلاحي الاصولي، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. واستدلوا أيضا بحديث ابن عباس مرفوعا بلفظ: المضمضة والاستنشاق سنة رواه الدارقطني، قال الحافظ: وهو حديث ضعيف. وبحديث: توضأ كما أمرك الله وليس في القرآن ذكر المضمضمة والاستنشاق والاستنثار. ورد بأن الامر بغسل الوجه أمر بها كما سبق. وبأن وجوبها ثبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والامر منه أمر من الله بدليل: * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7) * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) * (آل عمران: 31) وتمكن مناقشة هذا بأنه إنما يتم لو أحاله فقط كما وقع لابن دقيق العيد وغيره. وأما بالنظر إلى تمام الحديث وهو: فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك فيصير نصا على أن المراد كما أمرك الله في خصوص آية الوضوء لا في عموم القرآن، فلا يكون أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالمضمضة داخلا تحت قوله للاعرابي: كما أمرك الله فيقتصر في الجواب على أنه قد صح أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها، والواجب الاخذ بما صح عنه، ولا يكون الاقتصار على البعض في مبادئ التعاليم ونحوها موجبا لصرف ما ورد بعده وإخراجه عن الوجوب، والالزام قصر واجبات الشريعة بأسرها على الخمس المذكورة في حديث ضمام بن ثعلبة مثلا،
[ 174 ]
لاقتصاره على ذلك المقدار في تعليمه. وهذا خرق للاجماع واطراح لاكثر الاحكام الشرعية، وعلى ما سلف من أن الامر بغسل الوجه أمر بها، وهذا وإن كان مستبعدا في بادئ الرأي، باعتبار أن الوجه في لغة العرب معلوم المقدار، لكنه يشد من عضد دعوى الدخول في الوجه أنه لا موجب لتخصيصه بظاهره دون باطنه، فإن الجميع في لغة العرب يسمى وجها. (فإن قلت) قد أطلق على خرق الفم والانف اسم خاص فليسا في لغة العرب وجها. قلت: وكذلك أطلق على الخدين والجبهة وظاهر الانف والحاجبين وسائر أجزاء الوجه أسماء خاصة فلا تسمى وجها، وهذا في غاية السقوط لاستلزامه عدم وجوب غسل الوجه. (فإن قلت) يلزم على هذا وجوب غسل باطن العين. قلت: يلتزم لولا اقتصار الشارع في البيان على غسل ما عداه، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نزل إلينا فداوم على المضمضة والاستنشاق، ولم يحفظ أنه أخل بهما مرة واحدة كما ذكره ابن القيم في الهدي، ولم ينقل عنه أنه غسل باطن العين مرة واحدة، على أنه قد ذهب إلى وجوب غسل باطن العين ابن عمر والمؤيد بالله من أهل البيت، وروي في البحر عن الناصر والشافعي أنه يستحب واستدل لهم بظاهر الآية، وسيأتي متمسك لمن قال بذلك في باب تعاهد الماقين. وقد اعترف جماعة من الشافعية وغيرهم بضعف دليل من قال بعدم وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار. قال الحافظ في الفتح: وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الامر به إلا بكونه لا يعلم، خلافا في أن تاركه لا يعيد وهذا دليل فقهي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين إلا عن عطاء، وهكذا ذكر ابن حزم في المحلى. وذكر ابن سيد الناس في شرح الترمذي بعد أن ساق حديث لقيط بن صبرة ما لفظه: وقال أبو بشر الدولابي فيما جمعه من حديث النووي: حدثنا محمد بن بشار، أخبرنا ابن مهدي عن سفيان عن أبي هاشم عن عاصم بن لقيط عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا توضأت فأبلغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما قال أبو الحسين بن القطان: وهذا صحيح فهذا أمر صحيح صريح، وانضم إليه مواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولا وفعلا مع المواظبة على الفعل انتهى. ومن جملة ما أورده في شرح الترمذي من الادلة القاضية بوجوب المضمضة والاستنشاق حديث عائشة عند البيهقي بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي
[ 175 ]
لا بد منه وقد ضعف بمحمد بن الازهري الجوزجاني، وقد رواه البيهقي لا من طريقه، فرواه عن أبي سعيد أحمد بن محمد الصوفي عن ابن عدي الحافظ عن عبد الله بن سليمان بن الاشعث عن الحسين بن علي بن مهران عن عصام بن يوسف عن ابن المبارك عن ابن جريج عن سليمان بن يسار عن الزهري عن عروة عنها. إذا تقرر هذا علمت أن المذهب الحق وجوب المضمضة والاستنشاق والاستنثار. قوله: ثم غسل وجهه ثلاث مرات وكذلك سائر الاعضاء إلا الرأس فإنه لم يذكر فيه العدد، فيه دليل على أن السنة الاقتصار في مسح الرأس على واحدة لان المطلق يصدق بمرة، وقد صرحت الاحاديث الصحيحة بالمرة وفيه خلاف، وسيأتي الكلام على ذلك في باب هل يسن تكرار مسح الرأس؟ وقد أجمع العلماء على أن الواجب غسل الاعضاء مرة واحدة وأن الثلاث سنة، لثبوت الاقتصار من فعله صلى الله عليه وآله وسلم على مرة واحدة ومرتين، وسيأتي لذلك باب في هذا الكتاب. وقد استدل بما وقع في حديث الباب من الترتيب بثم على وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء، وقال ابن مسعود ومكحول ومالك وأبو حنيفة وداود والمزني والثوري والبصري وابن المسيب وعطاء والزهري والنخعي أنه غير واجب، ولا ينتهض الترتيب بثم في حديث الباب على الوجوب لانه من لفظ الراوي، وغايته أنه وقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تلك الصفة والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب، نعم قوله في آخر الحديث: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه يشعر بترتيب المغفرة المذكورة على وضوء مرتب على هذا الترتيب، وأما أنه يدل على الوجوب فلا. وقد استدل على الوجوب بظاهر الآية وهو متوقف على إفادة الواو للترتيب، وهو خلاف ما عليه جمهور النحاة وغيرهم. وأصرح أدلة الوجوب حديث أنه (ص): توضأ على الولاء ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به وفيه مقال لا أظنه ينتهض معه. وقد خلط فيه بعض المتأخرين فخرجه من طرق وجعل بعضها شاهد البعض، وليس الامر كما ذكر، فليراجع الحديث في مظانه، فإن التكلم على ذلك ههنا يقضي إلى تطويل يخرجنا عن المقصود. وسيأتي التصريح بما هو الحق في الباب الذي بعد هذا. قوله: إلى المرفقين المرفق فيه وجهان: أحدهما فتح الميم وكسر الفاء، والثاني عكسه لغتان. واتفق العلماء على وجوب غسلهما، ولم يخالف في ذلك الازفر وأبو بكر بن داود الظاهري، فمن قال بالوجوب جعل إلى في الآية بمعنى مع، ومن لم يقل به جعلها لانتهاء الغاية. واستدل
[ 176 ]
لغسلهما أيضا بحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به عند الدار قطني والبيهقي من حديث جابر مرفوعا، وفيه القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل وهو متروك، وقال أبو زرعة: منكر، وضعفه أحمد وابن معين، وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات ولم يلتفت إليه في ذلك، وصرح بضعف هذا الحديث المنذري وابن الجوزي وابن الصلاح والنووي وغيرهم. واستدل لذلك أيضا بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: توضأ حتى أشرع في العضد ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه أنه فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب، وأجيب بأنه بيان للمجمل فيفيد الوجوب، ورد بأنه لا إجمال لان إلى حقيقة في انتهاء الغاية مجاز في معنى مع. وقد حقق الكلام في ذلك الرضى في شرح الكافية وغيره فليرجع إليه. واستدل أيضا لذلك أنه من مقدمة الواجب فيكون واجبا، وفيه خلاف في الاصول معروف، وسيعقد المصنف لذلك بابا سيأتي إن شاء الله. قوله: إلى الكعبين هما العظمان النابتان بين مفصل الساق والقدم باتفاق العلماء ما عدا الامامية ومحمد بن الحسن. قال النووي: ولا يصح عنه. وقد اختلف هل الواجب الغسل أو يكفي المسح؟ وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. قوله: لا يحدث فيهما نفسه قال النووي: والمراد لا يحدثها بشئ من أمور الدنيا، ولو عرض له حديث فأعرض عنه حصلت له هذه الفضيلة لان هذا ليس من فعله، وقد غفر لهذه الامة ما حدثت به نفوسها، هذا معنى كلامه. قال في الفتح: ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث لا يحدث نفسه بشئ من الدنيا وهي في الزهد لابن المبارك والمصنف لابن أبي شيبة قال المازري والقاضي عياض: المراد بحديث النفس المجتلب والمكتسب، وأما ما يقع في الخاطر غالبا فليس هو المراد. قال عياض. وقوله: يحدث نفسه فيه إشارة إلى أن ذلك الحديث مما يكتسبه لاضافته إليه. قال ابن دقيق العيد: إن حديث النفس على قسمين: أحدهما ما يهجم هجما يتعذر دفعه عن النفس. والثاني ما تسترسل معه النفس ويمكن قطعه ودفعه، فيمكن أن يحمل الحديث على هذا النوع الثاني فيخرج عنه الاول لعسر اعتباره، ويشهد لذلك لفظ يحدث نفسه فإنه يقتضي تكسبا منه وتفعلا لهذا الحديث، قال: ويمكن حمله على النوعين معا إلى آخر كلامه. والحاصل أن الصيغة مشعرة بشيئين أحدهما أن يكون غير مغلوب بورود الخواطر النفسية، لان من كان كذلك لا يقال له محدث لانتفاء الاختيار
[ 177 ]
الذي لا بد من اعتباره. ثانيهما أن يكون مريدا للتحديث طالبا له على وجه التكلف، ومن وقع له ذلك هجوما وبغتة لا يقال أنه حدث نفسه. قوله: غفر الله له ما تقدم من ذنبه رتب هذه المثوبة على مجموع الوضوء الموصوف بتلك الصفة وصلاة الركعتين المقيدة بذلك القيد فلا تحصل إلا بمجموعهما. وظاهره مغفرة جميع الذنوب، وقد قيل إنه مخصوص بالصغائر لورود مثل ذلك مقيدا كحديث: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينها ما اجتنبت الكبائر. وعن علي رضي الله عنه أنه دعا بوضوء فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى ففعل هذا ثلاثا ثم قال: هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والنسائي. الحديث إسناده في سنن النسائي، هكذا حدثنا موسى بن عبد الرحمن قال: حدثنا حسين بن علي عن زائدة قال: حدثنا خالد بن علقمة عن عبد خير عن علي قدس سره. فموسى بن عبد الرحمن إن كان ابن سعيد بن مسروق الكندي فهو ثقه، وإن كان الحلبي الانطاكي فهو صدوق يغرب، وكلاهما روى عنه النسائي. وأما خالد بن علقمة فهو الهمداني قال ابن معين: ثقة وقال في التقريب: صدوق وبقية رجال الاسناد ثقات وهو طرف من حديث علي عليه السلام، وسيأتي الكلام على المضمضة والاستنشاق والاستنثار قد تقدم. قال المصنف رحمه الله: وفيه مع الذي قبله دليل على أن السنة أن يستنشق باليمين ويستنثر باليسرى انتهى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر متفق عليه. قد تقدم الكلام على تفسير الاستنثار وعلى وجوبه في حديث عثمان. وعن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمضمضة والاستنشاق رواه الدارقطني. قد سلف الكلام على المضمضة والاستنشاق تفسيرا وحكما. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقال يعني الدارقطني لم يسند عن حماد غير هدبة وداود بن المحبر وغيرهما يرويه عنه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يذكر أبا هريرة. قلت: وهذا لا يضر لان هدبة ثقة مخرج عنه في الصحيحين فيقبل رفعه وما ينفرد به انتهى. وقد ذكر
[ 178 ]
هذا الحديث ابن سيد الناس في شرح الترمذي منسوبا إلى أبي هريرة ولم يتكلم عليه، وعادته التكلم على ما فيه وهن. باب ما جاء في جواز تأخيرهما على غسل الوجه واليدين عن المقدام بن معد يكرب قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا ثم مضمض واستنشق ثلاثا ثلاثا ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما رواه أبو داود وأحمد وزاد: وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا. الحديث إسناده صالح وقد أخرجه الضياء في المختارة، وهو يدل على عدم وجوب الترتيب بين المضمضمة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين. وحديث عثمان وعبد الله بن زيد الثابتان في الصحيحين. وحديث علي الثابت عند أبي داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبزار وغيرهم مصرحة بتقديم المضمضمة والاستنشاق على غسل الوجه واليدين. والحديث من أدلة القائلين بعدم وجوب الترتيب وقد سبق ذكرهم في شرح حديث عثمان. وحديث الربيع الآتي بعد هذا يدل أيضا على عدم وجوب الترتيب بين المضمضمة والاستنشاق وغسل الوجه. قال النووي: إنهم يتأولون هذه الرواية، على أن لفظة ثم ليست للترتيب بل لعطف جملة على جملة. وقد ذكر الفاضل الشلبي في صدر حواشيه على شرح المواقف أن المحققين من النحاة نصوا على أن وجوب دلالة ثم على التراخي مخصوص بعطف المفرد. وقد ذكره أيضا في حواشي المطول. وقد ذكر الرضى في شرح الكافية وابن هشام في المغني أنها قد تأتي لمجرد الترتيب، فظهر بهذا أنها مشتركة بين المعنيين لا أنها حقيقة في الترتيب، ولكن لا يخفى عليك أن هذا التأويل وإن نفع القائل بوجوب الترتيب في حديث الباب وما بعده فهو يجري في دليله الذي عارض به حديثي الباب، أعني حديث عثمان وعبد الله بن زيد وعلي، فلا يدل على تقديم المضمضة والاستنشاق، كما لا يدل هذا على تأخيرهما، فدعوى وجوب الترتيب لا تتم إلا بإبراز دليل عليها يتعين المصير إليه، وقد عرفناك في شرح حديث عثمان عدم انتهاض ما جاء به مدعي وجوب الترتيب على المطلوب، نعم حديث جابر عند النسائي في صفة حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ابدؤوا بما بدأ
[ 179 ]
الله به بلفظ الامر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر يصلح للاحتجاج به على وجوب الترتيب لانه عام لا يقصر على سببه عند الجمهور كما تقرر في الاصول. وآية الوضوء مندرجة تحت ذلك العموم. وعن العباس بن يزيد عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قال: أتيتها فأخرجت إلي إناء فقالت: في هذا كنت أخرج الوضوء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثا ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثا ثم يمضمض ويستنشق ثلاثا ثم يغسل يديه ثم يمسح برأسه مقبلا ومدبرا ثم يغسل رجليه. قال العباس بن يزيد هذه المرأة التي حدثت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه بدأ بالوجه قبل المضمضمة والاستنشاق، وقد حدث به أهل بدر منهم عثمان وعلي أنه بدأ بالمضمضة والاستنشاق قبل الوجه، والناس عليه رواه الدارقطني الحديث رواه الدار قطني عن شيخه إبرهيم بن حماد عن العباس المذكور. وأخرجه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وله عنها طرق وألفاظ مدارها على عبد الله بن محمد بن عقيل وفيه مقال. وهو يدل على عدم وجوب الترتيب بين المضمضة وغسل الوجه، وقد عرفت في الحديث الذي قبله ما هو الحق. باب المبالغة في الاستنشاق عن لقيط بن صبرة قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال: أسبغ الوضوء وخلل بين الاصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما رواه الخمسة وصححه الترمذي. الحديث أخرجه أيضا الشافعي وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق إسماعيل بن كثير المكي عن عاصم بن لقيط عن أبيه مطولا ومختصرا قال الخلال عن أبي داود عن أحمد عاصم: بل يسمع عنه بكثير رواية انتهى. ويقال: لم يرو عنه غير إسماعيل، قال الحافظ: وليس بشئ لانه روى عنه غيره وصححه الترمذي والبغوي وابن القطان، وهذا اللفظ عندهم من رواية وكيع عن الثوري عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط عن أبيه. وروى الدولابي في حديث الثوري من جمعه من طريق ابن
[ 180 ]
مهدي عن الثوري ولفظه: وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما وفي رواية لابي داود من طريق أبي عاصم عن ابن جريج عن إسماعيل بن كثير بلفظ: إذا توضأت فتمضمض قال الحافظ في الفتح: إسناد هذه الرواية صحيح. وقال النووي: حديث لقيط بن صبرة أسانيده صحيحة، وقد وثق إسماعيل بن كثير أحمد، وقال أبو حاتم هو صالح الحديث. وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، وأبو عاصم وثقه أبو حاتم ومن عدا هذين من رجال إسناده فمخرج له في الصحيح، قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي. وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس: فخلل بين أصابعك وقال: هذا حديث حسن وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف، وقد تقدم الترمذي إلى تحسين هذا الحديث البخاري: روى ذلك عنه الترمذي في كتاب العلل، ولكن الراوي عنه موسى بن عقبة وسماعه منه قبل أن يختلط. وأخرج الترمذي أيضا من حديث المستورد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، وغرابته والذي قبله ترجع إلى إلاسناد فلا ينافي الحسن قاله ابن سيد الناس. وقد شارك ابن لهيعة في روايته عن يزيد بن عمرو الليث بن سعد وعمرو بن الحرث، فالحديث إذن صحيح سالم عن الغرابة وفي الباب مما ليس عند الترمذي عن عثمان وأبي هريرة والربيع بنت معوذ ابن عفراء وعائشة وأبي رافع. فحديث عثمان عند الدارقطني. وحديث أبي هريرة عند الدارقطني أيضا. وحديث الربيع عند الطبراني. وحديث عائشة عند الدارقطني. وحديث أبي رافع عند ابن ماجه والدارقطني. والحديث يدل على مشروعية إسباغ الوضوء، والمراد به الانقاء واستكمال الاعضاء والحرص على أن يتوضأ وضوءا يصح عند الجميع وغسل كل عضو ثلاث مرات هكذا قيل، فإذا كان التثليث مأخوذا في مفهوم الاسباغ فليس بواجب لحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ مرة ومرتين، وإن كان مجرد الانقاء والاستكمال فلا نزاع في وجوبه. ويدل أيضا على وجوب تخليل الاصابع فيكون حجة على الامام يحيى القائل بعدم الوجوب. ويدل أيضا على وجوب الاستنشاق، وقد تقدم الكلام عليه في حديث عثمان، وإنما كره المبالغة للصائم خشية أن ينزل إلى حلقه ما يفطره، واستدل به على عدم وجوب المبالغة لان الوجوب يستلزم عدم جواز الترك وفيه
[ 181 ]
ما لا يخفى. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا الحاكم وابن الجارود وصححه ابن القطان، وذكره الحافظ في التلخيص ولم يذكره بضعف، وكذلك المنذري في تخريج السنن عزاه إلى ابن ماجه ولم يتكلم فيه. والحديث يدل على وجوب الاستنثار، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه في شرح حديث عثمان. والمراد بقوله: بالغتين أنهما في أعلى نهاية الاستنثار من قولهم بلغت المنزل، وأما تقييد الامر بالاستنثار بمرتين أو ثلاثا فيمكن الاستدلال على عدم وجوب الثانية والثالثة بحديث الوضوء مرة، ويمكن القول بإيجاب مرتين أو ثلاث إما لانه خاص وحديث الوضوء مرة عام، وإما لانه قول خاص بنا فلا يعارضه فعله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقرر في الاصول والمقام لا يخلو عن مناقشة في كلا الطرفين. باب غسل المسترسل من اللحية عن عمرو بن عبسة قال قلت: يا رسول الله حدثني عن الوضوء، قال ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح برأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء أخرجه مسلم ورواه أحمد وقال فيه: ثم يمسح رأسه كما أمر الله ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله. ش قوله: خرت خطاياه أي سقطت والخر والخرور السقوط أو من علو إلى سفل. والحديث من أحاديث فضائل الوضوء الدالة على عظم شأنه. ومثله حديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم ومالك والترمذي بلفظ: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت
[ 182 ]
كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب ومثله حديث عبد الله الصنابحي عند مالك والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له والمراد بالخطايا قال النووي وغيره الصغائر. وظاهر الاحاديث العموم والتخصيص بما وقع في الاحاديث الاخر بلفظ: ما لم تغش الكبائر وبلفظ: ما اجتنبت الكبائر قد ذهب إليه جماعة من شراح الحديث وغيرهم. والمراد بالخرور والخروج مع الماء المجاز عن الغفران لان ذلك مختص بالاجسام والخطايا ليست متجسمة. وفي حديث الباب وما بعده رد لمذهب الامامية في وجوب مسح الرجلين. وقد ساق المصنف رحمه الله تعالى الحديث للاستدلال به على غسل المسترسل من اللحية لقوله فيه: إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء وفيه خلاف فذهب المؤيد بالله وأبو طالب وأبو حنيفة إلى عدم الوجوب إن أمكن التخليل بدونه، وذهب أبو العباس إلى وجوبه وهو مذهب الشافعي في إحدى الروايات، واستدلوا بالقياس على شعر الحاجبين ورد بأن شعر الحاجب من الوجه لغة لا المسترسل. وقد استنبط المصنف رحمه الله تعالى من الحديث فوائد فقال: فهذا يدل على أن غسل الوجه المأمور به يشتمل على وصول الماء إلى أطراف اللحية. وفيه دليل على أن داخل الفم والانف ليس من الوجه حيث بين أن غسل الوجه المأمور به غيرهما، ويدل على مسح كل الرأس حيث بين أن المسح المأمور به يشتمل على وصول الماء إلى أطراف الشعر. ويدل على وجوب الترتيب في الوضوء لانه وصفه مرتبا، وقال في مواضع منه كما أمره الله عزوجل انتهى. وقد قدمنا الكلام على أن داخل الفم والانف من الوجه وعلى الترتيب. وسيأتي الكلام على مسح الرأس.
[ 183 ]
باب في أن إيصال الماء إلى باطن اللحية الكثة لا يجب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه توضأ فغسل وجهه فأخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الاخرى فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرش بها على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ رواه البخاري. قوله: فغسل وجهه الفاء تفصيلية لانها داخلة بين المجمل والمفصل. قوله: فأخذ غرفة هو بيان لقوله: فغسل قال الحافظ: وظاهره أن المضمضمة والاستنشاق من جملة غسل الوجه، لكن المراد بالوجه أولا ما هو أعم من المفروض والمسنون بدليل أنه أعاد ذكره ثانيا بعد ذكر المضمضمة والاستنشاق بغرفة مستقلة، وفيه دليل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة، وغسل الوجه باليدين جميعا إذا كان بغرفة واحدة لان اليد الواحدة قد لا تستوعبه. قوله: أضافها بيان لقوله: فجعل بها هكذا. قوله: فغسل بها أي الغرفة. وفي رواية بهما أي اليدين. قوله: ثم مسح برأسه لم يذكر له غرفة مستقلة، قال الحافظ: قد يتمسك به من يقول بطهورية الماء المستعمل، لكن في رواية أبي داود: ثم قبض قبضة من الماء ثم نفض يده ثم مسح رأسه زاد النسائي: وأذنيه مرة واحدة. قوله: فرش أي سكب الماء قليلا قليلا إلى أن صدق عليه مسمى الغسل بدليل قوله: حتى غسلها وفي رواية لابي داود والحاكم: فرش على رجله اليمنى وفيها النعل ثم مسحها بيديه يد فوق القدم ويد تحت النعل فالمراد بالمسح تسييل الماء حتى يستوعب العضو. وأما قوله: تحت النعل فإن لم يحمل على التجوز عن القدم فهي رواية شاذة وراويها هشام بن سعد لا يحتج بما تفرد به فكيف إذا خالف؟ قاله الحافظ: والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على عدم وجوب إيصال الماء إلى باطن اللحية فقال: وقد علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كث اللحية، وأن الغرفة الواحدة وإن عظمت لا تكفي غسل باطن اللحية الكثة مع غسل جميع الوجه فعلم أنه لا يجب. وفيه أنه مضمض واستنشق بماء واحد انتهى. أما الكلام على وجوب
[ 184 ]
إيصال الماء إلى باطن اللحية فسيأتي في الباب الذي بعد هذا. وأما أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان كث اللحية فقد ذكر القاضي عياض ورود ذلك في أحاديث جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة كذا قال. وفي مسلم من حديث جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير شعر اللحية وروى البيهقي في الدلائل من حديث علي: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عظيم اللحية وفي رواية: كث اللحية وفيها من حديث هند بن أبي هالة مثله. ومن حديث عائشة مثله. وفي حديث أم معبد المشهور في لحيته كثافة قاله الحافظ في التلخيص. باب استحباب تخليل اللحية عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخلل لحيته رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عزوجل رواه أبو داود. أما حديث عثمان فأخرجه أيضا ابن خزيمة والحاكم والدارقطني وابن حبان وفيه عامر بن شقيق ضعفه يحيى بن معين. وقال البخاري: حديثه حسن. وقال الحاكم: لا نعلم فيه طعنا بوجه من الوجوه وأورد له شواهد. وأما حديث أنس المذكور في الباب ففي إسناده الوليد بن زوران وهو مجهول الحال، قال الحافظ: وله طرق أخرى ضعيفة عن أنس منها ما رويناه في فوائد أبي جعفر بن البحيري ومستدرك الحاكم ورجاله ثقات لكنه معلول، فإنما رواه موسى بن أبي عائشة عن زيد بن أبي أنيسة عن يزيد الرقاشي عن أنس، أخرجه ابن عدي وصححه ابن القطان من طريق أخرى، وله طريق أخرى ذكرها الذهلي في الزهريات وهو معلول وصححه الحاكم قبل ابن القطان. قال الحافظ: ولم تقدح هذه العلة عندهما فيه. وفي الباب عن علي وعائشة وأم سلمة وأبي أمامة وعمار وابن عمر وجابر وجرير وابن أبي أوفى وابن عباس وعبد الله بن عكبرة وأبي الدرداء، أما حديث علي فرواه الطبراني فيما انتقاه عليه ابن مردويه وإسناده ضعيف ومنقطع قاله الحافظ. وأما حديث عائشة فرواه أحمد قال الحافظ وإسناده حسن. وأما حديث أم سلمة فرواه الطبراني والعقيلي. والبيهقي بلفظ: كان يخلل لحيته ويدلك عارضيه وفي لفظ: كان
[ 185 ]
إذا توضأ خلل لحيته وفي إسناده خالد بن إلياس وهو منكر الحديث. وأما حديث أبي أمامة فرواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير قال الحافظ: وإسناده ضعيف. وأما حديث عمار فرواه الترمذي وابن ماجه وهو معلول. وأما حديث ابن عمر فرواه الطبراني في الاوسط وإسناده ضعيف، وأخرجه عنه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وصححه ابن السكن بلفظ: كان إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم يشبك لحيته بأصابعه من تحتها وفي إسناده عبد الواحد وهو مختلف فيه، واختلف فيه على الاوزاعي. وأما حديث جابر فرواه ابن عدي وفيه أصرم بن غياث وهو متروك الحديث قاله النسائي. وفي إسناده انقطاع قاله ابن حجر وأما حديث جرير فرواه ابن عدي وفيه يس الزيات وهو متروك. وأما حديث ابن أبي أوفى فرواه أبو عبيد في كتاب الطهور، وفي إسناده أبو الورقاء وهو ضعيف وهو في الطبراني. وأما حديث ابن عباس فرواه العقيلي، قال ابن حزم: ولا يتابع عليه. وأما حديث عبد الله بن عكبرة فرواه الطبراني في الصغير بلفظ: التخليل سنة وفيه عبد الكريم أبو أمية وهو ضعيف. وأما حديث أبي الدرداء فرواه الطبراني وابن عدي بلفظ: توضأ فخلل لحيته مرتين وقال: هكذا أمرني ربي وفي إسناده تمام بن نجيح وهو لين الحديث، قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس في تخليل اللحية شئ صحيح، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تخليل اللحية شئ، ولكنه يعارض هذا تصحيح الترمذي والحاكم وابن القطان لبعض أحاديث الباب وكذلك غيرهم. والحديثان يدلان على مشروعية تخليل اللحية، وقد اختلف الناس في ذلك فذهب إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل العترة والحسن بن صالح وأبو ثور والظاهرية كذا في البحر، واستدلوا بما وقع في أحاديث الباب بلفظ: هكذا أمرني ربي وذهب مالك والشافعي والثوري والاوزاعي إلى أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء، قال مالك وطائفة من أهل المدينة: ولا في غسل الجنابة، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والاوزاعي والليث وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري وأكثر أهل العلم أن تخليل اللحية واجب في غسل الجنابة ولا يجب في الوضوء، هكذا في شرح الترمذي لابن سيد الناس. قال: وأظنهم فرقوا بين ذلك والله أعلم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر واستدلوا لعدم الوجوب في الوضوء بحديث ابن عباس المذكور في الباب الاول، قال: وقد روي
[ 186 ]
عن ابن عباس وابن عمر وأنس وعلي وسعيد بن جبير وأبي قلابة ومجاهد وابن سيرين والضحاك وإبراهيم النخعي أنهم كانوا يخللون لحاهم. وممن روي عنه أنه كان لا يخلل إبراهيم النخعي والحسن وابن الحنفية وأبو العالية وأبو جعفر الهاشمي والشعبي ومجاهد والقاسم وابن أبي ليلى، ذكر ذلك عنهم ابن أبي شيبة بأسانيده إليهم. والانصاف أن أحاديث الباب بعد تسليم انتهاضها للاحتجاج وصلاحيتها للاستدلال لا تدل على الوجوب لانها أفعال، وما ورد في بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا أمرني ربي لا يفيد الوجوب على الامة لظهوره في الاختصاص به وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الاصول هل يعم الامة كل ظاهر الاختصاص به أم لا؟ والفرائض لا تثبت إلا بيقين، والحكم على ما لم يفرضه الله بالفرضية كالحكم على ما فرضه بعدمها لا شك في ذلك، لان كل واحد منهما من التقول على الله بما لم يقل. ولا شك أن الغرفة الواحدة لا تكفي كث اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته ودفع ذلك كما قال بعضهم بالوجد أن مكابرة منه، نعم الاحتياط والاخذ بالاوثق لا شك في أولويته، لكن بدون مجاراة على الحكم بالوجوب. قوله: الحنك وهو باطن أعلى الفم والاسفل من طرف مقدم اللحيين. باب تعاهد المأقين وغيرهما من غضون الوجه بزيادة ما عن أبي أمامة أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ثلاثا ثلاثا، قال: وكان يتعاهد المأقين رواه أحمد. الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة أيضا بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الاذنان من الرأس وكان يمسح المأقين وذكره الحافظ في التلخيص ولم يذكر له علة ولا ضعفا. وقال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في
[ 187 ]
الكبير من طريق سميع عن أبي أمامة وإسناده حسن، وسميع ذكره ابن حبان في الثقات وقال: لا أدري من هو ولا ابن من هو، والظاهر أنه اعتمد في توثيقه على غيره. قوله: المأقين موق العين مجرى الدمع منها أو مقدمها أو مؤخرها كذا في القاموس. قال الازهري: أجمع أهل اللغة أن الموق والماق مؤخر العين الذي يلي الانف انتهى. والمراد بهما في الحديث مخصر العينين. وذكر المصنف رحمه الله تعالى في التبويب غضون الوجه وهي ما تعطف من الوجه إما قياسا على الماقين وإما استدلالا بما في الحديث الآتي من قوله: ثم أخذ بيديه فصك بهما وجهه والاول أظهر وقد ورد من حديث أخرجه ابن حبان وابن أبي حاتم وغيرهما بلفظ: إذا توضأتم فأشربوا أعينكم من الماء وهو من حديث البختري بن عبيدة بالموحدة والمعجمة وقد ضعفوه كلهم فلا يقوم به حجة كذا قاله بعضهم. وفيه أنه ذكر في الميزان أنه وثقه وكيع، وقال ابن عدي: لا أعلم له حديثا منكرا انتهى. لكنه لا يكون ما تفرد به حجة لوقوع الاختلاف فيه، فقد قيل إنه ضعيف وقيل متروك الحديث. وقال البخاري: يخالف في حديثه على أنه لم ينفرد به البختري، فقد رواه ابن طاهر في صفوة التصوف من طريق ابن أبي السري، لكنه قال ابن الصلاح: لم أجد له أنا في جماعة اعتنوا بالبحث عن حاله أصلا وتبعه النووي. وعن ابن عباس أن عليا رضي الله عنهما قال: يا ابن عباس ألا أتوضأ ذلك وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلت: بلى فداك أبي وأمي، قال: فوضع إناء فغسل يديه ثم مضمض واستنشق واستنثر ثم أخذ بيديه فصك بهما وجهه وألقم إبهاميه ما أقبل من أذنيه؟ قال: ثم عاد في مثل ذلك ثلاثا، ثم أخذ كفا بيده اليمنى فأفرغها على ناصيته ثم أرسلها تسيل على وجهه، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم يده الاخرى مثل ذلك، وذكر بقية الوضوء رواه أحمد وأبو داود. لعل هذا اللفظ الذي ساقه المصنف رحمه الله لفظ أحمد، وساقه أبو داود في سننه بمعناه: وتمام الحديث: ثم مسح رأسه وظهور أذنيه ثم أدخل يديه جميعا فأخذ حفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيها النعل ففتلها بها ثم الاخرى مثل ذلك، قال، قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين، قال قلت: وفي النعلين؟ قال: وفي النعلين قال قلت: وفي النعلين؟ قال وفي النعلين وفي رواية لابي داود، ومسح برأسه مرة واحدة وفي رواية له: ومسح برأسه ثلاثا قال المنذري: في
[ 188 ]
هذا الحديث مقال. وقال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عنه فضعفه وقال: ما أدري ما هذا والحديث يدل على أنه يغسل ما أقبل من الاذنين مع الوجه ويمسح ما أدبر منهما مع الرأس، وإليه ذهب الحسن بن صالح والشعبي، وذهب الزهري وداود إلى أنهما من الوجه فيغسلان معه. وذهب من عداهم إلى أنهما من الرأس فيمسحان معه. وفيه أيضا استحباب إرسال غرفة من الماء على الناصية لكن بعد غسل الوجه لا كما يفعله العامة عقيب الفراغ من الوضوء. وفيه أنه لا يشترط في غسل الرجل نزع النعل وأن الفتل كاف، وقد قدمنا عن الحافظ في باب إيصال الماء إلى باطن اللحية الكثة أن رواية المسح على النعل شاذة لانها من طريق هشام بن سعد ولا يحتج بما تفرد به، وأبو داود لم يروها من طريقه ولا ذكر المسح ولكنه رواها من طريق محمد بن إسحاق عنعنة وفيه مقال مشهور إذا عنعن. وقد احتج من قال بتثليث مسح الرأس برواية أبي داود التي ذكرناها، واحتج القائل بأنه يمسح مرة واحدة بإطلاق المسح في حديث الباب وتقييده بالمرة في رواية، وسيأتي الكلام عليه في باب هل يسن تكرار المسح. وقوله: وألقم إبهاميه جعل إبهاميه للبياض الذي بين الاذن والعذار كاللقمة للفم توضع فيه. واستدل بذلك المارودي على أن البياض الذي بين الاذن والعذار من الوجه كما هو مذهب الشافعية. وقال مالك: ما بين الاذن واللحية ليس من الوجه. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من علماء الامصار قال بقول مالك، وعن أبي يوسف يجب على الامرد غسله دون الملتحي. قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه حجة لمن رأى ما أقبل من الاذنين من الوجه انتهى وقد تقدم. باب غسل اليدين مع المرفقين وإطالة الغرة عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: هلم أتوضأ لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فغسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضدين ثم مسح برأسه ثم أمر بيديه على أذنيه ولحيته ثم غسل رجليه رواه الدارقطني. الحديث في إسناده ابن إسحاق وقد عنعن. قوله: هلم اسم فعل بمعنى قرب جاء لازما كقوله تعالى: * (هلم إلينا) * (الاحزاب: 18) ومتعديا كقوله تعالى:: * (هلم شهداءكم) * (الانعام: 150) ويستوي فيه عند احجازيين بين الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث فيقال: هلم يا رجل، وهلم يا رجال، وهلم يا امرأة، وفي لغة بني تميم يتغير كتغير أمر المخاطب نحو هلما وهلموا وهلمي. قوله: حتى مس أطراف العضدين
[ 189 ]
فيه دليل على وجوب غسل المرفقين، وقد قدمنا طرفا من الكلام عليه في شرح حديث عثمان المتفق عليه. وقوله: ثم مسح برأسه إطلاق المسح يشعر بعدم التكرار وسيأتي الكلام عليه. قوله: ثم أمر بيديه على أذنيه دليل على مشروعية مسح الاذنين وسيأتي له باب في هذا الكتاب. قوله: ولحيته قد بسطتا البحث فيه في باب استحباب تخليل اللحية. وعن أبي هريرة أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله رواه مسلم. قوله: أشرع في العضد وأشرع في الساق معناه أدخل الغسل فيهما قاله النووي. قوله: أنتم الغر المحجلون قال أهل اللغة: الغرة بياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض في يدها ورجلها، قال العلماء: سمى النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلا تشبيها بغرة الفرس. وهذا الحديث وغيره مصرح باستحباب تطويل الغرة والتحجيل. والغرة غسل شئ من مقدم الرأس أو ما يجاوز الوجه زائدا على الجزء الذي يجب غسله. والتحجيل غسل ما فوق المرفقين والكعبين وهما مستحبان بلا خلاف، واختلف في القدر المستحب على أوجه: أحدها أنه تستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير تقدير. والثاني إلى نصف العضد والساق. والثالث إلى المنكب والركبتين. قال النووي: وأحاديث الباب تقتضي هذا كله، قال: وأما دعوى الامام أبي الحسن بن بطال المالكي والقاضي عياض اتفاق العلماء على أنه لا يستحب الزيادة فوق المرفق والكعب فباطلة، وكيف يصح دعواهما وقد ثبت فعل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي هريرة وهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا، ولو خالف فيه من خالف كان محجوجا بهذه السنن الصحيحة الصريحة، وأما احتجاجهما بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم فلا يصح لان المراد زاد في عدد المرات. وقال الحافظ في التلخيص: وقد ادعى ابن بطال في شرح البخاري وتبعه القاضي تفرد أبي
[ 190 ]
هريرة بهذا يعني الغسل إلى الآباط وليس بجيد فقال: قد قال به جماعة من السلف ومن أصحاب الشافعي، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن العمري عن نافع أن ابن عمر كان ربما بلغ بالوضوء إبطيه. ورواه أبو عبيد بإسناد أصح من هذا فقال: حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن نافع. قوله: فمن استطاع منكم تعليق الامر بإطالة الغرة والتحجيل بالاستطاعة قرينة قاضية بعدم الوجوب، ولهذا لم يذهب إلى إيجابه أحد من الائمة. قال المصنف رحمه الله تعالى: ويتوجه منه وجوب غسل المرفقين لان نص الكتاب يحتمله وهو يحمل فيه، وفعله صلى الله عليه وآله وسلم بيان لمجمل الكتاب، مجاوزته للمرفق ليس في محل الاجمال ليجب بذلك انتهى. وقد أسلفنا الكلام عليه في الكلام على حديث عثمان في أول أبواب الوضوء. باب تحريك الخاتم وتخليل الاصابع ودلك ما يحتاج إلى دلك عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه رواه ابن ماجه والدارقطني. الحديث في إسناده معمر بن محمد بن عبيد الله عن أبيه وهما ضعيفان، وقد ذكره البخاري تعليقا عن ابن سيرين ووصله ابن أبي شيبة، وهو يدل على مشروعية تحريك الخاتم ليزول ما تحته من الاوساخ. وكذلك ما يشبه الخاتم من الاسورة والحلية ونحوهما. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك رواه أحمد وابن ماجه والترمذي. وعن المستورد بن شداد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره رواه الخمسة إلا أحمد. وعن عبد الله بن زيد بن عاصم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فجعل يقول: هكذا يدلك رواه أحمد. أما حديث ابن عباس فرواه أيضا الحاكم وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف، ولكن حسنه البخاري لانه من رواية موسى بن عقبة عن صالح وسماع موسى منه قبل أن يختلط. وأما حديث المستورد بن شداد ففي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه الليث بن سعد وعمرو بن الحرث، خرجه البيهقي وأبو بشر الدولابي والدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب عن الثلاثة وصححه ابن القطان. وأما حديث
[ 191 ]
عبد الله بن زيد فهو إحدى روايات حديثه المشهور. وفي الباب من حديث عثمان عند الدارقطني بلفظ: أنه خلل أصابع قدميه ثلاثا وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل كما فعلت ومن حديث الربيع بنت معوذ عند الطبراني في الاوسط قال الحافظ: وإسناده ضعيف. ومن حديث عائشة عند الدارقطني وفيه عمر بن قيس وهو منكر الحديث. ومن حديث وائل بن حجر عند الطبراني في الكبير قال الحافظ: وفيه ضعف وانقطاع. ومن حديث لقيط بن صبرة بلفظ: إذا توضأت فخلل الاصابع وقد تقدم. ومن حديث ابن مسعود رواه زيد بن أبي الزرقاء بلفظ: لينهكن أحدكم أصابعه قبل أن تنهكه النار قال ابن أبي حاتم: رفعه منكر. قال الحافظ: وهو في جامع الثوري موقف، وكذا في مصنف عبد الرزاق، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا. ومن حديث أبي أيوب عند أبي بكر بن أبي شيبة في المصنف. ومن حديث أبي هريرة عند الدارقطني بلفظ: خللوا بين أصابعكم لا يخللها الله يوم القيامة بالنار ومن حديث أبي رافع عند أحمد والدارقطني من حديث معمر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع قال البخاري: هو منكر الحديث والاحاديث تدل على مشروعية تخليل أصابع اليدين والرجلين، وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضا فتنتهض للوجوب ولاسيما حديث لقيط بن صبرة الذي قدمنا الكلام عليه في باب المبالغة في الاستنشاق فإنه صححه الترمذي والبغوي وابن القطان. قال ابن سيد الناس: قال أصحابنا من سنن الوضوء تخليل أصابع الرجلين في غسلهما، قال: وهذا إذا كان الماء يصل إليها من غير تخليل، فلو كانت الاصابع ملتفة لا يصل الماء إليها إلا بالتخليل فحينئذ يجب التخليل لا لذاته لكن الاداء فرض الغسل انتهى. والاحاديث قد صرحت بوجوب التخليل وثبتت من قوله صلى الله عليه وآله وسلم فعله، ولا فرق بين إمكان وصول الماء بدون تخليل وعدمه ولا بين أصابع اليدين والرجلين، فالتقييد بأصابع الرجلين أو بعدم إمكان وصول الماء لا دليل عليه. باب مسح الرأس كله وصفته وما جاء في مسح بعضه عن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح
[ 192 ]
رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه رواه الجماعة. قوله: مسح رأسه زاد ابن الصباغ: كله وكذا في رواية ابن خزيمة. قوله: فأقبل ما وأدبر قد اختلف في كيفية الاقبال والادبار المذكور في الحديث فقيل: يبدأ بمقدم الرأس الذي يلي الوجه ويذهب بهما إلى القفا، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبتدأ الشعر. ويؤيد هذا قوله: بدأ بمقدم رأسه إلا أنه يشكل على هذه الصفة. قوله: فأقبل بهما وأدبر لان الواقع فيها بالعكس وهو أنه أدبر بهما وأقبل لان الذهاب إلى جهة القفا إدبار. وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، والدليل على ذلك ما ثبت عند البخاري من رواية عبد الله بن زيد بلفظ: فأدبر بيديه وأقبل ومخرج الطريقين متحد فهما بمعنى واحد. وأجيب أيضا بحمل قوله أقبل على البداءة بالقبل، وقوله أدبر على البداءة بالدبر، فيكون من تسمية الفعل بابتدائه وهو أحد القولين لاهل الاصول في تسمية الفعل هل يكون بابتدائه أو بانتهائه؟ قاله ابن سيد الناس في شرح الترمذي. وقد أجيب بغير ذلك. وقيل: يبدأ بمؤخر رأسه قوله ويمر إلى جهة الوجه ثم يرجع إلى المؤخر محافظة على قوله أقبل وأدبر، ولكنه يعارضه قوله بدأ بمقدم رأسه. وقيل يبدأ بالناصية ويذهب إلى ناحية الوجه ثم يذهب إلى جهة مؤخر الرأس ثم يعود إلى ما بدأ منه وهو الناصية. وفي هذه الصفة محافظة على قوله: بدأ بمقدم رأسه، وعلى قوله: أقبل وأدبر، فإن الناصية مقدم الرأس والذهاب إلى ناحية الوجة إقبال. والحديث يدل على مشروعية مسح جميع الرأس وهو مستحب باتفاق العلماء. قاله النووي وعلل ذلك بأنه طريق إلى استيعاب الرأس ووصول الماء إلى جميع شعره. وقد ذهب إلى وجوبه أكثر العترة ومالك والمزني والجبائي وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل وابن علية. وقال الشافعي: يجزي مسح بعض الرأس ولم يحده بحد، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وهو قول الطبري. وقال أبو حنيفة: الواجب الربع. وقال النووي والاوزاعي والليث: يجزي مسح بعض الرأس ويمسح المقدم وهو قول أحمد وزيد بن علي والناصر والباقر والصادق. وأجاز الثوري والشافعي مسح الرأس بأصبع واحدة. واختلفت الظاهرية فمنهم من أوجب الاستيعاب ومنهم من قال يكفي البعض. احتج الاولون بحديث الباب. وحديث أنه مسح برأسه حتى بلغ القذال عند
[ 193 ]
أحمد وأبي داود من حديث طلحة بن مصرف ورد بأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب، وفي حديث طلحة بن مصرف مقال سيأتي تحقيقه. قالوا: قال الله تعالى: * (وامسحوا برؤوسكم) * (المائدة: 6) والرأس حقيقة اسم لجميعه والبعض مجاز ورد بأن الباء للتبعيض. وأجيب بأنه لم يثبت كونها للتبعيض، وقد أنكره سيبويه في خمسة عشر موضعا من كتابه. ورد أيضا بأن الباء تدخل في الآلة، والمعلوم أن الآلة لا يراد استيعابها كمسحت رأسي بالمنديل، فلما دخلت الباء في الممسوح كان ذلك الحكم أعني عدم الاستيعاب في الممسوح أيضا، قاله التفتازاني. قالوا جعله جار الله مطلقا وحكم على المطلق بأنه مجمل، وبينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستيعاب، وبيان المجمل الواجب واجب. ورد بأن المطلق ليس بمجمل لصدقه على الكل والبعض، فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا وأياما كان وقع به الامتثال ولو سلم أنه مجمل لم يتعين مسح الكل لورود البيان بالبعض عند أبي داود من حديث أنس بلفظ: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة وعند مسلم وأبي داود والترمذي من حديث المغيرة بلفظ: أنه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة قالوا: قال ابن القيم أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العمامة، قال: وأما حديث أنس فمقصود أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مس الشعر كله، ولم ينف التكميل على العمامة وقد أثبته حديث المغيرة، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه. وأيضا قال الحافظ: إن حديث أنس في إسناده نظر. وأجيب بأن النزاع في الوجوب وأحاديث التعميم وإن كانت أصح وفيها زيادة وهي مقبولة لكن أين دليل الوجوب وليس إلا مجرد أفعال؟ ورد بأنها وقعت بيانا للمجمل فأفادت الوجوب. والانصاف أن الآية ليست من قبيل المجمل، وإن زعم ذلك الزمخشري وابن الحاجب في مختصره والزركشي، والحقيقة لا تتوقف على مباشرة آلة الفعل بجميع أجزاء المفعول، كما لا تتوقف في قولك ضربت عمرا على مباشرة الضرب لجميع أجزائه، فمسح رأسه يوجد المعنى الحقيقي بوجود مجرد المسح للكل أو البعض، وليس النزاع في مسمى الرأس فيقال هو حقيقة في جميعه، بل النزاع في إيقاع المسح على الرأس، والمعنى الحقيقي للايقاع يوجد بوجود المباشرة، ولو كانت المباشرة الحقيقية لا توجد إلا بمباشرة الحال لجميع المحل لقل وجود الحقائق في
[ 194 ]
هذا الباب بل يكاد يلحق بالعدم، فإنه يستلزم أن نحو ضربت زيدا أو أبصرت عمرا من المجاز لعدم عموم الضرب والرؤية، وقد زعمه ابن جني منه وأورده مستدلا به على كثرة المجاز والحاصل أن الوقوع لا يتوقف وجود معناه الحقيقي على وجود المعنى الحقيقي لما وقع عليه الفعل، وهذا هو منشأ الاشتباه والاختلاف، فمن نظر إلى جانب ما وقع عليه الفعل جزم بالمجاز، ومن نظر إلى جانب الوقوع جزم بالحقيقة، وبعد هذا فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه ولكن دون الجزم بالوجوب مفاوز وعقاب. وعن الربيع بنت معوذ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ عندها ومسح برأسه فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته رواه أحمد وأبو داود. وفي لفظ: مسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره ثم بمقدمه وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. هذه الروايات مدارها على ابن عقيل وفيه مقال مشهور لاسيما إذا عنعن وقد فعل ذلك في جميعها. وأخرج هذا الحديث أحمد بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ عندها قالت فرأيته مسح على رأسه مجاري الشعر ما أقبل منه وما أدبر ومسح صدغيه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأخرجه بلفظ أحمد أبو داود أيضا في رواية وأخرجه ابن ماجه والبيهقي، ومدار الكل على ابن عقيل والرواية الاولى من حديث الباب تدل على أنه مسح مقدم رأسه مسحا مستقلا ومؤخره كذلك، لان المسح مرة واحدة لا بد فيه من تحريك شعر أحد الجانبين. ووقع في نسخه من الكتاب مكان فوق فرق. وفي سنن أبي داود ثلاث نسخ هاتان والثالثة قرن. والرواية الثانية من حديث الباب تدل على أن المسح مرتان وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعد هذا، وتدل على البداءة بمؤخر الرأس، وقد تقدم الكلام على الخلاف في صفته في حديث
[ 195 ]
أول الباب. قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وهذه الرواية محمولة على الرواية بالمعني عند من يسمى الفعل بما ينتهي إليه كأنه حمل قوله ما أقبل وما أدبر على الابتداء بمؤخر الرأس فأداها بمعناها عنده وإن لم يكن كذلك. قال: ذكر معناه ابن العربي، ويمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا لبيان الجواز مرة وكانت مواظبته على البداءة بمقدم الرأس، وما كان أكثر مواظبة عليه كان أفضل، والبداءة بمؤخر الرأس محكية عن الحسن بن حي ووكيع بن الجراح قال أبو عمر بن عبد البر: قد توهم بعض الناس في حديث عبد الله بن زيد في قوله: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر أنه بدأ بمؤخر رأسه، وتوهم غيره أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر، وهذه ظنون لا تصح. وقد روي عن ابن عمر أنه كان يبدأ من وسط رأسه ولا يصح، وأصح حديث في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد، والمشهور المتداول الذي عليه الجمهور البداءة من مقدم الرأس إلى مؤخره انتهى. قوله: كل ناحية لمنصب الشعر المراد بالناحية جهة مقدم الرأس وجهة مؤخره، أي مسح الشعر من ناحية انصبابه، والمنصب بضم الميم وتشديد الباء الموحدة آخره. قوله: لا يحرك الشعر عن هيئته أي التي هو عليها، قال ابن رسلان: وهذه الكيفية مخصوصة بمن له شعر طويل إذا رد يده عليه ليصل الماء إلى أصوله ينتفش ويتضرر صاحبه بانتفاشه وانتشار بعضه، ولا بأس بهذه الكيفية للمحرم فإنه يلزمه الفدية بانتثار شعره وسقوطه. وروي عن أحمد أنه سئل كيف تمسح المرأة ومن له شعر طويل كشعره؟ فقال: إن شاء مسح كما روي عن الربيع وذكر الحديث ثم قال: هكذا ووضع يده على وسط رأسه ثم جرها إلى مقدمه ثم رفعها فوضعها حيث بدأ منه ثم جرها إلى مؤخره. وعن أنس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة رواه أبو داود. الحديث، قال الحافظ: في إسناده نظر انتهى. وذلك لان أبا مغفل الراوي عن أنس مجهول وبقية إسناده رجال الصحيح، وأورده المصنف ههنا للاستدلال به على الاكتفاء بمسح بعض الرأس، وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب. قوله: قطرية بكسر القاف وسكون الطاء ويروى بفتحهما وهي نوع من البرود فيها حمرة. وقيل هي
[ 196 ]
حلل تحمل من البحرين موضع قريب عمان. قال الازهري: ويقال لتلك القرية قطر بفتح القاف والطاء فلما دخلت عليها ياء النسبة كسروا القاف وخففوا الطاء. قوله: فأدخل يده لفظ أبي داود: فأدخل يديه قال ابن رسلان: وفيه فضيلة مسح الرأس بالكفين جميعا. قوله: فمسح مقدم رأسه قال ابن حجر: فيه دليل على الاجتزاء بالمسح على الناصية، وقد نقل عن سلمة بن الاكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه، وابن عمر مسح اليافوخ. باب هل يسن تكرار مسح الرأس أم لا عن أبي حية قال: رأيت عليا رضي الله عنه توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه الترمذي وصححه. وأخرجه أيضا ابن ماجه. وروي عن سلمة بن الاكوع مثله. وعن ابن أبي أوفى مثله أيضا. ورواه الطبراني في الاوسط من حديث أنس بلفظ: ومسح برأسه مرة قال الحافظ: وإسناده صالح. ورواه أبو علي بن السكن من حديث رزيق بن حكيم عن رجل من الانصار مثله. وأخرجه الطبراني من حديث عثمان مطولا وفيه يمسح برأسه مرة واحدة، وهو في الصحيحين مطلق غير مقيد. وكذا حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين فإنه أطلق مسح الرأس ولم يقيده. قال الحافظ: وفي رواية يعني من حديث عبد الله: ومسح برأسه مرة واحدة. وكذا حديث ابن عباس الآتي بعد هذا فإنه قيد المسح فيه بمرة واحدة. وأخرج أبو داود من طريق ابن أبي ليلى قال: رأيت عليا توضأ وفيه: ومسح برأسه واحدة ثم قال: هكذا توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج أيضا من طريق ابن جريج أن عليا مسح برأسه مرة واحدة. وأخرج الترمذي من حديث الربيع بلفظ: أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ قالت: مسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة وقال: حسن صحيح. وفي تصحيحه نظر، فإنه رواه من طريق ابن عقيل. وروى النسائي من حديث الحسين بن علي عن أبيه أنه مسح برأسه مرة واحدة. ورواه الامام أحمد
[ 197 ]
والبيهقي من حديث عبد خير عن علي بلفظ مرة واحدة. ورواه البيهقي من حديث زر بن حبيش بلفظ: ومسح رأسه حتى لما يقطر الماء. وأخرج النسائي من حديث عائشة في تعليمها لوضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ومسحت رأسها مسحة واحدة. والحديث يدل على أن السنة في مسح الرأس أن يكون مرة واحدة، وقد اختلف في ذلك، فذهب عطاء وأكثر العترة والشافعي إلى أنه يستحب تثليث مسحه كسائر الاعضاء. واستدلوا على ذلك بما في حديث علي وعثمان أنهما مسحا ثلاث مرات وفي كلا الحديثين مقال. أما حديث علي فهو عند الدارقطني من طريق عبد خير من رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة عن خالد بن علقمة عنه وقال: إن أبا حنيفة خالف الحفاظ في ذلك فقال ثلاثا وإنما هو مرة واحدة. وهو أيضا عند الدارقطني من طريق عبد الملك بن سلع عن عبد خير بلفظ: ومسح برأسه وأذنيه ثلاثا ومنها عند البيهقي في الخلافيات من طريق أبي حية عن علي وأخرجه البزار أيضا. ومنها عند البيهقي في السنن من طريق محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي في صفة الوضوء. وعند الطبراني وفيه عبد العزيز بن عبيد الله قال الحافظ: وهو ضعيف. وأما حديث عثمان فرواه أبو داود: والبزار والدارقطني بلفظ: فمسح رأسه ثلاثا وفي إسناده عبد الرحمن بن وردان. قال أبو حاتم: ما به بأس وقال ابن معين: صالح وذكره ابن حبان في الثقات وتابعه هشام بن عروة، أخرجه البزار وأخرجه أيضا من طريق عبد الكريم عن حمران وإسناده ضعيف. ورواه أيضا من حديث أبي علقمة مولى ابن عباس عن عثمان وفيه ضعف. ورواه أبو داود وابن خزيمة والدارقطني من طريق عامر بن شقيق بلفظ: ومسح برأسه ثلاثا ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل مثل هذا وعامر بن شقيق مختلف فيه. ورواه أحمد والدارقطني وابن السكن وفي إسناده ابن دارة مجهول الحال. ورواه البيهقي من حديث عطاء بن أبي رباح عن عثمان وفيه انقطاع. ورواه الدارقطني وفيه ابن البيلماني وهو ضعيف جدا عن أبيه وهو أيضا ضعيف. ورواه أيضا بإسناد فيه إسحاق بن يحيى وليس بالقوي. ورواه البزار عن عثمان بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا وإسناده حسن وهو عند مسلم والبيهقي من وجه آخر، هكذا بدون تعرض لذكر المسح، قال البيهقي: روي من أوجه غريبة عن عثمان وفيها مسح الرأس ثلاثا: إلا أنها مع خلاف الحفاظ الثقات ليست بحجة عند أهل المعرفة
[ 198 ]
وإن كان بعض أصحابنا يحتج بها. ومثله مقالة أبي داود التي سيذكرها المصنف آخر الباب ومال ابن الجوزي في كشف المشكل إلى تصحيح التكرير. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: لا نعلم أحدا من السلف جاء عنه استكمال الثلاث في مسح الرأس إلا عن إبراهيم التيمي، قال: الحافظ: وقد رواه ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير وعطاء وزاذان وميسرة. وأورده أيضا من طريق أبي العلاء عن قتادة عن أنس. قال: وأغرب ما يذكر هنا أن الشيخ أبا حامد الاسفراييني حكى عن بعضهم أنه أوجب الثلاث، وحكاه صاحب الابانة عن ابن أبي ليلى. وذهب مجاهد والحسن البصري وأبو حنيفة والمؤيد بالله وأبو نصر من أصحاب الشافعي إلى أنه لا يستحب تكرار مسح الرأس، واحتجوا بما في الصحيحين من حديث عثمان وعبد الله بن زيد من إطلاق مسح الرأس مع ذكر تثليث غيره من الاعضاء. وبحديث الباب وما ذكرناه بعده من الروايات المصرحة بالمرة الواحدة، والانصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ إلى درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صح من الاحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبد الله بن زيد وغيرهما هو المتعين، لاسيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقة بالمرة الواحدة. وحديث من زاد على هذا فقد أساء وظلم الذي صححه ابن خزيمة وغيره قاض بالمنع من الزيادة على الوضوء الذي قال بعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المقالة، كيف وقد ورد في رواية سعيد بن منصور في هذا الحديث التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة ثم قال من زاد. قال الحافظ في الفتح: ويحمل ما ورد من الاحاديث في تثليث المسح إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح لا إنها مسحات مستقلة لجميع الرأس جمعا بين الادلة. (فائدة) ورد ذكر مسح الرأس مرتين عند النسائي من رواية عبد الله بن زيد. ومن حديث الربيع عند الترمذي وأبي داود وفيه المقال الذي تقدم. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ، فذكر الحديث كله ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة رواه أحمد وأبو داود. ولابي داود: عن عثمان رضي الله عنه: أنه توضأ مثل ذلك وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ. الحديث الاول أعله الدارقطني وتعقبه أبو الحسن بن القطان فقال: ما أعله به ليس
[ 199 ]
علة وأنه إما صحيح أو حسن. والحديث الثاني قد تقدم الكلام عليه في الذي قبله. قال المصنف رحمه الله: وقد سبق حديث عثمان المتفق عليه بذكر العدد ثلاثا ثلاثا إلا في الرأس، قال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا وقالوا فيها ومسح رأسه ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره انتهى. باب أن الاذنين من الرأس وأنهما تمسحان بمائه قد سبق في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه. ولابن ماجه من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الاذنان من الرأس. أراد بحديث ابن عباس الحديث قيل هذا الباب بلفظ: مسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة. وفي الباب عن أبي أمامة عند أبي داود والترمذي وابن ماجه قال الحافظ: إنه مدرج، قال الترمذي: وليس إسناده بذلك القائم. وعن عبد الله بن زيد قواه المنذري وابن دقيق العيد. قال الحافظ: وقد ثبت أنه مدرج. وعن ابن عباس رواه البزار وأعله الدارقطني بالاضطراب وقال: إنه وهم والصواب أنه مرسل. وعن أبي هريرة عند ابن ماجه وفيه عمرو بن الحصين وهو متروك. وعن أبي موسى عند الدارقطني واختلف في وقفه ورفعه وصوب الوقف قال الحافظ: وهو منقطع. وعن ابن عمر عند الدارقطني وأعله أيضا. وعن عائشة عند الدارقطني أيضا وفيه محمد بن الازهر وقد كذبه أحمد. وعن أنس عند الدارقطني أيضا من طريق عبد الحكم عن أنس وهو ضعيف. وحديث أبي أمامة وابن عباس أجود ما في الباب، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وأما حديث أنس وابن عمر وأبي موسى وعائشة فواهية والحديث يدل على أن الاذنين من الرأس فيمسحان معه وهو مذهب الجمهور. ومن العلماء من قال: هما من الوجه. ومنهم من قال: المقيل من الوجه والمدبر من الرأس. وقد ذكرنا نسبة ذلك إلى القائلين به في باب تعاهد المأقين. قال الترمذي والعمل: على هذا يعني كون الاذنين من الرأس عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعدهم، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق. واعتذر القائلون بأنهما ليستا من الرأس يضعف الاحاديث التي فيها الاذنان من الرأس حتى قال ابن الصلاح: أن ضعفها كثير لا ينجبر
[ 200 ]
بكثرة الطرق، ورد بأن حديث ابن عباس قد صرح أبو الحسن بن القطان أن ما أعله به الدارقطني ليس بعلة وصرح بأنه إما صحيح أو حسن. واختلف في مسح الاذنين هل هو واجب أم لا؟ فذهبت القاسمية وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل إلى أنه واجب، وذهب من عداهم إلى عدم الوجوب. واحتجوا بحديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح داخلهما بالسبابتين وخالف بإبهاميه إلى ظاهرهما فمسح ظاهرهما وباطنهما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، والحاكم والبيهقي، وصححه ابن خزيمة وابن منده، وقال ابن منده: لا يعرف مسح الاذنين من وجه يثبت إلا من هذه الطريق. وبحديث الربيع وطلحة بن مصرف والصنابحي، وأجيب عن ذلك بأنها أفعال لا تدل على الوجوب. قالوا: أحاديث الاذنان من الرأس بعضها يقوي بعضا وقد تضمنت أنهما من الرأس، فيكون الامر بمسح الرأس أمرا بمسحهما فيثبت وجوبه بالنص القرآني. وأجيب بعدم انتهاض الاحاديث الواردة لذلك والمتيقن الاستحباب، فلا يصار إلى الوجوب إلا بدليل ناهض، وإلا كان من التقول على الله بما لم يقل. وعن الصنابحي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه وذكر الحديث وفيه: فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه رواه مالك والنسائي وابن ماجه. الحديث رجاله رجال الصحيح، وقد ذكرناه في باب غسل ما استرسل من اللحية والكلام على أطرافه قد سبق هنالك. وقد سلفه المصنف هنا للاستدلال به على أن الاذنين يمسحان مع الرأس، قال: فقوله تخرج من أذنيه إذا مسح رأسه دليل على أن الاذنين داخلتان في مسماه ومن جملته انتهى. وقد اختلف الناس في ذلك وقد تقدم ذكر الخلاف، واختلفوا هل يمسحان ببقية ماء الرأس أو بماء جديد؟ فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والمؤيد بالله إلى أنه يؤخذ لهما ماء جديد؟ وذهب الهادي والثوري، وأبو حنيفة إلى أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد. قال ابن عبد البر: وروي عن جماعة مثل هذا القول من الصحابة والتابعين. واحتج الاولون بما في حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه توضأ فمسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به الرأس أخرجه الحاكم من طريق حرملة عن ابن وهب؟ قال الحافظ: إسناده ظاهره الصحة وأخرجه البيهقي من طريق عثمان الدارمي عن الهيثم بن خارجة عن
[ 201 ]
ابن وهب بلفظ: فأخذ لاذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذ لرأسه وقال: هذا إسناد صحيح، لكن ذكر الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في الامام أنه رأى في رواية ابن المقبري عن ابن قتيبة عن حرملة بهذا الاسناد ولفظه: ومسح برأسه بماء غير فضل يديه لم يذكر الاذنين، قال الحافظ قلت: كذا هو في صحيح ابن حبان عن ابن سلم عن حرملة، وكذا رواه الترمذي عن علي بن خشرم عن ابن وهب. وقال عبد الحق: ورد الامر بتجديد الماء للاذنين من حديث نمران بن جارية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعقبه ابن القطان بأن الذي في رواية جارية بلفظ: خذ للرأس ماء جديدا رواه البزار والطبراني وروي في الموطأ عن نافع عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ يأخذ الماء بأصبعيه لاذنيه وصرح الحافظ في بلوغ المرام بعد أن ذكر حديث البيهقي السابق أن المحفوظ ما عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: ومسح برأسه بماء غير فضل يديه وأجاب القائلون أنهما يمسحان بماء الرأس بما سلف من إعلال هذا الحديث: قالوا: فيوقف على ما ثبت من مسحهما مع الرأس كما في حديث ابن عباس والربيع وغيرهما. قال ابن القيم في الهدي: لم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدا وإنما صح ذلك عن ابن عمر. باب مسح ظاهر الاذنين وباطنهما عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما رواه الترمذي وصححه والنسائي: مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالمسبحتين وظاهرهما بإبهاميه. وصححه ابن خزيمة وابن منده وأخرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي بألفاظ مقاربة للفظ الكتاب. قال ابن منده ولا يعرف مسح الاذن من وجه يثبت إلا من هذه الطريق. قال الحافظ: وكأنه عني بهذا التفصيل والوصف. وفي المستدرك للحاكم من حديث الربيع بنت معوذ باللفظ الذي مر في باب مسح الرأس كله. وأخرجه أيضا من حديث أنس مرفوعا والصواب أنه عن ابن مسعود موقوفا. وأخرج أبو داود والطحاوي من حديث المقدام بن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح في وضوئه رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه قال الحافظ: وإسناده حسن، وغزاه النووي تبعا لابن الصلاح إلى النسائي وهو وهم. وفي الباب عن عثمان عند
[ 202 ]
أحمد والحاكم والدارقطني. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه الطحاوي. والحديث يدل على مشروعية مسح الاذنين ظاهرا وباطنا، وقد تقدم الخلاف فيه في الباب الذي قبل هذا، ولم يذكر فيه للاذنين ماء جديدا، وبه تمسك من قال: يمسحان ببقية ماء الرأس، وقد تقدم الكلام فيه في الحديث الذي قبله. باب مسح الصدغين وأنهما من الرأس عن الربيع بنت معوذ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فمسح برأسه ومسح ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن. حديث الربيع قد تقدم الكلام عليه في باب مسح الرأس كله، وتقدم أن مدار جميع رواياته على ابن عقيل وفيه مقال. قوله: وصدغيه الصدغ بضم الصاد المهملة وسكون الدال الموضع الذي بين العين والاذن والشعر المتدلي على ذلك الموضع. والحديث يدل على مشروعية مسح الصدغ والاذن. وأن مسحهما مع الرأس. وأنه مرة واحدة وقد تقدم الكلام على ذلك. باب مسح العنق عن ليث عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق رواه أحمد. الحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. قال ابن حبان: كان يقلب الاسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم، تركه يحيى بن القطان وابن مهدي وابن معين وأحمد بن حنبل. قال النووي في تهذيب الاسماء: اتفق العلماء على ضعفه. وأخرج الحديث أبو داود، وذكر له علة أخرى عن أحمد بن حنبل قال: كان ابن عيينة ينكره ويقول: إيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده؟ وكذا حكى عثمان الدارمي عن علي بن المديني وزاد: سألت عبد الرحمن بن مهدي عن اسم جده فقال: عمرو بن كعب أو كعب بن عمرو وكانت له صحبة. وقال الدوري عن ابن معين: المحدثون يقولون إن جد طلحة رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته يقولون
[ 203 ]
ليست له صحبة. وقال الخلال عن أبي داود: سمعت رجلا من ولد طلحة يقول: إن لجده صحبة. وقال ابن أبي حاتم في العلل: سألت أبي عنه فلم يثبته وقال: إن طلحة هذا يقال إنه رجل من الانصار، ومنهم من يقول: طلحة بن مصرف، قال: ولو كان طلحة بن مصرف لم يختلف فيه. وقال ابن القطان: علة الخبر عندي الجهل بحال مصرف بن عمرو والد طلحة وصرح بأنه طلحة بن مصرف. وكذلك صرح بذلك ابن السكن وابن مردويه في كتاب أولاد المحدثين، ويعقوب بن سفيان في تاريخه، وابن أبي خيثمة أيضا وخلق. وفي الباب حديث: مسح الرقبة أمان من الغل قال ابن الصلاح: هذا الخبر غير معروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من قول بعض السلف. وقال النووي في شرح المهذب: هذا حديث موضوع ليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال في موضع آخر. لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه شئ، قال: وليس هو بسنة بل بدعة. وقال ابن القيم في الهدي: لم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة. وروى القاسم بن سلام في كتاب الطهور عن عبد الرحمن بن مهدي عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن موسى بن طلحة قال: من مسح قفاه مع رأسه وقي الغل يوم القيامة. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: فيحتمل أن يقال هذا، وإن كان موقوفا فله حكم الرفع لان هذا لا يقال من قبيل الرأي فهو على هذا مرسل انتهى. وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان قال: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا عبد الرحمن بن داود، حدثنا عثمان بن خرزاذ، حدثنا عمر بن محمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عمرو الانصاري، عن أنس بن سيرين، عن ابن عمر أنه كان إذا توضأ مسح عنقه ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من توضأ ومسح عنقه لم يغل بالاغلال يوم القيامة والانصاري هذا واه. قال الحافظ: قرأت جزءا رواه أبو الحسين بن فارس بإسناده عن فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من توضأ ومسح بيديه على عنقه وقي الغل يوم القيامة وقال: إن شاء الله هذا حديث صحيح. قلت: بين ابن فارس وفليح مفاز فلينظر فيها انتهى. وهو في كتب أئمة العترة في أمالي أحمد بن عيسى وشرح التجريد بإسناد متصل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن فيه الحسين بن علوان عن أبي خالد الواسطي بلفظ: من توضأ ومسح سالفتيه وقفاه أمن الغل يوم القيامة وكذا رواه في أصول الاحكام والشفاء. ورواه في التجريد عن علي عليه
[ 204 ]
السلام من طريق محمد ابن الحنفية في حديث طويل وفيه: أنه لما مسح رأسه مسح عنقه وقال له بعد فراغه من الطهور: افعل كفعالي هذا وبجميع هذا تعلم أن قول النووي مسح الرقبة بدعة وأن حديثه موضوع مجازفة، وأعجب من هذا قوله ولم يذكره الشافعي ولا جمهور الاصحاب وإنما قاله ابن القاص وطائفة يسيرة، فإنه قال الروياني من أصحاب الشافعي في كتابه المعروف بالبحر ما لفظه: قال أصحابنا: هو سنة، وتعقب النووي أيضا ابن الرفعة بأن البغوي وهو من أئمة الحديث قد قال باستحبابه، قال: ولا مأخذ لاستحبابه إلا خبر أو أثر، لان هذا لا مجال للقياس فيه. قال الحافظ: ولعل مستند البغوي في استحباب مسح القفا ما رواه أحمد وأبو داود وذكر حديث الباب، ونسب حديث الباب ابن سيد الناس في شرح الترمذي إلى البيهقي أيضا قال: وفيه زيادة حسنة وهي مسح العنق. فانظر كيف صرح هذا الحافظ بأن هذه الزيادة المتضمنة لمسح العنق حسنة ثم قال قال المقدسي: وليث متكلم فيه، وأجاب عن ذلك بأن مسلما قد أخرج له، واختلف القائلون باستحباب مسح الرقبة هل تمسح ببقية ماء الرأس أو بماء جديد؟ فقال الهادي والقاسم: تمسح ببقية ماء الرأس، وقال المؤيد بالله والمنصور بالله ونسبه في البحر إلى الفريقين: إنها تمسح بماء جديد. باب جواز المسح على العمامة عن عمرو بن أمية الضمري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على عمامته وخفيه رواه أحمد والبخاري وابن ماجه. وعن بلال قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخفين والخمار رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود. وفي رواية لاحمد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: امسحوا على الخفين والخمار. وعن المغيرة بن شعبة قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومسح على الخفين والعمامة رواه الترمذي وصححه. أخرج حديث المغيرة بن شعبة أيضا مسلم في صحيحه بلفظ: فمسح بناصيته وعلى العمامة وعلى الخفين ولم يخرجه البخاري: قال الحافظ: وقد وهم المنذري فعزاه إلى المتفق عليه، وتبع في ذلك ابن الجوزي فوهم وقد تعقبه ابن عبد الهادي، وصرح عبد الحق في الجمع بين الصحيحين نه من أفراد مسلم، وقد أعل حديث عمرو بن أمية
[ 205 ]
المذكور في الباب بتفرد الاوزاعي بذكر العمامة، حتى قال ابن بطال أنه قال الاصيلي ذكر العمامة في هذا الباب من خطأ الاوزاعي لان شيبان وغيره رووه عن يحيى بدونها، فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحد، قال: وأما متابعة معمر فليس فيها ذكر العمامة وهي أيضا مرسلة لان أبا سلمة لم يسمع من عمرو. قال الحافظ: سماعه منه ممكن فإنه مات بالمدينة سنة ستين وأبو سلمة مدني ولم يوصف بتدليس، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو، وقد أخرجه ابن منده من طريق معمر بإثبات ذكر العمامة فيه، وعلى تقدير تفرد الاوزاعي بذكرها لا يستلزم ذلك تخطئته، لانها تكون من ثقة حافظ غير منافية لرواية رفقته فتقبل ولا تكون شاذة، ولا معنى لرد الروايات الصحيحة بهذه التعليلات الواهية. وقد أطال الكلام على ذلك ابن سيد الناس في شرح الترمذي فليرجع إليه. وفي الباب عن أبي أمامة عند الطبراني بلفظ: مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخفين والعمامة في غزوة تبوك وعن أبي موسى الاشعري عند الطبراني أيضا بلفظ: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمسح على الجوربين والنعلين والعمامة قال الطبراني: تفرد به عيسى بن سنان. وعن خزيمة بن ثابت عند الطبراني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمسح على الخفين والخمار وعن أبي طلحة في كتاب مكارم الاخلاق للخرائطي بلفظ: مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخمار والخفين وقد روي عن جماعة من الصحابة. وفي الباب عن سلمان وثوبان وسيأتي ذلك. وقد اختلف الناس في المسح على العمامة، فذهب إلى جوازه الاوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي، وقال الشافعي: إن صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبه أقول: قال الترمذي وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم أبو بكر وعمر وأنس، ورواه ابن رسلان عن أبي أمامة وسعد بن مالك وأبي الدرداء وعمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة ومكحول. وروى الخلال بإسناده عن عمر أنه قال: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله. ورواه في الفتح عن الطبري وابن خزيمة وابن المنذر. واختلفوا هل يحتاج الماسح على العمامة إلى لبسها على طهارة أو لا يحتاج؟ فقال أبو ثور: لا يمسح على العمامة والخمار إلا من لبسهما على طهارة قياسا على الخفين ولم يشترط ذلك الباقون، وكذلك اختلفوا في التوقيت فقال أبو ثور أيضا: إن وقته كوقت المسح على الخفين،
[ 206 ]
وروى مثل ذلك عن عمر والباقون لم يوقتوا. قال ابن حزم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على العمامة والخمار ولم يوقت ذلك بوقت. وفيه أن الطبراني قد روى من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان يمسح على الخفين والعمامة ثلاثا في السفر ويوما وليلة في الحضر لكن في إسناده مروان أبو سلمة. قال ابن أبي حاتم: ليس بالقوي. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال الازدي: ليس بشئ. وسئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: ليس بصحيح. استدل القائلون بجواز المسح على العمامة بما ذكره المصنف وذكرناه في هذا الباب من الاحاديث. وذهب الجمهور كما قاله الحافظ في الفتح إلى عدم جواز الاقتصار على مسح العمامة، ونسبه المهدي في البحر إلى الكثير من العلماء. قال الترمذي: وقال غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يمسح على العمامة إلا أن يمسح برأسه مع العمامة، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك والشافعي، وإليه ذهب أيضا أبو حنيفة، واحتجوا بأن الله فرض المسح على الرأس، والحديث في العمامة محتمل التأويل فلا يترك المتيقن للمحتمل، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس، ورد بأنه أجزأ المسح على الشعر ولا يسمى رأسا. (فإن قيل) يسمى رأسا مجازا بعلاقة المجاورة. قيل: والعمامة كذلك بتلك العلاقة فإنه يقال: قبلت رأسه والتقبيل على العمامة. والحاصل أنه قد ثبت المسح على الرأس فقط وعلى العمامة فقط، وعلى الرأس والعمامة، والكل صحيح ثابت، فقصر الاجزاء على بعض ما ورد لغير موجب ليس من دأب المنصفين. قوله: والخمار هو بكسر الخاء المعجمة النصيف، وكل ماستر شيئا فهو خماره، كذا في القاموس، والمراد به هنا العمامة كما صرح بذلك النووي في شرح مسلم قال: لانها تخمر الرأس أي تغطيه. ويؤيده الحديث الذي بعد هذا. وعن سلمان: أنه رأى رجلا قد أحدث وهو يريد أن يخلع خفيه فأمره سلمان أن يمسح على خفيه وعلى عمامته وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على خفيه وعلى خماره. وعن ثوبان قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الخفين والخمار رواهما أحمد. وعن ثوبان قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فأصابهم البرد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين رواه أحمد وأبو داود. العصائب: العمائم، والتساخين: الخفاف.
[ 207 ]
حديث سلمان أخرجه أيضا الترمذي في العلل ولكنه قال مكان وعلى خماره وعلى ناصيته، وفي إسناده أبو شريح، قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عنه ما اسمه؟ فقال: لا أدري لا أعرف اسمه. وفي إسناده أيضا أبو مسلم مولى زيد بن صوحان وهو مجهول، قال الترمذي: لا أعرف اسمه ولا أعرف له غير هذا الحديث. وأما حديث ثوبان الاول فأخرجه أيضا الحاكم والطبراني وحديثه الثاني في إسناده راشد بن سعد عن ثوبان قال الخلال في علله: إن أحمد قال: لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان لانه مات قديما. والاحاديث تدل على أنه يجزئ المسح على العمامة وقد تقدم الكلام عليه وتدل على جواز المسح على الخف وسيأتي قوله: العصائب هي العمائم، كما قال المصنف، وبذلك فسرها أبو عبيد، سميت بذلك لان الرأس يعصب بها، فكل ما عصبت به رأسك من عمامة ومنديل أو عصابة فهو عصابة. قوله: والتساخين بفتح التاء الفوقية والسين المهملة المخففة وبالخاء المعجمة هي الخفاف كما قال المصنف رحمه الله قال ابن رسلان: ويقال أصل ذلك كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما، ولا واحد لهما من لفظها، وقيل: واحدها تسخان وتسخين، هكذا في كتب اللغة والغريب. باب مسح ما يظهر من الرأس غالبا مع العمامة عن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين متفق عليه. قد قدمنا أن البخاري لم يخرجه، وأن المنذري وابن الجوزي وهما في ذلك كما قاله الحافظ. والمصنف قد تبعهما في ذلك فتنبه. وهو يدل على ما ذهب إليه الشافعي ومن معه من أنه لا يجوز الاقتصار على العمامة بل لا بدمع ذلك من المسح على الناصية، وقد تقدم في الباب الاول ذكر الخلاف والادلة وما هو الحق. باب غسل الرجلين وبيان أنه الفرض عن عبد الله بن عمر قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال: فنادى بأعلى صوته: ويل للاعقاب من النار مرتين أو ثلاثا متفق عليه. أرهقنا العصر: أخرناها، ويروى أرهقتنا العصر بمعنى دنا وقتها.
[ 208 ]
في الباب أحاديث غير ما ذكره المصنف في هذا الكتاب. منها عن عائشة عند مسلم، وعن معيقيب عند أحمد وقد علل. وقيل: ليس بشئ. وعن خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة. وعمرو بن العاص عند ابن ماجه بلفظ: أتموا الوضوء ويل للاعقاب من النار وعن عبد الله بن عمر عند ابن أبي شيبة، وعن أبي أمامة عند ابن أبي شيبة أيضا. وقد روي من حديث أبي أمامة، ومن حديث أخيه، ومن حديثهما معا، ومن حديث أحدهما على الشك قاله ابن سيد الناس. وعن عمر بن الخطاب عند مسلم، وعن أبي ذر الغفاري وفيه أبو أمية وهو ضعيف، وعن خالد بن معدان عند أحمد. قوله: في سفرة وقع في صحيح مسلم أنها كانت من مكة إلى المدينة. قوله: أرهقنا قال الحافظ: بفتح الهاء والقاف، والعصر مرفوع. بالفاعلية كذا لابي ذر. وفي رواية كريمة بإسكان القاف، والعصر منصوب بالمفعولية. ويقوي الاول رواية الاصيلي: أرهقنا بفتح القاف بعدها مثناة ساكنة، ومعنى الارهاق الادراك والغشيان، قال ابن بطال: كأن الصحابة أخروا الصلاة في أول الوقت طمعا أن يلحقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيصلوا معه، فلما ضاق الوقت بادروا إلى الوضوء، ولعجلتهم لم يسبغوه فأدركهم على ذلك فأنكر عليهم. قوله: ونمسح على أرجلنا انتزع منه البخاري أن الانكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل، قال الحافظ: وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها. وفي أفراد مسلم: فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسها الماء فتمسك بهذا من يقول بإجزاء المسح ويحمل الانكار على ترك التعميم، لكن الرواية المتفق عليها أرجح، فتحمل هذه الرواية عليها بالتأويل وهو أن معنى قوله: لم يمسها الماء أي ماء الغسل جمعا بين الروايتين. وأصرح من ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال ذلك. قوله: ويل جاز الابتداء بالنكرة لانها دعاء والويل واد في جهنم رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعا، والعقب مؤخر القدم وهي مؤنثة ويكسر القاف ويسكن، وخص العقب بالعذاب لانها التي لم تغسل أو أراد صاحب العقب فحذف المضاف. والحديث يدل على وجوب غسل الرجلين وإلى ذلك ذهب الجمهور، قال النووي: اختلف الناس على مذاهب، فذهب جميع الفقهاء من أهل الفتوى في الاعصار والامصار إلى أن الواجب غسل القدمين مع الكعبين ولا يجزئ مسحهما، ولا يجب المسح مع الغسل، ولم يثبت خلاف هذا عن أحد
[ 209 ]
يعتد به في الاجماع، قال الحافظ في الفتح: ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن علي وابن عباس وأنس، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك. قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على غسل القدمين، رواه سعيد بن منصور، وادعى الطحاوي وابن حزم أن المسح منسوخ، وقالت الامامية الواجب مسحهما. وقال محمد بن جرير الطبري والجبائي والحسن البصري أنه مخير بين الغسل والمسح. وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين الغسل والمسح. واحتج من لم يوجب غسل الرجلين بقراءة الجر في قوله: * (وأرجلكم) * (المائدة: 6) وهو عطف على قوله: * (برؤوسكم) * (المائدة: 6) قالوا: وهي قراءة صحيحة سبعية مستفيضة، والقول بالعطف على غسل الوجوه، وإنما قرئ بالجر للجوار، وقد حكم بجوازه جماعة من أئمة الاعراب كسيبويه والاخفش لا شك أنه قليل نادر مخالف للظاهر لا يجوز حمل المتنازع فيه عليه. قلنا: أوجب الحمل عليه مداومته صلى الله عليه وآله وسلم على غسل الرجلين وعدم ثبوت المسح عنه من وجه صحيح وتوعده على المسح بقوله: ويل للاعقاب من النار ولامره بالغسل كما ثبت في حديث جابر عند الدارقطني بلفظ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا توضأنا للصلاة أن نغسل أرجلنا ولثبوت ذلك من قوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث عمرو بن عبسة وأبي هريرة، وقد سلف ذكر طرف من ذلك في باب غسل المسترسل من اللحية. ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن توضأ وضوءا غسل فيه قدميه: فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة من طرق صحيحة وصححه ابن خزيمة. ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص. وبقوله للاعرابي توضأ كما أمرك الله ثم ذكر له صفة الوضوء وفيها غسل الرجلين. وبإجماع الصحابة على الغسل فكانت هذه الامور موجبة لحمل تلك القراءة على ذلك الوجه النادر، قالوا: أخرج أبو داود من حديث أوس بن أبي أوس الثقفي: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى كظامة قوم فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه قلنا: في رجال إسناده يعلى بن عطاء عن أبيه وقد أعله ابن القطان بالجهالة في عطاء، وبأن في الرواة من يرويه عن أوس بن أبي أوس عن أبيه، فزيادة عن أبيه توجب كون أوس من التابعين فيحتاج إلى النظر في حاله، وأيضا في رجال إسناده هشيم عن يعلى، قال أحمد: لم يسمع هشيم هذا من يعلى مع ما عرف من تدليس هشيم. ويمكن الجواب عن هذه بأنه قد وثق عطاء
[ 210 ]
هذا أبو حاتم، وذكر أوس بن أبي أوس أبو عمر بن عبد البر في الصحابة، وبأن هشيما قد صرح بالتحديث عن يعلى في رواية سعيد بن منصور فأزال إشكال عنعنة هشيم، ولكن قال أبو عمر في ترجمة أوس بن أبي أوس: وله أحاديث منها في المسح على القدمين وفي إسناده ضعف، فلا يكون الحديث مع هذا حجة لاسيما بعد تصريح أحمد بعدم سماع هشيم من يعلى. قالوا: أخرج الطبراني عن عباد بن تميم عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ ويمسح على رجليه قلنا: قال أبو عمر في صحبة تميم هذا نظر وضعف حديثه المذكور. الوا: أخرج الدارقطني عن رفاعة بن رافع مرفوعا بلفظ: لا تتم صلاة أحدكم وفيه ويمسح برأسه ورجليه قلنا: إن صح فلا ينتهض لمعارضة ما أسلفنا فوجب تأويله لمثل ما ذكرنا في الآية، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: قال الحازمي بعد ذكره حديث أوس بن أبي أوس المتقدم من طريق يحيى بن سعيد: لا يعرف هذا الحديث مجودا متصلا إلا من حديث يعلى، وفيه اختلاف وعلى تقدير ثبوته ذهب بعضهم إلى نسخه، ثم أورده من طريق هشيم وفي آخره قال هشيم: كان هذا في أول الاسلام. وأما الموجبون للمسح وهم الامامية فلم يأتوا مع مخالفتهم للكتاب والسنة المتواترة قولا وفعلا بحجة نيرة، وجعلوا قراءة النصب عطفا على محل قوله: برؤوسكم. ومنهم من يجعل الباء الداخلة على الرؤوس زائدة والاصل: امسحوا رؤوسكم وأرجلكم، وما أدري بماذا يجيبون عن الاحاديث المتواتر. (فائدة) قد صرح العلامة الزمخشري في كشافه بالنكتة المقتضية لذكر الغسل والمسح في الارجل فقال: هي توقي الاسراف لان الارجل مظنة لذلك، وذكر غيره غيرها فليطلب ذلك في مظانه. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال: ويل للاعقاب من النار رواه مسلم. وعن جابر بن عبد الله قال: رأى
[ 211 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما توضأوا ولم يمس أعقابهم الماء فقال: ويل للاعقاب من النار رواه أحمد. وعن عبد الله بن الحرث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ويل للاعقاب وبطون الاقدام من النار رواه أحمد والدار قطني. وعن جرير بن حازم عن قتادة عن أنس بن مالك: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد توضأ وترك على ظهر قدميه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارجع فأحسن وضوءك رواه أحمد وأبو داود والدارقطني. وقال: تفرد به جرير بن حازم عن قتادة وهو ثقة. حديث أبي هريرة هو في الصحيحين من حديث محمد بن زياد. ورواه البخاري عن آدم ومسلم عن قتيبة وابن أبي شيبة. وأخرجاه أيضا من حديث ابن سيرين عنه، ورواه ابن ماجه وغيره. وحديث جابر رواه ابن ماجه أيضا بإسناد رجاله ثقات. وحديث عبد الله بن الحرث رواه من ذكره المصنف ولم يتكلم عليه أحد بشئ في إسناده، وقد قال في مجمع الزوائد أن رجاله ثقات. وحديث أنس رواه ابن ماجه أيضا وابن خزيمة، إلا أنه قال الحافظ: إن أبا داود رواه من طريق خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنحوه. قال البيهقي: هو مرسل، وكذا قال ابن القطان: وفيه بحث. قال الاثرم: قلت لاحمد بن حنبل: هذا إسناد جيد؟ قال: نعم، قال فقلت له: إذا قال رجل من التابعين حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسمه فالحديث صحيح؟ قال: نعم. وأعله المنذري بأن فيه بقية وقال عن بجير وهو مدلس. وفي المستدرك تصريح بقية بالتحديث. وأطلق النووي أن الحديث ضعيف الاسناد. قال الحافظ: وفي هذا الاطلاق نظر. وأما حديث ابن عمر عن أبي بكر وعمر قالا: جاء رجل وقد توضأ وبقي على ظهر قدمه مثل ظفر إبهامه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ارجع فأتم وضوءك ففعل. فرواه الدارقطني ورواه الطبراني عن أبي بكر وفيه المغيرة بن صقلاب عن الوازع بن نافع. قال ابن أبي حاتم عن أبيه: هذا باطل والوازع ضعيف، وذكره العقيلي في الضعفاء في ترجمة المغيرة وقال: لا يتابعه عليه إلا مثله. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يغتسل من الجنابة فيخطئ بعض جسده فقال: ليغسل ذلك المكان ثم ليصل وفي إسناده عاصم بن عبد العزيز. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بإعادة الوضوء، وأعله
[ 212 ]
ابن أبي حاتم بالارسال وأصله في صحيح مسلم، وأبهم المتوضئ. ولفظه فقال: ارجع فأحسن وضوءك وهو يدل على وجوب الاعادة إذا ترك غسل مثل ذلك المقدار من مواضع الوضوء، وسيأتي الكلام على ذلك في باب الموالاة. وهذه الاحاديث تدل على وجوب غسل الرجلين وقد تقدم الكلام على ذلك في أول الباب. باب التيمن في الوضوء عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله متفق عليه الحديث صححه ابن حبان وابن منده وله ألفاظ، ولفظ ابن حبان: كان يحب التيامن في كل شئ حتى في الترجل والانتعال وفي لفظ ابن منده: كان يحب التيامن في الوضوء والانتعال. وفي لفظ لابي داود: كان يحب التيامن ما استطاع في شأنه كله. وفي الحديث دلالة على مشروعية الابتداء باليمين في لبس النعال وفي ترجيل الشعر أي تسريحه. وفي الطهور فيبدأ بيده اليمنى قبل اليسرى، وبرجله اليمنى قبل اليسرى، وبالجانب الايمن من سائر البدن في الغسل قبل الايسر. والتيامن سنة في جميع الاشياء لا يختص بشئ دون شئ، كما أشار إلى ذلك الحديث بقوله: وفي شأنه كله وتأكيد الشأن بلفظ كل يدل على التعميم، وقد خص من ذلك دخول الخلاء والخروج من المسجد. قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها استحب فيه التياسر، قال: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فإنه الفضل وتم وضوؤءه قال الحافظ في الفتح: ومراده بالعلماء أهل السنة، وإلا فمذهب الشيعة الوجوب، وغلط المرتضى منهم فنسبه للشافعي وكأنه ظن أن ذلك لازم من قوله بوجوب الترتيب، لكنه لم يقل بذلك في اليدين ولا في الرجلين لانهما بمنزلة العضو الواحد، قال: ووقع في البيان للعمراني نسبة القول بالوجوب إلى الفقهاء السبعة وهو تصحيف من الشيعة. وفي كلام الرافعي ما يوهم أن أحمد قال بوجوبه، ولا يعرف ذلك عنه بل قال الشيخ الموفق في المغني: لا تعلم في عدم الوجوب خلافا، وقد نسبه المهدي في البحر إلى العترة والامامية، واستدل لهم بالحديث الذي بعد هذا وسنذكر هنالك ما هو الحق.
[ 213 ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي، كلهم من طريق زهير عن الاعمش عن أبي صالح عنه. قال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصح. وللنسائي والترمذي من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا لبس قميصا بدأ بميامنه. والحديث يدل على وجوب الابتداء باليد اليمنى والرجل اليمنى في الوضوء، وقد ذهب إليه من ذكرنا في الحديث الذي قبل هذا، ولكنه كما دل على وجوب التيامن في الوضوء يدل على وجوبه في اللبس وهم لا يقولون به. وأيضا فقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء، رواه الدارقطني قال: جاء رجل إلى علي عليه السلام فسأله عن الوضوء فقال: ابدأ باليمين أو بالشمال فأضرط به على أي صوت بفيه مستهزئا بالسائل ثم دعا بماء وبدأ بالشمال قبل اليمين. وروى البيهقي من هذا الوجه أنه قال: ما أبالي بدأت بالشمال قبل اليمين إذا توضأت، وبهذا اللفظ رواه ابن أبي شيبة. وروى أبو عبيد في الطهور أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه فبلغ ذلك عليا فبدأ بمياسره. ورواه أحمد بن حنبل عن علي. قال الحافظ: وفيه انقطاع وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا، وكلام علي عند أكثر العترة الذاهبين إلى وجوب الترتيب بين اليدين والرجلين حجة. وحديث عائشة المصرح بمحبة التيمن في أمور قد اتفق على عدم الوجوب في جميعها إلا في اليدين والرجلين في الوضوء، وكذلك حديث الباب المقترن بالتيامن في اللبس المجمع على عدم وجوبه صالح لجعله قرينة تصرف الامر إلى الندب. ودلالة الاقتران وإن كانت ضعيفة لكنها لا تقتصر عن الصلاحية للصرف ولاسيما مع اعتضادها بقول علي عليه السلام وفعله وبدعوى الاجماع على عدم الوجوب. باب الوضوء مرة ومرتين وثلاثا وكراهة ما جاوزها عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة مرة رواه الجماعة إلا مسلما. في الباب أحاديث عن عمر وجابر وبريدة وأبي رافع وابن الفاكه وعبد الله بن عمر وعكراش بن ذؤيب المري. فحديث عمر عند الترمذي وقال: ليس بشئ، ورواه أيضا
[ 214 ]
ابن ماجه. وحديث جابر أشار إليه الترمذي. وحديث بريدة عند البزار. وحديث أبي رافع عند البزار أيضا. وحديث ابن الفاكه عند البغوي في معجمه وفيه عدي بن الفضل وهو متروك. وحديث عبد الله بن عمر أخرجه البزار. وحديث عكراش ذكره أبو بكر الخطيب. والحديث يدل على أن الواجب من الوضوء مرة ولهذا اقتصر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كان الواجب مرتين أو ثلاثا لما اقتصر على مرة. قال الشيخ محيي الدين النووي: وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الاعضاء مرة مرة وعلى أن الثلاث سنة، وقد جاءت الاحاديث الصحيحة بالغسل مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثا ثلاثا، وبعض الاعضاء ثلاثا وبعضها مرتين، والاختلاف دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال والواحدة تجزئ. وعن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ مرتين مرتين رواه أحمد والبخاري. في الباب عن أبي هريرة وجابر. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب وفيه عبد الله بن الفضل وقد روى له الجماعة، ولكنه تفرد عنه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ومن أجله كان حسنا، قال أبو داود: لا بأس به
[ 215 ]
وكان على المظالم ببغداد، وقال علي بن المديني: لا بأس به. وكذلك قال أحمد وأبو زرعة وقال أبو حاتم: يشوبه شئ من القدر وتغير عقله في آخر حياته وهو مستقيم الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال يحيى مرة ضعيف ومرة لا بأس به وفيه كلام طويل. وأما حديث جابر فأشار إليه الترمذي. والحديث يدل على أن التوضئ مرتين يجوز ويجزي ولا خلاف في ذلك. وعن عثمان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا رواه أحمد ومسلم. الحديث أخرجه بهذا اللفظ الترمذي وقال: هو أحسن شئ في الباب. وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث علي عليه السلام. وفي الباب عن الربيع وابن عمرو وأبي أمامة وعائشة وأبي رافع. وعبد الله بن عمرو. ومعاوية وأبي هريرة وجابر وعبد الله بن زيد وأبي. وقد بوب البخاري للوضوء ثلاثا، وذكر حديث عثمان الذي شرحناه في أول باب الوضوء وقد قدمنا أن التثليث سنة بالاجماع. [ رح ] وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا وقال: هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا أبو داود وابن خزيمة. قال الحافظ من طرق صحيحة: وصرح في الفتح أنه صححه ابن خزيمة وغيره، وهو في رواية أبي داود بلفظ: فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم بدون ذكر تعدى وفي النسائي بدون نقص وهو من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه مقال عند المحدثين، ولم يتعرض له من تكلم على هذا الحديث. وفي الحديث دليل على أن مجاوزة الثلاث الغسلات من الاعتداء في الطهور. وقد أخرج أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن مغفل أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنه سيكون في هذه الامة قوم يعتدون في الطهور والدعاء وأن فاعله مسئ وظالم أي أساء بترك الاولى وتعدي حد السنة. وظلم أي وضع الشئ في غير موضعه. وقد أشكل ما في رواية أبي داود من زيادة لفظ أو نقص على جماعة. قال الحافظ في التلخيص: (تنبيه) يجوز أن تكون الاساءة والظلم وغيرهما مما ذكر مجموعا لمن نقص ولمن زاد، ويجوز
[ 216 ]
أن يكون على التوزيع، فالاساءة في النقص والظلم في الزيادة، وهذا أشبه بالقواعد والاول أشبه بظاهر السياق والله أعلم انتهى. ويمكن توجيه الظلم في النقصان بأنه ظلم نفسه بما فوتها من الثواب الذي يحصل بالتثليث. وكذلك الاساءة لان تارك السنة مسئ. وأما الاعتداء في النقصان فمشكل فلا بد من توجيهه إلى الزيادة، ولهذا لم يجتمع ذكر الاعتداء والنقصان في شئ من روايات الحديث. ولا خلاف في كراهة الزيادة على الثلاث. قال ابن المبارك: لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم. وقال أحمد وإسحاق: لا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى. باب ما يقول إذا فرغ من وضوئه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبوا ب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء رواه أحمد ومسلم وأبو داود. ولاحمد وأبي داود في رواية: من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء فقال وساق الحديث. رواية أحمد وأبي داود في إسنادها رجل مجهول. والحديث أخرجه أيضا الترمذي بزيادة: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين لكن قال الترمذي: وفي إسناده اضطراب ولا يصح فيه كثير شئ. قال الحافظ: لكن رواية مسلم سالمة عن هذا الاعتراض، والزيادة التي عند الترمذي رواها البزار والطبراني في الاوسط، وأخرج الحديث أيضا ابن حبان. وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، وزاد النسائي في عمل اليوم والليلة بعد قوله: من المتطهرين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والحاكم في المستدرك من حديث أبي سعيد وزاد: كتبت في رق ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة واختلف في رفعه ووقفه، وصحح النسائي الموقوف، وضعف الحازمي الرواية المرفوعة لان الطبراني قال في الاوسط: لم يرفعه عن شعبة إلا يحيى بن كثير قال الحافظ: ورواه أبو إسحاق المزكي في الجزء الثاني من تخريج الدارقطني له من طريق روح بن القاسم عن شعبة وقال: تفرد به عيسى بن شعيب عن روح بن القاسم، ورجح الدارقطني في العلل الرواية الموقوفة. قال النووي في الاذكار:
[ 217 ]
حديث أبي سعيد هذا ضعيف الاسناد موقوفا ومرفوعا. قال الحافظ: أما المرفوع فيمكن أن يضعف بالاختلاف والشذوذ، وأما الموقوف فلا شك ولا ريب في صحته، ورجاله من رجال الصحيحين فلا معنى لحكمه عليه بالضعف. والحديث يدل على استحباب الدعاء المذكور، ولم يصح من أحاديث الدعاء في الوضوء غيره، وأما ما ذكره أصحابنا والشافعية في كتبهم من الدعاء عند كل عضو كقولهم يقال عند غسل الوجه: اللهم بيض وجهي الخ فقال الرافعي وغيره: ورد بهذه الدعوات الاثر عن الصالحين. وقال النووي في الروضة: هذا الدعاء لا أصل له. وقال ابن الصلاح: لا يصح فيه حديث. وقال الحافظ: روى فيه من طرق ثلاث عن علي ضعيفة جدا، أوردها المستغفري في الدعوات، وابن عساكر في أماليه، وهو من رواية أحمد بن مصعب المروزي عن حبيب بن أبي حبيب الشيباني عن أبي إسحاق السبيعي عن علي. وفي إسناده من لا يعرف، ورواه صاحب مسند الفرودس من طريق أبي زرعة الراوي عن أحمد بن عبد الله بن داود وساقه بإسناده إلى علي ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أنس نحو هذا وفيه عباد بن صهيب وهو متروك. ورواه المستغفري أيضا من حديث البراء بن عازب وأنس بطوله، وإسناده واه، ولكنه وثق عبادا يحيى بن معين ونفى عنه الكذب أحمد بن حنبل، وصدقه أبو داود وتركه الباقون. قال ابن القيم في الهدى: ولم يحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئا غير التسمية، وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه فكذب مختلق لم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا منه ولا علمه لامته، ولا يثبت عنه غير التسمية في أوله. وقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين في آخره. باب الموالاة في الوضوء عن خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلي في ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعيد الوضوء رواه أحمد وأبو داود وزاد: والصلاة. قال الاثرم: قلت لاحمد: هذا إسناده جيد؟ قال: جيد. وعن عمر بن الخطاب: أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله
[ 218 ]
عليه وآله وسلم فقال: ارجع فأحسن وضوءك، قال: فرجع فتوضأ ثم صلى رواه أحمد ومسلم ولم يذكر فتوضأ. الحديث الاول أعله المنذري ببقية بن الوليد وقال عن بجير وهو ضعيف إذا عنعن لتدليسه. وفي المستدرك تصريح بقية بالتحديث، وقال ابن القطان والبيهقي: هو مرسل. وقال الحافظ: فيه بحث، وكأن البحث في ذلك من جهة أن خالد بن معدان لم يرسله بل قال عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوصله، وجهالة الصحابي غير قادحة، وتمام كلام الاثرم وبقية الكلام على الحديث أسلفناها في باب غسل الرجلين. وحديث عمر قد قدمنا الكلام عليه في ذلك الباب أيضا. وفي الباب عن أنس مرفوعا عند أحمد وأبي داود وابن ماجه وابن خزيمة والدارقطني، وقد تقدم لفظه هنالك أيضا. والحديث الاول يدل على وجوب إعادة الوضوء من أوله على من ترك من غسل أعضائه مثل ذلك المقدار. والحديث الثاني لا يدل على وجوب الاعادة لانه أمره فيه بالاحسان لا بالاعادة، والاحسان يحصل بمجرد إسباغ غسل ذلك العضو. وكذلك حديث أنس لم يأمر فيه بسوي الاحسان. فالحديث الاول يدل على مذهب من قال بوجوب الموالاة، لان الامر بالاعادة للوضوء كاملا للاخلال بها بترك اللمعة وهو الاوزاعي ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قول له. والحديث الثاني وحديث أنس السابق يدلان على مذهب من قال بعدم الوجوب وهم العترة وأبو حنيفة والشافعي في قول له، والتمسك لوجوب الموالاة بحديث ابن عمر وأبي بن كعب أنه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ على الولاء وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به أظهر من التمسك بما ذكره المصنف في الباب لولا أنه غير صالح للاحتجاج كما عرفناك في شرح حديث عثمان لاسيما زيادة قوله: لا يقبل الله الصلاة إلا به وقد روي بلفظ: هذا الذي افترض الله عليكم بعد أن توضأ مرة، ولكنه قال ابن أبي حاتم: ثم سألت أبا زرعة عن هذا الحديث فقال: حديث واه منكر ضعيف، وقال مرة: لا أصل له وامتنع من قراءته. ورواه الدارقطني في غرائب مالك. قال الحافظ: ولم يروه مالك قط وروي بلفظ: هذا وضوء لا يقبل الله غيره أخرجه ابن السكن في صحيحه من حديث أنس. وقد أجيب عن الحديث على تسليم صلاحيته للاحتجاج بأن الاشارة هي إلى ذات الفعل مجردة عن الهيئة والزمان، وإلا لزم وجوبهما ولم يقل به أحد.
[ 219 ]
باب جواز المعاونة في الوضوء عن المغيرة بن شعبة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر وأنه ذهب لحاجة له، وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ، فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ومسح على الخفين أخرجاه. الحديث اتفقا عليه بلفظ: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فقال لي: يا مغيرة خذ الاداوة فأخذتها ثم خرجت معه وانطلق حتى توارى عني حتى قضى حاجته ثم جاء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فذهب يخرج يده من كمها فضاق فأخرج يده من أسفلها فصببت عليه فتوضأ وضوأه للصلاة ثم مسح على خفيه الحديث يدل على جواز الاستعانة بالغير في الوضوء، وقد قال بكراهتها العترة والفقهاء، قال في البحر: والصب جائزا إجماعا، إذ صبوا عليه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتوضأ. وقال الغزالي وغيره من أصحاب الشافعي: إنه إنما استعان به لاجل ضيق الكمين، وأنكره ابن الصلاح وقال: الحديث يدل على الاستعانة مطلقا لانه غسل وجهه أيضا وهو يصب عليه. وذكر بعض الفقهاء أن الاستعانة كانت بالسفر فأراد أن لا يتأخر عن الرفقة، قال الحافظ في التلخيص: وفيه نظر واستدل من قال بكراهة الاستعانة بقوله (ص) لعمر وقد بادر ليصب الماء على يديه: أنا لا أستعين في وضوئي بأحد قال النووي في شرح المهذب: هذا حديث باطل لا أصل له. وقد أخرجه البزار وأبو يعلى في مسنده من طريق النضر بن منصور عن أبي الجنوب عقبة بن علقمة، والنضر ضعيف مجهول لا يحتج به. قال عثمان الدارمي، قلت لابن معين: النضر بن منصور عن أبي الجنوب وعنه ابن أبي معشر تعرفه قال: هؤلاء حمالة الحطب. واستدلوا أيضا بحديث ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكل طهوره إلى أحد أخرجه ابن ماجه والدار قطني وفيه مطهر بن الهيثم وهو ضعيف. وقد ثبت أنه (ص) استعان بأسامة بن زيد في صب الماء على يديه في الصحيحين، وأنه استعان بالربيع بنت معوذ في صب الماء على يديه، أخرجه الدارمي وابن ماجه وأبو مسلم الكجي من حديثها، وعزاه ابن الصلاح إلى أبي داود والترمذي. قال الحافظ: وليس في رواية أبي داود إلا أنها أحضرت له الماء حسب، وأما الترمذي فلم يتعرض فيه للماء بالكلية، نعم في المستدرك أنها صبت على
[ 220 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الماء فتوضأ وقال لها: اسكبي. وروى ابن ماجه عن أم عياش أنها قالت: كنت أوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائمة وهو قاعد قال الحافظ: وإسناده ضعيف. واستعان في الصب بصفوان بن عسال وسيأتي، وغاية ما في هذه الاحاديث الاستعانة بالغير على صب الماء، وقد عرفت أنه مجمع على جوازه وأنه لا كراهة فيه، إنما النزاع في الاستعانة بالغير على غسل أعضاء الوضوء، والاحاديث التي فيها ذكر عدم الاستعانة لا شك في ضعفها، ولكنه لم يثبت عن النبي (ص) أنه وكل غسل أعضاء وضوئه إلى أحد، وكذلك لم يأت من أقواله ما يدل على جواز ذلك، بل فيها أمر المعلمين بأن يغسلوا وكل أحد منا مأمور بالوضوء، فمن قال إنه يجزي عن المكلف نيابة غيره في هذا الواجب فعليه الدليل. فالظاهر ما ذهبت إليه الظاهرية من عدم الاجزاء، وليس المطلوب مجرد الاثر كما قال بعضهم، بل ملاحظة التأثير في الامور التكليفية أمر لا بد منه، لان تعلق الطلب لشئ بذات قاض بلزوم إيجادها له وقيامه بها لغة وشرعا إلا لدليل يدل على عدم اللزوم، فما وجد من ذلك مخالفا لهذه الكلية فلذلك. وعن صفوان بن عسال قال: صببت الماء على النبي (ص) في السفر والحضر في الوضوء رواه ابن ماجه. الحديث أخرجه البخاري في التاريخ الكبير: قال الحافظ: وفيه ضعف، قلت: ولعل وجه الضعف كونه في إسناده حذيفة بن أبي حذيفة. وهو يدل على جواز الاستعانة بالغير في الصب، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله. باب المنديل بعد الوضوء والغسل عن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم في منزلنا فأمر له سعد بغسل فوضع له فاغتسل ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود. الحديث تمامه: فالتحف بها حتى رؤي أثر الورس على عكنه: ولفظ ابن ماجه: فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه. وأخرجه أيضا النسائي في عمل اليوم والليلة، قال الحافظ: واختلف في وصله وإرساله، ورجال إسناد أبي داود رجال الصحيح، وصرح
[ 221 ]
فيه الوليد بالسماع، ومع ذلك فذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف. والحديث يدل على عدم كراهة التنشيف، وقد قال بذلك الحسن بن علي وأنس وعثمان والثوري ومالك وتمسكوا بالحديث. وقال عمر وابن أبي ليلى والامام يحيى والهادوية يكره، واستدلوا بما رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يمسح وجهه بالمنديل بعد الوضوء ولا أبو بكر ولا عمر ولا علي ولا ابن مسعود قال الحافظ: وإسناده ضعيف. وفي الترمذي ما يعارضه من حديث عائشة قالت: كان للنبي (ص) خرقة ينشف بها بعد الوضوء وفيه أبو معاذ وهو ضعيف. وقال الترمذي بعد أن روى الحديث: ليس بالقائم ولا يصح فيه شئ، وأخرجه الحاكم وأخرج الترمذي من حديث معاذ: رأيت رسول الله (ص) إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه قال الحافظ: وإسناده ضعيف. وفي الباب عن سلمان أخرجه ابن ماجه، قال ابن أبي حاتم: وروى عن أنس، ولا يحتمل أن يكون مسندا، ورواه البيهقي عن أنس عن أبي بكر وقال: المحفوظ المرسل. وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا على أنس والخطيب مرفوعا كلاهما من طريق ليث عن زريق عن أنس. وفي الباب حديث: إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم فإنها مرواح الشيطان ذكره ابن أبي حاتم في كتاب العلل من حديث البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة وزاد في أوله: إذا توضأتم فأشربوا أعينكم من الماء ورواه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة البختري بن عبيد وقال: لا يحل الاحتجاج به ولم ينفرد به البختر، فقد رواه ابن طاهر في صفوة التصوف من طريق ابن أبي السري. وقال ابن الصلاح: لم أجد له أنا في جماعة اعتنوا بالبحث عن حاله أصلا وتبعه النووي. قوله: بغسل بضم الغين اسم الماء الذي يغتسل به، ذكره في النهاية. قوله: ملحفة بكسر الميم. [ رم ] أبواب المسح على الخفين باب في شرعيته عن جرير: أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول اه (ص) بال ثم توضأ ومسح على خفيه. قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث لان إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. متفق عليه.
[ 222 ]
ورواه أبو داود وزاد: فقال جرير لما سئل هل كان ذلك قبل المائدة أو بعدها؟ ما أسلمت إلا بعد المائدة. وكذلك رواه الترمذي من طريق شهر بن حوشب قال: فقلت له: أقبل المائدة أم بعدها؟ فقال جرير: ما أسلمت إلا بعد المائدة. وعند الطبراني من رواية محمد بن سيرين عن جرير أنه كان في حجة الوداع، قال الترمذي: هذا حديث مفسر، لان بعض من أنكر المسح على الخفين تأول مسح النبي (ص) على الخفين أنه كان قبل نزول آية الوضوء التي في المائدة فيكون منسوخا. والحديث يدل على مشروعية المسح على الخفين، وقد نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف، لان كل من روى عنه منهم إنكاره فقد روى عنه إثباته. وقال ابن عبد البر: لا أعلم من روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة مصرحة عنه بإثباته، وقد أشار الشافعي في الام إلى إنكار ذلك على المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا ثانيهما للمسافر دون المقيم. وعن ابن نافع في المبسوطة أن مالكا إنما كان يتوقف فيه في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز. قال ابن المنذر: ختلف العلماء أيهما أفضل: المسح على الخفين أو نزعهما وغسل القدمين؟ والذي أختاره أن المسح أفضل لاجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض، قال: وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه انتهى. قال النووي في شرح مسلم: وقد روي المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة، قال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله (ص) أن رسول الله (ص) كان يمسح على الخفين، أخرجه عنه ابن أبي شيبة، قال الحافظ في الفتح: وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين منهم العشرة. وقال الامام أحمد: فيه أربعون حديثا عن الصحابة مرفوعة، وقال ابن أبي حاتم: فيه عن أحد وأربعين. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: روى عن النبي (ص) على الخفين نحو أربعين من الصحابة. وذكر أبو القاسم ابن منده أسماء من رواه في تذكرته فكانوا ثمانين صحابيا. وذكر الترمذي والبيهقي في سنتهما منهم جماعة. وقد نسب القول بمسح الخفين إلى جميع الصحابة كما تقدم عن ابن المبارك، وما روي عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة من إنكار المسح فقال ابن عبد البر: لا يثبت، قال أحمد: لا يصح حديث أبي هريرة في إنكار المسح وهو باطل، وقد روى الدارقطني عن عائشة
[ 223 ]
القول بالمسح، وما أخرجه ابن أبي شيبة عن علي أنه قال: سبق الكتاب الخفين فهو منقطع. وقد روى عنه مسلم والنسائي القول به بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وما روي عن عائشة أنها قالت: لان أقطع رجلي أحب إلي من أن أمسح عليهما ففيه محمد بن مهاجر، قال ابن حبان: كان يضع الحديث. وأما القصة التي ساقها الامير الحسين في الشفاء وفيها المراجعة الطويلة بين علي وعمر واستشهاد على الاثنين وعشرين من الصحابة فشهدوا بأن المسح كان قبل المائدة فقال ابن بهران: لم أر هذه القصة في شئ من كتب الحديث. ويدل لعدم صحتها عند أئمتنا أن الامام المهدي نسب القول بمسح الخفين في البحر إلى علي عليه السلام، وذهبت العترة جميعا والامامية والخوارج وأبو بكر بن داود الظاهري إلى أنه لا يجزي المسح عن غسل الرجلين، واستدلوا بآية المائدة وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن علمه: واغسل رجلك ولم يذكر المسح. وقوله بعد غسلهما: لا يقبل الله الصلاة من دونه وقوله: ويل للاعقاب من النار قالوا: والاخبار بمسح الخفين منسوخة بالمائدة. وأجيب عن ذلك، أما الآية فقد ثبت عنه (ص) المسح بعدها كما في حديث جرير المذكور في الباب: وأما حديث: واغسل رجلك فغاية ما فيه الامر بالغسل وليس فيه ما يشعر بالقصر، ولو سلم وجود ما يدل على ذلك لكان مخصصا بأحاديث المسح المتواترة. وأما حديث لا يقبل الله الصلاة بدونه فلا ينتهض للاحتجاج به، فكيف يصلح لمعارضة الاحاديث المتواترة مع أنا لم نجده بهذا اللفظ من وجه يعتد به؟ وأما حديث: ويل للاعقاب من النار فهو وعيد لمن مسح رجليه ولم يغسلهما ولم يرد في مسح الخفين. فإن قلت هو عام فلا يقصر على السبب. قلت: لا نسلم شموله لمن مسح على الخفين فإنه يدع رجله كلها ولا يدع العقب فقط. سلمنا فأحاديث المسح على الخفين مخصصة للماسح من ذلك الوعيد وأما دعوى النسخ فالجواب أن الآية عامة أو مطلقة باعتبار حالتي لبس الخف وعدمه، فتكون أحاديث الخفين مخصصة أو مقيدة فلا نسخ. وقد تقرر في الاصول رجحان القول ببناء العام على الخاص مطلقا. وأما من يذهب إلى أن العام المتأخر ناسخ فلا يتم له ذلك إلا بعد تصحيح تأخر الآية وعدم وقوع المسح بعدها. وحديث جرير نص في موضع النزاع والقدح في جرير بأنه فارق عليا ممنوع فإنه لم يفارقه وإنما احتبس عنه بعد إرساله إلى معاوية لاعذار، على أنه قد نقل الامام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير الاجماع على قبول
[ 224 ]
رواية فاسق التأويل في عواصمه وقواصمه من عشر طرق، ونقل الاجماع أيضا من طرق أكابر أئمة الآل وأتباعهم على قبول رواية الصحابة قبل الفتنة وبعدها، فالاسترواح إلى الخلوص عن أحاديث المسح بالقدح في ذلك الصحابي الجليل بذلك الامر مما لم يقل به أحد من العترة وأتباعهم وسائر علماء الاسلام. وصرح الحافظ في الفتح بأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع، وحديث المغيرة الذي تقدم وسيأتي كان في غزوة تبوك وتبوك متأخرة بالاتفاق. وقد صرح أبو داود في سننه بأن حديث المغيرة في غزوة تبوك، وقد ذكر البزار أن حديث المغيرة هذا رواه عنه ستون رجلا. واعلم أن في المقام مانعا من دعوى النسخ لم يتنبه له أحد فيما علمت، وهو أن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق، فإن كان المسح على الخفين ثابتا قبل نزولها فورودها بتقرير أحد الامرين أعني الغسل مع عدم التعرض للآخر وهو المسح لا يوجب نسخ المسح على الخفين، لاسيما إذا صح ما قاله البعض من أن قراءة الجر في قوله في الآية * (وأرجلكم) * (المائدة: 6) مراد بها مسح الخفين، وأما إذا كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ بالقطع. نعم يمكن أن يقال على التقدير الاول أن الامر بالغسل نهي عن ضده، والمسح على الخفين من أضداد الغسل المأمور به، لكن كون الامر بالشئ نهيا عن ضده محل نزاع واختلاف، وكذلك كون المسح على الخفين ضد الغسل وما كان بهذه المثابة حقيق بأن لا يعول عليه، لاسيما في إبطال مثل هذه السنة التي سطعت أنوار شموسها في سماء الشريعة المطهرة. والعقبة الكؤود في هذه المسألة نسبة القول بعدم إجزاء المسح على الخفين إلى جميع العترة المطهرة كما فعله الامام المهدي في البحر، ولكنه يهون الخطب بأن إمامهم وسيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من القائلين بالمسح على الخفين، وأيضا هو إجماع ظني، وقد صرح جماعة من الائمة منهم الامام يحيى بن حمزة بأنها تجوز مخالفته. وأيضا فالحجة إجماع جميعهم، وقد تفرقوا في البسيطة وسكنوا الاقاليم المتباعدة، وتمذهب كل واحد منهم بمذهب أهل بلده، فمعرفة إجماعهم في جانب التعذر. وأيضا
[ 225 ]
لا يخفى على المنصف ما ورد على إجماع الامة من الايرادات التي لا يكاد ينتهض معها للحجية بعد تسليم إمكانه ووقوعه. وانتفاء حجية الاعم يستلزم انتفاء حجية الاخص. وللمسح شروط وصفات وفي وقته اختلاف، وسيذكر المصنف رحمه الله جميع ذلك. والخف نعل من آدم يغطي الكعبين. والجرموق أكبر منه يلبس فوقه. والجورب أكبر من الجرموق. وعن عبد الله بن عمر: أن سعدا حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يمسح على الخفين، وأن ابن عمر سأل عن ذلك عمر فقال نعم إذا حدثك سعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا فلا تسأل عنه غيره رواه أحمد والبخاري. وفيه دليل على قبول خبر الواحد. الحديث أخرجه أحمد أيضا من طريق أخرى عن ابن عمرو فيها قال: رأيت سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه بالعراق حين توضأ فأنكرت ذلك، فلما اجتمعنا عند عمر قال لي سعد سل أباك فذكر القصة ورواه ابن خزيمة أيضا عن ابن عمر بنحوه وفيه أن عمر قال: كنا ونحن مع نبينا نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسا. قوله: فلا تسأل عنه غيره قال الحافظ: فيه دليل على أن الصفات الموجبة للترجيح إذا اجتمعت في الراوي كانت من جملة القرائن التي إذا حفت خبر الواحد قامت مقام الاشخاص المتعددة، وقد تفيد العلم عند البعض دون البعض، وعلى أن عمر كان يقبل خبر الواحد، وما نقل عنه من التوقف إنما كان عند وقوع ريبة له في بعض المواضع، قال: وفيه أن الصحابي قديم الصحبة قد يخفى عليه من الامور الجليلة في الشرع ما يطلع عليه غيره، لان ابن عمر أنكر المسح على الخفين مع قديم صحبته وكثرة وروايته، وقد روى القصة في الموطأ أيضا. والحديث يدل على المسح على الخفين وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله. وعن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فقضى حاجته ثم توضأ ومسح على خفيه قلت: يا رسول الله أنسيت؟ قال: بل أنت نسيت بهذا أمرني ربي عزوجل رواه أحمد وأبو داود وقال الحسن البصري: روى المسح سبعون نفسا فعلا منه وقولا. الحديث إسناده صحيح ولم يتكلم عليه أبو داود ولا المنذري في تخريج السنن ولا غيرهما. وقد رواه أبو داود في الطهارة عن هدبة بن خالد عن همام عن قتادة عن
[ 226 ]
الحسن وعن زرارة بن أوفى كلاهما عن المغيرة به وفي رواية أبي عيسى الرملي عن أبي داود عن الحسن بن أعين عن زرارة بن أوفى عن المغيرة، وهؤلاء كلهم رجال الصحيح، وما يظن من تدليس الحسن قد ارتفع بمتابعة زرارة له. وقد تقدم الكلام عليه في أو الباب. باب المسح على الموقين وعلى الجوربين والنعلين جميعا عن بلال قال: رأيت رسول الله (ص) يمسح على الموقين والخمار رواه أحمد. ولابي داود: كان يخرج يقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه. ولسعيد بن منصور في سننه عن بلال قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: امسحوا على النصيف والموق. وعن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله (ص) توضأ ومسح على الجوربين والنعلين رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. حديث بلال أخرجه أيضا الترمذي والطبراني، وأخرجه الضياء في المختارة باللفظ الاول. وحديث المغيرة قال أبو داود: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لان المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفين. قال أبو داود: ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وابن مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس. قال: وروي هذا الحديث عن أبي موسى الاشعري وليس بالمتصل ولا بالقوي ولكنه أخرجه عنه ابن ماجه، وإنما قال أبو داود أنه ليس بمتصل لانه رواه الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي موسى. قال البيهقي: لم يثبت سماعه من أبي موسى وإنما قال ليس بالقوي لان في إسناده عيسى بن سنان ضعيف لا يحتج به، وقد ضعفه يحيى بن معين. وفي الباب عن ابن عباس عند البيهقي وأوس بن أبي أوس عند أبي داود بلفظ: أنه رأى النبي (ص) توضأ ومسح على نعليه وعلى ابن أبي طالب عند ابن خزيمة وأحمد بن عبيد الصفار، وعن أنس عند البيهقي. والحديث بجميع رواياته يدل على جواز المسح على الموقين وهما ضرب من الخفاف، قاله ابن سيده والازهري وهو مقطوع الساقين قاله في الضياء. وقال الجوهري: الموق الذي يلبس فوق الخف، قيل: وهو عربي،
[ 227 ]
وقيل: فارسي معرب، وعلى جواز المسح على الخمار وهو العمامة كما قاله النووي. وقد تقدم الكلام على ذلك في باب جواز المسح على العمامة وعلى جواز المسح على النصيف، وهو أيضا الخمار قاله في الضياء. وعلى جواز المسح على الجورب وهو لفافة الرجل قاله في الضياء والقاموس وقد تقدم أنه الخف الكبير. وقد قال بجواز المسح عليه من ذكره أبو داود من الصحابة، وزاد ابن سيد الناس في شرح الترمذي عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص أبا مسعود البدري عقبة بن عمر. وقد ذكر في الباب الاول أن المسح على الخفين مجتمع عليه بين الصحابة، وعلى جواز المسح على النعلين. قيل: وإنما يجوز على النعلين إذا لبسهما فوق الجوربين، قال الشافعي: ولا يجوز مسح الجوربين إلا أن يكونا منعلين يمكن متابعة المشي فيهما. باب اشتراط الطهارة قبل اللبس عن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة في مسير فأفرغت عليه من الاداوة فغسل وجهه وغسل ذراعيه ومسح برأسه ثم أهويت لانزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما متفق عليه. ولابي داود: دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما. وعن المغيرة بن شعبة قال: قلنا يا رسول الله أيمسح أحدنا على الخفين؟ قال: نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان رواه الحميدي في مسنده. حديث المغيرة ورد بألفاظ في الصحيحين وغيرهما هذا أحدها، وقد ذكرنا فيما سلف أنه رواه ستون صحابيا كما صرح به البزار وأنه في غزوة تبوك وهي بعد المائدة بالاتفاق. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه. وفي الباب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أبي داود، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ابن أبي شيبة. قوله: ثم أهويت أي مددت يدي، قال الاصمعي: أهويت بالشئ إذا أومأت به، وقال غيره: أهويت قصدت الهوي من القيام إلى القعود، وقيل الاهواء الامالة. قوله: فإني أدخلتهما طاهرتين هو يدل على اشتراط الطهارة في اللبس لتعليله عدم النزع بإدخالهما طاهرتين وهو مقتض أن إدخالهما غير طاهرتين يقتضي النزع. وقد ذهب إلى ذلك الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري ويحيى بن آدم والمزني
[ 228 ]
وأبو ثور وداود يجوز اللبس على حدث ثم يكمل طهارته، والجمهور حملوا الطهارة على الشرعية، وخالفهم داود فقال: المراد إذا لم يكن على رجليه نجاسة. وقد استدل به على أن إكمال الطهارة فيهما شرط حتى لو غسل إحداهما وأدخلها الخف ثم غسل الاخرى وأدخلها الخف لم يجز المسح صرح بذلك النووي وغيره. قال في الفتح: عند الاكثر، وأجاز النووي والكوفيون والمزني ومطرف وابن المنذر وغيرهم أنه يجزئ المسح إذا غسل إحداهما وأدخلها الخف ثم الاخرى لصدق أنه أدخل كلا من رجليه الخف وهي طاهرة، وتعقب بأن الحكم المرتب على التثنية غير الحكم المرتب على الوحدة، واستضعفه ابن دقيق العيد لان الاحتمال باق، قال: لكن إن ضم إليه دليل على أن الطهارة لا تتبعض اتجه وصرح بأنه لا يمتنع أن يعبر بهذه العبارة عن كون كل واحدة منهما أدخلت طاهرة، قال: بل ربما يدعي أنه طاهر في ذلك فإن الضمير في قوله: أدخلتهما يقتضي تعليق الحكم بكل واحدة منهما، نعم من روى فإني أدخلتهما وهما طاهرتان قد يتمسك بروايته هذا القائل من حيث أن قوله أدخلتهما يقتضي كل واحدة منهما. فقوله: وهما طاهرتان يصير حالا من كل واحدة فيكون التقدير: أدخلت كل واحدة منهما حال طهارتهما. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ومسح على خفيه فقلت: يا رسول الله رجليك لم تغسلهما،. قال: إني أدخلتهما وهما طاهرتان رواه أحمد. وعن صفوان بن عسال قال: أمرنا يعني النبي (ص) أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا ويوما وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة رواه أحمد وابن خزيمة. وقال الخطابي: هو صحيح الاسناد. الحديث الاول قال في مجمع الزوائد في إسناده رجل لم يسم وقد تقدم الكلام على فقهه. والحديث أخرجه أيضا النسائي والترمذي وابن خزيمة وصححاه، ورواه الشافعي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والبيهقي. وحكى الترمذي عن البخاري أنه حديث حسن ومداره على عاصم بن أبي النجود وهو صدوق سيئ الحفظ وقد تابعه جماعة، ورواه عنه أكثر من أربعين نفسا قاله ابن منده. والحديث يدل على توقيت المسح بالثلاثة الايام للمسافر واليوم والليلة للمقيم. وقد اختلف الناس في
[ 229 ]
ذلك فقال مالك والليث بن سعد: لا وقت للمسح على الخفين، ومن لبس خفيه وهو طاهر مسح ما بدا له، والمسافر والمقيم في ذلك سواء. وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمر والحسن البصري. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والاوزاعي والحسن بن صالح بن حي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود الظاهري ومحمد بن جرير الطبري بالتوقيت للمقيم يوما وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن. قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وثبت التوقيت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وحذيفة والمغيرة وأبي زيد الانصاري هؤلاء من الصحابة وروي عن جماعة من التابعين منهم شريح القاضي وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعمر بن عبد العزيز، قال أبو عمر: ابن عبد البر وأكثر التابعين والفقهاء على ذلك وهو الاحوط عندي لان المسح ثبت بالتواتر، واتفق عليه أهل السنة والجماعة، واطمأنت النفس إلى اتفاقهم، فلما قال أكثرهم: لا يجوز المسح للمقيم أكثر من خمس صلوات يوم وليلة، ولا يجوز للمسافر أكثر من خمس عشر صلاة ثلاثة أيام ولياليها، فالواجب على العالم أن يؤدي صلاته بيقين، واليقين الغسل حتى يجمعوا على المسح، ولم يجمعوا فوق الثلاث للمسافر ولا فوق اليوم للمقيم اه. وحديث الباب يدل على ما قاله الآخرون ويرد مذهب الاولين. وكذلك حديث أبي بكر، وحديث علي، وحديث خزيمة بن ثابت الآتي في هذا الكتاب. وفي الباب أحاديث عن غيرهم، ولعل متمسك أهل القول الاول ما أخرجه أبو داود من حديث أبي بن عمارة: إنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمسح على الخفين؟ قال: نعم، قال: يوما؟ قال: ويومين، قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم وما شئت وفي رواية: حتى بلغ سبعا، قال رسول الله (ص): نعم وما بدا لك قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي. وقال البخاري نحوه وقال الامام أحمد رجاله لا يعرفون. وأخرجه الدارقطني وقال: هذا إسناد لا يثبت، وفي إسناده ثلاثة مجاهيل: عبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قطن، ومع هذا فقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافا كثيرا. وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره. وقال ابن عبد البر: لا يثبت وليس له إسناد قائم، وبالغ الجوزقاني فذكره في الموضوعات، وما كان بهذه المرتبة لا يصلح للاحتجاج به على فرض عدم المعارض، فالحق توقيت المسح بالثلاث للمسافر واليوم
[ 230 ]
والليلة للمقيم. وفي الحديث دليل على أن الخفاف لا تنزع في هذه المدة المقدرة لشئ من الاحداث إلا للجنابة. [ رح ] وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي (ص): أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما رواه الاثرم في سننه وابن خزيمة والدارقطني. قال الخطابي: هو صحيح الاسناد. الحديث أخرجه الشافعي وابن أبي شيبة وابن حبان وابن الجارود والبيهقي والترمذي في العلل، وصححه الشافعي وغيره، قاله الحافظ في الفتح. وكذلك نقل البيهقي عن الشافعي وصححه ابن خزيمة، والحديث تقدم الكلام على فقهه في الذي قبله. باب توقيت مدة المسح قد أسلفنا فيه عن صفوان وأبي بكرة. وروى شريح بن هانئ قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين فقالت: سل عليا فإنه أعلم بهذا مني كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسألته فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. وعن خزيمة بن ثابت عن النبي (ص): أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. قد قدمنا الكلام على حديث صفوان وأبي بكرة في الباب الاول. وحديث علي أخرجه أيضا الترمذي وابن حبان، وحديث خزيمة بن ثابت أخرجه أيضا ابن ماجه وابن حبان وفيه زيادة تركها المصنف وهي ثابتة عند أبي داود وابن ماجه وابن حبان وهي بلفظ: ولو استزدناه لزادنا. وفي لفظ: ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمسا وأخرجه الترمذي بدون الزيادة، قال الترمذي قال البخاري: لا يصح عندي لانه لا يعرف للجدلي سماع من خزيمة، وذكر عن يحيى بن معين أنه قال: هو صحيح. وقال ابن دقيق العيد: الروايات متضافرة متكاثرة برواية التيمي له عن عمرو بن ميمون عن الجدلي عن خزيمة. وقال ابن أبي حاتم في العلل قال أبو زرعة: الصحيح من حديث التيمي عن عمرو بن ميمون عن الجدلي عن خزيمة مرفوعا، والصحيح عن النخعي عن
[ 231 ]
الجدلي بلا واسطة وادعى النووي في شرح المهذب الاتفاق على ضعف هذا الحديث. قال الحافظ: وتصحيح ابن حبان له يرد عليه والحديثان يدلان على توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر ويوم وليلة للمقيم، وقد ذكرنا الخلاف فيه وما هو الحق في الباب الذي قبل هذا. والزيادة التي لم يذكرها المصنف في حديث خزيمة تصلح للاستدلال بها على مذهب من لم يجد المسح بوقت لولا ما عارض تصحيح ابن حبان لها من الاتفاق ممن عداه على ضعفها. وأيضا قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: لو ثبتت لم تقم بها حجة لان الزيادة على ذلك التوقيت مظنونة أنهم لو سألوا زادهم، وهذا صريح في أنهم لم يسألوا ولا زيدوا، فكيف تثبت زيادة بخبر دل على عدم وقوعها؟ اه. وغايتها بعد تسليم صحتها أن الصحابي ظن ذلك، ولم نتعبد بمثل هذا ولا قال أحد إنه حجة. وقد ورد توقيت المسح بالثلاث واليوم والليلة من طريق جماعة من الصحابة ولم يظنوا ما ظنه خزيمة. وورد ذكر المسح بدون توقيت عن جماعة منهم أنس بن مالك عند الدارقطني، وذكره الحاكم وقال: قد روي عن أنس مرفوعا بإسناد صحيح رواته عن آخرهم ثقات. وعن ميمونة بنت الحرث الهلالية زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الدارقطني أيضا. باب اختصاص المسح بظهر الكف عن علي رضي الله عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على ظاهر خفيه رواه أبو داود والدرقطني. الحديث قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده حسن، وقال في التلخيص: إسناده صحيح، قلت: وفي إسناده عبد خير بن يزيد الهمداني وثقه يحيى بن معين وأحمد بن عبد الله العجلي. وأما قول البيهقي: لم يحتج به صاحبا الصحيح فليس بقادح بالاتفاق. والحديث يدل على أن المسح المشروع هو مسح ظاهر الخف دون باطنه، وإليه ذهب الثوري وأبو حنيفة والاوزاعي وأحمد بن حنبل. وذهب مالك والشافعي وأصحابهما والزهري وابن المبارك، وروي عن سعد بن أبي وقاص وعمر بن عبد العزيز إلى أنه يمسح ظهورهما وبطونهما، قال مالك والشافعي: إن مسح ظهورهما دون بطونهما أجزأه، قال مالك: من مسح باطن الخفين دون ظاهرهما لم يجزه وكان عليه الاعادة في الوقت وبعده. وروي
[ 232 ]
عنه غير ذلك. والمشهور عن الشافعي أن من مسح ظهورهما واقتصر على ذلك أجزأه، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يجزه وليس بماسح. وقال ابن شهاب وهو قول للشافعي: أن من مسح بطونهما ولم يمسح ظهورهما أجزأه، والواجب عند أبي حنيفة مسح قدر ثلاث أصابع من أصابع اليد، وعند أحمد مسح أكثر الخف، وروي عن الشافعي أن الواجب ما يسمى مسحا. قال الحافظ في التلخيص لما ذكر حديث علي عليه السلام: والمحفوظ عن ابن عمر أنه كان يمسح أعلى الخف وأسفله، كذا رواه الشافعي والبيهقي، وروي عنه في صفة ذلك أنه كان يضع كفه اليسرى تحت العقب واليمنى على ظاهر الاصابع ويمر اليسرى على أطراف الاصابع من أسفل واليمنى إلى الساق. واستدل من قال بمسح ظاهر الخف وباطنه بحديث المغيرة المذكور في آخر هذا الباب وفيه مقال سنذكره عند ذكره. وليس بين الحديثين تعارض غاية الامر أن النبي (ص) مسح تارة على باطن الخف وظاهره وتارة اقتصر على ظاهره، ولم يرو عنه ما يقضي بالمنع من إحدى الصفتين فكان جميع ذلك جائزا وسنة. وعن المغيرة بن شعبة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على ظهور الخفين. رواه أحمد وأبو داود والترمذي ولفظه: على الخفين على ظاهرهما وقال: حديث حسن. الحديث قال البخاري في التاريخ: هو بهذا اللفظ أصح من حديث رجاء بن حيوة الآتي. وفي الباب عن عمر بن الخطاب عند ابن أبي شيبة والبيهقي. واستدل بالحديث من قال بمسح ظاهر الخف، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله. وعن ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح أعلى الخف وأسفله رواه الخمسة إلا النسائي. وقال الترمذي: هذا حديث معلول لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم، وسألت أبا زرعة ومحمدا عن هذا الحديث فقالا: ليس بصحيح. الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي وابن الجارود. قال الاثرم عن أحمد: أنه كان يضعفه ويقول: ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي فقال عن ابن المبارك عن ثور: حدثت عن رجاء عن كاتب المغيرة ولم يذكر المغيرة، قال أحمد: وقد كان نعيم بن حماد حدثني به عن ابن المبارك كما حدثني الوليد بن مسلم به عن ثور فقلت له: إنما يقول هذا الوليد،
[ 233 ]
وأما ابن المبارك فيقول: حدثت عن رجاء ولم يذكر المغيرة، فقال لي نعيم: هذا حديثي الذي أسأل عنه، فأخرج إلي كتابه القديم بخط عتيق فإذا فيه ملحق بين السطرين بخط ليس بالقديم عن المغيرة، فأوقفته عليه وأخبرته أن هذه زيادة في الاسناد لا أصل لها، فجعل يقول للناس بعد وأنا أسمع: اضربوا على هذا الحديث. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة: حديث الوليد ليس بمحفوظ. وقال موسى بن هارون: لم يسمعه ثور من رجاء، ورواه أبو داود الطيالسي عن عروة بن المغيرة عن أبيه. وكذا أخرجه البيهقي، قال الحافظ بعد أن ذكر قول الترمذي: إنه لم يسنده عن ثور غير الوليد. قلت: رواه الشافعي في الام عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن ثور مثل الوليد. قال أبو داود: لم يسمعه ثور من رجاء، وقد وقع في سنن الدارقطني من طريق داود بن رشيد تصريح ثور بأنه حديث رجاء، قال الحافظ: وهذا ظاهره أن ثور أسمعه من رجاء فتزول العلة، ولكن رواه أحمد بن عبيد الصفار في مسنده من طريقه فقال: عن ثور عن رجاء، فهذا اختلاف على داود يمنع من القول بصحة وصله مع ما تقدم من كلام الائمة. والحديث استدل به من قال يمسح أعلى الخف وأسفله وتقدم الكلام على ذلك. [ رم ] أبواب نواقض الوضوء باب الوضوء بالخارج من السبيل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ، فقال رجل من أهل حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط متفق عليه. وفي حديث صفوان في المسح لكن من غائط وبول ونوم وسنذكره. قوله: لا يقبل المراد بالقبول هنا وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة وهو معنى الصحة لانها ترتب الآثار أو سقوط القضاء على الخلاف، وترتب الآثار موافقة الامر، ولما كان الاتيان بشروط الطاعة مظنة إجزائها وكان القبول من ثمراته عبر عنه به مجازا فالمراد بلا تقبل لا تجزئ. قال الحافظ في الفتح: وأما القبول المنفي في مثل قوله (ص) من أتى عرافا لم تقبل له صلاة فهو الحقيقي لانه قد يصح العمل ويتخلف القبول لمانع، ولهذا كان بعض السلف يقول: لان تقبل لي صلاة واحدة أحب
[ 234 ]
إلي من جميع الدنيا، قاله ابن عمر، قال: لان الله تعالى قال: * (إنما يتقبل الله من المتقين) * (المائدة: 27) ومن فسر الاجزاء بمطابقة الامر والقبول بترتب الثواب لم يتم له الاستدلال بالحديث على نفي الصحة، لان القبول أخص من الصحة على هذا، فكل مقبول صحيح وليس كل صحيح مقبولا. قال ابن دقيق العيد إلا أن يقال: دل الدليل على كون القبول من لوازم الصحة، فإذا انتفى انتفت، فيصح الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة، ويحتاج في الاحاديث التي نفى عنها القبول مع بقاء الصحة كحديث: لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار عند أبي داود والترمذي. وحديث: إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة عند مسلم وحديث: من أتى عرافا عند أحمد والبخاري. وفي شارب الخمر عند الطبراني إلى تأويل أو تخريج جواب، قال: على أنه يرد على من فسر القبول بكون العبادة مثابا عليها أو مرضية أو ما أشبه ذلك، إذا كان مقصوده بذلك أنه لا يلزم من نفي القبول نفي الصحة أن يقال القواعد الشرعية أن العبادة إذا أتى بها مطابقة للامر كانت سببا للثواب والدرجات، والاجزاء والظواهر في ذلك لا تحصى. قوله: إذا أحدث المراد بالحدث الخارج من أحد السبيلين، وإنما فسره أبو هريرة بأخص من ذلك تنبيها بالاخف على الاغلظ، ولانهما قد يقعان في الصلاة أكثر من غيرهما، وهذا أحد معاني الحدث. الثاني: خروج ذلك الخارج. الثالث: منع الشارع من قربان العبادة المرتب على ذلك الخروج وإنما كان الاول هو المراد هنا لتفسير أبي هريرة له بنفس الخارج لا بالخروج ولا بالمنع. والحديث استدل به على أن ما عدا الخارج من السبيلين كالقئ والحجامة ولمس الذكر غير ناقض، ولكنه استدلال بتفسير أبي هريرة وليس بحجة على خلاف في الاصول. واستدل به على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة لانه جعل نفي القبول ممتدا إلى غاية هي الوضوء، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا، وتدخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيا، قاله ابن دقيق العيد. واستدل به على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختياريا أو اضطراريا. قوله: وفي حديث صفوان ذكره المصنف ههنا لمطابقته للترجمة لما فيه من ذكر البول والغائط، وذكره في باب الوضوء من النوم لما فيه من ذكر النوم.
[ 235 ]
باب الوضوء من الخارج النجس من غير السبيلين عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاء فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال: صدق أنا صببت له وضوءه رواه أحمد والترمذي وقال: هو أصح شئ في هذا الباب. الحديث هو عند أحمد وأصحاب السنن الثلاث وابن الجارود وابن حبان والدار قطني والبيهقي والطبراني وابن منده والحاكم بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاء فأفطر قال معدان: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت له: إن أبا الدرداء أخبرني فذكره فقال: صدق أنا صببت عليه وضوءه، قال ابن منده: إسناده صحيح متصل وتركه الشيخان لاختلاف في إسناده، قال الترمذي: جوده حسين المعلم وكذا قال أحمد، وفيه اختلاف كثير ذكره الطبراني وغيره، قال البيهقي: هذا حديث مختلف في إسناده، فإن صح فهو محمول على القئ عامدا: وقال في موضع آخر إسناده مضطرب ولا تقوم به حجة، وهو باللفظ الذي ذكره المصنف في جامع الاصول والتيسير منسوبا إلى أبي داود والترمذي. والحديث استدل به على أن القئ من نواقض الوضوء، وقد ذهب إلى ذلك العترة وأبو حنيفة وأصحابه وقيدوه بقيود: الاول كونه من المعدة. الثاني كونه مل ء الفم. الثالث كونه دفعة واحدة. وذهب الشافعي وأصحابه والناصر والباقر والصادق إلى أنه غير ناقض. وأجابوا عن الحديث بأن المراد بالوضوء غسل اليدين، ويرد بأن الوضوء من الحقائق الشرعية، وهو فيها لغسل أعضاء الوضوء وغسل بعضها مجاز، فلا يصار إليه إلا بعلاقة وقرينة، قالوا: القرينة أنه استقاء بيده كما ثبت في بعض الالفاظ والعلاقة ظاهرة. وأجابوا أيضا بأنه فعل وهو لا ينتهض على الوجوب. واستدل الاولون أيضا بحديث إسماعيل بن عياش الآتي بعد هذا، وسيأتي أنه لا يصلح لذلك لما فيه من المقال الذي سنذكره، واستدلوا بما في كتب الائمة من حديث علي: الوضوء كتبه الله علينا من الحدث قال (ص): بل من سبع وفيها: ودسعة تملا الفم قالوا: معارض بما في كتب الائمة أيضا في الانتصار والبحر وغيرهما من حديث ثوبان قال: قلت يا رسول الله هل يجب الوضوء من القئ؟ قال: لو كان واجبا لوجدته في كتاب
[ 236 ]
الله قال في البحر: قلنا مفهوم وحديثنا منطوق ولعله متقدم انتهى. والجواب الاول صحيح ولكنه لا يفيد إلا بعد تصحيح الحديث والجواب الثاني من الاجوبة التي لا تقع لمنصف ولا متيقظ، فإن كل أحد لا يعجز عن مثل هذه المقالة وهي غير نافقة في أسواق المناظرة، وقد كثرت أمثال هذه العبارة في ذلك الكتاب. وعن إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أصابه قئ أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم رواه ابن ماجه والدار قطني، وقال الحفاظ من أصحاب ابن جريج: يروونه عن ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. الحديث أعله غير واحد بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وهو حجازي. ورواية إسماعيل عن الحجازيين ضعيفة، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب ابن جريج فرووه مرسلا كما قال المصنف، وصحح هذه الطريقة المرسلة الذهلي والدارقطني في العلل وأبو حاتم وقال: رواية إسماعيل خطأ. وقال ابن معين: حديث ضعيف. وقال أحمد: الصواب عن ابن جريج عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه الدارقطني من حديث إسماعيل بن عياش أيضا عن عطاء بن عجلان وعباد بن كثير عن ابن أبي مليكة عن عائشة وقال بعده: عطاء وعباد ضعيفان. وقال البيهقي: الصواب إرساله، وقد رفعه أيضا سليمان بن أرقم وهو متروك. وفي الباب عن ابن عباس عند الدارقطني وابن عدي والطبراني بلفظ: إذا رعف أحدكم في صلاته فلينصرف فليغسل عنه الدم ثم ليعد وضوءه وليستقبل صلاته قال الحافظ: وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك. وعن أبي سعيد عند الدارقطني بلفظ: إذا قاء أحدكم أو رعف وهو في الصلاة أو أحدث فلينصرف فليتوضأ ثم ليجئ فليبن على ما مضى وفيه أبو بكر الزاهري وهو متروك. ورواه عبد الرزاق في مصنفه موقوفا على علي وإسناده حسن قاله الحافظ. وعن سلمان نحوه وعن ابن عمر عند مالك في الموطأ: أنه كان إذا رعف رجع فتوضأ ولم يتكلم ثم يرجع ويبني. وروى الشافعي من قوله نحوه. قوله: قلس هو بفتح القاف واللام ويروى بسكونها قال الخليل: هو ما خرج من الحلق مل ء الفم أو دونه وليس بقئ، وإن
[ 237 ]
عاد فهو القئ. وفي النهاية: القلس ما خرج من الجوف ثم ذكر مثل كلام الخليل. والحديث استدل به على أن القئ والرعاف والقلس والمذي نواقض للوضوء، وقد تقدم ذكر الخلاف في القئ والخلاف في القلس مثله. وأما الرعاف فهو ناقض للوضوء، وقد ذهب إلى أن الدم من نواقض الوضوء القاسمية وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل وإسحاق وقيدوه بالسيلان، وذهب ابن عباس والناصر ومالك والشافعي وابن أبي أوفى وأبو هريرة وجابر بن زيد وابن المسيب ومكحول وربيعة إلى أنه غير ناقض استدل الاولون بحديث الباب ورد بأن فيه المقال المذكور، واستدلوا بحديث بل من سبع الذي ذكرناه في الحديث الذي قبل هذا، ورد بأنه لم يثبت عند أحد من أئمة الحديث المعتبرين. وبالمعارضة بحديث أمس الذي سيأتي. وأجيب بأن حديث أنس حكاية فعل فلا يعارض القول ولكن هذا يتوقف على صحة القول ولم يصح. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة: لا وضوء إلا من صوت أو ريح قال البيهقي: هذا حديث ثابت. وقد اتفق الشيخان على إخراج معناه من حديث عبد الله بن زيد، ورواه أحمد والطبراني من حديث السائب بن خباب بلفظ لا وضوء إلا من ريح أو سماع وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وذكر حديث شعبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا: لا وضوء إلا من صوت أو ريح فقال أبي: هذا وهم اختصر شعبة متن الحديث وقال: لا وضوء إلا من صوت أو ريح ورواه أصحاب سهيل بلفظ: إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد ريحا من نفسه فلا يخرج حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وشعبة إمام حافظ واسع الرواية، وقد روى هذا اللفظ بهذه الصيغة المشتملة على الحصر، ودينه وإمامته ومعرفته بلسان العرب يرد ما ذكره أبو حاتم، فالواجب البقاء على البراءة الاصلية المعتضدة بهذه الكلية المستفادة من هذا الحديث، فلا يصار إلى القول بأن الدم أو القئ ناقض إلا لدليل ناهض، والجزم بالوجوب قبل صحة المستند كالجزم بالتحريم قبل صحة النقل، والكل من التقول على الله بما لم يقل. ومن المؤيدات لما ذكرنا حديث: أن عباد بن بشر أصيب بسهام وهو يصلي فاستمر في صلاته عند البخاري تعليقا وأبي داود وابن خزيمة، ويبعد أن لا يطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مثل هذه الواقعة العظيمة، ولم ينقل أنه أخبره بأن صلاته قد بطلت. وأما المذي فقد صحت الادلة في إيجابه للوضوء. وقد أسلفنا
[ 238 ]
الكلام على ذلك في باب ما جاء في المذي من أبواب تطهير النجاسة. وفي الحديث دلالة على أن الصلاة لا تفسد على المصلي إذا سبقه الحدث ولم يتعمد خروجه. وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وصاحباه ومالك. وروي عن زيد بن علي وقديم قولي الشافعي، والخلاف في ذلك للهادي والناصر والشافعي في أحد قوليه. فإن تعمد خروجه فإجماع على أنه ناقض. واستدل على النقض بحديث: إذا فسا أحدكم فلينصرف وليتوضأ وليستأنف الصلاة أخرجه أبو داود، ولعله يأتي في الصلاة إن شاء الله تمام تحقيق البحث. وعن أنس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه رواه الدارقطني. الحديث رواه أيضا البيهقي. قال الحافظ: وفي إسناده صالح بن مقاتل وهو ضعيف، وادعى ابن العربي أن الدارقطني صححه وليس كذلك، بل قال عقبه في السنن صالح: ابن مقاتل ليس بالقوي. وذكره النووي في فصل الضعيف. والحديث يدل على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله، قال المصنف رحمه الله تعالى: وقد صح عن جماعة من الصحابة ترك الوضوء من يسير الدم، ويحمل حديث أنس عليه وما قبله على الكثير الفاحش كمذهب أحمد ومن وافقه جمعا بينهما انتهى. ويؤيد هذا الجمع ما أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا: ليس في القطرة ولا في القطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دما سائلا ولكن فيه محمد بن الفضل بن عطية وهو متروك قال الحافظ: وإسناده ضعيف جدا. ويؤيده أيضا ما روي عن ابن عمر عند الشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي أنه عصر بثرة في وجهه فخرج شئ من دمه فحكه بين أصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ. وعلقه البخاري. وعنه أيضا أنه كان إذا احتجم غسل أثر المحاجم ذكره في التلخيص لابن حجر وعن ابن عباس أنه قال: اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك رواه الشافعي. وعن ابن أبي أوفى في ذكره الشافعي ووصله البيهقي في المعرفة، وكذا عن أبي هريرة موقوفا. وعن جابر علقه البخاري ووصله ابن خزيمة وأبو داود من طريق عقيل بن جابر عن أبيه، وذكر قصة الرجلين اللذين حرسا فرمى أحدهما بسهام وهو يصلي وقد تقدم. وعقيل بن جابر قال في الميزان: فيه جهالة، قال في الكاشف: ذكره ابن حبان في الثقات، وقد روي نحو ذلك عن عائشة، قال
[ 239 ]
الحافظ: لم أقف عليه. فهؤلاء الجماعة من الصحابة هم المرادون بقول المصنف. وقد صح عن جماعة من الصحابة وقد عرفت ما هو الحق في شرح الحديث الذي قبل هذا. باب الوضوء من النوم لا اليسير منه على إحدى حالات الصلاة عن صفوان بن عسال قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. الحديث روي بهذا اللفظ، وروي باللفظ الذي ذكره المصنف في باب اشتراط الطهارة قبل لبس الخف وقد ذكرنا هنالك أن مداره على عاصم بن أبي النجود وقد تابعه جماعة. ومعنى قوله: لكن من غائط وبول أي لكن لا تنزع خفافنا من غائط وبول. ولفظ الحديث في باب اشتراط الطهارة: ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة، فذكر الاحداث التي ينزع منها الخف والاحداث التي لا ينزع منها وعد من جملتها النوم، فأشعر ذلك بأنه من نواقض الوضوء، لاسيما بعد جعله مقترنا بالبول والغائط الذين هما ناقضان بالاجماع وبالحديث استدل من قال بأن النوم ناقض. وقد اختلف الناس في ذلك على مذاهب ثمانية ذكرها النووي في شرح مسلم: الاول: أن النوم لا ينقض الوضوء على أي حال كان، قال: وهو محكي عن أبي موسى الاشعري وسعيد بن المسيب وأبي مجاز وحميد الاعرج والشيعة يعني الامامية، وزاد في البحر: عمرو بن دينار، واستدلوا بحديث أنس الآتي. المذهب الثاني: أن النوم ينقض الوضوء بكل حال قليله وكثيره، قال النووي: وهو مذهب الحسن البصري والمزني وأبي عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه، وهو قول غريب للشافعي، قال ابن المنذر: وبه أقول، قال: وروي معناه عن ابن عباس وأبي هريرة، ونسبه في البحر إلى العترة إلا أنهم يستثنون الخفقة والخفقتين، واستدلوا بحديث الباب وحديث علي ومعاوية وسيأتيان، وفي حديث علي: فمن نام فليتوضأ ولم يفرق فيه بين قليل النوم وكثيرة. المذهب الثالث: أن كثير النوم ينقض بكل حال وقليله لا ينقض بكل حال، قال النووي: وهذا مذهب الزهري وربيعة والاوزاعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، واستدلوا بحديث أنس الآتي فإنه محمول
[ 240 ]
على القليل، وحديث من استحق النوم فعليه الوضوء عند البيهقي أي استحق أن يسمى نائما، فإن أريد بالقليل في هذا المذهب ما هو أعم من الخفقة والخفقتين فهو غير مذهب العترة، وإن أريد به الخفقة والخفقتان فهو مذهبهم. المذهب الرابع: إذا نام على هيئة من هيئات المصلي كالراكع والساجد والقائم والقاعد لا ينتقض وضوءه سواء كان في الصلاة أو لم يكن، وإن نام مضطجعا أو مستلقيا على قفاه انتقض، قال النووي: وهذا مذهب أبي حنيفة وداود وهو قول للشافعي غريب، واستدلوا بحديث: إذا نام العبد في سجوده باهى الله به الملائكة رواه البيهقي وقد ضعف. وقاسوا سائر الهيئات التي للمصلي على السجود. المذهب الخامس: أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، قال النووي: وروي مثل هذا عن أحمد ولعل وجهه أن هيئة الركوع والسجود مظنة للانتقاض، وقد ذكر هذا المذهب صاحب البدر التمام وصاحب سبل السلام بلفظ أنه ينقض إلا نوم الراكع والساجد يحذف لا واستدلاله بحديث إذا نام العبد في سجوده، قالا: وقاس الركوع على السجود، والذي في شرح مسلم للنووي بلفظ أنه لا ينقض بإثبات لا فلينظر. المذهب السادس: أنه لا ينقض إلا نوم الساجد، قال النووي: يروى أيضا عن أحمد، ولعل وجهه أن مظنة الانتقاض في السجود أشد منها في الركوع. المذهب السابع: أنه لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال وينقض خارج الصلاة، ونسبه في البحر إلى زيد بن علي وأبي حنيفة واستدل لهما صاحبه بحديث: إذا نام العبد في سجوده ولعل سائر هيئات المصلي مقاسة على السجود. المذهب الثامن: أنه إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الارض لم ينقض، سواء قل أو كثر، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، قال النووي: وهذا مذهب الشافعي. وعنده أن النوم ليس حدثا في نفسه وإنما هو دليل على خروج الريح، ودليل هذا القول حديث علي وابن عباس ومعاوية وستأتي. وهذا أقرب المذاهب عندي وبه يجمع بين الادلة. وقوله: إن النوم ليس حدثا في نفسه هو الظاهر. وحديث الباب وإن أشعر بأنه من الاحداث باعتبار اقترانه بما هو حدث بالاجماع فلا يخفى ضعف دلالة الاقتران وسقوطها عن الاعتبار عند أئمة الاصول، والتصريح بأن النوم مظنة استطلاق الوكاء كما في حديث معاوية واسترخاء المفاصل كما في حديث ابن عباس، مشعر أتم إشعار بنفي كونه حدثا في نفسه. وحديث أن الصحابة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضأون من المؤيدات لذلك، ويبعد
[ 241 ]
جهل الجميع منهم كونه ناقضا. والحاصل أن الاحاديث المطلقة في النوم تحمل على المقيدة بالاضطجاع، وقد جاء في بعض الروايات بلفظ الحضر، والمقال الذي فيه منجبر بماله من الطرق والشواهد وسيأتي. ومن المؤيدات لهذا الجمع حديث ابن عباس الآتي بلفظ: فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني. وحديث: إذا نام العبد في صلاته باهى الله به ملائكته أخرجه الدارقطني وابن شاهين من حديث أبي هريرة. والبيهقي من حديث أنس. وابن شاهين أيضا من حديث أبي سعيد وفي جميع طرقه مقال. وحديث: من استحق النوم وجب عليه الوضوء عند البيهقي من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح ولكنه قال البيهقي روي ذلك مرفوعا ولا يصح. وقال الدارقطني: وقفه أصح، وفد فسر استحقاق النوم بوضع الجنب. (فائدة): قال النووي في شرح مسلم بعد أن ساق الاقوال الثمانية التي أسلفناها ما لفظه: واتفقوا على أن زوال العقل بالجنون والاغماء والسكر بالخمر أو النبيذ أو البنج أو الدواء ينقض الوضوء سواء قل أو كثر، وسواء كان ممكن المقعدة أو غير ممكنها، انتهى. وفي البحر: أن السكر كالجنون عند الاكثر وعند المسعودي أنه غير ناقض إن لم يغش. (فائدة أخرى): قال النووي في شرح مسلم قال أصحابنا: وكان من خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعا للحديث الصحيح عن ابن عباس، قال: نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سمعت غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ انتهى. وفيه أنه أخرج الترمذي من حديث أنس: لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوقظون للصلاة حتى أني لاسمع لاحدهم غطيطا ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون وفي لفظ أبي داود زيادة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيأتي الكلام عليه. وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء رواه أحمد والدارقطني. السه: اسم لحلقة الدبر. وسئل أحمد عن حديث علي ومعاوية في ذلك فقال: حديث علي أثبت وأقوى. أما حديث علي فأخرجه أيضا الدارقطني وهو عند الجميع من رواية بقية عن
[ 242 ]
الوضين ابن عطاء، قال الجوزجاني: واه، وأنكر عليه هذا الحديث عن محفوظ بن علقمة وهو ثقة عن عبد الرحمن بن عائذ وهو تابعي ثقة معروف عن علي، لكن قال أبو زرعة لم يسمع منه. قال الحافظ: وفي هذا النفي نظر لانه يروى عن عمر كما جزم به البخاري. وأما حديث معاوية فأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي وفي إسناده بقية عن أبي بكر بن أبي مريم وهو ضعيف، وقد ضعف الحديثين أبو حاتم وحسن المنذري وابن الصلاح والنووي حديث علي. قوله: وكاء السه الوكاء بكسر الواو الخيط الذي يربط به الخريطة. والسه بفتح السين المهملة وكسر الهاء المخففة، الدبر. والمعنى اليقظة وكاء الدبر أي حافظة ما فيه من الخروج لانه ما دام مستيقظا أحس بما يخرج منه، والحديثان يدلان على أن النوم مظنة للنقض لا أنه بنفسه ناقض. وقد تقدم الكلام على ذلك في الذي قبله. وعن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقمت إلى جنبه الايسر فأخذ بيدي فجعلني عن شقه الايمن فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، قال: فصلى إحدى عشرة ركعة رواه مسلم. هذا طرف من حديث ابن عباس. وقد اتفق الشيخان على إخراجه وفيه فوائد وأحكام ليس هذا محل بسطها. قوله: إذا أغفيت الاغفاء النوم أو النعاس ذكر معناه في القاموس، وفي الحديث دلالة على أن النوم اليسير حال الصلاة غير ناقض وقد تقدم الكلام على ذلك. وعن أنس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضأون رواه أبو داود. الحديث أخرجه أيضا الشافعي في الام ومسلم والترمذي، قال أبو داود: زاد شعبة عن قتادة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ولفظ الترمذي من طريق شعبة: لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوقظون للصلاة حتى إني لاسمع لاحدهم غطيطا ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون قال ابن المبارك: هذا عندنا وهم جلوس، قال البيهقي: وعلى هذا حمله عبد الرحمن بن مهدي والشافعي. وقال ابن القطان: هذا الحديث سياقه في مسلم يحتمل أن ينزل على نوم الجالس وعلى ذلك نزله له أكثر الناس،
[ 243 ]
لكن فيه زيادة تمنع من ذلك، رواها يحيى بن القطان عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة وقال ابن دقيق العيد: يحمل على النوم الخفيف، لكن يعارضه رواية الترمذي التي ذكر فيها الغطيط. وقد رواه أحمد من طريق يحيى القطان والترمذي عن بندار بدون يضعون جنوبهم. وأخرجه بتلك الزيادة البيهقي والبزار والخلال. قوله: تخفق رؤوسهم في القاموس خفق فلان حرك رأسه إذا نعس. والحديث يدل على أن يسير النوم لا ينقض الوضوء إن ثبت التقرير لهم على ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تقدم الكلام في الخلاف في ذلك. وعن يزيد بن عبد الرحمن عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله رواه أحمد. ويزيد هو الدالاني، قال أحمد: لا بأس به، قلت: وقد ضعف بعضهم حديث الدالاني هذا لارساله قال شعبة: إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث فذكرها وليس هذا منها. الحديث أخرجه أيضا أبو داود والترمذي والدارقطني بلفظ: لا وضوء على من نام قاعدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإن من نام مضطجعا استرخت مفاصله وأخرجه البيهقي بلفظ: لا يجب الوضوء على من نام جالسا أو قائما أو ساجدا حتى يضع جنبه ومداره على يزيد أبي خالد الدالاني وعليه اختلف في ألفاظه، وضعف الحديث من أصله أحمد والبخاري فيما نقله الترمذي في العلل المفردة. وضعفه أيضا أبو داود في السنن وإبراهيم الحربي في علله والترمذي وغيرهم. قال البيهقي في الخلافيات: تفرد به أبو خالد الدالاني وأنكره عليه جميع أئمة الحديث. وقال في السنن: أنكره عليه جميع الحفاظ وأنكروا سماعه من قتادة. وقال الترمذي: رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس من قوله، ولم يذكر أبا العالية ولم يرفعه، ويزيد الدالاني هذا الذي ضعف الحديث به وثقه أبو حاتم، وقال النسائي: ليس به بأس. وكذلك قال أحمد كما حكاه المصنف. وقال ابن عدي: في حديثه لين، وأفرط ابن حبان فقال: لا يجوز الاحتجاج به. وقال الذهبي في المغني: مشهور حسن الحديث. وروى ابن عدي في الكامل من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حديث: لا وضوء على من نام قائما أو راكعا وفيه مهدي بن هلال وهو متهم
[ 244 ]
بوضع الحديث ومن رواية عمر بن هارون البلخي وهو متروك، ومن رواية مقاتل بن سليمان وهو متهم. ورواه البيهقي من حديث حذيفة بلفظ: قال: كنت في مسجد المدينة جالسا أخفق فاحتضنني رجل من خلفي فالتفت فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: هل وجب علي الوضوء يا رسول الله؟ فقال: لا حتى تضع جنبك قال البيهقي: تفرد له بحر بن كنيز وهو متروك لا يحتج به. وروى البيهقي من طريق يزيد بن قسيط عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: ليس على المحتبي النائم ولا على القائم النائم وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع توضأ قال الحافظ: إسناده جيد وهو موقوف. والحديث يدل على أن النوم لا يكون ناقضا إلا في حالة الاضطجاع وقد سلف أنه الراجح. باب الوضوء من مس المرأة قال الله تعالى: * (أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) * (النساء: 43) وقرئ * (أو لمستم) * وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة يعرفها فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها، قال: فأنزل الله هذه الآية: * (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) * (هود: 114) الآية، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: توضأ ثم صل رواه أحمد والدارقطني. الحديث أخرجه أيضا الترمذي والحاكم والبيهقي جميعا من حديث عبد الملك بن عمر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ، هكذا عندهم جميعا موصولا لذكر معاذ وفيه انقطاع لان عبد الرحمن لم يسمع من معاذ. وأيضا قد رواه شعبة عن عبد الرحمن قال: إن رجلا فذكره مرسلا كما رواه النسائي. وأصل القصة في الصحيحين وغيرهما بدون الامر بالوضوء والصلاة. والآية المذكورة استدل بها من قال بأن لمس المرأة ينقض الوضوء، وإلى ذلك ذهب ابن مسعود وابن عمر والزهري والشافعي وأصحابه وزيد بن أسلم وغيرهم. وذهب علي وابن عباس وعطاء وطاوس والعترة جميعا وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا ينقض. قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إلا إذا تباشر الفرجان وانتشر وإن لم يمذ. قال الاولون: الآية صرحت بأن اللمس من جملة الاحداث الموجبة للوضوء وهو حقيقة في لمس اليد. ويؤيد بقاءه على معناه الحقيقي قراءة: * (أو لمستم) * فإنها ظاهرة
[ 245 ]
في مجرد اللمس من دون جماع. قال الآخرون: يجب المصير إلى المجاز وهو أن اللمس مراد به الجماع لوجود القرينة وهي حديث عائشة الذي سيأتي في التقبيل. وحديثها في لمسها لبطن قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأجيب بأن في حديث التقبيل ضعفا وأيضا فهو مرسل، ورد بأن الضعف منجبر بكثرة رواياته. وبحديث لمس عائشة لبطن قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثبت مرفوعا وموقوفا، والرفع زيادة يتعين المصير إليها كما هو مذهب أهل الاصول والاعتذار عن حديث عائشة في لمسها لقدمه صلى الله عليه وآله وسلم بما ذكره ابن حجر في الفتح من أن اللمس يحتمل أنه كان بحائل أو على أن ذلك خا ص به تكلف ومخالفة للظاهر. قالوا: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم السائل في حديث الباب بالوضوء، وصرح ابن عمر بأن من قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء، رواه عنه مالك والشافعي، ورواه البيهقي عن ابن مسعود بلفظ القبلة من اللمس وفيها الوضوء واللمس ما دون الجماع. واستدل الحاكم على أن المراد باللمس ما دون الجماع بحديث عائشة: ما كان أو قل يوم إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتينا فيقبل ويلمس الحديث. واستدل البيهقي بحديث أبي هريرة اليد زناها اللمس وفي قصة ماعز لعلك قبلت أو لمست. وبحديث عمر القبلة من اللمس فتوضأوا منها. ويجاب عن ذلك بأن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسائل بالوضوء يحتمل أن ذلك لاجل المعصية. وقد ورد أن الوضوء من مكفرات الذنوب، أو لان الحالة التي وصفها مظنة خروج المذي، أو هو طلب لشرط الصلاة المذكورة في الآية من غير نظر إلى انتقاض الوضوء وعدمه، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال. وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود وما ذكره الحاكم والبيهقي فنحن لا ننكر صحة إطلاق اللمس على الجس باليد بل هو المعنى الحقيقي، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز. وأما قولهم بأن القبلة فيها الوضوء فلا حجة في قول الصحابي لا سيما إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع، وقد صرح البحر بن عباس الذي علمه الله تأويل كتابه واستحباب فيه دعوة رسوله بأن اللمس المذكور في الآية هو الجماع، وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره لتلك المزية. ويؤيد ذلك قول أكثر أهل العلم أن المراد بقول بعض الاعراب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن امرأته لا ترد يد لامس الكناية عن كونها زانية ولهذا قال له صلى الله عليه وآله وسلم: طلقها وقد أبدى بعضهم مناسبة في الآية تقضي بأن المراد بالملامسة
[ 246 ]
الجماع ولم أذكرها هنا لعدم انتهاضها عندي. وأما حديث الباب فلا دلالة فيه على النقض، لانه لم يثبت أنه كان متوضئا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوضوء، ولا ثبت أنه كان متوضئا عند اللمس فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد انتفض وضوءه. وعن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ رواه أبو داود والنسائي، قال أبو داود: هو مرسل إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة. وقال النسائي: ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا. وأخرجه أيضا أحمد والترمذي وقال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يضعف هذا الحديث. وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق عروة بن الزبير عن عائشة. وأخرجه أيضا أبو داود من طريق عروة المزني عن عائشة. وقال القطان: هذا الحديث شبه لا شئ. وقال الترمذي: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة. وقال ابن حزم: لا يصح في الباب شئ وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الامر قبل نزول الوضوء من اللمس: ورواه الشافعي من طريق معبد بن نباتة عن محمد بن عمر عن ابن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ قال: ولا أعرف حال معبد، فإن كان ثقة فالحجة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال الحافظ: روي من عشرة أوجه أوردها البيهقي في الخلافيات وضعفها انتهى. وصححه ابن عبد البر وجماعة وشهد له حديثها الآتي بعد هذا والحديث يدل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء وقد تقدم ذكر الخلاف فيه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله رواه النسائي. الحديث قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح وفيه دليل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء وقد تقدم الكلام عليه. وتأويل ابن حجر له بما سلف قد عرفناك أنه تكلف لا دليل عليه. وعن عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوضعت يدي على باطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو
[ 247 ]
يقول اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك رواه مسلم والترمذي وصححه. الحديث رواه البيهقي أيضا، وذكره ابن أبي حاتم في العلل من طريق يونس بن خباب عن عيسى بن عمر عن عائشة بنحو هذا. قال: لا أدري عيسى أدرك عائشة أم لا. وروى مسلم في آخر الكتاب عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عندها ليلا فغرت عليه فجاء فرأى ما أصنع فقال: ما لك يا عائشة أغرت؟ قالت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك، فقال: لقد جاءك شيطانك، فقالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ الحديث. وروى الطبراني في المعجم الصغير من حديث عمرة عن عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فقلت إنه قام إلى جاريته مارية، فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائما يصلي فأدخلت يدي في شعره لانظر اغتسل أم لا؟ فلما انصرف قال: أخذك شيطانك يا عائشة وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة. قال ابن أبي حاتم: ولم يسمع منها. والحديث يدل على أن اللمس غير موجب للنقض وقد ذكرنا الخلاف فيه. قال المصنف رحمه الله تعالى: وأوسط مذهب يجمع بين هذه الاحاديث مذهب من لا يرى اللمس ينقض إلا لشهوة انتهى. باب الوضوء من مس القبل عن بسرة بنت صفوان: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ رواه الخمسة وصححه الترمذي. وقال البخاري: هو أصح شئ في هذا الباب. وفي رواية لاحمد والنسائي عن بسرة: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ويتوضأ من مس الذكر وهذا يشمل ذكر نفسه وذكر غيره. الحديث أخرجه أيضا مالك والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن الجارود، قال أبو داود قلت لاحمد: حديث بسرة ليس بصحيح، قال: بل هو صحيح، وصححه الدارقطني ويحيى بن معين، حكاه ابن عبد البر وأبو حامد بن الشرقي تلميذ مسلم والبيهقي والحازمي. قال البيهقي: هذا الحديث وإن لم يخرجه الشيخان لاختلاف وقع في سماع عروة منها أو من مروان فقد احتجا بجميع رواته. وقال الاسماعيلي: يلزم البخاري إخراجه فقد أخرج نظيره وغاية ما قدح به في الحديث أنه حدث به مروان عروة
[ 248 ]
فاستراب بذلك عروة فأرسل مروان إلى بسرة رجلا من حرسه فعاد إليه بأنها ذكرت ذلك، والواسطة بين عروة وبسرة إما مروان وهو مطعون في عدالته أو جرسيه وهو مجهول. والجواب أنه قد جزم ابن خزيمة وغير واحد من الائمة بأن عروة سمعه من بسرة وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان. قال عروة: فذهبت إلى بسرة فسألتها فصدقته، وبمثل هذا أجاب الدارقطني وابن حبان. قال الحافظ: وقد أكثر ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم من سياق طرقه، وبسط الدارقطني الكلام عليه في نحو من كراستين، ونقل البعض بأن ابن معين قال ثلاثة أحاديث لا تصح: حديث مس الذكر، ولا نكاح إلا بولي، وكل مسكر حرام: قال الحافظ: ولا يعرف هذا عن ابن معين. قال ابن الجوزي: إن هذا لا يثبت عن ابن معين وقد كان مذهبه انتقاض الوضوء بمسه: وروى عنه الميموني أنه قال: إنما يطعن في حديث بسرة من لا يذهب إليه، وطعن فيه الطحاوي بأن هشاما لم يسمع من أبيه عروة لانه رواه عنه الطبراني، فوسط بينه وبين أبيه أبا بكر بن محمد، وصرح في رواية الحاكم بأن أباه حدثه. وقد رواه الجمهور من أصحاب هشام عنه عن أبيه، فلعله سمعه عن أبي بكر عن أبيه ثم سمعه من أبيه، فكان يحدث به تارة هكذا وتارة هكذا. وفي الباب عن جابر وأبي هريرة وأم حبيبة وعبد الله بن عمرو وزيد بن خالد وسعد بن أبي وقاص وعائشة وأم سلمة وابن عباس وابن عمر وعلي بن طلق والنعمان بن بشير وأنس وأبي بن كعب ومعاوية بن حيدة وقبيصة وأروى بنت أنيس، أما حديث أبي هريرة وأم حبيبة وعبد الله بن عمر وفسيذكرها المصنف بعد هذا الحديث. وأما حديث جابر فعند الترمذي وابن ماجه والاثرم، قال ابن عبد البر: إسناده صالح. وأما حديث زيد بن خالد فعند الترمذي وأحمد والبزار. وأما حديث سعد بن أبي وقاص فأخرجه الحاكم: وأما حديث عائشة فذكره الترمذي وأعله أبو حاتم ورواه الدارقطني. وأما حديث أم سلمة فذكره الحاكم. وأما حديث ابن عباس فرواه البيهقي وفي إسناده الضحاك بن حمزة وهو منكر الحديث. وأما حديث ابن عمر فرواه الدارقطني والبيهقي وفيه عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف، وأخرجه الحاكم من طريق عبد العزيز بن أبان وهو ضعيف، وأخرجه ابن عدي من طريق أيوب بن عتبة وفيه مقال. وأما حديث علي بن طلق فأخرجه الطبراني وصححه. وأما حديث النعمان بن بشير فذكره ابن منده، وكذا حديث أنس وأبي بن كعب ومعاوية بن حيدة وقبيصة. وأما حديث أروى بنت أنيس فذكره الترمذي
[ 249 ]
ورواه البيهقي: والحديث يدل على أن لمس الذكر ينقض الوضوء وقد ذهب إلى ذلك عمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وابن عباس وعائشة وسعد بن أبي وقاص وعطاء والزهري وابن المسيب ومجاهد وأبان بن عثمان وسليمان بن يسار والشافعي وأحمد وإسحاق ومالك في المشهور وغير هؤلاء. واحتجوا بحديث الباب. وكذلك مس فرج المرأة لحديث أم حبيبة الآتي، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو الذي سيذكره المصنف في هذا الباب. وذهب علي عليه السلام وابن مسعود وعمار والحسن البصري وربيعة والعترة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وغيرهم إلى أنه غير ناقض. وقد ذكر الحازمي في الاعتبار جماعة من القائلين بهذه المقالة، وجماعة من القائلين بالمقالة الاولى من الصحابة والتابعين لم نذكرهم هنا فليرجع إليه. واحتج الآخرون بحديث طلق بن علي عند أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارقطني مرفوعا بلفظ: الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما هو بضعة منك وصححه عمر بن علي القلاس وقال: هو عندنا أثبت من حديث بسرة. وروي عن علي بن المديني أنه قال: هو عندنا أحسن من حديث بسرة قال الطحاوي: إسناده مستقيم غير مضطرب بخلاف حديث بسرة، وصححه أيضا ابن حبان والطبراني وابن حزم. وأجيب بأنه قد ضعفه الشافعي وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي، وادعى فيه النسخ ابن حبان والطبراني وابن العربي والحازمي وآخرون، وأوضح ابن حبان
[ 250 ]
وغيره ذلك. وقال البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق أن حديث طلق لم يحتج الشيخان بأحد من رواته، وحديث بسرة قد احتجا بجميع رواته، وقد أيدت دعوى النسخ بتأخر إسلام بسرة وتقدم إسلام طلق، ولكن هذا ليس دليلا على النسخ عند المحققين من أئمة الاصول، وأيد حديث بسرة أيضا بأن حديث طلق موافق لما كان الامر عليه من قبل، وحديث بسرة ناقل عنه فيصار إليه وبأنه أرجح لكثرة طرقه وصحتها، وكثرة من صححه من الائمة ولكثرة شواهده، ولان بسرة حدثت به في دار المهاجرين والانصار وهم متوافرون، وأيضا قد روي عن طلق بن علي نفسه أنه روى: من مس فرجه فليتوضأ أخرجه الطبراني وصححه قال: فيشبه أن يكون سمع الحديث الاول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل هذا ثم سمع هذا بعد فوافق حديث بسرة، وأيضا حديث طلق بن علي من رواية قيس ابنه قال الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم تجد من يعرفه. وقال أبو حاتم وأبو زرعة قيس بن طلق ممن لا تقوم به حجة اه. فالظاهر ما ذهب إليه الاولون، وقد روي عن مالك القول بندب الوضوء، ويرده ما سيأتي من التصريح بالوجوب في حديث أبي هريرة وفي حديث عائشة: ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضأون أخرجه الدارقطني وهو دعاء بالشر لا يكون إلا على ترك واجب، والمراد بالوضوء غسل جميع الاعضاء كوضوء الصلاة لانه الحقيقة الشرعية، وهي مقدمة على غيرها على ما هو الحق في الاصول. وقد اشترط في المس الناقض للوضوء أن يكون بغير حائل. ويدل له حديث أبي هريرة الآتي، وسيأتي أنه لا دليل لمن اشترط أن يكون المس بباطن الكف، وقد روي عن جابر بن زيد أنه قال بالنقض إن وقع المس عمدا لا إن وقع سهوا. وأحاديث الباب ترده ورفع الخطأ بمعنى رفع إثمه لا حكمه. وعن أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من مس فرجه فليتوضأ رواه ابن ماجه والاثرم وصححه أحمد وأبو زرعة. الحديث قال ابن السكن: لا أعلم له علة. ولفظ من يشمل الذكر والانثى. ولفظ الفرج يشمل القبل والدبر من الرجل والمرأة، وبه يرد مذهب من خصص ذلك بالرجال وهو مالك. وأخرج الدارقطني من حديث عائشة: إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ وفيه عبد الرحمن بن عبد الله العمري وهو ضعيف، وكذا ضعفه ابن حبان، قال الحافظ: وله شاهد وسيأتي حديث عمرو بن شعيب وهو صحيح، وقد تقدم الكلام في الذي قبله.
[ 251 ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أفضى بيده إلى ذكره لبس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء رواه أحمد. الحديث رواه ابن حبان في صحيحه وقال: حديث صحيح سنده عدول نقلته وصححه الحاكم وابن عبد البر، وأخرجه البيهقي والطبراني في الصغير، وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب ورواه الشافعي والبزار والدارقطني من طريق يزيد بن عبد الملك، قال النسائي: متروك وضعفه غيره. والحديث يدل على وجوب الوضوء وهو يرد مذهب من قال بالند ب وقد تقدم. ويدل على اشتراط عدم الحائل بين اليد والذكر، وقد استدل به الشافعية في أن النقض إنما يكون إذا مس الذكر بباطن الكف لما يعطيه لفظ الافضاء. قال الحافظ في التلخيص: لكن نازع في دعوى أن الافضاء لا يكون إلا ببطن الكف غير واحد، قال ابن سيده في الحكم: أفضى فلان إلى فلا وصل إليه، والوصول أعم من أن يكون بظاهر الكف أو باطنها. وقال ابن حزم: الافضاء يكون بظاهر الكف كما يكون بباطنها، قال: ولا دليل على ما قالوه يعني من التخصيص بالباطن من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي صحيح. قال المصنف رحمه الله تعالى: وهو يعني حديث أبي هريرة يمنع تأويل غيره على الاستحباب ويثبت بعمومه النقض ببطن الكف وظهره وينفيه بمفهومه من وراء حائل وبغير اليد، وفي لفظ للشافعي: إذا أفضى أحدكم إلى ذكره ليس بينها وبينه شئ فليتوضأ اه. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ رواه أحمد. الحديث رواه الترمذي أيضا ورواه البيهقي، قال الترمذي في العلل عن البخاري: وهذا عندي صحيح، وفي إسناده بقية بن الوليد ولكنه قال: حدثني محمد بن الوليد الزبيدي حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث صريح في عدم الفرق بين الرجل والمرأة، وقد عرفت أن الفرج يعم القبل والدبر لانه العورة كما في القاموس. وقد أهمل المصنف ذكر حديث طلق بن علي في هذا الباب ولم تجر له عادة بذلك، فإنه يذكر الاحاديث المتعارضة وإن كان في بعضها ضعف، وقد ذكرناه في شرح حديث أول الباب وتكلمنا عليه فيه كفاية.
[ 252 ]
باب الوضوء من لحوم الابل عن جابر بن سمرة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أنتوضأ من لحوم الابل؟ نعم توضأ من لحوم الابل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم قال: أصلي في مرابض الابل؟ قال: لا رواه أحمد ومسلم. الحديث روى ابن ماجه نحوه من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر. وكذلك روى أبو داود والترمذي، وهو يدل على أن الاكل من لحوم الابل من جملة نواقض الوضوء، وقد اختلف في ذلك فذهب الاكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء، قال النووي: ممن ذهب إلى ذلك الخلفاء الاربعة وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبو الدرداء وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أمامة وجماهير من التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم: وذهب إلى انتفاض الوضوء به أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيي وأبو بكر بن المنذر وابن خزيمة، واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي، وحكي عن أصحاب الحديث مطلقا، وحكي عن جماعة من الصحابة كذا قال النووي: ونسبه في البحر إلى أحد قولي الشافعي وإلى محمد بن الحسن. قال البيهقي: حكي عن بعض أصحابنا عن الشافعي أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الابل قلت به. قال البيهقي: قد صح فيه حديثان: حديث جابر بن سمرة وحديث البراء، قاله أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه احتج القائلون بالنقض بأحاديث الباب، واحتج القائلون بعدمه بما عند الاربعة، وابن حبان من حديث جابر أنه كان آخر الامرين منه صلى الله عليه وآله وسلم عدم الوضوء مما مست النار. قال النووي في شرح مسلم: ولكن هذا الحديث عام، وحديث الوضوء من لحوم الابل خاص، والخاص مقدم على العام. وهو مبني على أنه يبنى العام على الخاص مطلقا، كما ذهب إليه الشافعي وجماعة من أئمة الاصول وهو الحق، وأما من قال: إن العام المتأخر ناسخ فيجعل حديث ترك الوضوء مما مست النار ناسخا لاحاديث الوضوء من لحوم الابل، ولا يخفى عليك أن أحاديث الامر بالوضوء من لحوم الابل لم تشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بالتنصيص ولا بالظهور بل في حديث سمرة: قال له الرجل: أنتوضأ من لحوم الابل؟ قال: نعم وفي حديث البراء: توضأوا منها وفي حديث ذي الغرة الآتي: أفتتوضأ من لحومها؟ قال:
[ 253 ]
نعم فلا يصلح تركه صلى الله عليه وآله وسلم للوضوء مما مست النار ناسخا لها، لان فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا ولا ينسخه، بل يكون فعله لخلاف ما أمر به أمرا خاصا بالامة دليل الاختصاص به. وهذه مسألة مدونة في الاصول مشهورة، وقل من يتنبه لها من المصنفين في مواطن الترجيح واعتبارها أمر لا بد منه، وبه يزول الاشكال في كثير من الاحكام التي تعد من المضايق، وقد استرحنا بملاحظتها عن التعب في جمل من المسائل التي عدها الناس من المعضلات، وسيمر بك في هذا الشرح من مواطن اعتبارها ما تنتفع به إن شاء الله تعالى. وقد أسلفنا التنبيه على ذلك: فإن قلت: هذه القاعدة توقعك في القول بوجوب الوضوء مما مست النار ومطلقا لان الامر بالوضوء مما مست النار خاص بالامة كما ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ: توضأوا مما مست النار وهو عند مسلم من حديث عائشة مرفوعا، وفي الباب عن أبي أيوب وأبي طلحة وأم حبيبة وزيد بن ثابت وغيرهم، فلا يكون تركه للوضوء مما مست النار ناسخا للامر بالوضوء منه، ولا معارضا لمثل ما ذكرت في لحوم الابل. قلت: إن لم يصح منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا مجرد الفعل بعد الامر لنا بالوضوء مما مست النار فالحق عدم النسخ وتحتم الوضوء علينا منه واختصاص رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم بترك الوضوء منه، وأي ضير في التمذهب بهذا المذهب وقد قال به ابن عمر وأبو طلحة وأنس بن مالك وأبو موسى وعائشة وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو غرة الهذلي وعمر بن عبد العزيز وأبو مجلز لاحق بن حميد وأبو قلابة ويحيى بن يعمر والحسن البصري والزهري، صرح بذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ، وقد نسبه المهدي في البحر إلى أكثر هؤلاء وزاد الحسن البصري وأبا مجلز. وكذلك النووي في شرح مسلم، قال الحازمي: وذهب بعضهم إلى أن المنسوخ هو ترك الوضوء مما مست النار، والناسخ الامر بالوضوء منه، قال: وإلى هذا ذهب الزهري وجماعة وذكر لهم متمسكا. ويؤيد وجوب الوضوء مما مست النار أن حديث ترك الوضوء منه له علتان ذكرهما الحافظ في التلخيص، وحديث عائشة: ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوضوء مما مست النار حتى قبض وإن قال الجوزجاني أنه باطل فهو متأيد بما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم من الوضوء لكل صلاة حتى كان ذلك ديدنا له وهجيرا، وإن خالفه مرة أو مرتين. إذا تقرر لك هذا فاعلم أن الوضوء المأمور به هو الوضوء الشرعي، والحقائق
[ 254 ]
الشرعية ثابتة مقدمة على غيرها، ولا متمسك لمن قال إن المراد به غسل اليدين. وأما لحوم الغنم فهذه الاحاديث المذكورة في الباب مخصصة له من عموم ما مست النار ففي حديث البراء الآتي: لا تتوضأوا منها وفي حديث ذي الغرة أفنتوضأ من لحومها يعني الغنم؟ قال: لا وفي حديث الباب: إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ وسيأتي تمام الكلام على هذا في باب استحباب الوضوء مما مسته النار. وعن البراء بن عازب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الوضوء من لحوم الابل فقال: توضأوا منها، وسئل عن لحوم الغنم فقال: لا توضأوا منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الابل فقال: لا تصلوا فيها فإنها من الشياطين، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه وابن حبان وابن الجارود وابن خزيمة، وقال في صحيحه: لم أر خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه. وذكر الترمذي الخلاف فيه على ابن أبي ليلى هل هو عن البراء، أو عن ذي الغرة، أو عن أسيد بن حضير؟ وصحح أنه عن البراء. وكذا ذكر ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه، قال الحافظ: وقد قيل إن ذا الغرة لقب البراء بن عازب والصحيح أنه غيره وأن اسمه يعيش. والحديث يدل على وجوب الوضوء من لحوم الابل وقد تقدم الكلام فيه، وعدم وجوبه من لحوم الغنم وقد تقدم أيضا: ويدل أيضا على المنع من الصلاة في مبارك الابل والاذن بها في مرابض الغنم، وسيأتي الكلام على ذلك في باب المواضع المنهي عنها والمأذون فيها للصلاة إن شاء الله تعالى.
[ 255 ]
وعن ذي الغرة قال: عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورسول الله يسير فقال: يا رسول الله تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الابل أفنصلي فيها؟ فقال. لا، قال أفنتوضأ من لحومها؟ قال: نعم، قال: أفنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أفنتوضأ من لحومها؟ قال: لا رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه. الحديث أخرجه الطبراني، قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد موثقون وقد عرفت ما ذكره الترمذي. وقد صرح أحمد والبيهقي بأن الذي صح في الباب حديثان: حديث جابر بن سمرة وحديث البراء، وهكذا قال إسحاق، ذكره الحافظ في التلخيص. وذكره المصنف فقال: قال إسحاق بن راهويه صح في الباب حديثان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: حديث جابر بن سمرة وحديث البراء اه. وقد عرفت الكلام على فقه الحديث في أول الباب وذو الغرة قد عرفت أنه غير البراء وأن اسمه يعيش. باب المتطهر يشك هل أحدث عن عباد بن تميم عن عمه قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشئ في الصلاة فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا رواه الجماعة إلا الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شئ أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا رواه مسلم والترمذي. حديث أبي هريرة أيضا أخرجه أبو داود في الباب عن أبي سعيد عند أحمد والحاكم وابن حبان، وفي إسناد أحمد علي بن زيد بن جدعان. وعن ابن عباس عند البزار والبيهقي، وفي إسناده أبو أويس لكن تابعه الدراوردي. قوله: يخيل إليه أنه يجد الشئ يعني خروج الحدث منه. قوله: حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا قال النووي: معناه يعلم وجود أحدهما ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين. والحديث يدل على إطراح الشكوك العارضة لمن في الصلاة والوسوسة التي جعلها صلى الله عليه وآله وسلم من تسويل الشيطان، وعدم الانتقال إلا لقيام ناقل متيقن كسماع الصوت وشم الريح ومشاهدة الخارج. قال النووي في شرح مسلم: وهذا الحديث أصل من أصول الاسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الدين، وهي أن الاشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى
[ 256 ]
يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها. فمن ذلك مسألة الباب التي ورد فيها الحديث، وهي أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف. وحكي عن مالك روايتان: إحداهما أنه يلزمه الوضوء إن كان شكه خارج الصلاة ولا يلزمه إن كان في الصلاة. والثانية يلزمه بكل حال. وحكيت الرواية الاولى عن الحسن البصري وهو وجه شاذ محكي عن بعض أصحابنا وليس بشئ. قال أصحابنا: ولا فرق في شكه بين أن يستوي الاحتمالات في وقوع الحدث وعدمه أو يترجح أحدهما ويغلب في ظنه، فلا وضوء عليه بكل حال، قال: أما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين قال: ومن مسائل القاعدة المذكورة أن من شك في طلاق زوجته أو في عتق عبده أو نجاسة الماء الطاهر أو طهارة النجس أو نجاسة الثوب أو الطعام أو غيره، أو أنه صلى ثلاث ركعات أم أربعا، أم أنه ركع وسجد أم لا، أو أنه نوى الصوم أو الصلاة أو الوضوء أو الاعتكاف وهو في أثناء هذه العبادات، وما أشبه هذه الامثلة، فكل هذه الشكوك لا تأثير لها والاصل عدم الحادث اه. وإلحاق غير حالة الصلاة بها لا يصح أن يكون بالقياس، لان الخروج حالة الصلاة لا يجوز لما يطرق من الشكوك بخلاف غيرها، فاستفادته من حديث أبي هريرة لعدم ذكر الصلاة فيه. وأما ذكر المسجد فوصف طردي لا يقتضي التقييد ولهذا قال المصنف عقب سياقه: وهذا اللفظ عام في حال الصلاة وغيرها اه، على أن التقييد بالصلاة في حديث عباد بن تميم إنما وقع في سؤال السائل، وفي جعله مقيدا للجواب خلاف في الاصول مشهور. باب إيجاب الوضوء للصلاة والطواف ومس المصحف [ رح ] عن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ورواه الجماعة إلا البخاري. الحديث أخرجه الطبراني أيضا. وفي الباب عن أسامة بن عمير والدأبي المليح وأبي هريرة وأنس وأبي بكر الصديق والزبير بن العوام وأبي سعيد الخدري وغيرهم. قال الحافظ: وقد أوضحت طرقه وألفاظه في الكلام على أوائل الترمذي. قوله: لا يقبل الله قدمنا الكلام عليه في باب الوضوء بالخارج من السبيل. قوله: ولا صدقة من غلول
[ 257 ]
الغلول بضم الغين المعجمة هو الخيانة، وأصله السرقة من مال الغنيمة قبل القسمة. قال النووي في شرح مسلم: وقد أجمعت الامة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، قال القاضي عياض: واختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة، فذهب ابن الجهم إلى أن الوضوء كان في أول الاسلام سنة ثم نزل فرضه في آية التيمم. وقال الجمهور: بل كان قبل ذلك فرضا، وقد استوفى الكلام على ذلك الحافظ في أول كتاب الوضوء في الفتح. واختلفوا هل الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة أم على المحدث خاصة؟ فذهب ذاهبون من السلف إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض بدليل قوله: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * الآية. وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان ثم نسخ وقيل: الامر به على الندب. وقيل: لا بل لم يشرع إلا لمن يحدث ولكن تجديده لكل صلاة مستحب قال النووي حاكيا عن القاضي: وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك ولم يبق بينهم خلاف. ومعنى الآية عندهم إذا قمتم محدثين، وهكذا نسبه الحافظ في الفتح إلى الاكثر. ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود عن عبد الله بن حنظلة الانصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث: ولمسلم من حديث بريدة: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر إنك فعلت
[ 258 ]
شيئا لم تكن تفعله، فقال: عمدا فعلته أي لبيان الجواز، واستدل الدارمي في مسنده على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا وضوء إلا من حدث فالحق استحباب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، وما شكك به صاحب المنار في ذلك غير نير، فإن الاحاديث مصرحة بوقوع الوضوء منه صلى الله عليه وآله وسلم لكل صلاة إلى وقت الترخيص، وهو أعم من أن يكون لحدث ولغيره. والآية دلت على هذا وليس فيها التقييد بحال الحدث، وحديث: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك عند أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا من أعظم الادلة على المطلوب وسيذكر المصنف هذا الحديث في باب فضل الوضوء لكل صلاة. وقد أخرج الجماعة إلا مسلما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضأ عند كل صلاة زاد الترمذي: طاهرا وغير طاهر وفي حديث عدم التوضؤ من لحوم الغنم دليل على تجديد الوضوء على الوضوء لانه حكم صلى الله عليه وآله وسلم بأن أكل لحومها غير ناقض، ثم قال للسائل عن الوضوء إن شئت: وقد وردت الاحاديث الصحيحة في فضل الوضوء كحديث: ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء أخرجه مسلم وأهل السنن من حديث ابن عقبة بن عامر. وحديث: إنها تخرج خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء عند مسلم ومالك والترمذي من حديث أبي هريرة. وحديث: من توضأ نحو وضوئي هذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة أخرجه الشيخان من حديث عثمان. وحديث: إذا توضأت اغتسلت من خطاياك كيوم ولدتك أمك عند مسلم والنسائي من حديث أبي أمامة وغير ذلك كثير، فهل يجمل بطالب الحق الراغب في الاجر أن يدع هذه الادلة التي لا يحتجب أنوارها على غير أكمه، والمثوبات التي لا يرغب عنها إلا ابله ويتمسك بأذيال تشكيك منهار وشبهة مهدومة هي مخافة الوقوع بتجديد الوضوء لكل صلاة من غير حدث في الوعيد الذي ورد في حديث: فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم بعد أن يتكاثر الادلة على أن الوضوء لكل صلاة عزيمة، وأن الاكتفاء بوضوء واحد لصلوات متعددة رخصة، بل ذهب قوم إلى الوجوب عند القيام للصلاة كما أسلفنا، دع عنك هذا كله، هذا ابن عمر يروي أن رسول الله (ص) قال: من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات أخرجه الترمذي
[ 259 ]
وأبو داود، فهل أنص على المطلوب من هذا؟ وهل يبقى بعد هذا التصريح ارتياب؟ وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان فيه: لا يمس القرآن إلا طاهر رواه الاثرم والدارقطني. وهو لمالك في الموطأ مرسلا عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهرا وقال الاثرم: واحتج أبو عبد الله يعنى أحمد بحديث ابن عمر: ولا يمس المصحف إلا على طهارة. الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الخلافيات والطبراني وفي إسناده سويد بن أبي حاتم وهو ضعيف. وذكر الطبراني في الاوسط أنه تفرد به، وحسن الحازمي إسناده، وقد ضعف النووي وابن كثير في إرشاده وابن حزم حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن حزم جميعا. وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني والطبراني قال الحافظ: وإسناده لا بأس به، لكن فيه سليمان الاشدق وهو مختلف فيه، رواه عن سالم عن أبيه ابن عمر، قال الحافظ: ذكر الاثر من أن أحمد احتج به. وفي الباب أيضا عن عثمان بن أبي العاص عند الطبراني وابن أبي داود في المصاحف وفي إسناده انقطاع. وفي رواية الطبراني من لا يعرف، وعن ثوبان أورده علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده وفي إسناده حصيب بن جحدر وهو متروك. وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنه رجس ولا يمسه إلا المطهرون، قال الحافظ: وفي إسناده مقال، وفيه عن سلمان موقوفا، أخرجه الدارقطني والحاكم، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر: إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة. والحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرا، ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن، والطاهر من الحدث الاكبر والاصغر ومن ليس على بدنه نجاسة. ويدل لاطلاقه على الاول قول الله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لابي هريرة: المؤمن لا ينجس وعلى الثاني: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * (المائدة: 6) وعلى الثالث قوله صلى الله عليه وآله وسلم في
[ 260 ]
المسح على الخفين: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين وعلى الرابع الاجماع على أن الشئ الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا، وقد ورد إطلاق ذلك في كثير، فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه حمله عليها هنا. والمسألة مدونة في الاصول وفيها مذاهب. والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يبين، وقد وقع الاجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف وخالف في ذلك داود. استدل المانعون للجنب بقوله تعالى: * (لا يمسه إلا المطهرون) * (الواقعة: 79) وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعا إلى القرآن، والظاهر رجوعه إلى الكتاب وهو اللوح المحفوظ لانه الاقرب والمطهرون الملائكة، ولو سلم عدم الظهور فلا أقل من الاحتمال فيمتنع العمل بأحد الامرين، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الاصلية، ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين لكانت دلالته على المطلوب وهو منع الجنب من مسه غير مسلمة، لان المطهر من ليس بنجس، والمؤمن ليس بنجس دائما لحديث: المؤمن لا ينجس وهو متفق عليه، فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية، بل يتعين حمله على من ليس بمشرك كما في قوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * (التوبة: 28) لهذا الحديث، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أصغر فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا في معانيه فلا يعين حتى يبين. وقد دل الدليل ههنا أن المراد به غيره لحديث: المؤمن لا ينجس ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحا بلا مرجح، وتعيينه لجميعها استعمالا للمشترك في جميع معانيه وفيه الخلاف، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه لما صح لوجود المانع وهو حديث: ا لمؤمن لا ينجس. واستدلوا أيضا بحديث الباب، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج لانه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج لعاد البحث السابق في لفظ طاهر وقد عرفته. قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير، إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الاصغر لا يصح لا حقيقة ولا مجازا ولا لغة، صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه، فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائما يتناوله الحديث، سواء كان جنبا أو حائضا أو محدثا أو على بدنه نجاسة. فإن قلت: إذا تم ما تريد من حمل الطاهر على من ليس بمشرك
[ 261 ]
فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين * (ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة) * إلى قوله: * (مسلمون) * (آل عمران: 64) مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم. قلت: اجعله خاصا بمثل الآية والآيتين فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار لمصلحة كدعائه إلى الاسلام، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ككتب التفسير، فلا تخصص به الآية والحديث. إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك وقد عرفت الخلاف في الجنب. وأما المحدث حدثا أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف. وقال القاسم وأكثر الفقهاء والامام يحيى: لا يجوز واستدلوا بما سلف وقد سلف ما فيه. وعن طاوس عن رجل قد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما الطواف بالبيت صلاة فإذا طفتم فأقلوا الكلام رواه أحمد والنسائي. الحديث أخرجه أيضا الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس، وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان، وقال الترمذي: روي مرفوعا وموقوفا، ولا يعرف مرفوعا إلا من حديث عطاء ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس، واختلف على عطاء في رفعه ووقفه، ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي وزاد: إن رواية الرفع ضعيفة. قال الحافظ: وفي إطلاق ذلك نظر، فإن عطاء بن السائب صدوق، وإذا روي عنه الحديث مرفوعا تارة وموقوفا تارة فالحكم عند هؤلاء الجماعة للرفع، والنووي ممن يعتمد ذلك ويكثر منه، ولا يلتفت إلى تعليل الحديث به إذا كان الرافع ثقة. وقد أخرج الحديث الحاكم من رواية سفيان عن عطاء وهو ممن سمع منه قبل الاختلاط بالاتفاق ولكنه موقوف من طريقه. وقد أطال الكلام في التلخيص فليرجع إليه. والحديث يدل على أنه ينبغي أن يكون الطواف على طهارة كطهارة الصلاة وفيه خلاف محله كتاب الحج.
[ 262 ]
[ رم ] أبواب ما يستحب الوضوء لاجله باب استحباب الوضوء مما مسته النار والرخصة في تركه عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ: أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد فقال: إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها لاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول توضأوا مما مست النار. وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: توضأوا مما مست النار. وعن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله. رواهن أحمد ومسلم والنسائي. قوله: من أثوار أقط الاثوار جمع ثور وهي القطعة من الاقط وهي بالثاء المثلثة. والاقط لبن جامد مستحجر وهي مما مسته النار. قوله: يتوضأ على المسجد استدل به على جواز الوضوء في المسجد. وقد نقل ابن المنذر إجماع العلماء على جوازه ما لم يؤذيه أحدا. والاحاديث تدل على وجوب الوضوء مما مسته النار، وقد اختلف الناس في ذلك، فذهب جماعة من الصحابة منهم الخلفاء الاربعة وعبد الله بن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وجابر بن سمرة وزيد بن ثابت وأبو موسى الاشعري وأبو هريرة وأبي بن كعب وأبو طلحة بن ربيعة وأبو أمامة والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله وعائشة وجماهير التابعين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن المبارك وأحمد وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى وأبي ثور وأبي خيثمة وسفيان الثوري وأهل الحجاز وأهل الكوفة إلى أنه لا ينتقض الوضوء بأكل ما مسته النار. وذهبت طائفة إلى وجوب الوضوء الشرعي مما مسته النار، وقد ذكرناهم في باب الوضوء من لحوم الابل. استدل الاولون بالاحاديث التي ذكرها في هذا الباب. واستدل الآخرون بالاحاديث التي فيها الامر بالوضوء مما مسته النار، وقد ذكر المصنف بعضها ههنا، وأجاب الاولون عن ذلك بجوابين: الاول أنه منسوخ بحديث جابر الآتي. الثاني أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين. قال النووي: ثم إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الاول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك أنه لا يجب الوضوء من أكل ما مسته النار. ولا يخفاك أن الجواب الاول إنما يتم بعد تسليم أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم يعارض القول الخاص بنا وينسخه والمتقرر في الاصول خلافه. وقد نبهناك على ذلك في باب
[ 263 ]
الوضوء من لحوم الابل. وأما الجواب الثاني فقد تقرر أن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها، وحقيقة الوضوء الشرعية هي غسل جميع الاعضاء التي تغسل للوضوء فلا يخالف هذه الحقيقة إلا لدليل. وأما دعوى الاجماع فهي من الدعاوى التي لا يهابها طالب الحق ولا تحول بينه وبين مراده منه، نعم الاحاديث الواردة في ترك التوضئ من لحوم الغنم مخصصة لعموم الامر بالوضوء مما مست النار وما عدا لحوم الغنم داخل تحت ذلك العموم. وعن ميمونة قالت: أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كتف شاة ثم قام فصلى ولم يتوضأ. وعن عمرو بن أمية الضمري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتز من كتف شاة فأكل منها فدعي إلى الصلاة فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ متفق عليهما. قوله: يحتز من كتف شاة قال النووي: فيه جواز قطع اللحم بالسكين، وذلك قد تدعو الحاجة إليه لصلابة اللحم أو كبر القطعة، قالوا: ويكره من غير حاجة. قوله: فدعي إلى الصلاة في هذا دليل على استحباب استدعاه الائمة إلى الصلاة إذا حضر وقتها. والحديث يدل على عدم وجوب لوضوء مما مسته النار، وقد عرفت الخلاف والكلام فيه فلا نعيده. وعن جابر قال: أكلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر وعمر خبزا ولحما فصلوا ولم يتوضأوا رواه أحمد. وعن جابر قال: كان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك الوضوء مما مسته النار رواه أبو داود والنسائي. الحديث الاول أخرجه ابن أبي شيبة والضياء في المختارة. والحديث الآخر أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان، وقال أبو داود: هذا اختصار من حديث: قربت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خبزا ولحما فأكله ثم دعا بالوضوء فتوضأ قبل الظهر ثم دعا بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ وقال ابن أبي حاتم في المعلل عن أبيه نحوه وزاد، ويمكن أن يكون شعيب بن أبي حمزة حدث به من حفظه فوهم فيه، وقال ابن حبان نحوا مما قاله أبو داود وله علة أخرى، قال الشافعي في سنن حرملة: لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر إنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل،
[ 264 ]
وقال البخاري في الاوسط: حدثنا علي بن المديني قال قلت لسفيان: إن أبا علقمة الفروي روى عن ابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أكل لحما ولم يتوضأ فقال: احسبني سمعت ابن المنكدر، قال: أخبرني من سمع جابر، قال الحافظ: ويشهد لاصل الحديث ما أخرجه البخاري في الصحيح عن سعيد بن الحرث قلت لجابر: الوضوء مما مست النار، قال لا، وللحديث شاهد من حديث محمد بن مسلمة أجره الطبراني في الاوسط ولفظه: أكل آخر أمره لحما ثم صلى ولم يتوضأ وقال النووي في شرح مسلم: حديث جابر صحيح، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما من أهل السنن بأسانيدهم الصحيحة. والحديث يدل على عدم وجوب الوضوء مما مسته النار، وقد تقدم الكلام على ذلك. قال المصنف رحمه الله وهذه النصوص إنما تنفي الايجاب لا الاستحباب ولهذا قال للذي سأله: أتتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ ولولا أن الوضوء من ذلك مستحب لما أذن فيه لانه إسراف وتضييع للماء بغير فائدة، انتهى. باب فضل الوضوء لكل صلاة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك رواه أحمد بإسناد صحيح. الحديث أخرج نحوه النسائي وابن خزيمة والبخاري تعليقا من حديثه، وروى نحوه ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة، وهو يدل على عدم وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة وهو مذهب الاكثر، بل حكى النووي عن القاضي عياض أنه أجمع عليه أهل الفتوى ولم يبق بينهم خلاف، وقد قدمنا الكلام على ذلك في باب إيجاب الوضوء للصلاة والطواف ومس المصحف. وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قيل له: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث رواه الجماعة إلا مسلما. قوله: عند كل صلاة قال الحافظ: أي مفروضة، زاد الترمذي من طريق حميد عن أنس طاهرا أو غير طاهر. وظاهره أن تلك كانت عادته. قال الطحاوي: يحتمل أن
[ 265 ]
ذلك كان واجبا عليه خاصة ثم نسخ يوم الفتح بحديث بريدة يعني الذي أخرجه مسلم: أنه صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد قال: ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا ثم خشي أن يظن وجوبه فتركه لبيان الجواز. قال الحافظ: وهذا أقرب، وعلى تقدير الاول فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد بن النعمان فإنه كان في خيبر وهي قبل الفتح بزمان. قوله: كيف كنتم تصنعون؟ القائل عمرو بن عامر والمراد الصحابة. ولابن ماجه: وكنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد. والحديث يدل على استحباب الوضوء لكل صلاة وعدم وجوبه. وعن عبد الله بن حنظلة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث، وكان عبد الله بن عمر يرى أن به قوة على ذلك كان يفعله حتى مات رواه أحمد وأبو داود. وروى أبو داود والترمذي بإسناد ضعيف عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات. أما الرواية الاولى عن عبد الله بن حنظلة ففي إسنادها محمد بن إسحاق وقد عنعن وفي الاحتجاج به خلاف. وأما الرواية الثانية عن ابن عمر ففي إسنادها الافريقي عن أبي غطيف ولهذا قال المصنف بإسناد ضعيف، وهكذا قال الترمذي في سننه. والحديث الاول فيه دليل على عدم وجوب الوضوء لكل صلاة وعلى استحبابه لكل صلاة مع الطهارة وقد تقدم الكلام عليه. قوله: عشر حسنات قال ابن رسلان: يشبه أن يكون المراد كتب الله له به عشرة وضوءات فإن أقل ما وعد به من الاضعاف الحسنة بعشر أمثالها وقد وعد بالواحدة سبعمائة ووعد ثوابا بغير حساب. باب استحباب الطهارة لذكر الله عزوجل والرخصة في تركه عن المهاجر بن قنفذ: أنه سلم علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة رواه أحمد وابن ماجه بنحوه. الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي. وهو يدل على كراهة الذكر للمحدث حدثا أصغر. ولفظ أبي داود وهو يبول ويعارضه ما سيأتي من حديث علي وعائشة، فإن في حديث علي لا يحجزه من القرآن شئ ليس الجنابة فإذا كان الحدث الاصغر لا يمنعه عن قراءة القرآن وهو أفضل الذكر كأن جواز ما عداه من الاذكار بطريق
[ 266 ]
الاولى. وكذلك حديث عائشة فإن قولها: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله على كل أحيانه مشعر بوقوع الذكر منه حال الحدث الاصغر، لانه من جملة الاحيان المذكورة، فيمكن الجمع بأن هذا الحديث خاص فيخص به ذلك العموم، ويمكن حمل الكراهة على كراهة التنزيه، ومثله الحديث الذي بعده، ويمكن أن يقال إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما ترك الجواب لانه لم يخش فوت من سلم عليه، فيكون دليلا على جواز التراخي مع عدم خشية الفوت لمن كان مشتغلا بالوضوء، ولكن التعليل بكراهته لذكر الله في تلك الحال يدل على أن الحدث سبب الكراهة من غير نظر إلى غيره. وعن أبي جهيم بن الحرث قال: أقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام متفق عليه. ومن الرخصة في ذلك حديث عبد الله بن سلمة عن علي وحديث ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة وسنذكرهما. قوله: بئر جمل بجيم وميم مفتوحتين، وفي رواية النسائي بئر الجمل بالالف واللام وهو موضع بقرب المدينة. قوله: حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه هو محمول على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان عادما للماء حال التيمم، فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادرين على استعماله، قال النووي: ولا فرق بين أن يضيق وقت الصلاة وبين أن يتسع. ولا فرق أيضا بين صلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما. وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة يجوز أن يتيمم مع وجود الماء لصلاة الجنازة والعيد إذا خاف فوتهما انتهى. وهو أيضا مذهب الهادوية. وفي الحديث دلالة على جواز التيمم من الجدار إذا كان عليه غبار. قال النووي: وهو جائز عندنا وعند الجمهور من السلف والخلف. واحتج به من جوز التيمم بغير تراب. وأجيب بأنه محمول على جدار عليه تراب. وفيه دليل على جواز التيمم للنوافل والفضائل كسجود التلاوة والشكر ومس المصحف ونحوها كما يجوز للفرائض وهذا مذهب العلماء كافة قاله النووي. وفي الحديث أن المسلم في حال قضاء الحاجة لا يستحق جوابا وهذا متفق عليه. قال النووي: ويكره للقاعد على قضاء الحاجة أن يذكر الله بشئ من الاذكار، قالوا: فلا يسبح ولا يهلل، ولا يرد السلام، ولا يشمت العاطس، ولا يحمد الله إذا عطس، ولا يقول
[ 267 ]
مثل ما يقول المؤذن، وكذلك لا يأتي بشئ من هذه الاذكار في حال الجماع، وإذا عطس في هذه الاحوال يحمد الله تعالى في نفسه ولا يحرك به لسانه، وهذا الذي ذكرناه من كراهة الذكر هو كراهة تنزيه لا تحريم فلا إثم على فاعله. وإلى هذا ذهبت الشافعية والاكثرون، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس وعطاء ومعيد الجهني وعكرمة، وقال إبراهيم النخعي وابن سيرين: لا بأس بالذكر حال قضاء الحاجة، ولا خلاف أن الضرورة إذا دعت إلى الكلام، كما إذا رأى ضريرا يقع في بئر أو رأى حية تدنو من أعمى كان جائزا. وقد تقدم طرف من هذا الحديث وطرف من شرحه في باب كف المتخلي عن الكلام. قوله: ومن الرخصة في ذلك حديث عبد الله بن سلمة عن علي سيذكره المصنف في باب تحريم القرآن على الحائض والجنب: وفيه: أنه كان لا يحجزه عن القرآن شئ ليس الجنابة فأشعر بجواز قراءة القرآن في جميع الحالات إلا في حالة الجنابة، والقرآن أشرف الذكر فجواز غيره بالاولى. ومن جملة الحالات حالة الحدث الاصغر. قوله: وحديث ابن عباس بت عند خالتي ميمونة محل الدلالة منه قوله: ثم قرأ العشر الآيات أولها: * (إن في خلق السموات والارض) * (البقرة: 164) إلى آخر السورة. قال ابن بطال ومن تبعه فيه دليل على رد قول من كره قراءة القرآن على غير طهارة، لانه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآيات بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ، وتعقبه ابن المنير وغيره بأن ذلك مفرع على أن النوم في حقه ينقض وليس كذلك لانه قال: تنام عيناي ولا ينام قلبي. وأما كونه توضأ عقب ذلك فلعله جدد الوضوء أو أحدث بعد ذلك فتوضأ، قال الحافظ: وهو تعقب جيد بالنسبة إلى قول ابن بطال بعد قيامه من النوم لانه لم يتعين كونه أحدث في النوم، لكن لما عقب ذلك بالوضوء كان ظاهرا في كونه أحدث، ولا يلزم من كون نومه لا ينقض وضوءه أن لا يقع منه حدث وهو نائم، نعم خصوصيته أنه إن وقع شعر به بخلاف غيره، وما ادعوه من التجديد وغيره الاصل عدمه، وقد سبق الاسماعيلي إلى معنى ما ذكره ابن المنير. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله على كل أحيانه ورواه الخمسة إلا النسائي وذكره البخاري بغير إسناد. الحديث أخرجه مسلم أيضا، قال النووي في شرح مسلم: هذا الحديث أصل في ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وشبهها من الاذكار وهذا جائز بإجماع المسلمين. وإنما اختلف العلماء في جواز قراءة القرآن للجنب والحائض، وسيأتي
[ 268 ]
الكلام على ذلك في باب تحريم القراءة على الحائض والجنب. واعلم أنه يكره الذكر في حالة الجلوس على البول والغائط. وفي حالة الجماع. وقد ذكرنا ذلك في الحديث الذي قبل هذا، فيكون الحديث مخصوصا بما سوى هذه الاحوال، ويكون المقصود أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يذكر الله تعالى متطهرا ومحدثا وجنبا وقائما وقاعدا ومضجعا وماشيا، قاله النووي. باب استحباب الوضوء لمن أراد النوم عن البراء بن عازب: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الايمن ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به، قال: فرددها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما بلغت: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك، قال: لا ونبيك الذي أرسلت رواه أحمد والبخاري والترمذي. قوله: فتوضأ ظاهره استحباب تجديد الوضوء لكل من أراد النوم ولو كان على طهارة، ويحتمل أن يكون مخصوصا بمن كان محدثا. وقد روى هذا الحديث الشيخان وغيرهما من طرق عن البراء ليس فيها ذكر الوضوء إلا في هذه الرواية، وكذا قال الترمذي. وقد ورد في الباب حديث عن معاذ بن جبل أخرجه أبو داود، وحديث عن علي أخرجه البزار وليس واحد منهما على شرط البخاري. قوله: فأنت على الفطرة المراد بالفطرة هنا السنة بقوله: واجعلهن آخر ما تتكلم به في رواية الكشميهني من آخر وهي تبين أنه لا يمتنع أن يقول بعدهن شيئا من المشروع من الذكر. قوله: لا ونبيك قال الخطابي: فيه حجة لمن منع رواية الحديث بالمعنى، قال: ويحتمل أن يكون أشار بقوله ونبيك الذي أرسلت إلى أنه كان نبيا قبل أن يكون رسولا، ولانه ليس في قوله ورسولك الذي أرسلت وصف زائد بخلاف قوله ونبيك الذي أرسلت، وقال غيره: ليس فيه حجة على منع ذلك لان لفظ الرسول ليس بمعنى لفظ النبي، ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى، فكأنه أراد أن يجمع الوصفين صريحا، وإن كان وصف الرسالة يستلزم وصف النبوة
[ 269 ]
أو لان ألفاظ الاذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ سر ليس في الآخر ولو كان يرادفه في الظاهر، أو لعله أوحى إليه بهذا اللفظ فرأى أن يقف عنده، أو ذكره احترازا ممن أرسل من غير نبوة كجبريل وغيره من الملائكة ونهم رسل لا أنبياء، فلعله أراد تخليص الكلام من اللبس، أو لان لفظ النبي أمدح من لفظ الرسول، لانه مشترك في الاطلاق على كل من أرسل، بخلاف لفظ النبي فإنه لا اشتراك فيه عرفا. وعلى هذا فقول من قال: كل رسول نبي من غير عكس لا يصح إطلاقه قاله الحافظ: واستدل به بعضهم على أنه لا يجوز إبدال لفظ قال نبي الله مثلا في الرواية بلفظ قال رسول الله وكذا عكسه. قال الحافظ: ولو أجزنا الرواية بالمعنى فلا حجة له فيه، وكذا لا حجة له فيه لمن أجاز الاول دون الثاني لكون الاول أخص من الثاني، لانا نقول الذا ت المخبر عنها في الرواية واحدة، فبأي وصف وصفت تلك الذات من أوصافها اللائقة بها علم القصد بالمخبر عنه ولو تباينت معاني الصفات، كما لو أبدل اسما بكنية أو كنية باسم فلا فرق. وللحديث فوائد مذكورة في كتاب الدعوات من الفتح. باب تأكيد ذلك للجنب واستحباب الوضوء له لاجل الاكل والشرب والمعاودة عن ابن عمر أن عمر قال: رسول الله أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا
[ 270 ]
توضأ. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة رواهما الجماعة. ولاحمد ومسلم عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ. قوله: قال: نعم إذا توضأ في رواية البخاري ومسلم: ليتوضأ ثم لينم. وفي رواية للبخاري: ليتوضأ ويرقد. وفي رواية لهما: توضأ واغسل ذكرك ثم نم. وفي لفظ للبخاري: نعم ويتوضأ. وأحاديث الباب تدل على أنه يجوز للجنب أن ينام ويأكل قبل الاغتسال، وكذلك يجوز له معاودة الاهل كما سيأتي في حديث أبي سعيد، وكذلك الشرب كما يأتي في حديث عمار، وهذا كله مجمع عليه قاله النووي، وحديث عمر جاء بصيغة الامر وجاء بصيغة الشرط، وهو متمسك لمن قال بوجوب الوضوء على الجنب إذا أراد أن ينام قبل الاغتسال وهم الظاهرية وابن حبيب من المالكية، وذهب الجمهور إلى استحبابه وعدم وجوبه. وتمسكوا بحديث عائشة الآتي في الباب الذي بعد هذا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينام وهو جنب ولا يمس ماء وهو غير صالح للتمسك به من وجوه: أحدها أن فيه مقالا لا ينتهض معه للاستدلال وسنبينه في شرحه إن شاء الله تعالى. وثانيها أن قوله لا يمس ماء فكرة في سياق النفي فتعم ماء الغسل وماء الوضوء وغيرهما، وحديثها المذكور في الباب بلفظ: كان إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة خاص بماء الوضوء فيبنى العام على الخاص ويكون المراد بقوله: لا يمس ماء غير ماء الوضوء. وقد صرح ابن سريج والبيهقي بأن المراد بالماء ماء الغسل. وقد أخرج أحمد عن عائشة قالت: كان يجنب من الليل ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ولا يمس ماء: وثالثها أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم لمس الماء لا يعارض قوله الخاص بنا كما تقرر في الاصول، فيكون الترك على تسليم شموله لماء الوضوء خاصا به. وتمسكوا أيضا بحديث ابن عباس مرفوعا: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة أخرجه أصحاب السنن. وقد استدل به أيضا على ذلك ابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحه. قال الحافظ: وقد قدح في هذا الاستدلال ابن زبيد المالكي وهو واضح قلت: فيجب الجمع بين الادلة بحمل الامر على الاستحباب، ويؤيد ذلك أنه أخرج ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث ابن عمر: أنه سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم ويتوضأ إن شاء والمراد بالوضوء هنا
[ 271 ]
وضوء الصلاة لما عرفناك غير مرة أنه هو الحقيقة الشرعية وأنها مقدمة على غيرها. وقد صرحت بذلك عائشة في حديث الباب المتفق عليه، فهو يرد ما جنح إليه الطحاوي من أن المراد بالوضوء التنظيف، واحتج بأن ابن عمر راوي هذا الحديث وهو صاحب القصة: كان يتوضأ وهو جنب ولا يغسل رجليه كما رواه مالك في الموطأ عن نافع، ويرد أيضا بأن مخالفة الراوي لما روى لا تقدح في المروي ولا تصلح لمعارضته. وأيضا قد ورد تقييد الوضوء بوضوء الصلاة من روايته ومن رواية عائشة فيعتمد ذلك، ويحمل ترك ابن عمر لغسل رجليه على أن ذلك كان لعذر. وإلى هذا ذهب الجمهور. قال الحافظ: والحكمة في الوضوء أنه يخفف الحدث ولاسيما على القول بجواز تفريق الغسل. ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ فإنه نصف غسل الجنابة. وقيل: الحكمة في الوضوء أنه إحدى الطهارتين، وقيل إنه ينشط إلى العود أو إلى الغسل. وعن عمار بن ياسر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة رواه أحمد والترمذي وصححه. الوضوء عند إرادة الاكل والنوم ثابت من حديث عائشة ومتفق عليه. وقد تقدم في الحديث الذي قبل هذا إحدى الروايات وعزاها المصنف إلى أحمد ومسلم. وعند إرادة الشرب من حديث عائشة أيضا عند النسائي، ولكن جميع ذلك من فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا من قوله كما في حديث الباب. وقد روي الوضوء عند الاكل من حديث جابر عند ابن ماجه وابن فزيمة، ومن حديث أم سلمة وأبي هريرة عند الطبراني في الاوسط، والحديث يدل على أفضلية الغسل لان العزيمة أفضل من الرخصة، والخلاف في الوضوء لمن أراد أن ينام وهو جنب قد ذكرناه في الحديث الذي قبل هذا، وأما من أراد أن يأكل أو يشرب فقد اتفق الناس على عدم وجوب الوضوء عليه، وحكى ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن ابن عمر أنه واجب. وعن أبي سعيد: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ رواه الجماعة إلا البخاري. ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وزادوا: فإنه أنشط للعود وفي رواية
[ 272 ]
للبيهقي وابن خزيمة: فليتوضأ وضوءه للصلاة ويقال: إن الشافعي قال: لا يثبت مثله، قال البيهقي: ولعله لم يقف على إسناد حديث أبي سعيد ووقف على إسناد غيره، فقد روي عن عمر وابن عمر بإسنادين ضعيفين، قال الحافظ: ويؤيد هذا حديث أنس الثابت في الصحيحين أنه (ص): كان يطوف على نسائه بغسل واحد والحديث يدل على أن غسل الجنابة ليس على الفور وإنما يتضيق على الانسان عند القيام إلى الصلاة. قال النووي: وهذا بإجماع المسلمين، ولا شك في استحبابه قبل المعاودة لما رواه أحمد وأصحاب السنن من حديث أبي رافع: أنه (ص) طاف على نسائه ذات ليلة يغتسل عند هذه وعند هذه، وقيل: يا رسول الله ألا تجعله غسلا واحدا؟ فقال: هذا أزكى وأطيب وقول أبي داود إن حديث أنس أصح منه لا ينفي صحته. وقد قال النووي: هو محمول على أنه فعل الامرين في وقتين مختلفين. وقد ذهبت الظاهرية وابن حبيب إلى وجوب الوضوء على المعاود وتمسكوا بحديث الباب. وذهب من عداهم إلى عدم الوجوب وجعلوا ما ثبت في رواية الحاكم بلفظ: إنه أنشط للعود صار فاللامر إلى الندب. ويؤيد ذلك ما رواه الطحاوي من حديث عائشة قالت: كان النبي (ص) يجامع ثم يعود ولا يتوضأ ويؤيده أيضا الحديث المتقدم بلفظ: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة. (فائدة) طوافه صلى الله عليه وآله وسلم على نسائه محمول على أنه كان برضاهن أو برضا صاحبة النوبة إن كانت نوبة واحدة، قال النووي: وهذا التأويل يحتاج إليه من يقول كان القسم واجبا عليه في الدوام كما يجب علينا، وأما من لا يوجبه فلا يحتاج إلى تأويل فإن له أن يفعل ما شاء. باب جواز ترك ذلك عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يأكل أو يشرب وهو جنب يغسل يديه ثم يأكل ويشرب رواه أحمد والنسائي. هو طرف من الحديث ولفظه في النسائي: كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه ثم يأكل أو يشرب وقد ذكره الحافظ في التلخيص وابن سيد الناس في شرح الترمذي ولم يتكلما عليه بما يوجب ضعفا، وهو من سنن النسائي من طريق محمد بن عبيد بن محمد قال: حدثنا
[ 273 ]
عبد الله بن المبارك عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة فذكره. ومحمد بن عبيد ثقة وبقية رجال الاسناد أئمة. وأخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديثها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان إذا أراد أن يطعم وهو جنب غسل يده ثم يطعم وبه استدل من فرق بين الوضوء لارادة النوم والوضوء لارادة الاكل والشرب. قال الشيخ أبو العباس القرطبي: هو مذهب كثير من أهل الظاهر وهو رواية عن مالك. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أراد الجنب أن يأكل غسل يديه ومضمض فاه. وعن مجاهد قال في الجنب إذا أراد الاكل أنه يغسل يديه ويأكل. وعن الزهري مثله، وإليه ذهب أحمد وقال: لان الاحاديث في الوضوء لمن أراد النوم كذا في شرح الترمذي لابن سيد الناس. وذهب الجمهور إلى أنه كوضوء الصلاة واستدلوا بما في الصحيحين من حديثها بلفظ: كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة وبما سبق من حديث عمار. ويجمع بين الروايات بأنه كان تارة يتوضأ وضوء الصلاة وتارة يقتصر على غسل اليدين لكن هذا في الاكل والشرب خاصة، وأما في النوم والمعاودة فهو كوضوء الصلاة لعدم المعارض للاحاديث المصرحة فيهما بأنه كوضوء الصلاة. وعنها أيضا قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان له حاجة إلى أهله أتاهم ثم يعود ولا يمس ماء رواه أحمد ولابي داود والترمذي عنها: كان رسول الله (ص) ينام وهو جنب ولا يمس ماء. الحديث قال أحمد: ليس بصحيح. وقال أبو داود: هو وهم. وقال يزيد بن هارون: هو خطأ. وقال مهنان أحمد بن صالح: لا يحل أن يروى هذا الحديث. وفي علل الاثرم: لو لم يخالف أبا إسحاق في هذا إلا إبراهيم وحده لكفى، قال ابن مفوز: أجمع المحدثون أنه خطأ من أبي إسحاق، قال الحافظ: وتساهل في نقل الاجماع فقد صححه البيهقي وقال: إن أبا إسحاق قد بين سماعه من الاسود في رواية زهير عنه. قال ابن العربي في شرح الترمذي تفسير غلط أبي إسحاق هو أن هذا الحديث رواه أبو إسحاق مختصرا اقتطعه من حديث طويل فأخطأ في اختصاره إياه. ونص الحديث الطويل ما رواه أبو غسان قال: أتيت الاسود بن يزيد وكان لي أخا وصديقا فقلت: يا أبا عمر حدثني ما حدثتك عائشة أم المؤمنين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: قالت: كان ينام أول الليل ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته ثم ينام قبل أن يمس ماء، فإذا كان عند
[ 274 ]
النداء الاول وثب وربما قالت قام فأفاض عليه الماء وما قالت اغتسل وأنا أعلم ما تريد، وإن نام جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة، فهذا الحديث الطويل فيه وإن نام وهو جنب توضأ وضوء الرجل للصلاة فهذا يدلك على أن قوله: ثم إن كانت له حاجة قضى حاجته ثم ينام قبل أن يمس ماء يحتمل أحد وجهين. إما أن ريد حاجة الانسان من البول والغائط فيقضيهما ثم يستنجي ولا يمس ماء وينام فإن وطئ توضأ كما في آخر الحديث، ويحتمل أن يريد بالحاجة حاجة الوطئ، وبقوله: ثم ينام ولا يمس ماء يعني ماء الاغتسال، ومتى لم يحمل الحديث على أحد هذين الوجهين تناقض أوله وآخره فتوهم أبو إسحاق أن الحاجة حاجة الوطئ، فنقل الحديث على معنى ما فهمه انتهى. والحديث يدل على عدم وجوب الوضوء على الجنب إذا أراد النوم أو المعاودة، وقد تقدم في الباب الاول أنه غير صالح للاستدلال به على ذلك لوجوه ذكرناها هنالك. قال المصنف رحمه الله تعالى: وهذا لا يناقض ما قبله، بل يحمل على أنه كان يترك الوضوء أحيانا لبيان الجواز ويفعله غالبا لطلب الفضيلة انتهى. وبهذا جمع ابن قتيبة والنووي. [ رم ] أبواب موجبات الغسل قال النووي: الغسل إذا أريد به الماء فهو مضموم الغين، وإذا أريد به المصدر فيجوز بضم الغين وفتحها لغتان مشهورتان، وبعضهم يقول: إن كان مصدرا لغسلت فهو بالفتح كضربت ضربا، وإن كان بمعنى الاغتسال فهو بالضم كقولنا: غسل الجمعة مسنون، وكذلك الغسل من الجنابة واجب وما أشبهه. وأما ما ذكره بعض من صنف في لحن الفقهاء من أن قولهم غسل الجنابة والجمعة ونحوهما بالضم لحن فهو خطأ منه، بل الذي قالوه صواب كما ذكرنا. وأما الغسل بكسر الغين فهو اسم لما يغسل به الرأس من خطمي وغيره. باب الغسل من المني عن علي عليه السلام قال: كنت رجلا مذاء فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال في المذي الوضوء وفي المني الغسل رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. ولاحمد فقال: إذا حذفت الماء فاغتسل من الجنابة فإذا لم تكن حاذفا فلا تغتسل. قال الترمذي: وقد روى عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير وجه،
[ 275 ]
وأخرج الحديث أيضا أبو داود والنسائي، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث علي مختصرا، وفي إسناد الحديث الذي صححه الترمذي يزيد بن أبي زياد قال علي ويحيى ضعيف لا يحتج به. وقال ابن المبارك: ارم به. وقال أبو حاتم الرازي: ضيف الحديث كل أحاديثه موضوعة وباطلة. وقال البخاري: منكر الحديث ذاهب. وقال النسائي: متروك الحديث وقال ابن حبان: صدوق إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير، وكان يتلقن ما لقن فوقعت المناكير في حديثه، فسماع من سمع منه قبل التغير صحيح، والترمذي قد صحح حديث يزيد المذكور في مواضع هذا أحدها. وفي حديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو صائم. وفي حديث: أن العباس دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا وقد حسن أيضا حديثه في حديث: أنها أدخلت العمرة في الحج فلعل التصحيح والتحسين بمشاركة الامور الخارجة عن نفس السند من اشتهار المنون ونحو ذلك، وإلا فيزيد ليس من رجال الحسن فكيف الصحيح. وأيضا الحديث من رواية ابن أبي ليلى عن علي وقد قيل إنه لم يسمع منه. وفي الباب عن المقداد بن الاسود عند أبي داود والنسائي وابن ماجه. وعن أبي بن كعب عند ابن أبي شيبة وغيره. والحديث يدل على عدم وجوب الغسل من المذي وأن الواجب الوضوء، وقد تقدم الكلام في ذلك في باب ما جاء في المذي من أبواب تطهير النجاسات. ويدل على وجوب الغسل من المني قال الترمذي: وهو قول عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين، وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق. قوله: حذفت يروى بالحاء المهملة والخاء المعجمة بعدها ذال معجمة مفتوحة ثم فاء وهو الرمي وهو لا يكون بهذه الصفة إلا لشهوة، ولهذا قال المصنف: وفيه تنبيه على أن ما يخرج لغير شهوة إما لمرض أو أبردة لا يوجب الغسل انتهى. وعن أم سلمة أن أم سليم قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: نعم إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة: وتحتلم المرأة؟ فقال: تربت يداك فيما يشبهها ولدها متفق عليه. للحديث ألفاظ عند الشيخين. ورواه مسلم من حديث أنس عن أم سليم، ومن حديث عائشة أن امرأة سألت، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه. وفي الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن بسرة سألت أخرجه ابن أبي شيبة. وعن أبي
[ 276 ]
هريرة أخرجه الطبراني في الاوسط. وعن خولة بنت حكيم أخرجه النسائي. قولها: إن الله لا يستحيي جعلت هذا القول تمهيدا لعذرها في ذكر ما يستحيا منه، والمراد بالحياء هنا معناه اللغوي إذ الحياء الشرعي خير كله، والمراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحق أو لا يمنع من ذكر الحق، لان الحياء تغير وانكسار وهو مستحيل عليه. وقيل: إنما يحتاج إلى التأويل في الاثبات ولا يحتاج إليه في النفي. قولها: احتلمت الاحتلام افتعال من الحلم بضم المهملة وسكون اللام وهو ما يراه النائم في نومه، والمراد به هنا أمر خاص هو الجماع. وفي رواية أحمد من حديث أم سليم أنها قالت: إذا رأت أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل. قوله: إذا رأت الماء أي المني بعد الاستيقاظ. قولها: وتحتلم المرأة بحذف همزة الاستفهام وفي بعض نسخ البخاري بإثباتها. قوله: تربت يداك أي افتقرت وصارت على التراب، وهو من الالفاظ التي تطلق عند الزجر ولا يراد بها ظاهرها. قوله: فبما يشبهها ولدها بالباء الموحدة وإثبات ألف ما الاستفهامية المجرورة وهو لغة، والحديث يدل على وجوب الغسل على المرأة بإنزالها الماء. قال ابن بطال والنووي: وهذا لا خلاف فيه، وقد روي الخلاف في ذلك عن النخعي. وفي الحديث رد على من قال: إن ماء المرأة لا يبرز. باب إيجاب الغسل من التقاء الختانين ونسخ الرخصة فيه عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: إذا جلس بين شعبها الاربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل متفق عليه. ولمسلم وأحمد: وإن لم ينزل. قوله: إذا جلس الضمير المستتر فيه. وفي قوله: ثم جهدها للرجل والضمير البارز في قوله شعبها وجهدها للمرأة. قوله: شعبها الشعب جمع شعبة وهي القطعة من الشئ، قيل: المراد هنا يداها ورجلاها. وقيل: رجلاها وفخذاها. وقيل: ساقاها وفخذاها، وقيل: فخذاها واسكتاها. وقيل: فخذاها وشفراها. وقيل: نواحي فرجها الاربع قاله في الفتح. قال الازهري: والاسكتان ناحيتا الفرج، والشفران طرف الناحيتين. قوله: ثم جهدها بفتح الجيم والهاء يقال جهد وأجهد أي بلغ المشقة، قيل معناه كدها بحركته أو بلغ جهده في العمل بها، والمراد به هنا معالجة الايلاج كني به عنها. والحديث يدل على أن إيجاب الغسل لا يتوقف على الانزال، بل يجب بمجرد الايلاج أو ملاقاة الختان
[ 277 ]
الختان كما سيأتي، وقد ذهب إلى ذلك الخلفاء الاربعة والعترة والفقهاء وجمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وروى ابن عبد البر عن بعضهم أنه قال: انعقد إجماع الصحابة على إيجاب الغسل من التقاء الختانين، قال: وليس ذلك عندنا كذلك ولكنا نقول: إن الاختلاف في هذا ضعيف، وإن الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم من السلف والخلف انعقد إجماعهم على إيجاب الغسل من التقاء الختانين أو مجاوزة الختان الختان انتهى. وجعلوا أحاديث الباب ناسخة لحديث: الماء من الماء وخالف في ذلك أبو سعيد الخدري وزيد بن خالد وابن أبي وقاص ومعاذ ورافع بن خديج. وروي أيضا عن علي ومن غير الصحابة عمر بن عبد العزيز والظاهرية وقالوا: لا يجب الغسل إلا إذا وقع الانزال، وتمسكوا بحديث: الماء من الماء اتفق عليه، ويمكن تأييد ذلك بحمل الجهد المذكور في الحديث على الانزال ولكنه لا يتم بعد التصريح بقوله: وإن لم ينزل في رواية مسلم وأحمد، وأصرح من ذلك حديث عائشة الآتي بعد هذا لتصريحه بأن مجرد مس الختان للختان مودب للغسل، ولكنها لا تتم دعوى النسخ التي جزم بها الاولون إلا بعد تسليم تأخر حديث أبي هريرة وعائشة وغيرهما، وقد ذكر المصنف حديث أبي بن كعب وحديث رافع بن خديج للاستدلال بهما على النسخ وهما صريحان في ذلك وسنذكرهما، وقد ذكر الحازمي في الناسخ والمنسوخ آثارا تدل على النسخ، ولو فرض عدم التأخر لم ينتهض حديث: الماء من الماء لمعارضة حديث عائشة وأبي هريرة لانه مفهوم وهما منطوقان والمنطوق أرجح من المفهوم. قال النووي: وقد أجمع على وجوب الغسل متى غابت الحشفة في الفرج، وإنما كان الخلاف فيه لبعض الصحابة ومن بعدهم ثم انعقد الاجماع على ما ذكرنا، وهكذا قال ابن العربي وصرح أنه لم يخالف في ذلك إلا داود. قوله: فقد وجب عليه الغسل هو بضم الغين المعجمة اسم للاغتسال، وحقيقته إفاضة الماء على الاعضاء، وزادت الهادوية مع الدلك، ولم نجد في كتب اللغة ما يشعر بأن الدلك داخل في مسمى الغسل، فالواجب ما صدق عليه اسم الغسل المأمور به لغة، اللهم إلا أن يقال حديث: بلوا الشعر وأنقوا البشر على فرض صحته مشعر بوجوب الدلك لان الانقاء لا يحصل بمجرد الافاضة. لا يقال: إذا لم يجب الدلك لم يبق فرق بين الغسل والمسح. لانا نقول: المسح الامرار على الشئ باليد يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ فلا يجب فيه الاستيعاب، بخلاف الغسل فإنه يجب فيه الاستيعاب.
[ 278 ]
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قعد بين شعبها الاربع ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. ولفظه: إذا جاوز الختان وجب الغسل. ولها حديث آخر بلفظ: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واغتسلنا وأخرجه الشافعي في الام والنسائي وصححه ابن حبان وابن القطان، وأعله البخاري بأن الاوزاعي أخطأ فيه. ورواه غيره عن عبد الرحمن بن القاسم مرسلا، واستدل على ذلك بأن أبا الزناد قال سألت القاسم بن محمد: سمعت في هذا الباب شيئا؟ قال: لا، وابنه عبد الرحمن قال عن أبيه، وأجاب من صححه بأنه يحتمل أن يكون القاسم كان نسيه ثم ذكر أو حدث به ابنه عبد الرحمن ثم نسي. قال الحافظ: ولا يخلو الجواب عن نظر. قال النووي: هذا الحديث أصله صحيح ولكن فيه تغيير، وتبع في ذلك ابن الصلاح. قوله: بين شعبها قد تقدم تفسير الشعب. قوله: الختان المراد به هنا موضع الختن والختن في المرأة قطع جلدة في أعلى الفرج مجاورة لمخرج البول كعرف الديك ويسمى الخفاض. قوله: جاوز ورد بلفظ المجاوزة وبلفظ الملاقاة وبلفظ الملامسة وبلفظ الالزاق، والمراد بالملاقاة المحاذاة. قال القاضي أبو بكر: إذا غابت الحشفة في الفرج فقد وقعت الملاقاة. قال ابن سيد الناس: وهكذا معنى مس الختان الختان أي قاربه وداناه، ومعنى إلزاق الختان بالختان إلصاقه به، ومعنى المجاوزة ظاهر. قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي حاكيا عن ابن العربي: وليس المراد حقيقة اللمس ولا حقيقة الملاقاة، وإنما هو من باب المجاز والكناية عن الشئ بما بينه وبينه ملابسة أو مقاربة وهو ظاهر، وذلك أن ختان المرأة في أعلى الفرج ولا يمسه الذكر في الجماع. وقد أجمع العلماء كما أشار إليه على أنه لو وضع ذكره على ختانها ولم يولجه لم يجب الغسل على واحد منهما، فلا بد من قدر زائد على الملاقاة، وهو ما وقع مصرحا به في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ: إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل أخرجه ابن أبي شيبة، والتصريح بلفظ الوجوب في هذا الحديث والذي قبله مشعر بأن ذلك على وجه الختم، ولا خلاف فيه بين القائلين بأن مجرد ملاقاة الختان الختان سبب للغسل. قال المصنف رحمه الله وهو يفيد الوجوب: وإن كان هناك حائل انتهى. و ذلك لان الملاقاة والمجاوزة لا يتوقف صدقهما على عدمه.
[ 279 ]
وعن أبي بن كعب قال: إن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص بها في أول الاسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها رواه أحمد وأبو داود وفي لفظ: إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الاسلام ثم نهى عنها رواه الترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن خزيمة، ورواه الزهري عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب. وفي رواية ابن ماجه عن الزهري قال: قال سهل بن سعد. وفي رواية أبي داود عن ابن شهاب: حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره وجزم موسى بن هارون والدارقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل. وقال ابن خزيمة: هذا الرجل الذي لم يسمه الزهري هو أبو حازم، ثم ساقه من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد عن أبي قال: إن الفتيا وساقه بلفظ الكتاب إلا أنه قال في بدء الاسلام. وقد ساقه ابن خزيمة أيضا عن الزهري قال: أخبرني سهل، قال الحافظ: وهذا يدفع قول من جزم بأنه لم يسمعه منه، لكن قال ابن خزيمة: أهاب أن تكون هذه اللفظة غلطا من محمد بن جعفر الراوي له عن معمر عن الزهري. قال الحافظ: وأحاديث أهل البصرة عن معمر يقع الوهم فيها، لكن في كتاب ابن شاهين من طريق يعلى بن منصور عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري حدثني سهل، وكذا أخرجه بقي بن مخلد في مسنده عن أبي كريب عن ابن المبارك، وقال ابن حبان: يحتمل أن يكون الزهري سمعه من رجل عن سهل ثم لقي سهلا فحدثه أو سمعه من سهل ثم ثبته فيه أبو حازم، ورواه ابن أبي شيبة من طريق شعبة عن سيف بن وهب عن أبي حرب بن أبي الاسود عن عميرة بن يثربي عن أبي بن كعب نحوه. والحديث يدل على ما قاله الجمهور من النسخ وقد سبق الكلام عليه. وعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا سأل رسول الله (ص) عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل وعائشة جالسة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لافعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل رواه مسلم. قوله: ثم يكسل قال النووي: ضبطناه بضم الياء ويجوز فتحها، يقال: أكسل الرجل في جماعه إذا ضعف عن الانزال وكسل بفتح الكاف وكسر السين والاولى أفصح، وهذا تصريح بما ذهب إليه الجمهور، وقد سلف ذكر الخلاف فيه. وعن رافع بن خديج قال: ناداني رسول الله (ص)
[ 280 ]
وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل فاغتسلت وخرجت فأخبرته فقال: لا عليك الماء من الماء، قال رافع: ثم أمرنا رسول الله (ص) بعد ذلك بالغسل رواه أحمد. الحديث حسنه الحازمي وفي تحسينه نظر، لان في إسناده رشدين وليس من رجال الحسن. وفيه أيضا مجهول لانه قال عن بعض ولد رافع بن خديج فلينظر، فالظاهر ضعف الحديث لا حسنه وهو من أدلة مذهب الجمهور. وفي الباب عن علي بن أبي طالب وعثمان والزبير وطلحة وأبي أيوب وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم. باب من ذكر احتلاما ولم يجد بللا أو بالعكس عن خولة بنت حكيم: أنها سألت النبي (ص) عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال: ليس عليها غسل حتى تنزل، كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل رواه أحمد والنسائي مختصرا. ولفظه: أنها سألت النبي (ص) عن المرأة تحتلم في منامها فقال: إذا رأت الماء فلتغتسل. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه وابن أبي شيبة، قال السيوطي في الجامع الكبير: وهو صحيح. وذكره الحافظ في الفتح ولم يتكلم عليه، وهو متفق على معناه من حديث أم سلمة وقد تقدم وعند مسلم من حديث أنس وعائشة. وعند أحمد من حديث ابن عمر والسائلة عند هؤلاء هي أم سليم، وقد سألت عن ذلك خولة كما في حديث الباب. وسهلة بنت سهل عند الطبراني. وبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة. وقد أول ابن عباس حديث الماء من الماء بالاحتلام، أخرج ذلك عنه الطبراني وأصله في الترمذي ولفظه: إنما قال رسول الله (ص): إنما الماء من الماء في الاحتلام قال الحافظ: وفي إسناده لين لانه من رواية شريك عن أبي الحجاف. والحديث يدل على وجوب الغسل على الرجل والمرأة إذا وقع الانزال وهو إجماع إلا ما يحكى عن النخعي، واشترطت الهادوية مع تيقن خروج المني تيقن الشهوة أو ظنها، وهذا الحديث وحديث أم سلمة السابق وحديث عائشة الآتي يرد ذلك، وتأييده بأن المني إنما يكون عند الشهوة في جميع الحالات أو غالبها تقييد بالعادة وهو ليس بنافع، لان محل النزاع من وجد الماء ولم يذكر شهوة فالادلة قاضية بوجوب الغسل عليه، والتقييد بتيقن الشهوة أو ظنها مع وجود الماء يقضي بعدم وجوب الغسل، اللهم إلا أن يجعل مجرد
[ 281 ]
وجود الماء محصلا لظن الشهوة لجري العادة بعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ولكنهم لا يقولون به. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله (ص) عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما فقال: يغتسل، وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل فقال: لا غسل عليه، فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال نعم إنما النساء شقائق الرجال رواه الخمسة إلا النسائي. الحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وقد اختلف فيه، فقال أحمد: هو صالح، وروي عنه أنه قال: لا بأس به وكان ابن مهدي يحدث عنه وقال يحيى بن معين: صالح وروي عنه أنه قال: لا بأس به يكتب حديثه. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق في حديثه اضطراب أخرج له مسلم مقرونا بأخيه عبيد الله. وقال ابن المديني: ضعيف، وقال يحيى القطان: ضعيف وروي أنه كان لا يحدث عنه. وقال صالح جزرة مختلط الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: غلب عليه التعبد حتى غفل عن حفظ الاخبار وجودة الحفظ فوقعت المناكير في حديثه فلما فحش خطؤه استحق الترك. وقد تفرد به المذكور عند من ذكره المصنف من المخرجين له ولم نجده عن غيره، وهكذا رواه أحمد وابن شيبة من طريقه، فالحديث معلول بعلتين: الاولى العمري المذكور، والثانية التفرد وعدم المتابعات، فقصر عن درجة الحسن والصحة والله أعلم. والحديث يدل على اعتبار مجرد وجود المني، سواء انضم إلى ذلك ظن الشهوة أم لا، وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك. قال ابن رسلان: أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني. باب وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم عن قيس بن عاصم: أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يغتسل بماء وسدر رواه الخمسة إلا ابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وابن خزيمة وصححه ابن السكن، وهو يدل على مشروعية الغسل لمن أسلم. وقد ذهب إلى الوجوب مطلقا أحمد بن حنبل. وذهب الشافعي إلى أنه يستحب له أن يغتسل، فإن لم يكن جنبا أجزأه الوضوء، وأوجبه
[ 282 ]
الهادي وغيره على من كان قد أجنب حال الكفر، سواء كان قد اغتسل أم لا لعدم صحة الغسل، وقال باستحبابه لمن لم يجنب، وأوجبه أبو حنيفة على من أجنب ولم يغتسل حال كفره فإن اغتسل لم يجب. وقال المنصور بالله: لا يجب الغسل على الكافر بعد إسلامه من جنابة أصابته قبل إسلامه، وروي عن الشافعي نحوه. احتج من قال بالوجوب مطلقا بحديث الباب. وحديث ثمامة الآتي. وحديث أمره صلى الله عليه وآله وسلم لواثلة وقتادة الرهاوي عند الطبراني، وعقيل بن أبي طالب عند الحاكم في تاريخ نيسابور، قال الحافظ: وفي أسانيد الثلاثة ضعف. واحتج القائلون بالاستحباب إلا لمن أجنب بأنه لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل من أسلم بالغسل، ولو كان واجبا لما خص بالامر به بعضا دون بعض، فيكون ذلك قرينة تصرف الامر إلى الندب، وأما وجوبه على المجنب فللادلة القاضية بوجوبه لانها لم تفرق بين كافر ومسلم. واحتج القائل بالاستحباب مطلقا لعدم وجوبه على المجنب بحديث الاسلام يجب ما قبله، والظاهر الوجوب لان أمر البعض قد وقع به التبليغ، ودعوى عدم الامر لمن عداهم لا يصلح متمسكا لان غاية ما فيها عدم العلم بذلك وهو ليس علما بالعدم. وعن أبي هريرة: أن ثمامة أسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضا عبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان وأصله في الصحيحين وليس فيهما الامر بالاغتسال وإنما فيهما أنه اغتسل، والحديث قد تقدم الكلام على فقهه. باب الغسل من الحيض عن عائشة: أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي رواه البخاري. الحديث متفق عليه بلفظ: فاغسلي عنك الدم وصلي. قوله: ذلك بكسر الكاف. قوله: وليست بالحيضة الحيضة بفتح الحاء كما نقله الخطابي عن أكثر المحدثين أو كلهم، وإن كان قد اختار الكسر على إرادة الحالة لكن الفتح هنا أظهر قاله الحافظ: وقال النووي: هو متعين أو قريب من المتعين. وأما قوله: فإذا أقبلت الحيضة
[ 283 ]
فيجوز فيه الوجهان معا جوازا حسنا انتهى. قال الحافظ: والذي في روايتنا بفتح الحاء في الموضعين. قوله: وصلي أي بعد الاغتسال، وقد وقع التصريح بذلك في بعض روايات البخاري في باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض. والحديث يدل على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث، فتتوضأ لكل صلاة لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة أو مقضية لظاهر قوله: توضئي لكل صلاة قال الحافظ: وبهذا قال الجمهور. وعند الحنفية أن الوضوء متعلق بوقت الصلاة وكذا عند الهادوية، ويدل على عدم وجوب الاغتسال لكل صلاة وفيه خلاف، وسيأتي الكلام عليه في باب غسل المستحاضة وفي أبواب الحيض لان المصنف رحمه الله سيورد هذا الحديث مع سائر رواياته هنالك، وإنما ساقه هنا للاستدلال به على غسل الحائض، ولم يأمرها صلى الله عليه وآله وسلم بالاغتسال إلا لادبار الحيضة. باب تحريم القراءة على الحائض والجنب عن علي كرم الله وجهه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ولا يحجبه وربما قال لا يحجزه من القرآن شئ ليس الجنابة رواه الخمسة لكن لفظ الترمذي مختصر: كان يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا وقال: حديث حسن صحيح. الحديث أيضا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبزار والدارقطني والبيهقي، وصححه أيضا ابن حبان وابن السكن وعبد الحق والبغوي في شرح السنة. وقال ابن خزيمة، هذا الحديث ثلث رأس مالي، وقال: شعبة: ما أحدث بحديث أحسن منه، قال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه قال البيهقي: إنما قال ذلك لان عبد الله بن سلمة راويه كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر قاله شعبة. وقال الخطابي: كان أحمد يوهن هذا الحديث، فقال النووي: خالف الترمذي الاكثرون فضعفوا هذا الحديث، وقد قدمنا من صححه مع الترمذي. وحكى البخاري عن عمرو بن مرة الراوي لهذا الحديث عنه أنه قال: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر. والحديث يدل على أن الجنب لا يقرأ القرآن، وقد ذهب إلى تحريم قراءة القرآن على الجنب القاسم والهادي
[ 284 ]
والشافعي من غير فرق بين الآية وما دونها وما فوقها. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز له قراءة دون آية إذ ليس بقرآن. وقال المؤيد بالله والامام يحيى وبعض أصحاب أبي حنيفة: يجوز ما فعل لغير التلاوة كيا مريم اقنتي لا لقصد التلاوة. احتج الاولون القائلون بالتحريم بحديث الباب. وحديث ابن عمر الذي سيأتي. وحديث: اقرؤوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة فإن أصابته فلا ولا حرفا ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب ليس فيه ما يدل على التحريم، لان غايته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك القراءة حال الجنابة، ومثله لا يصلح متمسكا للكراهة فكيف يستدل به على التحريم؟ وأما حديث ابن عمر ففيه مقال سنذكره عند ذكره لا ينتهض معه للاستدلال. وأما حديث اقرؤوا القرآن الخ فهو غير مرفوع بل موقوف على علي عليه السلام، إلا أنه أخرج أبو يعلى من حديث علي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية قال الهيثمي: رجاله موثوقون فإن صح هذا صلح للاستدلال به على التحريم. وقد أخرج البخاري عن ابن عباس أنه لم ير في القراءة للجنب بأسا، ويؤيده التمسك بعموم حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كان يذكر الله على كل أحيانه وبالبراءة الاصلية، حتى يصح ما يصلح لتخصيص هذا العموم وللنقل عن هذا البراءة. وعن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. الحديث في إسناده إسماعيل بن عياش، وروايته عن الحجازيين ضعيفة وهذا منها، وذكر البزار أنه تفرد به عن موسى بن عقبة، وسبقه إلى نحو ذلك البخاري وتبعهما البيهقي، لكن رواه الدارقطني من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى ومن وجه آخر وفيه مبهم عن أبي معشر وهو ضعيف عن موسى، قال الحافظ: وصحح ابن سيد الناس طريق المغيرة وأخطأ في ذلك فإن فيها عبد الملك بن مسلمة وهو ضعيف، فلو سلم منه لصح إسناده، وإن كان ابن الجوزي ضعفه بمغيرة بن عبد الرحمن فلم يصب في ذلك فإن مغيرة ثقة. وقال أبو حاتم: حديث إسماعيل بن عياش هذا خطأ وإنما هو من قوله ابن عمر. وقال أحمد بن حنبل: هذا باطل أنكر على إسماعيل بن عياش. والحديث يدل على تحريم القراءة على الجنب، وقد عرفت بما ذكرنا أنه لا ينتهض للاحتجاج به
[ 285 ]
على ذلك، وقد قدمنا الكلام على ذلك في الحديث قبل هذا. ويدل أيضا على تحريم القراءة على الحائض وقد قال به قوم. والحديث هذا والذي بعده لا يصلحان للاحتجاج بهما على ذلك، فلا يصار إلى القول بالتحريم إلا لدليل. وعن جابر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئا رواه الدارقطني. الحديث فيه محمد بن الفضل وهو متروك ومنسوب إلى الوضع، وقد روي موقوفا وفيه يحيى بن أبي أنيسة وهو كذاب. وقال البيهقي: هذا الاثر ليس بالقوي، وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب، وساقه عنه في الخلافيات بإسناد صحيح. باب الرخصة في اجتياز الجنب في المسجد ومنعه من اللبث فيه إلا أن يتوضأ عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ناوليني الخمرة من المسجد، فقلت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك رواه الجماعة إلا البخاري. الحديث حسنه الترمذي وهو صحيح بتصحيح مسلم إياه كما قاله ابن سيد الناس، وإخراجه له في صحيحه، وأما أبو الحسن الدارقطني فإنه ذكر فيه اختلافا على الاعمش في هذا الحديث، وصوب رواية من رواه عنه عن ثابت عن القاسم عن عائشة، وليس هذا الاختلاف الذي ذكره الدارقطني مانعا من القول بصحته بعد أن بين فيه وجه الصواب، ولكنه تفرد به ثابت بن عبيد وهو وإن كان ثقة فليس في مرتبة الحفظ والاتقان الذي يقبل معه تفرده، ويمكن أن يجاب عن إعلاله بالتفرد أن له طريقا أخرى عند الدارقطني عن محمد بن فضيل عن الاعمش عن السائب عن محمد بن أبي يزيد عن عائشة، وعن عبد الوارث بن سعيد وعبد الرحمن المحاربي كلاهما عن ليث بن أبي سليم عن القاسم عن عائشة، وعن أبي عمر الحوضي عن شعبة عن سليمان الشيباني عن القاسم عن عائشة، وهذه متابعات لطريق ثابت بن عبيد وهي وإن كانت واهية فهي تحصل تقوية. قوله: الخمرة بضم الخاء المعجمة وإسكان الميم. قال الهروي وغيره: وهي السجادة وهي ما يضع عليه الرجل حر وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة من خوص. وقال الخطابي: هي السجادة يسجد عليها المصلي وهي عند بعضهم قدر ما يضع عليه المصلي
[ 286 ]
وجهه فقط، وقد تكون عند بعضهم أكبر من ذلك. قوله: أن حيضتك الحيضة قيدها الخطابي بكسر الحاء المهملة يعني الحالة والهيئة. وقال المحدثون: يفتحون الحاء وهو خطأ. وصوب القاضي عياض الفتح وزعم أن كسر الحاء هو الخطأ لان المراد الدم وهو الحيض بالفتح لا غير، وقد تقدم كلام الحافظ والنووي في باب وجوب الغسل على الكافر. والحديث يدل على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة، ولكنه يتوقف على تعلق الجار والمجرور أعني قوله من المسجد بقوله ناوليني، وقد قال بذلك طائفة من العلماء، واستدلوا به على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة تعرض لها إذا لم يكن على جسدها نجاسة، وأنها لا تمنع من المسجد إلا مخافة ما يكون منها، وعلقته طائفة أخرى بقولها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد ناوليني الخمرة على التقديم والتأخير. وعليه المشهور من مذاهب العلماء أنها لا تدخل لا مقيمة ولا عابرة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وسيأتي الكلام عليه في هذا الباب قالوا: ولان حدثها أغلظ من حديث الجنابة والجنب لا يمكث فيه وإنما اختلفوا في عبوره. والمشهور من مذاهب العلماء منعه فالحائض أولى بالمنع، ويحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا مسجد بيته الذي كان يتنقل فيه فيسقط الاحتجاج به في هذا الباب. وقد ذهب إلى جواز دخول الحائض المسجد وأنها لا تمنع إلا لمخافة ما يكون منها زيد بن ثابت، وحكاه الخطابي عن مالك والشافعي وأحمد وأهل الظاهر، ومنع من دخولها سفيان وأصحاب الرأي وهو المشهور من مذهب مالك. وعن ميمونة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض رواه أحمد والنسائي. الحديث إسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا محمد بن منصور عن سفيان عن منبوذ عن أمه أن ميمونة فذكره. ومحمد بن منصور ثقة ومنبوذ وثقه ابن معين، وقد أخرجه بنحو هذا اللفظ عنها عبد الرزاق وابن أبي شيبة والضياء في المختارة. وللحديث شواهد. أما قراءة القرآن في حجر الحائض فهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وليس فيها خلاف. وأما وضع الخمرة في المسجد فهو حجة لمن قال بجواز دخول الحائض المسجد للحاجة، ومؤيد لتعليق الجار والمجرور في الحديث الاول. قوله:
[ 287 ]
ناوليني لان دخولها المسجد لوضع الخمرة فيه لا فرق بينه وبين دخولها إليه لاخراجها، وقد تقدم الكلام على ذلك. وأخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر أن جواريه كن يغسلن رجليه ويعطينه الخمرة وهن حيض. وعن جابر قال: كان أحدنا يمر في المسجد جنبا مجتازا رواه سعيد بن منصور في سننه. وعن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشون في المسجد وهم جنب رواه ابن المنذر. الحديث الاول أخرجه أيضا ابن أبي شيبة، وقد أراد المصنف بهذا الاستدلال لمذهب من قال إنه يجوز للجنب العبور في المسجد وهم ابن مسعود وابن عباس والشافعي وأصحابه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: * (إلا عابري سبيل) * (النساء: 43) والعبور إنما يكون في محل الصلاة وهو المسجد لا في الصلاة، وتقييد جواز ذلك بالسفر لا دليل عليه، بل الظاهر أن المراد مطلق المار لان المسافر ذكر بعد ذلك، فيكون تكرارا يصان القرآن عن مثله، وقد أخرج ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن رجالا من الانصار كانت أبوابهم إلى المسجد فكانت تصيبهم جنابة فلا يجدون الماء ولا طريق إليه إلا من المسجد فأنزل الله تعالى: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * (النساء: 43) وهذا من الدلالة على المطلوب بمحل لا يبقى بعده ريب. وأما ما استدل به القائلون بعدم جواز العبور وهم العترة ومالك وأبو حنيفة وأصحابه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وسيأتي فمع كونه فيه مقال سنبينه هو عام مخصوص بأدلة جواز العبور. وحمل الآية على من كان في المسجد وأجنب تعسف لم يدل عليه دليل. وعن عائشة قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب رواه أبو داود. وعن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب رواه ابن ماجه. الحديث الاول صحيح كما سيأتي، وأخرج الثاني أيضا الطبراني، قال أبو زرعة: الصحيح
[ 288 ]
حديث عائشة، وكلاهما من حديث أفلت بن خليفة عن جسرة، وضعف ابن حزم هذا الحديث فقال: بأن أفلت مجهول الحال، وقال الخطابي: ضعفوا هذا الحديث وأفلت راويه مجهول لا يصح الاحتجاج به وليس ذلك بسديد فإن أفلت وثقه ابن حبان وقال أبو حاتم هو شيخ وقال أحمد بن حنبل لا بأس به، وروى عنه سفيان الثوري وعبد الواحد بن زياد. وقال في الكاشف: صدوق. وقال في البدر المنير: بل هو مشهور ثقة. وأما جسرة فقال البخاري: أن عندها عجائب. قال ابن القطان: وقول البخاري في جسرة أن عندها عجائب لا يكفي في رد أخبارها. وقال العجلي: تابعية ثقة. وذكرها ابن حبان في الثقات وقد حسن ابن القطان حديث جسرة هذا عن عائشة وصححه ابن خزيمة. قال ابن سيد الناس: ولعمري أن التحسين لاقل مراتبه لثقة رواته ووجود الشواهد له من خارج، فلا حجة لابي محمد يعني ابن حزم في رده، ولا حاجة بنا إلى تصحيح ما رواه في ذلك لان هذا الحديث كاف في الرد. قال الحافظ: وأما قول ابن الرفعة في أواخر شروط الصلاة أن أفلت متروك فمردود لانه لم يقله أحد من أئمة الحديث. والحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد للجنب والحائض وهو مذهب الاكثر، واستدلوا بهذا الحديث وبنهي عائشة عن أن تطوف بالبيت متفق عليه. وقال داود والمزني وغيرهم: أنه يجوز مطلقا. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق أنه يجوز للجنب إذا توضأ لرفع الحدث لا الحائض فتمنع. قال القائلون: الجواز مطلقا أن حديث الباب كما قال ابن حزم باطل، وأما حديث عائشة فالنهي لكون الطواف بالبيت صلاة وقد تقدم. والبراءة الاصلية قاضية بالجواز، ويجاب بأن الحديث كما عرفت إما حسن أو صحيح: وجزم ابن حزم بالبطلان مجازفة وكثيرا ما يقع في مثلها، واحتج من قال بجوازه للجنب إذا توضأ بما قاله المصنف بعد أن ساق هذا الحديث. ولفظه، وهذا يمنع بعمومه دخوله مطلقا لكن خرج منه المجتاز لما سبق، والمتوضئ كما ذهب إليه أحمد، وإسحاق لما روى سعيد بن منصور في سننه قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة وروى حنبل بن إسحاق صاحب أحمد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ثم يدخل المسجد فيتحدث انتهى ولكن في كلا الاسنادين هشام
[ 289 ]
بن سعد، وقد قال أبو حاتم: إنه لا يحتج به، وضعفه ابن معين وأحمد والنسائي، وقال أبو داود: إنه أثبت الناس في زيد بن أسلم، وعلى تسليم الصحة لا يكون ما وقع من الصحابة حجة ولاسيما إذا خالف المرفوع إلا أن يكون إجماعا. باب طواف الجنب على نسائه بغسل وبأغسال [ رح ] عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد رواه الجماعة إلا البخاري. ولاحمد والنسائي: في ليلة بغسل واحد. الحديث أخرجه البخاري أيضا من حديث قتادة عن أنس بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة، قال قلت لانس بن مالك: أو كان يطيقه؟ كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين ولم يذكر فيه الغسل. قال ابن عبد البر: ومعنى الحديث أنه فعل ذلك عند قدومه من سفر ونحوه في وقت ليس لواحدة منهن يوم معين معلوم فجمعهن يومئذ ثم دار بالقسم عليهن بعد والله أعلم لانهن كن حرائر، وسنته صلى الله عليه وآله وسلم فيهن العدل بالقسم بينهن، وأن لا يمس الواحدة في يوم الاخرى. وقال ابن العربي: إن الله أعطى نبيه ساعة لا يكون لازواجه فيها حق تكون مقتطعة له من زمانه يدخل فيها على جميع أزواجه أو بعضهن. وفي مسلم أن تلك الساعة كانت بعد العصر فلو اشتغل عنها كانت بعد المغرب أو غيره. وقد أسلفنا في باب تأكيد الوضوء للجنب تأويل النووي فليرجع إليه. والحديث يدل على عدم وجوب الاغتسال على من أراد معاودة الجماع. قال النووي: وهذا بإجماع المسلمين، وأما الاستحباب فلا خلاف في استحبابه للحديث الآتي بعد هذا، ولكنه ذهب قوم إلى وجوب الوضوء على المعاود، وذهب آخرون إلى عدم وجوبه، وقد ذكرنا ذلك في باب تأكيد الوضوء للجنب. وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاف على نسائه في ليلة فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلا، فقلت: يا رسول الله لو اغتسلت غسلا واحدا، فقال: هذا أطهر وأطيب رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والترمذي، قال الحافظ: وهذا الحديث
[ 290 ]
طعن فيه أبو داود فقال: حديث أنس أصح منه انتهى. وهذا ليس بطعن في الحقيقة لانه لم ينف عنه الصحة. قال النسائي: ليس بينه وبين حديث أنس اختلاف بل كان يفعل هذا مرة وذاك أخرى. وقال النووي: هو محمول على أنه فعل الامرين في وقتين مختلفين. والحديث يدل على استحباب الغسل قبل المعاودة ولا خلاف فيه. [ رم ] أبواب الاغسال المستحبة باب غسل الجمعة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل رواه الجماعة. ولمسلم: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل. الحديث له طرق كثيرة، ورواه غير واحد من الائمة، وعد ابن منده من رواه عن نافع فبلغوا فوق ثلثمائة نفس، وعد من رواه من الصحابة غير ابن عمر فبلغوا أربعة وعشرين صحابيا. قال الحافظ: وقد جمعت طرقه عن نافع فبلغوا مائة وعشرين نفسا. وفي الغسل في يوم الجمعة أحاديث غير ما ذكر المصنف منها عن جابر عند النسائي، وعن البراء عند ابن أبي شيبة في المصنف، وعن أنس عند ابن عدي في الكامل، وعن بريدة عند البزار، وعن ثوبان عند البزار أيضا، وعن سهل بن حنيف عند الطبراني. وعن عبد الله بن الزبير عند الطبراني أيضا، وعن ابن عباس عند ابن ماجه، وعن عبد الله بن عمر حديث آخر عند الطبراني، وعن ابن مسعود عند البزار، وعن حفصة عند أبي داود، وفي الباب عن جماعة من الصحابة يأتي ذكرهم في أبواب الجمعة إن شاء الله. والحديث يدل على مشروعية غسل الجمعة، وقد اختلف الناس في ذلك قال النووي: فحكي وجوبه عن طائفة من السلف حكوه عن بعض الصحابة وبه قال أهل الظاهر. وحكاه ابن المنذر عن مالك، وحكاه الخطابي عن الحسن البصري ومالك، وحكاه ابن المنذر أيضا عن أبي هريرة وعمار وغيرهما. وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع من الصحابة ومن بعدهم. وحكى عن ابن خزيمة، وحكاه شارح الغنية لابن سريج قولا للشافعي. وقد حكى الخطابي وغيره الاجماع على أن الغسل ليس شرطا في صحة الصلاة وأنها تصح بدونه. وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الامصار إلى أنه مستحب. قال القاضي عياض: وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه. استدل الاولون
[ 291 ]
على وجوبه بالاحاديث التي أوردها المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب، وفي بعضها التصريح بلفظ الوجوب، وفي بعضها الامر به، وفي بعضها أنه حق على كل مسلم، والوجوب يثبت بأقل من هذا. واحتج الآخرون لعدم الوجوب بحديث: من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. قال القرطبي في تقرير الاستدلال بهذا الحديث على الاستحباب ما لفظه: ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضي للصحة يدل على أن الوضوء كاف. قال ابن حجر في التلخيص: إنه من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل يوم الجمعة، واحتجوا أيضا لعدم الوجوب بحديث سمرة الآتي لقوله فيه: ومن اغتسل فالغسل أفضل فدل على اشتراك الغسل والوضوء في أصل الفضل وعدم تحتم الغسل. وبحديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب وقد ترك الغسل قال النووي: وجه الدلالة أن الرجل فعله وأقره عمر ومن حضر ذلك الجمع وهم أهل الحل والعقد، ولو كان واجبا لما تركه ولالزموه به، وبحديث أبي سعيد الآتي ووجه دلالته على ذلك ما ذكره المصنف، وبحديث أوس الثقفي وسيأتي في هذا الباب. ووجه دلالته جعله قرينا للتبكير والمشي والدنو من الامام وليست بواجبة فيكون مثلها. وبحديث عائشة الآتي ووجه دلالته أنهم إنما أمروا بالاغتسال لاجل تلك الروائح الكريهة فإذا زالت زال الوجوب. وأجابوا عن الاحاديث التي صرح فيها بالامر أنها محمولة على الندب والقرينة الصارفة عن الوجوب هذه الادلة المتعاضدة، والجمع بين الادلة ما أمكن هو الواجب وقد أمكن بهذا. وأما قوله واجب وقوله حق فالمراد متأكد في حقه، كما يقول الرجل لصاحبه: حقك واجب علي، ومواصلتك حق علي، وليس المراد الوجوب المتحتم المستلزم للعقاب، بل المراد أن ذلك متأكد حقيق بأن لا يخل به، واستضعفه ابن دقيق العيد وقال: إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا في الدلالة على هذا الظاهر، وأقوى ما عارضوا به حديث: من توضأ يوم الجمعة ولا يقاوم سنده سند هذه الاحاديث انتهى. وأما حديث من توضأ فأحسن الوضوء فقال الحافظ في الفتح: ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيح بلفظ: من اغتسل فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء انتهى. وأما حديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب وهو عثمان كما سيأتي فما أراه إلا حجة
[ 292 ]
على القائل بالاستحباب لا له، لان إنكار عمر على رأس المنبر في ذلك الجمع على مثل ذلك الصحابي الجليل وتقرير جمع الحاضرين الذين هم جمهور الصحابة لما وقع من ذلك الانكار، من أعظم الادلة القاضية بأن الوجوب كان معلوما عند الصحابة، ولو كان الامر عندهم على عدم الوجوب لما عول ذلك الصحابي في الاعتذار على غيره، فأي تقرير من عمرو من حضر بعد هذا. ولعل النووي ومن معه ظنوا أنه لو كان الاغتسال واجبا لنزل عمر من منبره وأخذ بيد ذلك الصحابي وذهب به إلى المغتسل، أو لقال له لا تقف في هذا الجمع، أو اذهب فاغتسل فإنا سننظرك أو ما أشبه ذلك، ومثل هذا لا يجب على من رأى الاخلال بواجب من واجبات الشريعة، وغاية ما كلفنا به في الانكار على من ترك واجبا هو ما فعله عمر في هذه الواقعة، على أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أول النهار كما قال الحافظ في الفتح لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران مولى عثمان أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء، وإنما لم يعتذر لعمر بذلك كما اعتذر عن التأخر لانه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة. وقد حكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قصة عمر وعثمان تدل على وجوب الغسل لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رؤوس الناس، ولو كان الترك مباحا لما فعل عمر ذلك. وأما حديث أبي سعيد الآتي فقد تقرر ضعف دلالة الاقتران ولا سيما بجنب مثل أحاديث الباب. وقد قال ابن الجوزي في الجواب على المستدلين بهذا الحديث على عدم الوجوب أنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب، لاسيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف. وقال ابن المنير: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه، لان القائل أن يقول خرج بدليل فبقي ما عداه على الاصل. وأما حديث أوس الثقفي فليس فيه أيضا إلا الاستدلال بالاقتران. وأما حديث عائشة فلا نسلم أنها إذا زالت العلة زال الوجوب، مسندين ذلك بوجوب السعي مع زوال العلة التي شرع لها وهي إغاظة المشركين، وكذلك وجوب الرمي مع زوال ما شرع له وهو ظهور الشيطان بذلك المكان، وكم لهذا من نظائر لو تتبعت لجاءت في رسالة مستقلة. قال في الفتح: وأجيب عن حديث عائشة بأن ليس فيه نفي الوجوب وبأنه سابق على الامر به والاعلام بوجوبه، وبهذا يتبين لك عدم انتهاض ما جاء به الجمهور من الادلة على عدم الوجوب، وعدم إمكان الجمع بينها وبين أحاديث الوجوب، لانه وإن أمكن بالنسبة إلى الاوامر لم يمكن بالنسبة إلى
[ 293 ]
لفظ واجب وحق إلا بتعسف لا يلجئ طلب الجمع إلى مثله. ولا يشك من له أدنى إلمام بهذا الشأن أن أحاديث الوجوب أرجح من الاحاديث القاضية بعدمه، لان أوضحها دلالة على ذلك حديث سمرة وهو غير سالم من مقال وسنبينه، وأما بقية الاحاديث فليس فيها إلا مجرد استنباطات واهية، وقد دل حديث الباب أيضا على تعليق الامر بالغسل بالمجئ إلى الجمعة، والمراد إرادة المجئ وقصد الشروع فيه، وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: اشتراط الاتصال بين الغسل والرواح وإليه ذهب مالك. والثاني عدم الاشتراط لكن لا يجزى فعله بعد صلاة الجمعة، ويستحب تأخيره إلى الذهاب وإليه ذهب الجمهور. والثالث أنه لا يشترط تقديم الغسل على صلاة الجمعة، بل لو اغتسل قبل الغروب أجزأ عنه وإليه ذهب داود، ونصره ابن حزم، واستبعده ابن دقيق العيد وقال: يكاد يجزم ببطلانه. وادعى ابن عبد البر الاجماع على من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة. واستدل مالك بحديث الباب ونحوه. واستدل الجمهور وداود بالاحاديث التي أطلق فيها يوم الجمعة، لكن استدل الجمهور على عدم الاجتزاء به بعد الصلاة بأن الغسل لازالة الروائح الكريهة، والمقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة. والظاهر ما ذهب إليه مالك لان حمل الاحاديث التي أطلق فيها اليوم على حديث الباب المقيد بساعة من ساعاته واجب. والمراد بالجمعة اسم سبب الاجتماع وهو الصلاة لا اسم اليوم كذا قيل، وفي القاموس: والجمعة المجموعة ويوم الجمعة، وقيل: إنما سمي يوم الجمعة لان خلق آدم جمع فيه، أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما من حديث سلمان. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد بإسناد ضعيف، وابن أبي حاتم بسند قوي موقوف. قال الحافظ: إن هذا أصح الاقوال ولكنه لا يصح أن يراد في الحديث إلا الصلاة لان اليوم لا يؤتى وكذلك غيره، وأخرج ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما مرفوعا: من أتى الجمعة فليغتسل زاد ابن خزيمة: ومن لم يأتها فلا يغتسل. [ رح ] وعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه متفق عليه. وقد اتفق السبعة على إخراج قوله: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. قوله: وإن يمس يجوز فتح الميم وضمها وزاد في رواية المسلم وغيره: ولو من طيب المرأة وهو المكروه للرجال، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه، فأباحه للرجل هنا للضرورة لعدم غيره وهو يدل على تأكده.
[ 294 ]
وقوله: ما يقدر عليه قال القاضي عياض: محتمل لتكثيره ومحتمل لتأكيده حتى يفعله بما أمكنه. والحديث يدل على وجوب غسل يوم الجمعة للتصريح فيه بلفظ واجب. وقد استدل به على عدم الوجوب باعتبار اقترانه بالسواك ومس الطيب. قال المصنف رحمه الله تعالى: وهذا يدل على أنه أراد بلفظ الوجوب تأكيد استحبابه كما تقول: حقك علي واجب، والعدة دين بدليل أنه قرنه بما ليس بواجب بالاجماع وهو السواك والطيب انتهى. وقد عرفناك ضعف دلالة الاقتران عن ذلك وغايتها الصلاحية لصرف الاوامر، وأما صرف لفظ واجب وحق فلا، والكلام قد سبق مبسوطا في الذي قبله. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده متفق عليه. الحديث من أدلة القائلين بوجوب غسل الجمعة، وقد تقدم الكلام عليه في أول الباب، وقد بين في الروايات الاخر أن هذا اليوم هو يوم الجمعة. وعن ابن عمر أن عمر: بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الاولين فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ فقال: إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد على أن توضأت، قال: والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بالغسل متفق عليه. الرجل المذكور هو عثمان كما بين في رواية لمسلم وغيره، قال ابن عبد البر: ولا أعلم خلافا في ذلك. قوله: أية ساعة هذه؟ قال ذلك توبيخا له وإنكارا لتأخره إلى هذا الوقت. قوله: والوضوء أيضا هو منصوب أي توضأت الوضوء. قاله الازهري وغيره وفيه إنكار ثان مضافا إلى الاول أي الوضوء أيضا اقتصرت عليه واخترته دون الغسل. والمعنى: ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء. وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي والوضوء أيضا يقتصر عليه، قال في الفتح: وأغرب السهيلي فقال: اتفق الرواة على الرفع لان النصب يخرجه إلى معنى الانكار، يعني والوضوء لا ينكر وجوابه ما تقدم، والحديث من أدلة القائلين بالوجوب لقوله كان يأمر، وقد تقدم الكلام على ذلك وفيه استحباب تفقد الامام لرعيته وأمرهم بمصالح دينهم والانكار على مخالف السنة وإن كان كبير القدر، وجواز الانكار في مجمع من الناس، وجواز الكلام في الخطبة، وحسن الاعتذار إلى ولاة الامر. وقد استدل بهذه
[ 295 ]
القصة على عدم وجوب غسل الجمعة، وقد عرفناك فيما سبق عدم صلاحيتها لذلك. وعن سمرة بن جندب: أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من توضأ للجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فذلك أفضل رواه الخمسة إلا ابن ماجه فإنه رواه من حديث جابر بن سمرة. الحديث أخرجه ابن خزيمة وحسنه الترمذي، وقد روي عن قتادة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. قال في الامام: من يحمل رواية الحسن عن سمرة على الاتصال يصحح هذا الحديث وهو مذهب علي بن المديني، كما نقله عنه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم، وقيل: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وهو قول البزار وغيره، وقيل: لم يسمع منه شيئا وإنما يحدث من كتابه. وروي من طريق الحسن عن أبي هريرة أخرجه البزار وهو وهم كما قال الحافظ. وروي من طريق قتادة عن الحسن عن جابر ومن طريق إبراهيم بن مهاجر عن الحسن عن أنس. قال الحافظ: وهذا الاختلاف فيه على الحسن وعلى قتادة لا يضر لضعف من وهم فيه، والصواب كما قال الدارقطني عن قتادة عن الحسن عن سمرة، وكذا قال العقيلي ورواه ابن ماجه بسند ضعيف عن أنس. ورواه الطبراني من حديثه في الاوسط بإسناد أمثل من ابن ماجه. ورواه البيهقي بإسناد فيه نظر من حديث ابن عباس، وبإسناد فيه انقطاع من حديث جابر. ورواه عبد بن حميد والبزار في مسنديهما. وكذلك إسحاق بن راهويه من حديثه بإسناد فيه ضعف من حديث أبي سعيد. وله طريق أخرى في التمهيد فيها الربيع بن بدر وهو ضعيف. والحديث دليل لمن قال بعدم وجوب غسل الجمعة، وقد ذكرنا تقرير الاستدلال به على ذلك الجواب عليه في أول الباب. قوله: فبها ونعمت قال الازهري: معناه فبالسنة أخذ ونعمت السنة، قال الاصمعي: إنما ظهرت تاء التأنيث لاضمار السنة، وقال الخطابي: ونعمت الخصلة. وقيل: ونعمت الرخصة لان السنة الغسل قاله أبو حامد الشاركي. وقال بعضهم: فبالفريضة أخذ ونعمت الفريضة. وعن عروة عن عائشة قالت: كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء فيصيبهم الغبار والعرق فتخرج منهم الريح فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنسان منهم وهو عندي فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا متفق عليه.
[ 296 ]
قوله: ينتابون الجمعة أي يأتونها. والعوالي هي القرى التي حول المدينة على أربعة أميال منها. قوله: في العباء هو بالمد وفتح العين المهملة جمع عباءة بالمد وعباية بالياء لغتان مشهورتان. قوله: لو أنكم تطهرتم لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب أو للشرط، والجواب محذوف تقديره لكان حسنا الحديث استدل به من قال بعدم وجوب غسل الجمعة، وقد قدمنا تقرير الاستدلال به والجواب عليه في أول الباب. وعن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الامام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها رواه الخمسة، ولم يذكر الترمذي: ومشى ولم يركب. الحديث حسنه الترمذي وسكت عليه أبو داود والمنذري، وقد اختلف فيه على أبي الاشعث وعلى عبد الرحمن بن زيد. وعلى عبد الله بن المبارك. وقد رواه الطبراني بإسناد، قال العراقي: حسن عن أوس المذكور. ورواه أحمد في مسنده عنه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: غسل روي بالتخفيف والتشديد، قيل أراد غسل رأسه، واغتسل أي غسل سائر بدنه، وقيل: جامع زوجته فأوجب عليها الغسل، فكأنه غسلها واغتسل في نفسه. وقيل: كرر ذلك للتأكيد، ويرجح التفسير الاول ما في رواية أبي داود في هذا الحديث بلفظ: من غسل رأسه واغتسل وما في البخاري عن طاوس قال: قلت لابن عباس: ذكروا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اغتسلوا واغسلوا رؤوسكم الحديث. وقال صاحب المحكم: غسل امرأته يغسلها غسلا أكثر نكاحها، وقال الزمخشري: ويقال غسل المرأة بالتخفيف والتشديد إذا جامعها، وحكاه صاحب النهاية وغيره أيضا. وقيل: المراد غسل أعضاء الوضوء واغتسل للجمعة. وقيل: غسل ثيابه واغتسل لجسده. قوله: بكر بالتشديد على المشهور أي راح في أول الوقت وابتكر أي أدرك أول الخطبة ورجحه العراقي، وقيل: كرره لتأكيد وبه جزم ابن العربي. والحديث يدل على مشروعية الغسل يوم الجمعة وقد تقدم الخلاف فيه، وعلى مشروعية التبكير والمشي والدنو من الامام والاستماع وترك اللغو، وأن الجمع بين هذه الامور سبب لاستحقاق ذلك الثواب الجزيل.
[ 297 ]
باب غسل العيدين عن الفاكه بن سعد وكان له صحبة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم الفطر ويوم النحر، وكان الفاكه بن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الايام رواه عبد الله بن أحمد في المسند وابن ماجه ولم يذكر الجمعة. الحديث رواه البزار والبغوي وابن قانع. ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس، قال الحافظ: وإسناداهما ضعيفان. ورواه البزار من حديث أبي رافع وإسناده ضعيف أيضا. وفي رجال إسناد حديث الباب يوسف بن خالد السمتي وهو متروك بالمرة، وكذبه ابن معين وأبو حاتم. وفي إسناد حديث ابن عباس ضعيفان وهما جبارة بن المغلس وحجاج بن تميم. وفي الباب من الموقوف عن علي عند الشافعي وابن عمر عند مالك في الموطأ والبيهقي. وروي عن عروة بن الزبير: أنه اغتسل يوم عيد وقال: إنه السنة وقال البزار: لا أحفظ في الاغتسال للعيد حديثا صحيحا. وكان في البدر المنير: أحاديث غسل العيدين ضعيفة وفيه آثار عن الصحابة جيدة. والحديث استدل به على أن غسل العيد مسنون، وليس في الباب ما ينتهض لاثبات حكم شرعي. وأما اشتراط أن يصلي به صلاة العيد فلا أدري ما الدليل على ذلك، وقد ثبت في كتب أئمتنا كمجموع زيد بن علي وأصول الاحكام والشفاء عن علي عليه السلام قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نغتسل يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم العيد وقال: ليس ذلك بواجب فإن صح إسناده صلح لاثبات هذه السنة. باب الغسل من غسل الميت عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ رواه الخمسة ولم يذكر ابن ماجه الوضوء. وقال أبو داود: هذا منسوخ وقال بعضهم معناه من أراد حمله ومتابعته فليتوضأ من أجل الصلاة عليه. الحديث أخرجه البيهقي وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف. ورواه البزار من ثلاث طرق عن أبي هريرة، ورواه أيضا ابن حبان، قال البيهقي: والصحيح أنه موقوف
[ 298 ]
وقال البخاري: الاشبه موقوف. وقال علي بن المديني وأحمد بن حنبل: لا يصح في الباب شئ. وهكذا قال الذهبي فيما حكاه الحاكم في تاريخه: ليس فيمن غسل ميتا فليغتسل حديث صحيح. وقال الذهلي: لا أعلم فيه حديثا ثابتا، ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا يرفعه الثقات إنما هو موقوف. وقال الرافعي: لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئا مرفوعا. قال الحافظ: قد حسنه الترمذي وصححه ابن حبان ورواه الدارقطني بسند رواته موثقون. وقد صحح الحديث أيضا ابن حزم، وقد روي من طريق سفيان عن سهيل عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة، قال ابن حجر: إسحاق مولى زائدة أخرج له مسلم فينبغي أن يصحح الحديث، قال: وأما رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فإسنادها حسن إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفا. والحاصل أن الحديث كما قال الحافظ هو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا، فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض. قال الذهبي: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء. وفي الباب عن علي عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن أبي شيبة وأبي يعلى والبزار والبيهقي، وعن حذيفة قال ابن أبي حاتم والدارقطني: لا يثبت ورواته ثقات، كما قال الحافظ وأخرجه البيهقي وذكر الماوردي أن بعض أصحاب الحديث خرج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقا. والحديث يدل على وجوب الغسل على من غسل الميت والوضوء على من حمله، وقد اختلف الناس في ذلك، فروي عن علي وأبي هريرة وأحد قولي الناصر والامامية أن من غسل الميت وجب عليه الغسل لهذا الحديث. ولحديث عائشة الآتي وذهب أكثر العترة ومالك وأصحاب الشافعي إلى أنه مستحب، وحملوا الامر على الندب لحديث: إن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم أخرجه البيهقي وحسنه ابن حجر. ولحديث: كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل أخرجه الخطيب من حديث عمر، وصحح ابن حجر أيضا إسناده. ولحديث أسماء الآتي. وقال الليث وأبو حنيفة وأصحابه: لا يجب ولا يستحب لحديث: لا غسل عليكم من غسل الميت رواه الدارقطني الحاكم مرفوعا من حديث ابن عباس، وصحح البيهقي وقفه وقال:
[ 299 ]
لا يصح رفعه. وقال ابن عطاء: لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس بنجس حيا ولا ميتا إسناده صحيح وقد روي مرفوعا أخرجه الدارقطني وكذلك أخرجه الحاكم، وورد أيضا مرفوعا من حديث ابن عباس: لا تنجسوا موتاكم أي لا تقولوا هم نجس، وقد تقدم حديث المؤمن لا ينجس وسيأتي حديث أسماء، وهذا لا يقصر عن صرف الامر عن معناه الحقيقي الذي هو الوجوب إلى معناه المجازي أعني الاستحباب، فيكون القول بذلك هو الحق لما فيه من الجمع بين الادلة بوجه مستحسن. وأما قول بعضهم: الجمع حاصل بغسل الايدي فهو غير ظاهر لان الامر بالاغتسال لا يتم معناه الحقيقي إلا بغسل جميع البدن، وما وقع من إطلاقه على الوضوء في بعض الاحاديث فمجاز لا ينبغي حمل المتنازع فيه عليه، بل الواجب حمله على المعنى الحقيقي الذي هو الاعم الاغلب، ولكنه يمكن تأييده بما سلف من حديث: فحسبكم أن تغسلوا أيديكم. وعن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يغتسل من أربع: من الجمعة والجنابة والحجامة وغسل الميت رواه أحمد والدارقطني وأبو داود. ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يغتسل وهذا الاسناد على شرط مسلم، لكن قال الدارقطني: مصعب بن شيبة ليس بالقوي ولا بالحافظ. الحديث أخرجه أيضا البيهقي، ومصعب المذكور ضعفه أبو زرعة وأحمد والبخاري، وصحح الحديث ابن خزيمة، وهو يدل على أن الغسل مشروع لهذه الاربع. أما الجمعة فقد تقدم. وأما الجنابة فظاهر. وأما الحجامة فهو سنة عند الهادوية لهذا الحديث. ولما روي عن علي عليه السلام أنه قال: الغسل من الحجامة سنة وإن تطهرت أجزأك وأخرج الدارقطني: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتجم ولم يزد على غسل محاجمه وفيه صالح بن مقاتل وليس بالقوي. وأما غسل الميت فقد تقدم قريبا. وعن عبد الله بن أبي بكر وهو ابن عمرو بن حزم: أن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنه غسلت أبا بكر حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت: إن هذا يوم شديد البرد وأنا صائمة فهل علي من غسل؟ قالوا: لا رواه مالك في الموطأ عنه. الحديث هو من رواية عبد الله بن أبي بكر، وأخرجه البيهقي من طريق الواقدي
[ 300 ]
عن ابن أخي الزهري عن عروة عن عائشة: أن أبا بكر أوصى أن تغسله أسماء بنت عميس فضعفت فاستعانت بعبد الرحمن قال البيهقي: وله شواهد عن ابن أبي مليكة عن عطاء عن سعد بن إبراهيم وكلها مراسيل. وهو من الادلة الدالة على استحباب الغسل دون وجوبه، وهو أيضا من القرائن الصارفة عن الوجوب، فإنه يبعد غاية البعد أن يجهل أهل ذلك الجمع الذين هم أعيان المهاجرين والانصار واجبا من الواجبات الشرعية، ولعل الحاضرين منهم ذلك الموقف جلهم وأجلهم، لان موت مثل أبي بكر حادث لا يظن بأحد من الصحابة الموجودين في المدينة أن يتخلف عنه وهم في ذلك الوقت لم يتفرقوا كما تفرقوا من بعد. باب الغسل للاحرام وللوقوف بعرفة ودخول مكة عن زيد بن ثابت: أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجرد لاهلاله واغتسل رواه الترمذي. الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث زيد بن ثابت، وحسنه الترمذي وضعفه العقيلي. ولعل الضعف لان في رجال إسناده عبد الله بن يعقوب المدني، قال ابن الملقن في شرح المنهاج جوابا على من أنكر على الترمذي: تحسين الحديث لعله إنما حسنه لانه عرف عبد الله بن يعقوب الذي في إسناده أي عرف حاله. والحديث يدل على استحباب الغسل عند الاحرام وإلى ذلك ذهب الاكثر. وقال الناصر: إنه واجب. وقال الحسن البصري ومالك: محتمل، وأخرج الحاكم والبيهقي من طريق يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال: اغتسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى على البيداء أحرم بالحج ويعقوب ضعيف قاله الحافظ. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بعطمي وأشنان ودهنه بشئ من زيت غير كثير رواه أحمد. الحديث قال في مجمع الزوائد: أخرجه البزار والطبراني في الاوسط وإسناد البزار حسن. قوله: بخطمي نبات قال في القاموس: الخطمي بالضم ويفتح نبات محلل مفتح لين
[ 301 ]
نافع لعسر البول وذكر له فوائد ومنافع. قوله: وأشنان هو بالضم والكسر للهمزة قاله في القاموس وهو نبات. والحديث يدل على استحباب تنظيف الرأس بالغسل ودهنه عند الاحرام، وسيأ تي الكلام على ذلك في الحج وليس فيه الغسل لجميع البدن الذي بوب المصنف له. وعن عائشة قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل وتهل رواه مسلم وابن ماجه وأبو داود. الحديث أخرجه مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن أسماء: أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: مرها فلتغتسل ثم لتهل قال الحافظ: وهذا مرسل. وقال الدارقطني بعد أن ساق حديث عائشة الذي ذكره المصنف في العلل: الصحيح قول مالك ومن وافقه يعني مرسلا. وأخرجه النسائي من حديث القاسم بن محمد عن أبيه عن أبي بكر، قال الحافظ: وهو مرسل أيضا لان محمدا لم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا من أبيه، نعم يمكن أن يكون سمع ذلك من أمه، لكن قد قيل إن القاسم أيضا لم يسمع من أمه، وقد أخرجه مسلم من حديث جابر الطويل بلفظ: فخرجنا حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي الحديث. قوله: نفست بضم النون وكسر الفاء الولادة، وأما بفتح النون فالحيض وليس بمراد هنا. الحديث يدل على مشروعية الغسل لمن أراد الاهلال بالحج، ولكنه يحتمل أن يكون لقذر النفاس، فلا يصلح للاستدلال به على مشروعية مطلق الغسل. وعن جعفر بن محمد عن أبيه: أن عليا كرم الله وجهه كان يغتسل يوم العيدين ويوم الجمعة ويوم عرفة وإذا أراد أن يحرم رواه الشافعي. وعن ابن عمر: أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا،
[ 302 ]
ويذكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعله أخرجه مسلم وللبخاري معناه، ولمالك في الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل لاحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة ولوقوفه عشية عرفة. لفظ البخاري أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي الصبح ويغتسل ويحدث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعل ذلك وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي: الحديث يدل على استحباب الاغتسال لدخول مكة، قال في الفتح: قال ابن المنذر الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية وقال أكثرهم: يجزئ عنه الوضوء. وفي الموطأ: أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام، وظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون رأسه. وقالت الشافعية: أن عجز عن الغسل تيمم. وقال ابن التين: لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة وإنما ذكروه للطواف والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف. قوله: بذي طوى بضم الطاء وفتحها. باب غسل المستحاضة لكل صلاة عن عائشة رضي الله عنها قالت: استحيضت زينب بنت جحش فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اغتسلي لكل صلاة رواه أبو داود. الحديث فيه محمد بن إسحاق وقد حسن المنذري بعض طرقه: وأخرجه ابن ماجه وفيه دلالة على وجوب الاغتسال عليها لكل صلاة، وقد ذهب إلى ذلك الامامية، وروي عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء بن أبي رباح، وروي هذا أيضا عن علي عليه السلام وابن عباس، وروي عن عائشة أنها قالت: تغتسل كل يوم غسلا واحدا. وعن ابن المسيب والحسن قالا: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر ذكر ذلك النووي: وقد ذكر أبو داود حجج هذه الاقوال في سننه وجعلها أبوابا. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب عليها الاغتسال لشئ من الصلوات ولا في وقت من الاوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها. قال النووي: وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو مروي عن علي عليه السلام وابن مسعود وابن عباس وعائشة وهو قول
[ 303 ]
عروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن ومالك وأبي حنيفة وأحمد. ودليل الجمهور أن الاصل عدم الوجوب، فلا يجب إلا بورود الشرع بإيجابه. قال النووي: ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضها، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل، قال: وأما الاحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها بالغسل فليس فيها شئ ثابت. وقد بين البيهقي ومن قبله ضعفها، وإنما صح في هذا ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فاغتسلي ثم صلي فكانت تغتسل عند كل صلاة قال الشافعي رحمه الله تعالى: إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تغتسل وتصلي، وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة، قال: ولا أشك إن شاء الله أن غسلها كان تطوعا غير ما أمرت به وذلك واسع لها. وكذا قال سفيان بن عيينة والليث بن سعد وغيرهما، وما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الاغتسال إلا لادبار الحيضة هو الحق لفقد الدليل الصحيح الذي تقوم به الحجة لاسيما في مثل هذا التكليف الشاق، فإنه لا يكاد يقوم بما دونه في المشقة إلا خلص العباد، فكيف بالنساء الناقصات الاديان بصريح الحديث والتيسير وعدم التنفير من المطالب التي أكثر المختار صلى الله عليه وآله وسلم الارشاد إليها، فالبراءة الاصلية المعتضدة بمثل ما ذكر لا ينبغي الجزم بالانتقال عنها بما ليس بحجة توجب الانتقال، وجميع الاحاديث التي فيها إيجاب الغسل لكل صلاة قد ذكر المصنف بعضها في هذا الباب وأكثرها يأتي في أبواب الحيض، وكل واحد منها لا يخلو عن مقال كما ستعرف ذلك. لا يقال إنها تنتهض للاستدلال بمجموعها. لانا نقول: هذا مسلم لو لم يوجد ما يعارضها، وأما إذا كانت معارضة بما هو ثابت في الصحيح فلا، كحديث عائشة الآتي في أبواب الحيض فإن فيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر فاطمة بنت أبي حبيش بالاغتسال عند ذهاب الحيضة فقط وترك البيان في وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الاصول. وقد جمع بعضهم بين الاحاديث بحمل أحاديث الغسل لكل صلاة على الاستحباب كما سيأتي في باب من تحيض ستا أو سبعا وهو جمع حسن. وعن عائشة أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت فأتت رسول الله
[ 304 ]
صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن ذلك فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل والصبح بغسل رواه أحمد وأبو داود. الحديث في إسناده محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، وابن إسحاق ليس بحجة لا سيما إذا عنعن، وعبد الرحمن قد قيل إنه لم يسمع من أبيه. قال الحافظ: قد قيل إن ابن إسحاق وهم فيه. والحديث يدل على أنه يجوز الجمع بين الصلاتين والاقتصار على غسل واحد لهما، وقد عرفت ما هو الحق في الذي قبله، وقد ألحق المستحاضة المريض وسائر المعذورين بجامع المشقة ولهذا قال المصنف: وهو حجة في الجمع للمرضى انتهى. عروة بن الزبير عن أسماء بنت عميس. قالت: قلت يارسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا من الشيطان لتجلس في مركن فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتغتسل للفجر غسلا وتتوضأ فيما بين ذلك رواه أبو داود. الحديث في إسناده سهيل بن أبي صالح وفي الاحتجاج بحديثه خلاف. وفي الباب عن حمنة بنت جحش وفيه: فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلي حتى تطهرين وتصلين الظهر والعصر جمعا ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الصبح وتصلين، قال: وهذا أعجب الامرين إلي أخرجه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني
[ 305 ]
والحاكم، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو مختلف في الاحتجاج به. وقال ابن منده: لا يصح بوجه من الوجوه، وسيأتي بقية الكلام عليه في باب من تحيض ستا أو سبعا. وحديث الباب يدل على ما دل عليه الذي قبله وقد عرفت الخلاف في ذلك، واختلف في وضوء المستحاضة هل يجب لكل صلاة أم لا؟ وسيأتي الكلام على ذلك في باب وضوء المستحاضة لكل صلاة. قوله: في مركن هو بكسر الميم الاجانة التي تغسل فيها الثياب والميم زائدة، والاجانة بهمزة مكسورة فجيم مشددة فألف فنون، ويقال: الايجانة والانجانة بالياء المثناة من تحت بعد الهمزة أو بالنون. قوله: فإذا رأت صفرة فوق الماء أي الذي تقعد فيه فإنها تظهر الصفرة فوقه فعند ذلك يصب عليها الماء: وفي شرح المغربي لبلوغ المرام ما لفظه: أي صفرة الشمس، وفي نسخة صفارة أي إذا زالت الشمس وقربت من العصر حتى ترى فوق الماء من شعاع الشمس شبه صفارة لان شعاعها يتغير ويقل فيضرب إلى صفرة انتهى. فينظر في صحة هذا التفسير. باب غسل المغمى عليه إذا أفاق عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق قال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، فذكرت إرساله إلى أبي بكر وتمام الحديث متفق عليه. قوله: ثقل بفتح الثاء وكسر القاف قال في القاموس: ثقل كفرح فهو ثقيل وثاقل اشتد مرضه. قوله: في المخضب كمنبر قاله في القاموس وهو المركن وقد سبق تفسيره في الحديث الذي قبل هذا. قوله: لينوء أي لينتهض بجهد ومشقة. قوله: فأغمي عليه أي غشي عليه ثم أفاق. وتمام الحديث قالت: والناس عكوف في المسجد
[ 306 ]
ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلي أبي بكر أن يصلي بالناس، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا: يا عمر صل بالناس، قالت، فقال عمر: أنت أحق بذلك، قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الايام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا تتأخر وقال لهما: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعد. والحديث له فوائد مبسوطة في شروح الحديث، وقد ساقه المصنف ههنا للاستدلال به على استحباب الاغتسال للمغمى عليه، وقد فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات وهو مثقل بالمرض فدل ذلك على تأكد استحبابه. باب صفة الغسل عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء ويدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حثيات ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه أخرجاه. وفي رواية لهما: ثم يخلل بيديه شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات. قوله: إذا اغتسل أي أراد ذلك. وفي الفتح أي شرع في الفعل. قوله: وضوءه للصلاة فيه احتراز عن الوضوء اللغوي، قال الحافظ: يحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا يحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفا لها ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى. وإلى هذا جنح الداودي شارح المختصر، ونقل ابن بطال الاجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل وهو مردود، فقد ذهب جماعة منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل
[ 307 ]
لا ينوب عن الوضوء للمحدث وهو قول أكثر العترة، وإلى القول الاول أعني عدم وجوب الوضوء مع الغسل ودخول الطهارة الصغرى تحت الكبرى ذهب زيد بن علي، ولا شك في شرعية الوضوء مقدما على الغسل كما ثبتت بذلك الاحاديث الصحيحة. وأما الوجوب فلم يدل عليه دليل، والفعل بمجرده لا ينتهض للوجوب، نعم يمكن تأييد القول الثاني بالادلة القاضية بوجوب الوضوء. قوله: في أصول الشعر أي شعر رأسه ويدل عليه رواية حماد بن سلمة عن هشام عند البيهقي: يخلل بها شق رأسه الايمن قال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل، إما لعموم قوله: أصول الشعر وإما بالقياس على شعر الرأس. قوله: ثلاث حثيات فيه استحباب التثليث في الغسل. قال النووي: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما انفرد به الماوردي فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل، قال الحافظ: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي، وكذا قال القرطبي، وحمل التثليث في هذه الرواية على أن كل غرفة في جهة من جهات الرأس. قوله: ثم غسل رجليه يدل على أن الوضوء الاول وقع بدون غسل الرجلين. قال الحافظ: وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام. قال البيهقي: غريبة صحيحة لكن في رواية أبي معاوية عن هشام مقال، نعم له شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة عند أبي داود الطيالسي وفيه: فإذا فرغ غسل رجليه ويحتمل أن يكون قوله في رواية أبي معاوية ثم غسل رجليه أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء. وقد وقع التصريح بتأخير الرجلين في رواية للبخاري بلفظ: وضوءه للصلاة غير رجليه وهو مخالف لظاهر رواية عائشة. قال الحافظ: ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز، وإما بحملها على حالة أخرى، وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلفت أنظار العلماء، فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين في الغسل، وعن مالك إن كان: المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم، وعند الشافعية في الافضل قولان قال النووي: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أن يكمل وضوءه، قال: لان أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك. قوله: ثم أفاض الافاضة الاسالة وقد استدل بذلك على عدم وجوب الدلك، وعلى أن مسمى غسل لا يدخل فيه الدلك، لان ميمونة عبرت بالغسل وعبرت عائشة بالافاضة والمعنى واحد. والافاضة لا دلك فيها فكذلك الغسل. وقال المازري: لا يتم الاستدلال بذلك لان أفاض بمعنى غسل، والخلاف
[ 308 ]
قائم، وقد قدمنا الكلام على ذلك في باب إيجاب الغسل من التقاء الختانين. قال الحافظ: قال القاضي عياض: لم يأت في شئ من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار، وقد ورد ذلك من طريق صحيحة، أخرجها النسائي والبيهقي من رواية أبي سلمة عن عائشة أنهو صفت غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجنابة الحديث. وفيه: ثم يمضمض ثلاثا ويستنشق ثلاثا ويغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ثم يفيض على رأسه ثلاثا. قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث: وهو دليل على أن غلبة الظن في وصول الماء إلى ما يجب غسله كاليقين انتهى. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشئ نحو الحلاب فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الايمن ثم الايسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه أخرجاه. قوله: نحو الحلاب بالحاء المهملة المكسورة واللام الخفيفة ما يحلب فيه. قال المصنف: قال الخطابي الحلاب إناء يسع قدر حلبة ناقة انتهى. وعلى هذا الاكثر، وضبطه الازهري بالجيم المضمومة وتشديد اللام قال: وهو ماء الورد، وأنكر ذلك عليه جماعة، وقد اختبط شراح البخاري وغيرهم في ضبط هذه اللفظة، والسبب في ذلك أن البخاري قال: باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل، فتكلف جماعة لمطابقة هذه الترجمة للحديث وجعل الحلاب، بمعنى الطيب، وقد أطال الحافظ في الفتح الكلام على هذا. قوله:
[ 309 ]
ثم أخذ بكفيه أشار إلى الغرفة الثالثة كما صرحت به رواية أبي عوانة، ووقع في بعض روايات البخاري بكفه بالافراد وفي بعضها بالتثنية كما في الكتاب. والحديث يدل على استحباب البداءة بالميامن ولا خلاف فيه، وفيه الاجتزاء بثلاث غرفات، وترجم على ذلك ابن حبان. قوله: فقال بهما هو من إطلاق القول على الفعل، وقد وقع إطلاق الفعل على القول في حديث: لا حسد إلا في اثنتين قال فيه: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت مثل ما يفعل كذا في الفتح. وعن ميمونة قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ماء يغتسل به فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالارض ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثا ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها وجعل ينفض الماء بيده رواه الجماعة وليس لاحمد والترمذي نفض اليد. قوله: فأفرغ على يديه يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذر، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه الزيادة التي رواها الترمذي بلفظ: قبل أن يدخلهما الاناء. قوله: مذاكيره جمع ذكر على غير قياس، وقيل واحده مذكار، قال الاخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له. وقال ابن خروف: إنما جمعه مع أنه ليس في الجسد إلا واحد بالنظر إلى ما يتصل به، وأطلق على الكل اسمه، فكأنه جعل كل جزء من المجموع كالذكر في حكم الغسل. قوله: ثم دلك يده بالارض فيه أنه يستحب للمستنجي بالماء إذا فرغ أن يغسل يده بتراب أو أشنان، أو يدلكها بالتراب أو بالحائط ليذهب الاستقذار منها. قوله: فغسل قدميه قد تقدم الكلام على ذلك في حديث أول الباب. قوله: ثم تنحى أي تحول إلى ناحية. قوله: فلم يردها من الارادة لا من الرد، وقد تقدم الكلام في كراهية التنشيف وعدمها. قوله: وجعل ينفض فيه جواز نفض اليدين من ماء الغسل، قال الحافظ: وكذا الوضوء، وفيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره ولفظه: لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مراوح الشيطان قال ابن الصلاح: لم أجده وتبعه النووي: وقد أخرجه ابن حبان في الضعفاء وابن أبي حاتم في العلل من حديث أبي هريرة، ولو لم يعارضه هذا الحديث لم يكن صالحا لان يحتج به. قال المصنف رحمه الله: وفيه دليل استحباب ذلك اليد بعد
[ 310 ]
الاستنجاء انتهى. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوضأ بعد الغسل رواه الخمسة. الحديث قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال ابن سيد الناس: إنها تختلف نسخ الترمذي في تصحيحه، وأخرجه البيهقي بأسانيد جيدة. وفي الباب عن ابن عم مرفوعا وعنه موقوفا أنه قال: لما سئل عن الوضوء بعد الغسل وأي وضوء أعم من الغسل رواه ابن أبي شيبة. وروي عنه أنه قال لرجل قال له: إني أتوضأ بعد الغسل، فقال: لقد تعمقت. وروي عن حذيفة أنه قال: أما يكفي أحدكم أن يغسل من قرنه إلى قدمه حتى يتوضأ؟ وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم حتى قال أبو بكر بن العربي: أنه لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل، وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث وتقضي عليها، لان موانع الجنابة أكثر من موانع الحدث، فدخل الاقل في نية الاكثر وأجزأت نية الاكبر عنه. وقد تقدم كلام ابن بطال في أول الباب، وتقدم الرد عليه بأنه قول أبي ثور وداود وغيرهما، قال ابن سيد الناس: إن داود الظاهري أوجب الوضوء في غسل الجنابة لا أنه بعده لكن لا يخلو عنده من الوضوء، وحكاه عنه الشيخ يحيى الدين النووي. قال ابن سيد الناس: والذي رأيته عن أبي محمد بن حزم أن ذلك عنده ليس فرضا في الغسل وإنما هو كمذهب الجماعة. وعن جبير بن مطعم قال: تذاكرنا غسل الجنابة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما أنا فآخذ مل ء كفي فأصب على رأسي ثم أفيض بعد على سائر جسدي رواه أحمد. الحديث رجاله رجال الصحيح. وقد أخرجه أيضا أحمد من حديث جبير بن مطعم بلفظ: أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات ثم أفيض فإذا أنا قد طهرت قال الحافظ وقوله: فإذا أنا قد طهرت لا أصل له من حديث صحيح ولا ضعيف، لكنه وقع من حديث أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء عليك، فإذا أنت قد طهرت وأصلح في صحيح مسلم. وذكر الحافظ في التلخيص في باب الغسل حديث جبير بن مطعم عند أحمد بلفظ: أما أنا فآخذ مل ء كفي ثلاثا فأصب على رأسي ثم أفيض على جسدي ولم يتكلم عليه وله شواهد في الصحيحين وغيرهما، قال المصنف رحمه الله: فيه مستدل
[ 311 ]
لمن لم يوجب الدلك ولا المضمضة والاستنشاق انتهى، وقد تقدم الكلام في ذلك. باب تعاهد باطن الشعور وما جاء في نقضها عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار، قال علي: فمن ثم عاديت شعري. رواه أحمد وأبو داود وزاد: وكان يجز شعره رضي الله عنه. قال الحافظ: وإسناده صحيح لان من رواته عطاء بن السائب، وقد سمع منه حماد بن سلمة قبل الاختلاط، وأخرجه أبو داود أيضا وابن ماجه من حديث حماد لكن قيل: إن الصواب وقفه على علي. قال عبد الحق، الاكثرون قالوا بوقفه. وقال النووي: ضعيف وعطاء قد ضعف قبل اختلاطه ولحماد أوهام، وفي إسناده أيضا زاذان وفيه خلاف. وفي الباب من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: بلوا الشعر وأنقوا البشر أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي، ومداره على الحرث بن وجيه وهو ضعيف جدا. قال أبو داود: والحرث هذا حديثه منكر وهو ضعيف. وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث الحرث وهو شيخ ليس بذاك. وقال الدارقطني في العلل: إنما يروى هذا عن مالك بن دينار عن الحسن مرسلا، ورواه سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس عن الحسن قال: نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره، ورواه أبان العطار عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة من قوله. وقال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت. وقال البيهقي: أنكره أهل العلم بالحديث البخاري وأبو داود وغيرهما. والحديث يدل على مشروعية تخليل الشعر بالماء في الغسل ولا أحفظ فيه خلافا. وعن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين رواه الجماعة إلا البخاري. الحديث قال الترمذي: حسن صحيح. قوله: ضفر رأسي بفتح الضاد المعجمة وإسكان الفاء قال النووي: هذا هو المشهور المعروف في رواية الحديث والمستفيض
[ 312 ]
عند المحدثين وهو الشعر المفتول، ويجوز ضم الضاد والفاء جمع ضفيرة. قوله: أن تحثي يقال: حثيث وحثوث لغتان مشهورتان والحثية والحفنة. وهو يدل على أنه لا يجب على المرأة نقض الضفائر، وقد اختلف الناس في ذلك، قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال جمهورهم: لا ينقضه إلا أن يكون ملبدا ملتفا لا يصل الماء إلى أصوله إلا بنقضه، فيجب حينئذ من غير فرق بين جنابة وحيض. وروي عن المؤيد بالله وأبي طالب والامام يحيى، وروي أيضا عن القاسم. وقال النخعي: تنقضه في الجنابة والحيض. وقال أحمد: تنقضه في الحيض دون الجنابة وروي عن الحسن البصري وطاوس وروي عن مالك أنه لا يجب النقض لا على الرجال ولا على النساء. ووجه ما ذهب إليه عموم نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن نقض الشعر ولم يخص رجلا من امرأة، ولا يلزم من كون السائل عن ذلك من النساء أن يكون الحكم مختصا بهن اعتبارا بعموم النهي، كذا قاله ابن سيد الناس. ووجه قول من ذهب إلى التفرقة حديث ثوبان أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه أخرجه أبو داود، وأكثر ما علل به أن في إسناده إسماعيل بن عياش، والحديث من مروياته عن الشاميين وهو قوي فهم فيقبل. ووجه ما روي عن النخعي أن عموم الغسل يجب في جميع الاجزاء من شعر وبشر، وقد يمنع ضفر الشعر من ذلك، ولعله لم تبلغه الرخصة في ذلك للنساء. ووجه ما ذهب إليه أحمد ومن معه من التفرقة بين الحيض والجنابة ما سيأتي، وما روى الدارقطني في إفراده والبيهقي في سننه الكبرى من حديث مسلم بن صبيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها نقضا وغسلته
[ 313 ]
بخطمي وأشنان: فإذا اغتسلت من الجنابة صبت على رأسها الماء وعصرت وقد تفرد به مسلم بن صبيح عن حماد قال المصنف رحمه الله: وفي الحديث مستدل لمن لم يوجب الدلك باليد. وفي رواية لابي داود أن امرأة جاءت إلى أم سلمة بهذا الحديث قالت: فسألت لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه قال فيه: واغمزي قرونك عند كل حفنة وهو دليل على وجوب بل داخل الشعر المسترسل انتهى، وقد تقدم الكلام في ذلك. وعن عبيد بن عمير قال: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: يا عجبا لابن عمرو وهو يأمر النساء إذا اغتسلن بنقض رؤوسهن، أو ما يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء واحد وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات رواه أحمد ومسلم. الحديث يدل على عدم وجوب نقض الشعر على النساء وقد تقدم الكلام فيه، وأما أمر عبد الله بن عمرو بالنقض فيحتمل أنه أراد إيجاب ذلك عليهن، ويكون ذلك في شعور لا يصل إليها الماء أو يكون مذهبا له أنه يجب النقض بكل حال كما حكى عن غيره ولم يبلغه حديث أم سلمة وعائشة، ويحتمل أنه كان يأمرهن بذلك على الاستحباب والاحتياط للايجاب قاله النووي. باب استحباب نقض الشعر لغسل الحيض وتتبع أثر الدم فيه عن عروة عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها وكانت حائضا: انقضي شعرك واغتسلي رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. الحديث هو عند الستة إلا الترمذي بلفظ: أنها قدمت مكة وهي حائض ولم تطف بالبيت إلا بين الصفا والمروة، فشكت ذلك إليه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: انقضي رأسك وأمشطي وأهلي بالحج وليس فيه ذكر الغسل. وقد ثبت عند ابن ماجه كما ذكره المصنف، وهو دليل لمن قال بالفرق بين الغسل للجنابة والحيض والنفاس وهو أحمد بن حنبل والهادوية، وأجيب بأن الخبر ورد في مندوبات الاحرام والغسل في تلك الحال للتنظيف لا للصلاة والنزاع في غسل الصلاة. [ رح ] وعن عائشة: أن امرأة من الانصار سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 314 ]
عن غسلها من الحيض فأمرها كيف تغتسل ثم قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله تطهري بها؟ فاجتذبتها إلي فقلت: تتبعي بها أثر الدم رواه الجماعة إلا الترمذي غير أن ابن ماجة وأبا داود قالا: فرصة ممسكة. الحديث أخرجه أيضا الشافعي، وسماها مسلم أسماء بنت شكل. وقيل: إنه تصحيف والصواب أسماء بنت يزيد بن السكن، ذكره الخطيب في المبهمات. وقال المنذري: يحتمل أن تكون القصة تعددت، وروي فرصة ممسكة في الصحيحين أيضا. قوله: فرصة هي بكسر الفاء وإسكان الراء وبالصاد المهملة القطعة من كل شئ حكاه ثعلب. وقال ابن سيده: الفرصة من القطن أو الصوف مثلثة الفاء. والمسك هو الطيب المعروف. وقال عياض: رواية الاكثر بفتح الميم وهو الجلد وفيه نظر لقوله في بعض الروايات فإن لم يجد فطيبا غيره، كذا أجاب الرافعي، قال الحافظ وهو متعقب: فإن هذا لفظ الشافعي في الام نعم في رواية عبد الرزاق يعني بالفرصة المسك أو الزريرة، وليس في الحديث ذكر نقض الشعر، وغاية ما فيه الدلالة على التنظيف والمبالغة في إذهاب أثر الدم. قال النووي: وقد اختلف العلماء في الحكمة في استعمال المسك المختار الذي قاله الجماهير أن المقصود من استعمال المسك تطييب المحل ودفع الرائحة الكريهة. باب ما جاء في قدر الماء في الغسل والوضوء عن سفينة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغتسل بالصاع ويتطهر بالمد رواه أحمد وابن ماجه ومسلم والترمذي وصححه. قوله: بالصاع الصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمد رطل وثلث بالبغدادي، فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثا برطل بغداد. قال النووي: هذا هو الصواب المشهور: وذكر جماعة من أصحابنا وجها لبعض أصحابنا أن الصاع هنا ثمانية أرطال والمد رطلان انتهى. والرطل البغدادي، على ما قال الرافعي وغيره مائة وثلاثون درهما، ورجح النووي أنه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. والحديث يدل على كراهة الاسراف في الماء للغسل والوضوء واستحباب الاقتصاد، وقد أجمع العلماء على النهي عن الاسراف
[ 315 ]
في الماء ولو كان على شاطئ النهر، قال بعض أصحاب الشافعي: إنحرام. وقال بعضهم: إنه مكروه كراهة تنزيه. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد متفق عليه. وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ بإناء يكون رطلين ويغتسل بالصاع رواه أحمد وأبو داود. الحديث الثاني أخرجه الترمذي بنحوه وقال: غريب، وهو من طريق شريك من عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن جبر عن أنس وكلهم ثقات. وقد ثبت في هذا الحديث إلى خمسة أمداد، وفي حديث عائشة الآتي: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء يقال له الفرق ووقع في رواية ثلاثة أمداد أو قريب من ذلك. وفي رواية: كان يغتسل من إناء واحد يقال له الفرق وفي أخرى: فدعت بإناء قدر الصاع فاغتسلت فيه. وفي الاخرى: كان يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك وفي أخرى: يغسله الصاع ويوضئه المد. وفي أخرى: يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع قال الشافعي وغيره: الجمع بين هذه الروايات أنها كانت اغتسالات في أحوال والفرق سيأتي تقديره، وأما المكوك فهو بفتح الميم وضم الكاف الاولى وتشديدها وجمعه مكاكيك ومكاكي، قال النووي: ولعل المراد بالمكوك هنا المد. وعن موسى الجهني قال: أتى مجاهد بقدح حزرته ثمانية أرطال فقال: حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يغتسل بمثل هذا رواه النسائي. الحديث إسناده في سنن النسائي، هكذا أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن موسى الجهني فذكره، وأحمد بن عبيد هو ابن حسان وهو من رجال الصحيح. قال أبو داود: وهو حجة ويحيى بن زكريا هو الامام الكبير وحديثه في الصحيحين وغيرهما. وموسى الجهني أخرج له مسلم ووثقه أحمد وغيره، وقد عرفت كيفية الجمع بين الروايات. قوله: حززته أي قدرته، قال الحافظ: تمسك بهذا بعض الحنفية وجعل الفرق ثمانية أرطال، والصحيح أن الفرق مقداره ما سيأتي، والحزر لا يعارض به التحديد، وأيضا لم يصرح مجاهد بأن الاناء المذكور صاع فيحمل على اختلاف الاواني مع تقاربها.
[ 316 ]
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يجزئ من الغسل الصاع ومن الوضوء المد رواه أحمد والاثرم. الحديث أخرجه أيضا أبو داود وابن خزيمة وابن ماجه بنحوه وصححه ابن القطان: وقوله: يجزئ الخ ظاهره أنه لا يجزئ دون الصاع والمد ويعارضه ما سيأتي. وعن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء واحد من قدح يقال له الفرق متفق عليه. والفرق ستة عشر رطلا بالعراقي. قوله: الفرق قال ابن التين: بتسكين الراء، قال الحافظ: ورويناه بفتحها، وجوز بعضهم الامرين. قال النووي: الفتح أفصح وأشهر، وزعم أبو الوليد الباجي أنه الصواب، قال: وليس كما قال بل هما لغتان. قال الحافظ: لعل مستند الباجي ما حكاه الازهري عن ثعلب وغيره الفرق بالفتح والمحدثون يسكنونه وكلام العرب بالفتح انتهى. وقد حكى الاسكان أبو زيد وابن دريد وغيرهما، وحكى ابن الاثير أن الفرق بالفتستة عشر رطلا، وبالاسكان مائة وعشرون رطلا، قال الحافظ: وهو غريب وقد ثبت تقديره في صحيح مسلم عن سفيان بن عيينة فقال: هو ثلاثة آصع، قال النووي: وكذا قال الجماهير. وقيل: الفرق صاعان، قال الحافظ: لكن نقل أبو عبيد أن الاتفاعلى أن الفرق ثلاثة آصع، وعلى أن الفرق ستة عشر رطلا، ولعله يريد اتفاق أهل اللغة. باب من رأى التقدير بذلك استحبابا وأن ما دونه يجزي إذا أسبغ عن عائشة: أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك. رواه مسلم. القدر المجزئ من الغسل ما يحصل به تعميم البدن على الوجه المعتبر، وسواء كان صاعا أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في النقصان إلى مقدار لا يسمى مستعمله مغتسلا، أو إلى مقدار في الزيادة يدخل فاعله في حد الاسراف. وهكذا الوضوء القدر المجزئ منه ما يحصل به غسل أعضاء الوضوء، سواء كان مدا أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في الزيادة إلى حد السرف أو النقصان إلى حد لا يحصل به الواجب. وقد أخرج ابن ماجه من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال نعم وإن كنت على نهر جار وفي إسناده ابن لهيعة. وروى ابن عدي من حديث ابن
[ 317 ]
عباس مرفوعا: كان يتعوذ بالله من وسوسة الوضوء قال: ابن حجر: وإسناده واه. وعن عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ فأتى بماء في إناء قدر ثلثي المد رواه أبو داود والنسائي. الحديث أخرجه ابن خزيمة وابن حبان من حديث عبد الله بن زيد بلفظ: توضأ بنحو ثلثي مد وصحح حديث الباب أبو زرعة. وأما حديث: أنه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ بنصف مد فأخرجه الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة وفي إسناده الصلت بن دينار وهو متروك. وحديث: أنه صلى الله عليه وآله وسلم توضأ بثلث مد قال الحافظ: لم أجده. وعن عبيد بن عمير أن عائشة قالت: لقد رأيتني أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا فإذا تور موضوع مثل الصاع أو دونه فنشرع فيه جميعا فأفيض على رأسي بيدي ثلاث مرات وما أنفض لي شعرا رواه النسائي. الحديث إسناده في سنن النسائي، هكذا أخبرنا سويد بن نصر قال: أخبرنا عبد الله عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير فذكره ورجاله ثقات. وهو يدل على عدم وجوب الاغتسال بمقدار صاع من الماء لاشتراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة في صاع أو دونه، والاكتفاء بمجرد الافاضة على الرأس من دون نقض الشعر. وقد ورد في أحاديث كثيرة وقد سبق بعضها، وقد تقدم الكلام على عدم وجوب نقض الشعر على المرأة في غسل الجنابة، وهذا الحديث من الادلة الدالة على ذلك. والتور قد تقدم الكلام عليه. باب الاستتار عن الاعين للمغتسل وجواز تجرده في الخلوة عن يعلى بن أمية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يغتسل بالبراز فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عزوجل حيي ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر رواه أبو داود والنسائي. الحديث رجال إسناده رجال الصحيح. وقد أخرج البزار نحوه من حديث ابن عباس مطولا، وقد ذكره الحافظ في الفتح ولم يتكلم عليه. وهو يدل على وجوب التستر حال الاغتسال، وقد ذهب إلى ذلك ابن أبي ليلى، وذهب أكثر العلماء إلى أنه
[ 318 ]
أفضل وتركه مكروه وليس بواجب. واستدلوا على ذلك بما سيأتي. وقد ذهب بعض الشافعية أيضا إلى تحريمه، قال الحافظ: والمشهور عند متقدميهم كغيرهم الكراهة فقط. قوله: بالبراز المراد به هنا الفضاء والباء للظرفية. قوله: ستير بسين مهملة مفتوحة وتاء مثناة من فوق مكسورة وباء تحتية ساكنة ثم راء مهملة. قال في النهاية: فعيل بمعنى فاعل. ومن الادلة الدالة على استحباب الاستتار حال الغسل ما أخرجه النسائي من حديث أبي السمح قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان إذا أراد أن يغتسل قال: ولني فأوليه قفاي فأستره به أخرجه النسائي. وما أخرجه مسلم من حديث أم هانئ قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة رضي الله عنها تستره بثوب ويدل على مشروعية مطلق الاستتار ما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظي عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قلت: يا رسول الله فالرجل يكون خاليا قال: الله أحق أن يستحي منه من الناس. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: بينما أيوب عليه السلام يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه تبارك وتعالى: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك. رواه أحمد والبخاري والنسائي. قوله: يحثي في رواية البخاري يحتثي والحثية هي الاخذ باليد. قوله: لا غنى بي بالقصر بلا تنوين. قال الحافظ: ورويناه بالتنوين أيضا على أن لا بمعنى ليس، قال ابن بطال: ووجه الدلالة من الحديث أن الله تعالى عاتبه على جمع الجراد ولم يعاتبه على الاغتسال عريانا فدل على جوازه. وقال أيضا: ووجه الاستدلال بهذا الحديث وحديث أبي هريرة الذي سيأتي أنهما يعني أيوب وموسى ممن أمر بالاقتداء به. قال الحافظ: وهذا إنما يأتي على رأي من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا، والذي يظهر أن وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قص القصتين ولم يتعقب شيئا منهما فدل على موافقتهما لشرعنا، وإلا فلو كان فيهما غير موافق لبينه فيجمع بين الاحاديث بحمل الاحاديث التي فيها الارشاد إلى التستر على الافضل. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كانت بنو
[ 319 ]
إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال: فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال: فجمح موسى عليه السلام بأثره يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى عليه السلام فقالوا: والله ما بموسى بأس قال: فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا متفق عليه. قوله: كانت بنو إسرائيل أي جماعتهم. قوله: يغتسلون عراة ظاهره أن ذلك كان جائزا في شرعهم وإلا لما أقرهم موسى على ذلك، وكان هو عليه السلام يغتسل وحده أخذا بالافضل. قال الحافظ: وأغرب ابن بطال فقال: هذا يدل على أنهم كانوا عصاة له، وتبعه على ذلك القرطبي فأطال في ذلك. قوله: آدر هو بالمد وفتح الدال المهملة وتخفيف الراء، قال الجوهري: الادرة نفخة في الخصية. قوله: فجمح بالجيم ثم الميم ثم الحاء المهملة أي جرى مسرعا. وفي رواية فخرج. قوله: ثوبي حجر إنما خاطبه لانه أجراه مجرى من يعقل لكونه فر بثوبه فانتقل من حكم الجماد إلى حكم الحيوان فناداه لما لم يرد عليه ثوبه ضربه. وقيل: يحتمل أن يكون أراد بضربه إظهار المعجزة بتأثير ضربه فيه، ويحتمل أن يكون عن وحي. قوله: حتى نظرت ظاهره أنهم رأوا جسده وبه يتم الاستدلال على جواز النظر عند الضرورة، وأبدى ابن الجوزي احتمال أن يكون كان عليه مئزر لانه يظهر ما تحته بعد البلل واستحسن ذلك ناقلا له عن بعض مشايخه، قال الحافظ: وفيه نظر. والحديث قد تقدم الكلام على وجه دلالته في الذي قبله. باب الدخول في الماء بغير إزار عن علي بن زيد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن موسى بن عمران عليه السلام كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه حتى يواري عورته في الماء رواه أحمد. الحديث قال في مجمع الزوائد: رجاله موثقون إلا أن علي بن زيد مختلف في الاحتجاج به، وهذا نوع من الستر المندوب إليه، فهو مندرج تحت عموم الادلة القاضية بمشرو عية الستر. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقد نص أحمد على كراهة دخول الماء
[ 320 ]
بغير إزار، وقال إسحاق: هو بالازار أفضل لقول الحسن والحسين رضي الله عنهما وقد قيل لهما وقد دخلا الماء وعليهما بردان فقالا: إن للماء سكانا، قال إسحاق: وإن تجرد رجونا أن لا يكون إثما، واحتج بتجرد موسى عليه السلام، انتهى. باب ما جاء في دخول الحمام عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من ذكور أمتي فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام رواه أحمد. الحديث في إسناده أبو خيرة، قال الذهبي: لا يعرف وأحاديث الحمام لم يتفق على صحة شئ منها. قال المنذري: وأحاديث الحمام كلها معلولة وإنما يصح منها عن الصحابة. ويشهد لحديث الباب حديث عمر بن الخطاب الذي سيذكره المصنف في باب من دعي فرأى منكرا من كتاب الوليمة، وقد أخرج الفصل الاول من هذا الحديث الترمذي من حديث جابر وقال: حسن غريب وفيه ليث بن أبي سليم. وقد رواه أحمد أيضا من طريق ثانية من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر. وأخرج معناه أبو داود والترمذي من حديث عائشة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجال والنساء عن دخول الحمام ثم رخص للرجال أن يدخلوه في المآزر لكنه من حديث حماد بن سلمة عن عبد الله بن شداد عن أبي عذرة عنها، وأبو عذرة مجهول: قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة وإسناده ليس بذاك القائم. وأخرج أبو داود والترمذي من حديثها أنها قالت لنسوة دخلن عليها من نساء الشام: لعلكن من الكورة التي يدخل نساؤها الحمام؟ قلن: نعم، قالت: أما أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب وهو من حديث شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبي المليح عنها وكلهم رجال الصحيح: وروي عن جرير عن سالم عنها، وكان سالم يدلس ويرسل، وقال الترمذي بعد ذكر الحديث: حسن وفي رواية للنسائي عن جابر: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام إلا من عذر هكذا بلفظ إلا من عذر في الجامع، ولم يذكر هذا الاستثناء الترمذي، ولم يوجد الحديث في النسائي، ولعل ذلك في بعض النسخ. قال
[ 321 ]
العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في بعض أجوبته: والظاهر أنه غلط، ولم يذكره الشريف أبو المحاسن في كتابه في الحمام، ولم يذكر الاستثناء في حديث جابر ولا عزاه إلى النسائي وقد رواه من حديث جابر بلفظ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ورواه الشريف أبو المحاسن في كتابه في الحمام من طريق سعيد بن أبي عروبة عن أبي الزبير عن جابر، وليس في شئ من الطرق ذكر العذر. وحديث الباب يدل على جواز الدخول للذكور بشرط لبس المآزر، تحريم الدخول بدون مئزر، وعلى تحريمه على النساء مطلقا، واستثناء الدخول من عذر لهن لم يثبت من طريق تصلح للاحتجاج بها فالظاهر المنع مطلقا، ويؤيد ذلك ما سلف من حديث عائشة الذي روته لنساء الكورة وهو أصح ما في الباب إلا لمريضة أو نفساء كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا إن صح. وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالازار وامنعوا النساء إلا مريضة أو نفساء رواه أبو داود وابن ماجه. الحديث في إسناده عبد الرحمن بن أنعم الافريقي وقد تكلم عليه غير واحد. وفي إسناده أيضا عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية وقد غمزه البخاري وابن أبي حاتم، وهو يدل على تقييد الجواز للرجال بلبس الازار، ووجوب المنع على الرجال للنساء إلا لعذر المرض والنفاس، وهذا أعني استثناء المريضة والنفساء، أخص من استثناء العذر المذكور في حديث النسائي فيقتصر عليهما وقد عرفت ما فيه. قال المصنف: وفيه أن من حلف لا يدخل بيتا فدخل حماما حنث، انتهى. كتاب التيمم التيمم في اللغة القصد. قال الازهري: التيمم في كلام العرب القصد، يقال: تيممت فلانا وتأممته ويممته وأممته أي قصدته. وفي الشرع القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة ونحوها قاله في الفتح. واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والاجماع وهي خصيصة خصص الله تعالى بها هذه الامة قال في الفتح: واختلف هل التيمم عزيمة أو رخصة؟ وفصل بعضهم فقال: هو لعدم الماء عزيمة وللعذر رخصة.
[ 322 ]
باب تيمم الجنب للصلاة إذا لم يجد ماء عن عمران بن حصين قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فصلى بالناس فإذا هو برجل معتزل فقال: ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك متفق عليه. قوله: فإذا هو برجل وقع في شرح العمدة للشيخ سراج الدين بن الملقن أن هذا الرجل هو خلاد بن رافع بن مالك الانصاري أخو رفاعة شهد بدرا. قال ابن الكلبي: وقتل يومئذ، وقال غيره: له رواية وهذا يدل على أنه عاش بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الحافظ: أما على قول الكلبي فيستحيل أن يكون هو صاحب هذه القصة لتقدم وقعة بدر على هذه القصة بمدة طويلة بلا خلاف، وأما على قول غيره فيحتمل أن يكون هو، لكن لا يلزم من كون له رواية أن يكون عاش بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاحتمال أن تكون الرواية عنه منقطعة أو متصلة لكن نقلها عنه صحابي آخر، وعلى هذا فلا منافاة بين هذا وبين من قال إنه قتل ببدر. قوله: أصابتني جنابة ولا ماء بفتح الهمزة أي معي أي موجود وهو أبلغ في إقامة عذره لما فيه من عموم النفي، كأنه نفى وجود الماء بالكلية. قوله: عليك بالصعيد اللام للعهد المذكور في الآية الكريمة، ودل قوله يكفيك على أن المتيمم في مثل هذه الحال لا يلزمه القضاء، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: يكفيك أي للاداء فلا يدل على ترك القضاء والاول أظهر. والحديث يدل على مشروعية التيمم للصلاة عند عدم الماء من غير فرق بين الجنب وغيره، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولم يخالف فيه أحد من الخلف ولا من السلف إلا ما جاء عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وحكي مثله عن إبراهيم النخعي من عدم جوازه للجنب. وقيل: إن عمر و عبد الله رجعا عن ذلك. وقد جاءت بجوازه للجنب الاحاديث الصحيحة. وإذا صلى الجنب بالتيمم ثم وجد الماء وجب عليه الاغتسال بإجماع العلماء إلا ما يحكى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن الامام التابعي أنه قال: لا يلزمه وهو مذهب متروك بإجماع من بعده ومن قبله، وبالاحاديث الصحيحة المشهورة في أمره صلى الله عليه وآله وسلم للجنب بغسل بدنه إذا وجد الماء.
[ 323 ]
باب تيمم الجنب للجرح عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بذلك فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده. رواه أبو داود والدارقطني. الحديث رواه أيضا ابن ماجه وصححه ابن السكن، وقد تفرد به الزبير بن خريق وليس بالقوي قاله الدارقطني، وخالفه الاوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب. قال الحافظ: رواه أبو داود أيضا من حديث الاوزاعي قال: بلغني عن عطاء عن ابن عباس. ورواه الحاكم عن بشر بن بكر عن الاوزاعي، حدثني عطاء عن ابن عباس. وقال الدارقطني: اختلف فيه على الاوزاعي، والصواب أن الاوزاعي أرسل آخره عن عطاء. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لم يسمعه الاوزاعي من عطاء إنما سمعه من إسماعيل بن مسلم عن عطاء، ونقل ابن السكن عن ابن أبي داود أن حديث الزبير بن خريق أصح من حديث الاوزاعي وقد رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث الوليد بن عبيد بن أبي رباح عن عمه عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا، والوليد بن عبيد ضعفه الدارقطني وقواه من صحح حديثه. قوله: العي بكسر العين هو التحير في الكلام قيل هو ضد البيان. والحديث يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر، وقد ذهب إلى ذلك العترة ومالك وأبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وذهب أحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه إلى عدم جواز التيمم لخشية الضرر، قالوا: لانه واجد. والحديث وقوله تعالى: * (وإن كنتم مرضى) * (النساء: 43) الآية يردان عليهما. ويدل الحديث أيضا على وجوب المسح على الجبائر، ومثله حديث علي عليه السلام قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسح على الجبائر وقد اتفق الحفاظ على ضعفه، وقد ذهب إلى وجوب المسح على الجبائر المؤيد بالله والهادي في أحد قوليه. وروي عن أبي حنيفة والفقهاء السبعة فمن بعدهم وبه قال الشافعي لكن بشرط أن توضع على طهر،
[ 324 ]
وأن لا يكون تحتها من الصحيح إلا ما لا بد منه، والمسح المذكور عندهم يكون بالماء لا بالتراب. وذهب أبو العباس وأبو طالب وهو أحد قولي الهادي، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يمسح ولا يحل بل يسقط كعبادة تعذرت، ولان الجبيرة كعضو آخر، وآية الوضوء لم تتناول ذلك، واعتذروا عن حديث جابر وعلي بالمقال الذي فيهما، وقد تعاضدت طرق حديث جابر فصلح للاحتجاج به على المطلوب، وقوي بحديث علي، ولكن حديث جابر قد دل على الجمع بين الغسل والمسح والتيمم. باب الجنب يتيمم لخوف البرد عن عمرو بن العاص: أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروا ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقلت: ذكرت قول الله تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) * (النساء: 29) فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل شيئا رواه أحمد وأبو داود والدارقطني. الحديث أخرجه البخاري تعليقا وابن حبان والحاكم، واختلف فيه على عبد الرحمن ابن جبير فقيل عنه عن أبي قيس عن عمرو. وقيل عنه عن عمرو بلا واسطة، لكن الرواية التي فيها أبو قيس ليس فيها إلا أنه غسل مغابنه فقط. وقال أبو داود: روى هذه القصة الاوزاعي عن حسان بن عطية وفيه فتيمم. ورجح الحاكم إحدى الروايتين، وقال البيهقي: يحتمل أن يكون فعل ما في الروايتين جميعا فيكون قد غسل ما أمكنه وتيمم للباقي، وله شاهد من حديث أبو عباس، ومن حديث أبي أمامة عند الطبراني. قوله: ذات السلاسل هي موضع وراء وادي القرى، وكانت هذه الغزوة في جمادى الاولى سنة ثمان من الهجرة. قوله: فأشفقت أي خفت وجذرت. قوله: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل شيئا فيه دليلان على جواز التيمم عند شدة البرد ومخافة الهلاك: الاول التبسم والاستبشار. والثاني عدم الانكار لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقر على باطل، والتبسم والاستبشار أقوى دلالة من السكوت على
[ 325 ]
الجواز، فإن الاستبشار دلالته على الجواز بطريق الاولى: وقد استدل بهذا الحديث الثوري ومالك وأبو حنيفة وابن المنذر، على أن من تيمم لشدة البرد وصلى لا تجب عليه الاعادة لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بالاعادة، ولو كانت واجبة لامره بها، ولانه أتى بما أمر به وقدر عليه فأشبه سائر من يصلي بالتيمم. قال ابن رسلان لا يتيمم لشدة البرد من أمكنه أن يسخن الماء أو يستعمله على وجه يأمن الضرر، مثل أن يغسل عضوا ويستره، وكلما غسل عضوا ستره ودفاه من البرد لزمه ذلك، وإن لم يقدر تيمم وصلى في قول أكثر العلماء. وقال الحسن وعطاء: يغتسل وإن مات ولم يجعلا له عذرا. ومقتضى قول ابن مسعود لو رخصنا لهم لاوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا أنه لا يتيمم لشدة البرد. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث ما لفظه فيه من العلم إثبات التيمم لخوف وسقوط الفرض به وصحة اقتداء المتوضئ بالمتيمم، وأن التيمم لا يرفع الحدث، وأن التمسك بالعمومات حجة صحيحة انتهى. وقوله: وإن التيمم لا يرفع الحدث لعله مستفاد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: صليت بأصحابك وأنت جنب. باب الرخصة في الجماع لعادم الماء عن أبي ذر قال: اجتويت المدينة فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وآله
[ 326 ]
وسلم بإبل فكنت فيها، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: هلك أبو ذر، قال: ما أهلكك؟ قال: كنت أتعرض للجنابة وليس قربي ماء، فقال: إن الصعيد طهور لمن لم يجد الماء عشر سنين رواه أحمد وأبو داود والاثرم وهذا لفظه. الحديث أخرجه النسائي وابن ماجه أيضا، وقد اختلف فيه على أبي قلابة الذي رواه عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر، ورواه ابن حبان والحاكم والدارقطني وصححه أبو حاتم وعمرو بن بجدان قد وثقه العجلي. قال الحافظ: وغفل ابن القطان فقال: إنه مجهول. وفي الباب عن أبي هريرة عند البزار والطبراني قال الدارقطني في العلل: وإرساله أصح. قوله: اجتويت المدينة بالجيم أي استوخمتها ولم توافق طبعي وهو افتعلت من الجوى وهو المرض. والحديث يدل على جواز التيمم للجنب، وقد تقدم الكلام عليه أول الباب. ويدل على أن الصعيد طهور يجوز لمن تطهر به أن يفعل ما يفعله المتطهر بالماء من صلاة وقراءة ودخول مسجد ومس مصحف وجماع وغير ذلك، وأن الاكتفاء بالتيمم ليس بمقدر بوقت محدود بل يجوز وإن تطاول العهد بالماء، وذكر العشر سنين لا يدل على عدم جواز الاكتفاء بالماء بعدها، لان ذكرها لم يرد به التقييد بل المبالغة، لان الغالب عدم فقدان الماء وكثرة وجدانه لشدة الحاجة إليه، فعدم وجدانه إنما يكون يوما أو بعض يوم. باب اشتراط دخول الوقت للتيمم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جعلت لي الارض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت. وعن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: جعلت الارض كلها لي ولامتي مسجدا وطهورا، فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره رواهما أحمد. الحديث الاول أصله في الصحيحين، والحديث الثاني إسناده في مسند أحمد، هكذا حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان يعني التيمي عن سيار عن أبي أمامة وذكره وإسناده ثقات الاسيارا الاموي وهو صدوق. وفي الباب عن علي عند البزار، وعن أبي هريرة
[ 327 ]
عند مسلم والترمذي، وعن جابر عند الشيخين والنسائي، وعن ابن عباس عند أحمد وعن حذيفة عند مسلم والنسائي. وعن أنس أشار إليه الترمذي ورواه السراج في مسنده بإسناد قال العراقي: صحيح، ورواه الخطابي في معالم السنن وسيأتي في الصلاة، وعن أبي أمامة عند أحمد والترمذي في كتاب السير وقال: حسن صحيح ولكنه لم يذكر فيه المقصود، وعن أبي ذر عند أبي داود، وعن أبي موسى عند أحمد والطبراني بإسناد جيد، وعن ابن عمر عند البزار والطبراني وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل وهو ضعيف، وعن السائب بن يزيد عند الطبراني، وعن أبي سعيد عند الطبراني أيضا. قوله: جعلت لي الارض مسجدا أي موضع سجود لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازا عن المكان المبني للصلاة، قال الحافظ: وهو من مجاز التشبيه لانه لما جاوزت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك قال الداودي وابن التين: والمراد أن الارض جعلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجد أو طهورا وجعلت لغيره مسجدا ولم تجعل له طهورا لان عيسى كان يسيح في الارض ويصلي حيث أدركته الصلاة، وقيل: إنما أبيح لهم موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الامة فإنه أبيح لهم التطهر والصلاة إلا فيما تيقنوا نجاسته، والاظهر ما قاله الخطابي وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع. قال الحافظ في الفتح: ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم وهذا نص في موضع النزاع فثبتت الخصوصية، ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس: وفيه: ولم يكن أحد من الانبياء يصلي حتى يبلغ محرابه. قوله: وطهورا بفتح الطاء أي مطهرة، وفيه دليل على أن التراب يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في الطهورية، قال الحافظ: وفيه نظر. وعلى أن التيمم جائز بجميع أجزاء الارض لعموم لفظ الارض لجميعها. وقد أكده بقوله كلها كما في الرواية الثانية واستدل القائل بتخصيص التراب بما عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعا بلفظ: وجعلت تربتها لنا طهورا وهذا خاص فينبغي أن يحمل عليه العام، وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره فلا يتم الاستدلال، ورد بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ التراب أخرجه ابن خزيمة وغيره. وفي حديث علي: وجعل التراب لي طهورا أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن. وأجيب أيضا عن ذلك الاستدلال بأن تعليق الحكم بالتربة مفهوم لقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الاصول، ولم يقل به إلا الدقاق،
[ 328 ]
فلا ينتهض لتخصيص المنطوق، ورد بأن الحديث سبق لاظهار التشريف، فلو كان جائزا بغير التراب لما اقتصر عليه، وأنت خبير بأنه لم يقتصر على التراب إلا في هذه الرواية، نعم الافتراق في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجدا دون الآخر، كما سيأتي في حديث مسلم يدل على الافتراق في الحكم، وأحسن من هذا أن قوله تعالى في آية المائدة منه يدل على أن المراد التراب، وذلك لان كلمة من للتبعيض، كما قال في الكشاف أنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسه من الدهن والتراب إلا معنى التبعيض، انتهى. فإن قلت: سلمنا التبعيض فما الدليل على أن ذلك البعض هو التراب؟ قلت: التنصيص عليه في الحديث المذكور. ومن الادلة الدالة على أن المراد خصوص التراب ما ورد في القرآن والسنة من ذكر الصعيد والامر بالتيمم منه وهو التراب، لكنه قال في القاموس: والصعيد التراب أو وجه الارض، وفي المصباح: الصعيد وجه الارض ترابا كان أو غيره. قال الزجاج: لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك. قال الازهري: ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله تعالى: * (صعيدا طيبا) * هو التراب. وفي كتاب فقه اللغة للثعالبي: الصعيد تراب وجه الارض ولم يذكر غيره. وفي المصباح أيضا ويقال الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التراب الذي على وجه الارض، وعلى وجه الارض، وعلى الطريق، ويؤيد حمل الصعيد على العموم تيممه صلى الله عليه وآله وسلم من الحائط فلا يتم الاستدلال. وقد ذهب إلى تخصيص التيمم بالتراب العترة والشافعي وأحمد وداود. وذهب مالك وأبو حنيفة وعطاء والاوزاعي والثوري إلى أنه يجزئ بالارض وما عليها وسيعقد المصنف لذلك بابا: قوله: أينما أدركتني الصلاة في الرواية الثانية: فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة وفي الصحيحين: فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وقد استدل به على عموم التيمم بأجزاء الارض لان قوله: فأينما أدركت رجلا. وأيما
[ 329 ]
رجل صيغة عموم فيدخل تحته من لم يجد ترابا ووجد غيره من أجزاء الارض. قال ابن دقيق العيد: ومن خصص التيمم بالتراب يحتاج إلى أن يقيم دليلا يخص به هذا العموم، أو يقول: دل الحديث على أنه يصلي وأنا أقول بذلك فيصلي على الحالة ويرد عليه حديث الباب فإنه بلفظ فعنده مسجده وعنده طهوره. وقد استدل المصنف بالحديث على اشتراط دخول الوقت للتيمم لتقييد الامر بالتيمم بإدراك الصلاة، وإدراكها لا يكون إلا بعد دخول الوقت قطعا. وقد ذهب إلى ذلك الاشتراط العترة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وداود واستدلوا بقوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) * (المائدة: 6) ولا قيام قبله والوضوء خصه الاجماع والسنة. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجزي قبل الوقت كالوضوء وهذا هو الظاهر، ولم يرد ما يدل على عدم الاجزاء، والمراد بقوله: * (إذا قمتم) * إذا أردتم القيام، وإرادة القيام تكون في الوقت وتكون قبله، فلم يدل دليل على اشتراط الوقت حتى يقال خصص الوضوء الاجماع. باب من وجد ما يكفي بعض طهارته يستعمله عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم متفق عليه. هذا الحديث أصل من الاصول العظيمة، وقاعدة من قواعد الدين النافعة، وقد شهد له صريح القرآن قال الله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (التغابن: 16) فلك الاستدلال بالحديث على العفو عن كل ما خرج عن الطاقة، وعلى وجوب الاتيان بما دخل تحت الاستطاعة من المأمور به وأنه ليس مجرد خروج بعضه عن الاستطاعة موجبا للعفو عن جميعه. وقد استدل به المصنف على وجوب استعمال الماء الذي يكفي لبعض الطهارة وهو كذلك، وقد خالف في ذلك زيد بن علي والناصر والحنفية فقالوا: يسقط استعمال الماء لان عدم بعض المبدل يبيح الانتقال إلى البدل.
[ 330 ]
باب تعين التراب للتيمم دون بقية الجامدات عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعطيت ما لم يعط أحد من الانبياء، نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الارض، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورا، وجعلت أمتي خير الامم رواه أحمد. الحديث أخرجه البيهقي في الدلائل. وأيضا في حديث جابر المتفق عليه. خمس: النصر بالرعب، وجعل الارض مسجدا وطهورا، وتحليل الغنائم، وإعطاء الشفاعة، وعموم البعثة وزاد أبو هريرة في حديثه الثابت عند مسلم خصلتين وهما: وأعطيت جوامع الكلم وختم بي النبيون فيحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال. ولمسلم من حديث حذيفة: فضلنا على الناس بثلاث، جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وذكر خصلة الارض، قال: وذكر خصلة أخرى وهذه الخصلة المبهمة بينها ابن خزيمة والنسائي وهي: وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الاصر فصارت الخصال تسعا، وفي حديث الباب زيادة: أعطيت مفاتيح الارض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الامم فصارت الخصال ثنتي عشرة خصلة وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: فضلت على الانبياء بست غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الامم، وأعطيت الكوثر، وأن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه وذكر اثنتين مما تقدم وله من حديث ابن عباس رفعه: فضلت على الانبياء بخصلتين كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه فأسلم، قال: ونسيت الاخرى فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة قال الحافظ في الفتح: ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع، وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب شرف المصطفى أن الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ستون خصلة. والحديث ساقه المصنف رحمه الله تعالى للاستدلال به على تعين التراب للتصريح في الحديث بذكر التراب، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب اشتراط دخول الوقت للتيمم. قوله: نصرت بالرعب مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب، لكن في مسيرة الشهر التي ورد التقييد بها في الصحيحين وفي أكثر منها بالاولى، وأما دونها فلا، ولكن ورد في رواية في البخاري: ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر وهي تشعر باختصاصه به مطلقا،
[ 331 ]
وإنما جعل الغاية شهرا لانه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه. قال الحافظ في الفتح، وهل هي حاصلة لامته من بعده فيه احتمال، وقد نقل ابن الملقن في شرح العمدة عن مسند أحمد بلفظ: والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرا. قوله: وأعطيت مفاتيح الارض هي ما سهل الله له ولامته من افتتاح البلاد الممتنعة والكفور المتعذرة. قوله: وجعلت أمتي خير الامم هو مثل ما نطق به القرآن قال الله تعالى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * (آل عمران: 110). وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الار ض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء رواه مسلم. قوله: بثلاث الثالثة مبهمة وقد بينها ابن خزيمة والنسائي وهي: وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة وقد تقدم التنبيه على ذلك. والحديث يدل على قصر التيمم على التراب للتصريح بالتراب فيه، وقد عرفت البحث في ذلك في باب اشتراط دخول الوقت. قوله: صفوفنا كصفوف الملائكة وهي أنهم يتمون المقدم تم الذي يليه من الصفوف ثم يراصون الصف كما ورد التصريح بذلك في سنن أبي داود وغيرها
[ 332 ]
باب صفة التيمم عن عمار بن ياسر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في التيمم: ضربة للوجه واليدين رواه أحمد وأبو داود. وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالتيمم للوجه والكفين رواه الترمذي وصححه. قال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وقد جمع البيهقي طرق حديث عمار فأبلغ. وقد روى الطبراني في الاوسط والكبير أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمار بن ياسر: يكفيك ضربة للوجه وضربة للكفين وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وهو ضعيف وإن كان حجة عند الشافعي. والحديث يدل على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وقد ذهب إلى ذلك عطاء ومكحول والاوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق والصادق والامامية. قال في الفتح: ونقله ابن المنذر عن جمهور العلماء واختاره وهو قول عامة أهل الحديث. وذهب الهادي والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب والامام يحيى والفقهاء إلى أن الواجب ضربتان: ضربة للوجه وأخرى لليدين. وذهب ابن المسيب وابن سيرين إلى أن الواجب ثلاث ضربات ضربة للوجه وضربة للكفين وضربة للذراعين. (احتج الاولون) بحديث الباب وبالرواية الاخرى الآتية المتفق عليها من حديث عمار، وأجابوا عن الاحاديث القاضية بالضربتين بما فيها من المقال المشهور (واحتج أهل القول الثاني) بحديث ابن عمر مرفوعا بلفظ: التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وفي إسناده علي بن ظبيان. قال الدارقطني: وثقة يحيى القطان وهشيم وغيرهما، قال الحافظ: هو ضعيف ضعفه القطان وابن معين وغير واحد. وقد روي أيضا من طريق ابن عمر مرفوعا بلفظ: تيممنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا ثم ضربنا ضربة أخرى فمسحنا من المرافق إلى الكف وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك. وروي أيضا عن ابن عمر مرفوعا من وجه آخر بلفظ حديث ابن ظبيان. قال أبو زرعة: حديث باطل. ورواه الدارقطني والحاكم من حديث جابر وفيه عثمان بن محمد وهو متكلم فيه قاله ابن الجوزي، قال الحافظ: وأخطأ في ذلك. قال ابن
[ 333 ]
دقيق العيد: لم يتكلفيه أحد نعم روايته شاذة، قال الدارقطني بعد رواية حديث جابر: كلهم ثقات والصواب موقوف. وفي الباب عن الاسلع بن شريك رواه الطبراني والدار قطني وفيه الربيع بن بدر وهو ضعيف. وعن أبي أمامة رواه الطبراني قال الحافظ: وإسناده ضعيف. وعن عائشة مرفوعا رواه البزار وابن عدي، وقد تفرد به الحريش بن الخريت ولا يحتج بحديثه، قال أبو حاتم: حديثه منكر. وعن عمار رواه البزار وقد عرفت أن أحاديثه الصحاح ضربة واحدة. وفي الباب أيضا عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: أنه صلى الله عليه وآله وسلم تيمم بضربتين مسح بإحداهما وجهه رواه أبو داود بسند ضعيف لان مداره على محمد بن ثابت، وقد ضعفه ابن معين وأبو حاتم والبخاري وأحمد. قال أبو داود: لم يتابع محمد بن ثابت أحد، وبهذا يتبين لك أن أحاديث الضربتين لا تخلو جميع طرقها من مقال، ولو صحت لكان الاخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة، فالحق الوقوف على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار من الاقتصار على ضربة واحدة حتى تصح الزيادة على ذلك المقادر. وأما أهل القول الثالث فلم أقف لهم على ما يصلح متمسكا للوجوب، بل قال الامام يحيى: إنه لا دليل يدل على ندبية التثليث في التيمم، وقوى ذلك الامام المهدي والامر كذلك. وعن عمار قال: أجنبت فلم أصب الماء فتمعكت في الصعيد وصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكفيه ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه متفق عليه. وفي لفظ: إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرصغين رواه الدارقطني. قوله: فتمعكت وفي رواية: فتمرغت أي تقلبت. قوله: إنما كان يكفيك فيه دليل على أن الواجب في التيمم هي الصفة المذكورة في هذا الحديث. قوله: وضرب بكفيه المذكور في هذا الحديث ضربة واحدة، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك في الحديث الذي قبل هذا. قوله: ثم مسح بهما وجهه وكفيه فيه دليل لمذهب من قال إنه يقتصر في مسح اليدين على الكفين، وإليه ذهب عطاء ومكحول والاوزاعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وعامة أصحاب الحديث، هكذا في شرح مسلم. وذهب علي بن أبي طالب عليه السلام وعبد الله بن عمر والحسن البصري والشعبي وسالم بن عبد الله بن عمر وسفيان الثوري ومالك وأبو حنيفة وأصحاب
[ 334 ]
الرأي وآخرون إلى أن الواجب المسح إلى المرفقين، رواه النووي في شرح مسلم. ورواه في البحر أيضا عن الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبي طالب والفريقين، وذهب الزهري إلى أنه يجب المسح إلى الابطين، قال الخطابي: لم يختلف أحد من العلماء في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين. (احتج الاولون) بحديث الباب. واحتج أهل القول الثاني بحديث ابن عمر مرفوعا بلفظ: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وقد تقدم عدم انتهاضه للاحتجاج من هذا الوجه ومن غيره واحتجوا بالقياس على الوضوء وهو فاسد الاعتبار. واحتج الزهري بما ورد في بعض روايات حديث عمار عند أبي داود بلفظ: إلى الآباط وأجيب بأنه منسوخ كما قال الشافعي. واحتج أيضا بأن ذلك حد اليد لغة، وأجيب بأنه قصرها الخبر، وإجماع الصحابة على بعض حدها لغة. قال الحافظ في الفتح: وما أحسن ما قال إن الاحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه، فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملا، وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط. فأما رواية المرفقين وكذا نصف الذراع ففيهما مقال. وأما رواية الآباط فقال الشافعي وغيره: إن كان ذلك وقع بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكل تيمم صح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده فهو ناسخ له، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به. ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار يفتي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولاسيما الصحابي المجتهد انتهى. فالحق مع أهل المذهب الاول حتى يقوم دليل يجب المصير إليه، ولا شك أن الاحاديث المشتملة على الزيادة أولى بالقبول ولكن إذا كانت صالحة
[ 335 ]
للاحتجاج بها. وليس في الباب شئ من ذلك. قوله: وفي لفظ هذه الرواية ثبت عند البخاري معناها ولفظه: وضرب بكفيه الارض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه. قوله: إلى الرصفين هما لغة في الرسغين وهما مفصل الكفين. قال المصنف بعد أن ساق الحديث: وفيه دليل على أن الترتيب في تيمم الجنب لا يجب، انتهى. باب من تيمم في أول الوقت وصلى ثم وجد الماء في الوقت عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجد الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرا ذلك له، فقال الذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك. وقال الذي توضأ وأعاد: لك الاجر مرتين رواه النسائي وأبو داود وهذا لفظه. وقد روياه أيضا عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. الحديث أخرجه أيضا الدارمي والحاكم، ورواه الدارقطني موصولا ثم قال: تفرد به عبد الله بن نافع عن الليث عن بكر بن سوادة عن عطاء عنه موصولا، وخالفه ابن المبارك فأرسله، وكذا قال الطبراني في الاوسط: ليروه متصلا إلا عبد الله بن نافع. وقال موسى بن هارون: رفعه وهم من ابن نافع وقا أبو داود: رواه غيره عن الليث عن عميرة عن بكر عن عطاء مرسلا، قال: وذكر أبي سعيد فيه ليس بمحفوظ، وقد رواه ابن السكن في صحيحه موصولا من طريق أبي الوليد الطيالسي عن الليث عن عمرو بن الحرث وعميرة بن أبي ناجية جميعا عن بكر موصولا، رواه ابن لهيعة عن بكر فزاد بين عطاء وأبي سعيد أبا عبد الله مولى إسماعيل بن عبيد الله وابن لهيعة ضعيف ولا يلتفت إلى زيادته ولا تعل بها رواية الثقة عمرو بن الحرث ومعه عميرة بن أبي ناجية، وقد وثقه النسائي ويحيى بن بكير وابن حبان، وأثنى عليه أحمد بن صالح وابن يونس وأحمد بن سعيد بن أبي مريم، وله شاهد من حديث ابن عباس رواه إسحاق بن راهويه في مسنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بال ثم تيمم، فقيل له: إن الماء قريب منك، قال: فلعلي أن لا أبلغه. والحديث يدل على أن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة لا يجب عليه الاعادة، وإليه ذهب
[ 336 ]
أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد والامام يحيى، وقال الهادي والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب وطاوس وعطاء والقاسم بن محمد بن أبي بكر ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة، كما حكاه المنذري وغيره أنها تجب الاعادة مع بقاء الوقت لتوجه الخطاب مع بقائه لقوله تعالى: * (أقم الصلاة) * (هود: 114) مع قوله: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * (المائدة: 6) فشرط في صحتها الوضوء وقد أمكن في وقتها. ولقوله: فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته الحديث ورد بأنه لا يتوجه الطلب بعد قوله: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وإطلاق قوله: فإذا وجد الماء مقيد بحديث الباب، ويؤيد القول بعدم وجوب الاعادة حديث: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان وصححه ابن السكن، ويجاب عنه بأنهما عند القائل بوجوب الاعادة صلاة واحدة، لان الاول قد فسد بوجود الماء فلا يرد ذلك عليه. وما قيل من تأويل الحديث بأنهما وجدا بعد الوقت فتعسف يخالف ما صرح به الحديث من أنهما وجدا ذلك في الوقت. وأما إذا وجد الماء قبل الصلاة بعد التيمم وجب الوضوء عند العترة والفقهاء، وقال داود وسلمة بن عبد الرحمن: لا يجب لقوله تعالى: * (ولا تبطلوا أعمالكم) * (محمد: 33) وأما إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها فإنه يجب عليه الخروج من الصلاة وإعادتها بالوضوء عند الهادي والناصر والمؤيد بالله وأبي طالب وأبي حنيفة والاوزاعي والثوري والمزني وابن شريح. وقال مالك وداود: لا يجب عليه الخروج بل يحرم والصلاة صحيحة، وسيأتي الكلام عليه. قوله: أصبت السنة أي الشريعة الواجبة. قوله: وأجزأتك صلاتك أي كفتك عن القضاء، والاجزاء عبارة عن كون الفعل مسقطا للاعادة. باب بطلان التيمم بوجدان الماء في الصلاة وغيرها عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الصعيد
[ 337 ]
الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير رواه أحمد والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا النسائي وأبو داود وابن ماجه، وقد اختلف فيه على أبي قلابة، وقد تقدم الكلام عليه في باب الرخصة في الجماع لعادم الماء. والمصنف رحمه الله قد استدل بقوله: فإذا وجد الماء فليمسه بشرته على وجوب الاعادة على من وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة وهو استدلال صحيح، لان هذا الحديث مطلق فيمن وجده بعد الوقت، ومن وجده قبل خروجه وحال الصلاة وبعدها. وحديث أبي سعيد السابق مقيد بمن وجد الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة، فتخرج هذه الصورة بحديث أبي سعيد، وتبقى صورة وجود الماء قبل الدخول في الصلاة بعد فعل التيمم، وبعد الدخول في الصلاة قبل الفراغ منها داخلتين تحت إطلاق الحديث. وفي كلا الصورتين خلاف قد ذكرناه في الباب الذي قبل هذا ولكنه يشكل على الاستدلال بهذا الحديث. قوله: فإن ذلك خير فإنه يدل على عدم الوجوب المدعي. باب الصلاة بغير ماء ولا تراب عند الضرورة عن عائشة رضي الله عنها: أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجالا في طلبها فوجدوها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكوا ذلك إليه فأنزل الله عزوجل آية التيمم رواه الجماعة إلا الترمذي. قوله: إنها استعارت وفي بعض الروايات أنها قالت: انقطع عقد لي ولا مخالفة بينهما فهو حقيقة ملك لاسماء، وإضافته في الرواية الثانية إلى نفسها لكونه في يدها. قوله: فصلوا بغير وضوء استدل بذلك جماعة من المحققين منهم المصنف على وجوب الصلاة عند عدم المطهرين الماء والتراب، وليس في الحديث أنهم فقدوا التراب وإنما فيه أنهم فقدوا الماء فقط، ولكن عدم الماء وفي ذلك الوقت كعدم الماء والتراب لانه لا مطهر سواء. ووجه الاستدلال به أنهم صلوا معتقدين وجوب ذلك، ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لانكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا قال الشافعي وأحمد وجمهور
[ 338 ]
المحدثين وأكثر أصحاب مالك، لكن اختلفوا في وجوب الاعادة، فالمنصوص عن الشافعي وجوبها، وصححه أكثر أصحابه واحتجوا بأنه عذر نادر فلم يسقط الاعادة، والمشهور عن أحمد وبه قال المزني وسحنون وابن المنذر لا تجب، واحتجوا بحديث الباب لانها لو كانت واجبة لبينها لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وتعقب بأن الاعادة لا تجب على الفور فلم يتأخر البيان عن وقت الحاجة، وعلى هذا فلا بد من دليل على وجوب الاعادة. وقال مالك وأبو حنيفة في المشهور عنهما: لا يصلي، لكن قال أبو حنيفة وأصحابه: يجب عليه القضاء، وبه قال الثوري والاوزاعي، وقال مالك فيما حكاه عنه المدنيون: لا يجب عليه القضاء، وهذه الاقوال الاربعة هي المشهورة في المسألة. وحكى النووي في شرح المهذب عن القديم: تستحب الصلاة وتجب الاعادة، وبهذا تصير الاقوال خمسة، قاله الحافظ في الفتح. [ رم ] أبواب الحيض قال في الفتح: أصله السيلان، وفي العرف جريان دم المرأة. قال في القاموس: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا فهي حائض وحائضة سال دمها، والمحيض اسم ومصدر ومنه الحوض لان الماء يسيل إليه. [ رم ] باب بناء المعتادة إذا استحيضت على عادتها عن عائشة قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي رواه البخاري والنسائي وأبو داود. وفي رواية للجماعة إلا ابن ماجه: فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي زاد الترمذي في رواية وقال: توضئي لكل صلاة حتى يجئ ذلك الوقت
[ 339 ]
وفي رواية للبخاري: ولكن دعي الصلاة قدر الايام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي. الحديث قد أسلفنا بعض الكلام عليه في باب الغسل من الحيض، وعرفانك هنالك أن فيه دلالة على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت منه، ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث فتتوضأ لكل صلاة لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة، كما سيأتي في باب وضوء المستحاضة لكل صلاة، وقد بينا في باب غسل المستحاضة لكل صلاة عدم انتهاض الاحاديث الواردة بوجوب الغسل عليه لكل صلاة أو للصلاتين، أو من ظهر إلى ظهر، وعرفناك أن الحق أنه لا يجب عليها الاغتسال إلا عند إدبار الحيضة لهذا الحديث، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك هنالك. والحاصل أنه لم يأت في شئ من الاحاديث الصحيحة ما يقضي بوجوب الاغتسال عليها لكل صلاة أو لكل يوم أو للصلاتين، بل لادبار الحيضة كما حديث فاطمة المذكور فلا يجب على المرأة غيره، وقد أوضحنا هذا في باب غسل المستحاضة. وأحكام المستحاضة مستوفاة في كتب الفروع والاحاديث الصحيحة، منها ما يقضي بأن الواجب عليها الرجوع إلى الغسل بصفة الدم كما في حديث فاطمة بنت أبي حبيش الآتي في الباب الذي بعد هذا. ومنها ما يقضي باعتبار العادة كما في أحاديث الباب، ويمكن الجمع بأن المراد بقوله: أقبلت حيضتك الحيضة التي تتميز بصفة الدم، أو يكون المراد بقوله: إذا أقبلت الحيضة في حق المعتادة والتمييز بصفة الدم في حق غيرها، وينبغي أن يعلم أن معرفة إقبال الحيضة قد يكون بمعرفة العادة، وقد يكون بمعرفة دم الحيض، وقد يكون بمجموع الامرين. وفي حديث حمنة بنت جحش بلفظ: فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام وهو يدل على أنها ترجع إلى الحالة الغالبة في النساء وهو غير صالح للاحتجاج، كما ستعرف ذلك في باب من قال تحيض ستا أو سبعا، ولو كان صالحا لكان الجمع ممكنا كما سيأتي. وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطرابا يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي في البيان والنقص في الاديان وبالغوا في التعسير حتى جاؤوا بمسألة المتحيرة فتحيروا. والاحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها، لان حديث الباب ظاهر في معرفتها إقبال الحيضة وإدبارها،
[ 340 ]
وكذلك الحديث الآتي في الباب الذي بعد هذا فإنه صريح في أن دم الحيض يعرف ويتميز عن دم الاستحاضة، فطاحت مسألة المتحيرة ولله الحمد، ولم يبق ههنا ما يستصعب إلا ورود بعض الاحاديث الصحيحة بالاحالة على صفة الدم وبعضها بالاحالة على العادة، وقد عرفت إمكان الجمع بينها بما سلف. قوله: قال توضئي لكل صلاة سيأتي الكلام عليه في باب وضوء المستحاضة. قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الحديث: وفيه تنبيه على أنها إنما تبني على عادة متكررة، انتهى. وعن عائشة: أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدم فقال لها: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي، فكانت تغتسل عند كل صلاة رواه مسلم. ورواه أحمد والنسائي ولفظهما: قال: فلتنتظر قدر قروئها التي كانت تحيض فلتترك الصلاة، ثم لتنظر ما بعد ذلك فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي. قوله: ثم اغتسلي قال الشافعي وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وغيرهم: إنما أمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها بالاغتسال لكل صلاة. قال الشافعي: ولا أشك أن غسلها كان تطوعا غير ما أمرت به، وقد قدمنا الكلام على هذا في باب غسل المستحاضة. والرواية الاولى من الحديث قد أخرج نحوها البخاري وأبو داود بزيادة: وتوضئي لكل صلاة والحديث يدل على أن المستحاضة ترجع إلى عادتها إذا كانت لها عادة وتغتسل عند مضيها. وقد تقدم الكلام على ذلك. وقوله في الرواية الاخرى: فلتغتسل عند كل صلاة استدل به القائلون بوجوب الغسل لكل صلاة، وقد تقدم الكلام على ذلك أيضا. وعن القاسم عن زينب بنت جحش: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها مستحاضة، فقال: تجلس أيام أقرائها ثم تغتسل وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل وتصلي وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل وتصليهما جميعا وتغتسل للفجر رواه النسائي. الحديث إسناده في سنن النسائي هكذا أخبرنا سويد بن نصر قال: أخبرنا عبد الله عن سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه فذكره ورجاله ثقات. قال النووي: أحاديث الامر بالغسل ليس فيها شئ ثابت، وحكي عن البيهقي ومن قبله تضعيفها. وأقواها حديث
[ 341 ]
حمنة بنت جحش الذي سيأتي وستعرف ما عليه. والحديث استدل به من قال: يجب الاغتسال على المستحاضة لكل صلاة أو تجمع بين الصلاتين بغسل واحد وقد تقدم الكلام على ذلك في الغسل. وعن أم سلمة: أنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امرأة تهراق الدم فقال: لتنظر قدر الليالي والايام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتستثفر ثم تصلي رواه الخمسة إلا الترمذي. الحديث أخرجه أيضا الشافعي. قال النووي: إسناده على شرطيهما. وقال البيهقي: هو حديث مشهور إلا أن سليمان بن يسار لم يسمعه منها، وفي رواية لابي داود عن سليمان أن رجلا أخبره عن أم سلمة. وقال المنذري: لم يسمعه سليمان. وقد رواه موسى بن عقبة عن نافع عن سليمان عن مرجانة عنها، وساقه الدارقطني وابن الجارود بتمامه من حديث صخر بن جويرية عن نافع عن سليمان أنه حدثه رجل عنها. قوله: تهراق على صيغة ما لم يسم فاعله وفتح الهاء. قوله: ولتستثفر الاستثفار إدخال الازار بين الفخذين ملويا كما في القاموس وغيره. والحديث يدل على أن المستحاضة ترجع إلى عادتها المعروفة قبل الاستحاضة. ويدل على أن الاغتسال إنما هو مرة واحدة عند إدبار الحيضة وقد تقدم الكلام على ذلك. ويدل على استحباب اتخاذ الثفر ليمنع من خروج الدم حال الصلاة، وقد ورد الامر بالاستثفار في حديث حمنة بنت جحش أيضا كما سيأتي إن شاء الله. وقوله: لتستثفر بسكون التاء المثلثة بعدها فاء مكسورة أي تشد ثوبا على فرجها مأخوذا من ثفر الدابة بفتح الفاء وهو الذي يكون تحت ذنبها. باب العمل بالتمييز عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان دم الحيضة فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك فامسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق. رواه أبو داود والنسائي. الحديث رواه ابن حبان والحاكم وصححاه. وأخرجه الدار قطني والبيهقي والحاكم
[ 342 ]
أيضا بزيادة: فإنما هو داء عرض أو ركضة من الشيطان أو عرق انقطع وهذا يرد إنكار ابن الصلاح والنووي وابن الرفعة لزيادة انقطع. وقد استنكر هذا الحديث أبو حاتم لانه من رواية عدي بن ثابت عن أبيه عن جده وجده لا يعرف، وقد ضعف الحديث أبو داود. قوله: فإنه أسود يعرف قال ابن رسلان في شرح السنن: أي تعرفه النساء. قال شارح المصابيح: هذا دليل التمييز انتهى. وهذا يفيد أن الرواية يعرف بضم حرف المضارعة وسكون العين المهملة وفتح الراء. وقد روي بكسر الراء أي له رائحة تعرفها النساء. قوله: عرق بكسر العين وإسكان الراء أي إن هذا الدم الذي يجري منك من عرق فمه في أدنى الرحم، ويسمى العاذل بكسر الذال المعجمة. والحديث فيه دلالة على أنه يعتبر التمييز بصفة الدم، فإذا كان متصفا بصفة السواد فهو حيض وإلا فهو استحاضة. وقد قال بذلك الشافعي والناصر في حق المبتدأة، وفيه دلالة أيضا على وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. باب من تحيض ستا أو سبعا لفقد العادة والتمييز عن حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة شديدة كثيرة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش، قالت قلت: يا رسول الله إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام؟ فقال: انعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فاتخذي ثوبا، قالت: هو أكثر من ذلك، قال: فتلجمي، قالت: إنما أثج ثجا فقال: سآمرك بأمرين أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم، فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها فصومي فإن ذلك مجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر وتصلين فكذلك فافعلي وصلي وصومي
[ 343 ]
إن قدرت على ذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وهذا أعجب الامرين إلي رواه أبو داود وأحمد والترمذي وصححاه. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه والدراقطني والحاكم، ونقل الترمذي عن البخاري تحسينه، وفي إسناده ابن عقيل، قال البيهقي: تفرد به وهو مختلف في الاحتجاج به. وقال ابن منده: لا يصح بوجه من الوجوه لانهم أجمعوا على ترك حديث ابن عقيل، وتعقبه ابن دقيق العيد واستنكر منه هذا الاطلاق، لان ابن عقيل لم يقع الاجماع على ترك حديثه، فقد كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون به، وقد حمل على أن مراد ابن منده بالاجماع إجماع من خرج الصحيح وهو كذلك. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فوهنه ولم يقو إسناده. وقال الترمذي في كتاب العلل: انه سأل البخاري عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن الا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم لا أدري سمع منه ابن عقيل أم لا. وهذه على للحديث أخرى، ويجاب على البخاري بأن إبراهيم بن محمد بن طلحة مات سنة عشر ومائة فيما قاله أبو عبيد القاسم بن سلام وعلى بن المديني وخليفة بن خياط وهو تابعي سمع عبد الله بن عمرو بن العاص وأبا هريرة وعائشة وابن عقيل، سمع عبد الله بن عمر جابر بن عبد الله وأنس بن مالك والربيع بنت معوذ، فكيف ينكر سماعه من إبراهيم بن محمد بن طلحة لقدمه؟ وأين ابن طلحة من هؤلاء في القدم وهم نظراء شيوخه في الصحبة وقريب منهم في الطبقة؟ فينظر في صحة هذا عن البخاري. وقال الخطابي: قد ترك العلماء القول بهذا الحديث، وأما ابن حزم فإنه رد هذا الحديث بأنواع من الرد، ولم يعلله بابن عقيل بل علله بالانقطاع بين ابن جريج وابن عقيل، وزعم أن ابن جريج لم يسمعه من ابن عقيل وبينهما النعمان بن راشد قال: وهو ضعيف. ورواه أيضا عن ابن عقيل شريك وزهير بن محمد وكلاهما ضعيف. وقال أيضا عمر بن طلحة الذي رواه إبراهيم بن محمد بن طلحة عنه غير مخلوق لا يعرف لطلحة ابن اسمه عمر. وقد رد ابن سيد الناس ما قاله قال: أما الانقطاع بين ابن جريج وابن عقيل فقد روي من طريق زهير بن محمد عن ابن عقيل، وأما تضعيفه لزهير هذا فقد أخرج له الشيخان محتجين به في صحيحيهما. وقال أحمد: مستقيم الحديث. وقال أبو حاتم: محله الصدق وفي حفظه شئ وحديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق. وقال البخاري في تاريخه الصغير: ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير، وما روى عنه أهل
[ 344 ]
البصرة فإنه صحيح. وقال عثمان الدارمي: ثقة صدوق وله أغاليط. وقال يحيى: ثقة. وقال ابن عدي: وأهل الشام حيث رووا عنه أخطؤوا عليه، وأما حديثه ههنا فمن رواية أبي عامر العقدي عنه وهو بصري فهذا من حديث أهل العراق. وأما عمر بن طلحة الذي ذكره فلم يسق الحديث من طريقه بل من طريق عمران بن طلحة، وقد نبه الترمذي على أنه لم يقل عمر في هذا الاسناد أحد من الرواة إلا ابن جريج، وأن غيره يقول عمران وهو الصواب. وأما شريك الذي ضعفه أيضا فرواه ابن ماجه عن ابن عقيل من طريقه، وشريك مخرج له في الصحيح. ومن جملة علل الحديث ما لقلة أبو داود عن أحمد أنه قال: إن في الباب حديثين وثالثا في النفس منه شئ، ثم فسر أبو داود الثالث بأنه حديث حمنة، ويجاب عن ذلك بأن الترمذي قد نقل عن أحمد تصحيحه نصا، وهو أولى مما ذكره أبو داود، لانه لم ينقل التعيين عن أحمد وإنما هو شئ وقع له ففسر به كلام أحمد، وعلى فرض أنه من كلام أحمد فيمكن أن يكون قد كان في نفسه من الحديث شئ ثم ظهرت له صحته. قوله: أنعت لك الكرسف أي أصف لك القطن. قوله: فتلجمي قال في الصحاح والقاموس: اللجام ما تشد به الحائض. قال الخليل: معناه افعلي فعلا يمنع سيلان الدم واسترساله، كما يمنع اللجام استرسال الدابة وأما الاستثفار فهو أن تشد فرجها بخرقة عريضة توثق طرفيها في حقب تشده في وسطها بعد أن تحتشي كرسفا فيمنع ذلك الدم. وقولها: إنما أثج ثجا الثج السيلان، وقد استعمل في الحلب في الاناء، يقال: حلب فيه ثجا، واستعمل مجازا في الكلام، يقال للمتكلم: مثجاج بكسر الميم. قوله: ركضة من ركضات الشيطان أصل الركض الضرب بالرجل والاصابة بها، وكأنه أراد الاضرار بالمرأة والاذى بمعنى أن الشيطان وجد بذلك سبيلا إلى التلبيس عليها في أمر دينها وطهرها وصلاتها حتى أنساها بذلك عادتها، فصار في التقدير كأنه ركض بآلة. قوله: فتحيضي بفتح التاء الفوقية والحاء المهملة والياء المشددة أي اجعلي نفسك حائضا. والحديث استدل به من قال إنها ترجع المستحاضة إلى الغالب من عادة النساء، ولكنه كما عرفت مداره على ابن عقيل وليس بحجة، ولو كان حجة لامكن الجمع بينه وبين الاحاديث القاضية بالرجوع إلى عادة نفسها، والقاضية بالرجوع إلى التمييز بصفات الدم، وذلك بأن يحمل هذا الحديث على عدم معرفتها لعادتها وعدم إمكان التمييز بصفات الدم. واستدل به أيضا من قال إنها تجمع
[ 345 ]
بين الصلاتين بغسل واحد، وإليه ذهب ابن عباس وعطاء والنخعي، روى ذلك عنهم ابن سيد الناس في شرح الترمذي. قال ابن العربي: والحديث في ذلك صحيح فينبغي أن يكون مستحبا انتهى، وعلى فرض صحة الحديث فهذا جمع حسن، لانه صلى الله عليه وآله وسلم علق الغسل بقوتها فيكون ذلك قرينة دالة على عدم الوجوب. وكذا قوله في الحديث: أيهما فعلت أجزأ عنك. قال المصنف رحمه الله فيه أن الغسل لكل صلاة لا يجب بل يجزئها الغسل لحيضها الذي تجلسه، وأن الجمع للمرض جائز، وأن جمع الفريضتين لها بطهارة واحدة جائز، وأن تعيين العدد من الستة والسبعة باجتهادها لا بتشبيهها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: حتى إذا رأيت أن قد طهرت واستنقيت انتهى. باب الصفرة والكدرة بعد العادة عن أم عطية قالت: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا رواه أبو داود والبخاري ولم يذكر بعد الطهر. الحديث أخرجه أيضا الحاكم، وأخرجه الاسماعيلي في مستخرجه بلفظ: كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئا يعني في الحيض. وللدارمي بعد الغسل. قال الحافظ: ووقع في النهاية والوسيط زيادة في هذا وراء العادة هي زيادة باطلة. وأما ما روي من حديث عائشة بلفظ: كنا نعد الصفرة والكدرة حيضا فقال النووي في شرح المهذب: لا أعلم من رواه بهذا اللفظ: والحديث يدل على أن الصفرة والكدرة بعد الطهر ليستأمن الحيض، وأما في وقت الحيض فهما حيض، وقد نسب القول بذلك في البحر إلى زيد بن علي والهادي والمؤيد بالله وأبي طالب وأبي حنيفة ومحمد ومالك والليث والعنبري. وفي رواية عن القاسم وعن الناصر وعن الشافعي قال في البحر مستدلا لهم إذ هو أذى. ولقوله تعالى: * (حتى يطهرن) * (البقرة: 222) ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم لحمنة: إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي وفي رواية عن القاسم ليس حيضا إذا توسطه الاسود الحديث: إذا رأيت الدم الاسود فامسكي عن الصلاة حتى إذا كان الصفرة فتوضئي وصلي ولحديث الباب، وعورضا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة: لا تصلي حتى تري القصة البيضاء. وقولها: كنا نعد الكدرة والصفرة في أيام الحيض حيضا ولكونهما أذى خرج من الرحم فأشبه الدم. وفي رواية عن
[ 346 ]
الناصر والشافعي وهو مروي عن أبي يوسف أنهما حيض بعد الدم لانهما من آثاره لا قبله، ورد بأن الفرق تحكم، وفي رواية عن الشافعي: إن رأتهما في العادة فحيض وإلا فلا، هذا حاصل ما في البحر، وحديث الباب إن كان له حكم الرفع كما قال البخاري وغيره من أئمة الحديث أن المراد كنا في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم مع علمه فيكون تقريرا منه، ويدل بمنطوقه أنه لا حكم للكدرة والصفرة بعد الطهر، وبمفهومه أنهما وقت الحيض حيض كما ذهب إليه الجمهور. وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في المرأة التي ما يريبها بعد الطهر: إنما هو عرق، أو قال: عروق رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. الحديث إسناده في سنن ابن ماجه، هكذا حدثنا محمد بن يحيى عن عبيد الله بن موسى عن شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أم بكر عن عائشة، وأم بكر لا يعرف حالها، وبقية الاسناد ثقات، والحديث حسنه المنذري وهو من الادلة الدالة على عدم الاعتبار بما ترى المرأة بعد الطهر وقد تقدم الخلاف فيه. قوله: يريبها بفتح الياء أي تشك فيه هل هو حيض أم لا يقال: رابني الشئ يريبني إذا شككت فيه. [ رم ] باب وضوء المستحاضة لكل صلاة عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم وتصلي رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن. الحديث لم يحسنه الترمذي كما ذكره المصنف بل سكت عنه. قال ابن سيد الناس في شرحه: وسكت الترمذي عن هذا الحديث فلم يحكم بشئ، وليس من باب الصحيح ولا ينبغي أن يكون من باب الحسن لضعف راويه عن عدي بن ثابت وهو أبو اليقظان واسمه عثمان بن عمير بن قيس الكوفي، وهو الذي يقال له عثمان بن أبي حميد، وعثمان ابن أبي زرعة، وعثمان أبو اليقظان، وأعشى ثقيف كله واحد. قال يحيى بن معين: ليس حديثه بشئ. وقال أبو حاتم: ترك ابن مهدي حديثه. وقال أبو حاتم أيضا إنه ضعيف
[ 347 ]
الحديث منكر الحديث كان شعبة لا يرضاه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم ولم يرضه يحيى بن سعيد. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: اختلط حتى لا يدري ما يقول لا يجوز الاحتجاج به. قال الترمذي: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقلت عدي بن ثابت عن أبيه عن جده جد عدي بن ثابت ما اسمه؟ فلم يعرف محمد اسمه، وذكرت لمحمد قول يحيى بن معين أن اسمه دينار فلم يعبأ به، وقال الدمياطي في عدي المذكور: وهو عدي بن أبان بن ثابت بن قيس بن الحطيم الانصاري، ووهم من قال اسم جده دينار، وعدي هذا من الثقات المخرج لهم في الصحيح وثقه أحمد بن حنبل. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو داود وفي سننه: حديث عدي بن ثابت والاعمش عن حبيب وأيوب وأبي العلاء كلها لا يصح منها شئ، وذكر في آخر الباب الاشارة إلى صحة حديث قمير عن عائشة ومداره على أيوب بن مسكين وفيه خلاف، وقد اضطرب أيضا فرواه عن ابن شبرمة عنها مرفوعا، وعن حجاج عنها موقوفا. وكذلك رواه الثوري عن فراس عن الشعبي عن قمير موقوفا، ذكره المزي في الاطراف والحديث يدل على أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة وقد تقدم الكلام على ذلك. ويدل أيضا أنها تتوضأ عند كل صلاة. وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وحكى عن عروة بن الزبير وسفيان الثوري وأحمد وأبي ثور، واستدلوا بحديث الباب وبالحديث الذي سيأتي بعده. بما ثبت في رواية للبخاري بلفظ: وتوضأ لكل صلاة وغير ذلك. وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أن طهارتها مقدرة بالوقت، فلها أن تجمع بين فريضتين وما شاءت من النوافل بوضوء واحد. واستدل لهم في البحر بحديث فاطمة بنت أبي حبيش وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: وتوضئي لوقت كل صلاة وستعرف قريبا أن الرواية لكل صلاة لا لوقت كل صلاة كما زعمه (فإن قيل) إن الكلام على حذف مضاف والمراد لوقت كل صلاة، فيجاب بما قاله في الفتح من أنه مجاز يحتاج إلى دليل، فالحق أنه يجب عليها الوضوء لكل صلاة، لكن لا بهذا الحديث بل بحديث فاطمة الآتي، وبما في حديث أسماء بلفظ: وتتوضأ فيما بين ذلك وقد تقدم. وبما ثبت في رواية البخاري من حديث عائشة وقد تقدم وسيأتي. وعن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال لها:
[ 348 ]
لا اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة ثم صلي وإن قطر الدم على الحصير. رواه أحمد وابن ماجه. الحديث أخرجه أيضا الترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان، ورواه مسلم في الصحيح بدون قوله: وتوضئي لكل صلاة. وقال في آخره: حرف تركنا ذكره، قال البيهقي وهو قوله: وتوضئي وتركها لانها زيادة غير محفوظة، وقد روى هذه الزيادة من تقدم. وكذا رواها الدارمي والطحاوي وأخرجها أيضا البخاري، وقد أعل الحديث بأن حبيبا لم يسمع من عروة بن الزبير وإنما سمع من عروة المزني، فإن كان عروة المذكور في الاسناد عروة بن الزبير كما صرح بذلك ابن ماجه وغيره فالاسناد منقطع لان حبيب بن أبي ثابت مدلس، وإن كان عروة هو المزني فهو مجهول. وفي الباب عن جابر رواه أبو يعلى بإسناد ضعيف والبيهقي. وعن سودة بنت زمعة رواه الطبراني. والحديث يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة وقد تقدم الكلام فيه. ويدل على أن الغسل لا يجب إلا مرة واحدة عند انقضاء الحيض. وكذلك الحديث الذي قبله يدل على ذلك وقد تقدم البحث فيه في مواضع. باب تحريم وطئ الحائض في الفرج وما يباح منها عن أنس بن مالك: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عز وجل * (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) * (البقرة: 222) إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اصنعوا كل شئ إلا النكاح. وفي لفظ: إلا الجماع رواه الجماعة إلا البخاري. قوله: فسأل السائل عن ذلك أسيد بن الحضير وعباد بن بشر. وقيل: إن السائل عن ذلك هو أبوالدحداح قاله الواقدي والصواب الاول كما في الصحيح. والحديث يدل على حكمين: تحريم النكاح، وجواز ما سواه. (أما الاول) فبإجماع المسلمين وبنص القرآن العزيز والسنة الصريحة، ومستحلة كافر، وغير المستحل إن كان ناسيا أو جاهلا لوجود الحيض أو جاهلا لتحريمه أو مكرها فلا إثم عليه ولا كفارة، وإن وطئها
[ 349 ]
عامدا عالما بالحيض والتحريم مختارا فقد ارتكب معصية كبيرة، نص على كبرها الشافعي ويجب عليه التوبة، وسيأتي الخلاف في وجوب الكفارة. (وأما الثاني) أعني جواز ما سواه فهو قسمان: القسم الاول: المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة بالذكر أو القبلة أو المعانقة أو اللمس أو غير ذلك وذلك حلال باتفاق العلماء، وقد نقل الاجماع على الجواز جماعة. وقد حكي عن عبيدة السلماني وغيره أنه لا يباشر شيئا منها بشئ منه، وهو كما قال النووي غير معروف ولا مقبول، ولا صح لكان مردودا بالاحاديث الصحيحة وبإجماع المسلمين قبل المخالف وبعده القسم الثاني: فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر، وفيها ثلاثة وجوه لاصحاب الشافعي الاشهر منها التحريم. والثاني عدم التحريم مع الكراهة. والثالث إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج إما لشدة ورع أو لضعف شهوة جاز وإلا لم يجز وقد ذهب إلى الوجه الاول مالك وأبو حنيفة وهو قول أكثر العلماء، منهم سعيد المسيب وشريح وطاوس وعطاء وسليمان بن يسار وقتادة، وممن ذهب إلى الجواز عكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والحاكم والثوري والاوزاعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وأصبغ وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر وداود وحديث الباب يدل على الجواز لتصريحه بتحليل كل شئ مما عدا النكاح، فالقول بالتحريم سدا للذريعة لما كان الحوم حول الحمى مظنة للوقوع فيه لما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير مرفوعا بلفظ: من وقع حول الحمى يوشك أن يواقعه وله ألفاظ عندهما وعند غيرهما، ويشير إلى هذا حديث: لك ما فوق الازار وحديث عائشة الآتي لما فيه من الامر للمباشرة بأن تأتزر. وقولها في رواية لهما: وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يملك إربه. وعن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها شيئا رواه أبو داود. وعن مسروق بن أجدع قال: سألت عائشة رضي الله عنها ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شئ إلا الفرج رواه البخاري في تاريخه. وعن حزام بن حكيم عن عمه: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الازار رواه أبو داود، قلت: عمه هو عبد الله بن سعد. حديث عكرمة إسناده في سنن أبي داود، هكذا حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد
[ 350 ]
ابن سلمة عن أيوب عن عكرمة فذكره، ورجال إسناده ثقات محتج بهم في الصحيح، وقد سكت عنه أبو داود المنذري، وقد قال ابن الصلاح والنووي وغيرهما، أنه يجوز الاحتجاج بما سكت عنه أبو داود، وصرح أبو داود نفسه أنه لا يسكت إلا عن الحديث الصالح للاحتجاج، ويشهد له حديث الامر بالاتزار وحديث: لك ما فوق الازار وأما حديث مسروق عن عائشة فهو مثل حديث أنس بن مالك السابق المتفق عليه. وأما حديث حزام بن حكيم فأورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه، وإسناده في سنن أبي داود فيه صدوقان وبقيته ثقات. وقد روى أبو داود من حديث معاذ بن جبل نحوه وقال: ليس بالقوي، وفي إسناده بقية عن سعيد بن عبد الله الاغطش. ورواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن سعيد بن عبد الله الخزاعي، فإن كان هو الاغطش فقد توبع بقية وبقيت جهالة حال سعيد. قال الحافظ: لا نعرف أحدا وثقه، وأيضا عبد الرحمن بن عائد راويه عن معاذ قال أبو حاتم: روايته عن علي مرسلة، وإذا كان كذلك فمن معاذ أشد إرسالا. والحديث الاول يدل على جواز الاستمتاع من غير تخصيص بمحل دون محل من سائر البدن غير الفرج، لكن مع وضع شئ على الفرج يكون حائلا بينه وبين ما يتصل به من الرجل. والحديث الثاني يدل على جواز الاستمتاع بما عدا الفرج. والحديث الثالث يدل على جواز الاستمتاع بما فوق الازار من الحائض وعدم جوازه بما عداه، فمن أجاز التخصيص بمثل هذا المفهوم خصص به عموم كل شئ المذكور في حديث أنس وعائشة، ومن لم يجوز التخصيص به فهو لا يعارض المنطوق الدال على الجواز، والخلاف في جوازه وعدمه قد سبق في أول الباب. وعن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يباشرها أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضتها ثم يباشرها متفق عليه. قال الخطابي: فور الحيض أوله ومعظمه. قوله: أن يباشرها المراد بالمباشرة هنا التقاء البشرتين لا الجماع. قوله: أن تأتزر في رواية للبخاري: تتزر قال في الفتح: والاولى أفصح، والمراد بالاتزار أن تشد إزارا تستر سرتها وما تحتها إلى الركبة. قوله: في فور حيضتها هو بفتح الفاء وإسكان الواو، ومعناه كما قال الخطابي كما ذكره المصنف. وقال القرطبي: فور الحيضة معظم صبها من فوران القدر وغليانها، والكلام على فقه الحديث قد تقدم.
[ 351 ]
باب كفارة من أتى حائضا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو بنصف دينار رواه الخمسة. وقال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة قال: دينار أو نصف دينار. وفي لفظ للترمذي: إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار وفي رواية لاحمد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل في الحائض تصاب دينارا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار، كل ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الرواية الاولى رواها أيضا الدارقطني وابن الجارود، وكل رواتها مخرج لهم في الصحيح إلا مقسما الراوي عن ابن عباس فانفرد به البخاري لكن ما أخرج له إلا حديثا واحدا. وقد صحح حديث الباب الحاكم وابن القطان وابن دقيق العيد. وقال أحمد: ما أحسن حديث عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس، فقيل: تذهب إليه؟ فقال: نعم. وقال أبو داود: وهي الرواية الصحيحة وربما لم يرفعه شعبة. وقال قاسم بن أصبغ: رفعه غندر، قال الحافظ: والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير جدا، ويجاب عنه بما ذكره أبو الحسن بن القطان وهو ممن قال بصحة الحديث أن الاعلال بالاضطراب خطأ، والصواب أن ينظر إلى رواية كل راو يحسبها ويعلم ما خرج عنه فيها، فإن صح من طريق قبل، ولا يضره أن يروي من طرق أخر ضعيفة، فهم إذا قالوا: روي فيه بدينار، وروي بنصف دينار. وروي باعتبار صفات الدم. وروي دون اعتبارها. وروي باعتبار أول الحيض وآخره. وروي دون ذلك. وروي بخمسي دينار. وروي بعتق نسمة وهذا عند التدين والتحقيق لا يضره، ثم أخذ في تصحيح حديث عبد الحميد، وأكثر أهل العلم زعموا أن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس. قال الخطابي: والاصح الاختلاف في رفعه ووقفه بأن يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي رفعوه عن شعبة، وكذلك وهب بن جرير وسعيد بن عامر والنضر بن شميل وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف. قال ابن سيد الناس: من رفعه عن شعبة أجل وأكثر وأحفظ ممن وقفه، وأما قول شعبة أسنده إلى الحكم مرة ووقفه مرة فقد أخبر عن المرفوع
[ 352 ]
والموقوف أن كلا عنده، ثم لو تساوى رافعوه مع واقفيه لم يكن في ذلك ما يقدح فيه. قال أبو بكر الخطيب: اختلاف الروايتين في الرفع والوقف لا يؤثر في الحديث ضعفا وهو مذهب أهل الاصول، لان إحدى الروايتين ليست مكذبة للاخرى، والاخذ بالمرفوع أخذ بالزيادة وهي واجبة القبول. قال الحافظ: وقد أمعن ابن القطان القول في تصحيح هذا الحديث، والجواب عن طرق الطعن فيه بما يراجع منه. وأقر ابن دقيق العيد تصحيح ابن القطان وقواه في الامام وهو الصواب، فكم من حديث قد احتجوا به فيه من الاختلاف أكثر مما في هذا، كحديث بئر بضاعة وحديث القلتين ونحوهما. وفي ذلك ما يرد على النووي في دعواه في شرح المهذب والتنقيح، والخلاصة أن الائمة كلهم خالفوا الحاكم في تصحيحه، وأن الحق أنه ضعيف باتفاقهم، وتبع النووي في بعض ذلك ابن الصلاح. وأما الرواية الثانية من حديث الباب فأخرجها مع الترمذي البيهقي والطبراني والدارقطني وأبو يعلى والدارمي، بعضهم من طريق سفيان عن خصيف وعلي بن بذيمة وعبد الكريم ثلاثتهم عن مقسم وبعضهم من طريق أبي جعفر الرازي عن عبد الكريم عن مقسم، وخصيف فيه مقال، وعبد الكريم مختلف فيه، وقيل مجمع على تركه، وعلي بن بذيمة فيه أيضا مقال. وأما الرواية الثالثة من حديث الباب فقد أخرج نحوها البيهقي من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. والحديث يدل على وجوب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض، وإلى ذلك ذهب ابن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وقتادة والاوزاعي وإسحاق وأحمد في الرواية الثانية عنه، والشافعي في قوله القديم واختلف هؤلاء في الكفارة فقال الحسن وسعيد: عتق رقبة، وقال الباقون: دينار أو نصف دينار على اختلاف منهم في الحال الذي يجب فيه الدينار أو نصف الدينار بحسب اختلاف الروايات. واحتجوا بحديث الباب. وقال عطاء وابن أبي مليكة والشعبي والنخعي ومكحول والزهري وأبو الزناد وربيعة وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري والليث بن سعد ومالك وأبو حنيفة وهو الاصح عن الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين، وجماهير من السلف أنه لا كفارة عليه بل الواجب الاستغفار والتوبة، وأجابوا عن الحديث بما سبق من المطاعن. قالوا: والاصل البراءة فلا ينتقل عنها إلا بحجة، وقد عرفت انتهاض الرواية الاولى من حديث الباب فالمصير إليها متحتم، وعرفت بما أسلفناه صلاحيتها للحجية وسقوط الاعتلالات الواردة عليها. قال المصنف
[ 353 ]
بعد أن ساق الحديث: وفيه تنبيه على تحريم الوطئ قبل الغسل، انتهى. باب الحائض لا تصوم ولا تصلي وتقضي الصوم دون الصلاة عن أبي سعيد في حديث له: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للنساء أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلكن من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلكن من نقصان دينها مختصر من البخاري. الحديث أخرجه مسلم من حديثه، وأخرجه أيضا مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: تمكث الليالي ما تصلي وتفطر في شهر رمضان فهذا نقصان دينها واتفقا عليه من حديث أبي هريرة: وأخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود. قوله: لم تصل ولم تصم فيه إشعار بأن منع الحائض من الصوم والصلاة كان ثابتا بحكم الشرع قبل ذلك المجلس. والحديث يدل على عدم وجوب الصوم والصلاة على الحائض حال حيضها وهو إجماع. ويدل على أن العقل يقبل الزيادة والنقصان وكذلك الايمان، وليس المراد من ذكر نقصان عقول النساء لومهن على ذلك لانه مما لا مدخل لاختيارهن فيه،
[ 354 ]
بل المراد التحذير من الافتتان بهن، وليس نقص الدين منحصرا فيما يحصل به الاثم بل في أعم من ذلك، قاله في الفتح ورواه عن النووي لانه أمر نسبي، فالكامل مثلا ناقص عن الاكمل، ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك صلاتها زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلى. وهل تثاب على هذا الترك لكونها مكلفة به كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها؟ قال النووي: الظاهر أنها لا تثاب، والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته والحائض ليست كذلك. قال الحافظ: وعندي في كون هذا الفرق مستلزما لكونها لا تثاب وقفة. وعن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة رواه الجماعة. نقل ابن المنذر والنووي وغيرهما إجماع المسلمين على أنه لا يجب على الحائض قضاء الصلاة ويجب عليها قضاء الصيام. وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبون على الحائض قضاء الصلاة، وعن سمرة بن جندب أنه كان يأمر به فأنكرت عليه أم سلمة، قال الحافظ: لكن استقر الاجماع على عدم الوجوب كما قاله الزهري وغيره، ومستند الاجماع هذا الحديث الصحيح، ولكن الاستدلال بعدم الامر على عدم وجوب القضاء قد ينازع فيه لاحتمال الاكتفاء بالدليل العام على وجوب القضاء، والاولى الاستدلال بما عند الاسماعيلي من وجه آخر بلفظ: فلم نكن نقضي ذكر معناه في الفتح، ولا تتم المنازعة في الاستدلال بعدم الامر على عدم وجوب القضاء إلا بعد تسليم أن القضاء يجب بدليل الاداء أو وجود دليل يدل على وجوب قضاء الصلاة دلالة تندرج تحتها الحائض والكل ممنوع. وقد ذهب الجمهور كما قاله النووي إلى أنه لا يجب القضاء على الحائض إلا بدليل جديد. قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: والفرق بينهما يعني الصوم والصلاة أن الصلاة كثيرة متكررة فيشق قضاؤها، بخلاف الصوم فإنه يجب في السنة مرة واحدة، وربما كان الحيض يوما أو يومين. واعلم أنه لا حجة للخوارج إلا ما أسلفنا من أن عدم الامر لا يستلزم عدم وجوب القضاء والاكتفاء بأدلة القضاء، فإن أرادوا بأدلة القضاء حديث: من نام عن صلاته أو نسيها فأين هو من محل النزاع؟ وإن أرادوا غيره فما هو؟ وأيضا أدلة القضاء كافية في الصوم فلاي شئ أمرهن الشارع به دونها؟ والخوارج لا يستحقون المطاولة والمقاولة، لاسيما في مثل هذه
[ 355 ]
المقالة الخارقة للاجماع الساقطة عند جميع المسلمين بلا نزاع، لكنه لما رفع من شأنها بعض المتأخرين لمحبة الاغراب التي جبل عليها ذكرنا طرفا من الكلام في المسألة. وقد اختلف السلف فيمن طهرت من الحيض بعد صلاة العصر وبعد صلاة العشاء هل تصلي الصلاتين أو الاخرى؟ قال المصنف رحمه الله وعن ابن عباس أنه كان يقول: إذا طهرت الحائض بعد العصر صلت الظهر والعصر وإذا طهرت بعد العشاء صلت المغرب والعشاء وعن عبد الرحمن بن عوف قال: إذا طهرت الحائض قبل أن تغرب الشمس صلت الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر صلت المغرب والعشاء رواهما سعيد بن منصور في سننه والاثرم وقال: قال أحمد عامة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده، انتهى. باب سؤر الحائض ومؤاكلتها عن عائشة قالت: كنت أشرب وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع فاه على موضع في فيشرب، وأتعرق العرق وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع فاه على موضع في رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. قوله: أتعرق العرق العرق بعين مهملة مفتوحة وراء ساكنة بعدها قاف العظم، وتعرقه أكل ما عليه من اللحم، ذكر معنى ذلك في القاموس. والحديث يدل على أن ريق الحائض طاهر، ولا خلاف فيه فيما أعلم وعلى طهارة سؤرها من طعام أو شراب ولا أعلم فيه خلافا. وعن عبد الله بن سعد قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مواكلة الحائض قال: واكلها رواه أحمد والترمذي. الحديث قال الترمذي: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضا أبو داود رواته كلهم ثقات، وإنما غربه الترمذي لانه تفرد به العلاء بن الحرث عن حكيم بن حزام، وحكيم بن حزام عن عمه عبد الله بن سعد. وفي الباب ما تقدم عن أنس عند مسلم بلفظ: اصنعوا كل شئ إلا النكاح وهو شاهد لصحة حديث الباب. وكذلك حديث عائشة السابق. قال ابن سيد الناس في شرح حديث الباب: لما اعتضد به ارتقى في مراتب التحسين إلى مرتبة لم تكن له لولاه. والحديث يدل على جواز مواكلة الحائض، قال
[ 356 ]
الترمذي وهو قول عامة أهل العلم لم يروا بمواكلة الحائض بأسا. قال ابن سيد الناس في شرحه: وهذا مما أجمع الناس عليه، وهكذا نقل الاجماع محمد بن جرير الطبري. وأما قوله تعالى: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * (البقرة: 222) فالمراد اعتزلوا وطأهن. باب وطئ المستحاضة عن عكرمة عن حمنة بنت جحش: أنها كانت تستحاض وكان زوجها يجامعها. وعنه أيضا قال: كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها رواهما أبو داود. وكانت أم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف، كذا في صحيح مسلم. وكانت حمنة تحت طلحة بن عبيد الله. أما حديثه الاول فأخرجه أيضا البيهقي قال النووي: وإسناده حسن. وأما حديثه الثاني ففي إسناده معلى وهو ثقة، وكان أحمد لا يروي عنه لانه كان ينظر في الرأي وفي سماع عكرمة بن عمار من حمنة ومن أم حبيبة نظر قاله المنذري. وهما يدلان على جواز مجامعة المستحاضة ولو حال جريان الدم وهو قول الجمهور، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس وابن المسيب والحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير وقتادة وحماد بن سليمان وبكر بن عبد الله المزني والاوزاعي والثوري ومالك وإسحاق والشافعي وأبي ثور واستدلوا بما في الباب. وقال النخعي والحكم: إنه لا يأتيها زوجها، وكرهه ابن سيرين وروي عن أحمد المنع أيضا. ولعل أهل القول الاول يقيدون ذلك بأن لا تعلم بالامارات أو العادة أن ذلك الدم دم حيض، وفي احتجاجهم بروايتي عكرمة نظر لان غايتهما أنه فعل صحابي، ولم ينقل فيه التقرير من النبي (ص) ولا الاذن له بذلك ولكنه ينبغي التعويل في الاستدلال على أن التحريم إنما يثبت بدليل، ولم يرد في ذلك شرع يقتضي المنع منه. وقد استدل القائلون بعدم الجواز أيضا بما رواه الخلال بإسناده إلى عائشة قالت: المستحاضة لا يغشاها زوجها قالوا: ولان بها أذى فيحرم وطؤها كالحائض، وقد منع الله من وطئ الحائض معطلا بالاذى، والاذى موجود في المستحاضة فثبت التحريم في حقها.
[ 357 ]
[ رك ] كتاب النفاس [ رم ] باب أكثر النفاس عن علي بن عبد الاعلى عن أبي سهل واسمه كثير بن زياد عن مسة الازدية عن أم سلمة قالت: كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعين يوما، وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف رواه الخمسة إلا النسائي. وقال البخاري: علي بن عبد الاعلى ثقة وأبو سهل ثقة. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني والحاكم، وعلي بن عبد الاعلى ثقة، وأبو سهل وثقه البخاري وابن معين وضعفه ابن حبان. قال الحافظ: ولم يصب. ومسة الازدية مجهولة الحال، قال ابن سيد الناس: لا يعرف حالها ولا عينها ولا تعرف في غير هذا الحديث. قال النووي: قول جماعة من مصنفي الفقهاء أن هذا الحديث ضعيف مردود عليهم، وله شاهد أخرجه ابن ماجه من طريق سلام عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقت للنفساء أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك قال: لم يروه عن حميد غير سلام وهو ضعيف كذبه ابن معين وغيره من الائمة، ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن أنس موقوفا. وروى الحاكم من حديث الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال: وقت رسول الله (ص) للنساء في نفاسهن أربعين يوما وقال: صحيح أن سلم من أبي بلال الاشعري. قال الحافظ: ضعفه الدارقطني والحسن عن عثمان منقطع: والمشهور عن عثمان موقوف. وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنتظر النفساء أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فإن بلغت أربعين يوما ولم تر الطهر فلتغتسل ذكره ابن عدي وفيه العلاء بن كثير وهو ضعيف جدا. وفي الباب أيضا عن عائشة نحو حديث عثمان بن أبي العاص عند
[ 358 ]
الدارقطني وفيه أبو بلال الاشعري وهو ضعيف، وعطاء بن عجلان متروك الحديث، وحديث الباب قال الحاكم بعد إخراجه في مستدركه: إنه صحيح الاسناد. وقال الخطابي: أثنى البخاري على هذا الحديث: وقد اختلف الناس في أكثر النفاس، فذهب علي عليه السلام وعمر وعثمان وعائشة وأم سلمة وعطاء والثوري والشعبي والمزني وأحمد بن حنبل ومالك والهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله وأبو طالب إلى أن أكثر النفاس أربعون يوما. واستدلوا بحديث الباب وما ذكرناه بعده، وقال الشافعي في قول وروى عن إسماعيل وموسى ابني جعفر بن محمد الصادق بل سبعون، قالوا: إذ هو أكثر ما وجد. وفي قول للشافعي وهو الذي في كتب الشافعية، وروي أيضا عن مالك بل ستون يوما لذلك. وقال الحسن البصري: خمسون لذلك. وقالت الامامية: نيف وعشرون والنص يرد عليهم وقد أجابوا عنه بما تقدم من الضعف وبأنه كما قال الترمذي في العلل منكر المتن، فإن أزواج النبي (ص) ما منهن من كانت نفساء أيام كونها معه إلا خديجة وزوجيتها كانت قبل الهجرة، فإذا لا معنى لقول أم سلمة: قد كانت المرأة من أصحاب النبي (ص) تقعد في النفاس هكذا قال، وفيه أن التصريح بكونهن من أصحاب النبي (ص) في كونهن من غير زوجاته فلا يشكل ما ذكره. وأيضا نساؤه أعم من الزوجات لدخول البنات وسائر القرابات تحت ذلك، والادلة الدالة على أن أكثر النفاس أربعون يوما متعاضدة بالغة إلى حد الصلاحية والاعتبار فالمصير إليها متعين، فالواجب على النفساء وقوف أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، كما دلت على ذلك الاحاديث السابقة. قال الترمذي في سننه: وقد أجمع أصحاب النبي (ص) والتابعون ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي انتهى. وما أحسن ما قال المصنف رحمه الله تعالى ههنا ولفظه: قلت ومعنى الحديث
[ 359 ]
كانت تؤمر أن تجلس إلى الاربعين لئلا يكون الخبر كذبا إذ لا يمكن أن تتفق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض انتهى. وقد لخصت هذه المسألة في رسالة مستقلة، واختلف العلماء في تقدير أقل النفاس، فعند العترة والشافعي ومحمد لاحد لاقله واستدلوا بما سبق من قوله: فإن رأت الطهر قبل ذلك وقال زيد بن علي: ثلاثة أقراء فإذا كانت المرأة تحيض خمسا فأقل نفاسها خمسة عشر يوما. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: بل أحد عشر يوما كأكثر الحيض وزيادة يوم لاجل الفرق. وقال النووي: ثلاثة أيام وجميع الاقوال ما عدا الاول لا دليل عليها ولا مستند لها إلا الظنون. باب سقوط الصلاة عن النفساء عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي (ص) بقضاء صلاة النفاس رواه أبو داود. الحديث أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه، وهو عند أبي داود من طريق أحمد بن يونس عن زهير عن علي بن عبد الاعلى عن أبي سهل كثير بن زياد عن مسة عن أم سلمة، فهو أحد روايات حديث مسة السابق وقد تقدم الكلام عليه، وهو يدل على أنها تترك الصلاة أيام النفاس، وقد وقع الاجماع من العلماء كما في البحر أن النفاس كالحيض في جميع ما يحل ويحرم ويكره ويندب، وقد أجمعوا أن الحائض لا تصلي وقد أسلفنا ذلك.
[ 360 ]
[ رك ] كتاب الصلاة قال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في أصل الصلاة فقيل: هي الدعاء لاشتمالها عليه وهذا قول جماهير أهل العربية والفقهاء وغيرهم. وقيل: لانها ثانية لشهادة التوحيد كالمصلي من السابق في خيل الحلبة. وقيل: هي من الصلوين وهما عرقان مع الردف. وقيل هما عظمان. وقيل: هي من الرحمة. وقيل: أصلها الاقبال على الشئ. وقيل: غير ذلك، انتهى. باب افتراضها ومتى كان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ص) بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قوله: على وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان متفق عليه خمس في بعض الروايات خمسة بالهاء وكلاهما صحيح، فالمراد برواية الهاء خمسة أرك أو أشياء أو نحو ذلك، وبرواية حذف الهاء خمس خصال أو دعائم أو قواعد أو نحذلك. قوله: شهادة بالجر على البدل، ويجوز رفعه خبر المبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف وتقديره أحدها أو منها. قوله: وإقام الصلاة أي المداومة عليها. والحديث يدل على أن كمال الاسلام وتمامه بهذه الخمس، فهو كخباء أقيم على خمسة أعمدة، وقطبها الذي يدور عليه الاركان الشهادة وبقية شعب الايمان كالاوتاد للخباء. فظهر من هذا التمثيل أن الاسلام غير الاركان، كما أن البيت غير الاعمدة، والاعمدة غيره، وهذا مستقيم على مذهب أهل السنة، لان الاسلام عندهم التصديق بالقول والعمل
[ 361 ]
والحديث أورده عبد الله بن عمر في جواب من قال له: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول بني الاسلام الحديث، فاستدل به ابن عمر على عدم وجوب غير ما اشتمل عليه، ومن جملة ذلك الغزو لان الاسلام بني على خمس ليس هو منها. قال النووي في شرح مسلم: اعلم أن هذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده وقد جمع أركانه. وعن أنس بن مالك قال: فرضت على النبي (ص) الصلوات ليلة أسري به خمسين ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نودي يا محمد إنه لا يبدل القول لدي وإن لك بهذه الخمس خمسين رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. الحديث في الصحيحين بلفظ: هي خمس وهي خمسون وبلفظ: هن خمس وهن خمسون والمراد أنها خمس في العدد وخمسون في الاجر والاعتداد. والحديث طرف من حديث الاسراء الطويل. وقد استدل به على عدم فرضية ما زاد على الخمس الصلوات كالوتر، وعلى دخول النسخ في الانشاءات، ولو كانت مؤكدة خلافا لقوم فيما أكد. وعلى جواز النسخ قبل الفعل وإليه ذهبت الاشاعرة. قال ابن بطال وغيره في بيان وجه الدلالة ألا ترى أنه عزوجل نسخ الخمسين بالخمس قبل أن تصلي ثم تفضل عليهم بأن أكمل لهم الثواب، وتعقبه ابن المنير فقال: هذا ذكره طوائف من الاصوليين والشراح وهو مشكل على من أثبت النسخ قبل الفعل كالاشاعرة، أو منعه كالمعتزلة لكونهم اتفقوا جميعا على
[ 362 ]
أن النسخ لا يتصور قبل البلاغ، وحديث الاسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ فهو مشكل عليهم جميعا، قال: وهذه نكتة مبتكرة. قال الحافظ في الفتح: قلت إن أراد قبل البلاغ لكل أحد فممنوع، وإن أراد قبل البلاغ إلى الامة فمسلم، ولكن قد يقال ليس هو بالنسبة إليهم نسخا لكن هو نسخ بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لانه كلف بذلك قطعا ثم نسخ بعد أن بلغه وقبل أن يفعل، فالمسألة صحيحة التصوير في حقه (ص). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر ففرضت أربعا وتركت صلاة السفر على الاول رواه أحمد والبخاري. زاد أحمد من طريق ابن كيسان: إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا. والحديث يدل على وجوب القصر وأنه عزيمة لا رخصة، وقد أخذ بظاهره الحنفية والهادوية واحتج مخالفوهم بقوله سبحانه: * (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101) ونفي الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شئ أطول منه، قالوا: ويدل على أنه رخصة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقة تصدق الله بها عليكم وأجابوا عن حديث الباب بأنه من قول عائشة غير مرفوع، وبأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة، قاله الخطابي وغيره. قال الحافظ: وفي هذا الجواب نظر، أما أولا فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع. وأما ثانيا فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي وهو حجة، لانه يحتمل أن يكون أخذه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن صحابي آخر أدرك ذلك. وأما قول إمام الحرمين: لو كان ثابتا لنقل متواترا ففيه نظر، لان التواتر في مثل هذا غير لازم، وقالوا أيضا: يعارض حديث عائشة هذا حديث ابن عباس: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين أخرجه مسلم (والجواب) أنه يمكن الجمع بين حديث عائشة وابن عباس فلا تعارض، وذلك بأن يقال إن الصلوات فرضت ليلة الاسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح: كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لانها وتر النهار انتهى. ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة. ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الاثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة،
[ 363 ]
وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها. وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية ذكره الدولابي وأورده السهيلي بلفظ بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما، فعلى هذا المراد بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الامر من التخفيف. والمصنف ساق الحديث للاستدلال به على فرضية الصلاة لا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة، ولعله يأتي تحقيق ما هو الحق في باب صلاة السفر إن شاء الله تعالى. وعن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله أخبرني ما فرض الله علي من الصلاة؟ قال: الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئا، قال: أخبرني ما فرض الله علي من الصيام؟ قال: شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا، قال: أخبرني ما فرض الله علي من الزكاة؟ قال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشرائع الاسلام كلها، فقال: والذي أكرمك لا أطوع شيئا ولا أنقص ما فرض الله علي شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق متفق عليه. الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي ومالك في الموطأ وغير هؤلاء. قوله: أن أعرابيا في رواية: جاء رجل زاد أبو داود: من أهل نجد وكذا في مسلم والموطأ. قوله: ثائر الرأس هو مرفوع على الوصف على رواية جاء رجل، ويجوز نصبه على الحال، والمراد أن شعره متفرق من ترك الرفاهية: ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوفادة. وأوقع اسم الرأس على الشعر إما مبالغة أو لان الشعر منه ينبت. قوله: إلا أن تطوع بتشديد الطاء والواو وأصله تتطوع بتاءين فأدغمت إحداهما، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما. قوله: والذي أكرمك وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند البخاري: والله. قوله: أفلح إن صدق وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق ولابي داود مثله. (فإن قيل) ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب عن ذلك بأنه كان قبل النهي، أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف، أو فيه إضمار اسم الرب كأنه قال: ورب أبيه أو أنه خاص ويحتاج إلى دليل. وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه قال: هو تصحيف وإنما كان والله فقصرت اللامان، واستنكره القرطبي وغفيل
[ 364 ]
القرافي فادعى أن الرواية بلفظ: وأبيه لم تصح وكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر وهو صحيح لامرية فيه. قال الحافظ: وأقوى الاجوبة الاولان. والحديث يدل على فرضية الصلاة وما ذكر معها على العباد. قال المصنف رحمه الله: وفيه مستدل لمن لم يوجب صلاة الوتر ولا صلاة العيد انتهى. وقد أوجب قوم الوتر وآخرون ركعتي الفجر. وآخرون صلاة الضحى. وآخرون صلاة العيد. وآخرون ركعتي المغرب. وآخرون صلاة التحية. ومنهم من لم يوجب شيئا من ذلك، وجعل هذا الحديث صارفا لما ورد بعده من الادلة المشعرة بالوجوب. وفي الحديث أيضا دليل على عدم وجوب صوم عاشوراء وهو إجماع، وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة وفيه غير ذلك، وفي جعل هذا الحديث دليلا على عدم وجوب ما ذكر نظر عندي، لان ما وقع في مبادئ التعاليم لا يصح التعلق به في صرف ما ورد بعده، وإلا لزم قصر واجبات الشريعة بأسرها على الخمس المذكورة، وأنه خرق للاجماع وإبطال الجمهور الشريعة، فالحق أنه يؤخذ بالدليل المتأخر إذا ورد موردا صحيحا، ويعمل بما يقتضيه من وجوب أو ندب أو نحوهما، وفي المسألة خلاف وهذا أرجح القولين. والبحث مما ينبغي لطالب الحق أن يمعن النظر فيه ويطيل التدبر، فإن معرفة الحق فيه من أهم المطالب العلمية لما ينبني عليه من المسائل البالغة إلى حد يقصر عند العد. وقد أعان الله وله الحمد على جمع رسالة في خصوص هذا المبحث، وقد أشرت إلى هذه القاعدة في عدة مباحث في غير هذا الباب وهذا موضع عرض ذكرها فيه. باب قتل تارك الصلاة عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الاسلام وحسابهم على الله عزوجل متفق عليه. ولاحمد مثله من حديث أبي هريرة. قوله: أمرت قال الخطابي: معلوم أن المراد بقوله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله أهل الاوثان دون أهل الكتاب، لانهم يقولون لا إله إلا الله
[ 365 ]
ويقاتلون ولا يرفع عنهم السيف، وهذا التخصيص بأهل الاوثان إنما يحتاج إليه في الحديث الذي اقتصر فيه على ذكر الشهادة وجعلت لمجردها موجبة للعصمة. وأما حديث الباب فلا يحتاج إلى ذلك، لان العصمة متوقفة على كمال تلك الامور، ولا يمكن وجودها جميعا من غير مسلم: والحديث يدل على أن من أخل بواحدة منها فهو حلال الدم والمال إذا لم يتب، وسيأتي ذكر الخلاف وبيان ما هو الحق في الباب الذي بعد هذا. وفي الاستتابة وصفها ومدتها خلاف معروف في الفقه. قوله: إلا بحق الاسلام المراد ما وجب به في شرائع الاسلام إراقة الدم كالقصاص وزنا المحصن ونحو ذلك، أو حل به أخذ جزء من المال كأروش الجنايات وقيم المتلفات وما وجب من النفقات وما أشبه ذلك. قوله: وحسابهم على الله المراد فيما يستسر به ويخفيه دون ما يعلنه ويبديه. وفيه أن من أظهر الاسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر العلماء. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل قاله الخطابي. وذكر القاضي عياض معنى هذا وزاد عليه وأوضحه. قال النووي: وقد اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق وهو الذي ينكر الشرع جملة قال: فذكروا فيه خمسة أوجه لاصحابنا والاصوب فيها قبولها مطلقا للاحاديث الصحيحة المطلقة. والثاني لا تقبل ويتحتم قتله، لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الآخرة فكان من أهل الجنة. والثالث إن تاب مرة واحدة قبلت توبته، فإن تكرر ذلك منه
[ 366 ]
لم تقبل. والرابع إن أسلم ابتداء من غير طلب قبل منه وإن كان تحت السيف فلا. والخامس إن كان داعيا إلى الضلال لم يقبل منه وإلا قبل. قال النووي أيضا. ولا بدمع هذا يعني القيام بالامور المذكورة في الحديث من الايمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما جاء في الرواية الاخرى التي أشار إليها المصنف وهي من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم بلفظ: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وعن أنس بن مالك قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارتدت العرب فقال عمر: يا أبا بكر كيف نقاتل العرب؟ فقال: أبو بكر: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة رواه النسائي. الحديث أخرجه أيضا البيهقي في السنن وإسناده في سنن النسائي، هكذا أخبرنا محمد بن بشار حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا عمران أبو العوام حدثنا معمر عن الزهري عن أنس فذكره، وكلهم من رجال الصحيح إلا عمران أبو العوام فإنه صدوق بهم، ولكن قد ثبت معناه في الصحيحين لكن بدون أنه قال ذلك أبو بكر في مراجعته لعمر، بل الذي فيهما أن عمر احتج على أبي بكر لما عزم على قتال أهل الردة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم نفسه وماله فقال له أبو بكر: والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعه قال النووي: وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر رضي الله عنهما دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، يعني من الاحاديث التي فيها ذكر الصلاة والزكاة، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف ولما كان احتج بالحديث فإنه بهذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها ولما احتج بالقياس والعموم اه. وإنما ذكرنا هذا الكلام للتعريف بأن المشهور عند أهل الصحيح والشارحين له خلاف ما ذكره النسائي في هذه الرواية، وسيأتي الكلام على مراجعة أبي بكر وعمر مبسوطا في كتاب الزكاة. والحديث يدل على ما دل عليه الذي قبله من أن المخل بواحدة من هذه الخصال حلال الدم ومباح المال.
[ 367 ]
وعن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي عليه السلام وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذهيبة فقسمها بين أربعة، فقال رجل: يا رسول الله اتق الله، فقال: ويلك أو لست أحق أهل الارض أن يتقي الله؟ ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم مختصر من حديث متفق عليه. الحديث اختصره المصنف وترك أطرافا من أوائله وتمامه قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لينا رطبا لئن أدركتهم لاقتلنهم قتل ثمود انتهى. قوله: بذهبية على التصغير. وفي رواية بذهبة بفتح الذال. قوله: بين أربعة هم عيينة بن حصن والاقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل، كذا في صحيح مسلم. قال النووي قال العلماء: ذكر عامر هنا غلط ظاهر لانه توفي قبل هذا بسنين، والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة كما هو مجزوم به في باقي الروايات. قوله: فقال خالد بن الوليد في رواية عمر بن الخطاب وليس بينهما تعارض بل كل واحد منهما استأذن فيه. قوله: لعله أن يكون يصلي فيه أن الصلاة موجبة لحقن الدم، ولكن مع بقية الامور المذكورة في الاحاديث الآخرة. قوله: لم أومر أن أنقب الخ معناه أني أمرت بالحكم بالظاهر والله متولي السرائر كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله: والحديث استدل به على كفر الخوارج لانهم المرادون بقوله في آخره، قوم يتلون كتاب الله كما صرح بذلك شراح الحديث وغيرهم، وقد اختلف الناس في ذلك، قال النووي بعد أن صرح هو والخطابي بأن الحديث وأمثاله يدل على كفر الخوارج: وقد كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالا من سائر المسائل، ولقد رأيت أبا المعالي وقد رغب إليه الفقيه عبد الحق في الكلام عليها فاعتذر بأن الغلط فيها يصعب موقعه، لان إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم منها عظيم في الدين. وقد اضطرب فيها قول القاضي أبي بكر الباقلاني وناهيك به في علم الاصول، وأشار ابن الباقلاني إلى أنها من المعوصات لان القوم لم يصرحوا بالتكفير وإنما قالوا قولا يؤدي إلى ذلك.
[ 368 ]
وأنا أكشف لك نكتة الخلاف وسبب الاشكال، وذلك أن المعتزلي مثلا إذا قال إن الله تعالى عالم ولكن لا علم له وحي ولا حياة له وقع الاشتباه في تكفيره، لانا علمنا من دين الامة ضرورة أن من قال إن الله ليس بحي ولا عالم كان كافرا، وقامت الحجة على استحالة كون العالم لا علم له فهل يقول: إن المعتزلي إذا نفى العلم نفى أن يكون الله عالما، أو يقول قد اعترف بأن الله تعالى عالم، فلا يكون نفيه للعلم نفيا للعالم، هذا موضوع الاشكال قال هذا كلام الماوردي، ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه وجماهير العلماء أن الخوارج لا يكفرون. قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الاهواء إلا الخطابية وهم طائفة من الرافضة يشهدون لموافقيهم في المذهب بمجرد قولهم، فرد شهادتهم لهذا لا لبدعتهم، وسيأتي الكلام على الخوارج مبسوطا في كتاب الحدود. وقد استدل المصنف بالحديث على قبول توبة الزنديق فقال: وفيه دليل لمن يقبل توبة الزنديق انتهى. وقد تقدم الكلام على ذلك، وما ذكره متوقف على أن مجرد قوله لرسول الله: اتق الله زندقة وهو خلاف ما عرف به العلماء الزنديق. وقد ثبت في رواية أخرى في الصحيح أنه قال: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله والاستدلال بمثل هذا على ما زعمه المصنف أظهر. قال القاضي عياض: حكم الشرع أن من سب النبي (ص) كفر وقتل، ولم يذكر في هذا الحديث أن هذا الرجل قتل، قال المازري: يحتمل أن يكون لم يفهم منه الطعن في النبوة وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، ويحتمل أن يكون استدلال المصنف ناظرا إلى قوله في الحديث: لعله يصلي وإلى قوله: لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس فإن ذلك يدل على قبول ظاهر التوبة وعصمة من يصلي، فإذا كان الزنديق قد أظهر التوبة وفعل أفعال الاسلام كان معصوم الدم. وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلا من الانصار حدثه أنه أتى رسول الله (ص) وهو في مجلس يساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله (ص) فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال الانصاري: بلى يا رسول الله ولا شهادة له، قال: أليس يشهد أن محمدا رسول الله؟ بلى ولا شهادة له، قال: أليس يصلي؟ قال: بلى ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم رواه الشافعي وأحمد في مسنديهما. الحديث أخرجه أيضا مالك في الموطأ، وفيه دلالة على أن الواجب المعاملة للناس
[ 369 ]
بما يعرف من ظواهر أحوالهم من دون تفتيش وتنقيش، فإن ذلك مما لم يتعبدنا الله به ولذلك قال: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس وقال لاسامة لما قال له إنما قال ما قال يا رسول الله تقية يعني الشهادة هل شققت عن قلبه واعتباره (ص) لظواهر الاحوال كان ديدنا له وهجيرا في جميع أموره منها قوله (ص) لعمه العباس لما اعتذر له يوم بدر بأنه مكره فقال له: كان ظاهرك علينا وكذلك حديث: إنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له بشئ من مال أخيه فلا يأخذنه إنما أقطع له قطعة من نار وكذلك حديث: إنما نحكم بالظاهر وهو وإن لم يثبت من وجه معتبر فله شواهد متفق على صحتها، ومن أعظم اعتبارات الظاهر ما كان منه (ص) مع المنافقين من التعاطي والمعاملة بما يقتضيه ظاهر الحال. باب حجة من كفر تارك الصلاة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. الحديث يدل على أن ترك الصلاة من موجبات الكفر، ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ترك الصلاة منكرا لوجوبها إلا أن يكون قريب عهد بالاسلام، أو لم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة، وإن كان تركه لها تكاسلا مع اعتقاده لوجوبها كما هو حال كثير من الناس، فقد اختلف الناس في ذلك، فذهبت العترة والجماهير من السلف والخلف منهم مالك والشافعي إلى أنه لا يكفر بل يفسق، فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف. وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر وهو مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي. وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي إلى أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي. احتج الاولون على عدم كفره بقول الله عزوجل: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) وبما سيأتي في الباب الذي بعد هذا من الادلة. واحتجوا على قتله بقوله تعالى: * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
[ 370 ]
فخلوا سبيلهم) * (التوبة: 5) وبقوله (ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها الحديث متفق عليه. وتأولوا قوله (ص): بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة وسائر أحاديث الباب على أنه مستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل، أو أنه محمول على المستحل، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر، أو على أن فعله فعل الكفار. واحتج أهل القول الثاني بأحاديث الباب. واحتج أهل القول الثالث على عدم الكفر بما احتج به أهل القول الاول وعلى عدم القتل بحديث: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث وليس فيه الصلاة. والحق أنه كافر يقتل، أما كفره فلان الاحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز اطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الاطلاق، ولا يلزمنا شئ من المعارضات التي أوردها الاولون لانا نقول: لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة، واستحقاق الشفاعة ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرا، فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيقها، وأما أنه يقتل فلان حديث: أمرت أن أقاتل الناس يقضي بوجوب القتل لاستلزام المقاتلة له، وكذلك سائر الادلة المذكورة في الباب الاول، ولا أوضح من دلالتها على المطلوب،
[ 371 ]
وقد شرط الله في القرآن التخلية بالتوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقال: * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) * (التوبة: 5) فلا يخلى من لم يقم الصلاة. وفي صحيح مسلم: سيكون عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ عنقه ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع، فقالوا: ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا فجعل الصلاة هي المانعة من مقاتلة أمراء الجور. وكذلك قوله لخالد في الحديث السابق: لعله يصلي، فجعل المانع من القتل نفس الصلاة. وحديث لا يحل دم امرئ مسلم لا يعارض مفهومه المنطوقات الصحيحة الصريحة. والمراد بقوله في حديث الباب: بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة كما قال النووي أن الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة، فإن تركها لم يبق بينه وبين الكفر حائل. وفي لفظ لمسلم: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. ومن الاحاديث الدالة على الكفر حديث الربيع بن أنس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا ذكره الحافظ في التلخيص وقال: سئل الدارقطني عنه فقال: رواه أبو النضر عن أبي جعفر عن الربيع موصولا، وخالفه علي بن الجعد فرواه عن أبي جعفر عن الربيع مرسلا وهو أشبه بالصواب. وأخرجه البزار من حديث أبي الدرداء بدون قوله: جهارا. وأخرج ابن حبان في الضعفاء من حديث أبي هريرة مرفوعا تارك الصلاة كافر واستنكره. ورواه أبو نعيم من حديث أبي سعيد وفيه عطية وإسماعيل بن يحيى وهما ضعيفان. قال العراقي: لم يصح من أحاديث الباب إلا حديث جابر المذكور، وحديث بريدة الذي سيأتي، وأخرج ابن ماجه من حديث أبي الدرداء قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا تشرك بالله وإن قطعت وحرقت، وإن لا تترك صلاة مكتوبة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر قال الحافظ: وفي إسناده ضعف. ورواه الحاكم في المستدرك، ورواه أحمد والبيهقي من طريق أخرى وفيه انقطاع. ورواه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت ومن حديث معاذ بن جبل وإسنادهما ضعيفان. وقال ابن الصلاح والنووي: إنه حديث منكر. واختلف القائلون بوجوب قتل تارك الصلاة، فالجمهور أنه يضرب عنقه بالسيف. وقيل: يضرب بالخشب حتى يموت، واختلفوا أيضا في وجوب الاستتابة، فالهادوية توجبها وغيرهم لا يوجبها لانه يقتل حدا ولا تسقط التوبة الحدود كالزاني والسارق. وقيل: إنه
[ 372 ]
يقتل لكفره، فقد حكى جماعة الاجماع على كفره كالمرتد وهو الظاهر، وقد أطال الكلام المحقق ابن القيم في ذلك في كتابه في الصلاة، والفرق بينه وبين الزاني واضح، فإن هذا يقتل لتركه الصلاة في الماضي وإصراره على تركها في المستقبل والترك في الماضي يتدارك بقضاء ما تركه، بخلاف الزاني فإنه يقتل بجنابة تقدمت لا سبيل إلى تركها، واختلفوا هل يجب القتل لترك صلاة واحدة أو أكثر؟ فالجمهور أنه يقتل لترك صلاة واحدة؟ والاحاديث قاضية بذلك، والتقييد بالزيادة على الواحدة لا دليل عليه. قال أحمد بن حنبل: إذا دعي إلى الصلاة فامتنع وقال: لا أصلي حتى خرج وقتها وجب قتله، وهكذا حكم تارك ما يتوقف صحة الصلاة عليه من وضوء أو غسل أو استقبال قبلة أو ستر عورة وكل ما كان ركنا أو شرطا. [ رح ] وعن بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه الخمسة. الحديث صححه النسائي والعراقي، ورواه ابن حبان والحاكم، وهو يدل على أن تارك الصلاة يكفر لان الترك الذي جعل الكفر معلقا به مطلق عن التقييد وهو يصدق بمرة لوجود ماهية الترك في ضمنها. والخلاف في المسألة والتصريح بما هو الحق فيها قد تقدم في الذي قبله. وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئا من الاعمال تركه كفر غير الصلاة رواه الترمذي. الحديث رواه الحاكم وصححه على شرطهما، وذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه، والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة لان قوله: كان أصحاب رسول الله جمع مضاف وهو من المشعرات بذلك. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والاوسط. وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات وفيه أنه لا انتفاع للمصلي بصلاته إلا إذا كان محافظا عليها، لانه إذا
[ 373 ]
انتفى كونها نورا وبرهانا ونجاة مع عدم المحافظة انتفى نفعها. وقوله: وكان يوم القيامة مع قارون الخ يدل على أن تركها كفر متبالغ لان هؤلاء المذكورين هم أشد أهل النار عذابا، وعلى تخليد تاركها في النار كتخليد من جعل معهم في العذاب، فيكون هذا الحديث مع صلاحيته للاحتجاج مخصصا لاحاديث خروج الموحدين، وقد ورد من هذا الجنس شئ كثير في السنة، ويمكن أن يقال مجرد المعية والمصاحبة لا يدل على الاستمرار والتأبيد لصدق المعنى اللغوي بلبثه معهم مدة، لكن لا يخفى أن مقام المبالغة يأبى ذلك، وسيأتي في الباب الثاني ما يعارضه. باب حجة من لم يكفر تارك الصلاة ولم يقطع عليه بخلود في النار ورجا له ما يرجى لاهل الكبائر عن ابن محيريز: أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يدعى أبا محمد يقول: إن الوتر واجب، قال المخدجي: فرحت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته فقال عبادة: كذب أبو محمد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وقال فيه: ومن جاء بهن قد انتقص منهن شيئا استخفافا بحقهن. الحديث أخرجه أيضا مالك في الموطأ وابن حبان وابن السكن. قال ابن عبد البر: هو صحيح ثابت لم يختلف عن مالك فيه ثم قال: والمخدجي مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال الشيخ تقي الدين القشيري: انظر إلى تصحيحه لحديثه مع حكمه بأنه مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، ولحديثه شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن ماجه، ومن حديث كعب بن عجرة عند أحمد. ورواه أبو داود أيضا الصنابجي قال: زعم أبو محمد أن الوتر واجب فقال عبادة بن الصامت وساق الحديث. والمخدجي المذكور في هذا الاسناد هو بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة ثم جيم بعدها ياء النسب
[ 374 ]
قيل اسمه رفيع. وأبو محمد المذكور هو مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن عثمان بن مالك بن النجار. وقيل: مسعود بن زيد بن سبيع يعد في الشاميين، وقد عده الواقدي وطائفة من البدريين ولم يذكره ابن إسحاق فيهم وذكره جماعة في الصحابة. وقول عبادة: كذب أبو محمد أي أخطأ ولا يجوز أن يراد به حقيقة الكذب لانه في الفتوى، ولا يقال لمن أخطأ في فتواه كذب. وأيضا قد ورد في الحديث ما يشهد لما قاله كحديث: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا عند أبي داود من حديث بريدة وغيره من الاحاديث، وسيأتي بسط الكلام على ذلك في باب أن الوتر سنة مؤكدة إن شاء الله تعالى. والحديث ساقه المصنف للاستدلال به على عدم كفر من ترك الصلاة وعدم استحقاقه للخلود في النار. لقوله: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وقد عرفناك في الباب الاول أن الكفر أنواع منها ما لا ينافي المغفرة ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرا وهو يدل على عدم استحقاق كل تارك للصلاة للتخليد في النار. قوله: استخفافا بحقهن هو قيد للمنفي لا للنفي. قوله: كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة فيه متمسك للمرجئة القائلين بأن الذنوب لا تضر من حافظ على الصلوات المكتوبة وهو مقيد بعدم المانع كأحاديث: من قال لا إله إلا الله ونحوها لورود النصوص الصريحة كتابا وسنة بذكر ذنوب موجبة للعذاب كدم المسلم وماله وعرضه وغير ذلك مما يكثر تعداده. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة، فإن أتمها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه، ثم يفعل بسائر الاعمال المفروضة مثل ذلك رواه الخمسة. الحديث أخرجه أبو داود من ثلاث طرق: طريقتين متصلتين بأبي هريرة والطريق الثالثة بتميم الداري وكلها لا مطعن فيها، ولم يتكلم عليه هو ولا المنذري بما يوجب ضعفه، وأخرجه النسائي من طريق إسنادها جيد، ورجالها رجال الصحيح كما قال العراقي وصححها ابن القطان. وأخرج الحديث الحاكم في المستدرك وقال: هذا صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وفي الباب عن تميم الداري عند أبي داود وابن ماجه بنحو حديث أبي هريرة، قال العراقي. وإسناده صحيح، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم: وعن أنس عند الطبراني في الاوسط، وعن أبي سعيد قال العراقي: رويناه في الطبوريات في
[ 375 ]
انتخاب السلفي منها وفي إسناده حصين بن مخارق نسبه الدارقطني إلى الوضع، وعن صحابي لم يسم عند أحمد في المسند. والحديث يدل على أن ما لحق الفرائض من النقص كملته النوافل. وأورده المصنف في حجج من قال بعدم الكفر، لان نقصان الفرائض أعم من أن يكون نقصا في الذات وهو ترك بعضها، أو في الصفة وهو عدم استيفاء أذكارها أو أركانها، وجبرانها بالنوافل مشعر بأنها مقبولة مثاب عليها والكفر ينافي ذلك وقد عرفت الكلام على ذلك فيما سلف، ثم أورد من الادلة ما يعتضد به قول من لم يكفر تارك الصلاة، وعقبه بتأويل لفظ الكفر الواقع في الاحاديث فقال: [ رح ] ويعضد هذا المذهب عمومات. منها ما روي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل متفق عليه. وعن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ومعاذ رديفه على الرجل: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا، ثم قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذن يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أي خوفا من الاثم بترك الخبر به متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لامتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا رواه مسلم. وعنه أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه رواه البخاري. وقد حملوا أحاديث التكفير على كفر النعمة أو على معنى قد قارب الكفر، وقد جاءت أحاديث في غير الصلاة أريد بها ذلك. فروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر متفق عليه. وعن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت رواه أحمد ومسلم.
[ 376 ]
وعن ابن عمر قال: كان عمر يحلف وأبي فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: من حلف بشئ دون الله فقد أشرك رواه أحمد. وعن ابن عباس قال: قال ر سول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن رواه أحمد. انتهى كلام المصنف. وأقول: قد أطبق أئمة المسلمين من السلف والخلف والاشعرية والمعتزلة وغيرهم أن الاحاديث الواردة بأن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة مقيدة بعدم الاخلال بما أوجب الله من سائر الفرائض، وعدم فعل كبيرة من الكبائر التي لم يتب فاعلها عنها، وأن مجرد الشهادة لا يكون موجبا لدخول الجنة فلا يكون حجة على المطلوب، ولكنهم اختلفوا في خلود من أخل بشئ من الواجبات أو قارف شيئا من المحرمات في النار مع تكلمة بكلمة الشهادة وعدم التوبة عن ذلك، فالمعتزلة جزموا بالخلود، والاشعرية قالوا: وغيرهم قالوا بدخوله تحتها، والمعتزلة منعت من ذلك وقالوا: لا يجوز على الله المغفرة لفاعل الكبيرة مع عدم التوبة عنها. وهذه المسائل محلها علم الكلام، وإنما ذكرنا هذا للتعريف بإجماع المسلمين على أن هذه الاحاديث مقيدة بعدم المانع، ولهذا أولها السلف، فحكى عن جماعة منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض، والامر والنهي ورد بأن راوي بعض هذه الاحاديث أبو هريرة وهو متأخر الاسلام أسلم عام خبير سنة سبع بالاتفاق، وكانت إذ ذاك أحكام الشريعة مستقرة من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، وحكى النووي عن بعضهم أنه قال: هي مجملة تحتاج إلى شرح، ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها قال، وهذا قول الحسن البصري. وقال البخاري: إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك ذكره في كتاب اللباس وذكر الشيخ أبو عمر بن الصلاح أنه يجوز أن يكون ذلك أعني الاقتصار على كلمة الشهادة في سببية دخول الجنة اقتصارا من بعض الرواة لا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل مجيئه تاما في رواية غيره، ويجوز أن يكون اختصارا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما خاطب به الكفار عبدة الاوثان الذين كان توحيدهم بالله تعالى مصحوبا بسائر ما يتوقف عليه الاسلام ومستلزما له، والكافر إذا كان لا يقر بالوحدانية كالوثني والثنوي وقال: لا إله إلا الله وحاله الحال التي حكيناها حكم بإسلامه. قال النووي: ويمكن الجمع بين الادلة بأن يقال
[ 377 ]
المراد باستحقاقه الجنة أنه لا بد من دخولها لكل موحد إما معجلا معافى، وإما مؤخرا بعد عقابه، والمراد بتحريم النار تحريم الخلود. وحكي ذلك عن القاضي عياض وقال: إنه في نهاية الحسن، ولا بد من المصير إلى التأويل لما ورد في نصوص الكتاب والسنة بذكر كثير من الواجبات الشرعية والتصريح بأن تركها موجب للنار. وكذلك ورود النصوص بذكر كثير من المحرمات وتوعد فاعلها بالنار. وأما الاحاديث التي أوردها المصنف في تأييد ما ذكره من التأويل، فالنزاع كالنزاع في إطلاق الكفر على تارك الصلاة، وقد عرفناك أن سبب الوقوع في مضيق التأويل توهم الملازمة بين الكفر وعدم المغفرة وليست بكلية كما عرفت، وانتفاء كليتها يريحك من تأويل ما ورد في كثير من الاحاديث. منها ما ذكره المصنف، ومنها ما ثبت في الصحيح بلفظ: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وحديث: أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم وحديث: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب. وحديث: من قال لاخيه يا كافر فقد باء بها وكل هذه الاحاديث في الصحيح. وقد ورد من هذا الجنس أشياء كثيرة، ونقول: من سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كافرا سميناه كافرا، ولا نزيد على هذا المقدار ولا نتأول بشئ منها لعدم الملجئ إلى ذلك. باب أمر الصبي بالصلاة تمرينا لا وجوبا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مروا صبيانكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه الحاكم من حديثه أيضا، والترمذي والدارقطني من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده بنحوه ولم يذكر التفرقة. وفي الباب عن أبي رافع عند البزار بلفظ قال: وجدنا في صحيفة في قراب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم وفرقوا بين الغلمان والجواري والاخوة والاخوات لسبع سنين، واضربوا أبناءكم على الصلاة إذا بلغوا
[ 378 ]
أظنه تسع سنين. وعن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني أنه قال لامرأته، وفي رواية لامرأة: متى يصل الصبي؟ فقالت: كان رجل منا يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة أخرجه أبو داود. قال ابن القطان: لا نعرف هذه المرأة ولا الرجل الذي روت عنه. وقد رواه الطبراني من هذا الوجه فقال: عن أبي معاذ بن عبد الله بن خبيب عن أبيه به، قال ابن صاعد: إسناده حسن غريب. وفي الباب عن أبي هريرة رواه العقيلي. وأنس عند الطبراني بلفظ: مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لثلاث عشرة وفي إسناده داود بن المحبر وهو مترك وقد تفرد به. والحديث يدل على وجوب أمر الصبيان بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين وضربهم عليها إذا بلغوا عشرا، والتفريق بينهم في المضاجع لعشر سنين إذا جعل التفريق معطوفا على قوله واضربوهم، أو لسبع سنين إذا جعل معطوفا على قوله مروهم، ويؤيد هذا الوجه حديث أبي رافع المذكور. وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب إجبار ابن العشر على الولي، وشرط الصلاة الذي لا تتم إلا به حكمه حكمها، ولا فرق بين الذكر والانثى والزوجة وغيرها. وقال في الوافي: والمؤيد بالله في أحد قوليه أن ذلك مستحب فقط، وحملوا الامر على الندب، ولكنه إن صح ذلك في قوله مروهم لم يصح في قوله واضربوهم لان الضرب إيلام للغير وهو لا يباح للامر المندوب، والاعتراض بأن عدم تكليف الصبي يمنع من حمل الامر على حقيقته، لان الاخبار إنما يكون على فعل واجب أو ترك محرم، وليست الصلاة بواجبة على الصبي ولا تركها محظور عليه، مدفوع بأن ذلك إنما يلزم لو اتحد المحل وهو هنا مختلف، فإن محل الوجوب الولي ومحل عدمه ابن العشر، ولا يلزم من عدم الوجوب على الصغير عدمه على الولي. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل رواه أحمد. ومثله من رواية علي له. ولابي داود والترمذي وقال: حديث حسن. الحديث أخرجه أيضا النسائي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث عائشة. قال يحيى بن معين: ليس يرويه إلا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان يعني عن إبراهيم عن الاسود عنها. وأخرجه أيضا النسائي والدارقطني والحاكم وابن حبان وابن خزيمة من حديث علي عليه السلام، قال البيهقي: تفرد برفعه جرير بن حازم، قال الدارقطني في العلل: وتفرد به عن جرير عبد الله بن وهب، وخالفه ابن
[ 379 ]
فضيل ووكيع فروياه عن الاعمش موقوفا، ورواه عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي عليه السلام وعمر مرفوعا، قال الحافظ: وقول ابن فضيل ووكيع أشبه بالصواب. ورواه أبو داود من حديث أبي الضحى عن علي عليه السلام، ولكن قال أبو زرعة: حديثه عن علي مرسل. ورواه ابن ماجه من حديث القاسم بن يزيد عن علي عليه السلام وهو مرسل أيضا كما قال أبو زرعة. ورواه الترمذي من حديث الحسن البصري عن علي، قال أبو زرعة: لم يسمع الحسن من علي شيئا. وروى الطبراني من طريق برد بن سنان إپن مكحول عن أبي إدريس الخولاني قال: أخبرني غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثوبان ومالك بن شداد وغيرهما فذكر نحوه. قال الحافظ: وفي إسناده مقال وبرد مختلف فيه: وروى أيضا من طريق مجاهد عن ابن عباس قال وإسناده ضعيف. والحديث يدل على عدم تكليف الصبي والمجنون والنائم ما داموا متصفين بتلك الاوصاف. قال ابن حجر في التلخيص حاكيا عن ابن حبان: أن الرفع مجاز عن عدم التكليف لانه يكتب له فعل الخير انتهى. وهذا في الصبي ظاهر، وأما في المجنون فلا تتصف أفعاله بخير ولا شر إذ لا قصد له، والموجود منه من صور الافعال لا حكم له شرعا، وأما في النائم ففيه بعد لان قصده منتف أيضا، فلا حكم لما صدر منه من الافعال حال نومه. وللناس كلام في تكليف الصبي بجميع الاحكام أو ببعضها ليس هذا محل بسطه وكذلك النائم. باب أن الكافر إذا أسلم لم يقض الصلاة عن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الاسلام يجب ما قبله رواه أحمد. الحديث أخرجه أيضا الطبراني والبيهقي من حديثه، وابن سعد من حديث جبير بن مطعم. وأخرج مسلم في صحيحه معناه من حديث عمرو أيضا بلفظ: أما علمت أن الاسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله وفي صحيح مسلم أيضا من حديث عبد الله بن مسعود قال: قلنا يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الاسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الاسلام أوخذ بالاول
[ 380 ]
والآخر فهذا مقيد والحديث الاول مطلق، وحمل المطلق على المقيد واجب، فهدم الاسلام ما كان قبله مشروط بالاحسان. قوله: يجب ما قبله أي يقطعه والمراد أنه يذهب أثر المعاصي التي قارفها حال كفره، وأما الطاعات التي أسلفها قبل إسلامه فلا يجبها لحديث حكيم بن حزام عند مسلم وغيره: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية هل لي فيها من شئ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير وقد قال المازري: أنه لا يصح تقرب الكافر، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه حال شركه، لان من شرط المتقرب أن يكون عارفا بمن تقرب إليه والكافر ليس كذلك، وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الاشكال. قال في الفتح: واستضعف ذلك النووي: فقال: الصواب الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم الاجماع فيه أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم ثم أسلم ومات على الاسلام أن ثواب ذلك يكتب له. [ رم ] أبواب المواقيت المواقيت جمع ميقات وهو القدر المحدود للفعل من الزمان والمكان [ رم ] باب وقت الظهر عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءه جبريل عليه السلام فقال له: قم فصله، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شئ مثله، ثم جاءه المغرب فقال: قم فصله فصلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم جاءه العشاء فقال: قم فصله فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاءه الفجر فقال: قم فصله فصلى الفجر حين برق الفجر أو قال سطع الفجر، ثم جاءه من الغد للظهرة فقال: قم فصله فصلى الظهر حين صار ظل كل شئ مثله ثم جاءه العصر فقال: قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شئ مثليه، ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل أو قال ثلث الليل فصلى العشاء، ثم جاء حين أسفر جدا فقال: قم فصله فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت رواه أحمد والنسائي والترمذي بنحوه.
[ 381 ]
وقال البخاري: هو أصح شئ في المواقيت. وللترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فذكر نحو حديث جابر إلا أنه قال فيه: وصلى المرة الثانية حين صار ظل كل شئ مثله لوقت العصر بالامس. وقال فيه: ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل. وفيه: ثم قال: يا محمد هذا وقت الانبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين قال الترمذي: هذا حديث حسن. أما حديث جابر فأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم، وروى الترمذي في سننه عن البخاري أنه أصح شئ في الباب كما قال المصنف رحمه الله وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم وفي إسناده ثلاثة مختلف فيهم، أولهم: عبد الرحمن بن أبي الزناد كان ابن مهدي لا يحدث عنه. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال يحيى بن معين وأبو حاتم لا يحتج به. وقال الشافعي: ضعيف وما حدث بالمدينة أصح مما حدث ببغداد. وقال ابن عدي: بعض ما يرويه لا يتابع عليه، وقد وثقه مالك واستشهد البخاري بحديثه عن موسى بن عقبة في باب التطوع بعد المكتوبة. وفي حديث: لا تمنوا لقاء العدو. والثاني: شيخه عبد الرحمن بن الحرث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال أحمد: متروك الحديث. وقال ابن نمير: لا أقدم على ترك حديثه. وقال فيه ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال ابن سعد: ثقة. وقال ابن حبان: كان من أهل العلم ولكنه قد توبع في هذا الحديث فأخرجه عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس بنحوه. قال ابن دقيق العيد: هي متابعة حسنة. والثالث: حكيم بن حكيم وهو ابن عباد بن حنيف، قال ابن سعد: كان قليل الحديث ولا يحتجون بحديثه. وحديث ابن عباس هذا قد صححه ابن عبد البر وأبو بكر بن العربي، قال ابن عبد البر: إن الكلام في إسناده لا وجه له، وأخرجه من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن الحرث بن عياش فسلمت طريقه من التضعيف بعبد الرحمن بن أبي الزناد. وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود وابن خزيمة، قال أبو عمر: وذكره عبد الرزاق عن عمر بن نافع وابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن الحرث بإسناده، وذكره أيضا عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس. وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي والنسائي بإسناد حسن،
[ 382 ]
وصححه ابن السكن والحاكم وحسنه الترمذي ولكن فيه: إن للمغرب وقتين ونقل عن البخاري أنه خطأ. ورواه الحاكم من طريق أخرى وقال: صحيح الاسناد. وعن بريدة عند الترمذي أيضا وصححه. وعن أبي موسى عند مسلم وأبي داود والنسائي وأبي عوانة وأبي نعيم، قال الترمذي في كتاب العلل: أنه حسنه البخاري. وعن أبي مسعود عند مالك في الموطأ وإسحاق بن راهويه والبيهقي في الدلائل وأصله في الصحيحين من غير تفصيل وفصله أبو داود. وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد في مسنده والطحاوي. وعن عمرو بن حزم رواه إسحاق بن راهويه. وعن البراء ذكره ابن أبي خيثمة. وعن أنس عند الدارقطني وابن السكن في صحيحه والاسماعيلي في معجمه، وأشار إليه الترمذي، ورواه عنه النسائي بنحوه، وأبو أحمد الحاكم في الكنى. وعن ابن عمر عند الدار قطني قال الحافظ بإسناد حسن: لكن فيه عنعنة ابن إسحاق. ورواه ابن حبان في الضعفاء من طريق أخرى فيها محبوب بن الجهم وهو ضعيف. وعن مجمع بن جارية عند الحاكم. قوله في الحديث: قم فصله. الهاء هاء السكت. قوله: حين وجبت الشمس الوجوب السقوط والمراد سقوطها للغروب. وقوله: زالت الشمس أي مالت إلى جهة المغرب. وقوله: حين صار ظل كل شئ مثله الظل الستر، ومنه قولهم: أنافي ظلك، وظل الليل سواده لانه يستر كل شئ، وظل الشمس ما ستر به الشخوص من مسقطها. قال ابن عبد البر: وكانت إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الذي يلي ليلة الاسراء، وأول صلاة أديت كذلك الظهر على المشهورة، وقيل: الصحيح كما ثبت من حديث ابن عباس عند الدارقطني. قال الحافظ: والصحيح خلافه، وذكر ابن أبي خيثمة عن الحسن أنه ذكر له أنه لما كان عند صلاة الظهر نودي أن الصلاة جامعة ففزع الناس فاجتمعوا إلى نبيهم فصلى بهم الظهر أربع ركعات يؤم جبريل محمد أو يؤم محمد الناس لا يسمعهم فيهن قراءة. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليلة التي أسرى به فيها لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس ولذلك سميت الاولى، فأمر فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى جبريل بالنبي وصلى النبي بالناس، وطول الركعتين الاولتين ثم قصر الباقيتين. وسيأتي للمصنف وغيره في شرح حديث أبي موسى أن صلاة جبريل كانت بمكة مقتصرين على ذلك. قال الحربي: إن الصلاة قبل الاسراء كانت
[ 383 ]
صلاة قبل الغروب وصلاة قبل طلوع الشمس. وقال أبو عمر: قال جماعة من أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن عليه صلاة مفروضة قبل الاسراء إلا ما كان أمر به من صلاة الليل على نحو قيام رمضان من غير توقيت ولا تحديد ركعات معلومات ولا لوقت محصور. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وقامه معه المسلمون نحوا من حول حتى شق عليهم ذلك، فأنزل الله التوبة عنهم والتخفيف في ذلك ونسخه وحطه فضلا منه ورحمة فلم يبق في الصلاة فريضة إلا الخمس. والحديث يدل على أن للصلوات وقتين وقتين إلا المغرب وسيأتي الكلام على ذلك. وعلى أن الصلاة لها أوقات مخصوصة لا تجزي قبلها بالاجماع، وعلى أن ابتداء وقت الظهر الزوال ولا خلاف في ذلك يعتد به، وآخره مصير ظل الشئ مثله. واختلف العلماء هل يخرج وقت الظهر بمصير ظل الشئ مثله أم لا؟ فذهب الهادي ومالك وطائفة من العلماء أنه يدخل وقت العصر ولا يخرج وقت الظهر، وقالوا: يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعات صالحا للظهر والعصر أداء. قال النووي في شرح مسلم: واحتجوا بقوله (ص): فصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شئ مثله، وصلى العصر في اليوم الاول حين صار ظل كل شئ مثله وظاهره اشتراكهما في قدر أربع ركعات، قال: وذهب الشافعي والاكثرون إلى أنه لا اشتراك بين وقت الظهر ووقت العصر، بل متى خرج وقت الظهر بمصير ظل الشئ مثله غير الظل الذي يكون عند الزوال دخل وقت العصر، وإذا دخل وقت العصر لم يبق شئ من وقت الظهر. واحتجوا بحديث ابن عمرو بن العاص عند مسلم مرفوعا بلفظ: وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر الحديث قال: وأجابوا عن حديث جبريل بأن معناه فرغ من الظهر حين صار ظل كل شئ مثله، وشرع في العصر في اليوم الاول حين صار ظل كل شئ مثله فلا اشتراك بينهما، قال: وهذا التأويل متعين للجمع بين الاحاديث، ولانه إذا حمل على الاشتراك يكون آخر وقت الظهر مجهولا، لانه إذا ابتدأ بها حين صار ظل كل شئ مثله لم يعلم متى فرغ منها، وحينئذ لا يحصل بيان حدود الاوقات، وإذا حمل على ذلك التأويل حصل معرفة آخر الوقت فانتظمت الاحاديث على اتفاق. ويؤيد هذا أن إثبات ما عدا الاوقات الخمسة دعوى مفتقرة إلى دليل خالص عن شوائب المعارضة، فالتوقف على المتيقن هو الواجب حتى يقوم ما يلجئ
[ 384 ]
إلى المصير إلى الزيادة عليها. وفي الحديث أيضا ذكر بقية أوقات الصلوات، وسيعقد المصنف لكل واحد منها بابا، وسنتكلم على كل واحد منها في بابه إن شاء الله تعالى. باب تعجيلها وتأخيرها في شدة الحر عن جابر بن سمرة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس رواه أحمد ومسلم وابن ماجه وأبو داود. وفي الباب أيضا عن أنس عند البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وقال: صحيح. وعن خباب عند الشيخين، وعن أبي برزة عندهما أيضا. وعن ابن مسعود عند ابن ماجه وفيه زيد بن جبيرة قال أبو حاتم: ضعيف، وقال البخاري: منكر الحديث. وعن زيد بن ثابت أشار إليه الترمذي. وعن أم سلمة عند الترمذي أيضا. قوله: دحضت الشمس هو بفتح الدال والحاء المهملتين وبعدها ضاد معجمة أي زالت. والحديث يدل على استحباب تقديمها، وإليه ذهب الهادي والقاسم والشافعي والجمهور للاحاديث الواردة في أفضلية أول الوقت، وقد خصه الجمهور بما عدا أيام شدة الحر وقالوا: يستحب الابراد فيها إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج وسيأتي تحقيق ذلك. وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر في أيام الشتاء، وما ندري أما ذهب من النهار أكثر أو ما بقي منه رواه أحمد. وعن أنس بن مالك قال: كان النبي (ص) إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل رواه النسائي. وللبخاري نحوه. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم رواه الجماعة. حديث أنس الاول أخرجه أيضا عبد الرزاق. وفي الباب عن ابن عمر عند البخاري وابن ماجه. وعن أبي موسى عند النسائي، وعن عائشة عند ابن خزيمة. وعن المغيرة عند أحمد وابن ماجه وابن حبان، وفي رواية للخلال: وكان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الابراد وعن أبي سعيد عند البخاري: وعن عمرو بن عبسة عند الطبراني. وعن صفوان عند ابن أبي شيبة والحاكم والبغوي. وعن ابن عباس عند البزار وفيه عمرو بن صهبان وهو ضعيف. وعن عبد الرحمن بن جارية
[ 385 ]
عند الطبراني. وعن عبد الرحمن بن علقمة عند أبي نعيم. قوله: فأبردوا بالصلاة أي أخروها عن ذلك الوقت وادخلوا بها في وقت الابراد، وهو الزمان الذي يتبين فيه انكسار شدة الحر ويوجد فيه برودة جهنم، يقال: أبرد الرجل أي صار في برد النهار. وفيح جهنم شدة حرها وشدة غليانها. قال القاضي عياض: اختلف العلماء في معناه فقال بعضهم: نار جهنم فاحذروه واجتنبوا ضرره، قال: والاول أظهر. وقال النووي: هو الصواب لانه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته، فوجب الحكم بأنه على ظاهره انتهى. ويدل عليه حديث: إن النار اشتكت إلى ربها فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف وهو في الصحيح. وحديث: إن لجهنم نفسين وهو كذلك. والاحاديث تدل على مشروعية الابراد، والامر محمول على الاستحباب وقيل على الوجوب، حكى ذلك القاضي عياض وهو المعنى الحقيقي له. وذهب إلى الاول جماهير العلماء لكنهم خصوا ذلك بأيام شدة الحر كما يشعر بذلك التعليل. قوله: فإن شدة الحر من فيح جهنم ولحديث أنس المذكور في الباب. وظاهر الاحاديث عدم الفرق بين الجماعة والمنفرد، وقال أكثر المالكية: الافضل للمنفرد التعجيل والحق عدم الفرق، لان التأذي بالحر الذي يتسبب عنه ذهاب الخشوع يستوي فيه المنفرد وغيره. وخصه الشافعي بالبلد الحار، وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون المسجد من مكان بعيد، لا إذا كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في ظل فالافضل التعجيل. وظاهر الاحاديث عدم الفرق، وقد ذهب إلى الاخذ بهذا الظاهر أحمد وإسحاق والكوفيون وابن المنذر، ولكن التعليل بقوله: فإن شدة الحر يدل على ما ذكره من التقييد بالبلد الحار. وذهب الهادي والقاسم وغيرهما إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقا، وتمسكوا بحديث جابر بن سمرة المذكور في أول الباب وسائر الروايات المذكورة هنالك، وبأحاديث أفضلية أول الوقت على العموم كحديث أبي ذر عند البخاري ومسلم وغيرهما قال: سألت النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. وبحديث خباب عند مسلم قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا أي لم يعذرنا ولم يزل شكوانا وزاد ابن المنذر والبيهقي: وقال: إذا زالت الشمس فصلوا وتأولوا حديث الابراد بأن معناه صلوا أول الوقت أخذا من برد النهار وهو أوله وهو تعسف برده.
[ 386 ]
قوله: فإن شدة الحر من فيح جهنم. وقوله: فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ويجاب عن ذلك بأن الاحاديث الواردة بتعجيل الظهر وأفضلية أول الوقت عامة أو مطلقة، وحديث الابراد خاص أو مقيد، ولا تعارض بين عام وخاص، ولا بين مطلق ومقيد. وأجيب عن حديث خباب بأنه كما قال الاثرم والطحاوي منسوخ، قال الطحاوي: ويدل عليه حديث المغيرة: كنا نصلي بالهاجرة فقال لنا: أبردوا فبين أن الابراد كان بعد التهجير، وقال آخرون: إن حديث خباب محمول على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا على قدر الابراد، لان الابراد أن يؤخر بحيث يصير للحيطان فئ يمشون فيه ويتناقص الحر. وحمل بعضهم حديث الابراد على ما إذا صار الظل فيئا، وحديث خباب على ما إذا كان الحصى لم يبرد لانه لا يبرد حتى تصفر الشمس، فلذلك رخص في الابراد ولم يرخص في التأخير إلى خروج الوقت، وعلى فرض عدم إمكان الجمع فرواية الخلال السابقة عن المغيرة بلفظ: كان آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الابراد وقد صحح أبو حاتم وأحمد حديث المغيرة وعده البخاري محفوظا من أعظم الادلة الدالة على النسخ كما قاله من قدمنا، ولو نسلم جهل التاريخ وعدم معرفة المتأخر لكانت أحاديث الابراد أرجح لانها في الصحيحين بل في جميع الامهات بطرق متعددة، وحديث خباب في مسلم فقط، ولا شك أن المتفق عليه مقدم وكذا ما جاء من طرق. [ رح ] وعن أبي ذر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أبرد، ثم أراد أن يؤذن فقال له: أبرد حتى رأينا فئ التلول، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة متفق عليه. قوله: فئ التلول قال ابن سيده: الفئ ما كان شمسا فنسخه الظل، والجمع أفياء وفيوء، وفاء الفئ فيئا تحول وتفيأ فيه تظلل، قال ابن قتيبة: يتوهم الناس أن الظل والفئ بمعنى وليس كذلك، بل الظل يكون غدوة وعشية ومن أول النهار إلى آخره، وأما الفئ فلا يكون إلا بعد الزوال، ولا يقال لما قبل الزوال، وإنما قيل لما بعد الزوال فئ لانه ظل فاء من جانب إلى جانب أي رجع، والفئ الرجوع ونسبه النووي في شرح مسلم إلى أهل اللغة. والتلول جمع تل وهو الربوة من التراب المجتمع، والمراد أنه أخر تأخيرا كثيرا حتى صار للتلول فئ وهي منبطحة لا يصير لها فئ في العادة إلا بعد زوال الشمس بكثير. الحديث يدل
[ 387 ]
على مشروعية الابراد وقد تقدم الكلام عليه مستوفى. قال المصنف رحمه الله. وفيه دليل على أن الابراد أولى وإن لم ينتابوا المسجد من بعد لانه أمر به مع اجتماعهم معه انتهى. أشار رحمه الله بهذا إلى رد ما قاله الشافعي وقد قدمنا حكاية ذلك عنه. باب أول وقت العصر وآخره في الاختيار والضرورة قد سبق في حديث بن عباس وجابر في باب وقت الظهر. وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. وفي رواية لمسلم: ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الاول. وفيه: ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الاول. قوله: ثور الشفق هو بالثاء المثلثة أي ثورانه وانتشاره ومعظمه. وفي القاموس: أنه حمرة الشفق الثائرة فيه. قوله: قرن الشمس هو ناحيتها أو أعلاها أو أول شعاعها قاله في القاموس. وقوله: ويسقط قرنها الاول المراد به الناحية كما قاله النووي. والحديث فيه ذكر أوقات الصلوات الخمس، وقد تقدم الكلام في الظهر، وسيأتي الكلام على وقت المغرب والعشاء والفجر كل في بابه. وأما وقت العصر فالحديث يدل على امتداد وقته إلى اصفرار الشمس كما في الرواية الاولى من حديث الباب، وإلى سقوط قرنها أي غروبه كما في الرواية الثانية منه. وحديث: من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر يدل على إدراك بعضها في الوقت مجزئ، وإلى هذا ذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: آخره الاصفرار، وقال الاصطخري: آخره المثلان وبعدها قضاء. والاحاديث ترد عليهم، ولكنه استدل الاصطخري بحديث جبريل السابق وفيه أنه صلى العصر اليوم الاول عند مصير ظل الشئ مثله، واليوم الثاني عند مصير ظل الشئ مثليه وقال بعد ذلك: الوقت ما بين هذين الوقتين وقد أجيب عن ذلك بحمل حديث جبريل على بيان وقت الاختيار لا لاستيعاب وقت الاضطرار والجواز، وهذا الحمل لا بد منه للجمع بين الاحاديث وهو أولى من قول من قال: إن هذه الاحاديث ناسخة لحديث
[ 388 ]
جبريل، لان النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع، وكذلك لا يصار إلى ترجيح. ويؤيد هذا الجمع حديث: تلك صلاة المنافق وسيأتي بعد هذا الحديث، فمن كان معذور كان الوقت في حقه ممتدا إلى الغروب، ومن كان غير معذور كان الوقت له إلى المثلين، وما دامت الشمس بيضاء نقية فإن آخرها إلى الاصفرار، وما بعده كانتصلاته صلاة المنافق المذكورة في الحديث، وأما أول وقت العصر فذهب العترة والجمهور أنه مصير ظل الشئ مثله لما تقدم في حديث جبريل، وقال الشافعي: الزيادة على المثل. وقال أبو حنيفة: المثلان وهو فاسد ترده الاحاديث الصحيحة. قال النووي في شرح مسلم قال أصحابنا: للعصر خمسة أوقات: وقت فضيلة واختيار وجواز بلا كراهة وجواز مع كراهة ووقت عذر. فأما وقت الفضيلة فأول وقتها، ووقت الاختيار يمتد إلى أن يصير ظل الشئ مثليه. ووقت الجواز إلى الاصفرار، ووقت الجواز مع الكراهة حال الاصفرار إلى الغروب، ووقت العذر وهو وقت الظهر في حق من يجمع بين العصر والظهر لسفر أو مطر، ويكون العصر في هذه الاوقات الخمسة أداء، فإذا فاتت كلها بغروب الشمس صارت قضاء انتهى. قال المصنف رحمه الله: وفيه دليل على أن للمغرب وقتين وأن الشفق الحمرة، وأن وقت الظهر يعاقبه وقت العصر، وأن تأخير العشاء إلى نصف الليل جائز انتهى. قوله: وفيه دليل على أن للمغرب وقتين استدل على ذلك بقوله في الحديث: ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق قال النووي في شرح مسلم. وذهب المحققون من أصحابنا إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها ما لم يغب الشفق، وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك، ولا يأتم بتأخيرها عن أول الوقت، وهذا هو الصحيح أو الصواب الذي لا يجو غيره. والجواب عن حديث جبريل حين صلى المغرب في اليومين في وقت واحد من ثلاثة أوجه: أحدها أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز، وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر. والثاني أنه متقدم في أول الامر بمكة وهذه الاحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في أخر الامر بالمدينة فوجب اعتمادها. والثالث أن هذه الاحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها انتهى. وقوله: وإن الشفق الحمرة قد أخرج ابن عساكر في غرائب مالك والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة ولكنه صحيح البيهقي وقفه، وقد ذكر نحوه الحاكم، وسيذكره
[ 389 ]
المصنف في باب وقت صلاة العشاء. وقوله: وإن تأخير العشاء إلى نصف الليل الخ سيأتي تحقيق ذلك في باب وقت صلاة العشاء. وعن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. الحديث رواه أبو داود بتكرير قوله: تلك صلاة المنافق. قوله: بين قرني الشيطان اختلفوا فيه فقيل هو على حقيقته وظاهر لفظه، والمراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها وكذلك عند طلوعها، لان الكفار يسجدون لها حينئذ فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له، وتخيل لنفسه ولاعوانه أنهم إنما يسجدون له. وقيل: هو على المجاز، والمراد بقرنه وقرنيه علوه وارتفاعه وسلطانه وغلبة أعوانه وسجود مطيعيه من الكفار للشمس قاله النووي. وقال الخطابي: هو تمثيل ومعناه أن تأخيرها بتزيين الشيطان ومدافعته لهم عن تعجيلها كمدافعة ذوات القرون لما تدفعه. قوله: فنقرها المراد بالنقر سرعة الحركات كنقر الطائر، قال الشاعر: لا أذوق النوم إلا غرارا * مثل حسو الطير ماء الثماد وفي الحديث دليل على كراهة تأخير الصلاة إلى وقت الاصفرار، والتصريح بذم من أخر صلاة العصر بلا عذر، والحكم على صلاته بأنها صلاة المنافق، ولا أردع لذوي الايمان وأفزع لقلوب أهل العرفان من هذا. وقوله: يجلس يرقب الشمس فيه إشارة إلى أن الذم متوجه إلى من لا عذر له. وقوله: فنقرها أربعا فيه تصريح بذم من صلى مسرعا بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والاذكار، وقد نقل بعضهم الاتفاق على عدم جواز التأخير إلى هذا الوقت لمن لا عذر له، وهذا من أوضح الادلة القاضية بصحة الجمع بين الاحاديث الذي ذكرناه في الحديث الذي قبل هذا وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا، ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس والقائل يقول: انتصف النهار أو لم وكان أعلم منهم، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام المغرب حين وقبت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أخر الفجر
[ 390 ]
من الغد حتى انصرف منها، والقائل يقول: طلعت الشمس أو كادت، وأخر الظهر حتى كان قريبا من وق‍ ت العصر بالامس، ثم أخر العصر فانصرف منها والقائل يقول: احمرت الشمس، ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق. وفي لفظ: فصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وأخر العشاء حتى كان ثلث الليل الاول، ثم أصبح فدعا السائل فقال: الوقت فيما بين هذين رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وروى الجماعة إلا البخاري نحوه من حديث بريدة الاسلمي. حديث بريدة صححه الترمذي ولفظه: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن وقت الصلاة فقال: صل معنا هذين الوقتين، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حيث غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر وأنعم أن يبرد بها وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: وقت صلاتكم بين ما رأيتم. قوله: أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا أي لم يرد جوابا ببيان الاوقات باللفظ بل قال له: صل معنا لتعرف ذلك ويحصل لك البيان بالفعل، كما وقع في حديث بريدة أنه قال له: صل معنا هذين اليومين وليس المراد أنه لم يجب عليه بالقول ولا بالفعل كما هو الظاهر من حديث أبي موسى، لان المعلوم من أحواله أنه كان يجيب من سأله عما يحتاج إليه، فلا بد من تأويل ما في حديث أبي موسى من قوله: فلم يرد عليه شيئا بما ذكرنا. وقد ذكر معنى ذل‍ ك النووي. قوله: انشق الفجر أي طلع. وقوله: والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا بيان لذلك الوقت. قوله: وقبت الشمس هو بقاف فباء موحدة فتاء مثناة، يقال: وقبت الشمس وقبا ووقوبا غربت ذكر معناه في القاموس. وفي الحديث بيان مواقيت الصلاة، وفيه تأخير وقت العصر إلى قريب احمرار الشمس، وفيه أنه أخر العشاء حتى كان ثلث الليل. وفي حديث عبد الله بن عمرو السابق أنه أخرها إلى نصف الليل وهو بيان لآخر وقت الاختيار، وسيأتي
[ 391 ]
تحقيق ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: وهذا الحديث يعني حديث الباب في إثبات الوقتين للمغرب، وجواز تأخير العصر ما لم تصفر الشمس أولى من حديث جبريل عليه السلام لانه كان بمكة في أول الامر وهذا متأخر ومتضمن زيادة فكان أولى، وفيه من العلم جواز تأخير البيان عن وقت السؤال انتهى. وهكذا صرح البيهقي والدارقطني وغيرهما أن صلاة جبريل كانت بمكة وقصة المسألة بالمدينة، وصرحوا بأن الوقت الآخر لصلاة المغرب رخصة، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في شرح حديث جبريل وفيه زيادة أن ذلك في صبيحة ليلة الاسراء. وقوله: الوقت فيما بين هذين الوقتين ينفي بمفهومه وقتية ما عداه ولكن حديث: من أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس ومن الفجر ركعة قبل طلوع الشمس وغيره منطوقات وهي أرجح من المفهوم، ولا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع، وقد أمكن بما عرفت في شرح حديث عبد الله بن عمرو ولو صرت إلى الترجيح لكان حديث أنس المذكور قبل هذا مانعا من التمسك بتلك المنطوقات والمصير إلى الجمع لا بد منه. باب ما جاء في تعجيلها وتأكيده مع الغيم عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة رواه الجماعة إلا الترمذي. وللبخاري وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه. وكذلك لاحمد وأبي داود معنى ذلك. قوله: فيذهب في رواية لمسلم: ثم يذهب الذاهب إلى قباء وفي رواية له أيضا: ثم يخرج الانسان إلى بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون. قوله: والشمس مرتفعة حية قال الخطابي: حياتها وجود حرها. قال أبو داود في سننه بإسناده إلى خيثمة أنه قال حياتها أن تجد حرها. قوله: إلى العوالي هي القرى التي حول المدينة، أبعدها على ثمانية أميال من المدينة، وأقربها ميلان، وبعضها على ثلاثة أميال، وبه فسرها مالك، كذا في شرح مسلم للنووي. والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة العصر أول وقتها، لانه لا يمكن أن يذهب بعد صلاة العصر ميلين وثلاثة والشمس لم تتغير بصفرة
[ 392 ]
ونحوها إلا إذا صلى العصر حين صار ظل الشئ مثله. قال النووي: ولا يكاد يحصل هذا إلا في الايام الطويلة، وهو دليل لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور من العترة وغيرهم القائلين بأن أول وقت العصر إذا صار ظل كل شئ مثله، وفيه رد لمذهب أبي حنيفة فإنه قال: إن وقت العصر لا يدخل حتى يصير ظل كل شئ مثليه، وقد تقدم ذكر ذلك. وعن أنس قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العصر فأتاه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله إنا نريد أن ننحر جزورا لنا وإنا نحب أن تحضرها، قال: نعم فانطلق وانطلقنا معه فوجدنا الجزور لم تنحر فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا قبل أن تغيب الشمس رواه مسلم. وعن رافع بن خديج. قال: كنا نصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم ننحر الجزور فنقسم عشر قسم ثم نطبخ فنأكل لحمه نضيجا قبل مغيب الشمس متفق عليه. قوله: ننحر جزورا لنا في القاموس: الجزور البعير أو خاص بالناقة المجزورة، الجمع جزائر وجزر وجزرات. والحديثان يدلان على مشروعية المبادرة بصلاة العصر، فإن نحر الجزور ثم قسمته ثم طبخه ثم أكله نضيجا ثم الفراغ من ذلك قبل غروب الشمس من أعظم المشعرات بالتبكير بصلاة العصر فهو من حجج الجمهور. ومن ذلك حديث ابن عباس وجابر في صلاة جبريل وغير ذلك، وكلها ترد ما قاله أبو حنيفة وقد خالفه الناس في ذلك، ومن جملة المخالفين له أصحاب وقد تقدم ذكر مذهبه. وعن بريدة الاسلمي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة فقال: بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من فاته صلاة العصر حبط عمله. رواه أحمد وابن ماجه. الحديث في سنن ابن ماجه رجاله رجال الصحيح، ولكنه وهم فيه الاوزاعي فجعل مكان أبي المليح أبا المهاجر. وقد أخرجه أيضا البخاري والنسائي عن أبي المليح عن بريدة بنحوه، والامر بالتبكير تشهد له الاحاديث السابقة، وأما كون فوت صلاة العصر سببا لاحباط العمل فقد أخرج البخاري في صحيحه: من ترك صلاة العصر حبط عمله وأما تقييد التبكير بالغيم فلانه مظنة التباس الوقت، فإذا وقع التراخي فربما خرج الوقت أو اصفرت الشمس قبل فعل الصلاة، ولهذه الزيادة ترجم المصنف الباب بقوله: وتأكيده في الغيم. والحديث من الادلة الدالة على استحباب التبكير لكن مقيدا بذلك القيد، وعلى عظم ذنب من فاتته صلاة العصر، وسيأتي لذلك مزيد بيان.
[ 393 ]
باب بيان أنها الوسطى وما ورد في ذلك في غيرها عن علي عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الاحزاب: ملا الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس متفق عليه. ولمسلم وأحمد وأبي داود: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر. وعن علي عليه السلام قال: كنا نراها الفجر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هي صلاة العصر يعني صلاة الوسطى رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه. هذه الرواية الاخيرة رواها ابن مهدي قال: حدثنا سفيان عن عاصم عن زر قال قلت لعبيدة: سل عليا عليه السلام عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الاحزاب: شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر قال ابن سيد الناس: وقد روي ذلك عنه من غير وجه. والحديث يدل على أن الصلاة الوسطى هي العصر، وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال بعد اتفاقهم على أنها آكد الصلوات. (القول الاول): أنها العصر وإليه ذهب علي بن أبي طالب عليه السلام وأبو أيوب وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وأبي بن كعب وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وحفصة وأم سلمة وعبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي والكلبي وقتادة والضحاك ومقاتل وأبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر، نقله عن هؤلاء النووي وابن سيد الناس في شرح الترمذي وغيرهما، ونقله الترمذي عن أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم. ورواه المهدي في البحر عن علي عليه السلام، والمؤيد بالله وأبي ثور وأبي حنيفة. (القول الثاني): أنها الظهر نقله الواحدي عن زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وعائشة، ونقله ابن المنذر عن عبد الله بن شداد، ونقله المهدي في البحر عن علي عليه السلام، والهادي والقاسم وأبي العباس وأبي طالب وهو أيضا مروي عن أبي حنيفة. (القول الثالث): أنها الصبح وهو مذهب الشافعي صرح به في كتبه، ونقله النووي وابن سيد الناس عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباس وابن عمر وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس ومالك بن أنس وجمهور أصحاب الشافعي، وقال الماوردي
[ 394 ]
من أصحاب الشافعي أن مذهبه أنها العصر لصحة الاحاديث فيه، قال: وإنما نص على أنها الصبح لانها لم تبلغه الاحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه اتباع الحديث، ورواه أيضا في البحر عن علي عليه السلام. (القول الرابع): أنها المغرب وإليه ذهب قبيصة بن ذؤيب. (القول الخامس): أنها العشاء نسبه ابن سيد الناس وغيره إلى البعض من العلماء، وصرح المهدي في البحر بأنه مذهب الامامية. (القول السادس): أنها الجمعة في يوم الجمعة وفي سائر الايام الظهر، حكاه ابن مقسم في تفسيره ونقله القاضي عياض عن البعض. (القول السابع): أنها إحدى الخمس مبهمة، رواه ابن سيد الناس عن زيد بن ثابت والربيع بن خيثم وسعيد بن المسيب ونافع وشريح وبعض العلماء. (القول الثامن): أنها جميع الصلوات الخمس، حكاه القاضي والنووي، ورواه ابن سيد الناس عن البعض. (القول التاسع): أنها صلاتان العشاء والصبح، ذكره ابن مقسم في تفسيره أيضا ونسبه إلى أبي الدرداء. (القول العاشر): أنها الصبح والعصر، وذهب إلى ذلك أبو بكر الابهري. (القول الحادي عشر): أنها الجماعة، حكي ذلك عن الامام أبي الحسن الماوردي. (القول الثاني عشر): أنها صلاة الخوف، ذكره الدمياطي وقال: حكاه لنا من يوثق به من أهل العلم. (القول الثالث عشر): أنها الوتر، وإليه ذهب أبو الحسن علي بن محمد السخاوي المقري. (القول الرابع عشر): أنها صلاة عيد الاضحى، ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي والدمياطي. (القول الخامس عشر): أنها صلاة عيد الفطر، حكاه الدمياطي. (القول السادس عشر): أنها الجمعة فقط ذكره النووي. (القول السابع عشر): أنها صلاة الضحى، رواه الدمياطي عن بعض شيوخه ثم تردد في الرواية. احتج أهل القول الاول بالاحاديث الصحيحة الصريحة المتفق عليها، ومنها حديث الباب وما بعده من الاحاديث المذكورة الآتية، وهو المذهب الحق الذي يتعين المصير إليه، ولا يرتاب في صحته من أنصف من نفسه واطرح التقليد والعصبية وجود النظر إلى الادلة، ولم يعتذر عن أدلة هذا القول أهل الاقوال الآخرة بشئ يعتد به إلا حديث عائشة أنها أمرت أبا يونس يكتب لها مصحفا، الحديث سيأتي ويأتي الجواب عن هذا الاعتذار. وأما اعتذار من اعتذر عنه بأن الاعتبار بالوسطى من حيث العدد فهو عذر بارد ونصب لنظر فاسد في مقابلة النصوص، لان الوسطى لا تتعين أن تكون من حيث العدد لجواز أن تكون من حيث الفضل على أنه لو سلم أن المراد بها الوسطى من حيث
[ 395 ]
العدد لم يتعين بذلك غير العصر من سائر الصلوات، إذ لا بد أن يتعين الابتداء ليعرف الوسط ولا دليل على ذلك، ولو فرضنا وجود دليل يرشد إلى الابتداء لم ينتهض لمعارضة الاحاديث الصحيحة المتفق عليها المتضمنة لاخبار الصادق المصدوق أن الوسطى هي العصر، فكيف يليق بالمتدين أن يعول على مسلك النظر المبني على شفا جرف هار ليتحصل له به معرفة الصلاة الوسطى؟ وهذه أقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنادي ببيان ذلك. واحتج أهل القول الثاني بأن الظهر متوسطة بين نهاريتين وبأنها في وسط النهار، ونصب هذا الدليل في مقابلة الاحاديث الصحيحة من الغرائب التي لا تقع لمنصف ولا متيقظ، واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) * (هود: 114) فلم يذكرها ثم أمر بها حيث قال: * (لدلوك الشمس) * (الاسراء: 78) وأفردها في الامر بالمحافظة عليها بقوله: * (والصلاة الوسطى) * (البقرة: 228) وهذا الدليل أيضا من السقوط بمحل لا يجهل، نعم أحسن ما يحتج به لهم حديث زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وسيأتيان وسنذكر الجواب عليهما. واحتج أهل القول الثالث بأن الصبح تأتي وقت مشقة بسبب برد الشتاء وطيب النوم في الصيف والنعاس وفتور الاعضاء وغفلة الناس، وبورود الاخبار الصحيحة في تأكيد أمرها، فخصت بالمحافظة لكونها معرضة للضياع بخلاف غيرها، وهذه الحجة ليست بشئ، ولكن الاولى الاحتجاج لها بما رواه النسائي عن ابن عباس قال: أدلج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عرس فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها فلم يصل حتى ارتفعت الشمس فصلى وهي صلاة الوسطى ويمكن الجواب عن ذلك من وجهين: الاول أن ما روي من قوله في هذا الخبر وهي صلاة الوسطى يحتمل أن يكون من المدرج وليس من قول ابن عباس، ويحتمل أن يكون من قوله، وقد أخرج عنه أبو نعيم أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر وهذا صريح لا يتطرق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى الاول فلا يعارضه. الوجه الثاني ما تقرر من القاعدة أن الاعتبار عند مخالفة الراوي روايته بما روى لا بما رأى، فقد روى عنه أحمد في مسنده قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدوا فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال: اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى املا بيوتهم نارا أو قبورهم نارا وذكر أبو محمد بن الفرس في كتابه في أحكام القرآن أن ابن عباس قرأ * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * (البقرة: 238) صلاة العصر على البدل، على أن ابن عباس لم يرفع تلك المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل قالها من قبل نفسه وقوله ليس بحجة. واحتج أهل القول الرابع
[ 396 ]
بأن المغرب سبقت عليها الظهر والعصر وتأخرت عنها العشاء والصبح. واحتج أهل القول الخامس بأنها العشاء بمثل ما احتج أهل القول الرابع. واحتج أهل القول السادس أن الجمعة قد ورد الترغيب في المحافظة عليها، قال النووي: وهذا ضعيف لان المفهوم من الايصاء بالمحافظة عليها إنما كان لانها معرضة للضياع وهذا لا يليق بالجمعة، فإن الناس يحافظون عليها في العادة أكثر من غيرها لانها تأتي في الاسبوع مرة بخلاف غيرها. واحتج أهل القول السابع على أنها مبهمة بما روي أن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال: حافظ على الصلوات تصبها فهي مخبوءة في جميع الصلوات، خب ء ساعة الاجابة في ساعات يوم الجمعة، وليلة القدر في ليالي شهر رمضان، والاسم الاعظم في جميع الاسماء والكبائر في جملة الذنو ب. وهذا قول صحابي ليس بحجة، ولو فرض أن له حكم الرفع لم ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما. واحتج أهل القول الثامن بأن ذلك أبعث على المحافظة عليها أيضا، قال النووي: وهذا ضعيف أو غلط، لان العرب لا تذكر الشئ مفصلا ثم تجمله، وإنما تذكره مجملا ثم تفصله، أو تفصل بعضه تنبيها على فضيلته. واحتج أهل القول التاسع بقوله (ص): لو يعلمون ما في العشاء والصبح لاتوهما ولو حبوا. وقوله: من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلاها مع الصبح في جماعة كان كقيام ليلة وهذا الاستدلال مع كونه لا يثبت المطلوب معارض بما ورد في العصر وغيرها من الترغيب والترهيب. واحتج أهل القول العاشر بمثل ما احتج به للتاسع ورد بمثل ما رد. واحتج أهل القول الحادي عشر بما ورد من الترغيب في المحافظة على الجماعة، ورد بأن ذلك لا يستلزم كونها الوسطى، وعورض بما ورد في سائر الصلوات من الفرائض وغيرها. واحتج أهل القول الثاني عشر بقول الله تعالى عقيب قوله: * (حافظوا على الصلوات) * (البقرة: 238) * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * (البقرة: 239) وذكروا وجوها للاستدلال كلها مردودة. واحتج أهل القول الثالث عشر بأن المعطوف غير المعطوف عليه، فالصلاة الوسطى غير الصلوات الخمس، وقد وردت الاحاديث بفضل الوتر فتعينت والنص الصريح الصحيح يرده. واحتج أهل القول الرابع عشر بمثل ما احتج به للذي قبله ورد بمثل ما رد. واحتج أهل القول الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر بمثل ذلك ورد بالنص والمعارضة. إذا تقرر لك هذا فاعلم أنه ليس في شئ من حجج هذه الاقوال ما يعارض حجج القول الاول معارضة يعتد بها في الظاهر إلا ما سيأتي في الكتاب من الاحتجاج لاهل القول الثاني، وستعرف
[ 397 ]
عدم صلاحيته للتمسك به. وعن ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملا الله أجوافهم وقبورهم نارا، أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا رواه أحمد ومسلم وابن ماجه. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله (ص): صلاة الوسطى صلاة العصر رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. [ رح ] وعن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال الصلاة الوسطى صلاة العصر رواه أحمد والترمذي وصححه. وفي رواية لاحمد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وسماها لنا أنها صلاة العصر. حديث ابن مسعود الثاني حديث صحيح أخرجه مسلم وغيره، وحديث سمرة حسنه الترمذي في كتاب الصلاة من سننه وصححه في التفسير ولكنه من رواية الحسن عن سمرة، وقد اختلف في صحة سماعه منه فقال شعبة: لم يسمع منه شيئا. وقيل: سمع منه حديث العقيقة. وقال البخاري قال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، ومن أثبت مقدم على من نفى. ورواية أحمد ذكرها الحافظ ابن سيد الناس في شرح الترمذي ولم يتكلم عليها وما في الصحيحين وغيرهما يشهد لها. وفي الباب عن عمر عند النسائي والترمذي وقال: ليس بإسناده بأس. وعن أبي هريرة عند الطحاوي والدمياطي وأشار إليه الترمذي، وعن أبي هاشم بن عتبة عند الطحاوي وأشار إليه الترمذي أيضا، وهذه الاحاديث مصرحة بأن الصلاة الوسطى صلاة العصر، فهي من حجج أهل القول الاول الذي أسلفناه، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك. قوله: عن صلاة العصر هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم وظاهره أنه لم يفت غيرها، وفي الموطأ أنها الظهر والعصر، وفي الترمذي والنسائي بإسناد لا بأس به من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء ومثله أخرج أحمد والنسائي، وأشار إليه الترمذي من حديث أبي سعيد. وقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من رجح ما في الصحيحين كابن العربي، ومنهم من جمع بين الاحاديث في ذلك بأن الخندق كانت وقعته
[ 398 ]
أياما، فكان ذلك كله في أوقات مختلفة في تلك الايام وهذا أولى من الاول، لان حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه وهذا إسناد صحيح جليل. وأيضا لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع، على أن الزيادة مقبولة بالاجماع إذا وقعت غير منافية للمزيد. قوله: حتى احمرت الشمس أو اصفرت وفي بعض روايات الصحيح: حتى غابت قيل: إن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف، قال العلماء: يحتمل أنه أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب في النسيان الاشتغال بالعدو، وكان هذا عذرا قبل نزول صلاة الخوف على حسب الاحوال، وسيأتي البحث عن ذلك. وعن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر، فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله، فنزلت: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، فقال رجل هي، إذا صلاة العصر، فقال: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله والله أعلم رواه أحمد ومسلم. أخرجه مسلم من طريق شقيق بن عقبة عن البراء، ولي‍ س له في صحيحه عن شقيق غير هذا الحديث، وفيه متمسك لمن قال: إن الصلاة الوسطى هي العصر بقرينة اللفظ المنسوخ، وإن لم يكن صريحا في المطلوب، لانه لا يجب أن يكون معنى اللفظ الناسخ معنى اللفظ المنسوخ، وربما تمسك به من يرى أنها غير العصر قائلا: لو كان المراد باللفظ الناسخ معنى اللفظ المنسوخ، لم يكن للنسخ فائدة، فالعدول إلى لفظ الوسطى ليس إلا لقصد الابهام، ويجاب عنه بأنه أرشد إلى أن المراد بالناسخ المبهم نفس المنسوخ المعين ما في الباب من الادلة الصحيحة. قال المصنف رحمه الله: وهو دليل على كونها العصر لانه خصها ونص عليها في الامر بالمحافظة، ثم جاء الناسخ في التلاوة متيقنا، وهو في المعنى مشكوك فيه فيستصحب المتيقن السابق، وهكذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعظيم أمر فواتها تخصيصا، فروى عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله رواه الجماعة انتهى. قوله: أهله وماله روي بنصب اللامين ورفعهما، والنصب هو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور على أنه مفعول ثان، ومن رفع فعلى ما لم يسم فاعله، ومعناه انتزع منه أهله وماله، وهذا تفسير مالك بن أنس. وأما على رواية النصب فقال الخطابي وغيره معناه نقص هو أهله وماله
[ 399 ]
وسلبهم فبقي بلا أهل ولا مال، فليحذر من تفويتها كحذره من ذهاب أهله وماله. وقال أبو عمر بن عبد البر: معناه عند أهل اللغة والفقه أنه كالذي يصاب بأهله وماله إصابة يطلب بها وترا، والوتر الجناية التي يطلب ثأرها فيجتمع عليه غم المصيبة وغم مقاساة طلب الثأر. وعن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين، قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. وفي الباب عن حفصة عند مالك في الموطأ قال عمرو بن رافع: إنه كان يكتب لها مصحفا فقالت له إذا انتهيت إلى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فآذني، فأذنتها فقالت اكتب: والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين. استدل بالحديث من قال: إن الصلاة الوسطى غير صلاة العصر لان العطف يقتضي المغايرة، وهو راجع إلى الخلاف الثابت في الاصول في القراءة الشاذة هل تنزل منزلة أخبار الآحاد فتكون حجة كما ذهبت إليه الحنفية وغيرهم، أم لا تكون حجة لان ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر، كما ذهبت إلى ذلك الشافعية والراجح الاول. وقد غلط من استدل من الشافعية بحديث عائشة وحفصة على أن هذه الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر، لما عرفت من أن مذهبهم في الاصول يأبى هذا الاستدلال، وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث من طرف القائلين بأنها العصر بوجهين: الاول أن تكون الواو زائدة في ذلك على حد زيادتها في قوله تعالى: * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين) * (الانعام: 75) وقوله: * (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست) * (الانعام: 105) وقوله: * (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) * (الاحزاب: 40) وقوله: * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) * (الحج: 25) حكي عن الخليل أنه قال يصدون والواو مقحمة زائدة. ومثله في القرآن كثير، ومنه قول امرئ القيس: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى * بنا بطن خبت ذي حقاق عقنقل
[ 400 ]
وقول الآخر: فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن * إلا كلمة حالم بخيال الثاني: أن لا تكون زائدة وتكون من باب عطف إحدى الصفتين على الاخرى وهما لشئ واحد نحو قوله: [ شع ] إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم [ / شع ] وقريب منه قول الآخر: [ شع ] أكر عليهم دعلجا ولبانة * إذا ما اشتكى وقع الرماح تحمحما [ / شع ] فعطف لبانة وهو صدره على دعلج وهو اسم فرسه، ومعلوم أن الفرس لا يكر إلا ومعه صدره لما كان الصدر يلتقي به ويقع به المصادمة. وقال مكي بن أبي طالب في تفسيره: وليست هذه الزيادة توجب أن تكون الوسطى غير العصر لان سيبويه حكى: مررت بأخيك وصاحبك، والصاحب هو الاخ فكذلك الوسطى هي العصر وإن عطفت بالواو انتهى. وتغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى في جواز العطف. ومنه قول أبي داود الايادي: [ شع ] سلط الموت والمنون عليهم * فلهم في صد المقابر هام [ / شع ] وقول عدي بن زيد العبادي: [ شع ] وقدمت الاديم لراهشيه * فألقى قولها كذبا ومينا [ / شع ] وقول عنترة: [ شع ] حبيت من طلل تقادم عهده * أقوى وأفقر بعد أم الهيثم [ / شع ] وقول الآخر: [ شع ] ألا حبذا هند وأرضى بها هند * وهند أتى من دونها النأي والبعد [ / شع ] وهذا التأويل لا بد منه لوقوع هذه القراءة المحتملة في مقابلة تلك النصوص الصحيحة الصريحة. وقد روي عن السائب بن يزيد أنه تلا هذه الآية: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) * وهذا التأويل المذكور يجري في حديث عائشة وحفصة، ويختص حديث حفصة بما روى يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عمرو بن رافع قال: كان مكتوبا في مصحف حفصة بنت عمر: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر ذكر هذه الرواية والرواية السابقة عن
[ 401 ]
السائب ابن سيد الناس في شرح الترمذي. قال المصنف رحمه الله تعالى بعد سياق حديث عائشة ما لفظه: وهذا يتوجه منه كون الوسطى العصر، لان تسميتها في الحث على المحافظة دليل تأكدها وتكون الواو فيه زائدة كقوله: * (آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء) * (الانبياء: 48) أي ضياء. وقوله: * (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه) * (الصافات: 103) أي ناديناه إلى نظائرها انتهى. [ رح ] وعن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها فنزلت * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين رواه أحمد وأبو داود. وعن أسامة بن زيد في الصلاة الوسطى قال: هي الظهر إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الظهر بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فأنزل الله: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا الله قانتين) * رواه أحمد. الحديث الاول سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه البخاري في التاريخ والنسائي بإسناد رجاله ثقات. وأخرج نحو ذلك في الموطأ والترمذي عن زيد أيضا والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي وابن منيع وابن جرير والضياء في المختارة، ورجال إسناده في سنن النسائي ثقات. قوله: الهجير قال في القاموس: الهجيرة والهجير والهاجرة نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو من عند زوالها إلى العصر، لان الناس يسكنون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا لشدة الحر. والاثر إن استدل بهما من قال إن الصلاة الوسطى هي الظهر، وأنت خبير بأن مجرد كون صلاة الظهر كانت شديدة على الصحابة لا يستلزم أن تكون الآية نازلة فيها، غاية ما في ذلك أن المناسب أن تكون الوسطى هي الظهر، ومثل هذا لا يعارض به تلك النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة قد قدمنا لك منها جملة نافعة، وعلى فرض أن قول هذين الصحابين تصريح ببيان سبب النزول لا إبداء مناسبة، فلا يشك من له أدنى إلمام بعلوم الاستدلال أن ذلك لا ينتهض لمعارضة ما سلف على أنه يعارض المروي عن زيد بن ثابت، هذا ما قدمنا عنه في شرح حديث علي فراجعه، ولعلك إذا أمعنت النظر فيما حررناه في هذا الباب لا تشك بعده أن الوسطى هي العصر: [ شع ] فكن رجلا رجله في الثرى وهامة همته في الثريا
[ 402 ]
[ / شع ] قال المصنف رحمه الله بعد أن ساق الاثرين ما لفظه: وقد احتج بهما من يرى تعجيل الظهر في شدة الحر، انتهى. [ رم ] باب وقت صلاة المغرب عن سلمة بن الاكوع: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب رواه الجماعة إلا النسائي. وفي الباب عن جابر عند أحمد، وعن زيد بن خالد عند الطبراني، وعن أنس عند أحمد وأبي داود، وعن رافع بن خديج عند البخاري ومسلم، وعن أبي أيوب عند أحمد وأبي داود والحاكم، وعن أم حبيبة أشار إليه الترمذي، وعن العباس بن عبد المطلب عند ابن ماجة، قال الترمذي: وحديث العباس قد روي موقوفا وهو أصح، وعن أبي بن كعب ذكره ابن أبي حاتم في العلل، وعن السائب بن يزيد عند أحمد، وعن رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند النسائي والبغوي في معجمه. قوله: وتوارت بالحجاب وقع في صحيح البخاري: إذا توارت بالحجاب ولم يجر للشمس ذكر إحالة على فهم السامع وما يعطيه قوة الكلام وهو تفسير للجملة الاولى، أعني قوله: إذا غربت الشمس. والحديث يدل على أن وقت المغرب يدخل عند غروب الشمس وهو مجمع عليه، وأن المسارعة بالصلاة في أول وقتها مشروعة. وقد اختلف السلف فيها هل هي ذات وقت أو وقتين؟ فقال الشافعي: إنه ليس لها إلا وقت واحد وهو أول الوقت، هذا هو الذي نص عليه في كتبه القديمة والجديدة، ونقل عنه أبو ثور أن لها وقتين، الثاني منهما ينتهي إلى مغيب الشفق، قال الزعفراني: وأنكر هذا القول جمهور الاصحاب، ثم اختلف أصحاب الشافعي في المسألة على طريقين: أحدهما القطع بأن لها وقتا فقط. والثاني على قولين: أحدهما هذا، والثاني يمتد إلى مغيب الشفق، وله أن يبدأ بالصلاة في كل وقت من هذا الزمان. قال النووي وهو الصحيح: وقد نقل أبو عيسى الترمذي عن العلماء كافة من الصحابة فمن بعدهم كراهة تأخير المغرب، وتمسك القائل بأن لها وقتا واحدا بحديث جبريل السابق، وقد ذكرنا كيفية الجمع بينه وبين الاحاديث القاضية بأن للمغرب وقتين في باب أول وقت العصر. وقد اختلف العلماء
[ 403 ]
بعد اتفاقهم على أن أول وقت المغرب غروب الشمس في العلامة التي يعرف بها الغروب، فقيل بسقوط قرص الشمس بكماله، وهذا إنما يتم في الصحراء، وأما في العمران فلا. وقيل: برؤية الكوكب الليلي وبه قالت القاسمية واحتجوا بقوله: حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم أخرجه مسلم والنسائي من حديث أبي بصرة. وقيل: بل بالاظلام وإليه ذهب زيد بن علي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى والامام يحيى لحديث: إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم متفق عليه من حديث ابن عمر وعبد الله بن أبي أوفى. ولما في حديث جبريل من رواية ابن عباس بلفظ: فصلى بي حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ولحديث الباب وغير ذلك. وأجاب صاحب البحر عن هذه الادلة بأنها مطلقة، وحديث: حتى يطلع الشاهد مقيد ورد بأنه ليس من المطلق والمقيد، وغايته أن يكون طلوع الشاهد أحد أمارات غروب الشمس، على أنه قد قيل إن قوله والشاهد النجم مدرج، فإن صح ذلك لم يبعد أن يكون المراد بالشاهد ظلمة الليل، ويؤيد ذلك حديث السائب بن يزيد عند أحمد والطبراني مرفوعا بلفظ: لا تزال أمتي على الفطرة ما صلوا المغرب قبل طلوع النجم وحديث أبي أيوب مرفوعا: بادروا بصلاة المغرب قبل طلوع النجم وحديث أنس ورافع بن خديج قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نرمي فيرى أحدنا موقع نبله وأما آخر وقت المغرب فذهب الهادي والقاسم وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود إلى أن آخره ذهاب الشفق الاحمر لحديث جبريل وحديث ابن عمرو بن العاص وقد مرا. وقال مالك وأبو حنيفة: إنه ممتد إلى الفجر وهو أحد قولي الناصر، وقد سبق ذكر ما ذهب إليه الشافعي. وعن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا الحاكم في المستدرك. وفي إسناده محمد بن إسحاق ولكنه صرح بالتحديث، وفي الباب عن العباس بن عبد المطلب عند ابن ماجه والحاكم وابن خزيمة في صحيحه بلفظ: لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم قال محمد بن يحيى: اضطرب الناس في هذا الحديث ببغداد فذهبت أنا وأبو بكر الاعين إلى العوام بن عباد بن العوام فأخرج إلينا أصل أبيه فإذا الحديث فيه.
[ 404 ]
وأخرجه أبو بكر البزار من حديث إبراهيم بن موسى عن عباد بن العوام بسنده ثم قال: لا يعلمه يروي يعني عن العباس إلا من هذا الوجه، ورواه غير واحد عن عمر بن إبراهيم عن قتادة عن الحسن مرسلا، قال: الترمذي: وحديث العباس وقد روي عنه موقوفا وهو أصح. قال ابن سيد الناس: ومراد البزار بالمرسل هنا الموقوف لانه متصل الاسناد إلى العباس، وذكر الخلال بعد إيراد هذا الحديث قال أبو عبد الله: هذا حديث منكر. والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة المغرب وكراهة تأخيرها إلى اشتباك النجوم، وقد عكست الروافض القضية فجعلت تأخير صلاة المغرب إلى اشتباك النجوم مستحبا والحديث يرده. قال النووي في شرح مسلم: إن تعجيل المغرب عقيب غروب الشمس مجمع عليه، قال: وقد حكي عن الشيعة فيه شئ لا التفات إليه ولا أصل له، وأما الاحاديث الواردة في تأخير المغرب إلى قرب سقوط الشفق فكانت لبيان جواز التأخير وقد سبق إيضاح ذلك لانها كانت جوابا للسائل عن الوقت، وأحاديث التعجيل المذكورة في هذا الباب وغيره إخبار عن عادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتكررة التي واظب عليها إلا لعذر فالاعتماد عليها. وعن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ فيها بطولي الطولين رواه البخاري وأحمد والنسائي. وزاد عن عروة: طولي الطولين الاعراف. وللنسائي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ فيها بطولي الطولين المص. قوله: بقصار المفصل قال في الضياء: هو من سورة محمد إلى آخر القرآن، وذكر في القاموس أقوالا عشرة من الحجرات إلى آخره قال في الاصح: أو من الجاثية، أو القتال، أو قاف، أو الصافات، أو الصف، أو تبارك، أو إنا فتحنا لك، أو سبح اسم ربك الاعلى، أو الضحى ونسب بعض هذه الاقوال إلى من قال بها، قال: وسمي مفصلا لكثرة الفصول بين سورة أو لقلة المنسوخ. قوله: بطولي الطوليين في الفتح الطولين الاعراف والانعام في قول، وتسميتهما بالطولين إنما هو لعرف فيهما لا أنهما أطول من غيرهما، وفسرهما ابن أبي مليكة بالاعراف والمائدة، والاعراف أطول من صاحبتها، قال الحافظ: إنه حصل الاتفاق على تفسير الطولي بالاعراف. والحديث يدل على استحباب التطويل في قراءة المغرب، وقد اختلفت حالات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها فثبت عند الشيخين من حديث
[ 405 ]
جبير بن مطعم أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقرأ في المغرب بالطور. وثبت أنه قرأ في المغرب بالصافات. وأنه قرأ فيها بحم الدخان. وأنه قرأ بسبح اسم ربك الاعلى. وأنه قرأ بالتين والزيتون. وأنه قرأ بالمعوذتين. وأنه قرأ بالمرسلات. وأنه قرأ بقصار المفصل، وسيأتي تحقيق ذلك في باب جامع القراءة في الصلاة إن شاء الله تعالى. والمصنف ساق الحديث هنا للاستدلال به على امتداد وقت المغرب ولهذا قال: وقد سبق بيان امتداد وقتها إلى غروب الشفق في عدة أحاديث انتهى. وكذلك استدل الخطابي وغيره بهذا الحديث على امتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق، قال الحافظ: وفيه نظر لان من قال: إن لها وقتا واحدا لم يحده بقراءة معينة، بل قالوا: لا يجوز تأخيرها عن أول غروب الشمس، وله أن يمد القراءة فيها ولو غاب الشفق، ثم قال: ولا يخفى ما فيه لان تعمد إخراج بعض الصلاة عن الوقت ممنوع ولو أجزأت فلا يحمل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك. باب تقديم العشاء إذا حضر على تعجيل صلاة المغرب عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم. وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء ولا تعجل حتى تفرغ منه متفق عليهن. وللبخاري وأبي داود: وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه يسمقراءة الامام. قوله: حضر العشاء قال في القاموس: هو طعام العشى وهو ممدود كسماء. قوله: فابدؤوا بالعشاء أي بأكله. الحديث الاول يدل على وجوب تقديم العشاء على صلاة المغرب إن حضر، والحديثان الآخران يدلان على وجوب تقديم العشاء إذا حضر على المغرب وغيرها لما يشعر به تعريف الصلاة من العموم. وقال ابن دقيق العيد: الالف واللام في الصلاة لا ينبغي أن يحمل على الاستغراق ولا على تعريف الماهية، بل ينبغي أن يحمل على المغرب بما ورد في بعض الروايات: إذا وضع العشاء وأحدكم صائم
[ 406 ]
فابدؤوا به قبل أن تصلوا وهو صحيح. وكذلك صح أيضا: فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب انتهى، وأنت خبير بأن التنصيص على المغرب لا يقتضي تخصيص عموم الصلاة لما تقرر في الاصول من أن موافق العام لا يخصص به، فلا يصلح جعله قرينة لحمل اللام على ما لا عموم فيه، ولو سلم عدم العموم لم يسلم عدم الاطلاق، وقد تقرر أيضا في الاصول أن موافق المطلق لا يقتضي التقييد، ولو سلمنا ما ذكره باعتبار أحاديث الباب لتأييده بأن لفظ العشاء يخرج صلاة النهار وذلك مانع من حمل اللام على العموم لم يتم له باعتبار حديث: لا صلاة بحضرة طعام عند مسلم وغيره. ولفظ صلاة نكرة في سياق النفي ولا شك أنها من صيغ العموم. ولاطلاق الطعام وعدم تقييده بالعشاء فذكر المغرب من التنصيص على بعض أفراد العام، وليس بتخصيص على أن العلة التي ذكرها شراح الحديث للامر بتقديم العشاء كالنووي وغيره مقتضية لعدم الاختصاص ببعض الصلوات فإنهم قالوا: إنها اشتغال القلب بالطعام، وذهاب كمال الخشوع في الصلاة عند حضوره، والصلوات متساوية الاقدام في هذا، وظاهر الاحاديث أنه يقدم العشاء مطلقا، سواء كان محتاجا إليه أم لا؟ وسواء كان خفيفا أم لا؟ وسواء خشي فساد الطعام أو لا، وخالف الغزالي فزاد قيد خشية فساد الطعام، والشافعية فزادوا قيد الاحتياج، ومالك فزاد قيد أن يكون الطعام خفيفا. وقد ذهب إلى الاخذ بظاهر الاحاديث ابن حزم والظاهرية، ورواه الترمذي عن أبي بكر وعمر وابن عمر وأحمد وإسحاق. ورواه العراقي عن الثوري فقال: يجب تقديم الطعام، وجزموا ببطلان الصلاة إذا قدمت. وذهب الجمهور إلى الكراهة، وظاهر الاحاديث أيضا أنه يقدم الطعام وإن خشي خروج الوقت، وإليه ذهب ابن حزم، وذكره أبو سعيد المتولي وجها لبعض الشافعية. وذهب الجمهور إلى أنه إذا ضاق الوقت صلى على حاله محافظة على الوقت ولا يجوز تأخيرها، قالوا: لان مقصود الصلاة الخشوع فلا تفوته لاجله، وظاهر قوله: ولا تعجل حتى تفرغ أنه يستوفي في حاجته من الطعام بكمالها، وهو يرد ما ذكره بعض الشافعية من أنه يقتصر على تناول لقمات يكسر بها سورة الجوع، قال النووي: وهذا الحديث صريح في إبطاله. وقد استدل بالاحاديث المذكورة على أن الجماعة ليست بواجبة. قال ابن دقيق العيد، وهذا صحيح إن أريد به أن حضور الطعام مع التشوق إليه عذر في ترك الجماعة، وإن أريد به الاستدلال على أنها ليست بفرض من غير عذر لم يصح ذلك انتهى. ويؤيده أن ابن حبان وهو من القائلين بوجوب
[ 407 ]
الجماعة جعل حضور الطعام عذرا في تركها. وقد استدل أيضا بهذه الاحاديث على التوسعة في وقت المغرب وقد تقدم الكلام في ذلك، وقد ألحق بالطعام ما يحصل بتأخيره تشويش الخاطر بجامع ذهاب الخشوع الذي هو روح الصلاة. وقوله: إذا حضر العشاء ووضع عشاء أحدكم دليل على اعتبار الحضور الحقيقي، ومن نظر إلى المعنى من أهل القياس لا يقصر الحكم على الحضور، بل يقول به عند وجود المعنى وهو التشوق إلى الطعام، ولا شك أن حضور الطعام مؤثر لزيادة الاشتغال به والتطلع إليه، ويمكن أن يكون الشارع قد اعتبر هذه الزيادة في تقديم الطعام، وقد تقرر في الاصول أن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يلغ. قال ابن دقيق العيد أنه لا يبعد إلحاق ما كان متيسر الحضور عن قرب بالحاضر. باب جواز الركعتين قبل المغرب عن أنس قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب ولم يكن بين الاذان والاقامة شئ وفي رواية: إلا قليل رواه أحمد والبخاري. وفي لفظ: كنا نصلي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب فقيل له: أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاهما؟ قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا رواه مسلم وأبو داود. تقريره صلى الله عليه وآله وسلم لمن رآه يصلي في ذلك الوقت يدل على عدم كراهة الصلاة فيه، ولاسيما والفاعل لذلك عدد كثير من الصحابة، وفي المسألة مذهبان للسلف استحبهما جماعة من الصحابة والتابعين، ومن المتأخرين أحمد وإسحاق، ولم يستحبهما الاربعة الخلفاء رضي الله عنهم وآخرون من الصحابة ومالك وأكثر الفقهاء. وقال النخعي: هما بدعة احتج من قال بالاستحباب بما في هذا الباب من الاحاديث الصحيحة، وبما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل: أن النبي صلى قبل المغرب ركعتين فقد ثبتتا عنه صلى الله عليه وآله وسلم قولا كما سيأتي، فعلا وتقريرا،
[ 408 ]
واحتج من قال بالكراهة بحديث عقبة بن عامر الذي قد مر ذكره في باب وقت صلاة المغرب، وهو يدل على شرعية تعجيلها وفعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب. والحق أن الاحاديث الواردة بشرعية الركعتين قبل المغرب مخصصة لعموم أدلة استحباب التعجيل، قال النووي: وأما قولهم يؤدي إلى تأخير المغرب فهذا خيال منابذ للسنة ولا يلتفت إليه، ومع هذا فهو زمن يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها، وأما من زعم النسخ فهو مجازف، لان النسخ لا يصار إليه إلا إذا عجزنا عن التأويل والجمع بين الاحاديث وعلمنا التاريخ، وليس هنا شئ من ذلك انتهى. وهذا الاستحباب ما لم تقم الصلاة كسائر النوافل لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة واعلم أن التعليل للكراهة بتأدية الركعتين إلى تأخير المغرب مشعر بأنه لا خلاف في أنه يستحب لمن كان في المسجد في ذلك الوقت منتظرا لقيام الجماعة، وكان فعله للركعتين لا يؤثر في التأخير، كما يقع من الانتظار بعد الاذان للمؤذن حتى ينزل من المنارة، ولا ريب أن ترك هذه السنة في ذلك الوقت الذي لا اشتغال فيه بصلاة المغرب ولا بشئ من شروطها مع عدم تأثير فعلها للتأخير من الاستحواذات الشيطانية التي لم ينج منها إلا القليل. قوله: شئ التنوين فيه للتعظيم أي لم يكن بينهما شئ كثير، ونفي الكثير يقتضي إثبات القليل، وبهذا يجمع بين هذه الرواية ورواية قليل. وقال ابن المنير يجمع بين الروايتين بحمل النفي المطلق على المبالغة مجازا، والاثبات للقليل على الحقيقة، وقد طول الكلام في ذلك الحافظ في الفتح فليرجع إليه. وعن عبد الله بن مغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عند الثالثة: لمن شاء، كراهية أن يتخذها الناس سنة رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وفي رواية: بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: لمن شاء رواه الجماعة. زاد الاسماعيلي في روايته عن القواريري عن عبد الوارث في الرواية الاولى ثلاث مرات، وهو موافق لما في رواية البخاري لانها بلفظ قال في الثالثة، وفي رواية لابي نعيم في المستخرج قالها ثلاثا ثم قال لمن شاء. قوله: كراهية أن يتخذها الناس سنة قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابها لانه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أدل الادلة على استحبابها. ومعنى قوله سنة أي شريعة وطريقة لازمة، وكأن المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يعدها أكثر الشافعية في الرواتب،
[ 409 ]
واستدركها بعضهم وتعقب أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واظب عليها. قوله: بين كل أذانين المراد بالاذانين الاذان والاقامة تغليبا. والرواية الاولى من حديث الباب تدل على استحباب هاتين الركعتين بخصوصها، والرواية الاخرى بعمومها، وقد عرفت الخلاف في ذلك. وعن أبي الخير قال: أتيت عقبة بن عامر فقلت له: ألا أعجبك من أبي تميم يركع ركعتين قبل صلاة المغرب؟ فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل رواه أحمد والبخاري. قوله: ألا أعجبك بضم أوله وتشديد الجيم من التعجيب. قوله: من أبي تميم هو عبد الله بن مالك الجيشاني بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة تابعي كبير مخضرم أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عده جماعة في الصحابة، قال الحافظ في الفتح: وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي أنه لم يفعلهما أحد بعد الصحابة لان أبا تميم تابعي وقد فعلهما. والحديث يدل على مشروعية صلاة الركعتين قبل المغرب، وقد تقدم الكلام على ذلك. وقوله: على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الصيغة فيها خلاف مذكور في الاصول وعلم الاصطلاح هل لها حكم الرفع؟ وهل تشعر باطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك فليطلب من موضعه. وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بلال اجعل بين أذانك وإقامتك نفسا يفرغ الآكل من طعامه في مهل، ويقضي المتوضئ حاجة في مهل رواه عبد الله بن أحمد في المسند. الحديث من رواية أبي الجوزاء عن أبي بن كعب ولم يسمع منه، وقد أخرج نحوه الترمذي من حديث جابر بزيادة: والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث عبد المنعم وإسناده مجهول انتهى. وفي إسناده ضعيفان يرويه أحدهما عن الآخر، فأولهما عبد المنعم بن نعيم قال البخاري وأبو حاتم وابن حبان: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وثانيهما يحيى بن مسلم وهو البكاء بصري لم يرضه يحيى بن سعيد. وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال يحيى بن معين: ليس بذلك. وقال أحمد: ليس بثقة وقال النسائي: متروك وفيه كلام طويل، وله شاهد من حديث أبي هريرة وسلمان أخرجهما أبو الشيخ وكلها واهية. قال الحاكم: ليس في
[ 410 ]
إسناده مطعون غير عمرو بن قائد. قال الحافظ: لم يقع إلا في روايته هو، ولم يقع في رواية الباقين، لكن فيه عبد المنعم صاحب الشفاء وهو كاف في تضعيف الحديث انتهى. والحديث يدل على مشروعية الفصل بين الاذان والاقامة وكراهة الموالاة بينهما لما في ذلك من تفويت صلاة الجماعة على كثير من المريدين لها، لان من كان على طعامه أو غير متوضئ حال النداء إذا استمر على أكل الطعام أو توضأ للصلاة فاتته الجماعة أو بعضها بسبب التعجيل وعدم الفصل، لاسيما إذا كان مسكنه بعيدا من مسجد الجماعة، فالتراخي بالاقامة نوع من المعاونة على البر والتقوى المندوب إليها. قال المصنف رحمه الله تعالى: وكل هذه الاخبار تدل على أن للمغرب وقتين، وأن السنة أن يفصل بين أذانها وإقامتها بقدر ركعتين انتهى. وقد تقدم الكلام على وقت المغرب، وأما أن الفصل مقدار ركعتين فلم يثبت، وقد ترجم البخاري باب كم بين الاذان والاقامة، ولكن لما كان التقدير لم يثبت لم يذكر الحديث، قال ابن بطال: لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين. باب في أن تسميتها بالمغرب أولى من تسميتها بالعشاء عن عبد الله بن المغفل: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم المغرب، قال: والاعراب تقول هي العشاء متفق عليه. قوله: والاعراب تقول هي العشاء لان العشاء لغة أول ظلام الليل، والمعنى النهي عن تسمية المغرب بالعشاء كما تفعل الاعراب، فإذا وقعت الموافقة لهم فقد غلبتهم الاعراب عليها، إذ من رجع إليه خصمه فقد غلبه، وقد اختلف في علة النهي عن ذلك فقيل: هي خوف التباس المغرب بالعشاء، وقيل: العلة الجامعة أن تسميتها بالعشاء مخالفة لاذن الله، فإنه سمى الاولى المغرب، والثانية العشاء الآخرة، وقيل غير ذلك والله أعلم. باب وقت صلاة العشاء وفضل تأخيرها مع مراعاة حال الجماعة وبقاء وقتها المختار إلى نصف الليل عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة رواه الدارقطني.
[ 411 ]
الحديث قال الدارقطني في الغرائب: هو غريب وكل رواته ثقات، وقد رواه أيضا ابن عساكر والبيهقي وصحح وقفه، وقد ذكره الحاكم في المدخل وجعله مثالا لما رفعه المخرجون من الموقوفات. وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن عمر مرفوعا: ووقت صلاة المغرب إلى أن يذهب حمرة الشفق قال ابن خزيمة: إن صحت هذه اللفظة أغنت عن جميع الروايات، لكن تفرد بها محمد بن يزيد. قال الحافظ: محمد بن يزيد صدوق، قال البيهقي: روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأبي هريرة ولا يصح فيه شئ. قال المصنف رحمه الله: وهو يدل على وجوب الصلاة بأول الوقت انتهى. وفي ذلك خلاف في الاصول مشهور. والحديث يدل على صحة قول من قال: إن الشفق الحمرة، وهم ابن عمرو ابن عباس وأبو هريرة وعبادة من الصحابة والقاسم والهادي والمؤيد بالله وأبو طالب وزيد بن علي والناصر من أهل البيت. والشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبو يوسف ومحمد من الفقهاء. والخليل والفراء من أئمة اللغة. قال في القاموس: الشفق الحمرة ولم يذكر الابيض. وقال أبو حنيفة والاوزاعي والمزني وبه قال الباقر: بل هو الابيض، واحتجوا بقوله تعالى: * (إلى غسق الليل) * (الاسراء: 78) ولا غسق قبل ذهاب البياض، ورد بأن ذلك ليس بمانع كالنجوم، وقال أحمد بن حنبل: الاحمر في الصحارى والابيض في البنيان، وذلك قول لا دليل عليه، ومحجج الاولين ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، قال ابن العربي: هو صحيح وصلى قبل غيبوية الشفق، قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغراب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الاول، وهو الذي حد عليه السلام خروج أكثر الوقت به، فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الاول بيقين، فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض، فتبين بذلك يقينا أن الوقت دخل بالشفق الذي هو الحمرة انتهى. وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعا لما تقدم في حديث جبريل وفي حديث التعليم وهذا الحديث وغير ذلك، وأما آخره فسيأتي الخلاف فيه. وعن عائشة قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بالعتمة فنادى عمر: نام النساء والصبيان فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما ينتظرها
[ 412 ]
غيركم ولم تصل يومئذ إلا بالمدينة ثم قال: صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل رواه النسائي. الحديث رجال إسناده في سنن النسائي رجال الصحيح إلا شيخ النسائي عمرو بن عثمان وهو صدوق. والحديث متفق عليه من حديثها بنحو هذا اللفظ. وفي الباب عن زيد بن خالد أشار إليه الترمذي. وعن ابن عمر عند مسلم. وعن معاذ عند أبي داود. وعن أبي بكرة رواه الخلال من حديث عبد الله بن أحمد عن أبيه. وعن علي عليه السلام عند البزار. وعن أبي سعيد وعائشة وأنس وأبي هريرة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وسيأتي. قوله: أعتم أي دخل في العتمة ومعناه أخرها، والعتمة لغة: حلب بعد هوى من الليل بعدا من الصعاليك. والمراد بها هنا صلاة العشاء، وإنما سميت بذلك لوقوعها في ذلك الوقت. وفي القاموس: والعتمة محركة ثلث الليل الاول بعد غيبوية الشفق أو وقت صلاة العشاء الآخرة اه. وهذا الحديث يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء عن أول وقتها، وقد اختلف العلماء هل الافضل تقديمها أم تأخيرها؟ وهما مذهبان مشهوران للسلف، وقولان لمالك والشافعي. فذهب فريق إلى تفضيل التأخير محتجا بهذه الاحاديث المذكورة في هذا الباب، وذهب فريق آخر إلى تفضيل التقديم محتجا بأن العادة الغالبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي التقديم، وإنما أخرها في أوقات يسيرة لبيان الجواز والشغل والعذر، ولو كان تأخيرها أفضل لواظب عليه وإن كان فيه مشقة، ورد بأن هذا إنما يتم لو لم يكن منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا مجرد الفعل لها في ذلك الوقت، وهو ممنوع لورود الاقوال كما في حديث ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وغير ذلك، وفيها تنبيه على أفضلية التأخير، وعلى أن ترك المواظبة عليه لما فيه من المشقة كما صرحت بذلك الاحاديث، وأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم لا تعارض هذه الاقوال، وأما ما ورد من أفضلية أول الوقت على العموم فأحاديث هذا الباب خاصة فيجب بناؤه عليها وهذا لا بد منه. قوله: ولم تصل يومئذ إلا بالمدينة أي لم تصل بالهيئة المخصوصة وهي الجماعة إلا بالمدينة ذكر معناه في الفتح. قوله: فيما بين أن يغيب الشفق الخ، قد تقدم أن تحديد أول وقت العشاء بغيبوبة الشفق أمر مجمع عليه، وإنما وقع الخلاف هل هو الاحمر أو الابيض وقد سلف ما هو الحق. وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 413 ]
يؤخر العشاء الآخرة رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن عائشة قالت: كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الاول أخرجه البخاري. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. الحديث الاول يدل على استحباب مطلق التأخير للعشاء وجواز وصفها بالآخرة وأنه لا كراهة في ذلك، وقد حكي عن الاصمعي الكراهة. والحديث الثاني يدل على استحباب تأخيرها أيضا وامتداد وقتها إلى ثلث الليل. والحديث الثالث فيه التصريح بأن ترك التأخير إنما هو للمشقة، وقد تقدم الكلام في ذلك وفيه بيان امتداد الوقت إلى ثلث الليل أو نصفه، وقد اختلف أهل العلم في ذلك. فذهب عمر بن الخطاب والقاسم والهادي والشافعي وعمر بن عبد العزيز إلى أن آخر وقت العشاء ثلث الليل، واحتجوا بحديث جبريل وحديث أبي موسى في التعليم وقد تقدما. وفي قول للشافعي أن آخر وقتها نصف الليل، واحتج بما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو في باب أول وقت العصر وفيه: ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل وبحديث أبي هريرة المذكور هنا، وبحديث عائشة وأنس وأبي سعيد وستأتي وغير ذلك. وهذه الاحاديث المصير إليها متعين لوجوه. الاول: لاشتمالها على الزيادة وهي مقبولة. الثاني: اشتمالها على الاقوال والافعال وتلك أفعال فقط وهي لا تتعارض ولا تعارض الاقوال. والثالث: كثرة طرقها. والرابع: كونها في الصحيحين، فالحق أن آخر وقت اختيار العشاء نصف الليل، وما أجاب به صاحب البحر من أن النصف مجمل فصله خبر جبريل فليس على ما ينبغي. وأما وقت الجواز والاضطرار فهو ممتد إلى الفجر لحديث أبي قتادة عند مسلم وفيه: ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الاخرى إلا صلاة الفجر فإنها مخصوصة من هذا العموم بالاجماع. وأما حديث عائشة الآتي بلفظ: حتى ذهب عامة الليل فهو وإن كان فيه إشعار بامتداد وقت اختيار العشاء إلى بعد نصف الليل ولكنه مؤول لما سيأتي. وعن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الظهر بالهاجرة،
[ 414 ]
والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت الشمس، والعشاء أحيانا يؤخرها وأحيانا يعجل إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطأوا أخر، والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصليها بغلس متفق عليه. قوله: بالهاجرة هي شدة الحر نصف النهار عقب الزوال، سميت بذلك من الهجر وهو الترك، لان الناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر ويقيلون، وقد تقدم تفسيرها بنحو من هذا. قوله: والشمس نقية أي صافية لم تدخلها صفرة. قوله: إذا وجبت أي غابت والوجوب السقوط كما سبق. قوله: إذا رآهم اجتمعوا فيه مشروعية ملاحظة أحوال المؤتمين والمبادرة بالصلاة مع اجتماع المصلين، لان انتظارهم بعد الاجتماع ربما كان سببا لتأذي بعضهم، وأما الانتظار قبل الاجتماع فلا بأس به لهذا الحديث، ولانه من باب المعاونة على البر والتقوى. قوله: بغلس الغلس محركة ظلمة آخر الليل قاله في القاموس. والحديث يدل على استحباب تأخير صلاة العشاء لكن مقيدا بعدم اجتماع المصلين. وعن عائشة قالت: اعتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل حتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي رواه مسلم والنسائي. قوله: أعتم قد تقدم الكلام عليه. قوله: حتى ذهب عامة الليل قال النووي: التأخير المذكور في الاحاديث كله تأخير لم يخرج به عن وقت الاختيار وهو نصف الليل أو ثلث الليل على الخلاف المشهور، والمراد بعامة الليل كثير منه وليس المراد أكثره، ولا بد من هذا التأويل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لوقتها ولا يجوز أن المراد بهذا القول ما بعد نصف الليل، لانه لم يقل أحد من العلماء أن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل أفضل اه. قوله: لولا أن أشق على أمتي فيه تصريح بما قدمنا من أن ترك التأخير إنما هو للمشقة. والحديث يدل على مشروعية تأخير صلاة العشاء إلى آخر وقت اختيارها، وقد تقدم الكلام على ذلك. وعن أنس قال: أخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال: قد صلى الناس وناموا، أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها، قال أنس كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ متفق عليه.
[ 415 ]
قوله: قد صلى الناس أي المعهودون ممن صلى من المسلمين إذ ذاك. قوله: وبيص خاتمه هو بالباء الموحدة والصاد المهملة البريق. والخاتم بكسر التاء وفتحها، ويقال أيضا خاتام وخيتام أربع لغات قاله النووي. والحديث يدل على مشروعية تأخير صلاة العشاء والتعليل بقوله: أما إنكم الخ يشعر بأن التأخير لذلك، قال الخطابي وغيره: إنما استحب تأخيرها لتطول مدة الانتظار للصلاة ومنتظر الصلاة في صلاة. وعن أبي سعيد قال: انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بصلاة العشاء حتى ذهب نحو من شطر الليل، قال: فجاء فصلى بنا ثم قال: خذوا مقاعدكم فإن الناس قد أخذوا مضاجعهم، وإنكم لم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها، ولولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة لاخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا ابن ماجه من حديثه، والنسائي وابن خزيمة وغيرهم وإسناده صحيح. قوله: ليلة فيه إشعار بأنه لم يكن يواظب على ذلك. قوله: شطر الليل الشطر نصف الشئ وجزؤه، ومنه حديث الاسراء فوضع شطرها أي بعضها قاله في القاموس. قوله: ولولا ضعف الضعيف هذا تصريح بأفضلية التأخير، لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة. والحديث من حجج من قال بأن التأخير أفضل، وقد تقدم الخلاف في ذلك. قال المصنف رحمه الله: قلت قد ثبت تأخيرها إلى شطر الليل عنه عليه السلام قولا وفعلا، وهو يثبت زيادة على أخبار ثلث الليل، والاخذ بالزيادة أولى اه. وهذا صحيح قد أسلفنا ذكره. باب كراهية النوم قبلها والسمر بعدها إلا في مصلحة عن أبي برزة الاسلمي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستحب أن يؤخر العشاء التي يدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها رواه الجماعة. وفي الباب عن عائشة عند ابن حبان، وعن أنس أشار إليه الترمذي، وعن ابن عباس رواه القاضي أبو الطاهر الدهلي، وعن ابن مسعود وسيأتي، قال الترمذي: وقد كره أكثر أهل العلم النوم قبل صلاة العشاء، ورخص في ذلك بعضهم، وقال ابن المبارك: أكثر الاحاديث
[ 416 ]
على الكراهة، رخص بعضهم في النوم قبل صلاة العشاء في رمضان. قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: وقد كرهه جماعة واغلظوا فيه، منهم ابن عمر وعمر وابن عباس، وإليه ذهب مالك، ورخص فيه بعضهم منهم علي عليه السلام وأبو موسى وهو مذهب الكوفيين، وشرط بعضهم أن يجعل معه من يوقظه لصلاتها، وروي عن ابن عمر مثله، وإليه ذهب الطحاوي. وقال ابن العربي: إن ذلك جائز لمن علم من نفسه اليقظة قبل خروج الوقت بعادة أو يكون معه من يوقظه، والعلة في الكراهة قبلها لئلا يذهب النوم بصاحبه ويستغرقه فتفوته أو يفوته فضل وقتها المستحب، أو يترخص في ذلك الناس فيناموا عن إقامة جماعتها. احتج من قال بالكراهة بحديث الباب وما بعده. واحتج من قال بالجواز بدون كراهة بما أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتم بالعشاء حتى ناداه عمر نام النساء والصبيان ولم ينكر عليهم. وبحديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شغل عنها ليلة فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث ولم ينكر عليهم. قال ابن سيد الناس: وما أرى هذا من هذا الباب ولا نعاسهم في المسجد وهم في انتظار الصلاة من النوم المنهي عنه، وإنما هو من السنة التي هي مبادئ النوم كما قال: [ شع ] وسنان أقصده النعاس فرنقت * في جفنه سنة وليس بنائم وقد أشار الحافظ في الفتح إلى الفرق بين هذا النوم والنوم المنهي عنه. قوله: والحديث بعدها سيأتي الخلاف في ذلك. وعن ابن مسعود قال: جدب لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السمر بعد العشاء رواه ابن ماجه. وقال: جدب يعني زجرنا عنه نهانا عنه. الحديث رجاله في سنن ابن ماجه رجال الصحيح، وقد أشار إليه الترمذي وذكره الحافظ ابن سيد الناس في شرح الترمذي ولم يتعقبه بما يوجب ضعفا. وقد أخرج الامام أحمد والترمذي عن ابن مسعود نحوه من وجه آخر بلفظ: لاسمر بعد الصلاة يعني العشاء الآخرة إلا لاحد رجلين مصل أو مسافر ورواه الحافظ ضياء الدين المقدسي في الاحكام من حديث عائشة مرفوعا بلفظ: لا سمر إلا لثلاثة: مصل أو مسافر أو عروس. قوله: جدب هو بجيم فدال مهملة مفتوحتين فباء كمع وزنا ومعنى. ومنه
[ 417 ]
سنة مجدبة أي ممنوعة الخير. والحديث يدل على كراهة السمر بعد العشاء وسيأتي الخلاف في ذلك. وعن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في الامر من أمر المسلمين وأنا معه رواه أحمد والترمذي. الحديث حسنه الترمذي أيضا، وأخرجه النسائي ورجاله رجال الصحيح، وإنما قصر به عن التصحيح الانقطاع الذي فيه بين علقمة وعمر. وفي الباب عن عبد الله بن عمر عند البخاري ومسلم، وقد ذكرنا لفظه في شرح حديث أبي برزة، وعن أوس بن حذيفة أشار إليه الترمذي. وعن ابن عباس وسيأتي الحديث استدل به على عدم كراهة السمر بعد العشاء لحاجة. قال الترمذي: وقد اختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين ومن بعدهم في السمر بعد العشاء، فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء، ورخص بعضهم إذا كان في معنى العلم وما لا بد منه من الحوائج، وأكثر الحديث على الرخصة، وهذا الحديث يدل على عدم كراهة السمر بعد العشاء إذا كان لحاجة دينية عامة أو خاصة، وحديث أبي برزة وابن مسعود وغيرهما على الكراهة. وطريقة الجمع بينها بأن توجه أحاديث المنع إلى الكلام المباح الذي فيه فائدة تعود على صاحبه، وأحاديث الجواز إلى ما فيه فائدة تعود على المتكلم، أو يقال: دليل كراهة الكلام والسمر بعد العشاء عام مخصص بدليل جواز الكلام والسمر بعدها في الامور العائدة إلى مصالح المسلمين. قال النووي: واتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلا ما كان في خير، قيل: وعلة الكراهة ما يؤدي إليه السهر من مخافة غلبة النوم آخر الليل عن القيام لصلاة الصبح في جماعة، الاتيان بها في وقت الفضيلة والاختيار، أو القيام للورد من صلاة أو قراءة في حق من عادته ذلك، ولا أقل لمن أمن من ذلك من الكسل بالنهار عما يجب من الحقوق فيه والطاعات. وعن ابن عباس قال: رقدت في بيت ميمونة ليلة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندها لانظر كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالليل قال: فتحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أهله ساعة ثم رقد وساق الحديث رواه مسلم. الحديث استدل به من قال بجواز السمر مطلقا، لان التحدث الواقع منه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقيد بما فيه طاعة، ولا بأس بتقييده بما فيه طاعة جمعا بين الادلة، كما
[ 418 ]
سبق على أنه يمكن أن يكون وقوع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم لبيان الجواز وللاشعار بالمنع من حمل الادلة القاضية بمنع السمر على التحريم، ويمكن أن يقال إن العلة التي ذكرناها للكراهة منتفية في حقه صلى الله عليه وآله وسلم لامنه من غلبة النوم وعروض الكسل، ويجاب بمنع أمنه من غلبة النوم مسندا بنومه في الوادي، وأما أمنه من عروض الكسل فمسلم إن لم يكن ذلك من الامور العارضة لطبيعة الانسان الخارجة عن الاختيار. باب تسميتها بالعشاء والعتمة عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا متفق عليه. زاد أحمد في روايته عن عبد الرزاق: فقلت لمالك: أما تكره أن تقول العتمة؟ قال: هكذا قال الذي حدثني. قوله: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول أي من مزيد الفضل وكثرة الاجر. قوله: لاتوهما أي لاتوا المحل الذي يصليان فيه جماعة وهو المسجد. قوله: ولو حبوا أي زحفا إذا منعهم مانع من المشي كما يزحف الصغير. ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء: ولو حبوا على المرافق والركب. الحديث يدل على استحباب القيام بوظيفة الاذان، والملازمة للصف الاول، والمسارعة إلى جماعة العشاء والفجر، وسيأتي الكلام على ذلك، ويدل على جواز تسمية العشاء بالعتمة، وقد ورد من حديث عائشة عند البخاري بلفظ: أعتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعتمة ومن حديث جابر عند البخاري أيضا بلفظ: صلى لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة صلاة العشاء وهي التي تدعوا الناس العتمة ومن حديث غيرهما أيضا. وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث ابن عمر الآتي، فقال النووي وغيره: الجواب عن حديث أبي هريرة من وجهين: أحدهما أنه استعمل لبيان الجواز، وأن النهي عن العتمة للتنزيه لا للتحريم. والثاني أنه يحتمل أنه خوطب بالعتمة من لا يعرف العشاء فخوطب بما يعرفه،
[ 419 ]
أو استعمل لفظ العتمة لانه أشهر عند العرب، وإنما كانوا يطلقون العشاء على المغرب كما في صحيح البخاري ومسلم بلفظ: لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم المغرب، قال: والاعراب تقول هي العشاء وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه. وقيل: إن النهي عن تسمية العتمة عتمة ناسخ للجواز، وفيه أنه يحتاج في مثل ذلك إلى معرفة التاريخ والعلم بتأخر حديث المنع. وقال الحافظ في الفتح: ولا يبعد أن ذلك كان جائزا، فلما كثر إطلاقهم له نهوا عنه لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الاسلامية، ومع ذلك فلا يحرم ذلك بدليل أن الصحابة الذين رووا النهي استعملوا التسمية المذكورة، وأما استعمالها في مثل حديث أبي هريرة فلدفع الالتباس بالمغرب والله أعلم اه. وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم إلا أنها العشاء وهم يعتمون بالابل رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. وفي رواية لمسلم: لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الابل. الحديث أخرج نحوه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن قاله الحافظ، وأخرج نحوه أيضا البيهقي وأبو يعلى من حديث عبد الرحمن بن عوف، كذلك زاد الشافعي في روايته في حديث ابن عمر، وكان ابن عمر إذا سمعهم يقولون العتمة صاح وغضب، وأخرج عبد الرزاق هذا الموقوف من وجه آخر. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال له ميمون بن مهران: من أول من سمى العشاء العتمة؟ قال: الشيطان. والحديث يدل على كراهة تسمية العشاء بالعتمة، وقد ذهب إلى ذلك ابن عمر وجماعة من السلف، ومنهم من قال بالجواز، وقد نقله ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق وغيره، ومنهم من جعله خلاف الاولى، وقد نقله ابن المنذر عن مالك والشافعي واختاره. قال الحافظ: وهو الراجح، واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة المتقدم، وقد تقرر أن جواز المصير إلى الترجيح مشروط بتعذر الجمع، ولم يتعذر ههنا كما عرفت في شرح الحديث الاول. قوله: يعتمون قد تقدم تفسير ذلك في باب وقت صلاة العشاء.
[ 420 ]
باب وقت صلاة الفجر وما جاء في التغليس بها والاسفار قد تقدم بيان وقتها في غير حديث. وعن عائشة قالت: كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس رواه الجماعة. وللبخاري: ولا يعرف بعضهن بعضا. قوله: نساء المؤمنات صورته صورة إضافة الشئ إلى نفسه، واختلف في تأويله وتقديره. فقيل: تقديره نساء الانفس المؤمنات، وقيل: نساء الجماعات المؤمنات، وقيل: إن نساء هنا بمعنى الفاضلات أي فاضلات المؤمنات، كما يقال رجال القوم أي فضلاؤهم ومقدموهم. وقوله: كن قال الكرماني: هو مثل أكلوني البراغيث لان قياسه الافراد وقد جمع. قوله: متلفعات هو بالعين المهملة بعد الفاء أي متجللات ومتلففات. والمروط جمع مرط بكسر الميم الاكسية المعلمة من خز أو صوف أو غير ذلك. قوله: لا يعرفهن أحد قال الداودي: معناه ما يعرفن أنساءهن أم رجال. وقيل: لا يعرف أعيانهن، قال النووي: وهذا ضعيف لان المتلفعة في النهار أيضا لا يعرف عنها، فلا يبقى في الكلام فائدة، وتعقب بأن المعرفة إنما تتعلق بالاعيان، ولو كان المراد الاول لعبر عنه بنفي العلم. قال الحافظ: وما ذكره من أن المتلفعة بالنهار لا يعرف عينها فيه نظر، لان لكل امرأة هيئة غير هيئة الاخرى في الغالب ولو كان بدنها مغطى. قال الباجي: وهذا يدل على أنهن كن سافرات إذ لو كن متقنعات لكان المانع من المعرفة تغطيهن لا التغليس. قوله: من الغلس من ابتدائية أو تعليلية، ولا معارضة بين هذا وبين حديث أبي برزة أنه كان ينصرف من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه، لان هذا إخبار عن رؤية المتلفعة على بعد، وذاك إخبار عن رؤية الجليس. والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة الفجر في أول الوقت، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهبت العترة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والاوزاعي وداود بن علي وأبو جعفر الطبري وهو المروي عن عمر وعصمان وابن الزبير وأنس وأبي موسى وأبي هريرة إلى أن التغليس أفضل، وأن الاسفار غير مندوب. وحكي هذا القول الحازمي عن بقية الخلفاء الاربعة، وابن مسعود وأبي مسعود الانصاري وأهل الحجاز، واحتجوا بالاحاديث
[ 421 ]
المذكورة في هذا الباب وغيرها، ولتصريح أبي مسعود في الحديث الآتي بأنها كانت صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التغليس حتى مات ولم يعد إلى الاسفار. وذهب الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وأكثر العراقيين وهو مروي عن علي عليه السلام وابن مسعود إلى أن الاسفار أفضل. واحتجوا بحديث: أسفروا بالفجر وسيأتي ونحوه. وقد أجاب القائلون بالتغليس عن أحاديث الاسفار بأجوبة: منها أن الاسفار التبين والتحقق، فليس المراد إلا تبين الفجر وتحقق طلوعه، ورد بما أخرجه ابن أبي شيبة وإسحاق وغيرهما بلفظ: ثوب بصلاة الصبح يا بلال حين يبصر القوم مواقع نبلهم من الاسفار ومنها أن الامر بالاسفار في الليالي المقمرة فإنه لا يتحقق فيها الفجر إلا بالاستظهار في الاسفار. وذكر الخطابي أنه يحتمل أنهم لما أمروا بالتعجيل صلوا بين الفجر الاول والثاني طلبا للثواب، فقيل لهم: صلوا بعد الفجر الثاني وأصبحوا بها فإنه أعظم لاجركم. فإن قيل: لو صلوا قبل الفجر لم يكن فيها أجر، فالجواب أنهم يؤجرون على نيتهم وإن لم تصح صلاتهم لقوله: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر. وقال أبو جعفر الطحاوي: إنما يتفق معاني آثار هذا الباب بأن يكون دخوله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الصبح مغلسا ثم يطيل القراءة حتى ينصرف عنها مسفرا، وهذا خلاف قول عائشة لانها حكت أن انصراف النساء كان وهن لا يعرفن من الغلس، ولو قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسور الطوال ما انصرف إلا وهم قد أسفروا ودخلوا في الاسفار جدا، ألا ترى إلى أبي بكر رضي الله عنه حين قرأ البقرة في ركعتي الصبح قيل له: كادت الشمس تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. وعن أبي مسعود الانصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر رواه أبو داود. الحديث رجاله في سنن أبي داود رجال الصحيح، وأصله في الصحيحين والنسائي وابن ماجه ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: نزل جبريل فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، يحسب بأصابعه خمس صلوات، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر حين تزول الشمس وربما أخرها حين اشتد الحر ورأيته يصلي العصر والشمس مرتفعة
[ 422 ]
بيضاء قبل أن تدخلها الصفرة فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحليفة قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب حين تسقط الشمس، ويصلي العشاء حين يسود الافق وربما أخرها حتى يجتمع الناس، وصلى الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر ولم يذكر رؤيته لصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أبو داود، قال المنذري: وهذه الزيادة في قصة الاسفار رواتها عن آخرهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة اه. وقال الخطابي: هو صحيح الاسناد. وقال ابن سيد الناس: إسناده حسن. قوله: فأسفر بها قال في القاموس: سفر الصبح بسفر أضاء وأشرق اه. والغلس بقايا الظلام وقد مر تفسيره. والحديث يدل على استحباب التغليس وأنه أفضل من الاسفار، ولولا ذلك لما لازمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، وبذلك احتج من قال باستحباب التغليس، وقد مر ذكر الخلاف في ذلك وكيفية الجمع بين الاحاديث. وعن أنس عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان مقدار ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية متفق عليه. الحديث أخرجه ابن حبان والنسائي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أنس إني أريد الطعام أطعمني شيئا، فجئته بتمر وإناء فيه ماء وذلك بعدما أذن بلال، قال: يا أنس انظر رجلا يأكل معي، فدعوت زيد بن ثابت فجاء فتسحر معه ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج إلى الصلاة. الحديث يدل أيضا على استحباب التغليس، وأن أول وقت الصبح طلوع الفجر لانه الوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب، والمدة التي بين الفراغ من السحور والدخول في الصلاة وهي قراءة الخمسين آية هي مقدار الوضوء، فأشعر ذلك بأن أول وقت الصبح أول ما يطلع الفجر. عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسفروا بالفجر فإنه أعظم للاجر رواه الخمسة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني، قال الحافظ في الفتح وصححه غير واحد قال: وأبعد من زعم أنه ناسخ للصلاة في الغلس، وقد احتج به من قال بمشروعية الاسفار، وقد تقدم الكلام عليه وعلى الجمع بينه وبين أحاديث التغليس، وقد تقرر في
[ 423 ]
الاصول أن الخطاب الخاص بنا لا يعارضه فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والامر بالاسفار لا يشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا على طريق النصوصية ولا الظهور، فملازمته للتغليس وموته عليه لا تقدح في مشروعية الاسفار للامة لولا أنه فعل ذلك وفعله معه الصحابة لكان ذلك مشعرا بعدم الاختصاص به فلا بد من المصير إلى التأويل كما سبق. وعن ابن مسعود قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها متفق عليه، ولمسلم: قبل وقتها بغلس ولاحمد والبخاري عن عبد الرحمن بن يزيد قال: خرجت مع عبد الله فقدمنا جمعا فصلى الصلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة وتعشى بينهما ثم صلى حين طلع الفجر. قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب والعشاء، ولا يقدم الناس جمعا حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة. قوله: بجمع بجيم مفتوحة فميم ساكنة فعين مهملة وهي المزدلفة، ويوم جمع يوم عرفة، وأيام جمع أيام منى أفاده القاموس. وإنما سميت المزدلفة جمعا لان آدم اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها. وروي عن قتادة أنه قال: إنما سميت جمعا لانه يجمع فيها بين الصلاتين، وقيل: وصفت بفعل أهلها لانهم يجتمعون بها ويزدلفون إلى الله أي يتقربون إليه بالوقوف فيها، وقيل غير ذلك. قوله: حتى يعتموا أي يدخلوا في العتمة وقد تقدم بيانها، وتمام حديث ابن مسعود في البخاري بعد قوله وصلاة الفجر هذه الساعة ثم وقف حتى أسفر ثم قال يعني ابن مسعود: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان؟ فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر انتهى. والحديث استدل به من قال باستحباب الاسفار، لان قوله: قبل ميقاتها قد بين في رواية مسلم أنه في وقت الغلس، فدل على أن ذلك الوقت أعني وقت الغلس متقدم على ميقات الصلاة المعروف عند ابن مسعود، فيكون ميقاتها المعهود هو الاسفار لانه الذي يتعقب الغلس فيصلح ذلك للاحتجاج به على الاسفار، وقد تقدم الكلام على ذلك. وعن أبي الربيع قال: كنت مع ابن عمر فقلت له: إني أصلي معك ثم ألتفت فلا أرى وجه جليسي ثم أحيانا تسفر، فقال: كذلك رأيت رسول الله صلى الله
[ 424 ]
عليه وآله وسلم يصلي وأحببت أن أصليها كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصليها رواه أحمد. الحديث في إسناده أبو الربيع المذكور. قال الدارقطني: مجهول وهو من جملة ما تمسك به القائلون باستحباب الاسفار، لان ابن عمر كان يسفر بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم، فلو كان منسوخا لما فعله، ولا يخفاك أن غاية ما فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أحيانا يغلس وأحيانا يسفر، وهذا لا يدل على أن الاسفار أفضل من التغليس، إنما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل الامرين، وذلك مما لا نزاع فيه إنما النزاع في الافضل، وفعل ابن عمر لا يدل على عدم النسخ المتنازع فيه وهو نسخ الفضيلة لما سلف، إنما يدل على عدم نسخ الجواز وذلك أمر متفق عليه. وعن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقال: يا معاذ إذا كان في الشتاء فغلس بالفجر وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تملهم، وإذا كان الصيف فأسفر بالفجر فإن الليل قصير والناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوا رواه الحسين بن مسعود البغوي في شرح السنة، وأخرجه بقي بن مخلد في مسنده المصنف. الحديث أخرجه أيضا أبو نعيم في الحلية كما قال السيوطي في الجامع الكبير، وفيه التفرقة بين زمان الشتاء والصيف في الاسفار والتغليس، معللا بتلك العلة المذكورة في الحديث، ولكنه لا يعارض أحاديث التغليس لما في حديث أبي مسعود السابق من التصريح بملازمته صلى الله عليه وآله وسلم للتغليس حتى مات، فكان آخر الامرين منه، وهذا الحديث ظاهر في التقدم لما فيه من التاريخ بخروج معاذ إلى اليمن فلا بد من تأويله بما تقدم. باب بيان أن من أدرك بعض الصلاة في الوقت فإنما يتمها ووجوب المحافظة على الوقت عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر
[ 425 ]
قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر رواه الجماعة. وللبخاري: إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه. والسجدة هنا الركعة. قوله: فقد أدرك قال النووي: أجمع المسلمون على أن هذا ليس على ظاهره، وأنه لا يكون بالركعة مدركا لكل الصلاة وتكفيه وتحصل الصلاة بهذه الركعة، بل هو متأول وفيه إضمار تقديره فقد أدرك حكم الصلاة أو وجوبها أو فضلها انتهى. وقيل: يحمل على أنه أدرك الوقت. قال الحافظ: وهذا قول الجمهور، وفي رواية من حديث أبي هريرة: من صلى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس وصلى ما بقي بعد غروب الشمس لم تفته العصر وقال مثل ذلك في الصبح. وفي رواية للبخاري من حديث أبي هريرة أيضا: فليتم صلاته. وللنسائي: فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته وللبيهقي: فليصل إليها أخرى ويؤخذ من هذا الرد على الطحاوي حيث خص الادراك باحتلام الصبي وطهر الحائض وإسلام الكافر ونحو ذلك، وأراد بذلك نصرة مذهبه في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته، لانه لا يكملها إلا في وقت الكراهة، وهو مبني على أن الكراهة تتناول الفرض والنفل وهي خلافية مشهورة، قال الترمذي: وبهذا يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وخالف أبو حنيفة فقال: من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته، واحتج في ذلك بالاحاديث الواردة في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وادعى بعضهم أن أحاديث النهي ناسخة لهذا الحديث، قال الحافظ: وهي دعوى تحتاج إلى دليل، وأنه لا يصار إلى النسخ بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن بأن تحمل أحاديث النهي على ما لا سبب له من النوافل انتهى. قلت: وهذا أيضا جمع بما يوافق مذهب الحافظ، والحق أن أحاديث النهي عامة تشمل كل صلاة وهذا الحديث خاص فيبنى العام على الخاص، ولا يجوز في ذلك الوقت شئ من الصلوات إلا بدليل يخصه، سواء كان من ذوات الاسباب أو غيرها، ومفهوم الحديث أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركا للوقت وأن صلاته تكون قضاء وإليه ذهب الجمهور، وقال البعض أداء. والحديث
[ 426 ]
يرده، واختلفوا إذا أدرك من لا تجب عليه الصلاة، كالحائض تطهر، والمجنون يغفل، والمغمى عليه يفيق، والكافر يسلم دون ركعة من وقتها هل تجب عليه الصلاة أم لا؟ وفيه قولان: للشافعي أحدهما لا تجب، وروي عن مالك عملا بمفهوم الحديث وأصحهما عن أصحاب الشافعي أنها تلزمه، وبه قال أبو حنيفة لانه أدرك جزءا من الوقت فاستوى قليله وكثيره، وأجابوا عن مفهوم الحديث بأن التقييد بركعة خرج مخرج الغالب ولا يخفى ما فيه من البعد، وأما إذا أدرك أحد هؤلاء ركعة وجبت عليه الصلاة، بالاتفاق بينهم، ومقدار هذه الركعة قدر ما يكبر، ويقرأ أم القرآن ويركع ويرفع ويسجد سجدتين. والحديث يدل على أن الصلاة التي أدركت منها ركعة قبل خروج الوقت أداء لا قضاء، وفي ذلك إشكالات عند أئمة الاصول. قوله: سجدة المراد بها الركعة، كما ذكره المصنف ومسلم في صحيحه، وقد ثبت عند الاسماعيلي بلفظ ركعة مكان سجدة، فدل على أن الاختلاف في اللفظ وقع من الرواة، وقد ثبت أيضا عند البخاري من طريق مالك بلفظ: من أدرك ركعة قال الحافظ: ولم يختلف على راويها في ذلك فكان عليها الاعتماد، قال الخطابي: المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها، والركعة إنما يكون تمامها بسجودها فسميت على هذا سجدة انتهى. وإدراك الركعة قبل خروج الوقت لا يخص صلاة الفجر والعصر لما ثبت عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة وهو أعم من حديث الباب. قال الحافظ: ويحتمل أن تكون اللام عهدية، ويؤيده أن كلا منهما من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة وهذا مطلق، وذاك يعني حديث الباب مفيد فيحمل المطلق على المقيد انتهى. ويمكن أن يقال: إن حديث الباب دل بمفهومه على اختصاص ذلك الحكم بالفجر والعصر، وهذا الحديث دل بمنطوقه على أن حكم جميع الصلوات لا يختلف في ذلك، والمنطوق أرجح من المفهوم، فيتعين المصير إليه ولاشتماله على الزيادة التي ليست منافية للمزيد. قال النووي: وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تعمد التأخير إلى هذا الوقت انتهى. وقد قدمنا الكلام على اختصاص هذا الوقت بالمضطرين في أوائل الاوقات فارجع إليه. وعن أبي ذر. قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة أو يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة. وفي رواية: فإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد فصل. وفي أخرى: فإن أدركتك يعني الصلاة معهم
[ 427 ]
فصل ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي رواه أحمد ومسلم والنسائي. قوله: يميتون الصلاة أي يؤخرونها فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه، والمراد بتأخيرها عن وقتها المختار لا عن جميع وقتها، فإن المنقول عن الامراء المتقدمين والمتأخرين إن هو تأخيرها عن وقتها المختار، ولم يؤخرها أحد منهم عن جميع وقتها، فوجب حمل هذه الاخبار على ما هو الواقع. قوله: فإن أدركتها الخ معناه صل في أول الوقت وتصرف في شغلك، فإن صادفتهم بعد ذلك وقد صلوا أجزأتك صلاتك، وإن أدركت الصلاة معهم فصل معهم وتكون هذه الثانية لك نافلة. الحديث يدل على مشروعية الصلاة لوقتها وترك الاقتداء بالامراء إذا أخروها عن أول وقتها، وأن المؤتم يصليها منفردا ثم يصليها مع الامام، فيجمع بين فضيلة أول الوقت وطاعة الامير. ويدل على وجوب طاعة الامراء في غير معصية لئلا تتفرق الكلمة وتقع الفتنة، ولهذا ورد في الرواية الاخرى: أن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الاطراف. وقوله: فإنها لك نافلة صريح أن الفريضة الاولى والنافلة الثانية. وقد اختلف في الصلاة التي تصلى مرتين هل الفريضة الاولى أو الثانية، فذهب الهادي والاوزاعي وبعض أصحاب الشافعي إلى أن الفريضة الثانية إن كانت في جماعة والاولى في غير جماعة، وذهب المؤيد بالله والامام يحيى وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أن الفريضة الاولى، وعن بعض أصحاب الشافعي أن الفرض أكملهما. وعن بعض أصحاب الشافعي أيضا أن الفرض أحدهما على الابهام فيحتسب الله بأيتهما شاء. وعن الشعبي وبعض أصحاب الشافعي أيضا كلاهما فريضة. (احتج الاولون) بحديث يزيد بن عامر عند أبي داود مرفوعا وفيه: فإذا جئت الصلاة فوجدت الناس يصلون فصل معهم وإن كنت صليت ولتكن لك نافلة وهذه مكتوبة. ورواه الدارقطني بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة وأجيب بأنها رواية شاذة مخالفة لرواية الحفاظ والثقات كما قال البيهقي وقد ضعفها النووي، وقال الدارقطني هي رواية ضعيفة شاذة، واستدل القائلون بأن الفريضة هي الاولى سواء كانت جماعة أو فرادى بحديث يزيد بن الاسود عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم، وصححه ابن السكن بلفظ: شهدت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجته فصليت معه الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف إذ هو برجلين
[ 428 ]
في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: علي بهما، فجئ بهما ترعد فرائصهما قال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا؟ قا فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول لان يزيد بن الاسود ليس له راو غير ابنه، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قال الحافظ: يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره، وقال: وقد وجدنا لجابر راويا غير يعلى أخرجه ابن منده في المعرفة، ومن حجج أهل القول الثاني حديث الباب فإنه صريح في المطلوب، ولان تأدية الثانية بنية الفريضة يستلزم أن يصلي في يوم مرتين، وقد ورد النهي عنه من حديث ابن عمر مرفوعا: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين عند أبي داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وأما جعله مخصصا بما يحدث فيه فضيلة فدعوى عاطلة عن البرهان، وكذا حمله على التكرير لغير عذر. وفي الحديث دليل على أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر وسائر الصلوات، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أطلق الامر بالاعادة ولم يفرق بين صلاة وصلاة، فيكون مخصصا لحديث لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر، ولاصحاب الشافعي وجه أنه لا يعيد الصبح والعصر تمسكا بعموم حديث: لا صلاة ووجه أنه لا يعيد بعد المغرب لئلا تصير شفعا. قال النووي: وهو ضعيف، قلت: وكذلك الوجه الاول لان الخاص مقدم على العام، وهم يوجبون بناء العام على الخاص مطلقا كما تقرر في الاصول لهم، واحتج من قال بأنهما فريضة بعدم المخصص بالاعتداد بأحدهما، ورد بحديث: لاظهران في يوم. وحديث: لا تصلي صلاة في يوم مرتين. وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ستكون عليكم بعدي أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، فقال رجل: يا رسول الله أصلي معهم؟ فقال: نعم إن شئت رواه أبو داود وأحمد بنحوه. وفي لفظ: واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا. عليكم بعدي أمراء تشغلهم أشياء عن الصلاة لوقتها حتى يذهب وقتها فصلوا الصلاة لوقتها، فقال رجل: يا رسول الله أصلي معهم؟ فقال: نعم إن شئت رواه أبو داود وأحمد بنحوه. وفي لفظ: واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا. الحديث رجال إسناده في سنن أبي داود ثقات، وقد أخرجه أيضا ابن ماجه، وسكت أبو داود والمنذري عن الكلام عليه، وقد عرفت ما أسلفناه عن ابن الصلاح والنووي وغيرهما من صلاحية ما سكت عنه أبو داود للاحتجاج. وحديث أبي ذر الذي قبله يشهد لصحته. وفيه دليل على وجوب تأدية الصلاة لوقتها، وترك ما عليه أمراء الجور من التأخير وعلى استحباب الصلاة معهم، لان الترك من دواعي الفرقة وعدم الوجوب لقوله
[ 429 ]
في هذا الحديث: إن شئت. وقوله: تطوعا وقد تقدم الكلام على فقه الحديث، قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه دليل لمن رأى المعادة نافلة، ولمن لم يكفر تارك الصلاة، ولمن أجاز إمامة الفاسق، انتهى. استنبط المؤلف من هذا الحديث والذي قبله ثلاثة أحكام، وقد تقدم الكلام على الاول منها في شرح حديث أبي ذر، وعلى الثاني في أول كتاب الصلاة، وأما الثالث فلعله يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في الجماعة. والحق جواز الائتمام بالفاسق لان الاحاديث الدالة على المنع كحديث: لا يؤمنكم ذو جراءة في دينه. وحديث: لا يؤمن فاجر مؤمنا ونحوهما ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك الاحاديث الدالة على جواز الائتمام بالفاسق كحديث: صلوا بعد من قال لا إله إلا الله. وحديث: صلوا خلف كل بر وفاجر ونحوهما ضعيفة أيضا، ولكنها متأيدة بما هو الاصل الاصيل، وهو أن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، فلا تنتقل عن هذا الاصل إلى غيره لدليل ناهض، وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة وليس المقام مقام بسط الكلام في ذلك. (تم)