حياة الإمام الرضا (ع)
السيد جعفر مرتضى

[ 3 ]
جعفر مرتضى حياة الامام الرضا (ع) دراسة وتحليل دار التبليغ الاسلامي
[ 4 ]
الكتاب - حياة الامام الرضا - ع - المؤلف - جعفر مرتضى الحسيني الناشر - دار التبليغ الاسلامي. ص ب 8601 التوزيع - دار التعارف للمطبوعات ص ب 643 ت 247280 الطبع - سنة - 1398 ه‍ - 1978 م حقوق الطبع محفوظة للناشر
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[ 7 ]
الاهداء إليك يا أعز من في الوجود علي.. يا من تعيش لاجلي، وتشعر بآلامي، وتحس بمشاكلي.. دون أن أراك، ودون أن أعرف مكانك، بل وحتى دون أن أفطن في كثير من الاحيان لوجودك. إليك يا أملي الحي، الذي يمدني بالقوة، ويجدد في العزيمة. ويا قبس الهدى والنور، الذي لولاه لكنت أعيش في الظلام،. ظلم الوحدة، والحيرة، والضياع. إليك. يا من تملا الارض قسطا، وعدلا، بعدما ملئت ظلما، وجورا. إليك. يا سيدي، ومولاي، يا صاحب الزمان. أرفع كتابي هذا. راجيا منك القبول. جعفر.
[ 9 ]
تقديم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين: وبعد: فقد كان هذا الكتاب نتيجة دراسة استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر. وهو يبحث في ظروف وأسباب حدث تاريخي هام في التاريخ الاسلامي.. ألا وهو: " أخذ البيعة للامام الرضا عليه السلام بولاية العهد للمأمون ". ورغم الاهمية البالغية لهذا الحدث، وكونه جديرا بالدراسة، والبحث، والتمحيص. فاننا رأينا المؤرخين والباحثين - ولاسباب مختلفة - يضربون عنه صفحا، ويحاولون تجاهله، والتقليل من أهميته. وعلى كل حال.. ومهما كانت الحقائق التي أوردتها في هذا الكتاب موافقة لهوى قوم، ومثيرة لحنق آخرين.. فإن ما أريد أن أؤكد عليه هو:
[ 10 ]
إنني لثقتي من نفسي بأنني ما ادخرت وسعا، ولم آل جهدا في تمحيص الحقائق، وابراز المعالم الاصيلة للصورة، التي أريد - لسبب أو لآخر - طمسها، وتشويه معالمها، وأيضا لحسن ظني بالقارئ، وثقتي بنزاهته، ونظرته الواعية. من أجل ذلك أقول - وبكل رضى، وارتياح، واطمئنان -: إنني لا أريد أن أفرض ما في هذا الكتاب من آراء، واستنتاجات على أحد.. بل سوف أترك الحكم في ذلك للقارئ نفسه، الذي يمتلك كامل الحرية في أن يقبل، أو أن يرفض، إذا اقتضى الامر أيا من الرفض، أو القبول. والله ولينا. وهو الهادي إلى سواء السبيل. جعفر مرتضى الحسيني
[ 11 ]
تمهيد صلة الماضي بالحاضر والمستقبل:.. بديهي أن بعض الاحداث التاريخية، التي تمر بالامة، تؤثر تأثيرا مباشرا، أو غير مباشر في واقعها، إن حاضرا، وإن مستقبلا. بل وقد تؤثر في روح الامة، وعقلها، وتفكيرها.. ومن ثم على مبادئها العامة، التي قامت عليها قوانينها ونظمها، التي تنظم لها سيرتها، وتهيمن على سلوكها.. فقد تقوي من دعائمها، وتؤكد وجودها، واستمرارها، وقد تنسفها من أسسها، إن كانت تلك المبادئ على درجة كبيرة من الضعف والوهن في ضمير الامة ووجد انها.. وعلى صعيد العمل في المجال العملي العام. فمثلا.. نلاحظ أن الاكتشافات الحديثة، والتقدم التقني قد أثر أثرا لا ينكر حتى في عاطفة الانسان، التي يفرضها، واقع التعايش. وحتى في مواهبه وملكاته، فضلا عن سلوكه، وأسلوب حياته. وحيث إن المبادئ الاجتماعية لم تكن على درجة من الرسوخ والقوة في ضمير الانسان ووجد انه، ولم تخرج عن المستوى الشكلي في حياته العملية - وإن انغرست في أعماق بعض أفراده أحيانا في دورات تاريخية
[ 12 ]
قصيرة - نرى أنها بدورها قد تأثرت بذلك، ونسفت أو كادت من واقع هذه الامة، وعدمت أو كادت من دائرة حياتها. وليكون البديل - من ثم - عنها لدى هذا الكائن هو " الذاتية " الكافرة بكل العواطف الاجتماعية، والعوض عنها في نفسه هو المادة الجافة، التي لا ترحم ولا ترثي، ولا تلين، لا يجد لذة العاطفة، ولا حلاوة الرحمة، وليعود الانسان - بعد لاي - متشائما حاقدا، لا يثق بمستقبله، ولا يأمن من يحيط به، ولا يطمئن إلى أقرب الناس إليه. وبطبيعة الحال، سوف يتأثر النشء الجديد بذلك، ثم ينتقل ذلك إلى الجيل الذي يليه. وهكذا.. وهكذا.. فإن الحدث التاريخي الذي كان قبل ألف سنة مثلا، أو أكثر قد نجد له اثارا بارزة، حتى في واقع حياتنا التي نعيشها اليوم. وإذن.. فنستطيع أن نستخلص من هذا: أن الاحداث التاريخية مهما بعدت، ومن أي نوع كانت تؤثر في وضع الامة، وفي تصرفاتها، وفي حياتها، وسلوكها على المدى الطويل. وتتحكم - إلى حد ما - في مستقبلها، وان العالم التاريخي له أثر كبير في فرض المستوى الذي يعيشه المجتمع بالفعل، سواء في ذلك الادبي منه. أو العلمي، أو الديني، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو غير ذلك. وغني عن القول هنا. أن التأثر بالاحداث يختلف من أمة لاخرى، ومن عصر لآخر. * * * لماذا كان تدوين التاريخ: ومن هنا تبرز أهمية التاريخ. ونعرف أنه يلعب دورا كبيرا في حياة
[ 13 ]
الامم، مما يجعلنا لا نجد كثير عناء في الاجابة على سؤال: لماذا عنيت الامم على اختلافها بالتاريخ. تدوينا. ودرسا، وبحثا، وتمحيصا ؟ ! فان ذلك لم يكن إلا لانها تريد أن تستفيد منه، لتتعرف على واقعها الذي تعيشه، لتستفيد من ذلك لمستقبلها الذي تقدم عليه.. ولتكتشف منه عوامل رقيها. وانحطاطها، ولتنطلق من ثم لبناء نفسها على أسس متينة وسليمة.. فمهمة التاريخ إذن - تاريخ الامة المدون - هي: أن يعكس بأمانة ودقة ما تمر به الامة من أحوال وأوضاع، وأزمات فكرية، واقتصادية، وظروف سياسية: واجتماعية، وغير ذلك. * * * ونحن. هل نملك تاريخا ! ! ونحن أمة.. لكننا لا نملك تاريخا - وأقصد بذلك كتب التاريخ - نستطيع أن نستفيد منه الكثير في هذا المضمار، لان اكثر ما كتب لنا منه تتحكم فيه النظرة الضيقة، والهوى المذهبي، والتزلف للحكام، وأقصد ب‍ " النظرة الضيقة " عملية ملاحظة الحدث منفصلا عن جذوره وأسبابه التي تلقي الضوء الكاشف على حقيقته وواقعه. نعم.. إننا بمرارة - لا نملك تاريخا نستطيع أن نستفيد منه الكثير، لان المسيرة قد انحرفت، والاهواء قد لعبت لعبتها (1) وأثرت أثرها المقيت (1) ومن أراد أن يعرف المزيد عن ذلك، فليراجع: النصائح الكافية لمن يتولى معاوية من ص 72 إلى ص 79 والغدير ج 5 ص 208 إلى ص 378، وج 11 من ص 71، إلى ص 103، وج 9 من ص 218 إلى آخر المجلد، وغير ذلك من مجلدات هذا الكتاب وصفحاته والاحتجاج للطبرسي، وخمسون ومئة صحابي مختلق للعسكري، وغير ذلك كثير... (*)
[ 14 ]
البغيض، حتى في تدوين التاريخ نفسه. وإنه لمما يدمي قلوبنا، ويملا نفوسنا أسى وألما، أن نكون قد فقدنا تاريخنا، ودفناه تحت ركام من الانانيات. والعصيات، والاطماع الرخيصة، حتى لم يبق منه سوى الرسوم الشوهاء، والذكريات الشجية.. ومرة أخرى أقول: إن كل ما لدينا هو - فقط - تاريخ الحكام والسلاطين، الذين تعاقبوا على كراسي الحكم، وحتى تاريخ الحكام هذا، رأيناه مشوها، وممسوخا، حيث لم يستطع أن يعكس بأمانة وحيدة الصورة الحقيقية لحياة أولئك الحكام، وأعمالهم وتصرفاتهم. وما ذلك إلا لان المؤرخين لم يكونوا أحرارا في كتابتهم للتاريخ، بل كانوا يؤرخون ويكتبون حسب ما يريده الحكام أنفسهم، ويخدم مصالحهم. إما رهبة من هؤلاء الحكام، أو رغبة، أو تعصبا لمذهب، أو لغيره. ومن هنا.. فليس من الغريب جدا أن نرى المؤرخ يعتني بأمور تافهة وحقيرة، فيسهب القول في وصف مجلس شراب، أو منادمة، حتى لا يفوته شئ منه، أو يختلق ويفتعل أحداثا لم يكن لها وجود إلا في عالم الخيالات والاوهام، أو يتكلم عن أشخاص لم يكن لهم شأن يذكر، بل قد لا يكون لهم وجود أصلا.. بينما نراه في نفس الوقت يهمل بالكلية شخصيات لها مكانتها، وخطرها في التاريخ، أو يحاول تجاهل الدور الذي لعبته فيه.. ويهمل أو يشوه أحداثا ذات أهمية كبرى. صدرت من الحاكم نفسه، أو من غيره. ومن بينها ما كان له دور هام في حياة الامة، ومستقبلها، وأثر كبير في تغيير مسيرة التاريخ، أو يحيطها - لسبب أو لآخر - بستار من الكتمان، والابهام. * * * ومن تلك الاحداث... وفي طليعة تلك الاحداث التي كان نصيبها ذلك: " البيعة للامام
[ 15 ]
الرضا عليه السلام بولاية العهد. " من قبل الخليفة العباسي عبد الله المأمون !. هذا الحدث الذي لم يكن عاديا، وطبيعيا، كسائر ما يجري وما يحدث، والذي كان نصيبه من المؤرخين أن يتجاهلوه، ويقللوا ما أمكنهم من اهميته، وخطره، وأن يحيطوا أسبابه ودوافعه، وظروفه بستائر من الكتمان. وعندما كانت تواجههم الاسئلة حوله تراهم يرددون تلك التفسيرات التي أراد الحكام أن يفهموها للناس، دون أن يكون من بينها ما يقنع، أو ما يجدي.. إلا أننا مع ذلك، لم نعدم في هذا الذي يسمى، ب‍ " التاريخ " بعض الفلتات والشذرات المتفرقة هنا وهناك، التي تلقي لنا ضوءا، وتبعث فينا الرجاء والامل بالوصول إلى الحقائق التي خشيها الحكام، فقضوا عليها - بكل قسوة وشراسة - بالعدم، والاندثار.. ولو فرض: أنه كان للمؤرخين القدامى العذر - إلى حد ما - في تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، لظروف سياسية، واجتماعية، ومذهبية معينة.. فان من الغريب حقا أن نرى الباحثين اليوم - مع أنهم لا يعيشون تلك الظروف، وينعمون بالحرية بمفهومها الواسع. - يحاولون بدورهم تجاهل هذا الحدث، والتقليل من أهميته، عن قصد أحيانا، وعن غير قصد أخرى، وإن كنا نستبعد هذا الشق الاخير، إذ أننا نشك كثيرا في أن لا يسترعي حدث غريب كهذا انتباههم، ويلفت أنظارهم. وأيا ما كان السبب في ذلك، فان النتيجة لا تختلف، ولا تتفاوت، إذ انها كانت في الواقع الخارجي سلبية على كل حال. * * *
[ 16 ]
وبدافع من الشعور بالواجب ومن هنا. وبدافع من الشعور بالمسؤولية، رأيت أن أقوم بدراسة لهذا الحدث بالذات، للتعرف على حقيقة دوافعه وأسبابه، وواقع ظروفه وملابساته. وكانت نتيجة تلك الدراسة، التي استمرت ثلاث سنوات ما بين مد وجزر هي: هذا الكتاب الذي بين يديك.. لا أدعي: أن كل ما في هذا الكتاب من آراء واستنتاجات، لا تعدو الحقيقة، لا تشذ عن الصواب. ولا أدعي أيضا: أنني استعطت أن أضع يدي على كل خيوط القضية، وأن أنفذ إلى جميع جذورها العميقة والرئيسة، فان ذلك ليس من الامور السهلة بالنسبة لاي حدث تاريخي مضى عليه العشرات والمئات من السنين، فكيف إذا كان إلى جانب ذلك مما قد أريد له - كما قلنا - أن تبقى دوافعه وأسبابه طي السرية والكتمان، وظروفه وملابساته رهن الابهام والغموض.. لا.. لا أدعي هذا، ولا ذاك. وإنما أقول: إن هذا الكتاب قادر - ولا شك - على أن يرسم علامة استفهام كبيرة حول " طبيعية " هذا الحدث، وحول المأمون، ونواياه، وتصرفاته المشبوهة. وانه - على الاقل يمكن أن يعتبر خطوة على طريق الكشف الكامل عن جميع الحقائق، والتعرف على كافة العوامل والظروف، التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام.
[ 17 ]
تقسيم الكتاب.. باختصار.. ومن أجل استيفاء البحث من جميع جوانبه، كما لا بد لنا من تقسيم الكتاب إلى أقسام أربعة: الاول: يتناول قيام الدولة العباسية، وأساليب دعوتها، ويعطي لمحة عن موقف العلويين، والعباسيين، كل منهما من الآخر، وردود الفعل لذلك، وغير ذلك من أمور.. الثاني: يبحث حول ظروف البيعة، وأسبابها، ونتائجها. الثالث: يتكفل بالقاء أضواء كاشفة عن المواقف، سواء بالنسبة إلى المأمون، أو بالنسبة إلى الامام (ع).. الرابع: نعرض فيه لبعض الاحداث التي تلقي لنا ضوءا على حقيقة نوايا المأمون، وتكشف لنا عن بعض مخططاته.. وغير ذلك مما يتصل بذلك، ويرتبط به، بنحو من الارتباط والاتصال.. هذا: وقد وضعنا في آخر الكتاب بعض الوثائق التاريخية الهامة، التي آثرنا أن يطلع القارئ بنفسه على نصها الكامل.. ونسأل الله أن يوفقنا جميعا. ويهدينا سبيل الرشاد..
[ 19 ]
القسم الاول ممهدات. 1 - قيام الدولة العباسية. 2 - مصدر الخطر على العباسيين. 3 - سياسة العباسيين ضد العلويين. 4 - سياسة العباسيين مع الرعية.. 5 - فشل سياسة العباسيين ضد العلويين.
[ 21 ]
قيام الدولة العباسية العلويون في الماضي البعيد.. بعد أن أمعن الامويون في الانحراف عن الخط الاسلامي القويم، وأصبح واضحا لدى كل أحد، أن هدفهم ليس إلا الحكم والسيطرة، والتحكم بمقدرات الامة وامكاناتها.. وأن كل همهم كان مصروفا إلى الملذات والشهوات، أينما كانت، وحيثما وجدت.. وليس لمصلحة الامة، وسعادتهما، ورفاهها عندهم أي اعتبار.. وبعد أن لجوا في عدائهم لاهل البيت عليهم السلام، وبلغوا الغاية فيهم، قتلا، وعسفا، وتشريدا، وخصوصا ما كان منهم في وقعة كربلاء التي لم يعرف التاريخ أبشع، ولا أفظع منها.. وجعلهم لعن علي عليه السلام سنة لهم. يشب عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير.. ثم ملاحقتهم لولده، ولكل من يتشيع لهم. تحت كل حجر ومدر، وفي كل سهل وجبل، ليعفوا منهم الاثار، ويخلو منهم الديار. بعد كل هذا.. وبفضل جهاد أهل البيت المتواصل، في سبيل توعية الامة، وتعريفها بأحقيتهم، وبحقيقة، وواقع تلك الطغمة الفاسدة.. كان من الطبيعي أن ينمو تعاطف الناس مع أهل البيت
[ 22 ]
ويزيد، كلما ازداد نفورهم من الامويين، ونقمتهم عليهم، وذلك تبعا لتزايد وعيهم. وتكشف الحقائق لهم، ولانهم أدركوا من واقع الاحداث التي مرت بهم: أن أهل البيت عليهم السلام هم: الركن الوثيق، الذي لا نجاة لهم إلا بالالتجاء إليه، وذلك الامل الحي، الذي تحيا به الامة، وتحلو معه الحياة.. * * * العرش الاموي في مهب الريح. ولهذا نجد: أن الثورات والفتن ضد الحكم الاموي كانت تظهر من كل جانب ومكان. طيلة فترة حكمهم، حتى أنهكت قواهم، واضعفتهم إلى حد كبير، وفنوا وأفنوا، حتى لم يعد باستطاعتهم ضبط البلاد، ولا السيطرة على العباد.. وكانت تلك الثورات تتخذ الطابع الديني على العموم، مثل: ثورة أهل المدينة المعروفة ب‍ " وقعة الحرة " وثورة قراء الكوفة والعراق، المعروفة ب‍ " دير الجماجم " سنة 83 ه‍.. وقبلها ثورة المختار والتوابين سنة 67 ه‍. وأيضا ثورة يزيد بن الوليد مع المعتزلة على الوليد بن يزيد، للامر بالمعروف والنهي عن المنكر، سنة 126 ه‍. وكذلك ثورة عبد الله بن الزبير، الذي تغلب على البلاد ما عدا دمشق، وما والاها مدة من الزمن.. ثم الثورة التي قامت ضد هشام في افريقيا. وثورة الخوارج بقيادة المتسمي ب‍ " طالب الحق " سنة 128 ه‍. وأيضا ثورة الحارث بن سريح في خراسان، داعيا إلى كتاب الله، وسنة رسوله سنة 116 ه‍. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه..
[ 23 ]
واما ما كان منها بدافع غير ديني، بل من أجل الحكم، والسلطان، فنذكر منها على سبيل المثال: ثورة آل المهلب سنة 102 ه‍. وثورة مطرف بن المغيرة.. * * * وأما في زمن مروان. وفي زمن مروان بن محمد الجعدي، المعروف بمروان الحمار، كان الوضع في السوء والتدهور قد بلغ الغاية، وأوفى على النهاية، حيث بلغ من انشغال مروان بالثورات والفتن، التي كانت قد شملت اكثر الاقطار: أنه لم يستطع أن يصغي إلى شكوى عامله في خراسان نصر بن سيار، الذي كان بدوره يواجه الثورات والفتن، ومن جملتها دعوة بني العباس، التي كانت تزداد قوة يوما بعد يوم. بقيادة أبي مسلم الخراساني. * * * من خلال الاحداث. كل ذلك يكشف عن مدى تبرم الناس بحكم بني أمية، وبسلطانهم، الذي كان قائما على أساس من الظلم والجور، والابتزاز، والتحكم بمقدرات الامة، وامكاناتها.. ويتضح لنا ذلك جليا إذا لاحظنا: أن ما كان يتقاضاه الولاة لا يمكن أن يخطر على قلب بشر، ويكفي مثالا على ذلك أن نشير إلى أن خالدا القسري، كان يتقاضى راتبا سنويا قدره " 20 " مليون درهم، بينما ما كان يختلسه كان يتجاوز
[ 24 ]
ال‍ " 100 " مليون (1)، وإذا كان هذا حال الولاة، فكيف ترى كان حال الخلفاء، الذين كانوا يحقدون على كل القيم، والمثل، والكمالات الانسانية،.. والذين وصف الكميت رأيهم في الناس، فقال: رأيه فيهم كرأي ذوي الثلة في التائجات جنح الظلام. جز ذي الصوف وانتقاء لذي المخة، نعقا ودعدعا بالبهام (2). نعم.. لقد كانت الامة قد اقتنعت اقتناعا كاملا ونهائيا: بأن بني أمية ليس لهم بعد حق في أن يفرضوا أنفسهم قادة للامة، ولا روادا لمسيرتها، لان نتيجة ذلك ستكون - حتما - هي جر الامة إلى الهاوية. حيث الدمار والفناء، فلفظتهم، وانقلبت عليهم، تأخذ منهم بعض الحقوق التي لها عندهم، إلى أن تمكنت أخيرا من أن تخلي منهم الديار، وتعفي منهم الآثار.. * * * وكان نجاح العباسيين طبيعيا.. ومن هنا نعرف: أن نجاح العباسيين في الاستيلاء على مقاليد الحكم - (1) السيادة العربية ص 32، ترجمة الدكتور حسن ابراهيم حسن، ومحمد زكي ابراهيم. وفي البداية والنهاية ج 9 ص 325: أن دخل خالد القسري كان في كل سنة " 13 " مليون دينار، ودخل ولده يزيد بن خالد كان " 10 " ملايين دينار سنويا، ولا بأس بمطالعة كتاب السيادة العربية، ليعرف ما أصاب، وخصوصا العراقيين والخراسانيين في عهد الامويين. (2) الهاشميات ص 26، 27. والثلة: القطعة الكثيرة من الضان. والثائجات: الصائحات. وانتقاء: اختيار، وأراد بذي المخة: السمينة، ونعقا: أي صياحا. والدعدعة: زجر البهائم. يقول: رأي الواحد من هؤلاء الخلفاء في رعيته، ومعاملته لها كرأي أصحاب الغنم في غنمهم، فلا يراعون العدل، ولا الانصاف فيهم.. (*)
[ 25 ]
في ذلك الحين - لم يكن ذلك الامر المعجزة، والخارق للعادة. بل كان أمرا طبيعيا للغاية، إذا ما أخذت الحالة الاجتماعية، والظروف والملابسات آنئذ بنظر الاعتبار، فان الامة كانت مهيأة نفسيا لقبول التغيير، أي تغيير. بل كانت تراه أمرا ضروريا، لابد منه، ولا غنى عنه، إذا كانت تريد لنفسها الحياة الفاضلة، والعيش الكريم. ولهذا.. فليس من الغريب أن نقول: إنه كان بامكان أية ثورة أن تنجح، لو أنها تهيأت لها نفس الظروف، وسارت على نفس الخط، واتبعت نفس الاساليب، التي اتبعها العباسيون في دعوتهم، وثورتهم. ونستطيع أن نتبين أساليب العباسيين تلك في ثلاثة خطوط عريضة وواضحة. الخط الاول: " كانوا يصورون أنفسهم على أنهم ما جاءوا إلا لينقذوا الامة من شرور بني أمية، وظلمهم، وعسفهم، الذي لم يكن يقف عند حدود. وكانت دعوتهم تتخذ اتجاه التبشير بالخلاص، وأنهم سوف يقيمون حكما مبدؤه العدل، والمساوات، والامن والسلام. وقد كانت وعودهم هذه كسائر الوعود الانتخابية، التي خلقتها الدعوة العباسية في الجماهير مسؤولة إلى حد كبير عن ردود الفعل العنيفة، التي ألفناها من ساسة العصر الحديث... بل لقد كانت الاماني التي خلقتها الدعوة العباسية في الجماهيرة مسؤولة إلى حد كبير عن ردود الفعل العنيفة، التي حدثت ضد الحكم العباسي بعد ذلك، حيث كان حكمهم قائما على الطغيان المتعطش إلى سفك الدماء (1). ". (1) راجع: امبراطورية العرب، للجنرال جلوب، ترجمة: خيري حماد. (*)
[ 26 ]
الخط الثاني: إنهم لم يعتمدوا كثيرا على العرب، الذين كانوا يعانون من الانقسامات الداخلية الحادة، وإنما استعانوا بغير العرب، الذين كانوا في عهد بني أمية محتقرين، ومنبوذين، ومضطهدين، ومحرومين من أبسط الحقوق المشروعة، التي منحهم إياها الاسلام. حتى لقد أمر الحجاج أن لا يؤم في الكوفة إلا عربي.. وقال لرجل من أهل الكوفة: لا يصلح للقضاء إلا عربي (1).. كما طرد غير العرب من البصرة، والبلاد المجاورة لها، واجتمعوا يندبون: وامحمدا وأحمدا. ولا يعرفون أين يذهبون، ولا عجب أن نرى أهل البصرة يلحقون بهم، ويشتركون معهم في نعي ما نزل بهم من حيف وظلم (2) بل لقد قالوا: " لا يقطع الصلاة إلا: حمار، أو كلب، أو مولى (3).. " وقد أراد معاوية أن يقتل شطرا من الموالي، عندما رآهم كثروا، فنهاه الاحنف عن ذلك (4). وتزوج رجل من الموالي بنتا من أعراب بني سليم، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ ابراهيم بن هشام بن اسماعيل، (1) ضحى الاسلام ج 1 ص 24، والعقد الفريد ج 1 ص 207، ومجلة الهادي، السنة الثانية العدد الاول ص 89، وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد 2 جزء 4 ص 343. (2) السيادة العربية ص 56، 57، ولا بأس بمراجعة: تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الاول ج 2 ص 274 (3) العقد الفريد طبع مصر سنة 1935 ج 2 ص 270، وتاريخ التمدن الاسلامي جزء 4 ص 341 (4) المصدران السابقان.. (*)
[ 27 ]
فشكا إليه ذلك، فأرسل الوالي إلى المولى، ففرق بينه وبين زوجته، وضربه مأتي سوط، وحلق رأسه، وحاجبه، ولحيته. فقال محمد ابن بشير في جملة أبيات له: قضيت بسنة وحكمت عدلا * ولم ترث الخلافة من بعيد (1) ولم تفشل ثورة المختار، إلا لانه استعان فيها بغير العرب، فتفرق العرب عنه لذلك (2) ويقول أبو الفرج الاصفهاني: ". كان العرب إلى أن جاءت الدولة العباسية، إذا جاء العربي من السوق، ومعه شئ، ورأى مولى، دفعه إليه، فلا يمتنع (3). " بل كان لا يلي الخلافة أحد من أبناء المولدين، الذين ولدوا من أمهات أعجميات (4). وأخيرا.. فان البعض يقول: إن قتل الحسين كان: " الكبيرة، التي هونت على الامويين أن يقاوموا اندفاع الايرانيين ؟ إلى الدخول في الاسلام (5). ". وبعد هذا. فان من الطبيعي أن يبذل الموالي أرواحهم، ودماءهم وكل غال ونفيس في سبيل التخلص من حكم يعاملهم هذه المعاملة، وله فيهم هذه النظرة، فاعتماد الدعوة العباسية على هؤلاء كان منتظرا (1) الاغاني ج 14 ص 150، وضحى الاسلام ج 1 ص 23، 24. (2) السيادة العربية والشيعة والاسرائيليات ص 40، ولا بأس أيضا بمراجعة: تاريخ التمدن الاسلامي، والمجلد الاول، الجزء الثاني ص 282، 283 (3) ضحى الاسلام ج 1 ص 25. (4) ضحى الاسلام ج 1 ص 25، والعقد الفريد ج 6 ص 130، 131، طبعة ثالثة، ومجلة الهادي، السنة الثانية، العدد الاول ص 89. (5) الصلة بين التصوف والتشيع ص 95. (*)
[ 28 ]
ومتوقعا، كما أن اندفاع هؤلاء في نصرة الدعوة العباسية كان متوقعا، ومنتظرا أيضا. الخط الثالث: أنهم - أعني العباسيين - قد حاولوا في بادئ الامر أن يربطوا دعوتهم وثورتهم بأهل البيت عليهم السلام. وطبيعة البحث تفرض علينا أن نتوسع في بيان هذه النقطة بالذات وذلك لمالها من الاهمية البالغة، بالنظر لما تركته من آثار بارزة على مدى التاريخ، ولانها كانت الناحية التي اعتمد العباسيون عليها اعتمادا كليا، وتعتبر السبب الرئيس في وصول العباسيين إلى السلطة، وحصولهم على مقاليد الحكم.. ولهذا. فنحن نقول: دولة بني العباس في صحيفة ابن الحنفية: قد نقل ابن أبي الحديد (1) عن أبي جعفر الاسكافي: أنه قد صحت الرواية عندهم عن أسلافهم، وعن غيرهم من أرباب الحديث، أنه: لما مات علي أمير المؤمنين عليه السلام، طلب محمد بن الحنفية من أخويه: الحسن، والحسن ميراثه من العلم، فدفعا إليه صحيفة، لو اطلعاه على غيرها لهلك، وكان في هذه الصحيفة ذكر لدولة بني العباس. فصرح ابن الحنفية لعبدالله بن العباس بالامر، وفصله له. والظاهر أن تلك الصحيفة انتقلت منه لولده أبي هاشم، وعن طريقه وصلت إلى بني العباس. ويقال: إنها قد ضاعت منهم أثناء (1) شرح نهج البلاغة ج 7 ص 149، 150. (*)
[ 29 ]
حربهم مع مروان بن محمد الجعدي (1)، آخر خلفاء الامويين. وقد ذكرت هذه الصحيفة في كلام بني العباس، وخلفائهم كثيرا، وسيأتي لها ذكر في رسالة المأمون للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله. * * * متى بدأ العباسيون دعوتهم، وكيف ؟ وبعد هذا. فان الشئ المهم هنا هو تحديد الزمن الذي بدأ به العباسيون دعوتهم، وكيف ؟ ونستطيع أن نبادر هنا إلى القول: إن الذين بدءوا بالدعوة أولا هم العلويون، وبالتحديد من قبل أبي هاشم، عبد الله بن محمد الحنفية، وهو الذي نظم الدعاة، ورتبهم، وقد انضم تحت لوائه: محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ومعاوية ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، و عبد الله بن الحارث بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب، وغيرهم.. وهؤلاء الثلاثة هم الذين حضروه حين وفاته، وأطلعهم على أمر دعاته. وقد قرأ محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله تلك الصحيفة، المشار إليها آنفا، ووجد كل منهما ذكرا للجهة التي هو فيها. ولهذا نلاحظ: أن كلا من محمد بن علي، ومعاوية بن عبد الله، قد ادعى الوصاية من أبي هاشم، مما يدل دلالة واضحة على أنه لم يخصص أيا منهما بالوصية، وإنما عرفهما دعاته فقط. (1) شرح نهج البلاغة ج 7 ص 149. (*)
[ 30 ]
هذا. وبعد موت معاوية بن عبد الله، قام ابنه عبد الله يدعي الوصاية من أبيه. من أبي هاشم.. وكان له في ذلك شيعة، يقولون بامامته سرا حتى قتل. وأما محمد بن علي فقد كان بمنتهى الحنكة والدهاء، وقد تعرف - كما قلنا - من أبي هاشم على الدعاة، واستطاع بما لديه من قوة الشخصية، وحسن الدهاء أن يسيطر عليهم، ويستقل بهم (1)، ويبعدهم عن معاوية بن عبد الله، وعن ولده، ويبعدهما عنهم. واستمر محمد بن علي يعمل بمنتهى الحذر والسرية. وكان عليه أن: 1 - يحذر العلويين، الذين كانوا أقوى منه حجة، وأبعد صيتا. بل عليه أن يستغل نفوذهم - إن استطاع - لصالحه، وصالح دعوته. ولقد فعل ذلك هو وولده كما سيتضح. 2 - وكان عليه أيضا أن يتحاشى مختلف الفئات السياسية، التي لن يكون تعامله معها في صالحه، وفي صالح دعوته. 2 - والاهم من ذلك أن يصرف أنظار الحكام الامويين عنه، وعن نشاطاته، ويضللهم، ويعمي عليهم السبل. * * * ولذا فقد اختار خراسان، فأرسل دعاته إليها. وأوصاهم بوصيته (1) شرح النهج للمعتزلي ج 7 ص 150. (*)
[ 31 ]
المشهورة، التي يقسم فيها البلاد والامصار: هذا علوي، وذاك عثماني، وذلك غلب عليه أبو بكر وعمر، والآخر سفياني. إلى آخر ما سيأتي (1). (1) ولقد بذل محمد بن علي جهدا جبارا في إنجاح الدعوة، وكانت أكثر نشاطاته في حياة والده، علي بن عبد الله، الذي يبدو أنه لم يكن له في هذا الامر دور يذكر. وتوفي والده على ما يظهر في سنة 118 ه‍. وكان قد بدأ نشاطاته، حسب ما بأيدينا من الدلائل التاريخية من سنة 100 ه‍. أي بعد وفاة أبي هاشم بسنتين. إذ في: سنة 100 ه‍. وجه محمد بن علي بن أرض الشراة ميسرة إلى العراق ووجه محمد بن خنيس، وأبا عكرمة السراج، وهو أبو محمد الصادق، وحيان العطار إلى خراسان. وفيها أيضا جعل اثني عشر نقيبا، وأمر دعاته بالدعوة إليه، وإلى أهل بيته. وفي سنة 102 ه‍. وجه ميسرة رسله إلى خراسان، وظهر أمر الدعوة بها وبلغ ذلك سعيد خذينة، عامل خراسان، فأرسل، وأتى بهم، واستنطقهم، ثم أخذ منهم ضمناء وأطلقهم. وفي سنة 104 ه‍. دخل أبو محمد الصادق، وعدة من أصحابه، من أهل خراسان إلى محمد بن علي، فأراهم السفاح في خرقة، وكان قد ولد قبل خمسة عشر يوما، وقال لهم " والله، ليتمن هذا الامر، حتى تدركوا ثاركم من عدوكم ". وفي سنة 105 ه‍. دخل بكير بن ماهان في دعوة بني هاشم. وفيها مات ميسرة، فجعل محمد بن علي بكيرا هذا مكانه في العراق.. وفي سنة 107، أو 108 ه‍ وجه بكير بن ماهان عدة من الدعاة إلى خراسان، فظفر بهم عامل خراسان، فقتلهم، ونجا منهم عمارة، فكان هو الذي أخبر محمد ابن علي بذلك. وفي سنة 113 ه‍. صار جماعة من دعاة بني العباس إلى خراسان، فأخذ الجنيد بن عبد الرحمان رجلا منهم، فقتله، وقال: " من اصيب منهم فدمه هدر ". وفي سنة 117 ه‍. أخذ عامل خراسان أسد بن عبد الله وجوه دعاة بني العباس، وفيهم النقباء، ومنهم سليمان بن كثير، فقتل بعضهم، ومثل ببعضهم، وحبس آخرين. وفي سنة 118 وجه بكير بن ماهان عمار بن يزيد - وهو خداش - واليا على شيعة بني العباس، فنزل مروا، ودعا إلى محمد بن علي، ثم غلا.. (*)
[ 32 ]
وأمرهم - أعني الدعاة بالتحاشي عن الفاطميين، لكنه ظل هو شخصيا، ومن معه من العباسيين، الذين استنوا بسنته، وساروا من بعده بسيرته - ظلوا - يتظاهرون للعلويين بأنهم معهم، وأن دعوتهم لهم، ولم يكن إلا القليلون يعرفون بأنه: كان يدبر الامر للعباسيين. وقد أعطى دعاته شعارات مبهمة، لا تعين أحدا، وصالحة للانطباق على كل فريق، كشعار: " الرضا من آل محمد " و " أهل البيت ". ونحو ذلك. * * * مدى سرية الدعوة: والظاهر. أن عبد الله بن معاوية كان من جملة أولئك المخدوعين بهذه الشعارات، إذ قد ذكر المؤرخون، ومنهم أبو الفرج في مقاتل الطالبيين ص 168، وغيره: أنه بعد ان استظهر ابن ضبارة على عبد الله ابن معاوية توجه عبد الله إلى خراسان، وكان أبو مسلم قد ظهر بها، فخرج إلى أبي مسلم طمعا في نصرته ! فأخذه أبو مسلم، فحبسه، ثم قتله.. = وفي سنة 120 ه‍. وجهت شيعة بني العباس سليمان بن كثير إلى محمد بن علي في أمر خداش. وفي سنة 124 ه‍. قدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفة يريدون مكة. وفيها أيضا اشترى بكير بن ماهان أبا مسلم. راجع في ذلك كله: تاريخ الطبري مطبعة الاستقامة ج 5 ص: 316، 358، 368، 387، 389، 425، 439، 440، 467، 512، وغير ذلك من كتب التاريخ. (*)
[ 33 ]
وهذا يدل دلالة واضحة على أن عبد الله بن معاوية كان يظن أن أبا مسلم سوف ينصره، وأنه - يعني أبا مسلم - كان يدعو إلى أهل البيت، والرضا من آل محمد على الحقيقة، ولم يخطر في باله: أن الدعوة كانت للعباسيين، وبتدبير من أعظم داهية فيهم ! !.. بل لعلنا نستطيع أن نقول: إن محمد بن علي قد استطاع أن يخفي هذا الامر حتى عن ولديه: السفاح، والمنصور، ولذا نراهما قد التحقا مع جميع بني هاشم العباسيين والعلويين على حد سواء، وبعض الامويين (1) ووجوه قريش بعبدالله بن معاوية الخارج سنة 127 ه‍. في الكوفة، ثم في شيراز، حيث تغلب على: فارس، وكورها، وعلى حلوان، وقومس، واصبهان، والري وعلى مياه الكوفة، وعلى مياه البصرة، وعلى همدان، وقم، واصطخر، وعظم أمره جدا (2). وقد تولى المنصور من قبل عبد الله بن معاوية هذا على " إيذج " (3) كما تولى غيره غير ذلك من الامصار. فقبول المنصور لولاية " إيذج " من قبله، باعتباره من الهاشميين يكشف عن أنه لم يكن بعلم: أن والده كان ابتداءا من سنة مئة، أي قبل خروج عبد الله بن معاوية ب‍ " 28 " سنة يسعى جاهدا، ويشقى ويتعب في تدبير الامر للعباسيين، وتركيز الدعوة لهم.. وانما كان يعلم أن الدعوة كانت لاهل البيت، والرضا من (1) الاغاني ج 11 ص 74، ومقاتل الطالبيين ص 167، والوزراء والكتاب ص 98. (2) راجع أنساب الاشراف ص 63، والاغاني ج 11 ص 74، ومقاتل الطالبيين ص 167، والبداية والنهاية ج 10 ص 25، 26، وص 3، وعمدة الطالب، وزاد في تاريخ الجنس العربي: المدائن، ونيسابور. (2) أنساب الاشراف للبلاذري ص 63، وعمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب طبع بمبئي ص 22، والوزراء والكتاب ص 98 و 99، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص 210، وفيه: أن سليمان بن حبيب بن المهلب أخذه، فحبسه، وأراد قتله، فسلم المنصور منه بعد أن أشرف على القتل.. وليراجع الجهشياري أيضا. (*)
[ 34 ]
آل محمد - المنطبق - بالطبع - على العلويين أكثر من غيرهم على الاطلاق. وإلا فلو كان لمحمد بن علي دعوة واضحة، ومشهورة، ومتميزة، وكان المنصور يعلم بها لكان توليه لايذج من قبل عبد الله بن معاوية مضرا جدا في دعوة أبيه، وضربة قاضية لها. اللهم إلا أن يكون ثمة غرض آخر أهم، فيكون ذلك منهم حنكة ودهاء - كأن يكون نظرهم إلى أنه: لو نجحت دعوتهم، فبها. وإلا.. فلو نجحت دعوة عبد الله بن معاوية، فباستطاعتهم أن يحتفظوا فيها بمراكزهم، ونفوذهم، إذ لهم أن يقولوا: إننا كنا من المعاونين والمساهمين في هذه الدعوة.. كما أن بذلك تنصرف أنظار الحكام عنهم، ويأمن العلويون جانبهم، فلا يناهضون دعوتهم ولا يقفون في وجهها. وبهذه الاسباب نستطيع أن نفسر بيعة العباسيين جميعا، اكثر من مرة لمحمد بن عبد الله العلوي، وبه أيضا نفسر جواب المنصور لسائله عن محمد بن عبد الله هذا، حيث قال: " هذا محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن، مهدينا أهل البيت " ويأخذ بركابه. ويسوي عليه ثيابه (1). وأيضا قوله في مجلس البيعة لمحمد هذا: " ما الناس أصور أعناقا، ولا أسرع إجابة منهم لهذا الفتى. " كما سيأتي. ومما يوضح أيضا مدى تكتم العباسيين بأمر دعوتهم، أن: إبراهيم الامام قد بشر بأنه قد أخذت له البيعة بخراسان - وهو في نفس الاجتماع الذي كان قد عقد ليجددوا فيه البيعة لمحمد بن عبد الله بن الحسن. وسيأتي المزيد من الشواهد لهذا أيضا إن شاء الله تعالى. وهكذا. فان النتيجة تكون هي: أن العباسيين ظلوا يتسترون (1) مقاتل الطالبيين ص 239، 240. (*)
[ 35 ]
بالعلويين، ويخدعونهم، على اعتبار أنهم لو نجحوا في دعوتهم السرية، فان بيعتهم للعلويين، ودعوتهم، لهم لا تضرهم، وإذ ما فشلوا فانهم سوف يحتفظون بنفوذهم ومراكزهم في دولة أبناء عمهم. هذا مجمل الكلام بالنسبة للدعوة العباسية، ولكن طبيعة البحث تفرض علينا التوسع في بيان المراحل التي مرت بها هذه الدعوة، ولا سيما فيما يتعلق بربطها بأهل البيت عليهم السلام، والعلويين، ومدى اعتمادهم على هذا الربط. فنقول: لابد من ربط الثورة بأهل البيت. إن كان لابد للعباسيين من ربط الثورة والدعوة بأهل البيت عليهم السلام، حيث إنهم كانوا بحاجة إلى: أولا: صرف انظار الحكام عنهم. ثانيا: كسب ثقة الناس بهم، والحصول على تأييدهم لهم. ثالثا: أن لا تقابل دعوتهم بالاستغراب، والاستهجان، حيث إنهم لم يكونوا معروفين في أقطار، وانحاء الدولة الاسلامية المترامية الاطراف، ولا كان يعرف أحد لهم حقا في الدعوة لانفسهم، كما هو الحال بالنسبة إلى العلويين، مما يجعل الدعوة لهم مع وجود العلويين مستغربة ومستهجنة إلى حد ما. رابعا: - وهو أهم ما في الامر - أن يطمئن إليهم العلويون، ويثقوا بهم. حتى لا تكون لهم دعوة في مقابل دعوتهم، لان ذلك بلا شك سوف يضعفهم، ويوهن قوتهم، لما يتمتع به العلويون من نفوذ ومكانة في نفوس الناس بشكل عام. ولهذا نرى أبا سلمة الخلال، يعتذر لابي العباس السفاح، عن كتابته
[ 36 ]
للامام الصادق عليه السلام، بأن يجعل الدعوة باسمه، ويبايعه - يعتذر - بأنه: " كان يدبر استقامة الامر (1) ". نعم. لقد كان لربطهم الثورة بأهل البيت عليهم السلام أثر كبير في نجاح ثورتهم، وظهور دعوتهم. وقد أكسبها ذلك قوة ومنعة، وجعلها في منأى ومأمن من طمع الطامعين، وتطلع المتطلعين، الذين كانوا يرجون لانفسهم حظا من الحياة الدنيا، وما أكثرهم. كما وأن ذلك قد أثر أثرا بالغا في اكتسابهم عطف الامة، وتأييدها، وخصوصا الخراسانيين، الذين كانوا لا يزالون يعيشون الاسلام بعيدا عن أهواء المبتدعين، وتلاعب المتلاعبين، والذين: " وإن كانوا أقل غلوا (أي من أهل الكوفة)، فقد كانوا أكثر حماسة للدعوة لاهل البيت " (2)، وذلك لانهم لم يعاملوا معاملة حسنة في الواقع، ولم يسر فيهم بسيرة محمد والقرآن إلا علي بن أبي طالب عليه السلام (3). كما أنهم لم ينسوا بعد ما لاقوه في الدولة الاموية من العسف والتنكيل، ولذا فمن الطبيعي أن نراهم مستعدين لتقبل أية دعوة لاهل البيت عليهم السلام، والتفاعل معها، بل والتفاني في سبيلها. كما أن بلدهم كان بعيدا من مركز الخلافة بالشام ولم يكن فيه فرق وأحزاب متناحرة كالعراق الذي كان فيه شيعة وخوارج ومرجئة وغير ذلك، وكانت وطأة الحكم العباسي على العراق ومراقبتهم لكل حركة فيه أشد منها في خراسان. وبالفعل لقد شيد الخراسانيون، الذين كانوا يحبون أهل البيت عليهم السلام أركان دولة بني العباس، وقامت خلافتهم على أكتافهم، واستقامت (1) تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 87. (2) السيادة العربية، والشيعة، والاسرائيليات ص 106. (3) نفس المصدر ص 39. (*)
[ 37 ]
لهم الامور بفضل سواعدهم، وأسيافهم، وسيأتي إن شاء الله المزيد من الكلام عن الايرانيين، وعن سر تشيعهم، وخاصة الخراسانيين منهم في فصل: ظروف المأمون الخ. وغيره من الفصول. المراحل التي مرت بها عملية الربط: ولقد مرت عملية الربط هذه بثلاث مراحل أو أربع، طبقا للظروف التي كانت قائمة آنذاك. وإن كانت هذه المراحل قد تبدو متداخلة. وغير مميزة في أحيان كثيرة (1). إلا أن ذلك كان تبعا للظروف المكانية، والزمانية، والاجتماعية، التي كانت تتفاوت وتختلف باستمرار إلى حد كبير.. وهذه المراحل هي: الاولى: دعوتهم في بادئ الامر " للعلويين " الثانية: دعوتهم إلى: " أهل البيت "، و " العترة ". الثالثة: دعوتهم إلى " الرضا من آل محمد ". الرابعة: ادعاؤهم الخلافة بالارث، مع حرصهم على ربط الثورة بأهل البيت، بدعوى: أنهم إنما خرجوا للاخذ بثارات العلويين. وليرفعوا عنهم الظلم الذي حاق بهم. المرحلة الاولى: وإذ قد عرفنا أن الدعوة كانت في بدء أمرها للعلويين، فلا يجب (1) قال في العيون والحدائق ص 180: " وكان قد انتشر في خراسان دعاة من الشيعة، وقد انقسموا قسمين: قسم منهم يدعو إلى آل محمد على الاطلاق، والقسم الثاني يدعو إلى أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وكان المتولي لهذه الدعوة إلى آل رسول الله صلى الله عليه وآله ابن كثير، وكان الدعاة يرجعون في الرأي والفقه إلى أبي سلمة الخ.. ". (*)
[ 38 ]
أن نستغرب كثيرا، إذا قيل لنا: إن جلة العباسيين، حتى ابراهيم الامام، والسفاح، والمنصور كانوا قد بايعوا للعلويين اكثر من مرة، وفي اكثر من مناسبة، فإن ذلك ما كان الا ضمن خطة مرسومة، وضعت بعناية فائقة، بعد دراسة معمقة لظروفهم مع العلويين خاصة، ومع الناس بشكل عام. ويمكن أن نعتبر بيعتهم هذه هي المرحلة الاولى من تلك المراحل المشار إليها آنفا. فنراهم عدا تعاونهم الواضح مع عبد الله بن معاوية، قد بايعوا محمد ابن عبد الله بن الحسن أكثر من مرة أيضا، فقد: " اجتمع آل عباس، وآل علي عليه السلام بالابواء، على طريق مكة، وهناك قال صالح بن علي: " إنكم القوم الذين تمتد إليهم أعين الناس، فقد جمعكم الله في هذا الموضع، فاجتمعوا على بيعة أحدكم، فتفرقوا في الآفاق، فادعوا الله، لعل أن يفتح عليكم، وينصركم "، فقال أبو جعفر، أي المنصور: " لاي شئ تخدعون أنفسكم ؟ والله، لقد علمتم: ما الناس أصور (أي أميل) أعناقا، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى "، يريد محمد بن عبد الله العلوي. قالوا: " قد والله صدقت، إنا لنعلم هذا "، فبايعوا جميعا محمدا، وبايعه ابراهيم الامام، والسفاح، والمنصور، وصالح بن علي، وسائر من حضر " طبعا ما عدا الامام الصادق عليه السلام. ". وخرج دعاة بني هاشم عند مقتل الوليد بن يزيد، فكان أول ما يظهرونه فضل علي بن أبي طالب وولده، وما لحقهم من القتل، والخوف، والتشريد، فإذا استتب لهم الامر ادعى كل فريق الوصية إلى من يدعو إليه. ولم يجتمعوا (أي المتبايعون الآنف ذكرهم) إلى أيام مروان بن
[ 39 ]
محمد، ثم اجتمعوا يتشاورون، إذ جاء رجل إلى ابراهيم الامام، فشاوره بشئ، فقام وتبعه العباسيون، فسأل العلويون عن ذلك، فإذا الرجل قد قال لابراهيم: " قد أخذت لك البيعة بخراسان، واجتمعت لك الجيوش. ". بل لقد بايع المنصور محمد بن عبد الله العلوي مرتين: إحداهما: بالابواء على طريق مكة. والاخرى: بالمدينة. وبايعه مرة ثالثة ايضا: في نفس مكة، وفي المسجد الحرام بالذات. ومن هنا نعرف السبب في حرص السفاح والمنصور على الظفر بمحمد ابن عبد الله العلوي، فان ذلك لم يكن إلا بسبب ما كان له في اعناقهما من البيعة (1). (1) قد اقتبسنا هذه النصوص كلها من كثير من المراجع، وخصوصا: مقاتل الطالبيين، لابي الفرج الاصفهاني، صاحب الاغاني ص 233، 234. 256، 257، 295، وغيرها. وعلى كل فان كون الدعوة العباسية كانت في بدء أمرها باسم العلويين، يبدو مما لا شك فيه، ومما اتفقت عليه كلمات المؤرخين، والنصوص التاريخية، التي سوف نشير إلى شطر منها في هذا الفصل.. ولا بأس أن يراجع بالاضافة إلى مقاتل الطالبيين في الصفحات المشار إليها: النصوص التي وردت في: النزاع والتخاصم للمقريزي ص 50، وتاريخ ابن خلدون ج 4 ص 3، وج 3، ص 187، والفخري في الآداب السلطانية ص 164، 165، وتاريخ التمدن الاسلامي ج 4 ص 397، 398، والبحار ج 47 ص 120 وص 277، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص 84، والخرائج والجرائح ص 244، وجعفر ابن محمد، لعبد العزيز سيد الاهل ص 115، فما بعدها، وغاية الاختصار ص 22، وإعلام الورى ص 271، 272، وارشاد المفيد ص 294، 296، وكشف الغمة ج 2 ص 383، 384، وابن اعثم الكوفي في كتابه: الفتوح على ما نقله في طبيعة الدعوة العباسية،. وأشار الطبري إلى ذلك في تاريخه ج 10 ص 143، فقال: قد ذكروا أن محمدا كان يذكر أبا جعفر ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة، حين اضطرب أمر بني مروان.. وأشار إلى ذلك أيضا ابن الاثير ج 4 ص 270، ويراجع أيضا شرح ميمية أبي فراس ص 114، وص 104. 105، وغير هؤلاء كثير. (*)
[ 40 ]
وقد ذكر أبو فراس الحمداني هذه البيعة في قصيدته المشهورة، المعروفة ب‍ " الشافية " فقال: بئس الجزاء جزيتم في بني حسن * أباهم العلم الهادي وأمهم لا بيعة ردعتكم عن دمائهم * ولا يمين، ولا قربى، ولا ذمم وذكر ابن الاثير: أن عثمان بن محمد، بن خالد بن الزبير، هرب بعد مقتل محمد إلى البصرة، فأخذ وأتي به إلى المنصور، فقال له المنصور: يا عثمان، أنت الخارج علي مع محمد ؟ !. قال له عثمان: بايعته أنا وأنت بمكة، فوفيت ببيعتي، وغدرت ببيعتك. فشتمه المنصور، فأجابه، فأمر به فقتل (1). وذكر البيهقي: أنه لما حمل رأس محمد بن عبد الله بن الحسن إلى المنصور، من مدينة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، قال لمطير بن عبد الله: " أما تشهد أن محمدا بايعني ؟. " قال: " أشهد بالله، لقد أخبرتني أن محمدا خير بني هاشم، وأنك بايعت له. " قال: يا ابن الزانية الخ: وكانت النتيجة: أن المنصور أمر به، فوتد في عينيه، فما نطق !. (2) إلى آخر ما هنالك من النصوص الكثيرة، التي يتضح معها بما لا مجال معه للشك: أن الدعوة كانت في بدء أمرها لخصوص العلويين، وباسمهم، ثم استغلت بعد ذلك لمصلحة العباسيين. المرحلة الثانية. ثم رأينا بعد ذلك: كيف أن الدعوة العباسية تستبعد العلويين. (1) الكامل لابن الاثير ج 5 ص 12. (2) المحاسن والمساوي للبيهقي ص 482. (*)
[ 41 ]
وتتحاشى التصريح باسمهم، بطريقة فيها الكثير من الدهاء، والسياسة، حيث اقتصروا في دعوتهم - بعد ذلك - على أنها ل‍ " أهل البيت "، و " العترة " وهذه هي المرحلة الثانية من المراحل الاربع التي أشرنا إليها. وكان الناس لا يفهمون من كلمة: " أهل البيت " إلا العلويين، لانصراف الاذهان إليهم عند اطلاق هذه العبارة، وذلك بسبب الآيات والروايات الكثيرة، التي استخدمت هذا التعبير للدلالة عليهم، دون غيرهم. فهذا أبو داود يقول للنقباء: ".. أفتظنونه - أي النبي صلى الله عليه وآله - خلفه - أي العلم - عند غير عترته، وأهل بيته، الاقرب، فالاقرب ؟ !. إلى أن قال: افتشكون أنهم معدن العلم، وأصحاب ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ !. (1) " وهذا أبو مسلم الخراساني القائم بالدولة العباسية، يكتب إلى الامام الصادق صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول: " إني دعوت الناس إلى موالاة أهل البيت، فان رغبت فيه، فأنا أبايعك ؟. ". فأجابه الامام صلى الله عليه واله وسلم: ". ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني "، ثم جاء أبو مسلم، وبايع السفاح، وقلده الخلافة (2). وقال السيد أمير علي بعد أن ذكر ادعاء العباسيين للوصاية من أبي هاشم: ". وقد لاقت هذه القصة بعض القبول في بعض المناطق الاسلامية. أما عند عامة المسلمين، الذين كانوا يتعلقون بأحفاد محمد، (1) الطبري، طبع ليدن ج 9 ص 1961. (2) الملل والنحل للشهرستاني، طبع مؤسسة الحلبي في القاهرة ج 1 ص 154، وطبع العنانية ص 87، وينابيع المودة للحنفي ص 381، نقلا عن: فصل الخطاب، لمحمد بارسا البخاري. (*)
[ 42 ]
فقد ظل دعاة العباسيين يؤكدون لهم أنهم يعملون لحساب: أهل البيت، وحتى ذلك الوقت كان العباسيون يظهرون الولاء التام لبني فاطمة، ويخلعون على حركتهم، وعلى سياساتهم مظهر الوصول إلى هدف ضمان العدالة، والحق لاحفاد محمد. وكان ممثلوا أهل البيت، ومحبوهم، ولا يخامرهم الشك في الغدر، الذي تبطنه هذه الاعترافات من العباسيين، فشملوا محمد بن علي، وجماعته بعطفهم وحمايتهم، الذين كانوا في حاجة اليهما. " (1). ويقول: ". وكانت كلمة: " أهل البيت " هي السحر الذي يؤلف بين قلوب مختلف طبقات الشعب، ويجمعهم حول الراية السوداء. " (2). المرحلة الثالثة: ثم تأتي المرحلة الثالثة، ويتقلص ظل العلويين، وأهل البيت عن هذه الدعوة، أكثر فأكثر، كلما ازدادت قوتها، واتسع نفوذها، حيث رأينا أخيرا انها اتسعت بحيث تستطيع أن تشمل العباسيين أيضا مع العلويين. حيث أصبحت إلى: " الرضا من آل محمد "، وإن كانوا لا يزالون يذكرون فضل علي، وما لحق ولده من القتل والتشريد، كما يتضح بأدنى مراجعة لكتب التاريخ. وهذه العبارة، وإن كانت لا تختلف كثيرا عن عبارة: " العترة، وأهل البيت "، ونحوها. إلا أنها كانت في أذهان العامة أبعد من أن يراد بها العلويون على الخصوص. ولكن مع ذلك بقيت الجماهير (1) و (2) روح الاسلام ص 306 و 308. ولا بأس بمراجعة ما ورد في كتاب الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج 1 جزء 2 ص 532. والسيادة العربية والشيعة والاسر ائيليات ص 94. وامبراطورية العرب ص 406، وطبيعة الدعوة العباسية، وغير ذلك. (*)
[ 43 ]
تعتقد أن الخليفة سيكون علويا، كما كان العلويون يعتقدون ذلك.. " (1) على حد تعبير أحمد شلبي. وإذا صح هذا، وفرض - ولو بعيدا - أن شعار: الرضا من آل محمد لا يختلف عن شعار: العترة، وأهل البيت في أذهان عامة الناس، فلسنا نصر على جعل هذا مرحلة مستقلة، بل يكون داخلا فيما سبقه، وتكون المراحل حينئذ ثلاثة، لا أربعة. ملاحظات لابد منها في المرحلة الثالثة: وقبل الانتقال إلى الكلام على المرحلة الرابعة، والاخيرة، لابد من ملاحظة أمور: أ: انهم في نفس الوقت الذي نراهم فيه يبعدون الدعوة عن أهل البيت، كما يدلنا عليه قول محمد بن علي العباسي لبكير بن ماهان: " وحذر شيعتنا التحرك في شئ مما تتحرك فيه بنو عمنا آل أبي طالب، فإن خارجهم مقتول، وقايمهم مخذول، وليس لهم من الامر نصيب " وسنأخذ بثأرهم.. " (2). وكما يدلنا عليه ما رواه الطبري من أن محمد بن علي نهى دعاته عن رجل اسمه: غالب، لانه كان مفرطا في حب بني فاطمة (3). نراهم من جهة ثانية: وحتى لا يصطدموا بالعلويين وجها لوجه. كانوا في جميع مراحل دعوتهم يتكتمون جدا باسم الخليفة، الذي يدعون الناس إليه، وإلى بيعته، بل إن الشخص الذي كانوا يدعون (1) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية لاحمد شلبي ج 3 ص 20. (2) طبيعة الدعوة العباسية 152، نقلا عن: مخطوطة العباسي ص 93 أ، 93 ب. (3) راجع: تاريخ الجنس العربي ج 8 ص 411. (*)
[ 44 ]
الناس إليه، وإلى بيعته.. بل وكان الناس يبايعونه ما كانوا يعرفونه، بل يعرفه الدعاة فقط، وعلى الناس أن يبايعوا إلى " الرضا من آل محمد " ولا بأس بمراجعة نص البيعة في تاريخ التمدن الاسلامي، المجلد الاول، الجزء الاول ص 125. ولعل هدفهم من ذلك كان أيضا: هو أن لا يربطوا الدعوة بفرد معين، حتى لا تضعف إذا ما مات، أو اغتيل.. وعلى كل فقد نص ابن الاثير في الكامل ج 4 ص 310، حوادث سنة 130 على أن أبا مسلم كان يأخذ البيعة إلى الرضا من آل محمد. ومثل ذلك كثير في كلمات المؤرخين، وإليك بعض النصوص التاريخية، التي تدل على ذلك:. ففي الكامل، ج 4 ص 323 نص على أن محمد بن علي بعث داعيا إلى خراسان يدعو إلى " الرضا من آل محمد " ولا يسمي أحدا، ولعل الذي أرسله هو أبو عكرمة الآتي ذكره. وقد قال محمد بن علي العباسي لابي عكرمة: " فلتكن دعوتك إلى: " الرضا من ال محمد "، فإذا وثقت بالرجل، في عقله، وبصيرته، فاشرح له أمركم. وليكن اسمي مستورا من كل أحد، إلا عن رجل عدلك في نفسك، وتوثقت منه، وأخذت بيعته. ". ثم أمره بالتحاشي عن الفاطميين (1). ويقول أحمد شلبي: ". كانوا (أي العباسيون) يوهمون العلويين بأنهم يعملون لهم. ولكنهم في الواقع كانوا يعملون لانفسهم " (2). (1) طبيعة الدعوة العباسية ص 155، نقلا عن: OP. CID ص 95 أ / 95 ب. (2) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 20. (*)
[ 45 ]
ويقول أحمد أمين: ". ومع هذا فكان من إحكام أمرهم أنهم لم يكونوا يصرحون عند دعوتهم في كثير من المواقف باسم الامام، ليتجنبوا انشقاق الهاشميين بعضهم على بعض. " (1). ولو كان الخليفة معينا ومعروفا عند الناس، لما استطاع أبو مسلم، وأبو سلمة، وسليمان الخزاعي، أن يكاتبوا الامام الصادق عليه السلام، وغيره من العلويين، أنهم يبايعونهم، ويجعلون الدعوة لهم. وباسمهم. وقد تقدمت رسالة أبي مسلم للامام الصادق عليه السلام، التي يصرح فيها بأنه، إنما دعا الناس إلى موالاة أهل البيت فقط، أي من دون تصريح باسم أحد. وقد قال أحدهم: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: " ليس لكتابك جواب. أخرج عنا " (2). وقال السيد أمير علي عن أبي مسلم: " وقد ظل إلى هذا الوقت مواليا، بل مخلصا، بل متحمسا لابناء علي (3) ". وقال صاحب قاموس الاعلام: " وعرض أبو مسلم الخراساني الخلافة ابتداءا على الامام الصادق، فلم يقبلها (4) ". (1) ضحى الاسلام ج 3 ص 380، 381. (2) روضة الكافي ص 274، والبحار ج 47 ص 297. (3) روح الاسلام ص 306. (4) راجع المجلد الاول، الجزء الاول من كتاب: الامام الصادق والمذاهب الاربعة ص 57، نقلا عن: قاموس الاعلام ج 3 ص 1821 طبع استانبول تأليف: ش. سامي. ورغم أن أبا مسلم قد قضى على عدة ثورات قامت باسم العلويين، على ما في كتاب: طبيعة الدعوة العباسية ص 251، 253، فاننا نعتقد أن رسائله هذه، ورسائله التي أرسلها إلى المنصور يظهر فيها الندم على أنه زوى الامر عن أهله، ووضعه في غير = (*)
[ 46 ]
وأما أبو سلمة: فانه عندما خاف من انتقاض الامر عليه، بسبب موت ابراهيم الامام، أرسل - والسفاح في بيته - إلى الامام الصادق عليه السلام يطلب منه القدوم عليه ليبايعه، وتكون الدعوة باسمه، كما أنه كتب بمثل ذلك إلى عبد الله بن الحسن. لكن الامام عليه السلام، الذي كان في منتهى اليقظة والحزم. رفض الطلب، وأحرق الكتاب، وطرد الرسول (1). وقد نظم أبو هريرة الابار، صاحب الامام الصادق عليه السلام هذه الحادثة شعرا، فقال: ولما دعا الداعون مولاي لم يكن * ليثني إليه عزمه بصواب ولما دعوه بالكتاب أجابهم * بحرق الكتاب دون رد جواب = محله. هي السر، والسبب الحقيقي الكامن وراء قتله، مع أنه مؤسس الدولة العباسية (ومن سل سيف البغي قتل به)، ومشيد أركانها. وقد استظهر ذلك أيضا المستشرق العلامة (بلوشيه) على ما في كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص 251، وأشار إليه أيضا السيد أمير علي في كتابه: روح الاسلام ص 311. (1) مروج الذهب ج 3 ص 253، 254، وينابيع المودة ص 381، وتاريخ اليعقوبي ج 3 ص 86، والوزراء والكتاب ص 86، وهامش ص 421 من امبراطورية العرب، والفخري في الآداب السلطانية ص 154، 155 وروح الاسلام ص 308، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص 82، 83، والكامل لابن الاثير. ونقله في المناقب لابن شهر آشوب ج 4 ص 229، والبحار ج 47، ص 132 عن ابن كادش العكبري في: مقاتل العصابة. لكنهما (أعني المناقب والبحار) ذكرا أن الذي كتب للامام هو أبو مسلم.. وفي المناقب ج 4 آخر ص 229، والبحار ج 47 ص 133 نقلا عن رامش الافزاري أن الذي كتب إلى الامام هو أبو مسلم الخلال ! !. وواضح أن هذا هو السبب الحقيقي لقتل أبي سلمة، وقد صرح بذلك جمع من المؤرخين والباحثين. (*)
[ 47 ]
وما كان مولاي كمشري ضلالة * ولا ملبسا منها الردى بثواب ولكنه لله في الارض حجة * دليل إلى خير، وحسن مآب (1) وكتب إليه أبو سلمة أيضا مرة ثانية، عندما أقبلت الرايات: " إن سبعين الف مقاتل وصل الينا، فانظر أمرك ". فأجابه الامام بالرفض أيضا (2). وأما سليمان الخزاعي: المدبر الحقيقي للثورة في خراسان، فانه اتصل بعبد الله بن الحسين الاعرج، وهما يسايران أبا جعفر المنصور في خراسان، عندما أرسله السفاح إليها، قال سليمان لعبد الله: " إنا كنا نرجو أن يتم أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون ! ! "، فعلم أبو مسلم بالامر، فقتل سليمان هذا (2). بل إن هذا إن دل على شئ فانما يدل على أن كثيرا من الدعاة ما كانوا يعرفون: أن الخليفة سيكون عباسيا، فضلا عن أن يكونوا يعرفونه باسمه الصريح. قال الدكتور فاروق عمر: " على أننا نستطيع القول: إن اسم الامام كان معروفا لدى الحلقات الخاصة من الشيعة الهاشمية، أو العباسية، وأن الكثير من الانصار، الذين ساندوا الثورة، ومنهم ابن الكرماني نفسه، لم يكن يعرف أن " الرضا من آل البيت " سيكون عباسيا، مع أن ابن الكرماني كان قائدا كبيرا، وكان يطمع إلى الاستيلاء على (1) مناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 230، والبحار ج 47، ص 133. (2) مناقب ابن شهرآشوب ج 4 ص 229، والبحار ج 47 ص 133، والامام الصادق والمذاهب الاربعة ج 1 ص 47. (3) الطبري ج 10 ص 132، والامامة والسياسة ج 2 ص 125. (*)
[ 48 ]
خراسان (1). ". ب: يلاحظ أن العباسيين قد موهوا على الناس، واستطاعوا أن يخدعوهم. حيث خيلوا لهم في بادئ الامر أن الثورة كانت للعلويين. ثم بدءوا يعدون العدة لما سوف يقولون للناس عند اكتشافهم لحقيقة الامر، فصنعوا سلسلة الوصاية المعروفة عنهم من علي بن أبي طالب، إلى محمد ابن الحنفية، وإلى أبي هاشم، فإلى علي بن عبد الله بن العباس. وهكذا. وهي في الحقيقة نفس عقيدة الكيسانية، كما سنشير إليها في بعض الهوامش الآتية. وقد جازت حيلتهم هذه على الناس، الذين كانوا يظنون أنهم يعملون للعلويين (2)، حتى لقد خفي أمرهم عن عبد الله بن معاوية حسبما قدمنا، بل لقد كان من جملة المخدوعين، الذين اكتشفوا الحقيقة بعد فوات الاوان، سليمان الخزاعي، الذي تقدم أنه - باعترافه - كان يرجو هذا الامر للعلويين، وأبو مسلم الخراساني الذي صارح المنصور بأن السفاح كان قد خدعه. وأنه خدع أيضا من قبل ابراهيم الامام، حيث ادعيا الوصاية والامامة، وحرفا الآيات الواردة في أهل البيت لتنطبق عليهم، مما كان من نتيجته أن زوى الامر عن أهله، ووضعه (1) طبيعة الدعوة العباسية ص 209. ولقد اشتبه الامر على الدكتور فاروق عمر، فان ابن الكرماني كان من عمال الامويين، ولم يكن من الشيعة في أي وقت من الاوقات، وانما استماله أبو مسلم توطئة للغدر به.. ولم يكن أبو مسلم ولا غيره من الدعاة والنقباء ليصرحوا لعدوهم بمثل هذا الامر الذي يخفونه عن أخص الناس بهم، بل حتى عمن هم مثل المنصور. (2) امبراطورية العرب ص 206، وغير ذلك كثير. (*)
[ 49 ]
في غير محله (1). أما انخداع ابن الكرماني فهو من الامور الواضحة والمعروفة. بل لقد رأينا البعض يذكر أن أبا سلمة الخلال كان أيضا من جملة المخدوعين، حيث كان يتوهم: أن الخليفة سيكون علويا لا عباسيا (2). ج: ومما تجدر الاشارة إليه هنا، هو ما تقدم: من رفض الامام القاطع لعرض كل من أبي سلمة، وأبي مسلم في جعل الدعوة له، وباسمه. وما ذلك إلا لعلمه عليه السلام: بأن هؤلاء ليس لهم من هدف، إلا الوصول إلى مأربهم من الحكم والسلطان، ثم يتخلصون من كل من لا يعودون بحاجة إليه، إذا اعتبروه عقبة في طريقهم. كما كان الحال في قتلهم أبا مسلم، وسليمان بن كثير، وأبا سلمة. وغيرهم. شاهدنا على ذلك جواب الامام عليه السلام لابي مسلم: " ما أنت من رجالي، ولا الزمان زماني ". وكذلك المحاورة التي جرت بينه عليه السلام، وبين عبد الله بن الحسن، عندما جاءه كتاب من أبي سلمة مثل كتابه. وأيضا قوله عليه السلام: مالي ولابي سلمة، وهو شيعة لغيري. بل ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة. ما قدمناه من اعتذار أبي سلمة للسفاح، عن مراسلته للصادق، وغيره من العلويين، بأنه: " كان يدبر استقامة الامر " بل يذكر الطبري ج 6 ص 102 وابن الاثير ج 5 (1) الامام الصادق والمذاهب الاربعة المجلد الاول، جزء 2 ص 533، وسنشير إلى مصادر اخرى لذلك فيما يأتي إن شاء الله. (2) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 254، وفي كتاب: السيادة العربية لفان فلوتن ص 97: أن النقباء أمروا بعض الدعاة بستر اسم المدعو له، وأخفوا إسم المدعو له عن البعض الآخر.. (*)
[ 50 ]
ص 437: أنه عندما جمع السفاح خاصته ليستشيرهم بقتل أبي سلمة وأخبرهم بمكاتبته للعلويين. نجد أن بعض خاصته انبرى ليقول: ما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان من رأي أبي مسلم (1). وعليه فلا يصح قول صاحب العيون والحدائق ص 181: " ولم يكن هوى أبي سلمة معهم، وإنما كان هواه مع الصادق جعفر الخ. " فإن لجوءه إلى الصادق إنما كان لاجل استقامة الامر. بل إن بعض المحققين لا يستبعد أن يكون من جملة أهدافهم من رسائلهم تلك، إلى الصادق، و عبد الله ابن الحسن، وغيرهما من العلويين. هو معرفة إن كان هؤلاء يطمحون إلى الحكم، ويرغبون فيه أولا. وذلك ليستعد العباسيون - من ثم - لمواجهة دعوتهم، ورصد كل حركاتهم، وسكناتهم، ومن ثم شل حركتهم، والقضاء عليهم. وهذا أسلوب استعمله المنصور من بعد، لكن الامام الصادق عليه السلام تنبه للمكيدة، وعمل على احباطها. د: وتصريح أبي سلمة هذا وموقف الامام منه، وقوله: إنه شيعة لغيره يلقي لنا ضوءا على الروايات التي تتهمه، وتتهم أبا مسلم بميول علوية. وأن أبا مسلم أراد أن يعلن خلافة علوية، بمجرد وصوله إلى خراسان، كما عن الذهبي، وشارح شافية أبي فراس، وتاريخ الخميس. فان ذلك لا شاهد له إلا رسائلهما التي أشرنا إليها. مع أنها لم يكن الهدف منها إلا استقامة الامر للعباسيين. خصوصا إذا لاحظنا أن أبا مسلم قد قضى على عدة ثورات للعلويين، وباسمهم - كما أشرنا إليه - (1) وأما كتابه للصادق فهو لا يدل على اخلاصه له، بل هو فقط - كان يدبر استقامة الامر، وقتله من قبل العباسيين بهذا الجرم ليس إلا تغاضيا عن حقيقة الامر بهدف الوصول إلى أهدافهم في التخلص بطريقة مشروعة. (*)
[ 51 ]
وأنه كان يلاحقهم تحت كل حجر ومدر، وفي كل سهل وجبل، على حد تعبير الخوارزمي (1). المرحلة الرابعة: ثم تأتي المرحلة الرابعة والاخيرة، وهي: ادعاؤهم الخلافة بالارث، كما أشرنا إليه. ولكنهم استمروا يربطون الثورة بأهل البيت عليهم السلام من ناحيتين: الاولى: ادعاؤهم الخلافة بالارث عن طريق علي بن أبي طالب، ومحمد بن الحنفية، كما سيأتي بيانه. الثانية: ادعاؤهم أنهم إنما خرجوا للاخذ بثارات العلويين. فأما ادعاؤهم استحقاقهم الخلافة بالارث، عن طريق علي بن أبي طالب عليه السلام، واحتجاجهم بقرباهم النسبية من رسول الله صلى الله عليه وآله، فاننا نلمحها في كثير من مواقفهم، حيث كانوا يستطيلون على الناس بهذه القربى، ويحتجون بها في مختلف المناسبات (2). (1) ولكننا لا نجد فيما بأيدينا من الشواهد التاريخية، ما يؤيد دعوى الخوارزمي هذه عدا ما ذكروه من أنه: قتل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وعبيدالله بن الحسين بن علي بن الحسين. (2) حيث قد ظلوا بحاجة لان يصلوا حقهم الذي كانوا يدعونه. بحق علي بن أبي طالب عليه السلام، ووصايتهم بالوصاية التي له، والتي لا يجهلها أحد، وليصححوا بهذه الوسيلة خلافتهم، ويتقبلها الناس. فكانت السلسلة التي سيأتي بيانها هي معتمدهم، مضيفين إليها تبرأهم من أبي بكر وعمر وعثمان. وفي الحقيقة أن تلك هي عقيدة الكيسانية انتحلوها لانفسهم بوحي من مصالحهم الخاصة. حتى إذا ما وصلوا إلى الحكم نراهم قد قطعوا حبل صلتهم بعلي، وولده، وجعلوا = (*)
[ 52 ]
فقد قال داوود بن علي، أول خطيب لهم على منبر الكوفة، في أول كلام له أمام السفاح: ". وإنما أخرجنا الانفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا (1). ". ونرى السفاح في خطبته الاولى أيضا في مسجد الكوفة، بعد أن ذكر عظمة الرب تبارك وتعالى، وفضل النبي صلى الله عليه وآله " قد قاد الولاية والوراثة، حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيرا (2). ". ويقال: إن من جملة ما قاله السفاح في خطبته الاولى: ". فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفئ، والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا وفضلا علينا. وزعمت السبائية الضلال: أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة. إلى أن قال: ورد علينا حقنا (3). " = الخلافة حقا للعباس وولده.. ثم تخلوا عن ذلك كله فيما بعد، ورجعوا إلى العقيدة التي أسسها معاوية، ولكنهم اختلفوا عنه بأنهم أدخلوا عليا، وجعلوه في المرتبة الرابعة، وكان ذلك بداية وجود أهل السنة بخصائصهم، ومميزاتهم المذهبية، ولهذا البحث مجال آخر، والله هو الموفق والمستعان. (1) الطبري، طبع ليدن ج 10 ص 31، والبداية والنهاية ج 10 ص 41، وشرح النهج للمعتزلي ج 7 ص 154، والكامل لابن الاثير ج 4 ص 325. (2) تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 129، ومروج الذهب ج 3 ص 256، والطبري ج 10 ص 37، طبع ليدن. (3) الطبري ج 10 ص 39، 40، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 257، والبداية والنهاية ج 10 ص 41، والكامل لابن الاثير ج 4 ص 324، 325. لكن الظاهر أن لعن السبائية (وهم الشيعة الامامية حسب مصطلحهم) مفتعل على لسان السفاح. لان كلمة داوود بن علي المتقدمة تدل على إنكار العباسيين - في بدء أمرهم - خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وتمسكهم بخلافة علي عليه السلام، حيث يصلون حبل وصايتهم بها.. وإن كانوا قد رجعوا عن هذه العقيدة بعد ذلك حسبما أشرنا إليه إلى العقيدة التي كان قد روجها معاوية.. ولكن من المؤكد أنهم استمروا على عقيدتهم تلك، أعني إنكار خلافة الثلاثة، ووصلهم حبل وصايتهم بعلي عليه السلام، إلى زمن المنصور، الذي كان أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين كما سيأتي.. (*)
[ 53 ]
ويقول داوود بن علي في خطبته الاولى في مسجد الكوفة أيضا: ". وأحيا شرفنا وعزنا، ورد الينا حقنا وإرثنا. " (1). (1) الطبري ج 10 ص 32، طبع ليدن، والكامل لابن الاثير ج 4 ص 325. أمر هام لا بد من التنبيه عليه: إننا إذا تتبعنا الاحداث التاريخية، نجد: أن كل مطالب بالخلافة كان يدعي أول ما يدعي الرحمية والقربى من رسول الله صلى الله عليه وآله. وأول من بدأ ذلك أبو بكر في يوم السقيفة، وتبعه على ذلك عمر، حيث قررا أن ليس لاحد الحق في أن ينازعهم سلطان محمد، إذ أنهم أمس برسول الله رحما (على ما في نهاية الارب ج 8 ص 168، وعيون أخبار ابن قتيبة ج 2 ص 233، والعقد الفريد ج 4 ص 258، طبع دار الكتاب العربي، والادب في ظل التشيع ص 24، نقلا عن البيان والتبيين للجاحظ)، ولانهم هم أولياؤه وعشيرته، على ما ذكره الطبري ج 3 ص 220، طبع دار المعارف بمصر، والامامة والسياسة ص 14، 15 طبع الحلبي بمصر، وشرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 7، 8، 9، 11، والامام الحسين للعلايلي ص 186، وص 190، وغيرهم. أو لانهم عترة النبي صلى الله عليه وآله وأصله والبيضة التي تفقأت عنه كما في العثمانية للجاحظ ص 200. فأسقطا بذلك دعوى الانصار عن الاعتبار. كما أن أبا بكر قد استدل على الانصار بالحديث الذي صرح باستفاضته جهابذة أهل السنة (على ما في ينابيع المودة للحنفي)، وهو قوله صلى الله عليه وآله مشيرا إلى خلفائه الاثني عشر: " يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الامة، كلهم من قريش ". - استدل به - بعد أن تصرف فيه، بأن حذف صدره، واكتفى بذكر: أن الائمة من قريش على ما في صواعق ابن حجر ص 6، وغيره.. وأصبح كون الائمة من قريش تقليدا متبعا، بل ومن عقائد أهل السنة المعترف بها، وقد استدل ابن خلدون على ذلك بالاجماع. ولكن قول عمر: لو كان سالم مولى حذيفة حيا لوليته، قد أوقع ابن خلدون. كما أوقع غيره من جهابذة أهل السنة في حيص بيص، لعدم كون سالم قرشيا، فضلا عن أن يكون أمس رحما برسول الله من غيره، فراجع مقدمة ابن خلدون ص 194، وغيره من كتبهم. أما ابن كثير فانه قد استشكل بالامر من ناحية اخرى، حيث قال - وهو يتحدث عن فتنة محمد بن الاشعث الكندي -: ".. والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالامارة، = (*)
[ 54 ]
= وليس هو من قريش، وانما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الامارة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك، حتى أن الانصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين، فأبى الصديق عليهم ذلك.. ثم مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة، الذي دعا إلى ذلك أولا، ثم رجع عنه ".. انتهى. راجع البداية والنهاية ج 9 ص 54. فتراه يستشكل في عمل من بايعوا محمد بن الاشعث بامرة المؤمنين، التي رآها مخالفة للاجماع المدعى يوم السقيفة. وتراه يعترف بمخالفة سعد ثم يدعي أنه رجع عن ذلك.. ولست أدري كيف رجع عنه، مع أنه من المتسالم عليه تاريخيا: أنه استمر على الخلاف معهم، حتى اغتيل بالشام - اغتالته السياسة، على حد تعبير طه حسين في كتابه: من تاريخ الادب العربي ج 1 ص 146، وغيره.. وذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان. وعلى كل حال.. فان ما يهمنا هو الاشارة إلى أن كون الائمة من قريش ليس فقط أصبح تقليدا متبعا، بل هو قد أصبح من عقائد أهل السنة المعترف بها. ولكن ما تأتي به السياسة، تذهب به السياسة، إذ بعد تسعماية سنة جاء السلطان سليم، وخلع الخليفة العباسي، وتسمى هو ب‍ " أمير المؤمنين " مع أنه لم يكن من قريش. وبهذا يكون قد الغى هذا التقليد عملا من عقائد طائفة من المسلمين، وأبطله. ومهما يكن من أمر فان أول من ادعى استحقاق الخلافة بالقربى النسبية من رسول الله صلى الله عليه وآله كان أبو بكر، ثم عمر، وجاء بعدهما بنو امية، فعرفوا أنفسهم ذوي قربى النبي صلى الله عليه وآله حتى لقد حلف عشرة من قواد أهل الشام، وأصحاب النعم والرياسة فيها - حلفوا - للسفاح: على أنهم لم يكونوا يعرفون إلى أن قتل مروان، أقرباء للنبي صلى الله عليه وآله، ولا أهل بيت يرثونه غير بني امية. فراجع النزاع والتخاصم للمقريزي ص 28، وشرح النهج للمعتزلي ج 7 / 159، ومروج الذهب ج 3 ص 33. بل لقد ذكر المسعودي والمقريزي: أن إبراهيم بن المهاجر البجلي، الموالي للعباسيين قد نظم قضية هؤلاء الامراء شعرا، فقال: أيها الناس اسمعوا أخبركم * عجبا زاد على كل العجب عجبا من عبد شمس إنهم * فتحوا للناس أبواب الكذب ورثوا أحمد فيما زعموا * دون عباس بن عبد المطلب كذبوا والله ما نعلمه * يحرز الميراث إلا من قرب ويقول الكميت عن دعوى بني امية هذه: وقالوا: ورثناها أبانا وامنا * ولا ورثتهم ذاك ام ولا أب = (*)
[ 55 ]
= وفي العقد الفريد ج 2 / 120 طبع دار الكتاب العربي: أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب قالت لمعاوية: ".. ونبينا صلى الله عليه وآله هو المنصور، فوليتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وآله، ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الامر الخ. ". ثم جاء العباسيون، وادعوا نفس هذه الدعوى، كما هو واضح من النصوص التي ذكرناها، ونذكرها. بل لقد ادعى نفس هذه الدعوى أيضا أكثر إن لم يكن كل من خرج مطالبا بالخلافة، سواء كان خروجه على الامويين أو على العباسيين. وهذا يعني أن العامل النسبي قد لعب دورا هاما في الخلافة الاسلامية، وكان الناس بسبب جهلهم. وعدم وعيهم لمضامين الاسلام يصدقون ويسلمون بأن القربى النسبية تكفي وحدها في أن تجعل لمدعيها الحق في منصب الخلافة. ولعل أكثر ما ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة من الوصايا بأهل البيت عليهم السلام، والامر بمودتهم، ومحبتهم، والتمسك بهم جعل الناس يظنون أن سبب ذلك هو مجرد قرباهم النسبية منه صلى الله عليه وآله. وكان أن استغل الطامحون فهم الناس الخاطئ هذا. بل لقد حاولوا ما أمكنهم تكريسه، وتثبيته. إلا أن حقيقة الامر هي غير ذلك، فان منصب الخلافة في الاسلام، لا يدور مدار القربى النسبية منه. بل هو يدور مدار الاهلية والجدارة، والاستعداد الذاتي لقيادة الامة قيادة صالحة، كما كان النبي صلى الله عليه وآله يقودها، يدلك على ذلك أننا لو رجعنا إلى النصوص القرآنية. وإلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله بشأن الخليفة بعده، فلعلنا لا نعثر على نص واحد منها يفهم منه أن استحقاق الخلافة يدور مدار القربى النسبية منه صلى الله عليه وآله، وحسب. وكل ما ورد في القرآن، وعنه صلى الله عليه وآله من الامر بموالاة أهل بيته، وحبهم، والتمسك بهم، ومن تعيينه خلفاءه منهم، فليس لاجل قرباهم النسبية منه صلى الله عليه وآله، بل لان الاهلية، والجدارة الحقيقية لهذا النصب قد انحصرت في الخارج فيهم. فهو على حد تعبير الاصوليين: من باب الاشارة إلى الموضوع الخارجي. وليس تصريحه صلى الله عليه وآله بالقربى لاجل بيان الميزان والمقياس والملاك في استحقاقهم الخلافة. وواضح أنه كان لابد من الالتجاء إلى الله ورسوله لتعيين الشخص الذي له الجدارة والاهلية لقيادة الامة، لان الناس قاصرون عن إدراك حقائق الامور، ونفسيات، وغرائز، وملكات بعضهم البعض.. إدراكا دقيقا وحقيقيا، وعن إدراك عدم طرو تغير أو تبدل عليه في المستقبل. ولقد عينه صلى الله عليه وآله بالفعل، ودل عليه بمختلف الدلالات، = (*)
[ 56 ]
= بالقول، تصريحا، وتلويحا، وكناية، ونصا، ووصفا، وغير ذلك، وبالفعل أيضا، حيث أمره على المدينة، وعلى كل غزوة لا يكون هو صلى الله عليه وآله فيها، ولم يؤمر عليه أحدا، وغير ذلك. هذا هو رأي الشيعة، وهذا هو رأي أئمتهم في هذا الامر، وكلماتهم طافحة ومشحونة بما يدل على ذلك. ولا يبقى معه مجال لاي لبس أو توهم، فراجع كلام الامام علي في شرح النهج للمعتزلي ج 6 ص 12، وغيره مما قد يتعسر استقصاؤه.. ومما ذكرنا نستطيع أن نعرف أن ما ورد عن الامام علي عليه السلام، أو عن غيره من الائمة الطاهرين، من قولهم: أنهم هم الذين عندهم ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله، فانما يقصدون به الميراث الخاص، الذي يختص الله به من يشاء من عباده، أعني: ميراث العلم، على حد قوله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا. " وقد اعترف أبو بكر نفسه لفاطمة الزهراء بأن الانبياء يورثون العلم لاشخاص معينين من بعدهم، وعلى كل فلقد أنكر علي عليه السلام مبدأ استحقاق الخلافة بالقرابة والصحابة أشد الانكار، فقد جاء في نهج البلاغة قوله عليه السلام: " واعجبا ! ! أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة النسبية ؟ ! ". وأما ما يظهر منه أنهم يستدلون لاستحقاقهم الخلافة بالقربى من رسول الله صلى الله عليه وآله، فانما اقتضاه الحجاج مع الخصوم، فهو من باب: " الزموهم بما الزموا به أنفسهم ". ويدل على هذا المعنى ويوضحه ما قاله الامام علي عليه السلام لابي بكر، عندما جيئ به ليبايع، فكان مما قاله: ".. واحتججتم عليهم (أي علي الانصار) بالقرابة من النبي صلى الله عليه وآله.. وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار، نحن أولى الخ ".. راجع: الامامة والسياسة ج 1 ص 18. ويشير أيضا عليه السلام - إلى هذا المعنى في بعض خطبه الموجودة في نهج البلاغة فمن أراد فليراجعه.. كما ويشير إليه أيضا ما نسب إليه عليه السلام من الشعر (على ما في نهج البلاغة) وهو قوله: فان كنت بالشورى ملكت امورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب وان كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب ولكن أحمد أمين المصري في كتابه: ضحى الاسلام ج 3 ص 261، وص 300، وص 222، وص 235، وكذلك سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الاسلام ص 5. والخضري في محاضراته ج 1 ص 166: إن هؤلاء ينسبون إلى الشيعة القول: بأن منصب = (*)
[ 57 ]
= الخلافة يدور مدار القربى النسبية منه صلى الله عليه وآله وحسب، رغم اعتراف أحمد أمين في نفس الكتاب، وبالتحديد في ص 208، 212: بأن الشيعة يحتجون بالنص في خصوص الخليفة بعد الرسول. بل والخضري يعترف بذلك أيضا حيث قال: " أما الانتخاب عند أهل التنصيص على البيت العلوي، فانه كان منظورا فيه إلى الوراثة الخ ". وهي نسبة غريبة حقا - بعد هذا الاعتراف الصريح منهم، ومن غيرهم - فان عقيدة الشيعة - تبعا لائمتهم هي ما ذكرنا، أي ليس منصب الخلافة دائرا مدار القربى النسبية منه صلى الله عليه وآله، وأدلة الشيعة تنطق وتصرح بأن القربى النسبية وحدها لا توجب بأي حال من الاحوال استحقاق الخلافة، وإنما لابد من النص المعين لذلك الشخص الذي يمتلك الجدارة والاهلية والاستعداد الذاتي لها. إنهم يستدلون على خلافة علي عليه السلام بالنصوص القرآنية، والنبوية المتواترة عند جميع الفرق الاسلامية، ولا يستدلون بالقربى إلا من باب: ألزموهم.. أو من باب تكثير الادلة، أو في مقابل استدلال أبي بكر وعمر بها، وإذا ما شذ واحد منهم، واستدل بذلك، معتقدا بخلاف ما قلناه عن قصور نظر، وقلة معرفة، أو لفهمه - خطأ - ما ورد عنهم عليهم السلام. من أن عندهم ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله، فلا يجب، بل لا يجوز أن يحسب على الشيعة، ومن ثم القول بأن ذلك هو قولهم، وأن تلك هي عقيدتهم. ولعل أحمد أمين لم يراجع أدلة الشيعة ! ! أو أنه راجعها، واشتبه عليه الامر ! ! أو أنه. لا هذا. ولا ذاك.. وإنما أراد التشنيع عليهم، فنسب إليهم ما ليس من مذهبهم ! ويدلنا على صحة هذا الاحتمال الاخير، اعترافه المشار إليه، بأن الشيعة يستدلون على إمامة علي عليه السلام بالنص، لا بالقربى ! !.. وخلاصة القول هنا: إن القربى النسبية ليست هي الملاك في استحقاق الخلافة. ولم تكن دعوى أنها كذلك، لا من الائمة، ولا من شيعتهم. وإنما كانت من قبل أبي بكر، وعمر، ثم الامويين، فالعباسيين. وإذا كان أهل السنة - تبعا لائمتهم - قد جعلوا كون الامامة في قريش من عقائدهم. وإذا كان غير أهل البيت هم الذين ادعوا هذه الدعوى، وهللوا وكبروا لها. فمن الحق لنا إذن أن نقول: = (*)
[ 58 ]
وعندما ذهب داوود بن علي إلى مكة، واليا عليها، من قبل أخيه السفاح، وأراد أن يخطب في مكة خطبته الاولى، طلب منه سديف بن ميمون أن يأذن له في الكلام، فأذن له، فوقف، وقال من جملة ما قال: "... أتزعم الضلال: أن غير آل الرسول أولى بتراثه ؟ ! ولم ؟ ! وبم ؟ ! معاشر الناس ؟ ! ألهم الفضل بالصحابة، دون ذوي القرابة ؟ الشركاء في النسب، والورثة للسلب. " (1). ويقول داوود بن علي في نفس المناسبة، أعني في أول خطبة له: " لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، إلا علي بن أبي طالب، وهذا القائم فيكم.. " وأشار إلى السفاح (2). = " رمتني بدائها وانسلت ". وأخيرا.. فلقد كان من أبسط نتائج هذه العقيدة لدى أهل السنة، وقبولهم أن القربى النسبية تجعل لمدعيها الحق في الخلافة.. أن سنحت الفرصة لان يصل أشخاص إلى الحكم من أبرز مميزاتهم، وخصائصهم جهلهم بتعاليم الدين، وانسياقهم وراء شهواتهم، أينما كانت، وحيثما وجدت، جاعلين الحكم والسلطان، وسيلة إليها، مسدلين على حماقاتهم هنا، وتفاهاتهم هناك ستارا من القربى النسبية منه صلى الله عليه وآله. وهو من هؤلاء وأمثالهم برئ. ولما لم يعد ذلك الستار يقوى على المنع من استكناه واقعهم، وحقيقة نواياهم وتصرفاتهم، كان لابد لهم من الالتجاء إلى أساليب اخرى، تبرر لهم واقعهم، وتحمي تصرفاتهم، وتؤمن لهم الاستمرار في الحكم، ولعل بيعة المأمون للامام الرضا عليه السلام بولاية العهد هي من تلك الاساليب، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.. (1) تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 89، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج 4 ص 485 (2) مروج الذهب ج 3 ص 237 و 256، والطبري ج 10 ص 33 و 37، وعيون الاخبار لابن قتيبة ج 2 ص 252، وتاريخ اليعقوبي ج 3 ص 87، 88، والكامل لابن الاثير ج 4 ص 326، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 129 و 173، وامبراطورية العرب ص 422، والبداية والنهاية ج 10 ص 42، وشرح النهج للمعتزلي ج 7 ص 155، وفيه: " إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلخ ".. وبرواية اخرى فيه: " اقسم بالله قسما برا، ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، أحق به من علي بن أبي طالب، وأمير المؤمنين هذا ".. (*)
[ 59 ]
وقال المنصور في خطبة له: " وأكرمنا من خلافته، وميراثنا من نبيه.. " (1). ولكنهم بعد المنصور - بل وحتى من زمن المنصور نفسه كما سيتضح - قد غيروا سلسلة الارث هذه، وجعلوها عن طريق العباس، وولده عبد الله، ولكنهم أجازوا بيعة علي، لان العباس نفسه كان قد أجازها. كما سيأتي بيانه.. فكانت استدلالات الخلفاء ابتداء من المنصور ناظرة إلى الارث عن هذا الطريق.. فنرى المنصور يبين في رسالة منه لمحمد بن عبد الله بن الحسن: أن الخلافة قد ورثها العباس في جملة ما ورثه من النبي صلى الله عليه وآله، وأنها في ولده (2). وكان الرشيد يقول: " ورثنا رسول الله، وبقيت فينا خلافة الله (3) " وقال الامين عند ما بويع له، بعد موت أبيه الرشيد: ".. وأفضت خلافة الله، وميراث نبيه إلى أمير المؤمنين الرشيد (4). ". ومدح البعض المأمون، وعرض بأخيه الذي غدر به، فقال في جملة أبيات له: إن تغدروا جهلا بوارث أحمد ووصي كل مسدد وموفق (5) (1) مروج الذهب ج 3 ص 301، والطبري ج 10 ص 432. (2) الطبري ج 10 ص 215، والعقد الفريد طبع دار الكتاب ج 5 ص 81، إلى 85، وصبح الاعشى ج 1 ص 333، فما بعد، والكامل للمبرد، وطبيعة الدعوة العباسية.. (3) البداية والنهاية ج 10 ص 217، (4) تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 163. (5) مروج الذهب ج 3 ص 399. (*)
[ 60 ]
إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه.. ولنعد إلى ما كنا فيه أولا، فنقول: دعوى الاخذ بثارات العلويين: وأما ادعاؤهم: أنهم إنما خرجوا للاخذ بثارات العلويين، واستمرارهم على ربط الثورة بأهل البيت، حتى بعد نجاح ثورتهم، وتسلمهم لازمة الحكم والسلطان - وهذه هي الناحية الثانية من المرحلة الرابعة - فذلك أوضح من أن يخفى.. وقد تقدم قول محمد بن علي لبكير بن ماهان: " وسنأخذ بثأرهم. " يعني بثارات العلويين.. وتقدم أيضا قول داوود ابن علي: " وانما أخرجنا الانفة من ابتزازهم حقنا، والغضب لبني عمنا. ". ويقول السفاح، عندما أتي برأس مروان: " ما أبالي متى طرقني الموت، فقد قتلت بالحسين، وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي ابراهيم. " (1). ويقول صالح بن علي لبنات مروان: " ألم يقتل هشام بن عبد الملك، زيد بن علي بن الحسين، وصلبه في كناسة الكوفة ؟. وقتل امرأة زيد بالحيرة، على يد يوسف بن عمرو الثقفي ؟ ! ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد، وصلبه بخراسان ؟ ! (1) مروج الذهب ج 3 ص 257 وفي شرح النهج للمعتزلي ج 7 ص 131، وحياة الامام موسى بن جعفر للقرشي ج 1 ص 337، نقلا عن مختصر أخبار الخلفاء، هكذا. ". وقد قتلت بالحسين ألفا من بني امية. إلى أن قال: وقتلنا سائر بني امية بحسين، ومن قتل معه، وبعده من بني عمنا أبي طالب ".. (*)
[ 61 ]
ألم يقتل الدعي عبيدالله بن زياد، مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة ؟ ! ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين (1) ؟ !. وبرواية ابن أبي الحديد، أنه قال لهن: ". إذن، لا نستبقي منكم أحدا، لانكم قد قتلتم ابراهيم الامام، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، ومسلم بن عقيل. وقتلتم خير أهل الارض حسينا، وإخوته، وبنيه، وأهل بيته، وسقتم نساءه سبايا - كما يساق ذراري الروم - على الاقتاب إلى الشام.. " (2). ولا بأس بمراجعة ما قاله داوود بن علي عندما قتل ثمانين أمويا مرة واحدة (3). وكذلك فانهم ما لقبوا أبا سلمة الخلال، أول وزير في الدولة العباسية ب‍ " وزير آل محمد "، وأبا مسلم الخراساني ب‍ " أمين، أو أمير آل محمد (5) ". إلا من أجل الحفاظ على ربط الدعوة بأهل البيت عليهم السلام، ولتبقى - من ثم - محتفظة بقوتها، وحيويتها. وأخيرا. فلم يكن اتخاذهم السواد شعارا إلا تعبيرا عن الحزن والاسى (1) الكامل لابن الاثير ج 4 ص 332، ومروج الذهب ج 3 ص 247، ولا بأس بمراجعة خطبة السفاح في مروج الذهب أيضا ج 3 ص 257. (2) شرح النهج للمعتزلي ج 7 ص 129. (3) تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 92. (4) الفخري في الآداب السلطانية ص 155، ومروج الذهب ج 3 ص 271، والبداية والنهاية ج 10 ص 54، والطبري ج 10 ص 60، وتاريخ التمدن الاسلامي، المجلد الاول، جزء 1 ص 152، وغيرهم، فانه مما نص عليه أكثر المؤرخين.. (*)
[ 62 ]
لما نال أهل البيت في عهد بني أمية (1). وهكذا. يتضح، بما لا مجال معه للشك: أنهم كانوا يستغلون سمعة العلويين، ودماءهم الزكية في محاولاتهم للوصول إلى الحكم، وتثبيت أقدامهم فيه.. بل إن من الملاحظ أن كثيرا من الثورات التي قامت بعد ثورة بني العباس، كانت تحاول ذلك - بطريقة أو بأخرى - أي أنها كانت تظهر للناس ارتباطها بأهل البيت عليهم السلام، وأنها تحظى بتأييدهم، وموافقتهم، وكثير منها كان يرفع شعار: " الرضا من آل محمد ". نهاية المطاف. وبعد كل ما تقدم.. يتضح لنا بجلاء، الاسلوب الذي انتهجه (1) هذا يصح بالنسبة للملابس السوداء. وأما كون الرايات سوداء، فيحتمل أن يكون لاجل ذلك، حسبما صرح به ابن خلدون ص 259، ويحتمل أن يكون لما ورد من أن راية علي عليه السلام يوم صفين كانت سوداء، على ما نص عليه فان فلوتن في هامش: ص 126 من كتابه السيادة العربية، أو لان رايات النبي صلى الله عليه وآله في حروبه مع الكفار كانت سوداء، يقول الكميت مشيرا إلى ذلك: وإلا فارفعوا الرايات سودا * على أهل الضلالة والتعدي وفي صبح الاعشى ج 3 ص 370، نقلا عن القاضي الماوردي في كتابه: " الحاوي الكبير ": أن السبب في اختيارهم السواد هو أن النبي صلى الله عليه وآله قد عقد في يوم حنين ويوم الفتح لعمه العباس راية سوداء. وفي صبح الاعشى أيضا ج 3 ص 371 نقل عن أبي هلال العسكري في كتابه " الاوائل " أن سبب ذلك هو قتل مروان لابراهيم الامام، حيث لبس شيعته السواد حدادا عليه، فلزمهم ذلك، وصار شعارا لهم.. ونرجح أن حادثة قتل يحيى بن يزيد، ولبس الخراسانيين السواد عليه سبعة أيام، هي التي شجعت العباسيين على اتخاذ السواد شعارا لهم، إظهارا للحزن والاسى لما نال أهل البيت في الدولة الاموية. ويذهب إلى هذا الرأي السيد عباس المكي في نزهة الجليس ج 1 ص 316. بل صرح البلاذري في أنساب الاشراف ج 3 ص 264 بما يدل على ذلك فراجع. (*)
[ 63 ]
العباسيون، والخطة التي اتبعوها، من أجل كسب ثقة الناس بهم، وتأييدهم لهم، وصرف أنظار الحكام عنهم. وأيضا الطريقة التي اتبعوها في ابعاد العلويين عن مجال السياسة، وأن بيعتهم لهم ما كانت إلا خداعا وتمويها، من أجل تنفيذ خطتهم، وانجاح دعوتهم. كما وظهر أن كون الدعوة - في بادئ الامر - باسم العلويين، لم يكن أمرا عفويا، وتلقائيا. وانما كان ضمن خطة دقيقة، ومدروسة، وضعت بعناية فائقة، كما توضحه لنا النصوص المتقدمة. وظهر أيضا: كيف أن العباسيين قد حرصوا كل الحرص على ربط الثورة بأهل البيت عليهم السلام، وكانوا يعتمدون على هذا الربط كل الاعتماد، ويصرون، ويؤكدون عليه، كلما سنحت لهم الفرصة، وواتاهم الظرف، حتى عندما وصلوا إلى الحكم، وفازوا بالسلطان. وقد انقاد الناس لهم في البداية، واستقامت لهم الامور، ظنا منهم بحسن نيتهم، وسلامة طويتهم. * * * ولكن. ماذا كانت النتيجة بعد ذلك، بالنسبة للناس عامة، وبشكل خاص بالنسبة للعلويين، الذين قامت الثورة باسمهم ونجحت بفضلهم ؟ ! وماذا كان نصيبهم، ومصيرهم، من هذه الثورة ومعها ؟ ! هذا. ما سوف نحاول الاجابة عليه فيما يأتي من الفصول.
[ 64 ]
مصدر الخطر على العباسيين العلويون هم مصدر الخطر: قد تقدم معنا: أن الدولة العباسية إنما قامت - في بداية أمرها - على الدعوة لخصوص العلويين، ثم لاهل البيت، ثم إلى الرضا من آل محمد.. وأن سر نجاحها ليس إلا ربطها بأهل البيت عليهم السلام. وإن كانت قد انحرفت فيما بعد، حيث تحكم العباسيون وتسلطوا على الامة بدعوى القربى النسبية من الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله. ومن هنا. فان من الطبيعي، أن يكون الخطر الحقيقي الذي يتهدد العباسيين، وخلافتهم، هو من جهة ابناء عمهم العلويين، الذين كانوا أقوى منهم حجة، وأقرب إلى النبي صلى الله عليه وآله منهم، باعتراف العباسيين أنفسهم (1).. (1) سيأتي اعتراف عيسى بن موسى بذلك، واعتراف الرشيد للكاظم عليه السلام والمأمون للرضا عليه السلام في الكتاب التي سنورده في أواخر هذا الكتاب، وأيضا قوله للرضا عليه السلام: أنتم والله أمس برسول الله رحما، وبيعة السفاح والمنصور وغيرهم لمحمد بن عبد الله العلوي وكلام المنصور في مجلس البيعة يدل على ذلك أيضا، إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه واستقصائه.. وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيدا مقدار هذا النفوذ. (*)
[ 65 ]
فادعاؤهم الخلافة إذن، له مبرراته الكاملة، سيما وأن من بينهم من له الجدارة والاهلية، ويتمتع بأفضل الصفات والمؤهلات لهذا المنصب من العلم، والعقل، والحكمة، وبعد النظر في الدين والسياسة. هذا بالاضافة إلى كان يكنه الناس لهم، من مختلف الفئات والطبقات، من الاحترام والتقدير، الذي نالوه بفضل تلك المميزات والصفات، وبفضل سلوكهم المثالي، وترفعهم عن كل المشينات، والموبقات. أضف إلى ذلك كله. أن رجالات الاسلام، وأبطاله، كانوا هم آل أبي طالب " رضي الله تعالى عنه "، فأبو طالب مربي النبي صلى الله عليه وآله وكفيله، وعلي عليه السلام وصيه وظهيره، وكذلك الحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، وباقي الائمة. ومنهم زيد بن علي الخارج على بني أمية، وغيرهم، ممن يطول المقام بذكرهم، رضوان الله عليهم أجمعين. ولقد كانت بطولات العلويين، ومواقفهم على كل شفة ولسان، وفي كل قلب وفؤاد، حتى لقد ألفت الكتب الكثيرة في وصف تلك البطولات، وبيان هاتيك المواقف. وخلاصة الامر: إنه لم يكن هناك مجال لانكار نفوذ العلويين الواسع في تلك الفترة، أو تجاهله، فان ذلك إما أن يكون عن قصر نظر، وقلة معرفة، أو مكابرة وعنادا. تخوف العباسيين من العلويين: وقد كان الخلفاء من بني العباس يدركون جيدا مقدار هذا النفوذ، للعلويين، ويتخوفون منه، منذ أيامهم الاولى في السلطة. ومما يدل على ذلك:
[ 66 ]
أن السفاح، من أول عهده كان قد وضع الجواسيس على بني الحسن، حيث قال لبعض ثقاته، وقد خرج وفد بني الحسن من عنده: " قم بانزالهم ولا تأل في الطافهم، وكلما خلوت معهم، فأظهر الميل إليهم، والتحامل علينا، وعلى ناحيتنا. وأنهم أحق بالامر منا، وأحص لي ما يقولون، وما يكون منهم في مسيرهم، ومقدمهم (1). ". وقد تنوعت هذه المراقبة، وتعددت أساليبها بعد عهد السفاح، يظهر ذلك لكل من راجع كتب التاريخ (2). خوف المنصور من العلويين ومما يدل على مدى تخوف العباسيين من العلويين وصية المنصور لولده المهدي، التي يحثه فيها على القبض على عيسى بن زيد العلوي، يقول المنصور: ". يا بني، إني قد جمعت لك من الاموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الاسلام مثلها. ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد. فأما عيسى بن موسى، فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله، لو لم يكن إلا أن يقول قولا لما خفته عليك، فأخرجه من قلبك، وأما عيسى بن يزيد، فانفق هذه الاموال، واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة، حتى تظفر به، (1) الطبري، طبع ليدن ج 11 ص 752، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج 5 ص 74، وتاريخ التمدن الاسلامي، وغير ذلك.. (2) وقد اعترف المنصور نفسه بهذه المراقبة في بعض خطبه: فراجع: الطبري ج 10 ص 432، ومروج الذهب ج 3 ص 301. (*)
[ 67 ]
ثم لا ألومك (1). ". وليس تخوف المنصور إلى هذا الحد من عيسى بن زيد لعظمة خارقة في عيسى هذا، وانما كل ما في الامر أن المجتمع الاسلامي كان قد قبل - في تلك الفترة من الزمن - أن الخلافة الشرعية إنما هي في ولد علي عليه السلام. وإذا ما قام عيسى بن زيد بثورة، فانه سوف يلقى تأييدا واسعا، فهو من جهة ابن زيد الشهيد، الثائر على بني أمية. ومن جهة أخرى. كان من المعاونين لمحمد بن عبد الله العلوي - قتيل المدينة - الذي كان السفاح والمنصور قد بايعاه، حسبما تقدم، والذي ادعي على نطاق واسع - باستثناء الامام الصادق عليه السلام - أنه مهدي هذه الامة. - كما أنه - أي عيسى بن زيد - كان من المعاونين لابراهيم أخي محمد بن عبد الله الآنف الذكر، والذي خرج بالبصرة، وقتل بباخمرى. ومما يدل على مدى خوف المنصور من العلويين أنه: عندما كان مشغولا بحرب محمد بن عبد الله، وأخيه ابراهيم، كان لا ينام الليل في تلك الايام. وأهديت له جاريتان، فلم ينظر اليهما، فكلم في ذلك، فنهر المتكلمة، وقال: ". ليست هذه الايام من أيام النساء، لا سبيل لي إليهما، حتى أعلم: أرأس ابراهيم لي، أم رأسي لابراهيم ؟ (2) ". (1) الطبري طبع ليدن ج 10 ص 448. وتحسن الاشارة هنا إلى أن الاموال التي خلفها المنصور للمهدي تبلغ 600 مليون درهم، و 14 مليون دينار. راجع امراء الشعر العربي في العصر العباسي ص 35. (2) تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 195، والطبري ج 10 ص 306، وتاريخ اليعقوبي ج 3 ص 114، والبداية والنهاية ج 10 ص 93، والكامل لابن الاثير ج 5 ص 18. وأنساب الاشراف ج 3 ص 118، ولكنه يذكر أنهما امرأتان من قريش كانتا قد خطبتا للمنصور. (*)
[ 68 ]
وهيئت له آنئذ عجينة من مخ وسكر، فاستطابها، فقال: " أراد ابراهيم أن يحرمني هذا وأمثاله (1) ". وأرسل إلى كل باب من أبواب عاصمته - وهي الكوفة آنئذ - إبلا ودوابا، حتى إذا أتى إبراهيم وجيشه من ناحية، هرب هو إلى الري من الناحية الاخرى (2). وفي حربه - أي المنصور - مع محمد بن عبد الله اتسخت ثيابه جدا، حيث لم ينزعها عن بدنه أكثر من خمسين يوما (3). وكان لا يستطيع أن يتابع كلامه من كثرة همه (4). وأخيرا. فكم من مرة رأيناه يجلب الامام الصادق عليه السلام، ويتهدده ويتوعده، ويتهمه بأنه يدبر للخروج عليه وعلى سلطانه. فكل ذلك يدل دلالة واضحة على مدى رعب المنصور، وخوفه من العلويين، وما ذلك إلا لادراكه مدى ما يتمتعون به من التأكيد، في مختلف الطبقات، وعند جميع الفئات. (1) مروج الذهب ج 3 ص 298. (2) الطبري ج 10 ص 317، طبع ليدن، وتاريخ اليعقوبي ج 3 ص 113. ومرآة الجنان ج 1 ص 299، وشرح ميمية أبي فراس ص 116، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص 210، نقلا عن تجارب الامم لابن مسكويه ج 4. (3) الطبري ج 10 ص 306، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 195، والكامل لابن الاثير ج 5 ص 18، والمحاسن والمساوي ص 373، والبداية والنهاية ج 10 ص 93، وأنساب الاشراف للبلاذري ج 3 ص 118. (4) البداية والنهاية ج 10 ص 93، وقال اليافعي في مرآة الجنان ج 1 ص 298، 299: ".. ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة، وكان كل يوم يأتيه فتق من ناحية. هذا، ومئة ألف سيف كامنة له بالكوفة، قالوا: ولولا السعادة لسل عرشه بدون ذلك ". (*)
[ 69 ]
حتى إنه عندما سئل عن المبايعين لمحمد بن عبد الله أجاب: ".. ولد علي، وولد جعفر، وعقيل، وولد عمر بن الخطاب، وولد الزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الانصار (1) ". وسيمر معنا أن المنصور ادعى أن ولده هو المهدي، عندما رأى أن الناس - ما عدا الامام الصادق عليه السلام - قد قبلوا بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي. وسيمر معنا أيضا طرف من معاملته للعلويين فيما يأتي إن شاء الله تعالى. خوف المهدي من العلويين: وأما خوف المهدي من العلويين، فذلك لعله من أوضح الواضحات، فمثلا نرى أنه: عندما أخرج الامام الكاظم عليه السلام من السجن، يطلب منه أن لا يخرج عليه، ولا على أحد من ولده (2). كما أنه قد مكث مدة يطلب عيسى بن زيد، والحسن بن ابراهيم، بعد هربه من السجن.. فقال المهدي يوما لجلسائه: " لو وجدت رجلا من الزيدية، له معرفة بآل حسن، وبعيسى بن زيد، وله فقه. فأجتلبه عن طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن، وعيسى بن زيد "، فدله الربيع على يعقوب بن داوود، فلم يزل أمره يرتفع عند الخليفة المهدي، حتى استوزره، وفوضه جميع أمور الخلافة، وخرج كتابه على الدواوين (1) مروج الذهب ج 3 ص 294، 295. (2) راجع: مروج الذهب، وابن خلكان: ترجمة الامام الكاظم، وفصل الخطاب، وينابيع المودة، وكشف الغمة، ومرآة الجنان، وصفة الصفوة. وصرح في ينابيع المودة ص 382، 383 باتفاق المؤرخين على ذلك. (*)
[ 70 ]
بأنه: قد آخاه (1). كل ذلك من أجل أن يدله على الحسن بن ابراهيم، وعيسى بن زيد، مع أن يعقوب هذا كان قد سجنه المنصور، لخروجه عليه مع ابراهيم بن عبد الله بن الحسن، والمهدي هو الذي أطلقه. ولكنه لما لم يدله على عيسى بن زيد اتهمه بأنه: يمالئ الطالبيين فسجنه (2) وبقي في السجن إلى زمن الرشيد، فأخرجه. وقد كف بصره. خوف الرشيد من العلويين: وأما الرشيد " الذي ثارت الفتن في زمنه بين أهل السنة والرافضة (3)، (1) الطبري، طبع ليدن ج 10 ص 464، 507، 508، ومروج الذهب ج 3 ص 312، والفخري في الآداب السلطانية ص 184، 185، وليراجع: الوزراء والكتاب ص 155 وغير ذلك. وسيأتي في فصل: ظروف البيعة المزيد من الكلام حول نفوذ يعقوب هذا.. ونكتفي هنا بالقول: إنه قد بلغ من نفوذه، أن جاز لبشار أن يقول أبياته المشهورة: بني امية هبوا طال نومكم * إن الخليفة يعقوب بن داوود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا * خليفة الله بين الزق والعود (2) مروج الذهب ج 3 ص 312، وضحى الاسلام ج 3 ص 292، والطبري، وغير ذلك. وفي مرآة الجنان ج 1 ص 419 وغيره: أنه حبسه في بئر، وبنى عليه قبة، وليراجع الوزراء والكتاب ص 155 أيضا. وقد دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي بعد أن سجن يعقوب، وقال له: " إن يعقوب رجل رافضي ".. ومع ذلك. فاننا نرى البعض يتهم يعقوب هذا بأنه هو الذي وشى للرشيد بالامام موسى ابن جعفر عليه السلام، فراجع عيون أخبار الرضا ج 1 ص 73، وغيره... (3) النجوم الزاهرة ج 2 ص 77. (*)
[ 71 ]
فقد كان معنيا بالمسألة عن آل علي، وكل من كان ذا نباهة وشأن منهم، كما سيأتي. وقضيته مع يحيى بن عبد الله بن الحسن، الذي كان قد خرج في الديلم، وحالته السيئة، وهمومه في أيام خروجه، أشهر من أن تحتاج إلى بيان. وكيف لا تأخذه الهموم، وتذهب به الوساوس، وقد اتبع يحيى " خلق كثير، وجم غفير، وقويت شوكته، وارتحل إليه الناس من الكور والامصار، فانزعج للملك الرشيد، وقلق من أمره ". وكان الساعي بالصلح بينه وبين يحيى هو الفضل بن يحيى، وبسبب تمكنه من إخماد ثورة يحيى عظمت منزلته عند الرشيد جدا، وفرح بذلك الصلح فرحا عظيما (1). وإن كان قد غدر بيحيى بعد ذلك، كما هو معروف ومشهور. كما انه عندما ذهب إلى المدينة لم يعط الامام موسى بن جعفر عليه السلام، سوى مائتي دينار، رغم أنه كان يعطي من لا يقاسون به الآلاف منها، وكان اعتذاره عن ذلك لولده المأمون، أنه لو أعطاه اكثر من ذلك لم يأمن أن يخرج عليه من الغد مئة الف سيف من شيعته، ومحبيه صلوات الله وسلامه عليه (2). (1) راجع في ذلك كله: البداية والنهاية ج 10 ص 167، وعمدة الطالب، طبع بيروت ص 124، وشرح ميمية أبي فراس ص 190. (2) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 92، والبحار ج 48 ص 131، 132. وقد رأينا أن العباسيين ابتداء من المنصور، بل السفاح - مع الامام الصادق عليه السلام - كانوا دائما يتهددون الائمة - الذين ما كانوا يجدون الفرصة لاي تحرك، ومن أي نوع، كما سنوضحه - ويتهمونهم بأنهم كانوا يدبرون في الخفاء للخروج عليهم، ليجدوا الوسيلة من ثم - للتضييق عليهم، والمبرر لسجنهم، ومصادرة أموالهم وو. وكان الائمة ينفون ذلك، ويدحضون تلك التهم باستمرار.. لكنهم ما كانوا يقبلون منهم ذلك ! ! (*)
[ 72 ]
ثم عاد وسجنه بعد ذلك بحجة أنه كان يجبى إليه الخراج، ثم يدس إليه السم، ويتخلص منه، وذلك هو مصير اكثر الائمة على يد الخلفاء قبله وبعده. وأما في زمن المأمون ! وأما في زمن المأمون: فقد كان الامر أعظم، وأمر، وأدهى، حيث قد شملت الثورات والفتن الكثيرة من الولايات والامصار، حتى لم يعد يعرف المأمون من أين يبدأ، ولا كيف يعالج. وأصبح يرى، ويؤلمه أن يرى مصيره، ومصير خلافته في مهب الريح، تتقاذفه الانواء، ويضرى به الاعصار. عقدة الحقارة لدى العباسيين: وكان ذلك بطبيعته يزيد من رعب العباسيين، ويضاعف من مخاوفهم.. سيما بملاحظة أنهم كانوا يعيشون عقدة الحقارة والمهانة. يقول أبو فراس مشيرا إلى ذلك: ثم ادعاها بنو العباس ملكهم * ومالهم قدم فيها ولا قدم لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا * ولا يحكم في أمر لهم حكم ولا رآهم أبو بكر وصاحبه * اهلا لما طلبوا منها وما زعموا فهل هم يدعوها غير واجبة * أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا وقد كتب ابو مسلم للمنصور، من جملة رسالة له: ". وأظهركم الله بعد الاخفاء، والحقارة والذل، ثم استنقذني بالتوبة الخ (1). ". (1) البداية والنهاية ج 10 ص 64. وغيره. (*)
[ 73 ]
وفي رسالة أخرى: ". حتى عرفكم من كان جهلكم (1) ". بل لقد صرح المنصور بذلك لعمه عبد الصمد بن علي، حيث قال له: " نحن بين قوم رأونا بالامس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا إلا باستعمال العقوبة، ونسيان العفو. " كما سيأتي. في مواجهة الخطر: وإذا كان العباسيون يدركون: أن الخطر الحقيقي الذي يتهددهم، إنما هو من قبل أبناء عمهم العلويين، فان عليهم إذن. أن يتحركوا. أن يفعلوا شيئا. أن يواجهوا الخطر المحدق بهم بكل وسيلة، وبأي أسلوب كان. سيما وهم يشهدون عن كثب سرعة استجابة الناس للعلويين، وتأييدهم، ومساندتهم لكل دعوة من قبلهم. فكيف عالج العباسيون الموقف ؟ !. وما هو مدى نجاحهم في ذلك ؟ إن كان قدر لهم النجاح ! !. (1) البداية والنهاية ج 10 ص 69، والامامة والسياسة ج 2 ص 133، وغير ذلك. (*)
[ 74 ]
سياسة العباسيين ضد العلويين: مما سبق: قد تقدم معنا بعض ما يدل على مدى نفوذ العلويين، وعلى المكانة التي كانوا يتمتعون بها على العموم. وأنهم هم الذين كانوا يشكلون الخطر الحقيقي على العباسيين، ومركزهم في الحكم. وقد كان العباسيون يدركون بالفعل هذه الحقيقة، فكان عليهم أن يبعدوهم عن مجال السياسة بأي وسيلة كانت وأن يحدوا ما استطاعوا من نفوذهم، ويضعفوا ما أمكنهم من قوتهم. وقد اتبعوا من أجل ذلك أساليب شتى، وطرق متنوعة: فحاولوا في بادئ الامر أن يقارعوهم الحجة بالحجة.. تطوير نظرية الارث: وكان من جملة أساليبهم في ذلك أنهم غيروا وبدلوا في السلسلة، التي كانوا يواجهون بها الناس في تقريرهم لشرعية خلافتهم من النبي صلى الله عليه وآله.
[ 75 ]
وذلك لانهم كانوا في بداية أمرهم يصلون حبل وصايتهم بأمير المؤمنين عليه السلام، ثم منه إلى ولده محمد بن الحنفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس، فإلى ولده محمد بن علي، فابراهيم الامام، ثم منه إلى أخيه السفاح (1) وهكذا.. هذا. مع إنكارهم لشرعية خلافة أبي بكر وعمر، وعثمان، وغيرهم من خلفاء الامويين، وغيرهم. ويتضح انكارهم وتبرؤهم هذا من كثير من النصوص التاريخية. فمن ذلك قصة أبي عون مع المهدي، التي ستأتي في بعض هوامش هذا الفصل. ومن ذلك أيضا قول أبي مسلم في خطبته في أهل المدينة في السنة التي حج فيها في عهد السفاح، قال: ".. وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة، وعدويا مرة، وأسديا مرة وسفيانيا مرة، ومروانيا مرة، حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه، ولا بيته [ يعني نفسه ] يضربكم بسيفه، فأعطيتموها عنوة، وأنتم صاغرون، ألا وإن آل محمد أئمة الهدى، ومنار سبيل التقى، القادة الذادة السادة الخ (2). " وتقدم قول داوود ابن علي: " لم يقم فيكم امام بعد رسول الله الخ.. " وروى أبو سليمان الناجي، قال: " جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات لهم، وهو ولي عهد، فبدأ ببني هاشم، ثم بسائر قريش. فجاء السيد أي [ الحميري ]، فرفع إلى الربيع حاجب المنصور رقعة مختومة، وقال: ان فيها نصيحة للامير، فأوصلها إليه. فأوصلها. فإذا فيها: (1) تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 173، ومروج الذهب ج 3 ص 238، ووفيات الاعيان ج 1 ص 454، 455، طبع سنة 1310، وامبراطورية العرب ص 406، وغير ذلك، وقد أشرنا إلى أن هذه هي عقيدة الكيسانية، فراجع. (2) شرح النهج للمعتزلي ج 7 ص 161، 162. (*)
[ 76 ]
قل لابن عباس سمي محمد * لا تعطين بني عدي درهما احرم بني تيم بن مرة انهم * شر البرية آخرا، ومقدما إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة * ويكافؤوك بأن تذم وتشتما وإن ائتمنتهم أو استعملتهم * خانوك، واتخذوا خراجك مغنما ولئن منعتهم لقد بدءوكم * بالمنع، إذ ملكوا وكانوا أظلما منعوا تراث محمد أعمامه * وابنيه، وابنته عديلة مريما وتأمروا من غير ان يستخلفوا * وكفى بما فعلوا هنالك مأثما لم يشكروا لمحمد انعامه * أفيشكرون لغيره إن أنعما والله من عليهم بمحمد * وهداهم، وكسا الجنوب، وأطعما ثم انبروا لوصيه ووليه * بالمنكرات، فجرعوه العلقما قال: فرمى بها إلى عبد الله معاوية بن يسار، الكاتب للمهدي، ثم قال: إقطع العطاء، فقطعه. وانصرف الناس. ودخل السيد إليه، فلما رآه ضحك، وقال: قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل. ولم يعطهم شيئا (1). ". ونرى السيد الحميري في مناسبة أخرى ينشد المنصور أبياتا يهجو بها سوارا القاضي، من جملتها: إن سوار بن عبد * الله من شر القضاء نعثلي، جملي، * لكم غير مواتي (2) (1) الاغاني ج 7 ص 16، طبع دار الفكر، والغدير ج 2 ص 254، 255، والادب في ظل التشيع ص 207، ومستدرك أخبار السيد الحميري للمرزباني ص 58، باختصار وديوان السيد الحميري ص 377، 378، نقلا عن الاولين، وعن: أعيان الشيعة ج 12 ص 178، وتاريخ الاسلام ج 2 ص 147، وتاريخ آداب اللغة العربية ج 2 ص 67، 68. (2) طبقات الشعراء لابن المعتز ص 34، والاغاني ج 7 ص 261، والغدير ج 2 ص 256 (*)
[ 77 ]
ويقول القاسم بن يوسف: هاشم فخر قصي كلها * أين تيم وعدي والفخار لهم أيد طوال في العلى * ولمن ساماهم أيد قصار لهم الوحي وفيهم بعده * آمر الحق وفي الحق منار وهم أولى بأرحامهم * في كتاب الله إن كان اعتبار ما بعيد كقريب سببا * لا ولا يعدل بالطرف الحمار إلى أن قال: خسر الآخذ ما ليس له * عمد عين والشريك المستشار ولفيف ألفوا بينهم * بيعة فيها اختلاط وانتشار ورسوله الله لم يدفن فما * شغل القوم اغتمام وانتظار كان منهم قبل آل المصطفى * أن يلوا الامر حذار ونفار (1) إلى آخر الابيات. والقاسم بن يوسف معاصر لكل من الرشيد والمأمون، وتوفي سنة 213 ه‍. وكل ما ذكرناه يدل على انكار العباسيين لشرعية خلافة أبي بكر وعمر. ومثل ذلك كثير لا مجال لنا هنا لاستقصائه، وحسبنا هنا أقوال المؤرخين، فانها القول الفصل، والحكم العدل. هذا ما كان في بداية الامر. أي أنهم كانوا يصلون حبل وصايتهم بعلي عليه السلام، وينكرون شرعية خلافة الثلاثة، ثم عدلوا عن ذلك بعد فترة. وذلك لما يتضمنه من الاعتراف بأن الوصاية كانت في ولد علي عليه السلام. (1) الاوراق للصولي ص 180، وأخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص 108 - 109. (*)
[ 78 ]
فأسس المهدي فرقة (1) تدعي: أن الامام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله هو العباس بن عبد المطلب، ثم ابنه عبد الله، ثم ابنه علي، ثم ابنه محمد. وهكذا إلى أن ينتهي الامر إليهم. هذا. مع الاستمرار على البراءة من أبي بكر، وعمر، وعثمان. ولكنهم أجازوا بيعة علي ابن أبي طالب، لان العباس نفسه كان قد أجازها (2). وتسمى هذه الفرقة ب‍: " الراوندية والشيعة العباسية ". ولكننا لا نجد لهذه الفرقة أثرا في عصر المأمون، لان سياسة الخليفة قد اقتضت تجميد هذه المقالة، ولو لفترة من الزمان كما سنوضحه وعلى كل حال فيقول منصور النمري يمدح الرشيد: لولا عدي وتيم لم تكن وصلت * إلى أمية تمريها وترتضع إن الخلافة كانت إرث والدكم * من دون تيم، وعفو الله متسع (3) (1) هذا. ولكن الذي يبدو هو أن صاحب الفكرة الحقيقي هو المنصور. كما يظهر من رسالته لمحمد بن عبد الله بن الحسن، ومن كثير من كلماته، وخطبه. والمهدي كان هو المنفذ لها، والمخرج من عالم القوة إلى عالم الفعل.. بل لقد سار المنصور في إشاعة هذه الفكرة، وتركيزها شوطا بعيدا، حتى لقد تقرب إليه بها الشعراء، فهذا السيد الحميري يقول - على ما يرويه لنا المرزباني في أخباره ص 37 ويروي أيضا مكافأة المنصور المهمة له على ذلك - يقول السيد: يا رهط أحمد إن من أعطاكم * ملك الورى وعطاؤه أقسام رد الخلافة والوراثة فيكم * وبنو امية صاغرون رغام لمتمم لكم الذي أعطاكم * ولكم لديه زيادة وتمام أنتم بنو عم النبي عليكم * من ذي الجلال تحية وسلام وورثتموه وكنتم أولى به * إن الولاء تحوزه الارحام إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه. (2) فرق الشيعة للنوبختي ص 48، 49، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 173، ومروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 236، إلا أن النوبختي ذكر أنهم لم يجيزوا حتى بيعة علي أيضا. (3) طبقات الشعراء لابن المعتز ص 244، والشعر والشعراء ص 546. (*)
[ 79 ]
تشجيع الخلفاء لهذا الاتجاه: وقد شجع الخلفاء هذه النحلة، أو فقل هذا الاتجاه، واستمروا يناصرونه إلى زمن هارون. وقد حصل مروان ابن أبي حفصة من الخليفة العباسي " المهدي " على أعظم جائزة تعطى لشاعر في تلك الفترة، على قوله مخاطبا آل علي: هل تطمسون من السماء نجومها * بأكفكم أو تسترون هلالها أو تدفعون مقالة عن ربكم * جبريل بلغها النبي فقالها نزلت من الانفال آخر آية * بتراثهم، فأردتم ابطالها يشير إلى اية: " أولوا الارحام. ". فزحف المهدي من صدر مصلاه إعجابا، وأعطاه مئة ألف درهم، لكل بيت ألف درهم. وكانت هذه أول مئة ألف تعطى لشاعر في دولة بني العباس (1). وأعطاه هارون بدوره على هذه الابيات، بعد أن أصبح خليفة مئة ألف أيضا. كما أن المهدي قد أعطى مروان هذا على قوله: أنى يكون وليس ذاك بكائن * لبني البنات وراثة الاعمام أعطاه ثلاثين ألفا من صلب ماله، وكساه جبة، ومطرفا، وفرض على أهله ومواليه ثلاثين ألفا أيضا (2). تاريخ بغداد ج 13 ص 144، 145، ومرآة الجنان ج 1 ص 321. (2) ولكن في العقد الفريد ج 1 ص 312، الطبعة الثالثة، والمحاسن والمساوي ص 219: أنه أخذ منه ثلاثين، ومن أهل بيته سبعين. ولعل هذا هو الاقرب إلى الواقع، فقد = (*)
[ 80 ]
وينسب هذا الشعر لبشار بن برد كذلك. وبعد ذلك يقف مروان بن أبي الجنوب (ويقال: بل مروان بن أبي حفصة، وقد أنشدها المتوكل، على ما في الغدير ج 4 ص 175)، وينشد الخليفة قصيدته التي مطلعها: لكم تراث محمد * وبعدلكم تشفى الظلامة إلى أن يقول: ما للذين تنحلوا * ميراثكم إلا الندامة فيخلع عليه أربع خلع، وينثر ثلاثة آلاف دينار، يأمره بالتقاطها، ويعطيه عشرة آلاف درهم،. ثم يعقد له - مع ذلك كله - ولاية على البحرين واليمامة (1). بل لقد تمادى هارون، وأراد أن يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أراد أن ينكر حتى شرعية خلافة الامام علي عليه السلام، فأحضر " أبا معاوية الضرير " وهو أحد محدثي المرجئة (2)، وقال له: " هممت أنه من يثبت خلافة علي فعلت به وفعلت.. ". فنهاه أبو معاوية عن ذلك، واستدل له بما أعجبه، فارتدع، وانصرف عما كان عزم عليه (3). = ذكر في المحاسن والمساوي ص 220: أن مروان هذا قال في هذه المناسبة: بسبعين ألفا راشي من حبائه * وما نالها في الناس من شاعر قبلي بل هذا البيت يدل على أن السبعين كانت منه، لا من أهل بيته.. وفي طبقات الشعراء ص 51 اكتفى بالقول: أنه أخذ بهذا البيت مالا عظيما.. (1) راجع: الكامل لابن الاثير ج 7 ص 38، والامام الصادق والمذاهب الاربعة، المجلد الثاني، جزء 3، ص 228. (2) المرجئة الاولى كانوا لا يتولون عثمانا ولا عليا، ولا يتبرءون منهما. (3) راجع تفصيل ذلك في تاريخ بغداد ج 5 ص 244، ونكت الهميان في نكت العميان ص 247. (*)
[ 81 ]
بل إن بعض النصوص التاريخية تفيد أن المهدي أيضا كان لا يريد أن يجيز بيعة علي عليه السلام (1). الامام علي في ميزان الاعتبار: وإذا ما عرفنا أن اظهار المأمون حبه لعلي بن أبي طالب، وولده، ليس إلا لظروف سياسية معينة كما سيأتي توضيحه. فاننا سوف نرى أنفسنا مقتنعين بأن تأرجح الامام علي عليه السلام في ميزان الاعتبار في تلك الفترة والتي بعدها عند العباسيين، لم يكن إلا أمرا ظاهريا أملته الظروف السياسية، والاجتهادات المختلفة في أساليب مواجهة العلويين. ولهذا نرى ارتباكهم في ذلك ظاهرا للعيان من وقت لآخر، ومن فترة لاخرى. وهكذا. نجد أن الامام عليا لم يكن معتبرا عند المأمون، (1) فقد ذكر ابن الاثير في الكامل ج 5 ص 72، والطبري في تاريخه حوادث سنة 169 ه‍.: أن المهدي عندما رأى في وصية القاسم بن مجاشع التميمي المروزي عبارة: ".. ويشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله، ووارث الامامة من بعده. الخ ".. رماها من يده، ولم ينظر في باقيها.. كما أنه عندما ذهب لعيادة أبي عون، الذي كان من كبار رجال الدعوة، والذي أرسله أبو مسلم في ثلاثين ألفا في طلب مروان بن محمد، وكان هو الذي أنهى أمره في مصر على ما في الامامة والسياسة ج 2 ص 116، 119، 120. - عندما ذهب المهدي لعيادته -، وطلب منه أبو عون أن يرضى عن ولده، الذي كان يرى رأي الشيعة في الخلافة، أجاب: أنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا. فقال له أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين، على الامر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه، فان كان قد بدا لكم، فمرونا، حتى نطيعكم.. راجع الامام الصادق والمذاهب الاربعة، المجلد الاول، جزء 2 ص 569، وقاموس الرجال ج 5 ص 373، والطبري، وغير ذلك. (*)
[ 82 ]
غير معتبر عند المنصور والرشيد، بل هو غير معتبر عندهم جميعا.. ولسنا هنا في صدد تحقيق هذا الامر، ولكن قد تكفي الاشارة في كثير من الاحيان. استغلال لقب المهدي: هذا.. ونلاحظ: أن المنصور أيضا قد حاول أن يقارع العلويين بالحجة، ولكن بنحو آخر، وأسلوب آخر. فانه عندما رأى أن الناس قد قبلوا على نطاق واسع (ما عدا الامام الصادق عليه السلام) بأن محمد بن عبد الله العلوي هو المهدي.. حاول أن يموه هو بدوره على الناس، فلقب ولده، والخليفة بعده ب‍ " المهدي " من أجل أن يصرف الناس عن محمد بن عبد الله هذا.. فقد أرسل مولى له إلى مجلس محمد بن عبد الله، وقال له: " اجلس عند المنبر، فاسمع ما يقول محمد " قال: فسمعته يقول: إنكم لا تشكون أني أنا المهدي، وأنا هو " فأخبرت بذلك أبا جعفر، فقال: " كذب عدو الله، بل هو ابني (1) ". ثم. ومن أجل اقناع الناس بهذا الامر، وجد المنصور من يضع له الاحاديث، ويكذب على النبي صلى الله عليه وآله، وطبق واضعوها " مهدي الامة " على ولده الخليفة " المهدي " (2). ويقول القاضي النعمان الاسماعيلي في أرجوزته: (1) مقاتل الطالبيين ص 240، والمهدية في الاسلام ص 117. (2) تجد بعض هذه الاحاديث في: الصواعق المحرقة 98، 99، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 259، 260، 272، والبداية والنهاية ج 6 ص 246، 247، وغير ذلك. (*)
[ 83 ]
من انتظاره وقد تسمى * بهذه الاسماء ناس لما تغلبوا ليجعلوها حجة * فعدلوا عن واضح المحجة إذ مثلوا الجوهر بالاشباه * منهم محمد بن عبد الله ابن علي من بني العباس * ذوي التعدي الزمرة الارجاس (1). وقد أقر أحمد أمين المصري بكذب هذه الاحاديث، ووضعها (2)، كما أقر غيره بذلك. بل إن المنصور نفسه - الذي كان قد اعترف بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي، وتبجح، وافتخر بها (3) - قد كذب نفسه في ذلك، وكذبها في مهدوية ولده أيضا. يقول مسلم بن قتيبة: " أرسل إلي أبو جعفر، فدخلت عليه، فقال: قد خرج محمد بن عبد الله، وتسمى بالمهدي، ووالله، ما هو به، وأخرى أقولها لك. لم أقلها لاحد قبلك، ولا أقولها لاحد بعدك.. وابني والله، ما هو بالمهدي، الذي جاءت به الرواية، ولكنني تيمنت به، وتفاءلت به (4). " والخليفة المهدي نفسه يقر بأن أباه فقط يروي أنه المهدي الذي بعده في الناس (5). وأما اتخاذهم الزندقة ذريعة للقضاء على خصومهم، سواء من العلويين، أو من غيرهم.. فسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى. (1) الارجوزة المختارة ص 31، (2) ضحى الاسلام ج 3 ص 240. (3) مقاتل الطالبيين ص 239، 240، والمهدية في الاسلام ص 116، وجعفر بن محمد لعبد العزيز سيد الاهل ص 116، (4) مقاتل الطالبيين ص 247، والمهدية في الاسلام ص 117. (5) الوزراء والكتاب ص 127. (*)
[ 84 ]
وكل ذلك لم يكفهم: ولكن العباسيين قد وجدوا أن ذلك كله لم يكن ينطلي على أحد، وأن الامور - مع ذلك - تسير في غير صالحهم، ولهذا فان من الافضل والاجدى لهم أن لا يفسحوا المجال للعلويين للمنطق والحجاج، فان ذلك من شأنه أن يظهر كل ما كان يتمتع به العلويون من خصائص ومميزات عليهم. هذا إن لم ينته الامر بفضيحة ساحقة للعباسيين، وكشف حقيقتهم وواقعهم أمام الملا، الامر الذي كان يزعجهم، ويقض مضاجعهم إلى حد كبير.. وإذن.. فإن من الحكمة أن يتبعوا أساليب أخرى من أجل القضاء على العلويين.. ولم تكفهم مراقبتهم لهم، حتى لم يكونوا يغفلون عنهم طرفة عين أبدا، من أجل التعرف على أحوالهم، وإحصاء كل حركاتهم، ابتداء من السفاح، ثم اتبعه الخلفاء على ذلك من بعده. كما لم يكفهم.. التهديد والوعيد الذي كانوا يواجهونهم به، بهدف إضعاف شخصياتهم، وتحطيم معنوياتهم.. كما لم يكفهم مصادرة أموالهم، وهدم بيوتهم، ومنعهم من السعي من أجل الحصول على لقمة العيش، حتى لقد بلغ البؤس بهم أن: العلويات كن يتداولن الثوب الواحد من أجل الصلاة (1). وكذلك لم يكفهم. عزلهم عن الناس، ومنع كل أحد من الوصول إليهم، تمهيدا لتشويه سمعتهم بما أمكنهم من أساليب الكذب والافتراء، (1) كان ذلك في زمن المتوكل، راجع: بند تاريخ ج 1 ص 72، ومقاتل الطالبيين ص 599. (*)
[ 85 ]
وإن كانت سيرتهم الحميدة، وخصوصا أهل البيت منهم، كانت تدفع كل شائعة، وسلوكهم المثالي يدحض كل افتراء. وأما الاضطهاد والتشريد، وزج العشرات والمئات منهم في السجون الرهيبة، التي كان من يدخل إليها لا يأمل بالخروج منها، حيث إن دخول السجن إنما كان يعني في الحقيقة دخول القبر.. وأما دسهم السم لكل شخصية لا يستطيعون الاعتداء عليها جهارا - أما ذلك - فلم يكن ليكفيهم أيضا، ولا ليقنعهم قطعا. حيث انهم إنما كانوا متعطشين إلى الولوغ في دمائهم، ومشتاقين إلى التفنن في تعذيبهم، واختراع أساليب جديدة في ذلك، فسمروا بالحيطان من سمروا، وأماتوا جوعا من أماتوا، ووضعوا في الاسطوانات منهم من وضعوا. إلى غير ذلك مما يظهر لكل من له أدنى اطلاع على تاريخهم، وتاريخ سلوكهم مع أبناء عمهم العلويين. وأما قتلهم لهم جماعات، فأشهر من أن يحتاج إلى بيان. وقضية المنصور مع بني حسن لا يكاد يخلو منها كتاب تاريخي. وكذلك قضية الستين علويا، الذين قتلوا بأمر من الخليفة " المنصور " باستثناء غلام منهم، لا نبات بعارضيه (1). (1) هذا ما نقله في شرح شافية أبي فراس ص 174 عن الدر النظيم، عن أحمد بن حنبل، الذي رأى رجلا متعلقا بأستار الكعبة، يضرع إلى الله بالمغفرة، وأقر له بأنه بنى على هؤلاء ما عدا الغلام المذكور بأمر من المنصور.. وفي عيون أخبار الرضا ج 1 ص 108، فما بعدها، وشرح ميمية أبي فراس ص 176، 177، والبحار ج 48 ص 176 فما بعدها. قصة شبيهة بهذه ينقلها عن حميد بن قحطبة الذي كان يفطر في شهر رمضان، ليأسه من مغفرة الله، لانه قتل ستين علويا في ليلة واحدة بأمر من الرشيد.. ولكن الظاهر أن ذكر الرشيد اشتباه من الراوي، ولعله عمدي، لان حميدا قد مات سنة 158، على ما صرح به في البحار ج 48 ص 322، وخلافة هارون الرشيد إنما بدأت سنة 170، ولعل القصة الحقيقية هي ما عن أحمد بن حنبل، وانما حرفها المحرفون لحاجة في نفس يعقوب، لا تخفى على المتتبع الخبير، والناقد البصير. (*)
[ 86 ]
موقف كل خليفة منهم على حدة: وإننا من أجل أن نلم بموقف كل خليفة منهم على حدة من أبناء عمهم العلويين، نقول: أما السفاح: فقد قال عنه أحمد أمين: ".. وكانت حياته حياة سفك للدماء، وقضاء على المعارضين (1). " وقال عنه الجنرال جلوب: ". وكان السفاح والمنصور قد نشئا نشأة المتآمرين، ولذا وطدا ملكهما - بعد نجاح الثورة - بكثير من سفك الدما، ولا سيما من دماء أولاد أعمامهم، من بني أمية، وبني علي بن أبي طالب (2). ". ويقول الخوارزمي عن السفاح: ". وسلط عليهم (يعني على العلويين) أبا مجرم، لا أبا مسلم، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل، وجبل (3). ". ومن ذلك يعلم أن اظهاره اللين تجاهم أمام الناس ما كان إلا من أجل تثبيت دعائم حكمه، وتحكيم قواعد سلطانه، لكنه لم يغفل لحظة واحدة عن مراقبتهم، والتجسس على أحوالهم، بل وقتلهم، إذا ما سنحت الفرصة له لذلك، كما قدمنا. (1) ضحى الاسلام ج 1 ص 105. (2) امبراطورية العرب ص 499. (3) رسائل الخوارزمي ص 130، وضحى الاسلام ج 3 ص 296، 297، وسيأتي شطر من هذه الرسالة. راجع ما علقناه على هذه الفقرة في فصل: قيام الدولة العباسية. (*)
[ 87 ]
وأما المنصور: الذي لم يتورع عن قتل ابن أخيه السفاح (1)، وعمه عبد الله بن علي. وأبي مسلم. مؤسس دولته. والذي سافر سنة 148 ه‍. إلى الحج، وعزم على القبض على الامام الصادق (ع)، إن كان لم يتم له ذلك (2). والذي سمى نفسه المنصور بعد انتصاره على العلويين (3). أما المنصور هذا. فهو أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين (4). وقد اعترف عندما عزم على قتل الامام الصادق عليه السلام، بعدد ضخم من ضحاياه من العلويين، حيث قال: ". قتلت من ذرية فاطمة ألفا، أو يزيدون، وتركت سيدهم، ومولاهم، وإمامهم، جعفر بن محمد. " (5). ولقد كان هذا القول منه في حياة الامام الصادق عليه السلام، أي في صدر خلافة المنصور. فكيف بمن قتلهم بعد ذلك ! ! وقد ترك خزانة رؤوس ميراثا لولده المهدي، كلها من العلويين، وقد علق بكل رأس ورقة كتب فيها ما يستدل به على صاحبه، ومن بينها رؤوس شيوخ، وشبان، وأطفال (6). (1) تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني جزء 4 ص 494، نقلا عن: نفح الطيب ج 2 ص 715. (2) النجوم الزاهرة ج 2 ص 6 (3) التنبيه والاشراف ص 295، وطبيعة الدعوة العباسية ص 119. (4) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 261، ومروج الذهب ج 4 ص 222. وشرح ميمية أبي فراس ص 117، ومشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص 22، 23. (5) شرح ميمية أبي فراس ص 159، والادب في ظل التشيع ص 68. (6) تاريخ الطبري ج 10 ص 446، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص 52، وغير ذلك. (*)
[ 88 ]
وهو الذي يقول لعمه عبد الصمد بن علي، عندما لامه على أنه يعاجل بالعقوبة، حتى كأنه لم يسمع بالعفو - يقول له -: " إن بني مروان لم تبل رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم - ونحن بين قوم رأونا بالامس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا الا بنسيان العفو، واستعمال العقوبة (1). ". وهو الذى يقول للامام الصادق عليه السلام: " لاقتلنك، ولاقتلن أهلك، حتى لا أبقي على الارض منكم قامة سوط (2). ". وعندما قال المنصور للمسيب بن زهرة: إنه رأى أن الحجاج أنصح لبني مروان. أجابه المسيب: " يا أمير المؤمنين، ما سبقنا الحجاج إلى أمر، فتخلفنا عنه، والله، ما خلق الله على جديد الارض خلقا أعز علينا من نبينا صلى الله عليه وآله، وقد أمرتنا بقتل أولاده، فأطعناك، وفعلنا، فهل نصحناك ؟ ! " (3). وهو أول من سن هدم قبر الحسين عليه السلام في كربلاء (4). وهو الذي كان يضع العلويين في الاسطوانات، ويسمرهم في الحيطان - كما نص عليه اليعقوبي، وغيره - ويتركهم يموتون في المطبق جوعا، وتقتلهم الروائح الكريهة، حيث لم يكن لهم مكان يخرجون إليه لازالة الضرورة، وكان يموت أحدهم، فيترك معهم، حتى يبلى من غير دفن، ثم يهدم المطبق على من تبقى منهم حيا، وهم في أغلالهم - كما فعل ببني حسن، كما هو معروف ومشهور. (1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 267، وامبراطورية العرب ص 491، والامام الصادق والمذاهب الاربعة، المجلد الاول جزء 2 ص 534. (2) مناقب ابن شهر آشوب ج 3 ص 357، والبحار ج 47 ص 178. (3) مروج الذهب ج 3 ص 224. (4) تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار آل طعمه ص 193. (*)
[ 89 ]
ولقد قال أحد العلويين، وهو أبو القاسم الرسي بن ابراهيم بن طباطبا، اسماعيل الديباج. عندما هرب من المنصور إلى السند: لم يروه ما أراق البغي من دمنا * في كل أرض فلم يقصر من الطلب وليس يشفي غليلا في حشاه سوى * أن لا يرى فوقها ابن لبنت نبي (1) وعلى كل: فإن معاملة المنصور لاولاد علي، تعتبر من أسوأ صفحات التاريخ العباسي (2). وستأتي عبارة الخضري عنه عن قريب.. وأما المهدي: الذي حبس وزيره يعقوب بن داوود، وبني على المطبق الذي هو فيه قبة، وبقي فيه حتى عمي، وطال شعر بدنه، حتى صار كالانعام - وحبسه - لاتهامه إياه بأنه يمالئ الطالبيين، كما قدمنا. المهدي الذي عرفنا فيما تقدم موقفه من أبي عون، وولده، الذي كان يذهب مذهب الشيعة في الخلافة.. وكذلك موقفه من وصية القاسم ابن مجاشع. أما المهدي هذا فقد اتخذ الزندقة ذريعة للقضاء على كل مناوئيه، وخصوصا العلويين، والمتشيعين لهم: وقال الدكتور أحمد شلبي: " إن الرمي بالزندقة اتخذ وسيلة للايقاع بالابرياء في كثير من الاحايين. " (3). (1) النزاع والتخاصم للمقريزي ص 51. (2) مختصر تاريخ العرب، للسيد أمير علي ص 184. (3) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 200. (*)
[ 90 ]
وقال الدكتور أحمد أمين المصري: " الحق أن بعض الناس اتخذوا الزندقة ذريعة للانتقام من خصومهم، سواء في ذلك: " الشعراء، والعلماء، والامراء، والخلفاء " (1). وقد ألف له - أي للمهدي - ابن المفضل كتابا في الفرق، اخترع فيه فرقا من عند نفسه، ونسبها لاولئك الذين يريد المهدي أن يتتبعهم، ويقضي عليهم. مع أنهم لم يكونوا أصحاب فرق أصلا. كزرارة، وعمار الساباطي، وابن أبي يعفور، وأمثالهم، فاخترع فرقة سماها " الزرارية " نسبة لزرارة. وفرقة سماها " العمارية " نسبة لعمار، وفرقة سماها " اليعفورية " وأخرى سماها " الجواليقية "، وأصحاب سليمان الاقطع. وهكذا. إلا أنه لم يذكر " الهشامية " نسبة لهشام بن الحكم (2). (1) ضحى الاسلام ج 1 ص 157. هذا. وقد اتهم شريك بن عبد الله القاضي بالزندقة، لانه لم يكن يرى الصلاة خلف الخليفة المهدي، فراجع: البداية والنهاية ج 10 ص 153، وحياة الامام موسى بن جعفر ج 2 ص 137، والامام الصادق والمذاهب الاربعة المجلد الثاني جزء 3 ص 232. وأيضا. فقد أراد هارون أن يقتل عمه، الذي قال: كيف لقي آدم موسى ؟ عندما ذكرت رواية مفادها ذلك. وذلك بتهمة الزندقة، راجع: تاريخ بغداد ج 14 ص 7، 8 والبداية والنهاية ج 10 ص 215، وحياة الامام موسى بن جعفر ج 2 ص 138، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 285، والبصائر والذخائر ص 81.. وهذا يعني أن لفظ الزنديق قد اطلق على كل من يناقش في أحاديث الصحابة، وعلى كل من يعارض نظام الحكم، والحكام واهوائهم، واطلق أيضا على كل ماجن خليع كما يبدو لمن راجع رواية شريك القاضي في مظانها وغيرها.. ولا بأس بمراجعة عبارة هامة لاحمد أمين تتعلق بهذا الموضوع في كتاب الامام الصادق والمذاهب الاربعة، المجلد الثاني جزء 3 ص 232. (2) رجال المامقاني ج 3 ص 296، وقاموس الرجال ج 9 ص 324، والبحار ج 48 ص 195، 196، ورجال الكشي ص 27، طبع كربلاء،. وأشار إلى ذلك المسعودي أيضا، فراجع: ضحى الاسلام ج 1 ص 141، واليعقوبي في كتابه مشاكلة الناس لزمانهم ص 24. (*)
[ 91 ]
وقال عبد الرحمان بدوي: " إن الاتهام بالزندقة في ذلك العصر، كان يسير جنبا إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة، كما لاحظ ذلك الاستاذ (فيدا). " (1). يقول أبو حنيفة أو الطغرائي في جملة أبيات له: ومتى تولى آل أحمد مسلم * قتلوه أو وصموه بالالحاد (2). إلى غير ذلك مما لا يمكننا تتبعه واستقصاؤه في مثل هذه العجالة.. وأما الهادي: " فقد أخاف الطالبيين خوفا شديدا، وألح في طلبهم، وقطع أرزاقهم واعطياتهم، وكتب إلى الآفاق بطلبهم (3). ". ولم تكن واقعة فخ المشهورة إلى بسبب الاضطهاد الذي لحق العلويين، والمعاملة القاسية لهم. حسبما نص عليه المؤرخون.. والتي بلغ عدد الرؤوس فيها مئة ونيفا، وسبيت فيها النساء والاطفال، وقتل السبي حتى الاطفال منهم على ما قيل. وأما الرشيد: " الذي حصد شجرة النبوة. واقتلع غرس الامامة "، على حد تعبير الخوارزمي. (1) من تاريخ الالحاد في الاسلام ص 37. (2) نسب إلى الاول ملحقات احقاق الحق ج 9 ص 688 نقلا عن مفتاح النجا في مناقب آل العبا للعلامة البدخشي ص 12 مخطوط وعن قلندر الهندي الحنفي في روض الازهر ص 359 طبع حيدر آباد وهو منسوب للطغرائي أيضا وهو مثبت في احدى قصائده في ديوانه فلعله أخذه على سبيل الاستشهاد على عادة الشعراء في ذلك.. (3) تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 136، 137. (*)
[ 92 ]
والذي " لم يكن يخاف الله، وأفعاله بأعيان آل علي (ع)، وهم أولاد بنت نبيه، لغير جرم، تدل على عدم خوفه من الله تعالى (1). ". والذي كان على حد تعبير أحمد شلي: " يكره الشيعة ويقتلهم (2). ". والذي بلغ من كرهه لهم: أن الشعراء كانوا يتقربون إليه بهجاء آل علي عليه السلام، كما يظهر بأدنى مراجعة للتاريخ. أما الرشيد هذا. فقد أقسم على استئصالهم، وكل من يتشيع لهم. فقال: ". حتام أصبر على آل بني أبي طالب، والله لاقتلنهم، ولاقتلن شيعتهم، ولافعلن وأفعلن (3). ". وعندما تولى الخلافة أمر بإخراج الطالبيين جميعا من بغداد، إلى المدينة (4) كرها لهم ومقتا. " وكان شديد الوطأة على العلويين يتتبع خطواتهم، ويقتلهم (5). ". ". وأمر عامله على المدينة بأن يضمن العلويون بعضهم بعضا (6) ". وكان: " يقتل أولاد فاطمة وشعيتهم (7) ". (1) الفخري في الآداب السلطانية ص 20. (2) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 352. (3) الاغاني، طبع دار الكتب بالقاهرة ج 5 ص 225. (4) الكامل لابن الاثير ج 5 ص 85، والطبري ج 10 ص 606، وغير ذلك. (5) العقد الفريد ج 1 ص 142. (6) الولاة والقضاة للكندي ص 198، وليراجع: تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص 196. (7) العقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج 2 ص 180. (*)
[ 93 ]
وكان " مغرى بالمسألة عن آل أبي طالب، وعمن له ذكر ونباهة منهم (1) ". وعندما أرسل الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد، أمره أن يغير على دور آل أبي طالب في المدينة، ويسلب ما على نسائهم من ثياب، وحلي. ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا (2). وعندما حضرته الوفاة كان يقول: ".. واسوأتاه من رسول الله (3) ". وهدم قبر الحسين، وحرث أرض كربلاء، وقطع السدرة التي كان يستظل بها الزائرون لتلك البقعة المباركة، وذلك على يد عامله على الكوفة، موسى بن عيسى بن موسى العباسي (4). ثم توج موبقاته كلها، وفظائعه تلك، بقتل سيد العلويين، وقائدهم، الامام موسى بن جعفر، صلوات الله وسلامه عليه. (1) مقاتل الطالبيين ص 493، وبعد ذلك قال: " فسأل يوما الفضل بن يحيى - بعد أن عاد من خراسان -: هل سمعت ذكرا لاحد منهم ؟ قال: لا والله، ولقد جهدت فما ذكر لي أحد منهم، إلا أني سمعت رجلا إلخ ".. (2) أعيان الشيعة، طبعة ثالثة، ج 4 قسم 2 ص 108، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 161، والبحار ج 49 ص 166. (3) الكامل لابن الاثير ج 5 ص 130، ويلاحظ هنا: أن الانسان غالبا ما ينكشف على حقيقته حين موته. وقول الرشيد هذا يكشف لنا الرشيد على حقيقته، ويبين لنا مدى ما فعله الرشيد مع ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله. (4) تاريخ الشيعة ص 89، وأمالي الشيخ. طبع النجف ص 330، والكنى والالقاب ج 1 ص 27 وشرح ميمية أبي فراس ص 209، والمناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 19، وتاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص 197، 198، نقلا عن: نزهة أهل الحرمين ص 16، والبحار ج 10 ص 297، وتظلم الزهراء ص 218، ومجالي اللطف ص 39، وأعيان الشيعة ج 4 ص 304، وتسلية المجالس، لمحمد بن أبي طالب، وغير ذلك... (*)
[ 94 ]
ولقد خاطبه العقاد مشيرا إلى نبشه لقبر الحسين عليه السلام، فقال: ". وكأنهم خافوا على قبرك أن ينبشه أشياع علي، رضي الله عنه، فدفنوك في قبر الامام العلوي، لتأمن فيه النبش والمهانة بعد الممات. فمن عجب أن يلوذ أبناء علي بملكك الطويل العريض، فيضيق بهم، وأن يبحث أتباعك عن ملاذ يحتمي به جثمان صاحب الملك الطويل العريض بعد مماته، فيجدوه في قبر واحد من أولئك الحائرين اللائذين بأكناف البلدان، من غير قرار، ولا اطمينان (1). ". يشير بذلك إلى قبر علي بن موسى الرضا عليهما السلام، حيث إن الرشيد مدفون إلى جانبه، يقول محمد بن حبيب الضبي، رحمه الله مشيرا إلى ذلك: قبران في طوس الهدى في واحد * والغي في لحد ثراه ضرام قرب الغوي من الزكي مضاعف * لعذابه، ولانفه الارغام ويقول دعبل رحمه الله: قبران في طوس خير الناس كلهم * وقبر شرهم هذا من العبر ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما * على الزكي بقرب الرجس من ضرر ولقد بلغ من ظلم الرشيد للعلويين أن جعل الناس يعتقدون فيه بغض علي عليه السلام، حتى اضطر إلى أن يقف موقف الدفاع عن نفسه، ويقسم على أنه يحبه، قال اسحاق الهاشمي: " كنا عند الرشيد، فقال: بلغني أن العامة يظنون في بغض علي بن أبي طالب. ووالله، ما أحب (1) راجع: تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص 199، نقلا عن: مجلة " الهلال "، عدد اكتوبر سنة 1947 م. ص 25، من مقال بعنوان: " حديث مع هارون الرشيد " للاستاذ العقاد. (*)
[ 95 ]
أحدا حبي له، ولكن هؤلاء (يعني العلويين) أشد الناس إلخ. " (1). ثم يلقي التبعة في ذلك عليهم، ويقول: إنهم إلى بني أمية أميل منهم إلى بني العباس الخ كلامه. بل لقد رأيناه يعلن أمام أعاظم العلماء عن توبته مما كان منه من أمر الطالبيين ونسلهم (2). وذلك أمر طبيعي بعد أن كان يتتبع خطواتهم ويقتلهم " وبعد أن كانت سجون العباسيين، وخصوصا المنصور والرشيد، قد امتلات من العلويين، وكل من يتشيع لهم " على حد تعبير أحمد أمين (3). وأخيرا. فقد بلغ من ظلم الرشيد للعلويين أن توهم البعض أن المأمون إنما بايع للرضا بولاية العهد، من أجل أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في آل علي عليه السلام، كما عن البيهقي، عن الصولي (4). وأما المأمون: فستأتي الاشارة إلى بعض ما فعله في آل علي في تضاعيف الفصول الآتية إن شاء الله تعالى. والشعراء أيضا قد قالوا الحقيقة: وهكذا. يتضح لنا كيف أن العباسيين قد انقلبوا - بدافع من (1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 293. (2) شرح ميمية أبي فراس ص 127. (3) راجع: ضحى الاسلام ج 3 ص 296، 297. (4) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 147، والبحار ج 49 ص 132، وغير ذلك. (*)
[ 96 ]
خوفهم - على العلويين يوسعونهم قتلا، وعسفا وتشريدا، وأذاقوهم مختلف أنواع العذاب، التي لم تكن لتخطر على قلب بشر، بهدف استئصالهم من الوجود، ومحو آثارهم، ليصفو لهم الجو، ولا يبقى من يستطيع أن ينازعهم سلطانهم، الذي يجب أن يكون لهم وحدهم. أو بالاحرى حتى لا يبقى من من شأنه ذلك. حتى لقد نسي الناس فعال بني أمية معهم، عندما رأوا فعال بني العباس بهم. وحتى لقد رأينا أحد شعراء ذلك الوقت يقول: تالله ما فعلت أمية فيهم * معشار ما فعلت بنو العباس (1) وقال آخر - وهو أبو عطاء، أفلح بن يسار الندي، المتوفى سنة 180 ه‍. وهو من مخضرمي الدولتين: الاموية والعباسية: قال في زمن السفاح. يا ليت جور بني مروان دام لنا * وليت عدل بني العباس في النار (2) وقال منصور بن الزبرقان النمري، المتوفى في خلافة الرشيد: آل النبي ومن يحبهم * يتطامنون مخافة القتل أمن النصارى واليهود هم * من أمة التوحيد في أزل (3). وقد أنشد الرشيد هذين البيتين بعد موت منصور هذا، فقال الرشيد، بعد أن أرسل إليه من يقتله، فوجده قد مات: " لقد هممت أن انبش (1) شرح ميمية أبي فراس ص 119. (2) المحاسن والمساوي ص 246، والشعر والشعراء ص 484، ونظرية الامامة ص 382، والمهدية في الاسلام ص 55، وطبيعة الدعوة العباسية ص 272. (3) الازل: الضيق والشدة. (*)
[ 97 ]
عظامه فأحرقها (1) ".. بل في رسالة الخوارزمي، الآتي شطر منها: أن قبره قد نبش بالفعل. ويقول ابو حنيفة أو الطغرائي على اختلاف النسبة في جملة أبيات له: ومتى تولى آل أحمد مسلم * قتلوه أو وصموه بالالحاد ويقول إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، يذكر العلويين، الذين قتلهم المنصور، ويقال: إن القائل هو غالب الهمداني. أصبح آل الرسول أحمد في النا * س كذي عرة به جرب ويقول دعبل بن علي الخزاعي في رثاء الرضا، وهو شعر معروف، ومشهور، وقد أنشده للمأمون نفسه: وليس حي من الاحياء نعلمه * من ذي يمان، ولا بكر، ولا مضر إلا وهم شركاء في دمائهم * كما تشارك أيسار على جزر قتلا، وأسرا، وتحريقا، ومنهبة * فعل الغزاة بأهل الروم والخزر أرى أمية معذورين إن فعلوا * ولا أرى لبني العباس من عذر أما أبو فراس الحمداني فيقول: (1) زهر الآداب هامش ج 2 من المستطرف ص 246 والشعر والشعراء ص 547، والامام الصادق والمذاهب الاربعة، المجلد الاول جزء 1 ص 254، وطبقات الشعراء ص 246، وفيه في ص 244: أن الرشيد بعد سماعه لمدائح النمري في أهل البيت، أمر أبا عصمة الشيعي بأن يخرج من ساعته إلى الرقة، ليسل لسان منصور من قفاه، ويقطع يده. ورجله. ثم يضرب عنقه، ويحمل إليه رأسه، بعد أن يصلب بدنه، فخرج أبو عصمة لذلك، فلما صار بباب الرقة استقبلته جنازة النمري، فرجع إلى الرشيد فأعلمه، فقال له الرشيد " ويلي عليك يابن الفاعلة، فألا إذا صادفته ميتا فأحرقته بالنار " !. (*)
[ 98 ]
ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت * تلك الجرائر إلا دون نيلكم (1) ويقول علي بن العباس. الشاعر المعروف بابن الرومي، مولى المعتصم من قصيدة له: بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم * لبلواكم عما قليل مفرج أكل أوان للنبي محمد * قتيل زكي بالدماء مضرج إلى أن قال: أفي الحق أن يمسوا خماصا وأنتم * يكاد أخوكم بطنة يتبعج وتمشون مختالين في حجراتكم * ثقال الخطى اكفالكم تترجرج وليدهم بادي الطوى ووليدكم * من الريف ريان العظام خدلج ولم تقنعوا حتى استثارت قبورهم * كلابكم فيها بهيم وديزج والقصيدة طويلة جدا، من أرادها فليراجعها. نصوص اخرى: يقول فان فلوتن: ".. ولا غرو، فإن العلويين لم يلقوا من الاضطهاد مثل ما لقوا في عهد الاولين من خلفاء بني العباس.. (2). ويقول الخضري: ". فكان نصيب آل علي في خلافة بني هاشم، أشد وأقسى مما لاقوه في عهد خصومهم من بني أمية، فقتلوا، وشردوا كل مشرد، وخصوصا في زمن المنصور، والرشيد، والمتوكل من بني العباس. وكان اتهام شخص في هذه الدولة بالميل إلى واحد من (1) سوف نورد قصيدة أبي فراس، وهي المعروفة ب‍ " الشافية " وكذلك شطرا من قصيدة دعبل، في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. (2) السيادة العربية والشيعة والاسرائيليات ص 133. (*)
[ 99 ]
بني علي كافيا لاتلاف نفسه، ومصادرة ماله. وقد حصل فعلا لبعض الوزراء، وغيرهم الخ. " (1). ولما دخل ابراهيم بن هرمة، المعاصر للمنصور المدينة، أتاه رجل من العلويين، فسلم عليه، فقال له إبراهيم: " تنح عني، لا تشط بدمي. " (2). بل يظهر من قضية أخرى لابن هرمة أن العباسيين كانوا يعاقبون حتى على حب أهل البيت عليهم السلام في زمن الامويين، فإنه - أعني ابن هرمة - عندما سئل في عهد المنصور عن قوله في عهد الامويين: ومهما ألام على حبهم * فإني أحب بني فاطمة أجاب: " من عض ببظر امه ". فقال له إبنه: ألست قائلها ؟ ! قال: بلى. قال: فلم تشتم نفسك ؟ ! قال: " أليس يعض الرجل ببظر امه خير له من أن يأخذه ابن قحطبة ؟. " (3) بل إن الجلودي الذي أمره الرشيد بالاغارة على دور آل أبي طالب - كما قدمنا - قد قال للمأمون، عندما جعل ولاية العهد للرضا: (1) محاضرات تاريخ الامم الاسلامية ج 1 ص 161. (2) تاريخ بغداد ج 6 ص 129، وحياة الامام موسى بن جعفر ج 2 ص 184. (3) طبقات الشعراء لابن المعتز ص 20، 21، والاغاني ج 4 ص 110، وقاموس الرجال ج 10 ص 269، نقلا عن تنبيه البكري، وملحقات احقاق الحق ج 9 ص 690 نقلا عن الحضرمي في رشفة الصادي ص 56 طبع القاهرة. (*)
[ 100 ]
" اعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تخرج هذا الامر الذي جعله الله لكم، وخصكم به، وتجعله في أيدي أعدائكم، ومن كان آباؤك يقتلونهم، ويشردونهم في البلاد.. " (1). وأمر الرشيد عامله على المدينة: بأن يضمن العلويين بعضهم بعضا. " (2) وكانوا يعرضون على السلطات، فمن غاب منهم عوقب ! والمأمون أيضا يعترف: وجاء في كتاب المأمون، الذي أرسله إلى العباسيين، بعد ما ذكر حسن سياسة الامام علي عليه السلام مع ولد العباس ما يلي: ". حتى قضى الله بالامر الينا، فأخفناهم، وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أميه إياهم، ويحكم، إن بني أمية قتلوا من سل سيفا، وانا معشر بني العباس قتلناهم جملا.. فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت، ولتسألن نفوس القيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت ببغداد، والكوفة أحياء الخ. ". وسنورد الرواية، ونذكر مصادرها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله. جانب من رسالة الخوارزمي لاهل نيشابور: وحسب القارئ أن يرجع إلى مقاتل الطالبيين لابي الفرج الاصفهاني، (1) بحار الانوار ج 49 ص 166، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 267. (2) لقد كان ذلك قبل الرشيد أيضا فراجع تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 215، فانه قال: ".. وما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضا، ويعرضون، فغاب إلخ ". ثم يسوق واقعة فخ المشهورة، وبعض أسبابها.. ولا بأس بمراجعة الكامل لابن الاثير ج 5 ص 75 وغيره... (*)
[ 101 ]
مع أنه لم يستوف كل شئ، وإنما اكتفى بذكر بعض منهم، وكذلك إلى ما ذكره ابن الساعي في مختصر أخبار الخلفاء ص 26، وغيرها. وغير ذلك من كتب التاريخ والرواية، ليعلم مقدار الظلم والعسف الذي حاق بأبناء علي، وشيعتهم في تلك الحقبة من الزمن. وحسبنا هنا بعد كل الذي قدمناه، أن نذكر فقرات من رسالة أبي بكر الخوارزمي، التي أرسلها إلى أهل نيشابور، يقول أبو بكر، بعد أن ذكر كثيرا من الطالبيين، الذين قتلهم الامويون، والعباسيون - ومنهم الرضا الذي تسمم بيد المأمون -: " فلما انتهكوا ذلك الحريم، واقترفوا ذلك الاثم العظيم، غصب الله عليهم، وانتزع الملك منهم، فبعث عليهم " أبا مجرم " لا أبا مسلم، فنظر لا نظر الله إليه إلى صلابة العلوية، وإلى لين العباسية، فترك تقاه، واتبع هواه، وباع اخرته بدنياه، بقتله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وسلط طواغيت خراسان، واكراد إصفهان. وخوارج سجستان على آل أبي طالب، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل وجبل، حتى سلط عليه أحب الناس إليه، فقتله كما قتل الناس في طاعته، وأخذه بما أخذ الناس في بيعته، ولم ينفعه: أن أسخط الله برضاه، وأن ركب ما لا يهواه، وخلت من الدوانيقي (1) الدنيا، فخبط فيها عسفا، وتقضى فيها جورا وحيفا. وقد امتلات سجونه بأهل بيت الرسالة، ومعدن الطيب والطهارة، قد تتبع غائبهم، وتلقط حاضرهم، حتى قتل عبد الله بن محمد بن عبد الله الحسني بالسند، على يد عمر بن هشام الثعلبي، فما ظنك بمن قرب متناوله عليه، ولان مسه على يديه. (1) في مجمع الفوائد: " وخلت إلى الدوانيقي " ولعله هو الصواب. (*)
[ 102 ]
وهذا قليل في جنب ما قتله هارون منهم، وفعله موسى قبله بهم، فقد عرفتم ما توجه على الحسن (1) بن علي بفخ من موسى، وما اتفق على علي بن الافطس الحسيني من هارون، وما جرى على احمد بن علي الزيدي، وعلى القاسم بن علي الحسيني من حبسه، وعلى غسان بن حاضر الخزاعي، حين أخذ من قبله، والجملة أن هارون مات وقد حصد شجرة النبوة، واقتلع غرس الامامة. وأنتم أصلحكم الله، أعظم نصيبا في الدين من الاعمش، فقد شتموه، ومن شريك، فقد عزلوه، ومن هشام بن الحكم، فقد أخافوه، ومن علي بن يقطين، فقد اتهموه. ". إلى أن يقول: بعد كلام له عن بني أمية: ".. وقل في بني العباس، فإنك ستجد بحمد الله مقالا، وجعل في عجائبهم، فانك ترى ما شئت مجالا. يجبى فيؤهم، فيفرق على الديلمي، والتركي، ويحتمل إلى المغربي، والفرغاني. ويموت إمام من أئمة الهدى، وسيد من سادات بيت المصطفى، فلا تتبع جنازته، ولا تجصص مقبرته، ويموت (ضراط) لهم، أو لاعب أو مسخرة، أو ضارب، فتحضر جنازته العدول والقضاة، ويعمر مسجد التعزية عنه القواد والولاة.. ويسلم فيهم من يعرفونه دهريا، أو سوفسطائيا، ولا يتعرضون لمن يدرس كتابا فلسفيا ومانويا، ويقتلون من عرفوه شيعيا، ويسفكون دم من سمى ابنه عليا. ولو لم يقتل من شيعة أهل البيت غير المعلى بن خنيس، قتيل داوود (1) الظاهر أن الصحيح هو: " الحسين " كما في مجمع الفوائد. (*)
[ 103 ]
ابن علي، ولو لم يحبس فيهم غير أبي تراب المروزي، لكان ذلك جرحا لا يبرأ، وثائرة لا تطفأ، وصدعا لا يلتئم، وجرحا لا يلتحم. وكفاهم أن شعراء قريش قالوا في الجاهلية أشعارا يهجون بها أمير المؤمنين عليه السلام، ويعارضون فيها أشعار المسلمين، فحملت أشعارهم. ودونت أخبارهم، ورواها الرواة، مثل: الواقدي، ووهب بن منبه التميمي، ومثل الكلبي، والشرقي ابن القطامي، والهيثم بن عدي، ودأب بن الكناني، وأن بعض شعراء الشيعة يتكلم في ذكر مناقب الوصي، بل ذكر معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيقطع لسانه، ويمزق ديوانه، كما فعل بعبد الله بن عمار البرقي، وكما أريد بالكميت بن زيد الاسدي، وكما نبش قبر منصور بن الزبرقان النمري، وكما دمر على دعبل بن علي الخزاعي. مع رفقتهم من مروان بن أبي حفصة اليمامي، ومن علي بن الجهم الشامي. ليس إلا لغلوهما في النصب، واستيجابهما مقت الرب، حتى إن هارون بن الخيزران، وجعفرا المتوكل على الشيطان، لا على الرحمان، كانا لا يعطيان مالا. ولا يبذلان نوالا، إلا لمن شتم آل أبي طالب، ونصر مذهب النواصب، مثل: عبد الله ابن مصعب الزبيري، ووهب بن وهب البختري، ومن الشعراء مثل: مروان بن أبي حفصة الاموي، ومن الادباء مثل: عبد الملك بن قريب الاصمعي. فأما في أيام جعفر فمثل: بكار بن عبد الله الزبيري، وأبي السمط ابن أبي الجون الاموي، وابن أبي الشوارب العبشمي. " وبعد كلام له عن بني أمية أيضا قال: " وما هذا بأعجب من صياح شعراء بني العباس على رؤوسهم بالحق، وإن كرهوه، وبتفضيل من نقصوه وقتلوه، قال المنصور بن الزبرقان على بساط هارون:
[ 104 ]
آل النبي ومن يحبهم * يتطامنون مخافة القتل أمن النصارى واليهود وهم * من أمة التوحيد في أزل وقال دعبل، وهو صنيعة بني العباس وشاعرهم: ألم تر أني مذ ثمانين حجة * أروح، وأغدو دائم الحسرات أرى فيئهم في غيرهم متقسما * وأيديهم من فيئهم صفرات وقال علي بن العباس الرومي، وهو مولى المعتصم: تأليت أن لا يبرح المرء منكم * يشل على حر الجبين فيعفج كذاك بني العباس تصبر منكم * ويصبر للسيف الكمي المدجج (1) لكل أوان للنبي محمد * قتيل زكي بالدماء مضرج (2) وقال ابراهيم بن العباس الصولي - وهو كاتب القوم وعاملهم - في الرضا لما قربه المأمون: يمن عليكم بأموالكم * وتعطون من مئة واحدا وكيف لا يتنقصون قوما يقتلون بني عمهم جوعا وسغبا ويملاون ديار الترك والديلم فضة وذهبا، يستنصرون المغربي والفرغاني، ويجفون المهاجري والانصاري، ويولون أنباط السواد وزارتهم، وتلف العجم والطماطم قيادتهم، ويمنعون آل أبي طالب ميراث أمهم، وفئ جدهم. يشتهي العلوي الاكلة، فيحرمها، ويقترح على الايام الشهوة فلا يطعمها، وخراج مصر والاهواز، وصدقات الحرمين والحجاز، تصرف إلى ابن أبي مريم المديني، وإلى إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، وإلى زلزل الضارب، وبرصوما الزامر، وأقطاع بختيشوع النصراني قوت أهل (1) في مقاتل الطالبيين: " لذاك بني العباس يصبر مثلكم ويصبر للموت ". (2) في مقاتل الطالبيين: " أكل أوان ". (*)
[ 105 ]
بلد، وجاري بغا التركي، والافشين الاشروسني كفاية أمة ذات عدد. والمتوكل زعموا يتسرى باثني عشر الف سرية، والسيد من سادات أهل البيت يتعفف بزنجية، أو سندية. وصفوة مال الخراج مقصورة على أرزاق الصفاعنة، وعلى موائد المخاتنة، وعلى طعمة الكلابين، ورسوم القرادين، وعلى مخارق وعلوية المغني، زرزر، وعمر بن بانة المهلبي، ويبخلون على الفاطمي بأكلة أو شربة، ويصارفونه على دانق وحبة، ويشترون العوادة بالبدر، ويجرون لها ما يفي برزق عسكر. والقوم الذين أحل لهم الخمس، وحرمت عليهم الصدقة، وفرضت لهم الكرامة والمحبة، يتكففون ضرا، ويهلكون فقرا، ويرهن أحدهم سيفه، ويبيع ثوبه، وينظر إلى فيئة بعين مريضة، ويتشدد على دهره بنفس ضعيفة، ليس له ذنب إلا أن جده النبي، وأبوه الوصي، وأمه فاطمة، وجدته خديجة، ومذهبه الايمان، وإمامه القرآن. وحقوقه مصروفة إلى القهرمانة والمضرطة وإلى المغمزة، إلى المزررة، وخمسه مقسوم على نقار الديكة الدمية، والقردة، وعلى رؤوس اللعبة واللعبة، وعلى مرية الرحلة. وماذا أقول في قوم حملوا الوحوش على النساء المسلمات، وأجروا لعبادة وذويه الجرايات، وحرثوا تربة الحسين عليه السلام بالفدان، ونفوا زواره إلى البلدان، وما أصف من قوم هم: نطف السكارى في أرحام القيان ؟ وماذا يقال في أهل بيت منهم نبع البغا، وفيهم راح التخنيث وغدا، وبهم عرف اللواط ؟ !. كان ابراهيم بن المهدي مغنيا، وكان المتوكل مؤنثا موضعا، وكان المعتز مخنثا، وكان ابن زبيدة معتوها مفركا، وقتل المأمون أخاه، وقتل المنتصر أباه، وسم موسى بن المهدي أمه، وسم المعتضد عمه. ولقد كان في بني أمية مخازي تذكر، ومعائب تؤثر. ".
[ 106 ]
وبعد أن عدد بعض مخازي بني أمية، ومعائبهم قال: ".. وهذه المثالب مع عظمها وكثرتها، ومع قبحها وشنعتها، صغيرة وقليلة في جنب مثالب بني العباس، الذين بنوا مدينة الجبارين، وفرقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين.. إلى آخر ما قال.. " (1). هذا جانب من رسالة الخوارزمي، وقد كنت أود أن أثبتها بتمامها، لكنني رأيت أن المجال لا يتسع لذلك. وعلى كل فإن: ذلك كله غيض من فيض. ولعل فيما ذكرناه كفاية.. (1) راجع: رسائل الخوارزمي طبع السقطنطينية سنة 1297 من ص 130، إلى ص 140، ونقل شطرا كبيرا منها: سعد محمد حسن في كتابه: المهدية في الاسلام ابتداء من ص 58 وذكر شطرا منها ايضا الدكتور احمد امين في كتابه ضحى الاسلام ج 3 ص 297 فما بعدها، فراجع. وهي موجودة بتمامها في مجموعة خطية من تأليف سيدي الوالد أيده الله، سماها: " مجمع الفوائد، ومجمل العوائد " ابتداء من ص 45.. (*)
[ 107 ]
سياسة العباسيين مع الرعية نظرة عامة: لا نريد في هذا الفصل أن نعرض لانواع القبائح، التي كان العباسييون يمارسونها، فإن ذلك مما لا يمكن الالمام به واستقصاؤه في هذه العجالة. وإنما نريد فقط أن نعطي لمحة سريعة عن سيرتهم السيئة في الناس، ومدى اضطهادهم وظلمهم لهم، وجورهم عليهم، الامر الذي أسهم إسهاما كبيرا في كشف حقيقتهم، وبيان واقعهم أمام الملا.. حتى لقد قال الشعراء في وصف الحالة العامة في زمن خلفائهم الشئ الكثير، فمن ذلك قول سليم العدوي في الثورة على الوضع القائم: حتى متى لا نرى عدلا نسر به * ولا نرى لولاة الحق أعوانا مستمسكين بحق قائمين به * إذا تلون أهل الجور ألوانا يا للرجال لداء لا دواء له * وقائد ذي عمي يقتاد عميانا (1) وقال سديف: (1) المستطرف ج 1 ص 97، وطبيعة الدعوة العباسية ص 272، وضحى الاسلام ج 2 ص 37. (*)
[ 108 ]
إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا * بعد التباعد والشحناء والاحن وتنقضي دولة أحكام قادتها * فينا كأحكام قوم عابدي وثن فكتب المنصور إلى عبد الصمد بن علي بأن: يدفنه حيا، ففعل (1). وقد ذكر أبو الفرج ابياتا كثيرة بالاضافة إلى هذين البيتين، ونسبها يحيى بن عبد الله بن الحسن، بحضرة الرشيد، إلى عبد الله بن مصعب الزبيري، ومن جملتها قوله: فطالما قد بروا في الجور اعظمنا * بري الصناع قداح النبع بالسفن (2) وقال آخر، وهو أحمد بن أبي نعيم، الذي نفاه المأمون بسبب هذا البيت إلى السند: ما أحسب الجور ينقضي وعلى الن‍ * اس أمير من آل عباس (3) وقد تقدم قول أبي عطاء السندي، المتوفى سنة 180 ه‍: يا ليت جوربني مروان دام لنا * وليت عدل بني العباس في النار وقال الدكتور أحمد محمود صبحي: ". لكن ذلك المثل الاعلى للعدالة، والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين، قد أصبح وهما من الاوهام، فشراسة المنصور والرشيد، وجشعهم، وجور أولاد علي بن (1) راجع: العمدة لابن رشيق ج 1 ص 75، 76، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج 5 ص 87، وهامش طبقات الشعراء ص 41، (2) مقاتل الطالبيين ص 476، 477. (3) راجع: وفيات الاعيان: ترجمة يحيى بن أكثم، ومروج الذهب ج 3 ص 435، وضحى الاسلام ج 2 ص 38، ونهاية الارب ج 8 ص 175، وطبيعة الدعوة العباسية ص 273، وطبقات الشعراء ص 378، لكنه نسبه لابن أبي خالد، لكن في العقد الفريد ج 6 ص 418، قد نسب يحيى بن أكثم هذا البيت إلى دعبل. وفيه: أنه هو الذي نفي إلى السند. (*)
[ 109 ]
عيسى، وعبثهم بأموال المسلمين، يذكرنا بالحجاج، وهشام، ويوسف ابن عمرو الثقفي، وعم الاستياء أفراد الشعب، بعد أن استفتح أبو عبد الله، المعروف ب‍ " السفاح " وكذلك المنصور بالاسراف في سفك الدماء، على نحو لم يعرف من قبل (1). ". ويقول صاحب امبراطورية العرب: ".. إنه بالرغم من أن جيش خراسان هو الذي أوصل العباسيين إلى الملك، فان الفتن في خراسان ظلت قائمة في عهد العباسيين، كما كانت في عهد الامويين. وكان الشعار الذي رفعه الخراسانيون الآن: " أنهم هم الذين أوصلوا " آل البيت " إلى الحكم، لاقامة عهد من الرحمة والعدل، لا لاقامة عهد آخر من الطغيان، المتعطش إلى سفك الدماء.. إلى أن يقول: لكن الشئ الذي لا ريب فيه: هو أن الاحلام باقامة عهد السلام والعدل، التي كانت السبب في الثورة العامة ضد الامويين قد تبخرت الآن، ولو لم يكن العباسيون أسوأ حالا من الامويين، فانهم لم يكونوا - على أي حال - خيرا منهم (2). ". وقريب منه كلام غيره (3) وستأتي في فصل: آمال المأمون إلخ. عبارة فان فلوتن الهامة، والقيمة عن الحكم العباسي، وسياساته مع الرعية. فانتظر. ولعل قصيدة أبي العتاهية، التي مطلعها: من مبلغ عني الاما * م نصائحا متوالية (1) نظرية الامامة ص 381، لكن كنية السفاح هي: " أبو العباس " لا أبو عبد الله و عبد الله هو: اسمه، واسم المنصور أيضا، الذي كان أكبر من السفاح. (2) امبراطورية العرب ص 452. (3) راجع: حياة الامام موسى بن جعفر 2 ص 162 عن كتاب: " النكبات " للريحاني، وضحى الاسلام ج 1 ص 127 حتى 131. (*)
[ 110 ]
تعبر تعبيرا صادقا عن الحالة العامة، التي كانت سائدة آنذاك، وهي معروفة ومشهورة ومذكورة في ديوانه ص 304. وهي بحق من الوثائق الهامة. المعبرة عن واقع الحياة في تلك الفترة من الزمن. مع موقف الخلفاء بالتفصيل: وبعد هذا. وإذا ما أردنا أن نقف عند بعض جنايات وجرائم كل واحد منهم فإننا نقول: أما السفاح: الذي أظهر نفسه في صورة مهدي (1). فهو الذي يقول عنه المؤرخون: إنه: " كان سريعا إلى سفك الدماء، فاتبعه عماله في ذلك، في المشرق والمغرب، واستنوا بسيرته، مثل: محمد بن الاشعث بالمغرب، وصالح بن علي بمصر، وخازم بن خزيمة، وحميد بن قحطبة، وغيرهم. " (2). حتى لقد خرج عليه شريك بن شيخ المهري، الذي كان - على ما يظهر - من دعاة العباسيين - خرج عليه - ببخارا، في أكثر من ثلاثين ألفا، فقال: " ما على هذا بايعنا آل محمد، تسفك الدماء، (1) البداية والنهاية ج 1 ص 69 والتنبيه والاشراف ص 292. (2) مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 222، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 259. ومشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص 22، وليراجع امبراطورية العرب ص 435. (*)
[ 111 ]
ويعمل بغير الحق (1). " فوجه إليه السفاح أبا مسلم، فقتله، ومن معه.. وقضية عامل السفاح - وهو أخوه، وقيل: ابن اخيه، يحيى - مع أهل الموصل، حيث ذبح الآلاف الكثيرة منهم في المسجد. هذه القضية معروفة ومشهورة. وينص المؤرخون، على أنه: لم يبق من أهل الموصل على كثرتهم إلا أربع مئة إنسان، صدموا الجند، فأفرجوا لهم. كما أنه أمر جنده، فبقوا ثلاثة أيام يقتلون النساء، لانه سمع أنهن يبكين رجالهن. وينص المؤرخون أيضا: على أن نفوس أهل الموصل قد ذلت بعد تلك المذبحة، ولم يسمع لهم بعدها صوت، ولا قامت لهم قائمة (2). وعندما سألت السفاح زوجته أم سلمة، بنت يعقوب بن سلمة: " لاي شئ استعرض ابن أخيك أهل الموصل بالسيف ؟ !. قال لها: وحياتك ما أدري (3). " ! !. وقد تقدمت عبارة الدكتور أحمد محمود صبحي عن السفاح والمنصور معا عن قريب. (1) الكامل لابن الاثير ج 4 ص 342، والامامة والسياسة ج 2 ص 139، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 354 طبع صادر، والبداية والنهاية ج 10 ص 56، وتاريخ التمدن الاسلامي ج 2 ص 402، وغيرهم.. وفي كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص 230 قال: إنه " لذلك نقل ولاءه للعلويين، وثار ببخارا، وانضم إليه أنصار العلويين في خراسان، وكذلك ولاة العباسيين على بخارا، وبرزم، وكانت حركته شعبية. وجابه أبو مسلم صعوبات كبيرة في القضاء عليها.. " انتهى. (2) راجع تفاصيل هذه القضية في: النزاع والتخاصم للمقريزي ص 48، 49، والكامل لابن الاثير ج 5 ص 212، حوادث سنة 132، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 177، وغاية المرام للموصلي ص 115، وتاريخ اليعقوبي، طبع صادر ج 2 ص 357، وشرح ميمية أبي فراس ص 216. (3) النزاع والتخاصم للمقريزي ص 49، وغير ذلك. (*)
[ 112 ]
وأما المنصور: الذي أظهر نفسه في صورة مهدي كما يظهر من قول أبي دلامة مخاطبا أبا مسلم الذي قتله المنصور: أبا مجرم ما غير الله نعمة * على عبده حتى يغيرها العبد أفي دولة المهدي حاولت غدرة * ألا إن أهل الغدر آباءك الكرد (1) والذي قتل خلقا كثيرا حتى استقام له الامر (2). فأمره في الظلم والجور وانتهاك الحرمات أشهر من أن يذكر، حتى لقد أنكر عليه ذلك: ".. رجل من أعظم الدعاة قدرا، وأعظمهم غناء، وهو أبو الجهم بن عطية، مولى باهلة. وهو الذي أخرج أبا العباس السفاح من موضعه الذي أخفاه فيه أبو سلمة، حفص بن سليمان الخلال، وحرسه، وقام بأمره حتى بويع بالخلافة، فكان أبو العباس يعرف له ذلك. وكان أبو مسلم يثق به، ويكاتبه. فلما استخلف أبو جعفر المنصور، وجار في أحكامه، قال أبو الجهم: ما على هذا بايعناهم، إنما بايعناهم على العدل، فأسرها أبو جعفر في نفسه، ودعاه ذات يوم. فتغدى عنده، ثم سقاه شربة من سويق اللوز، فلما وقعت في جوفه هاج به وجع، فتوهم: أنه قد سم، فوثب، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا الجهم ؟ ! فقال: إلى حيث أرسلتني، ومات بعد يوم أو يومين فقال: (1) عيون الاخبار لابن قتيبة ج 1 ص 26 والكنى والالقاب ج 1 ص 158. ويحتمل أن يقصد بالمهدي هنا: السفاح. (2) فوات الوفيات ج 1 ص 232، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 259، وتاريخ الخميس ج 2 ص 324. (*)
[ 113 ]
إحذر سويق اللوز لا تشربنه * فان سويق اللوز أردى أبا الجهم (1). وأنكر عليه ذلك أيضا - بالاضافة إلى عمه كما تقدم - جماعة من قواده، فقاموا عليه، ودعوا الناس إلى موالاة أهل البيت، فحاربهم عبد الرحمان الازدي سنة 140 ه‍. فقتل طائفة منهم، وحبس آخرين (2). وقال الطبري في حوادث سنة 140 ه‍. أيضا: ". وفيها ولي أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن خراسان، فقدمها، فأخذ بها ناسا من القواد، وذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب، منهم: مجاشع بن حريث الانصاري، وأبو المغيرة، مولى لبني تميم، واسمه خالد ابن كثير، وهو صاحب قوهستان، والحريش بن محمد الذهلي، ابن عم داوود، فقتلهم وحبس الجنيد بن خالد بن هريم التغلبي، ومعبد بن الخليل المزني، بعد ما ضربهما ضربا مبرحا، وحبس عدة من وجوه قواد أهل خراسان (3). ". ولعل من الامور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المنصور كان يعاشر الراوندية القائلين بالوهيته، ولا ينهاهم ولا يردعهم عن مقالتهم تلك، وعندما سأله أحد المسلمين عن ذلك قال له - على ما في تاريخ الطبري -: " لان يكونوا في معصية الله وطاعتنا، أحب إلي من أن يكونوا في طاعة الله ومعصيتنا. ". ولكنه عندما ثاروا عليه في الهاشمية، وضع فيهم السيف وقتلهم، ولكن لا لاجل مقالتهم الشنيعة تلك، وإنما لاجل عدم طاعتهم له !. (1) النزاع والتخاصم للمقريزي ص 52، وليراجع: الوزراء والكتاب ص 136 - 137 وفيه: أن أبا الجهم كان وزيرا للسفاح. (2) البداية والنهاية ج 10 ص 75. (3) الطبري، طبع ليدن ج 10 ص 128. (*)
[ 114 ]
هذا.. وعندما قال لعبد الرحمان الافريقي، رفيق صباه: " كيف رأيت سلطاني من سلطان بني أمية ؟ ". أجابه عبد الرحمان: " ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور إلا رأيته في سلطانك.. " (1). وعندما قدم عليه عبد الرحمان هذا من إفريقيا، ودخل عليه، بعد أن بقي ببابه شهرا، لا يستطيع الوصول إليه، قال له عبد الرحمان: " ظهر الجور ببلادنا، فجئت لاعلمك، فإذا الجوز يخرج من دارك. ورأيت أعمالا سيئة، وظلما فاشيا، ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت كلما دنوت منك كان الامر أعظم ". فغضب المنصور. وأمر باخراجه (2). وقال لابن أبي ذؤيب: " أي الرجال أنا ؟ ". فأجابه: " أنت والله عندي شر الرجال، استأثرت بمال الله، ورسوله، وسهم ذوي القربى، واليتامى. والمساكين، وأهلكت الضعيف، وأتعبت القوي، وأمسكت أموالهم. (3). وحج أبو جعفر فدعا ابن أبي ذئب، فقال: نشدتك الله، ألست أعمل بالحق ؟ أليس تراني أعدل ؟ فقال ابن أبي ذئب: أما إذ نشدتني بالله فأقول: اللهم لا، ما أراك تعدل، وإنك لجائر، وإنك لتستعمل الظلمة، وتترك أهل الخير (4). (1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 268، وغيره. (2) تاريخ بغداد ج 10 ص 215، والامام الصادق، والمذاهب الاربعة المجلد الاول جزء 2 ص 479. (3) الامامة والسياسة ج 2 ص 145. (4) صفة الصفوة ج 2 ص 175. (*)
[ 115 ]
وعندما كان يطوف بالبيت سمع أعرابيا يقول: " اللهم إني أشكو اليك ظهور الفساد، وما يحول بين الحق وأهله، من الطمع. "، فطلبه المنصور، فأتي به، فاستمع المنصور منه إلى شرح واف عن الظلم، والجور، والفساد، الذي كان فاشيا آنذاك، وهي قصة طويلة لا مجال لذكرها، وعلى مريدها المراجعة إلى مظانها (1). ولا بأس بمراجعة ما قاله له عمرو بن عبيد، في موعظته الطويلة له، ومن جملتها: ". إن وراء بابك نيرانا تتأجج من الجور، والله، ما يحكم وراء بابك بكتاب الله، ولا بسنة نبيه إلخ.. " (2). وقد لقي أعرابيا بالشام، فقال له المنصور: " إحمد الله يا أعرابي، الذي دفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت ". فأجابه الاعرابي: " إن الله أعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون ". فسكت، ولم يزل يطلب له العلل حتى قتله (3). (1) المحاسن والمساوي من ص 339، إلى ص 341 والعقد الفريد للملك السعيد ص 116، 117، 118، وحياة الحيوان للدميري ج 2 ص 190، 191، طبع سنة 1319، وعيون الاخبار، لابن قتيبة ج 2 من ص 333، إلى ص 336، والعقد الفريد ج 2 ص 104، 105، طبع سنة 1346، وضحى الاسلام ج 2 ص 40، والامام الصادق والمذاهب الاربعة ج 2 ص 480، نقلا عن: تاريخ ابن الساعي ص 19، والفتوحات الاسلامية لدحلان ج 2 ص 445، حتى 448 مطبعة مصطفى محمد. والموفقيات ص 392، 393 (2) مرآة الجنان لليافعي ج 1 ص 336، 337، والمحاسن والمساوي، طبع صادر ص 338، 339، وعيون الاخبار، لابن قتيبة باختصار ج 2 ص 337، ونور القبس ص 44. (3) روض الاخيار المنتخب من ربيع الابرار ص 86 وأساس الاقتباس، والبداية والنهاية ج 10 ص 123، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 265، وفي كتاب طبيعة الدعوة العباسية ص 273، نقلا عن تاريخ دمشق لابن عساكر III ص 391: أن الذي قال للمنصور ذلك هو منصور بن جعونة الكلابي: وأن قوله له هو: " إن الله أعدل من أن يسلط علينا الطاعون والعباسيين معا. ". (*)
[ 116 ]
وقد كتب له سديف، الذي كان من المتحمسين للدولة العباسية: أسرفت في قتل الرعية ظالما * فاكفف يديك اظلها " مهديها " (1) ويريد ب‍ " مهديها " محمد بن عبد الله بن الحسن على ما يظهر. وقضية الرجل الهمداني، الذي أراد عامل المنصور أن يسلبه ضيعته، فأبي عليه ذلك، فكبله بالحديد، وسيره إلى المنصور، فأودعه السجن أربعة أعوام، لا يسأل عنه أحد، هذه القضية معروفة، ومشهورة (2). وعندما بنى مدينة: " المصصية " قد أخذ أموال الناس، حتى ما ترك عند أحد فضلا (3) وعندما أراد أن يبني مدينة أخرى ثار الناس عليه ووقع القتال، لانهم علموا أنه سوف لا يبقي عندهم فضلا أيضا. وأما ما فعله عبد الوهاب ابن أخي المنصور في أهل فلسطين، فذلك يفوق كل وصف ويتجاوز كل بيان (4). بعض ما يقال عن المنصور: وأخيرا.. فقد قال عنه البيهقي إنه: " كان يعلق الناس من أرجلهم، حتى يؤدوا ما عليهم. " (5). (1) العقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج 5 / 88. ويقال: إن هذا هو سبب قتل سديف. (2) شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص 281، 282، ومروج الذهب ج 3 ص 288. (3) تاريخ اليعقوبي ج 3 / 121. (4) الوزراء والكتاب ص 137، (5) المحاسن والمساوي ص 339. (*)
[ 117 ]
هذا.. وقد وصف اليافعي والذهبي المنصور بأنه كان: " فيه جبروت وظلم " (1). ووصفه السيد أمير علي بأنه: " كان غادرا خداعا، لا يتردد البتة في سفك الدماء.. إلى أن قال: وعلى الجملة: كان أبو جعفر سادرا في بطشه، مستهترا في فتكه. وتعتبر معاملته لاولاد علي من أسوأ صفحات التاريخ العباسي " (2). ولا بأس بمراجعة ما قاله الريان، مولى المنصور لجعفر بن أبي جعفر، حيث ينص على أنه قتل أهل الدنيا، ممن لا يعد ولا يحصى، وان فرعون لا يقاس به (3). وأما المهدي: الذي اتخذ الزندقة ذريعة للفتك بالابرياء.. فقد كفانا الجهشياري مؤونة الحديث عنه، حيث قال: إنه في زمن المهدي هذا: " كان أهل الخراج يعذبون بصنوف من العذاب، من السباع، والزنابير والسنانير. " (4). وقد خرج عليه يوسف البرم بخراسان، منكرا عليه أحواله، وسيرته، وما يتعاطاه (5). (1) العبر للذهبي ج 1 / 230، ومرآة الجنان لليافعي ج 1 / 334. (2) مختصر تاريخ العرب والتمدن الاسلامي ص 184، وليراجع تاريخ التمدن الاسلامي ج 4 / 399. والتاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 / 61. (3) الوزراء والكتاب ص 130. (4) الوزراء والكتاب ص 142. (5) البداية والنهاية ج 10 / 131. (*)
[ 118 ]
وأما الهادي: فقد كان: " يتناول المسكر، ويحب اللهو والطرب، وكان ذا ظلم وجبروت " (1). وكان " سئ الاخلاق، قاسي القلب، جبارا، يتناول المسكر، ويلعب. " (2). وقد قال عنه الجاحظ: " كان الهادي شكس الاخلاق، صعب المرام، سئ الظن. قل من توقاه، وعرف أخلاقه إلا أغناه، وما كان شئ أبغض إليه من ابتدائه بسؤال. وكان يأمر للمغني بالمال الخطير الجزيل. " (3). وقال الجهشياري: " كان فظا قاسيا، غير مأمون على وفاء بوعد " (4). نعم. لقد كان يأمر للمغني بالمال الجزيل الخطير - من بيت مال المسلمين - كما يقول الجاحظ.. وقد بلغ من إسرافه في إجازة الخلعاء والمغنين، أن دفع إسحاق الموصلي لان يقول: " لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة " (5) وأخيرا.. فقد قال عنه الذهبي: " قد كان جبارا ظالم النفس " (6) إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه. (1) تاريخ الخميس ج 2 / 331. (2) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 279، وغيره. (3) التاج للجاحظ ص 81. (4) الوزراء والكتاب ص 174. (5) الاغاني، طبع دار الكتب بالقاهرة ج 5 / 163. (6) العبر للذهبي ج 1 / 258. ولا بأس بمراجعة: مشاكلة الناس لزمانهم ص 24. (*)
[ 119 ]
وأما الرشيد: فسيرته تكفي عن كل بيان.. ويكفيه أنه - كما ينص المؤرخون - يشبه المنصور في كل شئ إلا في بذل المال (1)، حيث يقولون إن المنصور كان بخيلا. وقد تسلط - كالمنصور - بعد مدة من خلافته على الامور، فأفسد الصنايع، وأحب جمع الاموال (2). " وكان جبارا سفاكا للدماء، على نمط من ملوك الشرق المستبدين " (3). وقد عسف عامله أهل خراسان، وقتل ملوكها، ووجوه أهلها وأشرافها وصناديدها، وأخذ أموالهم. فأرسلها إلى الرشيد، الامر الذي كان سببا في انتقاضها عليه (4). وكان يعذب الناس في الخراج، حيث: " أخذ العمال، والتناء، والدهاقين، وأصحاب الصنايع، والمتباعين للغلات، والمقبلين. وكان عليهم أموال مجتمعة، فولى مطالبتهم عبد الله بن الهيثم بن سام. فطالبهم بصنوف من العذاب. إلى أن دخل عليه ابن عياض، فرأى الناس يعذبون في الخراج، فقال: ارفعوا عنهم، إني سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من عذب الناس في الدنيا عذبه الله يوم القيامة، فأمر بأن يرفع العذاب عن الناس، فرفع.. " (5). (1) ولكن لا في سبيل الله، وإنما على ملذاته وشهواته، وعلى المغنين والمضرطين كما في رسالة الخوارزمي المتقدمة، وكما ينص عليه أي كتاب تاريخي يتحدث عن سيرته وأفعاله. (2) التنبيه والاشراف ص 299. (3) هذا قول الامير شكيب أرسلان، في تعليقته على: حاضر العالم الاسلامي، نقلها عنه: محمد بن عقيل هامش ص 20 من كتابه: العتب الجميل.. وهو من منشورات هيئة البحوث الاسلامية في اندونيسيا. (4) الوزراء والكتاب ص 228. (5) تاريخ اليعقوبي ج 3 / 146. (*)
[ 120 ]
وكان قد ولى رجلا يضرب الناس، ويحبسهم، ليؤدوا ما عليهم من الخراج (1). وقال أبو يوسف، في عرض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج: " بلغني أنه: قد يكون في حاشية العامل، أو الوالي جماعة، منهم من له حرمة، ومنهم من له إليه وسيلة، ليسوا بأبرار ولا صالحين، يستعين بهم. ويوجههم في أعماله، يقتضي بذلك الذمامات. فليس يحفظون ما يوكلون بحفظه، ولا ينصفون من يعاملونه، إنما مذهبهم أخذ شئ، من الخراج كان، أو من أموال الرعية. ثم انهم يأخذون ذلك كله - فيما بلغني - بالعسف، والظلم، والتعدي (2).. وقال: وبغلني أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس، ويضربونهم الضرب الشديد، ويعلقون عليهم الجرار، ويقيدونهم بما يمنعهم من الصلاة، وهذا عظيم عند الله، شنيع في الاسلام. " (3). وبعد. فقد كان في قصره أربعة آلاف امرأة: من الجواري والحظايا (4) وكان على حد تعبير بعضهم: " حريصا على اللذات المحرمة، وسفك (1) البداية والنهاية ج 10 / 184. (2) الخراج لابي يوسف ص 116 ط سنة 1392 ه‍. (3) المصدر نفسه ص 118. (4) البداية والنهاية ج 10 / 220، نقلا عن الطبري. وفي نفس الجزء من البداية والنهاية ص 222 قال: " قال بعضهم: إنه كان في داره أربعة آلاف جارية سراري حسان ". وجاء في ضحى الاسلام ج 1 / 9. أنه: " كان للرشيد زهاء ألفي جارية: من المغنيات، والخدمة في الشراب في أحسن زي، من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر. "، وإذن فكيف بالسراري الذين هم أربعة آلاف، وبقية الجواري، اللواتي يحتاج إليهن في كثير من الشؤون. فالرقم الحقيقي أكثر من أربعة آلاف بكثير، بل لعله يزيد عما كان عند المتوكل، الذي كان يتسرى باثني عشر ألف سرية، كما نص عليه الخوارزمي فيما تقدم، وجبور عبدالنور في كتاب الجواري 36 من سلسلة اقرأ. (*)
[ 121 ]
الدماء، وغصب حقوق الناس، وكان ظالما لاهل البيت (ع) وكانت جوائزه خاصة لاهل اللهو، واللعب، والمغنين، والراقصات. ". وستأتي عبارة فان فلوتن عنه في فصل: آمال المأمون الخ.. فانتظر. وحسب الرشيد. رسالة سفيان، التي أرسلها إليه من غير طي، ولا ختم، والتي تلقي لنا ضوءا على جانب من سيرته وسلوكه. ولسوف نثبتها - نظرا لاهميتها - مع الوثائق الهامة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وأما الامين. ".. الذي رفض النساء، واشتغل بالخصيان، ووجه إلى البلدان في طلب الملهين، واستخف حتى بوزرائه، وأهل بيته. " (1). فقد كان: " قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكا للدماء، يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الامور على غيره الخ.. " (2). ويضيف هنا القلقشندي قوله: منهمكا في اللذات واللهو.. " (3). ويكفيه أن كلا من العبري، وابن الاثير الجزري يقول عنه: إنه: " لم يجد للامين شيئا من سيرته يستحسنه، فيذكره.. " (4). ولقد كانت أيامه على الناس، أيام حروب، وويلات، وسلب (1) مآثر الانافة ج 1 / 205، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 201، ومختصر تاريخ الدول ص 134، والكامل لابن الاثير، طبع دار الكتاب العربي ج 5 / 170، والطبري، وغير ذلك. (2) التنبيه والاشراف ص 302. (3) مآثر الانافة في معالم الخلافة للقلقشندي ج 1 / 204. (4) مختصر أخبار الدول ص 134، والفخري في الآداب السلطانية ص 212. (*)
[ 122 ]
ونهب، وما إلى ذلك، مما لا تقره شريعة، ولا يرضى به خلق كريم. وأما المأمون: فإنه لم يكن في كل ما ذكرناه أفضل من أسلافه، ولا كانت أيامه بدعا من تلك الايام. كما سنوضح ذلك في أواخر فصل: آمال المأمون، وظروفه في الحكم، حيث سيتضح أن حال الرعية في أيامه كان قد تناهى في السوء، وبلغ الغاية في التدهور. وصية ابراهيم الامام: وبعد كل الذي قدمناه، لم يعد يخفي على أحد، كم سفك العباسيون من الدماء البريئة - عدا عما سفكوه من دماء بني عمهم العلويين - ونزيد هنا: أن إبراهيم الامام أرسل إلى أبي مسلم يأمره: " بقتل كل من شك فيه، أو وقع في نفسه شئ منه، وإن استطاع أن لا يدع بخراسان من يتكلم بالعربية إلا قتله فليفعل، وأي غلام بلغ خمسة أشبار يتهمه فليقتله، وأن لا يخلي من مضر ديارا " (1). ولعل سر أمره له بقتل كل عربي يرجع إلى أنه كان يعلم أن ذلك يرضي الخراسانيين، الذين كانوا مضطهدين على أيدي العرب. كما أنه كان يعلم أن العرب ين يستجيبوا له استجابة واسعة ضد الامويين، لان الدولة الاموية كانت ترضي غرور العربي، وتؤكد اعتزازه بجنسه ومحتده. (1) الطبري، طبع ليدن ج 9 / ص 1974، وج 10 / 25، والكامل لابن الاثير، ج 4 / 295، والبداية والنهاية ج 10 / 28، وص 64، والامامة والسياسة ج 2 ص 114، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص 45، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب ج 4 / 479، وشرح النهج للمعتزلي ج 3 / 267، وضحى الاسلام ج 1 ص 32. (*)
[ 123 ]
يضاف إلى ذلك ما كان يعانيه العرب من الانقسامات الداخلية، التي كانت تمزق صفوفهم وتوهن قوتهم. وأما المضرية فقد كانوا جماعة نصر بن سيار الموالي للامويين، واليمانية كانوا جماعة ابن الكرماني المناهض لنصر (1). أبو مسلم ينفذ الوصية: وقد حرص أبو مسلم على تنفيذ وصية ابراهيم الامام كل الحرص. حتى لقد قتل - كما يقول الذهبي واليافعي -: " خلقا لا يحصون محاربة وصبرا، وكان حجاج زمانه (2). ". ويقول المؤرخون: إن من قتلهم أبو مسلم صبرا قد بلغ " ست مئة الف نفس " من المسلمين، من المعروفين، سوى من لم يعرف، ومن قتل في الحروب، وتحت سنابك الخيل (3). وقد اعترف المنصور نفسه بذلك، عندما عاتب أبا مسلم، ثم قتله، فكان من جملة ما عاتبه به قوله: " فأخبرني عن ست مئة الف من المسلمين، قتلتهم صبرا ؟ ! ". ولم ينكر أبو مسلم ذلك، وإنما أجابه بقوله: (1) راجع: تاريخ الجنس العربي ج 8 / 417. (2) العبر للذهبي ج 1 / 186، ومرآة الجنان ج 1 / 285. (3) البداية والنهاية ج 10 / 72، ووفيات الاعيان ج 1 / 281، طبع سنة 1310 ه‍. ومختصر تاريخ الدول ص 121، والكامل لابن الاثير ج 4 ص 354، وشرح شافية أبي فراس ص 211، وغاية المرام في محاسن بغداد دار السلام للعمري الموصلي ص 116 وتاريخ ابن الوردي ج 1 / 261، ومآثر الانافة في معالم الخلافة ج 1 / 178، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص 46. (*)
[ 124 ]
" لتستقيم دولتكم " (1) ! !. واعترف جعفر البرمكي بذلك أيضا (2). وأبو مسلم نفسه نراه قد اعترف بمئة الف منها ايضا في مناسبة أخرى (3). وأما من قتلهم في حروبه مع بني أمية وقوادهم، فقد أحصوا فوجدوا: ألف الف وستمائة ألف (4). وكل ذلك غير بعيد. إذا ما عرفنا أن ثورة أبي السرايا قد كلفت جيش المأمون فقط (200) الف جندي، كما سيأتي. وكذلك إذا ما لاحظنا ما يذكره المؤرخون عن عدد القتلى في الوقائع المختلفة، التي خاضها أبو مسلم. وبعد هذا. فاننا نرى أبا مسلم نفسه يقول في رسالة منه للمنصور: " فوترت أهل الدنيا في طاعتكم، وتوطئة سلطانكم. " (5) وفي رسالة أخرى منه له أيضا يقول: ".. إن أخاك أمرني أن أجرد السيف، وآخذ بالظنة، وأقتل على التهمة، ولا أقبل المعذرة، فهتكت بأمره حرمات حتم الله صونها، وسفكت دماء فرض الله حقنها، وزويت الامر عن أهله، ووضعته في غير محله. " (6). يقصد ب‍ " أهله ": أهل البيت (ع)، وقد أوضح ذلك في رسالته (1) طبيعة الدعوة العباسية ص 245، نقلا عن العيني في: دولة بني العباس والطولونيين والاخشيديين ص 30، فما بعدها. (2) تاريخ التمدن الاسلامي ج 2 / 435، نقلا عن: زينة المجالس (فارسي). (3) تاريخ اليعقوبي ج 3 / 102، وتاريخ ابن خلدون ج 3 / 103. (4) شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص 214، وليراجع صبح الاعشى ج 1 / 445 أيضا. (5) البداية والنهاية ج 10 / 69. (6) تاريخ بغداد ج 1 / 208، والبداية والنهاية ج 10 / 14، ولا بأس بمراجعة ص 69. والنزاع والتخاصم ص 53، والامام الصادق والمذاهب الاربعة جلد 1 ج 2 / 533. (*)
[ 125 ]
الاخرى للمنصور التي يقول فيها: أن أخاه قد استخف بالقرآن وحرفه، وأنه أوطأه في غيرهم من أهل بيتهم العشوة، بالافك والعدوان، وأنه ظهر له بصورة مهدي. أي أن أخا المنصور قد حرف الايات الواردة في أهل البيت (ع) لتنطبق على العباسيين، وأنه بذلك تمكن من إغراء أبي مسلم بالعلويين، ففعل بهم ما فعل بالافك والعدوان.. ويصرح بذلك في رسالة أخرى للمنصور، فيقول: " وأوطات غيركم من كان فوقكم من آل رسول الله بالذل والهوان، والاثم والعدوان. " ويشير بذلك إلى العلويين (1). وعلى كل فإننا سوف لا نستغرب إذا رأينا أنه قد بلغ من ظلم أبي مسلم أنه عندما حج: " هربت الاعراب عن المناهل، التي يمر بها ذهابا وإيابا، فلم يبق منهم أحد، لما كانوا يسمعونه من سفكه للدماء " (2). وقال المقريزي: " وقتل (يعني أبو مسلم) زياد بن صالح، من أجل أنه بلغه عنه أنه يقول: إنما بايعنا على اقامة العدل، وإحياء السنن، وهذا جائر ظالم، يسير بسيرة الجبابرة، وإنه مخالف وكان لزياد بلاء في إقامة الدولة، فلم يرع له، فغضب عيسى ابن ماهان، مولى خزاعة لقتل زياد، ودعا لحرب أبي مسلم سرا، فاحتال عليه بأن دس إلى بعض ثقاته إلخ. " ثم ذكر كيفية احتيال أبي مسلم وقتله إياه (3). (1) طبيعة الدعوة العباسية ص 33، نقلا عن كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي.. ولا بأس بمراجعة الرسائل المختلفة المعبرة عن ذلك فيما تقدم من المراجع، وفي النزاع والتخاصم ص 52، 53، والامام الصادق والمذاهب الاربعة جلد 1 ج 2 / 533، 534، والبداية والنهاية ج 10 / 69، والامامة والسياسة ج 2 / 132، 133، وغير ذلك، (2) النزاع والتخاصم ص 46، (3) نفس المصدر والصفحة. (*)
[ 126 ]
وقد قال أبو مسلم ليونس بن عاصم عندما قال له: هذا جزائي ؟ ! " ومن جازيناه بجزائه، وضعت سيفي فلم يبق بر ولا فاجر إلا قتلته " (1). وقال أبو مسلم أيضا: " إن أطفيت من بني أمية جمرة، وألهبت من بني العباس نيرانا، فإن أفرح بالاطفاء، فواحزنا من الالهاب " (2). وقال أبو مسلم أيضا: " إني نسجت ثوبا من الظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس، فكم من خارج الخ. " (3) ولا مجال ثمة للشك: كل ذلك يدل دلالة قاطعة على مدى الظلم الذي كان يمارسه العباسيون مع الناس بصورة عامة، ومع العلويين، بشكل خاص.. والمتتبع للاحداث التاريخية يرى أن الامة كانت تعيش في رعب دائم ومستمر، خصوصا وأن كل أحد كان يرى ويعلم: كيف أن الآلاف من الناس، كانوا يذبحون لاتفه الاسباب وأحقرها. وأعود فأذكر القارئ ببعض ما أوردناه من رسالة الخوارزمي، التي تعتبر بحق الوثاق الهامة. كما اعترف به غير واحد من الباحثين. وبعد فلابد لنا من كلمة اخرى: كانت تلك - كما قلنا - لمحة خاطفة عن حالة العباسيين من الناس عامة، ومع العلويين خاصة.. ولعل من الظلم للحقيقة وللتاريخ هنا، (1) النزاع والتخاصم ص 47. (2) المحاسن والمساوي للبيهقي ص 298، طبع صادر وشرح ميمية أبي فراس ص 214. (3) المحاسن والمساوي طبع مصر ج 1 / 482، والكنى والالقاب ج 1 / 157 / 158 نقلا عن ربيع الابرار للزمخشري. (*)
[ 127 ]
أن نمضي ولا نعطي للقارئ لمحة عن حياتهم الخاصة، وسلوكهم الخلقي. ولذا نرى لزاما علينا: أن نلم المامة سريعة ببعض ما يحدثنا به التاريخ في هذا الموضوع، فنقول العباسيون في حياتهم الخاصة: أما حياتهم الخاصة، وما كان يمر بها من رذائل وقبائح، يندى لها جبين الانسان الحر الما وخجلا، ويقطر قلبه لها دما وألما، فتلك حدث عنها ولا حرج. وقد تقدم في رسالة الخوارزمي بعض ما يشير إلى ذلك. وحيث أن الاستقصاء في هذا الموضوع مما تنوء به العصبة أولوا القوة، فاننا لن نحاول التصدي لذلك، سيما وأن هذا الكتاب غير معد لبحث هذا الموضوع فعلا. ولعل الكلمة التي تجمع صفات بني العباس الخلقية هي الكلمة التي كتبها المأمون، وهو في مرو في رسالة منه للعباسيين، بني أبيه في بغداد، والتي قلنا إننا سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب مع الوثائق الهامة، إن شاء الله تعالى. والمأمون: هو من أهل ذلك البيت، الذين هم أدرى من كل أحد بما فيه، لانهم عاشوا في خضم الاحداث، وشاهدوا كل شئ، وكل القضايا عن كثب. يقول المأمون في تلك الرسالة: ".. وليس منكم إلا لاعب بنفسه، مأفون في عقله، وتدبيره، إما مغن، أو ضارب دف، أو زامر. والله، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالامس نشروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا، وصناعة وأخلاقا، ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع، وإذا مسه الخير منع، ولا
[ 128 ]
تأنفون، ولا ترجعون إلا خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوبا، ويصبح باثمه معجبا، كأنه قد اكتسب حمدا، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب. أحب الناس إليه من زين له معصية أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة الخ. ". فهذه القطعة تبين لنا بجلاء - كما يتبين من كثير أمثالها - كيف كان خلفاء العباسيين منغمرين في الملذات والشهوات.. وتبين لنا نظرتهم للحياة وأهدافهم منها. ولولا أن المقام يطول لاوردنا سيلا من الشواهد والدلائل على مدى استهتارهم، وانتهاكهم، للحرمات، وارتكابهم للموبقات، ليعلم أن أقوال المأمون هذه، وكذلك أقوال الخوارزمي، وغيرهما مما تقدم غير مبالغ فيها، وأن الحقيقة هي أعظم من ذلك بكثير وأن ذلك ليس إلا غيضا من فيض. وكتب التاريخ والادب خير شاهد على ذلك، وإن حاولت بعض الايدي الاثيمة تشويه الحقيقة، والتستر على واقعهم ذاك المزري والمهين. وفي نهاية المطاف: وإذا كانت تلك هي سيرة العباسيين في حياتهم الخاصة، وتلك هي سياساتهم مع الناس ومع خصومهم، فماذا يمكن أن تكون حالة وزرائهم وقوادهم، وسائر رجال دولتهم ؟ ! التاريخ وحده هو الذي يتولى الاجابة على هذا السؤال. أما نحن.. فنكتفي بهذا القدر، وننتقل إلى الحديث عن بعض نتائج سياسات العباسيين تلك.. وخصوصا ما كان منها يتعلق بالعلويين.
[ 129 ]
فشل سياسة العباسيين ضد العلويين سؤال لابد منه: والآن. وبعد أن عرفنا موقف العلويين من العباسيين، وقدمنا لمحة من معاملتهم للرعية، التي لم تكن أحسن حالا، ولا أهدأ بالا من العلويين، سيما وأنهم من أول يوم من حكمهم سلطوا على الناس فئة لا تفقه للرحمة معنى، ولا تجد الشفقة إلى قلوبها أي سبيل، همها الدنيا، وغايتها الاستئثار بكل شئ، وتتمتع بحماية مطلقة من قبل الخلفاء، حتى عندما كانت تعبث بأموال الناس، وحتى في دمائهم وأعراضهم. وكيف لا ! ! والخلفاء أنفسهم ما كانوا أحسن حالا من تلك الفئة، ولا أقل انحرافا، وبعدا عن تعاليم السماء، والخلق الانساني منها. بعد أن عرفنا ذلك. وغيره مما تقدم، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هي نتائج وآثار سياسات العباسيين تلك ؟. وهل استطاعوا أن يجعلوا الناس راضين عن تلك السياسات ؟ وعما كانوا يرونه منهم من تميعهم، واستهتارهم بكل القيم، والفضائل الاخلاقية ؟. وهل استطاعوا أن يكتسبوا عطف الامة، بعد أن فعلوا بها، وبأهل بيت نبيها ما فعلوا ؟ !.
[ 130 ]
أما الجواب: الواقع.. أن نتيجة ذلك كانت وبالا على العباسيين: " ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله. ". فقد كان الناس مستائين جدا من سيرتهم السيئة وسيرة ولاتهم مع الرعية، وكان من الطبيعي جدا أيضا: أن يثير الناس ويسؤهم ما كانوا يرونه من تميعهم الشديد في حياتهم الخاصة، وإيثارهم اللذات المحرمة على كل شئ، حتى قد يبلغ الامر بالخليفة منهم أن يحتجب عن الناس منهمكا بلذاته وشهواته. وقد كان الرشيد يحمد الله على أن أراحه البرامكة من أعباء الحكم (1)، وتركوه ينصرف إلى ما يندى له جبين الانسان الحر ألما وخجلا، وكذلك كانت حال والده المهدي من قبل، وعلى ذلك جرى ولده الامين من بعد. وغيرهم وغيرهم ممن لا نرى ضرورة لتعداد أسمائهم. وحسبنا تلك الشواهد الكثيرة في التاريخ، الذي قد لا تمر بصفحة منه، فيها حديث عن الخلفاء، إلا وتجد فيها ما لا يسر، وما لا يغبط عليه أحد. وكان مما ساعد على إدراك الناس لحقيقة نوايا العباسيين، وواقعهم، الذي طالما جهدوا في التستر عليه، واخفائه، بحيث لم يعد ثمة شك في انهم ليسوا بأفضل من الامويين، إن لم يكونوا اكثر منهم سوءا. هو ما كانوا يرونه من معاملتهم لبني عمهم آل أبي طالب، الذين ضحوا بكل شئ في سبيل هذا الدين، وأعطوا وبذلوا حتى أرواحهم في سبيل هذه الامة. والذين كانوا هم الامل الحي لهذه الامة المضطهدة، والمغلوبة على أمرها، التي كانت ترى فيهم كل الفضائل، والكمالات الانسانية.. والذين كان من الواضح لدى كل أحد أن وجود العباسيين في الحكم مدين لهم، أكثر من غيرهم على الاطلاق. (1) الوزراء والكتاب ص 225. (*)
[ 131 ]
لقد رأوهم جميعا متفقين - حتى المأمون كما سيتضح - على العداء لهم، ووجوب التخلص منهم، لكن الفرق هو أن الخلفاء الذين سبقوا المأمون كانت أساليبهم تجاههم، تتميز - عموما - بالعنف والقسوة، بخلافه هو، فإنه اتبع أسلوبا جديدا، وفريدا في القضاء عليهم، والتخلص منهم. ولقد كان هذا الموقف مفاجأة للامة، وصدمة لها، ولذا فمن الطبيعي أن يتسبب في ردود فعل عنيفة في ضمير الامة ووجد انها، وبخيبة أمل قاسية لها فيهم. بل لقد كان ذلك سببا في زيادة تعاطفها معهم، ومضاعفة احترامهم لهم - ولو بدافع انساني بحت - ومن هنا نلاحظ أنهم كثيرا ما يذكرون في سبب نكبات الوزراء، والعمال، بل والعلماء أيضا - صدقا كان ذلك أو كذبا - أنه أجار علويا، أو أطلقه من السجن، ودله على طريق النجاة، وقد ذكرت هذه المنقبة للامام أحمد بن حنبل أيضا (1)، وأما موقف أبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم من العلماء، فهو أشهر من أن يذكر. ولعل الاهم من ذلك كله: ولعل الاهم من ذلك كله أن الناس الذين كانوا يرون سلوك العباسيين مع العلويين، ومع الناس عامة، وأيضا سلوكهم اللاأخلاقي في حياتهم الخاصة.. كانوا يرون في مقابل ذلك: زهد العلويين، وورعهم، وترفعهم عن كل الموبقات والمشينات، وخصوصا الائمة منهم عليهم السلام. وقد جعلهم ذلك ينساقون معهم لا إراديا، حيث رأوا أنهم هم الذين يمتلكون كل المؤهلات، ويتمتعون بكافة الفضائل والمزايا، التي (1) راجع كتاب: شيخ الامة، الامام أحمد بن حنبل، لعبد العزيز سيد الاهل. (*)
[ 132 ]
تجعلهم جديرين بخلافة محمد صلى الله عليه وآله، وأهلا لقيادة الامة، قيادة صالحة وسليمة، كما كان النبي صلى الله عليه وآله يقودها من قبل. وواضح أن تلك الخصائص، وهاتيك المؤهلات والمميزات لائمة أهل البيت (ع) وذلك السلوك المثالي لهم - كل ذلك - كان يغري العباسيين بمضايقتهم، وملاحقتهم أشد الاغراء، وكان أيضا يدفع الحساد للوشاية بهم. وتحريض الخلفاء على الايقاع والتنكيل فيهم. ولهذا نرى أن الخلفاء ! لم يكونوا يألون جهدا، أو يدخرون وسعا في ملاحقتهم، واضطهادهم، وسجنهم. حتى إذا تمكنوا منهم قضوا عليهم، بالوسائل التي تضمن - بنظرهم - عدم إثارة شكوك الناس وظنونهم. التشيع للعلويين: وبعد كل الذي قدمناه، فإن من الطبيعي أن نرى العلويين يتمتعون بالاحترام والتقدير من مختلف الفئات والطبقات، وأن نرى ازدياد احترام الناس، وتقديرهم لهم باستمرار.. حتى لقد كان لهم في نفوسهم من عميق الحب، وصادق المودة، ما أرهب العباسيين، وأرعبهم. وحتى لقد رأينا الرشيد نفسه - وهو طاغية بني العباس بلا منازع - يشكو لعظيم البرامكة، يحيى بن خالد غمه وحيرته في أمر الامام موسى (ع)، رغم أنه (ع) كان في السجن. ونرى يحيى بن خالد يعترف بدوره بأن: الامام " المسجون " قد أفسد عليهم قلوب شيعتهم ! ! (1) ولا يجب أن نستغرب شكوى الرشيد تلك. ولا اعتراف يحيى هذا (1) الغيبة للشيخ الطوسي ص 20، والبحار. (*)
[ 133 ]
بعد أن التشيع (1) يجد سبيله إلى كل قلب، وكل فؤاد، حتى وزراء العباسيين، وقوادهم، بل وحتى نساء الخلفاء أنفسهم. فهذه أم الخليفة المهدي تقيم خادما لقبر الحسين (ع)، وتجري عليه كل شهر ثلاثين درهما، دون أن يعلم بها أحد (2). وهذه بنت عم المأمون، التي كان لها نفوذ قوي عنده، يذكر المؤرخون أنها كانت تميل إلى الامام الرضا (ع). بل وحتى " زبيدة "، زوجة الرشيد، وحفيدة المنصور، وأعظم عباسية على الاطلاق، يقال: إنها كانت تتشيع، وعندما علم الرشيد بذلك حلف أن يطلقها (3).. ولعل لهذا السبب أحرق أهل السنة قبرها مع ما أحرقوا من قبور بني بويه وقبر الكاظم (ع) وذلك عندما وقعت الفتنة العظيمة بين السنة والشيعة سنة 443 ه‍ (4). وأما وزراء العباسيين، فأمرهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان، فإن التاريخ يحدثنا: أن العباسيين، ابتداء من السفاح، كانوا غالبا يبطشون بوزرائهم، بسبب اطلاعهم على تشيعهم، وممالاتهم للعلويين، ابتداء بأبي سلمة، فأبي مسلم، فيعقوب بن داوود. وهكذا إلى أن ينتهي الامر بالفضل بن سهل، وغيره من بعده، بل وحتى نكبة البرامكة يقال: إن سببها هو تشيعهم للعلويين !. حتى لقد أصبح التسمي ب‍ " الوزير ". (1) كلمة " التشيع " التي ترد في هذا الكتاب، لا أقصد بها غالبا - التشيع بمفهومه الاخص، والمذهب المعروف، وإنما أقصد بها مجرد الولاء والحب للعلويين، وتأييدهم ضد خصومهم، سواء أكان ذلك من الشيعة بالمعنى المعروف، أو من غيرهم من أهل الفرق الاسلامية الاخرى. (2) الطبري ج 11 / 752، طبع ليدن. (3) ذكر ذلك الصدوق في المجالس، فراجع: رجال المامقاني، مادة: " زبيدة ". (4) الكنى والالقاب ج 2 / 289 نقلا عن ابن شحنة في روضة المناظر. (*)
[ 134 ]
يعتبر شؤما: وينفر الناس منه كل النفور، كما سنشير إليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى. وأما عن امرئهم وقوادهم، فالامر فيهم أوضح وأجلى، حيث إنهم ما كانوا يرون إلا واليا أو قائدا يخرج عليهم داعيا للعلويين، أو آخر قد خلع طاعتهم، واستجاب لدعوة خصومهم آل علي، أو ثالث يخشى أن يميل إليهم، ويتعاطف معهم.. وقد بدأ قوادهم بالخروج عليهم من زمن السفاح، الذي خرج عليه ابن شيخ المهري، داعيا لآل علي، وبعد ذلك كانت ثورة القواد على المنصور داعين إلى موالاة أهل البيت، وقامت ثورة ضد المنصور، وداعية للعلويين في نفس خراسان، وذلك في سنة (140 ه‍). وبعد ذلك وفي زمن المهدي العباسي قامت ثورة اخرى في خراسان تدعو إلى آل أبي طالب بقيادة صالح بن أبي حبال. وعظم شأنه جدا، ولم يمكنهم القضاء عليه إلا بإعمال الحيلة (1) وأما في زمن الرشيد، فقد ثارت الفتن بين أهل السنة والرافضة، على حد تعبير النجوم الزاهرة. الخطر الحقيقي: وأما الذي كان يكمن فيه الخطر الحقيقي، وكان يهز الدولة، ويزعزع من أركانها. فهو ثورات العلويين أنفسهم، حتى ليقال: إنه قد بويع لمحمد بن عبد الله بن الحسن، وأخيه إبراهيم في أكثر الامصار، وذلك في سنة 145 ه‍. وبعد ذلك كانت واقعة فخ المشهورة، ثم استمر الحال على ذلك، فلم يكن العباسيون يرون، إلا علويا ثائرا، أو أنه يدبر للثورة، حتى أوائل زمن المأمون، حيث بلغت الحالة فيه (1) راجع: لطف التدبير ص 105. (*)
[ 135 ]
في السوء والتدهور الغاية، وأوفت على النهاية. حتى ليقال: إن الثورات العلوية، التي قامت فيما بين عهد السفاح، وأوائل عهد المأمون، وبالتحديد إلى حوالي سنة 200 ه‍ أي فيما يقل عن سبعين عاما، قد قاربت الثلاثين ثورة، هذا بغض النظر عن الثورات الاخرى التي كانت تدعو لهم. وإلى موالاتهم. وستأتي الاشارة إلى بعض الثورات العلوية التي قامت ضد المأمون بالخصوص، وإلى أنه حتى قائده العظيم، طاهر بن الحسين، - بل وجميع آل طاهر (1) - وكذلك وزيره الفضل بن سهل، وهرثمة بن أعين، وغيرهم، وغيرهم، كانوا يتهمون بالتشيع للعلويين. ولسوف يتضح أن الوضع في عهده قد أصبح إلى حد كبير شبيها بالوضع الذي كان سائدا في أواخر عهد الامويين، بفارق واحد بسيط، لو استمر الحال لتسارع لذلك الفارق الضعف والوهن، وذلك الفارق هو: أنه لا يزال كثير من الناس المخدوعين بدعايات العباسيين يعتبرون تلك المنازعات طبيعية بين من يستحقون الخلافة ! ! !. ويبقى هنا سؤال: لماذا لم تكن ثورات العلويين، أو الثورات الداعية لهم. تصادف النجاح، مع أنها كانت تحظى بالتأييد الواسع، في مختلف فئات الشعب، وطبقاته ؟ !.. وجوابنا عن هذا السؤال هو: أن الذي يراجع التاريخ برى - بما لا مجال معه للشك -: أن تلك الثورات لم يكن يسبقها التخطيط، (1) راجع: الكامل لابن الاثير، حوادث سنة 250 ه‍. (*)
[ 136 ]
والاعداد الكافيان، وما كان العباسيون ليعطوها الفرصة لتخطيط واعداد يمكن أن يصل إلى درجة تمكنه من أن يذهب بدولة الجبارين. هذا بالاضافة إلى فساد القيادة القبلية آنذاك، والتي كانت السبب الاول والاخير لنجاح أية ثورة أو فشلها.. وسيأتي تفصيل ذلك على النحو الكافي والشافي، في فصل: مدى جدية العرض، إن شاء الله. ونتيجة كل ذلك: وهكذا.. يتضح: أن سياسات العباسيين، لم تستطع أن تحقق لهم الاهداف التي كانوا يتوخون تحقيقها، وإنما كانت نتائجها عكسية بالنسبة إليهم، ودمارا ووبالا عليهم، قبل أن تكون وبالا على أي من خصومهم. وبالاخص أبناء عمهم العلويين.
[ 137 ]
القسم الثاني ظروف البيعة وأسبابها: 1 - شخصية الامام الرضا (ع). 2 - من هو المأمون ؟. 3 - آمال المأمون، وآلامه.. 4 - ظروف البيعة وأسبابها. 5 - أسباب البيعة لدى الآخرين.
[ 139 ]
شخصية الامام الرضا عليه السلام لمحات: الامام الرضا (ع)، هو ثامن الائمة الاثني عشر، الذين نص عليهم النبي صلى الله عليه وآله: علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، ابن الحسين، ابن علي، بن أبي طالب، صلوات الله عليهم أجمعين. ستة آباؤه من هم أفضل من يشرب صوب الغمام كنيته: أبو الحسن. ومن ألقابه: الرضا، والصابر، والزكي، والولي. نقش خاتمه: حسبي الله. وقيل: بل نقشه: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله (1). ولد في المدينة سنة 148 ه‍. أي: في نفس السنة التي توفي فيها (1) لنا رأي بالنسبة للقب، ونقش الخاتم: وهو أنه كثيرا ما يعبر عن ظاهرة من نوع معين، وظروف اجتماعية، وسياسية، ونفسية، وغير ذلك. وكذلك عن مميزات، وملكات شخصية خاصة. ونأمل أن نوفق لبحث هذا الموضوع مستوفى في فرصة اخرى إن شاء الله. (*)
[ 140 ]
جده الامام الصادق (ع) على قول أكثر العلماء والمؤرخين مثل: المفيد في الارشاد، والشبراوي في الاتحاف بحب الاشراف، والكليني في الكافي، والكفعمي في المصباح، والشهيد في الدروس، والطبرسي في أعلام الورى، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين، والصدوق في علل الشرايع، وتاج الدين محمد بن زهرة في غاية الاختصار، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة، والاردبيلي في جامع الرواة، والمسعودي في مروج الذهب، وإن كان في كلامه اضطراب، وأبو الفداء في تاريخه، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب، وابن الاثير في كامله، وابن حجر في صواعقه، والشبلنجي في نور الابصار، والبغدادي في سبائك الذهب، وابن الجوزي في تذكرة الخواص، وابن الوردي في تاريخه، ونقل عن تاريخ الغفاري، والنوبختي. وكان عتاب بن أسد يقول: إنه سمع جماعة من أهل المدينة يقولون ذلك، وغير هؤلاء كثير وذهب آخرون - وهم الاقل - إلى أن ولادته (ع)، كانت سنة 153 ه‍. منهم: الاربلي في كشف الغمة، وابن شهراشوب في المناقب، والصدوق في عيون الاخبار، وإن كان في كلامه اضطراب، والمسعودي في إثبات الوصية، وابن خلكان في وفيات الاعيان، وابن عبد الوهاب في عيون المعجزات، واليافعي في مرآة الجنان.. وقيل: إن ولادته كانت سنة 151 ه‍. والقول الاول هو الاقوى والاشهر. ولم يذهب إلى القولين الاخيرين إلا قلة.. وتوفي (ع) في طوس سنة 203 ه‍. على قول معظم العلماء، والمؤرخين، والشاذ النادر لا يلتفت إليه.. (*)
[ 141 ]
وبعد: فأما علمه، وورعه وتقواه: فذلك مما اتفق عليه المؤرخون أجمع، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للكتب التاريخية، ويكفي هنا أن نذكر أن نفس المأمون قد اعترف بذلك، أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة. بل في كلامه: أن الرضا (ع) أعلم أهل الارض، وأعبدهم. ولقد قال لرجاء بن أبي الضحاك: ". بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الارض، وأعلمهم، وأعبدهم. " (1). وقد قال أيضا للعباسيين، عندما جمعهم، في سنة 200 ه‍. وهم أكثر من ثلاثة وثلاثين ألفا (2): " إنه نظر في ولد العباس، وولد علي رضي الله عنهم، فلم يجد أحدا أفضل، ولا أورع، ولا أدين، ولا أصلح. ولا أحق بهذا الامر من علي بن موسى الرضا (3). (1) راجع: البحار ج 49 ص 95، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 183، وغير ذلك. (2) مروج الذهب ج 3 ص 440، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 166، وغاية المرام للعمري الموصلي ص 121، ومآثر الانافة في معالم الخلافة ج 1 ص 212، والطبري، طبع ليدن ج 11 ص 1000، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 333، وغير ذلك. وورد ذلك أيضا في رسالة الحسن بن سهل، لعيسى بن أبي خالد، فراجع: الطبري ج 11 ص 1012، وتجارب الامم ج 6 المطبوع مع العيون والحدائق ص 430. هذا. ولكن في تاريخ التمدن الاسلامي، ج 1 ص 176 ويؤيده ما في وفيات الاعيان لابن خلكان، طبع سنة 1310 ج 1 ص 321، ويساعد عليه الاعتبار أيضا: أن الذين أحصوا آنئذ هم: العباسيون خاصة المأمون، دون غيرهم من سائر بني العباس. (3) راجع: مروج الذهب ج 3 ص 441، والكامل لابن الاثير ج 5 ص 183، والفخري في الآداب السلطانية ص 217، والطبري، طبع ليدن ج 11 ص 1013، ومختصر تاريخ الدول ص 134، وتجارب الامم ج 6 ص 436. (*)
[ 142 ]
قال عبد الله بن المبارك: هذا علي والهدى يقوده * من خير فتيان قريش عوده (1) ولوضوح هذا الامر نكتفي هنا بهذا المقدار، وننتقل إلى الحديث عن امور هامة اخرى، وما يهمنا في المقام إعطاء لمحة سريعة عن مكانته، وشخصيته (ع)، فنقول: وأما مركزه وشخصيته (ع): فهو من الامور البديهية، التي لا يكاد يجهلها أحد، وقد ساعده سوء الاحوال بين الامين والمأمون على القيام بأعباء الرسالة، وعلى زيادة جهوده، ومضاعفة نشاطاته، حيث قد فسح المجال لشيعته للاتصال به، والاستفادة من توجيهاته، مما أدى بالتالي - مع ما كان يتمتع به (ع) من مزايا فريدة، وما كان ينتهجه من سلوك مثالي - إلى تحكيم مركزه، وبسط نفوذه في مختلف أرجاء الدولة الاسلامية، يقول الصولي: ألا إن خير الناس نفسا ووالدا * ورهطا وأجدادا علي المعظم اتينا به للحلم والعلم ثامنا * إماما يؤدي حجة الله يكتم (2) بل لقد قال هو نفسه (ع) مرة للمأمون. وهو يتحدث عن ولاية = وفي مرآة الجنان ج 2 ص 11، قال: إنه لم يجد في وقته أفضل، ولا أحق بالخلافة، من علي بن موسى الرضا. ونحو ذلك ما في البداية والنهاية ج 10 ص 247، وينابيع المودة للحنفي ص 385، ونظرية الامامة ص 386 ووفيات الاعيان طبع سنة 1310 ه‍. ج 1 ص 321، وامبراطورية العرب، وغير ذلك. (1) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 362. (2) نفس المصدر ج 4 ص 332، وهي في مقتبس الاثر ج 22، ص 328، لكنه لم يذكر قائلها.. (*)
[ 143 ]
العهد: ". وما زادني هذا الامر، الذي دخلت فيه في النعمة عندي شيئا، ولقد كنت في المدينة، وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب، ولقد كنت أركب حماري، وأمر في سكك المدينة، وما بها أعز مني. " (1). ويكفي أن نذكر هنا قول ابن مؤنس - عدو الامام (ع)، وقد أسر (ع) للمأمون بشئ، قال ابن مؤنس: ". يا أمير المؤمنين، هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله " (2). وفي الكتاب الذي طلب المأمون فيه من الرضا أن يجمع له أصول الدين، وفروعه، قال المأمون: إن الامام: " حجة الله على خلقه، ومعدن العلم، ومفترض الطاعة. " (3). كما أن المأمون كان يعبر عن الرضا (ع) ب‍: " أخيه "، ويخاطبه ب‍ " يا سيدي ". وكتب للعباسيين يصف الرضا، ويقول: ".. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، واختيار مني له.. إلى أن قال: وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لابي الحسن، فما بايع له إلا مستبصرا في أمره، عالما بأنه لم يبق على ظهرها أبين فضلا، ولا أظهر عفة، ولا أورع ورعا، ولا أزهد زهدا في الدنيا، ولا أطلق نفسا، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه. " (4). (1) البحار ج 49 ص 155، وص 144، والكافي ج 8 ص 151، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 167. (2) البحار ج 49 ص 166، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 138، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 161، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 86. (3) نظرية الامامة ص 388. (4) الرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب. (*)
[ 144 ]
وفي كل ما قدمناه دلالة واضحة على سجايا الامام، ومركزه، وشخصيته. وكما يقولون: " والفضل ما شهدت به الاعداء ". ومما يدل على مكانته وهيبته ما ورد في رواية أخرى، يقول فيها المتحدث: ". دخلنا (أي هو والرضا " ع ") على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله، ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين، والقواد حضور. فلما دخلنا قام المأمون، وقام محمد بن جعفر، وجميع بني هاشم، فما زالوا وقوفا والرضا جالس مع المأمون، حتى أمرهم بالجلوس، فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلا عليه ساعة الخ (1) ". وأما ما جرى في نيسابور: فلا يكاد يخلو منه كتاب يتعرض لاحوال الرضا (ع)، ومسيره إلى مرو، فإنه عندما دخل نيسابور تعرض له الحافظان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن أسلم الطوسي، ومعهما من طلبة العلم ما لا يحصى، وتضرعوا إليه أن يريهم وجهه، فأقر عيون الخلائق بطلعته، والناس على طبقاتهم قيام كلهم. وكانوا بين صارخ، وباك، وممزق ثوبه، ومتمرغ في التراب، ومقبل لحافر بغلته، ومطول عنقه إلى مظلة المهد، إلى أن انتصف النهار، وجرت الدموع كالانهار، وصاحت الائمة: " معاشر الناس، أنصتوا، وعوا، ولا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وآله في عترته. " فأملى صلوات الله عليه، عليهم، بعد أن ذكر السلسلة الذهبية الشهيرة (1) مسند الامام الرضا ج 2 ص 76، والبحار ج 49 ص 175، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 156. (*)
[ 145 ]
السند، قوله: " لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي. ". فلما مرت الراحلة أخرج رأسه مرة ثانية إليهم، وقال: " بشروطها، وأنا من شروطها ". فعد أهل المحابر والدوى، فأنافوا على العشرين ألفا. كذلك وصف المؤرخون هذه الحادثة الشهيرة (1).. ولسوف نتحدث عن هذه القضية بالتفصيل في فصل: " خطة الامام " إن شاء الله تعالى. وعن أسناد هذه الرواية، الذي أورده الامام (ع)، يقول الامام أحمد بن حنبل: " لو قرأت هذا الاسناد على مجنون لبرئ من جنته ". على ما في الصواعق المحرقة، ونزهة المجالس (2) وغير ذلك. ونقل أن بعض أمراء السامانية بلغه هذا الحديث بسنده، فكتبه بالذهب، وأوصى أن يدفن معه. (1) نقله في مجلة مدينة العلم، السنة الاولى ص 415 عن صاحب تاريخ نيسابور، وعن المناوي في شرح الجامع الصغير، وهي أيضا في الصواعق المحرقة ص 122، وحلية الاولياء 3 ص 192، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 135، وأمالي الصدوق ص 208، وينابيع المودة ص 364، وص 385، وقد ذكر قوله عليه السلام: وانا من شروطها، في الموضع الثاني فقط. والبحار ج 49 ص 123، 126، 127، والفصول المهمة لابن الصباغ ص 240، ونور الابصار ص 141، ونقلها في مسند الامام الرضا ج 1 ص 43، 44، عن التوحيد ومعاني الاخبار وكشف الغمة ج 3 ص 98. وهي موجودة في مراجع كثيرة اخرى. لكن يلاحظ أن بعض هؤلاء قد حذف قوله عليه السلام: " بشروطها، وأنا من شروطها " ولا يخفى السبب في ذلك. (2) وفيه في ج 1 ص 22، قال: " إنه (أي الامام أحمد) قرأها على مصروع فأفاق ".
[ 146 ]
وها نحن أمام نصوص اخرى: وكذلك نرى هيبة الامام (ع) وقوة شخصيته، في موقفه مع الفضل ابن سهل - أعظم رجل في البلاط العباسي - وذلك عندما طلب منه الفضل كتاب الضمان، والامان، حيث أوقفه ساعة، ثم رفع رأسه إليه، وسأله عن حاجته، فقال: " يا سيدي. إلى أن قال الراوي: ثم أمره بقراءة الكتاب - وكان كتابا في أكبر جلد - فلم يزل قائما حتى قرأه ! الخ. " (1). ثم رأينا المأمون عندما قتل الفضل بن سهل ذا الرئاستين، وشغب عليه القواد والجند، ومن كان من رجال ذي الرئاستين، وقد جاءوا بالنيران ليحرقوا الباب عليه، ليصلوا إليه - قد رأينا - كيف هرع إلى الامام، يطلب منه أن يتدخل لانقاذه، فخرج (ع) إليهم، وأمرهم بالتفرق، فتفرقوا.. يقول ياسر الخادم: " فأقبل الناس والله، يقع بعضهم على بعض، وما أشار لاحد إلا ركض، ومر، ولم يقف. " (2). ونجا المأمون بذلك بجلده، واحتفظ بحياته. وفي كتاب العهد الذي كتبه المأمون بخط يده - كما صرح به كل من تعرض له - فقرات تدل على سجايا الامام، وعلى مركزه، وشخصيته، يقول المأمون عنه: ".. لما رأى من فضله البارع، وعلمه (1) أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 139، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 162، 163 والبحار ج 49 ص 168، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 88. (2) المناقب ج 4 ص 347، وروضة الواعظين ج 1 ص 273، وكشف الغمة ج 3 ص 70، والكافي ج 1 ص 490، 491، وأعلام الورى ص 324، وأعيان الشيعة ج 4. قسم 2 ص 110، 140، طبعة ثالثة، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 164، وارشاد المفيد ص 314، والبحار ج 49 ص 169، ومعادن الحكمة ص 183، وشرح ميمية أبي فراس ص 198، 199. (*)
[ 147 ]
الناصع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخليه من الدنيا، وتسلمه من الناس. وقد استبان له ما لم تزل الاخبار عليه متواطية، والالسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعا، وناشيا، وحدثا، ومكتهلا الخ.. " وكتاب العهد مذكور في أواخر هذا الكتاب.. وفي نهاية المطاف: فإن الامام (ع) هو أحد العشرة، الذين هم على حد تعبير الجاحظ: " كل واحد منهم: عالم، زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر، زاك، والذين هم بين خليفة، أو مرشح لها. " (1). وهو على ما في النجوم الزاهرة: " سيد بني هاشم في زمانه، وأجلهم، وكان المأمون يعظمه، ويجله، ويخضع له، ويتفانى فيه. " (2). ومثله ما عن سنن ابن ماجة، على في خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 278. وقال عنه (ع) عارف تامر: " يعتبر من الائمة الذين لعبوا دورا كبرا على مسرح الاحداث الاسلامية في عصره. " (3). وأخيرا. فقد وصفه أبو الصلت، ورجاء بن أبي الضحاك، وإبراهيم ابن العباس، وغيرهم، وغيرهم. بما لو أردنا نقله لطال بنا الكلام. وحسبنا ما ذكرنا، فإننا إذا أردنا أن نلم بما قيل في حق الامام (ع) لاحتجنا إلى تأليف خاص، ووقت طويل.. (1) اثار الجاحظ ص 235. (2) النجوم الزاهرة ج 2 ص 74. (3) الامامة في الاسلام ص 125. (*)
[ 148 ]
من هو المأمون ؟ لمحات: هو عبد الله بن هارون الرشيد. أبوه: خامس خلفاء بني العباس.. وهو سابعهم، بعد أخيه الامين. أمه: جارية خراسانية، إسمها: " مراجل ". وقد ماتت بعد ولادتها إياه، وهي ما تزال نفساء. فنشأ يتيم الام. وقد كانت أمه - كما يقول المؤرخون - أشوه، واقذر جارية في مطبخ الرشيد. وذلك هو الذي يجعلنا نصدق القصة التي تقال عن السبب في حملها به (1). (1) وتحكى هذه القصة على النحو التالي: أن زبيدة لاعبت الرشيد بالشطرنج على الحكم والرضا، فغلبته، فحكمت عليه أن يطأ أقبح وأقذر وأشوه جارية في المطبخ، فبذل لها خراج مصر والعراق لتعفيه من ذلك، فلم تقبل، ولم تجد جارية تجمع الصفات المذكورة غير مراجل، فطلبت إليه أن يطأها، فجاء المأمون.. راجع حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 72، وأعلام الناس في أخبار البرامكة، وبني العباس للاتليدي ص 106، 107، وعيون التواريخ. وأشار إليها اشارة واضحة: الاسحاقي في = (*)
[ 149 ]
دفعه أبوه إلى جعفر بن يحيى البرمكي، فنشأ في حجره، كانت ولادته في سنة 170 ه‍. في نفس الليلة التي تولى فيها أبوه الخلافة. وكانت وفاته سنة 218 ه‍. وكان مربيه الفضل بن سهل، ثم أصبح وزيره، وهو المعروف بذي الرئاستين. وكان قائده: طاهر بن الحسين ذو اليمينين.. ميزات وخصائص: وقد كانت حياته حياة جد ونشاط، وتقشف، على العكس من أخيه الامين، الذي نشأ في كنف " زبيدة "، وما أدراك ما " زبيدة "، فقد كانت حياته حياة نعمة وترف، يميل إلى اللعب والبطالة، أكثر منه إلى الجد والحزم. يظهر ذلك لكل من راجع تاريخ حياة الاخوين. ولعل سر ذلك يعود إلى أن المأمون لم يكن كأخيه، يشعر بأصالة محتده، ولا كان مطمئنا إلى مستقبله، وإلى رضا العباسيين به. بل كان يقطع بعدم رضاهم به خليفة وحاكما، ولهذا. فقد وجد أنه ليس لديه أي رصيد يعتمد عليه غير نفسه، فشمر عن ساعد الجد، وبدأ يخطط لمستقبله منذ اللحظة الاولى التي أدرك فيها واقعه، والمميزات التي كان يتمتع بها أخوه الامين عليه. = لطائف أخبار الاول ص 74، وكذلك في روض الاخبار المنتخب من ربيع الابرار ص 157. ولا ينافي ذلك أن ولد في الليلة التي تولى فيها أبوه الخلافة، فان أولياء العهد كانوا يتولون أعظم الولايات من قبل الخلفاء، وقد قسم الرشيد الدولة كلها بين أولاده الثلاثة: الامين، والقاسم، ولم يبق لنفسه شيئا، وهو على قيد الحياة... (*)
[ 150 ]
بل نلاحظ: أنه كان يستفيد من أخطاء أخيه الامين، فان: " الفضل عندما رأى اشتغال الامين باللهو واللعب، أشار على المأمون بإظهار الورع والدين، وحسن السيرة، فأظهر المأمون ذلك.. وكان كلما اعتمد الامين حركة ناقصة اعتمد المأمون حركة شديدة " (1). ومن هنا نعرف السر فيما يظهر من رسالته للعباسيين، حيث نصب فيها نفسه واعظا تقيا، وأضفى عليها هالة من التقى والورع ! ! والزهد في الدنيا ! ! والالتزام بأحكام الشريعة، وتعاليم الدين ! !. ليروه ويراه الناس نوعية أخرى تفضل نوعية أخيه الامين، وتزيد عليها. ما يقال عن المأمون: وعلى كل حال.. فان المأمون كان قد برع في العلوم والفنون، حتى فاق أقرانه، بل فاق جميع خلفاء بني العباس.. وقد قال بعضهم: " لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون " (2). وقال عنه ابن النديم انه: " أعلم الخلفاء بالفقه والكلام " (3). وقال عنه محمد فريد وجدي: " لم يل الخلافة بعد الخلفاء الراشدين أكفأ منه " (4). وفي الاخبار الطوال: " وكان شهما، بعيد الهمة، أبي النفس، وكان نجم بني العباس في العلم والحكمة. " (1) الفخري في الآداب السلطانية ص 212. ولكن سيأتي أن المأمون هو الذي طلب من الفضل: أن يشيع عنه الزهد والتقوى، وليس الفضل هو المشير عليه بذلك.. (2) حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 72. (3) فهرست ابن النديم، طبع مطبعة الاستقامة في القاهرة ص 174. (4) دائرة المعارف الاسلامية ج 1 ص 620. (*)
[ 151 ]
بل لقد روي عن الامام علي (ع)، أنه قال - وهو يصف خلفاء بني العباس -: " سابعهم أعلمهم " (1). وقد وصفه السيوطي وابن تغري بردى، وابن شاكر الكتبي، فقالوا: " وكان أفضل رجال بني العباس: حزما، وعزما، وحلما، وعلما، ورأيا، ودهاء (2) وهيبة، وشجاعة، وسؤددا، وسماحة، (1) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 276، وسفينة البحار ج 2 ص 332، مادة: " غيب ". (2) دهاء المأمون، وحنكته، وسياسته من المسلمات، والامثلة على ذلك كثيرة، فقد روى لنا ابن عبد ربه في العقد الفريد ج 1 ص 123، والجهشياري في الوزراء والكتاب ص 311: كيف أنه بين للفضل بن سهل: أن أخاه الامين كان يستطيع أن ينتصر عليه، لو أنه أرسل إلى أهل البلاد التي يحكمها المأمون يخبرهم: " أنه قد وضع عنهم الخراج إلى سنة. فحينئذ، إن لم يقبل المأمون، قامت البلاد ضده، وإن قبل لم يجد ما يعطي الجند، فيقومون ضده، وفي كلا الحالتين يكون النصر للامين، لو وقعت بينهما الحرب، فحمد الفضل ربه، على أن لم يهتد الامين، واتباعه إلى هذا الرأي. وإن كان في العقد الفريد للملك السعيد، ص 50 ينسب هذا الرأي إلى الشيخ أبي الحسن القطيفي، وأنه أشار به على الامين، فلم يقبله. وفي المحاسن والمساوي طبع مصر ج 2 ص 77، 78، نسبة إلى شيخ مسن أشار به على الامين فلم يقبل منه. وقد رأينا أيضا: أنه عندما تسلم زمام الحكم قد طلب من الفضل: أن يشبع عنه الزهد والتقوى والورع، ففعل.. راجع تاريخ التمدن الاسلامي ج 4 ص 261. ورأينا كذلك: أنه يقتل الفضل، ويبكي عليه، ويقتل قتلته، ويقتل الرضا، ثم يبكي عليه. ويقتل طاهرا، ويولي أبناءه مكانه.. ورأينا أيضا: أنه يولي الرضا العهد، ويوهم العباسيين: أن ذلك كان من تدبير الفضل، ويقتل أخاه، ويوهمهم أن الذنب في ذلك على الفضل وطاهر. إلى آخر ما هنالك، مما سيأتي، وغيره، مما يدل على عمقه، ودهائه، وحنكته، وسياسته.. وأن الفضل وغيره، ما كانوا إلا دمى له، يلهو ويلعب بها، ويحركها كيف شاء، وحيثما أراد.. (*)
[ 152 ]
لولا أنه شان ذلك كله. بالقول بخلق القرآن (1)، ولم يل الخلاقة من بني العباس أعلم منه. " (2). شهادة ذات أهمية: وقد شهد له أبوه نفسه بالتقدم على أخيه الامين، قال: ".. وقد عنيت بتصحيح هذا العهد، وتصييره إلى من أرضى سيرته، وأحمد طريقته، وأثق بحسن سياسته، وآمن ضعفه ووهنه، وهو: عبد الله. وبنو هاشم - يعني العباسيين - مائلون إلى محمد باهوائهم، وفيه ما فيه من الانقياد لهواه، والتصرف مع طويته، والتبذير لما حوته يده، ومشاركة النساء، والاماء في رأيه، و عبد الله المرضي الطريقة، الاصيل الرأي، الموثوق به في الامر العظيم، فإن ملت إلى عبد الله، أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمدا بالامر، لم آمن تخليطه على الرعية. (3). وقال أيضا: " إني لاعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو شئت أن أنسبه إلى الرابع - يعني نفسه - لنسبته، وقد قدمت محمدا عليه، وإني لاعلم أنه منقاد لهوه، مبذر (1) قال القلقشندي في كتابه: مآثر الانافة في معالم الخلافة ج 1 ص 213: إنه قد طعن الناس ! ! على المأمون ثلاثة أشياء: الاول: القول بخلق القرآن ! !. الثاني: التشيع. الثالث: بث علوم الفلاسفة بين المسلمين. فتأمل، بالله عليك بهذه الامور، التي عدوها من المطاعن، وبعد ذلك: فاضحك، أو فابك على عقول هؤلاء الجهلاء، الذين يسميهم الناس، أو يسمون أنفسهم علماء ! ! ! والعلم من هؤلاء وأمثالهم برئ.. (2) تاريخ الخلفاء ص 306، وفوات الوفيات ج 1 ص 239، والنجوم الزاهرة، وتاريخ الخميس ج 2 ص 334. (3) مروج الذهب طبع بيروت ج 3 ص 352، 353. (*)
[ 153 ]
لما حوته يده، يشاركه في رأيه الاماء والنساء، ولولا أم جعفر - يعني زبيدة - وميل بني هاشم، لقدمت عبد الله عليه.. " (1). يعني في ولاية العهد. (1) راجع شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون ص 245، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 307، وقريب منه ما في الاخبار الطوال ص 401، والاتحاف بحب الاشراف ص 96، وتاريخ الخميس ج 2 ص 334. هذا.. والرشيد هنا يدعي النسك للمهدي مع أن كتب التاريخ زاخرة بأخبار بذخه، ولهوه ولعبه، ويكفي أن نذكر هنا: أنه قد سلم الامر ليعقوب بن داوود، وانصرف إلى ملذاته وشهواته، حتى قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة: بني امية هبوا طال نومكم * إن الخليفة يعقوب بن داوود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا * خليفة الله بين الزق والعود فراجع: الفخري في الآداب السلطانية ص 184، 185، وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد الاول جزء 2 ص 407، والبداية والنهاية، وأي كتاب تاريخي شئت.. هذا.. ولعل ما ينسب إليه من الزهد والورع إنما كان بلحاظ ما قدمناه: من تسمية أبيه له ب‍ " المهدي " لكي يكون مهدي الامة الذي يملا الارض قسطا، وعدلا، واخترع أحاديث كثيرة لتأييد مدعاه هذا. ولكن الحقيقة هي ما قدمناه، من أنه لم يكن يقل في تهتكه واستهتاره عن غيره من الخلفاء، حتى لقد ذكر الطبري في تاريخه، طبع مطبعة الاستقامة ج 6 ص 405، أنه ألبس ابنته " البانوقة " لباس الفتيان، لتمشي في مقدمة الجند والقواد، وقد رفع القباء ثدييها الناهدين، وكانت سمراء، حسنة القد، حلوة، على حد تعبير الطبري. فماذا كان يقصد " المهدي المنتظر " ! ! من تصرفه هذا ! !. فهل كان يريد بذلك أن يملا الارض قسطا وعدلا ؟ ! !. ولماذا كان الزاهد الورع ! ! و " المهدي المنتظر " يعذب الناس بالسنانير والزنابير، ليبتز منهم أموالهم، ويتخذ الاتهام بالزندقة ذريعة للقضاء على خصومه، كما قدمنا، وأيضا يشرب الخمر، ويسمع الغناء، حتى بلغ في ذلك حدا جعل يعقوب بن داوود يلومه على ذلك، ويقول له: " ما على هذا استوزرتني، ولا على هذا صحبتك الخ.. ". وفي ذلك يقول بعض الشعراء، يعرض بيعقوب، ويحث المهدي على الاستمرار في = (*)
[ 154 ]
وعلى كل حال،. فان كل من تعرض من المؤرخين وغيرهم، لشرح حال المأمون، قد شهد له بالتقدم، وبأنه رجل خلفاء بني العباس وواحدهم. وما يهمنا هنا، هو مجرد الاشارة إلى حال المأمون، وما كان عليه من الدهاء والسياسة، وحسن التدبير. ولسنا هنا في صدد تحقيق أحواله، والاحاطة بكافة شؤونه، فان ذلك لا يناسب الغرض الذي وضع من أجله هذا الكتاب. وسيمر معنا في الفصول الآتية المزيد من الكلام عن المأمون وظروفه، مما له نحو ارتباط بالموضوع الذي نحن بصدد تحقيقه من قريب، أو من بعيد، إن شاء الله تعالى.. = ذلك على ما في البداية والنهاية ج 10 ص 148، 149 - يقول في ذلك -: فدع عنك يعقوب بن داوود جانبا * واقبل على صهباء طيبة النشر وأخيرا.. فاننا لا نعرف أحدا يقول بأن المهدي العباسي، هو المهدي الموعود، إلا سلم الخاسر، فقد نقل ذلك عنه ابن المعتز في طبقات الشعراء ص 104، ويدل على ذلك قول الخاسر في قصيدة له يمدح بها المهدي العباسي على ما في الاغاني ج 21 ص 187، طبع دار الفكر: له شيم عند بذل العطاء * لا يعرف الناس مقدارها و " مهدي امتنا " والذي * حماها وأدرك أوتارها والسيد الحميري أيضا ممن كان قد ظن أنه المهدي حقا لكن فعاله قد بينت: أنه ليس هو، ولذلك يقول السيد حسبما يروي المرزباني أخبار السيد الحميري (المستدرك) ص 58: ظننا أنه " المهدي " حقا * ولا تقع الامور كما ظننا ولا والله، ما المهدي إلا * إماما فضله أعلى وأسنى ولا بأس بالاشارة هنا إلى ما ذكروه، من أن سبب تسميته بالخاسر: أنه كان عنده مصحف، فباعه، واشترى بثمنه طنبورا، فبقيت من ثمنه بقية، فاشترى بها خمرا ! !.. فبورك من مهدي أتباعه أمثال هذا ! ! وبوركت امة تعترف بمهدي له تلكم الصفات ! !. (*)
[ 155 ]
آمال المأمون وآلامه العباسيون لا يرضون بالمأمون ! لا يشك المؤرخون بأن المأمون كان أجدر من الامين، وأحق بالخلافة (1). بل لقد مر اعتراف الرشيد نفسه بذلك، لكنه اعتذر عن إسناده الامر الامين: بأن العباسيين، لا يرضون بالمأمون خليفة، وحاكما، رغم سنه وفضله وكياسته، وأنهم يرجحون أخاه الامين عليه، قال الرشيد، حسبما تقدم: " وبنو هاشم مائلون إلى محمد بأهوائهم، وفيه ما فيه.. إلى أن قال: فان ملت إلى ابني عبد الله. أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمدا بالامر، لم آمن تخليطه على الرعية الخ ! ! " ومر أيضا قول الرشيد: ".. ولولا أم جعفر، وميل بني هاشم إليه (أي إلى الامين) لقدمت عبد الله عليه. ". كما أن المأمون نفسه يقول في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: ".. وأما ما ذكرتم، مما مسكم من الجفاء في ولايتي، فلعمري ما كان ذلك إلا منكم: بمظافرتكم عليه، وممايلتكم إياه (1) ليس المراد هنا: الجدارة الحقيقية، التي قررها الله، وبينها محمد صلى الله عليه وآله، وإنما المراد الجدارة التي يفهمها هؤلاء، واعتاضوا بها عن حكم الله، وسنة نبيه... (*)
[ 156 ]
(أي الامين)، فلما قتلته، تفرقتم عباديد، فطورا أتباعا لابن أبي خالد، وطورا أتباعا لاعرابي، وطورا أتباعا لابن شكلة، ثم لكل من سل سيفا علي. ولولا أن شيمتي العفو، وطبيعتي التجاوز، ما تركت على وجهها منكم أحدا، فكلكم حلال الدم الخ.. ". سوف يأتي قول الفضل بن سهل للمأمون: ".. وبنو أبيك معادون لك، وأهل بيتك الخ.. ". إلى آخر ما هنالك من النصوص الدالة على حقيقة الموقف السلبي للعباسيين ضد المأمون، وتفضيلهم أخاه الامين عليه. سؤال قد تصعب الاجابة عليه: فما هو السر ياترى ؟ في عدم رضا العباسيين بالمأمون ؟ ! ولماذا يفضلون أخاه أمين عليه ؟ ! ! مع أنه هو الاليق والاجدر والاحق بالخلافة ! !. إن الاجابة على هذا السؤال ربما تبدو لاول وهلة صعبة، وشاقة. ولكننا لن نستسلم لهذا الشعور، ولسوف نحاول الاجابة عليه، معتمدين على بعض ما بأيدينا من النصوص التاريخية، التي تلقي لنا ضوءا كاشفا على حقيقة القضية، وواقع الامر: فنقول: الجواب عن السؤال: لعل سر انحراف العباسيين عن المأمون إلى أخيه الامين يرجع إلى أن الامين كان عباسيا، بكل ما لهذه الكلمة من معنى: فأبوه: هارون..
[ 157 ]
وأمه: " زبيدة "، حفيدة المنصور، هاشمية (1)، والتي لو نشرت شعرها، لما تعلقت - على ما قيل - (2) إلا بخليفة، أو ولي عهد، والتي كانت أعظم عباسية على الاطلاق. وكان في حجر الفضل بن يحيى البرمكي، أخي الرشيد من الرضاعة، وأعظم رجل نفوذا في بلاط الرشيد. وكان يشرف على مصالحه الفضل بن الربيع، العربي، الذي كان جده من طلقاء عثمان، والذي لم يكن ثمة من شك في ولائه للعباسيين. أما المأمون: فقد كان في حجر جعفر بن يحيى، الذي كان أقل نفوذا من أخيه الفضل. وكان مؤدبه، والذي يشرف على مصالحه، ذلك الرجل الذي لم يكن العباسيون يرتاحون إليه بشكل خاص، لانه كان متهما بالميل إلى العلويين. والذي كانت العداوة بينه وبين مربي الامين، الفضل بن الربيع على أشدها، ذلك الرجل الذي أصبح فيما بعد وزيرا للمأمون، ومدبرا لاموره، وأعني به: " الفضل بن سهل الفارسي "، وقد (1) وفي الفخري في الآداب السلطانية ص 212، ومروج الذهب ج 3 ص 396، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 159، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 303، وتاريخ اليعقوبي ج 3 ص 162: " أنه لم يتفق لخليفة عباسي أن يكون عباسي الاب والام، غير الامين "... ولا بأس أيضا بمراجعة: مختصر التاريخ ص 130، ومآثر الانافة في معالم الخلافة ج 1 ص 203، وابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص 243، وزهر الآداب ج 2 ص 993، طبع دار الجيل. (2) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 306. (*)
[ 158 ]
مل العباسيون الفرس، وخافوهم. ولذا سرعان ما استبدلوهم بالاتراك وغيرهم.. أما أم المأمون. فقد كانت خراسانية غير عربية، وقد ماتت أيام نفاسها به، وحتى لو كانت على قيد الحياة، فإنها - وهي أشوه، وأقبح، وأقذر جارية في مطبخ الرشيد - لن تستطيع أن تكون مثل زبيدة عظمة، ونفوذا ولو قلنا إن موتها كان في مصلحة المأمون لما عدونا الحقيقة، كيف وقد بلغ من مهانتها - في نظر الناس - أن كان المأمون يعير بها. فهذه زينب بنت سليمان. التي كانت عند بني العباس بمنزلة عظيمة، عندما لم يحضر المأمون جنازة ابنها، واكتفى بارسال أخيه صالح من قبله، تغضب، وتقول لصالح: " قل له: يابن مراجل، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد، لوضعت ذيلك على فيك، وعدوت خلف جنازته. " (1). والرقاشي الشاعر يمدح الامين، ويعرض بهجاء المأمون، فيقول: لم تلده أمة تعرف في السوق التجارا لا ولا حد، ولا خان، ولا في الخزي جارا (2) يعرض بالمأمون، وأن أمه كانت أمة تباع، وتشرى في الاسواق. بل إن نفس الامين قد عير أخاه بأمه، فقال: وإذا تطاولت الرجال بفضلها * فاربع فانك لست بالمتطاول (1) الكامل لابن الاثير، طبع دار الكتاب العربي ج 5 ص 230، والامام الصادق والمذاهب الاربعة المجلد الثاني جزء 4 ص 493. (2) المعارف لابن قتيبة، طبع سنة 1300، والفخري في الآداب السلطانية ص 212. (*)
[ 159 ]
أعطاك ربك ما هويت وإنما * تلقى خلاف هواك عند " مراجل " تعلو المنابر كل يوم آملا * ما لست من بعدي إليه بواصل (1) وقد أقذع في هجائه، حين كتب إليه أيام الفتنة بينهما بقوله: يا بن التي بيعت بأبخس قيمة * بين الملا في السوق هل من زائد ما فيك موضع غرزة من إبرة * إلا وفيه نطفة من واحد فأجابه المأمون: وإنما أمهات الناس أوعية * مستودعات وللاما أكفاء فلرب معربة ليست بمنجبة * وطالما أنجبت في الخدر عجماء (2) وأخيرا. فإن خير ما يصور لنا الحالة المعنوية التي كان يعاني منها المأمون، هو قول دعبل مخاطبا له: إني من القوم الذين سيوفهم * قتلت أخاك، وشرفتك بمقعد شادوا بذكرك بعد طول خموله * واستنقذوك من الحضيض الاوهد (3) مركز الامين هو الاقوى: وبعد كل ما تقدم. فإن ما لابد لنا من الاشارة إليه هنا، هو: (1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 304. (2) غاية المرام في محاسن بغداد دار السلام للعمري الموصلي ص 121. (3) معاهد التنصيص ج 1 ص 202، ووفيات الاعيان، طبع سنة 1310 ه‍. ج 1 ص 179، وتاريخ الخلفاء ص 324، والشعر والشعراء ص 539، 540، والغدير ج 2 ص 376، والعقد والفريد، طبع دار الكتاب العربي ج 2 ص 196، وتاريخ التمدن الاسلامي، المجلد الثاني جزء 3 ص 115، وزهر الآداب طبع دار الجيل ج 1 ص 134، والكنى والالقاب ج 1 ص 331. (*)
[ 160 ]
قوة مركز الامين، بالنسبة إلى أخيه المأمون، حيث قد كان للامين حزب قوي جدا، وأنصار يستطيع أن يعتمد عليهم، يعملون من أجله، وفي سبيل تأمين السلطة له، وهم: أخواله، والفضل بن يحيى البرمكي، وأكثر البرامكة، إن لم يكن كلهم. وأمه: زبيدة، بل والعرب أيضا، كما سيأتي. وإذا ما عرفنا أن هؤلاء هم الذين كانوا يؤثرون على الرشيد كل التأثير، وكان لهم دور كبير في توجيه سياسة الدولة.. فلسوف نرى أنه كان من الطبيعي أن يضعف الرشيد أمام هذه القوة، وينصاع لها. ومن ثم.. لتؤثر مساعيها أثرها. وتعطي نتيجتها في الوقت المناسب، فيجعل ولاية العهد من بعده لولده الاصغر سنا، وهو الامين، ويترك الاكبر - المأمون - ليكون ولي العهد الثاني بعد الاصغر. ولعل تعصب بني هاشم. وجلالة عيسى بن جعفر قد لعبا دورا كبيرا في فوز الامين بالمركز الاول في ولاية عهد أبيه الرشيد (1). هذا عدا عن الدور الرئيسي. الذي لعبته " زبيدة " في تكريس الامر لصالح ولدها (2). فيحدثنا المؤرخون: أن عيسى بن جعفر بن المنصور، خال الامين جاء إلى الفضل بن يحيى، وهو متوجه إلى خراسان على رأس جيش، وقال له: " انشدك الله، لما عملت بالبيعة لابن أختي، فإنه ولدك، وخلافته لك، وإن أختي زبيدة تسألك ذلك.. فوعده الفضل أن يفعل، وعندما انتصر على الخارجين هناك. بايع هو ومن معه من القواد والجند لمحمد (3). (1) ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص 245، والاتحاف بحب الاشراف ص 96. (2) راجع تفصيل ذلك في: الطبري ج 10 ص 611، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 76، والكامل لابن الاثير ج 5 ص 88، وأشار إلى ذلك أيضا ابن خلدون في تاريخه ج 3 ص 218. (3) زهر الآداب طبع دار الجيل ج 2 ص 581. (*)
[ 161 ]
رغم أن المأمون كان أسن من الامين بستة أشهر، وعلى أقل الاقوال بشهر واحد. وأصبح الرشيد حينئذ أمام الامر الواقع، حيث إن الذي أقدم على هذا الامر، هو ذلك الرجل. الذي لا يمكن رد كلمته، والذي له من النفوذ والسلطان، والخدمات الجلى، والايادي البيضاء عليه، ما لا يمكن له، ولا لاحد غيره أن يجحده أو أن يتجاهله. ويلاحظ هنا: أن عيسى بن جعفر قد ذكر أن أخته زبيدة، تسأله أن يقدم على هذا الامر، وزبيدة التي تخطى باحترام كبير عند العباسيين، ولها نفوذ واسع، وتأثير كبير على الرشيد - زبيدة هذه - بهتم البرامكة جدا بأن تكون معهم، وإلى جانبهم، وذلك ليبقى لهم سلطانهم، ويدوم لهم حكمهم، الذي أشار إليه عيسى بقوله: " فانه ولدك، وخلافته لك " فإن في هذا القول دليلا واضحا للفضل على سلامة وصحة ما يقدم عليه بالنسبة لمصالحه هو، ومصالح البرامكة بشكل عام. وبالنسبة لدورهم في مستقبل الخلافة العباسية.. وهو في الحقيقة يشتمل على إغراء وترغيب واضح بالعمل لهذا الامر، وفي سبيله. كما أن قول عيسى الآنف الذك يلقي لنا ضوءا على الدور الذي لعبته زبيدة في مسألة البيعة لولدها بولاية العهد. فهو يشير إلى أنها كانت قد استخدمت نفوذها في اقناع رجال الدولة بتقديم ولدها. هذا بالاضافة إلى أنها كانت تحرض الرشيد على ذلك باستمرار (1)، حتى لقد صرح الرشيد نفسه بأنه: " لولا أم جعفر وميل بني هاشم لقدم عبد الله على محمد، كما أشرنا إليه ". قال محمد فريد وجدي مشيرا إلى أن الرشيد لم يكن يريد جرح عاطفة (1) النجوم الزاهرة ج 2 ص 81، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 290. (*)
[ 162 ]
زبيدة: " كانت ولاية الامين بعهد من أبيه، قدمه على إخوته لمكان والدته، وكان الاحق بالتقديم المأمون لعلمه وفضله وسنه.. " (1) وبعد. فإننا لا نستبعد أنها كانت بالاضافة إلى ذلك قد استخدمت أموالها، من أجل ضمان ولاية العهد لولدها الامين، ولعل مما يشير إلى ذلك قول الفضل بن سهل للمأمون: " وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها. ". وأخيرا. فإن من المحتمل جدا أن يكون الرشيد - بملاحظة الدور الذي كانت تلعبه الانساب في التفكير العربي - قد لاحظ سمو نسب الامين على المأمون، وكان لذلك أثر في تقديمه له عليه، وقد ألمح بعض المؤرخين إلى ذلك فقال: " وفيها (أي في سنة 176 ه‍) عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه الامين. إلى أن قال: وكان المأمون أسن من الامين بشهر واحد، غير أن الامين أمه زبيدة بنت جعفر هاشمية، والمأمون أمه أم ولد إسمها " مراجل " ماتت أيام نفاسها به. " (2). محاولات الرشيد لصالح المأمون: ومن كل ما تقدم يتضح لنا حقيقة موقف العباسيين، وأهل بيت المأمون، ورجال الدولة من المأمون.. ويظهر إلى أي حد كان مركز أخيه قويا، ونجمه عاليا، وأنه لم يكن له مثل ذلك الحظ الذي كان لاخيه الامين. (1) دائرة المعارف الاسلامية ج 1 ص 606. (2) النجوم الزاهرة ج 2 ص 84، وقريب منه ما في تاريخ الخلفاء للسيوطي. (*)
[ 163 ]
إلا أن أباه الرشيد، الذي كان يدرك حقيقة الموقف كل الادراك، قد حاول أن يضمن له نصيبه من الخلافة، فجعله ولي العهد بعد أخيه الامين، وكتب بذلك العهود والمواثيق، وأشهد عليها، وعلقها في جوف الكعبة، ولا نعلم خليفة، قبله ولا بعده فعل ذلك مع أولياء عهده، من أولاده أو من غيرهم، رغم أن غيره من الخلفاء قد أخذوا البيعة لاكثر من واحد بعدهم. كما أنه قد حاول بطرق شتى أن يشد من عضد المأمون، ويقوي مركزه في مقابل أخيه الامين، لانه كان يخاف منه على أخيه المأمون، فنراه يجدد أخذ البيعة للمأمون أكثر من مرة، ويوليه الحرب، ويولي أخاه السلم (1) ويهب المأمون كل ما في العسكر من كراع وسلاح. ويأمر الفضل بن الربيع، الذي كان يعرف أنه سوف يتآمر مع الامين - يأمره - بالبقاء مع المأمون في خراسان. إلى غير ذلك من مواقفة، التي لا نرى حاجة لتتبعها واستقصائها. مركز المأمون ظل في خطر: ولكن رغم كل محاولات الرشيد فقد ظل مركز المأمون في خطر والكل كان يشعر بذلك، وكيف لا يعرف الجميع ذلك. ولا يشعرون به، وهم يرون الامين يصرح بعد أن أعطى العهود والمواثيق، وحلف الايمان، بأنه: كان يضمر الخيانة لاخيه المأمون (2). لقد كان الكثيرون يرون بأن هذا الامر لا يتم، وأن الرشيد قد أسس العداء والفرقة بين أولاده، " وألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع (1) مروج الذهب ج 3 ص 353، والطبري حوادث سنة 186 ه‍. (2) الوزراء والكتاب ص 222. (*)
[ 164 ]
في ذلك مخوفة على الرعية " وقالت الشعراء في ذلك الشئ الكثير. ومن ذلك قول بعضهم: أقول لغمة في النفس مني * ودمع العين يطرد اطرادا خذي للهول عدته بحزم * ستلقي ما سيمنعك الرقادا فإنك إن بقيت رأيت أمرا * يطيل لك الكآبة والسهادا رأى الملك المهذب شر رأي * بقسمته الخلافة والبلادا رأى ما لو تعقبه بعلم * لبيض من مفارقه السوادا أراد به ليقطع عن بنيه * خلافهم ويبتذلوا الودادا فقد غرس العداوة غير آل * وأورث شمل الفتهم بدادا والقح بينهم حربا عوانا * وسلس لاجتنابهم القيادا فويل للرعية عن قليل * لقد أهدى لها الكرب الشدادا وألبسها بلاءا غير فان * وألزمها التضعضع والفسادا ستجري من دمائهم بحور * زواخر لا يرون لها نفادا فوزر بلائهم أبدا عليه * أغيا كان ذلك أم رشادا (1) والمأمون وحزبه كانوا يدركون ذلك: وبعد.. فإنه من الطبيعي جدا أن نرى أن المأمون وحزبه كانوا يدركون أن مركز المأمون كان في خطر، وأن الامين كان ينوي الخيانة لاخيه. ولقد رأينا الفضل بن سهل عندما عزم الرشيد على الذهاب إلى خراسان، وأمر المأمون بالمقام في بغداد - رأيناه - يقول للمأمون: " لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك، والامين مقدم عليك. وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك، وهو ابن زبيدة، وأخواله (1) الطبري حوادث سنة 186 ه‍. (*)
[ 165 ]
بنو هاشم، وزبيدة، وأموالها.. " (1). وتقدم أيضا قوله له: إن أهل بيته وبني أبيه، والعرب معادون له. والرشيد أيضا كان في قلق: بل لقد صرح الرشيد نفسه بأنه كان يخشى من الامين على المأمون، فإنه قال لزبيدة، عندما عاتبته على اعطائه الكراع والسلاح للمأمون: " إنا نتخوف ابنك على عبد الله، ولا نتخوف عبد الله على ابنك إن بويع. " (2). هذا بالاضافة إلى تصريحات الرشيد السابقة، والتي لا نرى حاجة إلى اعادتها. ولقد قال الرشيد، عندما بلغه ما يتهدد به محمد الامين: محمد لا تظلم أخاك فإنه * عليك يعود البغي إن كنت باغيا ولا تعجلن الدهر فيه فإنه * إذا مال بالاقوام لم يبق باقيا (3) ومهما يكن من أمر، فان الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها، هي أن الرشيد كان في قضية ولاية العهد مغلوبا على أمره، من مختلف الجهات. وكان يشعر أن ما أبرمه سوف يكون عرضة للانتقاض بين لحظة وأخرى، وكم كان يؤلمه شعوره هذا، ويحز في نفسه.. حتى لقد ترجم مشاعره هذه شعرا فقال: (1) تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 229، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 102، والكامل لابن الاثير، طبعة ثالثة ج 5 ص 127، والوزراء والكتاب ص 266. (2) مروج الذهب ج 3 ص 353. ولعله إنما فعل ذلك أيضا، من أجل أن يطيب خاطر المأمون، ويذهب ما في نفسه - وهو الافضل، والاكبر سنا من أخيه - من غل وحقد وضغينة.. (3) ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص 245، وفوات الوفيات ج 2 ص 269. (*)
[ 166 ]
لقد بان وجه الرأي لي غير أنني * غلبت على الامر الذي كان أحزما وكيف يرد الدر في الضرع بعدما * توزع حتى صار نهبا مقسما أخاف التواء الامر بعد استوائه * وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما (1) على من يعتمد المأمون ؟ وهكذا: وإذا كان أبوه قد استطاع أن يضمن له المركز الثاني بعد أخيه الامين، وإذا كان ذلك لا يكفي لان يجعل المأمون يطمئن إلى مستقبله في الحكم، وأن يأمن أخاه وبني أمية العباسيين، أن لا يحلوا العقدة، وينكثوا العهد، فهل يستطيع المأمون أن يعتمد على غيرهم، لو تعرض مركزه ووجوده لتهديد في وقت ما ؟ !. ومن هم أولئك الذين يستطيع أن يعتمد عليهم ؟ ! وكيف ؟.. وما هو موقفهم فعلا منه ؟ ! وكيف يستطيع أن يصل إلى الحكم، والسلطان ؟ ! ومن ثم.. كيف يستطيع أن يحتفظ به، ويقوي من دعائمه ؟ ! إن نظرة شاملة على الفئات الاخرى في تلك الفترة من الزمن، لكفيلة بأن تظهر لنا أنه لم يبق أمام المأمون غير العلويين، والعرب، والايرانيين. فما هو موقف هؤلاء منه، وأي الفئات تلك هي التي يستطيع أن يعتمد عليها ؟ وكيف يستطيع أن يغير ماجريات الامور لتكون في صالحه، وعلى وفق مراده ؟ !. هذا هو السؤال الذي لا بد للمأمون من أن يضع الحل والاجابة عليه، بكل دقة ووعي وإدراك. وأن يتحرك من ثم على وفق تلك الاجابة، (1) ابن بدرون أيضا ص 245، وزهر الاداب، طبع دار الجيل ج 2 ص 581، وفوات الوفيات ج 2 ص 269. (*)
[ 167 ]
وعلى مقتضى ذلك الحل.. ولنلق أولا نظرة سريعة على مواقف كل من هؤلاء من المأمون، ولنخلص من ثم إلى معرفة الفئة التي يستطيع المأمون أن يعتمد عليها في مواجهة الاخطار والتحديات، التي تنتظره، وتنتظر نظام حكمه، بصورة عامة.. فنقول: موقف العلويين من المأمون: أما العلويون.. فإنهم - بالطبع - لن يرضوا بالمأمون - كما لن يرضوا بغيره من العباسيين، خليفة وحاكما لان من بينهم من هو أجدر من كل العباسيين، وأحق بهذا الامر، ولان المأمون، وغيره، كانوا من تلك السلالة، التي لا يمكن أن تصفو لها قلوب آل علي، لانها قد فعلت بهم أكثر من فعل بني أمية معهم، كما تقدم.. فقد سفكت دماءهم، وسلبتهم أموالهم، وشردتهم عن ديارهم، وأذاقتهم شتى صنوف العذاب والاضطهاد. ويكفي المأمون عندهم: أنه ابن الرشيد، الذي حصد شجرة النبوة، واجتث غرس الامامة، والذي قد عرفت طرفا من سيرته السيئة معهم فيما تقدم من الفصول. موقف العرب من المأمون، ونظام حكمه: وأما العرب: فإنهم لا يرضون بالمأمون خليفة وحاكما أيضا، كما أشار إليه الفضل بن سهل فيما تقدم. أما أولا: فلان أمه، ومؤدبه، والقائم بأمره، غير عربيين. ولقد عانى العرب ما لله أعلم به، من تقديم أسلافه للموالي، حتى لم يعد لهم معهم أي شأن يذكر، وأصبح العربي أذل من نعجة، وأحقر من الحيوان. قال المسعودي: ". وكان (أي المنصور) أول خليفة استعمل
[ 168 ]
مواليه وغلمانه في أعماله، وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فامتثل ذلك الخلفاء من بعده، من ولده، فسقطت، وبادت العرب، وزالت رياستها، وذهبت مراتبها. " (1). وقال ابن حزم، وهو يتحدث عن العباسيين: ". فكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلبت عجم خراسان على الامر، وعاد الامر كسرويا، إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم. وافترقت في دولة بني العباس كلمة المسلمين (2). ". ويقول الجاحظ: ".. دولة بني العباس أعجمية، خراسانية، ودولة بني مروان عربية (3). ". إلى آخر ما هنالك، مما يدل على سقوط العرب في تلك الفترة، وامتهانهم، ويبدو أن ذلك من المسلمات. وقد استوفى الباحثون - ومنهم أحمد أمين، في الجزء الاول من ضحى الاسلام - البحث في هذا الموضوع، فمن أراد فليراجع مظان وجوده. وإذا ما عرفنا: أن من الطبيعي أن يكون ذهاب رئاسة العرب، وإبادتها، واضطهادها على يد الفرس، الذين كانوا هم أصحاب القدرة والسلطان آنذاك.. فلسوف نجد أن من الطبيعي أن يحقد العرب، الذين كانوا في وقت ما هم أصحاب الجبروت والقوة، على الفرس، وعلى كل من يتصل بهم. ويمت إليهم بسبب، من قريب أو من بعيد. (1) مروج الذهب، طبع بيروت ج 4 ص 223، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 24، وص 269، 270، وص 258، وفي طبيعة الدعوة العباسية ص 279، نقلا عن المقريزي في: السلوك لمعرفة دول الملوك ج 1 ص 14 مثل ذلك. وليراجع أيضا كتاب: مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص 23. (2) البيان المغرب، طبع صادر ص 71. (3) البيان والتبيين ج 3 ص 366. (*)
[ 169 ]
وأما ثانيا: فلسيرة أسلافه، وأبيه الرشيد بالخصوص، في الناس عامة، ومع أهل بيت نبيهم خاصة، والتي قدمنا شطرا منها في الفصول التي سبقت. أما الامين: فقد كان له - إلى حد ما - شافع عندهم، حيث إنه كان من أب وأم عربيين من جهة. وكان قد منحهم ثقته وحبه، وقربهم إليه، حتى كان وزيره الفضل بن الربيع منهم. من جهة ثانية، فتوسموا فيه أن يجعل لهم. وأن ينظر إليهم بغبر العين، التي كان أبوه وأسلافه ينظرون إليهم بها. أو على الاقل: سوف لا تكون نظرته إليهم. على حد نظرة المأمون نحوهم. وذلك ما يجعلهم يرجحونه - على الاقل - على أخيه المأمون، وإن كان المأمون أفضل، وأسن منه، فلقد كان عليهم أن يختاروا أهون الشرين، وأقل الضررين. حتى إن نصر بن شبث، الذي كان هواه مع العباسيين، لم يقم بثورته ضد المأمون، التي بدأت سنة 198 ه‍. واستمرت حتى سنة 210 ه‍. إلا انتصارا للعرب، ومحاماة عنهم، لان العباسيين كانوا يفضلون عليهم العجم، حسب تصريحات نصر بن شبث نفسه (1). وحتى في مصر أيضا، قد ثارت الفتن بين القيسية، المناصرة للامين، واليمانية المناصرة للمأمون.. وقال أحمد أمين: ". إن أغلب الفرس تعصب للمأمون، وأغلب العرب تعصبوا للامين.. " (2) كما أننا نكاد لا نشك في أن تعصب العرب للامين ليس إلا للسببين المتقدمين، الذين أشرنا إليهما، وأشار إلى أحدهما نصر بن شبث.. (1) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 104. (2) ضحى الاسلام ج 1 ص 43. (*)
[ 170 ]
ولكن فردينان توتل يرى في منجد الاعلام: أن تعصب العرب للامين يرجع إلى أن: " المأمون لم يستطع أن يجعل العرب يحبونه، حيث إنه كان يظهر ميلا للايرانيين، ويقربهم إليه. وقد أعانه الايرانيون في مبارزاته، وحروبه، وخصوصا الخراسانيين منهم. ". ولكن الذي يبدو لي هو أن تعصب العرب للامين لم يكن نتيجة تقريب المأمون للايرانيين، وتحببه للخراسانيين، وانما عكس ذلك هو الصحيح، فإن المأمون لم يتقرب من الخراسانيين إلا بعد أن فرغت يده من العرب وأهل بيته، والعلويين. لابد من اختيار خراسان: وبعد أن فرغت يد المأمون من بني أبيه، والبرامكة (1)، والعرب، والعلويين، اضطر أن يلتجئ إلى جهات أخرى لتمد له يد العون والمساعدة، وتكون سلما لاغراضه، واداة لتحقيق أهدافه ومآربه. ولم يبق أمامه غير خراسان، فاختارها، كما اختارها محمد بن علي العباسي من قبل. فأظهر لهم الميل الحب، وتقرب إليهم، وقربهم إليه، وأراهم: أنه محب لما ولمن يحبون، وكاره لما ولمن يكرهون. حتى إنه عندما علم منهم الميل إلى العلويين، والتشيع لهم، أظهر هو بدوره أنه محب للعلويين، ومتشيع لهم. كما أنه كان من جهة ثانية قطع لهم على نفسه الوعود والعهود، برفع (1) ذكرنا للبرامكة هنا ليس عفويا، فان محط نظرنا يشمل حتى الايام الاولى، التي فتح بها المأمون عينيه، وعرف واقعه، وأدرك الاخطار، التي تتهدده، وتتهدد مستقبله في الخلافة مع أخيه الامين، فلا يرد علينا: أن البرامكة قد نكبهم الرشيد قبل خلافة المأمون بزمان. مضافا إلى الدور الكبير الذي لعبه البرامكة في تقديم أخيه الامين عليه، حسبما قدمنا... (*)
[ 171 ]
الظلم والحيف عنهم، ورد عنهم الكيد، الامر الذي جعلهم يثقون به، ويطمئنون إليه، ويعلقون كل آمالهم عليه. تشيع الايرانيين: هذا. وليس تشيع (1) الايرانيين بالامر الذي يحتاج إلى اثبات، بعد أن تقدم معنا: أن دولة العباسيين ما قامت إلا على أساس الدعوة للعلويين، وأهل البيت. وبعد أن رأينا الخراسانيين يظهرون النياحة على " يحيى بن زيد " سبعة أيام، وكل مولود ولد في خراسان في سنة قتل يحيى سمي ب‍ " يحيى " (2). بل يذكر البلاذري: أنه لما استشار المنصور عيسى بن موسى في أمر محمد وابراهيم ابني عبد الله بن الحسن، فأشار عليه بأن يولي المدينة رجلا خراسانيا، قال له المنصور: " يا أبا موسى إن محبة آل أبي طالب في قلوب أهل خراسان ممتزجة بمحبتنا، وإن وليت أمرها رجلا من أهل خراسان حالت محبته لهما بينه وبين طلبهما، والفحص عنهما، ولكن أهل الشام قاتلوا عليا على أن لا يتأمر عليهم لبغضهم إياه الخ. " (3). وقد تقدم معنا: كيف وصف المؤرخون ما جرى في نيشابور، حين دخلها الامام الرضا، وسيأتي في فصل: خطة الامام، وصف ما جرى في مرو حينما خرج الامام ليصلي بالناس. ولقد عرفنا أيضا: كيف فرق الامام الرضا الناس عن المأمون. عندما أرادوا قتله، انتقاما للفضل بن سهل. (1) قد تقدم منا ما نقصده بكلمة " التشيع " في هذا الكتاب، فلا نعيد. (2) مروج الذهب ج 3 ص 213، وشرح ميمية أبي فراس ص 157، وليراجع أيضا نزهة الجليس ج 1 ص 316، فان فيه ما يشير إلى ذلك. (3) أنساب الاشراف للبلاذري ج 3 ص 115. (*)
[ 172 ]
بل لقد بلغ من حب الايرانيين لاهل البيت أن المأمون كان يخشى على نفسه أن يقتلوه، لو أنه أراد أن يرجع عن البيعة للامام الرضا بولاية العهد (1). ويقول جرجي زيدان: " وكان الخراسانيون، ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم، قبل قيام الدولة العباسية، من شيعة علي، وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لابي مسلم أو خوفا منه. " (2). وقال أحمد أمين: ".. إن الفرس يجري في عروقهم التشيع. " (3) ويقول الدكتور الشيبي: ".. إن الفرس قد عادوا إلى التشيع، بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولا، ثم المنصور، ثم الرشيد. " (4) ويقول أحمد شلبي: ". إنه ربما كان سبب أخذ المأمون للرضا العهد، هو أنه يريد أن يحقق آمال الخراسانيين، الذين كانوا إلى أولاد علي أميل. " (5) ما هو سر تشيع الايرانيين ؟ يقول السيد أمير علي، وهو يتحدث عن سر ارتباط الفرس بقضية بني فاطمة: ".. وقد أظهر الامام علي منذ بداية الدعوة الاسلامية (1) تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني، جزء 4 ص 440. (2) نفس المصدر والمجلد، والجزء ص 232، ولا يهمنا هنا مناقشة جرجي زيدان فيما حعله سببا لبيعتهم للعباسيين، ولعل ما قدمناه في فصل: قيام الدولة العباسية كاف في ذلك. (3) ضحى الاسلام ج 3 ص 295. (4) الصلة بين التصوف والتشيع ص 101. (5) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 107. (*)
[ 173 ]
كل تقدير، ومودة نحو الفرس، الذين اعتنقوا الاسلام، لقد كان سلمان الفارسي، وهو أحد مشاهير أصحاب الرسول، رفيق علي وصديقه. وكان من عادة الامام أن يخصص نصيبه " النقدي " في الانفال لافتداء الاسرى. وكثيرا ما أقنع الخليفة عمر بمشورته، فعمد إلى تخفيف عبء الرعية في فارس. وهكذا كان ولاء الفرس لاحفاده واضحا تمام الوضوح. " (1). ويرى فان فلوتن: ان من أسباب ميل الخراسانيين، وغيرهم من الايرانيين للعلويين، هو أنهم لم يعاملوا معاملة حسنة، ولا رأوا عدلا إلا في زمن حكم الامام علي (ع) (2). أما الاستاذ علي غفوري فيرى (3): أن الايرانيين كانوا قبل الاسلام يعاملون بمنطق: أن الناس قد خلقوا لخدمة الطبقة الحاكمة، وأن عليهم أن ينفذوا الاوامر من دون: كيف ؟ ولماذا ؟. فجاء الاسلام بتعاليمه الفطرية السهلة السمحاء، فاعتنقوه بكل رضى وأمل، وبدأ جهادهم في سبيل اقامة حكومة اسلامية حقيقية. وبما أن أولئك الذين تسلموا زمام الامور - باستثناء الامام علي طبعا - كانوا منحرفين [ المقصود هنا بالطبع هو خلفاء الامويين ] عن الاسلام، وتعاليمه، ويحاولون تلبيس عاداتهم الجاهلية، حتى التمييز القبلي، والعرقي بلباس الاسلام. واعطائها صفة القانونية والشرعية. فان الايرانيين لم يجدوا أهداف الاسلام، وتعاليمه في تلك الحكومات، ولهذا كان من الطبيعي أن يتوجهوا إلى علي، والائمة من ولده، الذين تعدى الآخرون على حقوقهم بالخلافة، والذين كان سلوكهم المثالي هو (1) روح الاسلام ص 306. (2) السيادة العربية والشيعة والاسرائيليات. (3) يادبود هشتمين امام " فارسي ". (*)
[ 174 ]
المرآة الصافية، التي تنعكس عليها تعاليم الاسلام وأهدافه، ويمثلون الصورة الحقيقية للاسلام على مدى التاريخ. وكان صدى علمهم، وزهدهم، واستقامتهم يطبق الخافقين، وخصوصا الصادق والرضا، الذي اهتبل الفرصة إبان الخلاف بين الامين والمأمون لنشر تعاليم الاسلام. وتعريف الناس على الحقائق، التي شاء الآخرون أن لا يعرفها أحد. لكن لم يكن يروق للقوى الحاكمة، أن تظهر تلك الوجوه الطاهرة على الصعيد العام، وتتعرف عليها الامة الاسلامية، وعلى فضائلها، وكمالاتها، لان الناس حينئذ سوف يدركون الواقع المزري لاولئك الحكام، والمنزلفين لهم. والذين كانوا يتحكمون بمقدرات الامة، وامكاناتها، وإذا أدركوا ذلك فان من الطبيعي أن لا يترددوا في تأييد الائمة، ومساعدة أية نهضة، أو ثورة من قبلهم. ولهذا فقد جهد الحكام في أن يزووهم ويبعدوهم ما أمكنهم عن الناس، ووضعوهم تحت الرقابة الشديدة، وفي أحيان كثيرة في غياهب السجون. حتى إذا ما سنحت لهم فرصة، تخلصوا منهم بالطريقة التي كانوا يرون أنها لا تثير الكثير من الشكوك والظنون. عودة على بدء: وعلى كل حال.. فان ما يهمنا هنا هو مجرد الاشارة إلى تشيع الايرانيين، الذي حاول المأمون أن يستغله لمصالحه وأهدافه. حيث قد أثمرت وعود المأمون للخراسانيين، وتحببه لهم. وتقربه منهم، وتظاهره بالحب لعلي (ع) وذريته، الثمار المرجوة منها، لان الخراسانيين كانوا يريدون التخلص من أولئك الحكام الذين انقلبوا عليهم يقتلون. ويضطهدون كل من عرفوه مواليا لاهل البيت محبا لهم، ابتداء من المنصور، بل السفاح. وانتهاء بالرشيد، الذي لم يستطع يحيى بن خالد البرمكي أن
[ 175 ]
يسمع لعلوي ذكرا في خراسان في زمانه. رغم أنه جهد كل الجهد من أجل ذلك. وفي سبيله، حسبما تقدم. كما أنهم - أعني الخراسانيين - قد توسموا في المأمون أن يكون المنقذ لهم من أولئك الولاة، الذين ساموهم شتى ضروب العسف، والظلم والعذاب. والذين لم يكن بهمهم غير مصالحهم، وارضاء شهواتهم وملذاتهم، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للتأريخ. وقد وثقوا إلى حد ما بوعود المأمون تلك، التي كان يغدقها عليهم، وعلى غيرهم بدون حساب، وأمنوا جانبه، فكانوا جنده، وقواده، ووزراءه المخلصين، الذين اخضعوا له البلاد، وأذلو له العباد، وبسطوا نفوذه وسلطانه على كثير من الولايات والامصار، التي كان يطمح إلى الوصول إليها، والسيطرة عليها. كيف يثق العرب بالمأمون ؟ ! وهكذا إذن.. يتضح أن ميل المأمون للايرانيين ما كان إلا دهاء منه وسياسة، استغلها المأمون أحسن ما يكون الاستغلال، حتى استطاع أن يصل إلى الحكم، ويتربع على عرش الخلافة، بعد أن قتل أخاه العزيز على العباسيين والعرب، وقضى على اشياعه بسيوف غير العرب، وذلك ذنب آخر لن يسهل على العرب الاغضاء عنه أو غفرانه. ثم ولى على بغداد رجلا غير عربي، هو الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، الذي تكرهه بغداد والعرب كل الكره.. ثم إنه بعد هذا كله جعل مقر حكمه مروا الفارسية، وليس بغداد العاصمة العربية الاولى التي خربها ودمرها.. وكان ذلك من شأنه أن يثير المخاوف لدى العرب في أن تتحول الامبراطورية العربية إلى امبراطورية
[ 176 ]
فارسية، وخصوصا إذا لاحظنا: أن الفرس هم الذين أوصلوا المأمون إلى الحكم.. وقد اثبتوا جدارتهم، وأهليتهم في مختلف المجالات، وخصوصا السياسة، وشؤون الحكم. قتل الامين وخيبة الامل: وإن قتل الامين، وإن كان يمثل - في ظاهره - انتصارا عسكريا للمأمون إلا أنه كان في الحقيقة ذا نتائج سلبية وعكسية بالنسبة للمأمون، وأهدافه، ومخططاته.. سيما بملاحظة الاساليب التي اتبعها المأمون للتشفي من أخيه الامين، الذي كان قد أصدر الامر لطاهر بالامس بأن يقتله (1). حيث رأيناه قد أعطى الذي جاءه برأس أخيه - بعد أن سجد لله شكرا ! - ألف ألف " أي مليون " درهم (2). ثم أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه، فكان الرجل يقبض، ويلعن الرأس، ولم ينزله حتى جاء رجل فلعن الرأس، ولعن والديه، وما ولدا، وأدخلهم في " كذا وكذا " من أمهاتهم، وذلك بحيث يسمعه المأمون، فتبسم، وتغافل، وأمر بحط الرأس (3) !. ويا ليته اكتفى بكل ذلك.. بل إنه بعد أن طيف برأس الامين بخراسان (4) (1) لقد نص الاستاذ علي غفوري في كتابه الفارسي " يادبود هشتمين إمام " ص 29 على أن المأمون: " لم يرض بقتل الامين فحسب، بل أنه هو الذي أمر بقتله.. ". (2) فوات الوفيات ج 2 ص 269، والطبري، طبع دار القاموس الحديث ج 10 ص 202، والبداية والنهاية ج 10 ص 243، وحياة الحيوان ج 1 ص 72، وتجارب الامم المطبوع مع العيون والحدايق ج 6 ص 416. (3) مروج الذهب ج 3 ص 414، وتتمة المنتهى ص 186 والموفقيات ص 140. (4) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 298. (*)
[ 177 ]
أرسل إلى ابراهيم بن المهدي يعنفه ويلومه على أنه أسف على قتل الامين، ورثاه (1) ! فماذا ننتظر بعد هذا كله، وبعد ما قدمناه: أن يكون موقف العباسيين. والعرب، بل وسائر الناس منه.. إن أيسر ما نستطيع أن نقوله هنا: أنه كان لقتله أخاه، وفعاله الشائنة تلك.. أثر سئ على سمعته، ومن أسباب زعزعة ثقة الناس، به، وتأكيد نفورهم منه، سواء في ذلك العرب، أو غيرهم. وقد استمر ذلك الاثر أعواما كثيرة، حتى بعد أن هدأت ثائرة الناس، ورجع إلى بغداد. فقد جلس مرة يستاك على دجلة، من وراء ستر، فمر ملاح، وهو يقول: " أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني، وقد قتل أخاه ؟ ! ". قال: فسمعه المأمون، فما زاد على أن تبسم، وقال لجلسائه: " ما الحيلة عندكم. حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل. " (2). وقال له الفضل بن سهل، عندما عزم على الذهاب إلى بغداد: " ما هذا بصواب، قتلت بالامس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك، وأهل بيتك والعرب.. إلى أن قال: والرأي، (1) البداية والنهاية ج 10 ص 443. (2) تاريخ بغداد ج 10 ص 189، والبداية والنهاية ج 10 ص 277، وتاريخ الخلفاء ص 320، وروض الاخيار في منتخب ربيع الابرار ص 186، وفوات الوفيات ج 1 ص 240. (*)
[ 178 ]
أن تقيم بخراسان، حتى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسوا ما كان من أمر أخيك.. " (1). المأمون في الحكم: وإذا ما أردنا أن نعطف نظرنا على ناحية أخرى في سياسة النظام المأموني، فإننا سوف نرى أنه لم يكن موفقا في سياسته مع الناس، سواء في ذلك العرب أو الايرانيون، بالاخص أهل خراسان، حيث لم يحاول أن يتجنب سياسة الظلم والعسف والاضطهاد، التي كان يمارسها أسلافه مع الرعية. بل لعله زاد عليهم، وسبقهم أشواطا بعيدة في ذلك، أما سياسته مع العرب: فالمأمون، وان استطاع أن يصل إلى الحكم إلا أنه فشل في مهمة الفوز بثقة العرب، خصوصا إذا لاحظنا بالاضافة إلى ما قدمناه تحت عنوان " كيف يثق العرب بالمأمون ". ما نالهم منه، ومن عماله، من صنوف العسف والظلم - عدا عما فعلته فيهم تلك الحروب الطاحنة، التي شنها ضد أخيه الامين - فان ذلك يفوق كل وصف، ويتجاوز كل تقدير، (1) البحار ج 49 ص 166، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 85، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 138، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 160، هذا.. وتجدر الاشارة هنا: إلى أن بعض المحققين يرى: أن قتل الاخ في سبيل الملك، لم يكن من الامور التي يهتم لها الناس كثيرا في تلك الفترة، سيما إذا كان المقتول هو المعتدي أولا، والامين هنا هو المعتدي على المأمون، بخلعه أولا، ثم بارساله جيشا إلى إيران لمحاربته، والذي هزم على يد طاهر بن الحسين، ولكننا مع ذلك.. لا نزال نصر على رأينا في هذا المجال، سيما وأننا نرى في النصوص التاريخية ما يدعم هذا الرأي ويقويه. (*)
[ 179 ]
حتى لقد وصف: " ديونيسيوس " جباة الخراج في العراق في سنة (200 ه‍.) بأنهم: " قوم من العراق، والبصرة. والعاقولاء، وهم عتاة، ليس في قلوبهم رحمة، ولا إيمان، شر من الافاعي، يضربون الناس، ويحبسونهم. ويعلقون الرجل البدين من ذراع واحد، حتى يكاد يموت " (1). والايرانيون أيضا لم يكونوا أحسن حالا: ولم يكن حالا الايرانيين من هذه الجهة بأفضل من حال أهل العراق. ويذكر الجاحظ: أن المأمون ولى محمود بن عبد الكريم التضيف " فتحامل على الناس، واستعمل فيهم الاحقاد والدمن، فخفض الارزاق، وأسقط الخواص، وبعث في الكور، وأنحى على أهل الشرف والبيوتات، حسدا لهم، وإشفاء لغليل صاحبه منهم، فقصد لهم بالمكروه والتعنت فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء، وتركوا أسماءهم، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان، فسقط بذلك السبب بشر كثير.. " (2). يقول الجنرال جلوب وهو يتحدث عن المأمون ".. وراح يلقي خطبته الاولى في الناس، فيعدهم بأن يكون حكمه فيهم طبقا للشرع، وأن يكرس نفسه لخدمة الله وحده. وقد أثارت هذه الوعود التقية حماسة عند الناس. وكانت من أهم أسباب انتصاره. لكن هذه الوعود ما لبثت أن تحولت إلى فجيعة نزلت بالناس، إذ أن الخليفة ما لبث أن نسيها. " (3) (1) الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، لآدم متز ج 1 ص 232. (2) رسائل الجاحظ ج 2 ص 207 - 208. (3) امبراطورية العرب، ترجمة، وتعليق خيري حماد ص 570. (*)
[ 180 ]
ويكفي أن نشير هنا إلى المجاعة التي أصابت أهل خراسان، والري. وأصبهان، وعز الطعام، ووقع الموت، وذلك في سنة 201 للهجرة.. المأمون مع الرعية عموما: وعن حالة المأمون العامة مع الناس يقول فان فلوتن: ". ولم يكن جور النظام العباسي وعسفه، منذ قيام الدولة العباسية بأقل من النظام الاموي المختل، وتذكرنا شراهة المنصور، والرشيد، والمأمون، وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى، وعبثهم بأموال المسلمين بزمن الحجاج، وهشام، ويوسف بن عمر الثقفي. ولدينا البراهين الكثيرة على فجيعة الناس في هذا العرش الجديد، ومقدار انخداعهم به.. "، ثم يضرب أمثلة من الخارجين على سياسات العباسيين تلك. ثم يقول: ".. كل ذلك يبين أن ما كان يشكو منه المسلمون من الجور والعسف لم يزل على ما كان عليه في عهد بني أمية الاول.. " (1). قال ابن الجراح: إن ابراهيم بن المهدي كان: " يرمي المأمون بأمه (2)، وإخوته، وأخواته، ومن أيسر ذلك قوله: صد عن توبة وعن إخبات * ولها بالمجون والقينات ما يبالي إذا خلا بأبي عي‍ * سى وسرب من بدن أخوات أن يغص المظلوم في حومة الجو * ر بداء بين الحشا واللهاة (3) (1) السيادة والعربية والشيعة والاسرائيليات ص 132. (2) ولكن امه كانت قد ماتت أيام نفاسها به ! !. ولعله يريد أن امه كانت متهمة، فكان يعير بها.. (3) الورقة، لابن الجراح ص 21، ولا بأس بمراجعة كتاب: أشعار أولاد الخلفاء. (*)
[ 181 ]
وما يهمنا هنا هو البيت الاخير، أما ما قبله، فلا نملك إلا أن نقول: " أهل البيت أدرى بالذي فيه.. ". وعلى كل حال. فإننا لا نستغرب على المأمون صفة الظلم والعسف والجور. بعد أن رأينا أنه عندما عرضت عليه سيرة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (ع) يأبى أن يأخذ بها جميعا، لانه كان يجد في آخر كل منها: أنهم كانوا يأخذون الاموال من وجوهها، ويضعونها في حقوقها. لكنه قبل سيرة معاوية، الذي أراد الاعلان ببراءة الذمة ممن يذكره بخير، لان في آخرها يقول: إنه كان يأخذ الاموال من وجوهها، ويضعها كيف شاء..، وقال المأمون حينئذ: " إن كان فهذا (1) " ! وفي رسالة عبد الله بن موسى للمأمون نفسه ما فيه الكفاية فلتراجع في أواخر هذا الكتاب. وماذا بعد الوصول إلى الحكم: وهكذا.. فإن المأمون كان يحسب أنه إذا قتل أخاه، وتخلص من من أشياعه ومساعديه، وبعد أن توتي الحملة الدعائية ضدهم ثمارها - كان يحسب ويقدر - أن الطريق يكون قد مهد له للاستقرار في الحكم، وأنه سوف يستطيع بعد هذا أن يطمئن، وينام قرير العين. ولكن فأله قد خاب، وانقلبت ماجريات الامور في غير صالحه، فإن الايرانيين قد: " انفضوا بعد الحرب الاهلية المفجعة بين الامين والمأمون، عن (1) المحاسن والمساوي للبيهقي ص 495. (*)
[ 182 ]
تأييد العباسيين. " (1). انفضوا عنه ليمنحوا العلويين عطفهم ومحبتهم، وتأييدهم، لانهم يعرفون أنهم هم الذين يقيمون العدل، ويعملون بشريعة الله - وما موقف نيسابور، وصلاتي العيد، إلا الدليل الواضح والقاطع على تلك العاطفة، وذلك الحب والتقدير. وأيضا انفضوا عنه لانه قد كشف لهم عن وجهه الحقيقي، وعرفهم بواقعه الاناني البشع، وخصوصا بعد أن عانوا ما عانوا هم وغيرهم من صنوف الظلم والجور والاضطهاد، في ظل نظام الحكم الذي طالما عملوا من أجله، وضحوا في سبيله. وحتى لو أنهم كانوا لا يزالون على تأييدهم له، فإنه لا يستطيع بعد هذا أن يعتمد على ذلك التأييد، وعلى ثقتهم به طويلا، فإنه كان من السهل - بعد أن فعل بأخيه وأشياعه، وغيرهم. ما فعل - أن يكتشفوا أن ذلك منه ما كان إلا سياسة ودهاء. كما أنه أصبح من الصعب عليهم - بعد تجربتهم الاولى معه، ومع وعوده، التي ما أسرع ما نسيها - أن يقتنعوا منه بالاقوال التي لا تدعمها الافعال، ولسوف لا يطمئنون إليه، ولن يتفادوا له - بعد هذا - بالسهولة التي كان يتوقعها. الموقف الصعب: كانت تلك لمحة خاطفة عن موقف العباسيين، والعرب تجاه المأمون. ذلك الموقف، الذي كان يزداد حساسية وتعقيدا، يوما عن يوم. أضف إلى ذلك أيضا الخطر الذي كان يكمن في موقف الخراسانيين، الذين رفعوا المأمون على العرش، وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان.. وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله، موقف العلويين، الذين اغتنموا فرصة (1) امبراطورية العرب ص 649. (*)
[ 183 ]
الصدام بينه وبين أخيه، لتجميع صفوفهم، ومضاعفة نشاطاتهم، فلسوف تكتمل أمامنا ملامح الصورة لحقيقة الوضع والظروف، التي كان يعاني منها المأمون، ونظام حكمه آنذاك.. سيما ونحن نراه في مواجهة تلك الثورات العارمة، وبالاخص ثورات العلويين أقوى خصوم الدولة العباسية، والتي كانت تظهر من جانب ومكان، وكل ناحية من نواحي مملكته. ثورات العلويين. وغيرهم: فأبو السرايا - الذي كان يوما ما من حزب المأمون (1) - خرج بالكوفة. وكان هو وأتباعه لا يلقون جيشا إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها (2). ويقال: إنه قد قتل من أصحاب السلطان، في حرب أبي السرايا فقط، مئتا ألف رجل، مع أن مدته من يوم خروجه إلى يوم ضربت عنقه لم تزد على العشرة أشهر (3). وحتى البصرة، معقل العثمانية (4)، قد أيدت العلويين، ونصرتهم، (1) ففي الطبري ج 10 ص 236، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 245، والكامل لابن الاثير ج 5 ص 179، طبعة ثالثة: أن المأمون قال لهرثمة: " مالات أهل الكوفة، والعلويين، وداهنت، ودسست إلى أبي السرايا، حتى خرج، وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك إلخ. " واتهام هرثمة بهذا مهم فيما نحن فيه أيضا. (2) ضحى الاسلام ج 3 ص 294، ومقاتل الطالبيين ص 535. (3) مقاتل الطالبيين ص 550، والبداية والنهاية ج 10 ص 345. (4) الصلة بين التصوف والتشيع ص 173، وسيأتي كلام محمد بن علي العباسي. المتعلق بهذا الموضوع، عن قريب.. (*)
[ 184 ]
فقد خرج فيها زيد النار (1)، ومعه علي بن محمد، كما خرج منها من قبل على المنصور ابراهيم بن عبد الله.. وفي مكة، ونواحي الحجاز: خرج محمد بن جعفر، الذي كان يلقب ب‍ " الديباج " وتسمى ب‍ " أمير المؤمنين " (2). وفي اليمن: ابراهيم بن موسى بن جعفر.. وفي المدينة: خرج محمد بن سليمان بن داوود، بن الحسن بن الحسين، ابن علي بن أبي طالب. وفي واسط: التي كان قسم كبير منها يميل إلى العمانية - خرج جعفر ابن محمد، بن زيد بن علي. والحسين بن ابراهيم، بن الحسن بن علي. وفي المدائن: محمد بن اسماعيل بن محمد.. بل إنك قد لا تجد قطرا، إلا وفيه علوي يمني نفسه، أو يمنيه الناس بالثورة ضد العباسيين - حسبما نص عليه بعض المؤرخين - حتى لقد اتجه أهل الجزيرة، والشام، المعروفة بتعاطفها مع الامويين، (1) سمي بذلك. لانه حرق دور العباسيين في البصرة بالنار، وكان إذا اتي برجل من المسودة، أحرقه بثيابه.. على ما ذكره الطبري ج 11 ص 986، طبع ليدن، والكامل لابن الاثير ج 5 ص 177، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 244، والبداية والنهاية ج 10 ص 346. وفي الروايات أن الرضا عليه السلام أظهر الاستياء من فعل أخيه زيد. ولعل سبب ذلك أنه بالاضافة إلى أنه أقدم في ثورته على أعمال تنافي أحكام الدين، وتضر إضرارا بالغا بقضية العلويين العادلة.. كان يمالئ الزيدية،.. أو لانه أراد إبعاد شر المأمون عن زيد، وابعاد التهمة عن نفسه، بأنه هو المدبر لامر أخيه. (2) وليس في العلويين - باستثناء الامام علي (ع) طبعا - قبله، ولا بعده، من تسمى ب‍ " أمير المؤمنين " غيره، كما في مروج الذهب ج 3 ص 439. و " الديباجة " لقب لاكثر من واحد من العلويين.. (*)
[ 185 ]
وآل مروان.. إلى محمد بن محمد العلوي، صاحب أبي السرايا، فكتبوا إليه: أنهم ينتظرون أن يوجه إليهم رسولا، ليسمعوا له، ويطيعوا (1).. وأما ثورات غير العلويين، فكثيرة أيضا، وقد كان من بينها ما يدعو إلى: " الرضا من آل محمد "، كثورة الحسن الهرش سنة 198 (2) ه‍. وسواها ولا مجال لنا هنا للتعرض إليها. ومن أرادها فعليه بمراجعة الكتب التاريخية المتعرضة لها (3). الزعيم العباسي الاول يعترف: هذا مع أن أكثر تلك الاقطار لم تكن تؤيد العلويين، ولا تدين لهم بالولاء باعتراف الزعيم العباسي الاول: محمد بن علي بن عبد الله، والد ابراهيم الامام، حيث قال لدعاته: ".. أما الكوفة وسوادها: فهناك شيعة علي، وولده. وأما البصرة، وسوادها: فعثمانية، تدين بالكف. وأما الجزيرة: فحرورية مارقة، (1) مقاتل الطالبيين ص 534.. راجع في بيان ثورات العلويين: البداية والنهاية ج 10 ص 244، إلى ص 247، واليعقوبي ج 3 ص 173، 174، ومروج الذهب ج 3 ص 439، 440، ومقاتل الطالبيين، والطبري. وابن الاثير، وأي كتاب تاريخي شئت، لترى كيف أن الثورات في الفترة الاولى من عهد المأمون، قد عمت جميع الاقطار والامصار.. (2) البداية والنهاية ج 10 ص 244، والطبري ج 11 ص 975، طبع ليدن. (3) وقد تغلب حاتم بن هرثمة على أرمينية، وكان هو السبب في خروج بابك الخرمي. وتغلب نصر بن شبث على كيسوم، وسمسياط، وما جاورها، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي، وكثرت جموعه، ولم يستسلم إلا في سنة 207 ه‍. وهناك أيضا حركات الزط. وثورة بابك. وثورة المصريين التي كانت بين القيسية المناصرة للامين واليمانية المناصرة للمأمون. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه.. (*)
[ 186 ]
وأعراب كأعلاج، ومسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى. وأما الشام: فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان، عداوة راسخة، وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة: فغلب عليهما أبو بكر، وعمر، ولكن عليكم بأهل خراسان الخ.. " (1). ونقل عن الاصمعي أيضا كلام قريب من هذا (2). دلالة هامة: ومن بعض ما قدمناه في الفصول المتقدمة، سيما فصل: موقف العباسيين من العلويين، وأيضا مما ذكرناه هنا نستطيع أن نستكشف أن حق العلويين بالخلافة والحكم، قد أصبح من الامور المسلمة لدى الناس، في القرن الثاني، الذي يعد من خير القرون.. حيث لم تكن عقيدة عامة الناس قد استقرت بعد على هذه العقيدة المتداولة لدى أهل السنة اليوم، والتي أشرنا إلى أنها العقيدة التي وضع أسسها معاوية.. وعليه. فما يدعيه أهل السنة اليوم من أن عقيدتهم في الخلافة قد وصلت إليهم يدا بيد، إلى عصر النبي صلى الله عليه وآله غير صحيح على الاطلاق، بل إن الشيخ محمد عبده يرى: ان رسوخ عقيدة: " ان حق الخلافة لاهل البيت، وشيوع ذلك في العرب خاصة ". هو الذي دعا المعتصم إلى تشييد ملكه على الترك، وغيرهم من العجم، يقول الشيخ محمد عبده: " كان الاسلام دينا عربيا، ثم لحقه العلم فصار علما عربيا، بعد أن كان (1) البلدان للهمداني ج 2 ص 352، وأحسن التقاسيم للمقدسي ص 293، وعيون الاخبار لابن قتيبة ج 1 ص 204، والسيادة العربية، والشيعة والاسرائيليات ص 93، ولا بأس بمراجعة: الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج 1 ص 102، (2) روض الاخيار، المنتخب من ربيع الابرار ص 67، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج 6، ص 248. (*)
[ 187 ]
يونانيا، ثم أخطأ خليفة في السياسة، فاتخذ من سعة الاسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيرا: ظن أن الجيش العربي قد يكون عونا لخليفة علوي، لان العلوي الصق ببيت النبي صلى الله عليه وآله، فأراد أن يتخذ له جيشا أجنبيا من الترك والديلم وغيرهم من الامم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها باحسانه، فلا تساعد الخارج عليه، ولا تعين طالب مكانه من الملك.. " (1). عودة على بدء: وعلى كل حال.. فإننا إذا أردنا تقييم تلك الثورات، التي كانت تواجه الحكم العباسي، فإننا سوف نجد: أن ما كان يكمن فيه الخطر الحقيقي هو ثورات العلويين، لانها كانت تظهر في مناطق حساسة جدا. في الدولة، ولانها كانت بقيادة أولئك الذين يمتلكون من قوة الحجة، والجدارة الحقيقية، ما ليس لبني العباس فيه أدنى نصيب.. وكان في تأييد الناس لهم. واستجابتهم السريعة لدعوتهم دلالة واضحة على شعور الامة. بمختلف طبقاتها، وفئاتها تجاه حكم العباسيين، ونوعية تفكيرها تجاه خلافتهم، وعلى مدى الغضب الذي كان يستبد بالنفوس، نتيجة استهتار العباسيين، وظلمهم، وسياساتهم الرعناء، مع الناس عامة. ومع العلويين بشكل خاص. وقد كان المأمون يعلم أكثر من أي شخص آخر، كم سوف يكون حجم الكارثة، لو تحرك الامام الرضا - الذي اهتبل فرصة الحرب بينه وبين أخيه، لتحكيم مركزه، وبسط نفوذه ضد الحكم القائم.. (1) الاسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده. (*)
[ 188 ]
الناس لم يبايعوا المأمون كلهم بعد: وبعد كل ما تقدم.. فإن من الاهمية بمكان، أن نشير هنا، إلى أن العلويين، وقسما كبيرا من الناس، بل وعامة المسلمين، لم يكونوا قد بايعوا المأمون أصلا: فأما أهل بغداد، فحالهم في الخلاف عليه أشهر من أن يذكر، وقد قدمنا في أول هذا الفصل عبارته في رسالته، التي كان قد أرسلها للعباسيين في بغداد.. وأما أهل الكوفة - التي كانت دائما شيعة علي وولده - فلم يبايعوا له، بل بقوا على الخلاف عليه، إلى أن ذهب أخو الامام الرضا (ع) ! ! العباس بن موسى، يدعوهم، فقعدوا عنه، ولم يجبه إلا البعض منهم، وقالوا: " إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لاخيك. فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك، أجبناك. " (1). ويلاحظ هنا: كيف قد اختير رجل علوي، وأخو الامام الرضا (ع) بالذات، ليرسل إلى الكوفة، المعروفة بالتشيع للعلويين.. ويلاحظ أيضا: أن رفضهم الاستجابة له، إنما كان لاجل أن الدعوة تتضمن الدعوة للمأمون العباسي. وأما أهل المدينة، ومكة، والبصرة، وسائر المناطق الحساسة في (1) الكامل لابن الاثير ج 5 ص 190، وتجارب الامم ج 6 المطبوع مع العيون والحدائق ص 439، وفي تاريخ الطبري ج 11 ص 1020، طبع ليدن، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 248: أنه قد أجابه قوم كثير منهم، ولكن قعد عنه الشيعة وآخرون.. لكن ظاهر حال الكوفة التي كانت دائما شيعة علي وولده هو أن المجيبين له كانوا قلة. كما ذكر ابن الاثير. (*)
[ 189 ]
الدولة، فقد تقدم ما يدل على حقيقة موقفهم منه، ومن نظام حكمه. وقد كتب المأمون نفسه بخط يده، في وثيقة العهد للامام يقول: ".. ودعا أمير المؤمنين ولده، وأهل بيته، وقواده، وخدمه، فبايعوا مسارعين.. إلى أن قال: فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة، من قواده، وجنده، وعامة المسلمين لامير المؤمنين، وللرضا من بعده، علي بن موسى.. " والوثيقة مذكورة في أواخر هذا الكتاب. فقوله: " لامير المؤمنين، وللرضا من بعده. " يدل دلالة واضحة على أن عامة المسلمين ما كانوا قد بايعوا بعد: " لامير المؤمنين "، فضلا عن: " أهل المدينة المحروسة.. ". وحتى لو أنهم كانوا قد بايعوا له، فان بيعتهم هذه، وجودها كعدمها، إذ أن عصيانهم، وتمردهم عليه، وعلى حكمه، لم يكن ليخفى على أحد.. بعدما قدمناه من ثوراتهم تلك. التي كانت تظهر من كل جانب ومكان. وكان كلما قضى على واحدة منها تظهر أخرى داعية لما كانت تدعو إليه تلك، أي إلى: " الرضا من آل محمد "، أو إلى أحد العلويين، الذين يشاهد المأمون عن كثب قدرتهم، وقوتهم، ونفوذهم الذي كان يتزايد باستمرار يوما عن يوم.. ولم تستقم له في الحقيقة سوى خراسان. نعم بعد أن عاد إلى بغداد، وكان قد قوي أمره، واتسع نفوذه، بدأ الناس يبايعونه في الاقطار، ويتعللون بأن امتناعهم إنما كان ظاهريا، وأنهم كانوا في السر معه، وعلى ولائه، على ما صرح به اليعقوبي في تاريخه.
[ 190 ]
المأمون يدرك حراجة الموقف: تلك هي باختصار حالة الحكم العباسي بشكل عام. وحالة المأمون، وظروفه في الحكم بشكل خاص.. في تلك الفترة من الزمن.. وقد اتضح لنا بجلاء: أن الوضع كان بالنسبة إلى المأمون، ونظام حكمه، قد ازداد سوءا، بعد وصول المأمون إلى الحكم، وتضاعفت الاخطار، التي كان يواجهها، وأصبح - هو وعرشه - في مهب الريح. وتحت رحمة الانواء.. وإذا كان ليس من الصعب علينا: أن نتصور مدى الخطر الذي كان يتهدد المأمون، وخلافته، وبالتالي مستقبل الخلافة العباسية بشكل عام.. فإنه من الطبيعي أن لا يكون من الصعب على المأمون أفعى الدهاء والسياسة أن يدرك - بعمق، إلى أي حد كان مركزه ضعيفا، وموقفه حرجا، حيث إنه هو الذي كان يعيش - أكثر من أي إنسان آخر - في ذلك الخضم الزاخر بالمشاكل، والمتاعب، والاخطار. وخصوصا وهو يواجه الثورات. وبالاخص ثورات العلويين، أقوى خصوم الدولة العباسية، تظهر من كل جانب ومكان، وكل ناحية من نواحي مملكته. كما أنه لم يكن ليصعب عليه أن يدرك أن الكثير من المشاكل التي يعاني منها إنما كان نتيجة السياسات الرعناء. التي انتهجها اسلافه، مع الناس عامة، ومع العلويين خاصة. وأن يدرك أن الاستمرار في تلك السياسة. أو حتى مجرد الاهمام، والتواني في علاج الوضع، سوف يكون من ابسط نتائجه أن تلقى خلافة العباسيين على ايدي العلويين نفس المصير الذي لقيته خلافة الامويين على أيدي أسلافه من قبل.. ماذا يمكن للمأمون أن يفعل: ولكن.. وبعد أن نجح المأمون في الوصول إلى ما كان يتمناه، وهو
[ 191 ]
الحكم والسلطان، وإذا كان لا يرضى به بنو أبيه، ولا العلويون، ولا العرب، وإذا كان حتى غير العرب، ضعفت ثقتهم به، وتزعزع مركزه في نفوسهم. وأيضا.. إذا كانت ثورات العلويين، فضلا عن غيرهم.. تظهر من كل جانب ومكان.. وإذا كان الكثيرون، بل عامة المسلمين لم يبايعوا له بعد.. وهكذا إلى آخر ما تقدم. فهل يمكن للمأمون أن يقف تجاه كل تلك العواصف، والانواء التي تتهدده، ونظام حكمه، مكتوف اليدين ؟ ! وماذا يمكن للمأمون بعد هذا أن يفعل، ليبقى محتفظا بالحكم والسلطان، الذي هو أعز ما في الوجود عليه ؟ !. هذا - ما سوف نحاول الاجابة عليه في الفصل التالي.
[ 192 ]
ظروف البيعة وأسبابها إنقاذ الموقف !. كيف ؟ ! قد قدمنا في الفصل السابق لمحة عن ظروف المأمون في الحكم، وأشرنا إلى أن الوضع كان يزداد سوءا يوما عن يوم.. وإلى أنه كان لابد للمأمون من التحرك، والعمل بسرعة، شرط أن لا يزيد الفتق اتساعا، والطين بلة. وأن يستعمل كل ما لديه من حنكة ودهاء، في سبيل انقاذ نفسه، ونظام حكمه، وخلافة العباسيين بشكل عام.. وكان المأمون يدرك: أن إنقاذ الموقف يتوقف على: 1 - إخماد ثورات العلويين، الذين كانوا يتمتعون بالاحترام والتقدير، ولهم نفوذ واسع في جميع الفئات والطبقات.. 2 - أن يحصل من العلويين على اعتراف بشرعية خلافة العباسيين. وليكون بذلك قد افقدهم سلاحا قويا، لن يقر له قرار، إذا إذا افقدهم إياه.. 3 - استئصال هذا العطف، وذلك التقدير والاحترام. الذي كانوا يتمتعون به، وكان يزداد يوما عن يوم - استئصاله - من نفوس الناس نهائيا، والعمل على تشويههم أمام الرأي العام، بالطرق، والاساليب
[ 193 ]
التي لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات، حتى لا يقدرون بعد ذلك على أي تحرك، ولا يجدون المؤيدين لاية دعوة لهم، وليكون القضاء عليهم بعد ذلك نهائيا - سهلا وميسورا.. 4 - اكتساب ثقة العرب ومحبتهم.. 5 - استمرار تأييد الخراسانيين، وعامة الايرانيين له. 6 - إرضاء العباسيين، والمتشيعين لهم، من أعداء العلويين. 7 - تعزيز ثقة الناس بشخص المأمون، الذي كان لقتله أخاه أثر سئ على سمعته، وثقة الناس به. 8 - وأخيرا.. أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من تلك الشخصية الفذة، التي كانت تملا جوانبه فرقا، ورعبا.. وأن يتحاشى الصدام المسلح معها. ألا وهي شخصية الامام الرضا (ع)، وأن يمهد الطريق للتخلص منها، والقضاء عليها، قضاء مبرما، ونهائيا. لابد من الاعتماد على النفس: وبعد هذا.. فإن من الواضح أن المأمون كان يعلم قبل كل أحد، أنه: لم يكن يستطيع أن يستعين في مواجهة تلك المشاكل بالعباسيين، بني أبيه، بعد أن كانوا ينقمون عليه، قتله أخاه، العزيز عليهم، وعلى العرب، وبعد مواقفه، التي تقدم بيان جانب منها تجاههم.. وأيضا. بعد أن كانوا لا يثقون به، ولا يأمنون جانبه، بسبب موقفهم السابق منه. والاهم من ذلك أنه لم يكن فيهم الرجال الكفاة، الذين يستطيع
[ 194 ]
أن يعتمد عليهم (1)، يدلنا على ذلك أنهم بعد أن ثاروا على المأمون، بسبب بيعته للرضا عليه السلام، لم يجدوا فيهم شخصا أعظم، وأكفأ من ابن شكلة المغني، فبايعوه، مع أنه من أصحاب المزامير والبرابط. وفيه يقول دعبل: نعر ابن شكلة بالعراق وأهله * فهفا إليه كل أطلس مائق إن كان ابراهيم مضطلعا بها * فلتصلحن من بعده لمخارق ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل * ولتصلحن من بعده للمارق أنى يكون. وليس ذاك بكائن * يرث الخلافة فاسق عن فاسق (2) كما أنه عندما أصبح ابراهيم هذا خليفة، قال بعض الاعراب، عندما جاء الخبر بأنه: لا مال عند الخليفة ليعطي الجند، الذين ألحوا في طلب اعطياتهم، قال: " فليخرج الخليفة إلينا، فليغن لاهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، فتكون عطاءهم، ولاهل هذا الجانب مثلها.. " فقال في ذلك دعبل - شاعر المأمون - يذم ابراهيم بن المهدي: يا معشر الاجناد لا تقنطوا * خذوا عطاياكم، ولا تسخطوا فسوف يعطيكم حنينية * لا تدخل الكيس، ولا تربط والمعبديات لقوادكم * وما بها من أحد يغبط فهكذا يرزق أصحابه * خليفة مصحفه البربط (3) (1) وقد كان بينهم الكثيرون في أول عهد الدولة العباسية. ونقصد ب‍ " الكفاءة " هنا: الكفاءة الظاهرية، التي يقرها منطق الجبارين المتغطرسين، لا الكفاءة الحقيقية التي يريدها الله، وجاء بها محمد. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. (2) وفيات الاعيان، طبع سنة 1310 ه‍ ج 1 ص 8. والورقة لابن الجراح ص 22، ومعاهد التنصيص ج 1 ص 205، والشعر والشعراء ص 541، والكنى والالقاب ج 1 ص 330. والاطلس: هو الرجل يرمى بالقبيح.. (3) معاهد التنصيص ج 1 ص 205، 206، وشرح ميمية أبي فراس ص 281، والبداية والنهاية ج 10 ص 290، والبحار ج 49 ص 143، والغدير ج 2 ص = (*)
[ 195 ]
وإذا كان لا يستطيع أن يستعين ببني أبيه العباسيين، فبالاحرى أن لا يستطيع أن يستعين على حل مشاكله بالعلويين، والمتشيعين لهم، بعد أن كانوا هم أساس البلاء والعناء له، والذين يخلقون له أعظم المشاكل، ويضعون في طريق حكمه أشق العقبات. وأما العرب: فهو أعرف الناس بحقيقة موقفهم منه. والخراسانيون: لا يستطيع أن يعتمد على ثقتهم به طويلا، بعد أن كشف لهم عن حقيقته وواقعه الاناني البشع، بقتله أخاه، وإبعاده طاهرا بن الحسين، مشيد أركان حكمه، عن مسرح السياسة: " ولقد ذكره الرضا بذلك. عندما استعرض معه حقيقة الوضع القائم آنذاك. ". أي الاساليب أنجع: وبعد ذلك.. فانه من الواضح أنه: لم يكن لينقذ الموقف القسوة والعنف، وهو الذي يعاني المأمون من نتائجه السيئة ما يعاني. ولا المنطق والحجاج، لان العلويين - بناء على ما شاع عند الامة، بتشجيع من خلفائها، من أن السبب في استحقاق الخلافة، هو القربى النسبية منه صلى الله عليه وآله - إن العلويين بناء على هذا: أقوى حجة من العباسيين، لانهم يمتلكون اعترافا صريحا منهم بأن المستحق للخلافة هو = 377، والاغاني ج 18 ص 68، وص 101 طبع دار الفكر، والورقة لابن الجراح ص 22، ونزهة الجليس ج 1 ص 404، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 166، والحنينيات: منسوبة إلى حنين النجفي العبادي. المغني المشهور، والمعبديات: منسوبة إلى معبد المغني المشهور، والبربط: ملهاة، تشبه العود، وهو فارسي معرب. وأصله: بربت: لان الضارب يضعه على صدره.. انتهى عن نزهة الجليس. (*)
[ 196 ]
الاقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وآله. هذا. وإذا ما أراد العباسيون، أو غيرهم الاحتجاج بالاهلية والجدارة لقيادة الامة. فان العلويين لا يدانيهم أحد في ذلك، وذلك لما كانوا يتمتعون به من الجدارة والاهلية الذاتية لقيادة الامة قيادة صالحة وسليمة.. وأما النص فمن هو ذلك الذي يجرؤ على الاستدلال به، وهو يرى أنه كله في صالح آل علي، وأئمة أهل البيت منهم بالخصوص. وهكذا. نرى ويرى المأمون: أنه لم يكن لينقذ الموقف أي من تلك الاساليب، ولا غيرها من الطرق والاساليب الملتوية، واللاإنسانية، التي اتبعها أسلافة من قبل. وإذن.. فلا بد وأن يعود السؤال الاول ليطرح نفسه بكل جدية. والسؤال هو: ماذا يمكن للمأمون إذن أن يفعل ؟ ! وكيف يقوي من دعائم حكمه، الذي هو بالنسبة إليه كل شئ، وليس قبله، ولا بعده شئ.. حتى لا يطمع فيه طامع، ولا تزعزعه العواصف، ولا تنال منه الانواء، مهما كانت هوجاء وعاتية ؟ !. خطة المأمون: وكان أن اتبع المأمون من أجل انقاذ موقفه، الذي عرفت أنه يتوقف على نقاط ثمانية.. ومن أجل الاحتفاظ بالخلافة لنفسه، وأن تبقى في بني أبيه - كان أن اتبع - أسلوبا جديدا، وغيبيا، لم يكن مألوفا، ولا معروفا من قبل.. وأحسب أن لم يتوصل إليه إلا بعد تفكير طويل، وتقييم عام وشامل للوضع الذي كان يعيشه، والمشاكل التي كان يواجهها. لقد كانت خطته غريبة وفريدة من نوعها، وكانت في غاية الاتقان، والاحكام في نظره.
[ 197 ]
فبينما نراه من جهة: لا يذكر أحدا من الخلفاء، ولا غيرهم من الصحابة بسوء، بل هو يتحرج من المساس بغير الصحابة، وحتى بأولئك الذين كان حالهم في الخروج على الدين، وتعاليم الشريعة، معروفا ومشهورا " كالحجاج ابن يوسف " ! وذلك من أجل أن لا يثير عواطف أولئك الذين يلتقي معهم فكريا وسياسيا، ومصلحيا، والذين سوف يكونون له في المستقبل الدرع الواقي، والحصن الحصين.. فاستمع إليه يقول - كما يروي لنا التغلبي المعاصر له: ". وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا بانتقاص غيره من السلف ! والله، ما أستجيز أن أنتقص الحجاج بن يوسف، فكيف بالسلف الطيب ؟ ! " (1). وكذلك نراه يركن إلى رأي يحيى بن أكثم، الذي قال له - عندما أراد الاعلان بسب معاوية على المنابر -: " والرأي أن تدع الناس كلهم على ما هم عليه، ولا تظهر أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير.. "، ثم يدخل عليه ثمامة، فيقول له المأمون: " يا ثمامة، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي هو أصلح في تدبير المملكة، وأبقى ذكرا في العامة الخ. " (2). وأيضا.. نرى شعره الذي يرويه لنا غير واحد: أصبح ديني الذي أدين به * ولست منه الغداة معتذرا حب علي بعد النبي ولا * أشتم صديقا ولا عمرا (1) عصر المأمون ج 1 ص 369، نقلا عن: تاريخ بغداد، لابن طيفور ج 6 ص 75، (2) المحاسن والمساوي ص 141، وضحى الاسلام ج 2 ص 58، وج 3 ص 152، و 156، وعصر المأمون ج 1 ص 371، والموفقيات ص 41، وكتاب بغداد ص 54. (*)
[ 198 ]
ثم ابن عفان في الجنان مع * الابرار ذاك القتيل مصطبرا ألا ولا أشتم الزبير ولا * طلحة إن قال قائل غدرا وعائش الام لست أشتمها * من يفتريها فنحن منه برا (1) ونراه أيضا يتجسس على عبد الله بن طاهر، ليعلم: هل له ميل إلى آل أبي طالب أولا (2). ونراه يقدم على قتل الرضا (ع)، وإخوته، وآلاف من العلويين غيرهم، ويصدر أمرا لامرائه، وقواده بالقضاء عليهم، وفض جمعهم، كما سيأتي. ونراه كذلك.. يرسل إلى عامله على مصر، يأمره بغسل المنابر، التي دعي عليها لعلوي (هو الامام الرضا (ع)).. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لاستقصائه.. بينما نراه كذلك.. نراه من جهة ثانية يقدم على الاعلان ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أي أنه أراد أن يجعل تفضيل علي (ع)، والبراءة من معاوية دينا رسميا، يحمل الناس كلهم عليه، كما كان الحال بالنسبة لقضية خلق القرآن.. وقضية الاعلان بسب معاوية، وإن كان الاقدام عليه في سنة 212 ه‍. لكن تفضيله عليا، على جميع الخلق، وتقربه لولده، وإظهاره التشيع (1) البداية والنهاية ج 10 ص 277، وفوات الوفيات ج 1 ص 241، ما عدا البيت الرابع. (2) الطبري ج 11 ص 1094، طبع ليدن، والعقد الفريد للملك السعيد ص 84، 85، وتجارب الامم ج 6 المطبوع مع العيون والحدائق ص 461. (*)
[ 199 ]
والحب لهم (1) إنما كان من أول أيامه. يدلنا على ذلك أمور كثيرة، ويكفي هجاء ابن شكلة له، وهجاؤه لابن شكلة شاهدا على ذلك. فضلا عن الكثير من الامور الاخرى غيره. ثم نراه بعد ذلك يبيح المتعة، ويصف الخليفة الثاني، عمر بن (1) قال في النجوم الزاهرة ج 2 ص 201، 202،، ومثله في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 308، وغيرهما: " أن المأمون كان يبالغ في التشيع، ويقول: إن أفضل الخلق بعد النبي علي بن أبي طالب. وأمر أن ينادى ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بخير، لكنه لم يتكلم في الشيخين بسوء بل كان يترضى عنهما، ويعتقد إمامتهما. ". وهذا بعينه هو مذهب المعتزلة في بغداد ابتداء من بشر بن المعتمر، وبشر بن غياث المريسي وغيرهم من معتزلة بغداد، حتى لقد قال بشر المريسي المعتزلي المعروف على ما في البداية والنهاية ج 10 ص 279: قد قال مأموننا وسيدنا * قولا له في الكتب تصديق إن عليا أعني أبا حسن * خير من قد أقلت النوق بعد نبي الهدى، وإن لنا * أعمالنا والقرآن مخلوق وصرح بأنه يذهب مذهب المعتزلة كثيرون، منهم: البداية والنهاية ج 10 ص 275، وضحى الاسلام ج 3 ص 295، وامبراطورية العرب ص 600، وغيرهم، بل لقد قال خيري حماد، في تعليقته على ص 601، من امبراطورية العرب بقوله: " أجمعت كتب التاريخ العربي على أن المأمون مال إلى الاخذ بمذهب المعتزلة، فقرب أتباع هذا المذهب إليه إلخ. "، ويدل على ذلك أيضا أقوال. وأشعار المأمون المتقدمة.. ولعل وصف بعض المؤرخين بالتشيع هو الذي أوهم البعض بأن المأمون كان يتشيع بالمعنى المعروف للتشيع، فجزم بذلك، وبدأ يحشد الدلائل، والشواهد، التي لا تسمن، ولا تغني من جوع، وقد غفل عن أنهم يقصدون بكلمة " التشيع " المعنى اللغوي، لا المعنى الخاص المعروف الآن... وبعد. فان من الواضح: أن عقيدة المأمون تلك، لم تكن تثمر على الصعيد العملي العام، فانه كان من السياسيين. الذين لا ينطلقون في سلوكهم، ومواقفهم الخارجية من منطلقات عقائدية، ومفاهيم انسانية. وانما يكون المنطلق لهم في مواقفهم، وتصرفاتهم، هو - فقط - مصالحهم الشخصية، وما له مساس في استمرار فرض سلطتهم، وتأكيد سيطرتهم.. (*)
[ 200 ]
الخطاب ب‍ " جعل " (1)، أو نحو ذلك. ونراه أيضا أنه عندما سأل أصحابه عن: أنبل من يعلمون نبلا، وأعفهم عفة، فقال له علي بن صالح: " أعرف القصة في عمر بن الخطاب، فأشاح بوجهه، وأعرض، وذكر كلاما ليس من جنس هذا الكتاب، فنذكره، إلخ.. " (2) على حد تعبير البيهقي.. وذكر طيفور: أن أبا عمر الخطابي دخل على المأمون: فتذاكروا عمر بن الخطاب فقال المأمون: إلا أنه غصبنا، فقال له أبو عمر يا أمير المؤمنين، يكون الغصب الا بحق يد فهل كانت لكم يد، قال فسكت المأمون عن ه، واحتملها له (3). ولكن اعتراض الخطابي اعتراض بارد وتوجيه فاسد فهل الخلافة من الاموال أم هي حق جعله الله لهم.. بل إن الاهم من ذلك كله.. أننا نراه يصف الخلفاء الثلاثة، وغيرهم من الصحابة بأنهم: " ملحدين " ناسيا، أو متناسيا كل أقواله السابقة، وخصوصا شعره، وقوله: إنه يتحرج حتى من تنقص (1) وفيات الاعيان ترجمة يحيى بن أكثم ج 2 / 218 ط سنة 1310 ه‍ والسيرة الحلبية ج 3 / 46 والنص والاجتهاد ص 193، وفي قاموس الرجال 9 / 397، نقلا عن الخطيب في تاريخ بغداد: أنه كان يقول: " ومن أنت يا أحول الخ.. " ولا يخفى أنهم أرادوا تلطيف العبارة بقدر المستطاع، فحرفوها إلى ما ترى. هذا. وقد يرى البعض: أن تفضيله عليا، واعلانه بسب معاوية، وإباحته المتعة، وقوله بخلق القرآن، ليس إلا لاشغال الناس بعضهم ببعض، وصرف الناس عن التفكير بالخلافة، التي هي أعز ما في الوجود عليه، والتي ضحى من أجلها بأخيه، وأشياعه، ووزرائه، وقواده. وكذلك من أجل صرف الناس عن أهل البيت عليهم السلام، وابعادهم عنهم.. ولعل هذا الرأي لا يعدم بعض الشواهد التاريخية، التي تؤيده، وتدعمه، (2) المحاسن والمساوي ص 150. (3) كتاب بغداد ص 51. (*)
[ 201 ]
الحجاج، كيف بالسلف الطيب، فاستمع إليه يقول، على ما يرويه لنا البيهقي: ومن غاو يغص علي غيظا * إذا أدنيت أولاد الوصي يحاول أن نور الله يطفى * ونور الله في حصن أبي فقلت: أليس قد أوتيت علما * وبان لك الرشيد من الغوي وعرفت احتجاجي بالمثاني * وبالمعقول والاثر الجلي (1) بأية خلة، وبأي معنى * تفضل " ملحدين " على " علي " علي أعظم الثقلين حقا * وأفضلهم سوى حق النبي (2) بل وزاد على ذلك وضرب العقيدة التي تقدم أن العباسيين قد اتوا بها لمقابلة العلويين وروجوا لها من أن الحق كان للعباس وانه أجاز عليا فصحت خلافته وذلك بأن اظهر تقديم علي على العباس فقد قال السندي بن شاهك للفضل بن الربيع يوما عن المأمون: " سمعته اليوم قدم علي بن أبي طالب على العباس بن عبد المطلب، وما ظننت أني أعيش حتى اسمع عباسيا يقول هذا، فقال الفضل له: تعجب من هذا ؟ هذا والله كان قول أبيه قبله " (3) ولكن الظاهر: أن أباه كان يكتم ذلك حتى خفي على مثل السندي المقرب، لكن الآن قد اضطرت السياسة المأمون إلى الجهر بذلك، وإظهاره. وهكذا.. فإن المأمون لم يكن يرى أن بين كل تصرفاته المتقدمة أي تناقض، أو منافاة، بل كانت كلها في نظره صحيحة، ومنطقية، لانها كانت في ظروف مختلفة، وكان لابد له من مسايرة تلك (1) القوي خ ل. (2) المحاسن والمساوي، طبع دار صادر ص 68، وطبع مصر ج 1 / 105. (3) كتاب بغداد ص 7. (*)
[ 202 ]
الظروف، والانسجام معها، فلا مانع عنده، من أن يقرب العلويين إليه، ويتظاهر باكرامهم، وتقديرهم. في يوم. ثم منعهم من الدخول علهى، واضطهدهم، وقتلهم بالسم تارة، وبالسيف أخرى في يوم آخر.. وهكذا. وأيضا. لابد من خطوة أخرى. ولكن ذلك وحده لم يكن كافيا لاخماد ثورات العلويين، ولا لتحقيق كافة الاهداف، التي قدمنا، وسيأتي شطر منها. فكانت خطوته التالية غريبة ومثيرة في نفس الوقت، لكنها إذا ما أخذت الظروف آنذاك بنظر الاعتبار يتضح أنها كانت طبيعية للغاية. ألجأته إليها الظروف والاحداث. وتلك الخطوة هي: " أخذ البيعة للامام علي الرضا عليه السلام بولاية العهد بعده.. " وجعله أمير بني هاشم طرا، عباسيهم، وطالبيهم (1)، ولبس الخضرة. لم يبق إلا خيار واحد: ومن نافلة القول هنا: أن نقول: إن ذلك يدل على فهم المأمون للداء، مما ساعده على معرفة الدواء، الذي تجرعه المأمون - رغم مرارته القاسية، التي لم تكن لتقاس أبدا بما سوف يعقبها من راحة وطمأنينة وهناء - تجرعه - بكل رضا، ورجولة، وشجاعة. إن المأمون - على ما أعتقد - وإن كان قد ثقل عليه أمر البيعة لرجل غريب، ومن أسرة هي أقوى وأخطر المنافسين للحكم العباسي في (1) غاية الاختصار ص 68. (*)
[ 203 ]
تلك الفترة.. ولكن ما الحيلة له بعد أن لم يعد أمامه أي خيار في ذلك. إلا إذا أراد أن يتغابى أو يتعامى عن ذلك الواقع المزري الذي وصلت إليه خلافته، التي أصبحت ظلا، لا يلبث أن تلتهمه أشعة الشمس المشرقة، فتحوله إلى سراب. ما الحيلة له.. بعد أن رأى أنه لن تنقاد له الرعية والقواد، ولن تستقيم له الامور إلا إذا أقدم على مثل تلك اللعبة الجريئة. ولقد صرح المأمون نفسه للريان، بعد أن أخبره الريان بأن الناس يقولون: بأن البيعة للامام كانت من تدبير الفضل بن سهل - صرح بقوله: ". ويحك يا ريان، أيجسر أحد أن يجئ إلى خليفة، قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت له الخلافة، فيقول له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك ؟ أيجوز هذا في العقل ؟ ! (1). ". مع رسالة الفضل بن سهل للامام: وكاتب الامام، وألح عليه، وكاتبه الفضل بن سهل أيضا.. وبما أن في رسالة الفضل مواضع جديرة بالملاحظة، فقد أحببت أن أشير - باختصار - إلى بعض ما يمكن استخلاصه من هذه الرسالة. كما أنني أوردت نص هذه الرسالة بتمامه مع الوثائق الهامة، ليطلع القارئ عليها بنفسه، ويستخلص منها ما يراه مناسبا وضروريا.. أما الملاحظات التي رأيت أن من الضروري الاشارة إليها هنا، فتتلخص بما يلي: (1) أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 113، والبحار ج 49 / 137، وعيون أخبار الرضا ج 2 / 151، ومسند الامام الرضا ج 1 / 75. (*)
[ 204 ]
ملاحظات لابد منها: أول ما يطالعنا في هذه الرسالة هو استعمال الفضل لكلمة: " الرضا "، التي تنص وثيقة العهد، وغيرها: على أن المأمون هو الذي جعلها لقبا للامام (ع) - كما سيأتي -.. فاطلاق الفضل بن سهل لكلمة " الرضا " عليه (ع) يجعلنا نقول - إن لم نقل أنه كان لقبا مشهورا ومعروفا له -: إن جعل المأمون هذا اللفظ لقبا رسميا للامام (ع) كان بوحي من ذي الرياستين نفسه. وإن كان يمكن أن يقال عكس ذلك تماما: أي أن استعمال الفضل لهذه الكلمة كان بايحاء من المأمون. وثانيا: إننا بينما نرى الرسالة تشتمل على تطمين الامام (ع): بأن قضية ولاية العهد ليست لعبة من المأمون، وإنما هي من آثار سعي ذي الرئاستين، الامر الذي لا داعي معه للخوف والوجل على الاطلاق - بينما الرسالة تشتمل على ذلك - نراها تنص على أن قضية ولاية العهد أمر قد قضي بليل. وعلى أن هناك تصميم من ذي الرئاستين والمأمون على امضاء هذا الامر، وهذا يعني: أن الممانعة والمقاومة لا تجدي ولا تفيد، ولذا فإن من الافضل له (ع) أن يكف عن ذلك، ويمتنع عنه. وهذا ما أشار إليه الفضل بقوله: ".. وان كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين، عبد الله الامام المأمون ومني الخ.. ". وثالثا: يلاحظ: أن الرسالة تتناسب في صياغتها، وانتقاء جملها وألفاظها مع ذوق الامام (ع) ومذهبه العقائدي، ومذهب شيعته. وتنسجم مع ما يدعيه هو، ويدعيه آباؤه، وكان قد اشتهر وشعاع بين الناس: من أن الحق في خلافة النبي (ص) لهم دون غيرهم. وأن الغير - أيا كانوا - ظالمون لهم، ومعتدون عليهم في هذا الحق. ثم يحاول الفضل أن يفهم الامام: أنه وإن كان هو والمأمون
[ 205 ]
قد صمما على توليته العهد، لكنه يقول له، لكن السر في ذلك مختلف بيني وبين المأمون، فأنا أقول فيك: أنك ابن رسول الله، وأنك المهتدي، والمقتدي، وأرى أن ذلك إرجاع لحقك إليك، ورد لمظلمتك عليك. أما المأمون: فهو يراك شريكا في أمره، وشقيقا في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده. فالفضل يحاول بهذا أن يتقرب من الامام، ويكتسب محبته وثقته. ولعل إظهار هذا الاختلاف، مما اتفق عليه كل من المأمون والفضل. وهكذا كان السياسيون، وما زالوا يتكلمون مع أندادهم باللغة، التي يرون أنها توصلهم إلى أهدافهم. وتحقق لهم مأربهم. ورابعا: وأخيرا.. إنه بعد أن يطلب منه أن لا يضع الرسالة من يده، حتى يصير إلى باب المأمون !. نراه يضمن الرسالة إشارة واضحة: إلى أن ذلك منه (ع) يوجب صلاح الامة به.. وما ذلك إلا لانه كان يعلم، كما كان الكل يعلم: أنه إذا تأكد لدى الامام (ع): أن صلاح الامة متوقف على عمل ما من جهته، فإنه لا يتوانى، ولا يألو جهدا في العمل بوظيفته، والقيام بواجبه.. هذا بالاضافة إلى أن في ذلك إشارة للحالة العامة، التي وصفناها في بعض فصول هذا الكتاب. ملاحظات هامة: هذا.. وقبل الخوض في تفصيل أسباب البيعة، لابد من ملاحظة: أ -: إن من الطبيعي أن يثير تصرفه هذا حفيظة العباسيين، الذين ناصبوه العداء، وشجعوا أخاه الامين عليه، ولسوف يزيد من حنقهم، وغضبهم: حتى إنهم رضوا بابراهيم بن شكلة المغني خليفة عليهم، عندما سمعوا بهذا النبأ الذي كان له وقع الصاعقة عليهم. كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن
[ 206 ]
بينهم رجالات كفاة، يدركون الاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين: فلا جزيت بنو العباس خيرا * على رغمي ولا اغتبطت بري أتوني مهطعين، وقد أتاهم * بوار الدهر بالخبر الجلي وقد ذهل الحواضن عن بنيها * وصد الثدي عن فمه الصبي وحل عصائب الاملاك منها * فشدت في رقاب بني علي فضجت أن تشد على رؤوس * تطالبها بميراث النبي (1) ب - ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: ".. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن اكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. ". والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب. وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطبا " أهل بيت أمير المؤمنين " حيث قال لهم: ".. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضا عليه السلام) في جمع الفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم. " فليغضبوا إذن قليلا، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الامر كثيرا، وذلك عندما يعرفون الاهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الابقاء عليهم، واستمرار وجودهم (1) التنبيه والاشراف ص 303، والولاة والقضاة للكندي ص 168. (*)
[ 207 ]
في الحكم، والقضاء على اخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفا: ". فان تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فاني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولابنائكم من بعدكم. ". ومضمون هذه العبارة بعينه - تقريبا - قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم - قال -: ".. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما الهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع إلفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه.. ". لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فانه يقدر على ارضائهم في المستقبل، " وقد حدث ذلك بالفعل " عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فانه لا يستطيع - فيما بعد - أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشئ ذي بال. ج -: إن من الانصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضا (ع) وليا للعهد، كان اختيارا موفقا للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للاسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني. د -: إن من الامور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون
[ 208 ]
لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الامام (ع)، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الامة الاسلامية. ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الامام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الامام (ع) يكبره ب‍ " 22 " سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطرا على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد - وهو بهذه السن المتقدمة - لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات !.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الامور التي يبعد احتمالها جدا. ه‍ -: ولهذا.. ولان ما أقدم عليه لم يكن منتظرا من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولانه من تلك السلالة المعادية لاهل البيت عليهم السلام.. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، واخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال: فأولا: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: انه لباس أهل الجنة (1). حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الامام الرضا (ع) وتمكنه هو من دخول بغداد (1) الامام الرضا ولي عهد المأمون ص 62 عن ابن الاثير. (*)
[ 209 ]
عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الانافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك. وثانيا: ولنفس السبب (1) أيضا نراه قد ضرب النقود باسم الامام الرضا (ع). وثالثا: أقدم للسبب نفسه على تزويج الامام الرضا (ع) إبنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الامام (ع) بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الاخرى للامام الجواد (ع) الذي كان لا يزال صغيرا، أي ابن سبع سنين (2). ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضا إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الاداة الفعالة، التي (1) التربية الدينية ص 100. (2) راجع مروج الذهب ج 3 / 441، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج 11 / 1103، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج 10 / 269: أنه (ع) لم يدخل بها إلا في سنة 215 للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج 2 / 454 ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي الف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جدا لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضا (ع) ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضا (ع)، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريبا بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاته (ع) ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر اصراره غير الطبيعي على الزواج بام كلثوم بنت علي (ع) حتى لقد استعمل اسلوبا غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد. (*)
[ 210 ]
يستعملها في القضاء على الامام (ع)، كما كان الحال بالنسبة لولده الامام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم (1)، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون.. ويحب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئا، كما سنشير إليه.. لكن الامام (ع) لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لان الرأي العام لا يقيل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سببا في تقليل ثقة الناس بالامام، حيث يرون حينئذ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت - بنظرهم حينئذ - كل الحدود المألوفة والمعروفة.. وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الامام من ابنة المأمون كان سياسيا، مفروضا إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسيا أيضا، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الايرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصا بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه. ورابعا: وللسبب نفسه أيضا كان يظهر الاحترام والتبجيل للامام (ع) - وإن كان يضيق عليه في الباطن (2) - وكذلك كانت الحال بالنسبة لاكرامه (1) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الامام الحسن السبط عليه السلام، (2) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظم عليه السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب = (*)
[ 211 ]
للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: ".. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى... فما كان ذلك مني، إلا أن اكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في اكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفئ، بيسير ما يصيبهم منه. ". ويذكرني قول المأمون: " ومواساتهم في الفئ إلخ.. " بقول ابراهيم بن العباس الصولي - وهو كاتب القوم وعاملهم - في الرضا عندما قربه المأمون: يمن عليكم بأموالكم * وتعطون من مئة واحدا و -: إن المأمون - ولا شك - كان يعلم: أن ذلك كله - حتى البيعة للامام - لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الاجل، للحط من الامام قليلا قليلا، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الامر - كما صرح هو نفسه (1)، وكما صرح بذلك أيضا عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا = على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيت عليهم السلام، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضا المتوكل، حيث جاء بالامام الهادي عليه السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الامر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 226، والمجلسي في البحار ج 50 / 203، والمفيد في الارشاد ص 314. (1) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى. (*)
[ 212 ]
الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: ".. وكنت الطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحدا فواحدا منا إلخ. " (1). إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع.. أهداف المأمون من البيعة: هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فاننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضا (ع) بولاية العهد بعده.. على النحو التالي: الهدف الاول: أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الامام الرضا (ع) الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الارضى في الخاصة والعامة - باعتراف نفس المأمون -، حيث لا يعود باستطاعة الامام (ع) أن يدعو الناس إلى الثورة ولا ان يأتي باية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها. وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الامام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه (1) مقاتل الطالبيين ص 629. (*)
[ 213 ]
فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى. الهدف الثاني: أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الامام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الامام نفسه. وإذا ما لاحظنا أيضا، أن: " المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء (1).. "، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر (2). ". فاننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الامام الرضا (ع) بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الامام (ع) إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه (3). ولم يكتف بذلك، بل وضع على الامام (ع) عيونا آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته. فقد كان: " هشام بن ابراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضا (ع)، وكانت امور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن ابراهيم بذي الرئاستين، والمأمون، (1) تاريخ التمدن الاسلامي ج 5 جلد 2 ص 549، نقلا عن: العقد الفريد ج 1 / 148. (2) تاريخ التمدن الاسلامي ج 4 جلد 2 ص 441، نقلا عن: المسعودي ج 2 / 225، وطبقات الاطباء ج 1 / 171، (3) البحار ج 49 / 164، وعيون أخبار الرضا ج 2 / 178. (*)
[ 214 ]
فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئا من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشئ الا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين.. " (1) وعن أبي الصلت: أن الرضا " كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الاخبار يرفعون ذلك إليه.. " (2) وأخيرا.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الاشعث، يطلب من الامام (ع): أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الامام (ع) مطمئنا له: " إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها. " (3) إلي غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها. الهدف الثالث: أن يجعل الامام (ع) قريبا منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وابعاده عن الناس، وابعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، (1) البحار ج 49 / 139، ومسند الامام الرضا ج 1 / 77، 78، وعيون أخبار الرضا ج 2 / 153. (2) شرح ميمية أبي فراس ص 204، والبحار ج 49 / 290، وعيون أخبار الرضا ج 2 / 239. (3) كشف الغمة ج 3 / 92، ومسند الامام الرضا ج 1 / 187، وعيون أخبار الرضا ج 2 / 219. (*)
[ 215 ]
والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها. وأيضا.. أن لا يمارس الامام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصا بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الامام (ع) من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شئ ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد. والاهم من ذلك كله: أنه كان يريد عزل الامام (ع) عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الامام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته. وبذلك يكون أيضا قد مهد الطريق للقضاء على الامام (ع) نهائيا، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب. وقد قال المأمون إنه: " يحتاج لان يضع من الامام قليلا قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الامر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه. " كما سيأتي. وقد قرأنا آنفا أنه: " كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب (أي هشام بن إبراهيم) وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه ". كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول: " وأما ما طلبت من الاذن علي، فان الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله. " (1) (1) رجال المامقاني ج 1 / 79، وعيون أخبار الرضا ج 2 / 212. (*)
[ 216 ]
كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لاحمد بن محمد بن أبي نصر: " إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فانه استر عليك.. " (1). ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الامام (ع)، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالاهواز إلخ.. كما سيأتي: ولا نستبعد أيضا أن يكون عزل الامام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الامام الرضا عن صلاة العيد مرتين (2). وللسبب نفسه أيضا فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الامام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء. الهدف الرابع: إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الامام مجنا يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضا، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لاهل البيت - والتي زادت (1) بصائر الدرجات ص 246، ومسند الامام الرضا ج 1 / 155. (2) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 246، 247، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص 85، وإثبات الوصية للمسعودي ص 205، ومعادن الحكمة ص، 180، 181، ونور الابصار ص 143، وشرح ميمية أبي فراس ص 165، وإعلام الورى ص 322، 323، وروضة الواعظين ج 1 / 271، 272، واصول الكافي ج 1 / 489، 490، والبحار ج 49 / 135، 136، 171، 172، وعيون أخبار الرضا، وارشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك. ولسوف يأتي فصل: خطة الامام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى. (*)
[ 217 ]
ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه - ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام. أي أنه. كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جدا - إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة. وإذا ما استطاع في نهاية الامر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد امن خطرا عظيما، كان يتهدده من قبلها. بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر. إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلا يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، لما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على انها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق: يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضا (ع): " إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه (1). ". ويقول:. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته. " (2). (1) الصلة بين التصوف والتشيع ص 223، 224.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله. (2) المصدر السابق ص 214. (*)
[ 218 ]
وكذلك هو يقول - وهو مهم فيما نحن بصدده -: ".. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا: أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، واتباعه، والالتفاف حوله. " (1). وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه. ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيرا إلى ذلك، في معرض حديثه عن الامام الرضا (ع): ".. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته. " (2). وتقدم أنه (ع) كان - باعتراف المأمون - " الارضى في الخاصة، والعامة. " وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئا.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لان يقول في حقه للمأمون: " هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله " إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا " غيضا من فيض منه ". كما وتقدم أيضا قول المأمون في رسالته للعباسيين: ".. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة (يعني للعلويين)، فإنى في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم.. "، وأيضا عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد. وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالا، ويقروا عينا، فإن المأمون كان يدبر الامر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله (1) المصدر السابق ص 256. (2) مطالب السؤول ص 84، 85. وقريب منه ما في: الاتحاف بحب الاشراف ص 58. (*)
[ 219 ]
الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم. إشارة هامة لابد منها: هذا. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. والقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول: لقد قال الروافض في علي * مقالا جامعا كفرا وموقا زنادقة أرادت كسب مال * من الجهال فاتخذته سوقا وأشهد أنه منهم بري * وكان بأن يقتلهم خليقا كما كذبوا عليه وهو حي * فأطعم ناره منهم فريقا وكانوا بالرضا شغفوا زمانا * وقد نفخوا به في الناس بوقا وقالوا: إنه رب قدير * فكم لصق السواد به لصوقا (1) وهذه الابيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جدا امتداد دعوتهم في طول البلاد لاسلامية، وعرضها. وخصوصا في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئا يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضا (ع) سوى أنه كان اسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في علي (ع) - التي كان يراها خطرا حقيقيا على القضية العباسية - والتي تتخلص بأنه (ع): يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين (1) ديوان ابن المعتز ص 300، 301، والادب في ظل التشيع ص 206. (*)
[ 220 ]
وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضا (ع)، فقالوا: إنه الامام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقا.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته. وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الاسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الائمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنين عليهما السلام، كلهم تثبت إمامتهم بالنص. ولقد بلغ من حقنه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم - وخصوصا في زمان الرضا - أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة اخرى، هي: القول بألوهية علي (ع). وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ " الروافض "، - حسبما هو صريح كلامه - خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بالوهية أحدهما، أو ألوهيتهما، أو الوهية غيرهما من أئمة أهل البيت عليهم السلام. وأخيرا.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا - وهو من نعلم - (*)
[ 221 ]
لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضا (ع)، كانت قد استقطبت قطاعا واسعا، إن لم نقل: أنه القطاع الاكبر من الامة الاسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد. الهدف الخامس: هذا.. ونستطيع أن نقول أيضا: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الاخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الاخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب. نعم. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الاكفاء، والاحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للانسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها.. ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التى لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الارض علما وزهدا، وورعا وفضلا الخ. كانت منحصرة في الامام الرضا (ع)، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لاية شخصية اخرى، مهما بلغت.
[ 222 ]
الهدف السادس: ولعل من الاهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الامة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والامة منها، وما أكثرها. وقد عبر ابراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل - على حد قوله - الحواضن عن بنيها ! وصد الثدي عن فمه الصبي ! " وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لادراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لابناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسيا أقل وعيا وتجربة من مثل ابراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال. الهدف السابع: هذا.. طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل - على ما في وثيقة العهد -: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للامة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الامة، إنما هو في اخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد - عندما رأى ذلك - وأن ذلك لا يكون إلا باخراجها إلى ألد أعدائهم،
[ 223 ]
سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الامين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الامة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل. ويدل على ذلك - عدا عما ورد في وثيقة العهد - ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال: " يا أيها الناس، هذا الامر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب: ستة آباؤهم ما هم * من أفضل من يشرب صوب الغمام (1) وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل - في الحقيقة - أمل الامة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة - بعد ذلك - أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريبا، ومهما كان غير معقول، فإن على الامة أن تعتبره صحيحا وسليما، (1) العقد الفريد ج 3 / 392، طبع مصطفى محمد بمصر سنة 1935 و " ما " في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه. (*)
[ 224 ]
لابد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فان عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته - ولو كان حقا - لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه: أولا: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى. وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير.. وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للايرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. مادام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون. ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيرا، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون - ومنهم الطبري، وابن مسكويه - على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر - وهم أنصار بني العباس - رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الاول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..
[ 225 ]
بل ونص المؤرخون، على أن: ابراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد (1)، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهرا عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد (2). وثانيا: وأما الايرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملا، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو - فقط خير الامة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها. ملاحظة هامة: إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضا (ع) كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة 193 ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الاخوان: أن عليا الرضا (ع) كان مستخفيا في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضا (ع)، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كاسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه (3). (1) راجع البداية والنهاية ج 10 / 248، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 / 105 - زاد على ذلك: المدائن أيضا. (2) راجع: الكامل لابن الاثير ج 5 / 190، والبداية والنهاية ج 10 / 248، وغير ذلك. (3) راجع كتاب: ضيافة الاخوان مخطوط في مكتبمة المدرسة الفيضية في قم، في ترجممة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني. (*)
[ 226 ]
وقال الرافعي في التدوين: " وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه اسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما. قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر. " (1) انتهى كلام الرافعي. والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الارشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة 446 ه‍. الهدف الثامن: لقد كان من نتائج اختياره الامام، والبيعة له بولاية العهد - التي كان يتوقعها -: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والامصار. ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون - بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها - باتفاق المؤرخين - هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه. بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك: أ -: إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة (1) التدوين قسم 2 ورقة 235 مخطوط في مكتبة دار التبليغ الاسلامي في قم، ترجمة علي الرضا.. (*)
[ 227 ]
الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول: ".. ما ظننت أحدا من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا " والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين. ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جدا، بل لقد بايعه اكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه. وهذه دون شك هي إحدى امنيات المأمون، بل هي أجل امنياته وأغلاها. ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت: ".. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار.. وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالانبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي. فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.
[ 228 ]
ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظرا دقيقا، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذما. ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءا، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماما، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الامر إلى حالته الاولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماما من آل أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه. وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الامر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ " (1). ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لانه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ.. وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الامام الرضا (ع) من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية (1) تاريخ الحكماء ص 221، 222. (*)
[ 229 ]
العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الاسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا - إجمالا - على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تدينا والتزاما من أي فئة اخرى على الاطلاق.. هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيت (ع)، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي. د -: إنه لابد لنا من الاشارة هنا إلى أن اكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون - قبل البيعة للرضا (ع) طبعا - كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائيا، وإلى الابد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضا (ع) بولاية العهد. هذا. وقد كانت نحلة الزيدية هذه - شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوما عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع امور الخلافة (1) وعلى حد تعبير الشبراوي: ".. فولاه الوزارة، وصارت الاوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه.. " (2). (1) البداية والنهاية ج 10 / 147، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين، (2) الاتحاف بحب الاشراف ص 112. (*)
[ 230 ]
بل كان: " لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بانفاذه. " (1). وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: " إن الخليفة يعقوب ابن داوود ". وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: ".. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم. فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا. " (2). وذلك لانه قد: " أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من امور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه.. " (3). وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام (4).. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيرا، وكثيرا جدا على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر - كما حدث ذلك فعلا.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن: " أكثر علماء المحدثين إلا قليلا منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية. " (5) وقد صرح المؤرخون أيضا: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد (1) الطبري ج 10 / 486، والكامل لابن الاثير ج 5 / 60، ومرآة الجنان ج 1 / 418، (2) الكامل لابن الاثير ج 5 / 66، 67، (3) الطبري ج 10 / 508، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص 158، والكامل لابن الاثير ج 5 / 66، (4) الطبري، طبع ليدن ج 10 / 486. (5) الفهرست لابن النديم ص 253. (*)
[ 231 ]
خرجوا مع ابراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه (1). وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد (1) مقاتل الطالبيين ص 377، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقا، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره. والامر الذي تجدر الاشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالامامة على النحو الذي يقول به الشيعة الامامية، عندما جعل المأمون " الرضا عليه السلام " وليا لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضا عليه السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص 86: ". وفرقة منهم تسمى " المحدثة " كانوا من أهل الارجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بامامة موسى بن جعفر، وبعده بامامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعا. فلما توفي علي بن موسى عليه السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه. وفرقة كانت من الزيدية الاقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسى (ع)، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعا للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهرا. فلما توفي علي بن موسى (ع) رجعوا إلى قومهم من الزيدية. " وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضا (ع) " المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.. " وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن " الارجاء دين الملوك " على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الاسلام ج 3 / 326)، نقلا عن طيفور في تاريخ بغداد. وفي البداية والنهاية ج 10 / 276: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الارجاء ؟. قال: " دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم " قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص 51، وعمدة القول بالارجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالارجاء والتشيع، وخصوصا القول بامامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة: إذا المرجي سرك أن تراه * يموت لحينه من قبل موته فجدد عنده ذكرى علي * وصل على النبي وآل بيته (*)
[ 232 ]
= أما ابن شكلة فيقول معرضا بالمأمون: إذا الشيعي جمجم في مقال * فسرك أن يبوح بذات نفسه فصل على النبي وصاحبيه * وزيريه وجاريه برمسه راجع: مروج الذهب ج 3 / 417، والكنى والالقاب ج 1 / 331، وبعد هذا. فانه لمن غرائب الامور حقا، الانتقال دفعة واحدة من القول بالارجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بامامة الائمة الاثني عشر عليهم السلام (وأغرب من ذلك العودة إلى الارجاء بعد موت علي الرضا عليه السلام. وهذا ان دل على شئ، فانما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم - بادعائهم - مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فانهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون - طمعا بالمال والشهرة - ألوانا، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الاولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا ب‍ " الحشوية " يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضا (وهم في الحقيقة أهل الحديث): " الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر. " على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 80. وراجع أيضا فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني امية، وغير ذلك. بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ " الحشوية " في مناقشته المشهوة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومتعنقيها: وإن قلت من أهل الحديث وحزبه * يقولون تيس ليس يدي ويفهم ويقابل كلمة " الحشوية " كلمة " الرافضة " التي شاع اطلاقها على الشيعة الامامية. ومعناها في الاصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بامامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ " الرافضة " ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 161: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص: = (*)
[ 233 ]
" أما بعد. فانه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط الينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ.. ". ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 34، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لانهم - كما قلنا - رفضوا الانقياد لاولئك الحكام المتغلبين. يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره - يهجو البعض: أبوك ابن سارق عنز النبي * وأمك بنت أبي جحدر ونحن على رغمك الرافضو * ن لاهل الضلالة والمنكر ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج 6 ص 498، والبداية والنهاية ج 9 ص 330، ومقدمة ابن خلدون ص 198، ومقالات الاسلاميين ج 1 ص 130، وغاية الاختصار ص 134: أن سبب تسمية الشيعة ب‍ " الرافضة " هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة 122 ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضا حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفا: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة 119 ه‍. ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي 122 ه‍ و 119 ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص 119 طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة 114 أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: " الرافضة " الخ. وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة 1963 م. ج 2 ص 584 بعد ذكره لاسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة 104 ه‍. قال لاحدهم: " ائتني بشيعي صغير، اخرج لك منه رافضيا كبيرا ". وفي كتاب: روض الاخبار المنتخب من ربيع الابرار ص 40، أن الشعبي قال: " أحبب آل محمد ولا تكن رافضيا، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئيا. ". بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة ب‍ " الرافضة " كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص 212، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج 1 ص 68 هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الامام زين العابدين، المتوفى سنة 95 ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 ه‍ للفرزدق: " أرافضي أنت يا فرزدق ؟ ! ". وعلى كل حال: فان ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد. (*)
[ 234 ]
أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للامام الرضا (ع) بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: " الرضا من آل محمد "، طبقه على علي ابن موسى (ع)، فسماه: " الرضا من آل محمد " (1). فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلا. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح " الرضا من آل محمد " موجودا، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم. والذي ساهم إلى حد كبير في اضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الامام (ع) بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لاحد كائنا من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لاحد في زمانه على الاطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلا (1) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص 217، وضحى الاسلام ج 3 ص 294، والبداية والنهاية ج 10 ص 247، والطبري، وابن الاثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل: أيا عجبا منهم يسمونك الرضا * ويلقاك منهم كلحة وغضون وهناك نصوص اخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص 138: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيته عليه السلام.. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبدا، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الانسان.. (*)
[ 235 ]
لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم. فذلكة لابد منها: هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع اسلوبا جديدا للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضا (ع)، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الاحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصا ثورة محمد وابراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثرا يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الاقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة. يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضا (ع) بولاية العهد بعده.
[ 236 ]
وعلى كل حال، فان هذا اسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الاولى أيضا، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم.. ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلا وعسفا، وتشريدا عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم. ه‍ -: أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الائمة (ع)، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحا للعيان.. حتى لقد شكى الائمة (ع) منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم (1)، وفي الكافي رواية مفادها: إنه (ع) قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة. (1) راجع: الوافي للفيض ج 1 ص 143، باب: الناصب ومجالسته. هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤ به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص 476 أنه: " ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى الله عليه وآله، فقال عليه السلام: لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد إلخ.. " وذلك لان اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الائمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الائمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر.. وأخيرا.. فلابد لنا هنا من الاشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الاموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظا بقوته وحيويته في ضمير الامة، ووجد انها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لاهل البيت عليهم السلام بالنص. (*)
[ 237 ]
وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الامام الصادق (ع) كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الامام (ع) عن ذلك - رأيناه - ينازع الامام الصادع الكلام، حتى قال له: " والله، ما يمنعك من ذلك الا الحسد إلخ. " وقد انصرف عبد الله آخر الامر مغضبا (1). ورأينا أيضا أنه في موقف آخر له مع الامام الصادق (ع) يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الامام (ع) رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الايام عن صحته وسداده (2). بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: ".. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه. " (3) وقد تجرأ عيسى هذا أيضا على الامام الصادق بكلام لا نحب ذكره. وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الامام الصادق (ع)، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الامام (ع)، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاما قاسيا، لا يليق بمقام الامام وسنه (4). (1) راجع: مروج الذهب ج 3 ص 354، 355، وغيره من المصادر. (2) الصواعق المحرقة ص 121، وينابيع المودة للحنفي ص 332، 361، ومقاتل الطالبيين ص 255، 256، 270، وغير ذلك.. وفي هذا الاخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الامام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الامام، جرى بينهما ما جرى. (3) قاموس الرجال ج 7 ص 270. (4) قاموس الرجال ج 7 ص 270، وج 8 ص 242، 243 والبحار ج 47 ص 284، 258. (*)
[ 238 ]
إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الائمة (ع). أو بالاحرى حسدهم لهم.. والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الادراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه - وهو الداهية الدهياء - قد أراد أيضا في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الائمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل. بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: ".. ضربا للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم (1). ". ولو اننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل - كما قلنا - من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى " الرضا من آل محمد "، ولم يعد يخشى أحدا منهم، بعد أن أصبح " الرضا من آل محمد موجودا. الهدف التاسع: كما أنه ببيعته للامام الرضا (ع) بولاية العهد، وقبول الامام (ع) بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: ".. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا.. " وسنتكلم حول تصريحات المأمون (1) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص 219. (*)
[ 239 ]
هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى. نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الامام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الامام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديرا بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير - من ثم - من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لاية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم. بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون - من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلا وكرما، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين. ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الامام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاها أيضا فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الامام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الامام (ع): بأن هذا الامر لم يزده في النعمة شيئا، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب. كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: ". وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا
[ 240 ]
كثير، وأن هذا الامر لنا دونه. " ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا. وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شئ لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الامام الرضا (ع) خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الاسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور. الهدف العاشر: يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الامام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس - من ثم - الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملا أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئا جديدا، ولا أن ينظروا إلى جهة على انها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم. وهكذا. فيكون سكوت الامام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.
[ 241 ]
فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الامام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم. وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الاقل ما الداعي لهم، لان يطلبوا حكما أفضل، أو حكاما أعدل، فانه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود. الهدف الحادي عشر: هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته (1)، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض بالمهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الامة ووجد انها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الانواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه - إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه: (1) لقد صرح الذهبي في الجزء الاول من كتابه " العبر " بأنه في سنة 200 ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي اتي فيها بالامام عليه السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج 2 ص 8: قد جعل ذلك في سنة 203: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الامام الرضا عليه السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج 2 ص 452 طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: " لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها ". (*)
[ 242 ]
يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال - تلقائيا - لتصفية حساباته مع خصومه، أيا كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الامر ذلك. كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني - ولعله الاهم - من خطته الجهنمية، بعيدا عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد.. ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائيا، وإلى الابد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه. إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله - إن استطاع - إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات. يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الامام اجتماعيا، والوضع منه قليلا قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الامر، وليدبر فيه في نهاية الامر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لان الامام (ع) كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الامام جسديا، بعد أن أشرف هو منه (ع) على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات. ملاحظة لابد منها: ومن الامور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد
[ 243 ]
جعل ولاية العهد للامام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعيا، وإسقاطه نهائيا من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل - لا بالقول: أن الامام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الامام (ع)، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ أن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل اكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره ب‍ " 22 " سنة، وإنه لمن الامور غير الطبيعية أبدا: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها - مع هذا الفارق بينهما - موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر (1) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، - وما أكثرهم - بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لانهم سوف يرون أن زهذه (ع) بالدنيا، ليس إلا ستارا تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول: (1) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضا عليه السلام، ممن كانوا يراقبون الاحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار. ج 49 ص 290، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 239: أنه قد سئل أبو الصلت: " كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده ؟ ! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلا عندهم، ومحلا في نفوسهم، جلب عليه إلخ. ". (*)
[ 244 ]
إنه يريد أن: ".. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير. " حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الامام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: ".. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة ؟ !. ". كما سيأتي. وعن الريان قال: " دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا ؟ !، فقال (ع): قد علم الله كراهتي.. " (1) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم. وعلى أي شئ يبكي المأمون، ومن أجل أي شئ يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته واغلاها. سؤال وجوابه: قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ. ولكن الحقيقة هي: أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لان مقدار التفاوت بالسن بين الامام (ع) والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ (1) علل الشرايع ص 238، والبحار ج 49 ص 130، وأمالي الصدوق ص 44، 45. (*)
[ 245 ]
الامر، لانهم يأخذون الامور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الاولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والانصاف طريقة.. ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الافكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه - باعتقاده - من الحجج ما يكفي لاسقاط الامام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الامام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى (1).. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الاخير الامة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقه ولاية العهد، وغيرها. رأي الناس فيمن يتصدى للحكم: لعل من الواضح أن كثيرا من الناس كانوا يرون - في تلك الفترة من الزمن - لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان. (1) تاريخ التمدن الاسلامي ج 4 ص 261. (*)
[ 246 ]
وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها. ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والاموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الانسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه. ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبدا، فإن الحكم إذا كان وسيلة لا يصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، واقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى.. ولقد قاد النبي (ع) الامة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الامام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا.. وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، واقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماما كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الانبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الامام علي (ع) قمة في ذلك أيضا، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده " الامام الحسن (ع) " (1). وكان (1) راجع: الدرة النجفية ص 303، طبعة حجرية. (*)
[ 247 ]
يصلي في بيت المال ركعتين شكرا لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول: " اليك عني يادنيا غري غيري، أبي تعرضت ؟ ! الخ.. " وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: " لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لانفق تبره قبل تبنه. ". إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه.. العلويون يدركون نوايا المأمون: إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لاسقاطهم اجتماعيا، وابتزازهم سياسيا.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحدا فواحدا، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الادراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والاساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبدالله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: " ما ظننت أن أحدا من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا ". فأجابه عبد الله يقول: " وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا ؟ ! ففي أي شئ ظننت أني أرغب من ذلك ؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته ؟ !. إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا ؟ ! ". ويقول له أيضا - والظاهر أنه نص آخر للرسالة -: " هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحدا،
[ 248 ]
فواحدا منا الخ.. " (1). ولابد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبدالله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضا (ع)، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال... فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبدالله بن موسى أمورا، نشير إلى بعضها: أولا: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ أن من المقبول والطبيعي - كما يرى البعض - أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة. وهكذا.. فان النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه. ثانيا: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضا (ع) العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصرا وناجحا في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن (1) مقاتل الطالبيين للاصفهاني ص 628، إلى ص 631، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله. (*)
[ 249 ]
موسى. ولكن يقظة هذا الاخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الامام (ع) قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين. كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالاضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضا (ع)، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان. ثالثا: ما تقدمت الاشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبدالله بن موسى: " ما ظننت أحدا من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا " وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضا في كتابه للعباسيين، فلا نعيد.. رابعا: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين - كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم - غدره بالامام الرضا (ع)، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فان جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل. موقف الامام في مواجهة مؤامرات المأمون: لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الامام (ع) نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه ؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما
[ 250 ]
كان يريد الوصول إليه ؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها ؟ !. الحقيقة هي: أن الامام (ع) قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحا في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله.. وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله، المأمون في قفص الاتهام: وهكذا.. وبعد أن اتضحت الاسباب الحقيقية للبيعة، وبعد أن عرفنا بعض الظروف والملابسات، التي أحاطت بهذا الحدث الهام، فاننا نستطيع أن نضع المأمون، ونواياه، وأهدافه، في قفص الاتهام، ولا يمكن أن نصدق - بعد هذا - أبدا، أي ادعاء سطحي، يحاول أن يصور لنا حسن نية المأمون من البيعة، وسلامة طويته، سيما ونحن نرى كتابه للعباسيين في بغداد فور وفاة الرضا، وكذلك سلوكه المشبوه مع الرضا (ع) من أول يوم طلب منه فيه الدخول في هذا الامر، وحتى إلى ما بعد وفاته، كما سيأتي بيانه في الفصول الآتية. وكذلك كتابه لعبد الله بن موسى المتقدم. والادهى من ذلك كله رسالته للسري، عامله على مصر، التي " يخبره فيها بوفاة الرضا، ويأمره بأن تغسل المنابر، التي دعي عليها لعلي بن موسى، فغسلت. " (1). (1) الولاة والقضاة للكندي ص 170. (*)
[ 251 ]
وكذلك لا يمكن أن نصدق بحسن نيته بالنسبة لاي واحد من العلويين، الآخرين.. كما أشرنا إليه في رسالته لعبد الله بن موسى، التي يذكر فيها: أنه راح يختلهم واحدا فواحدا.. وأيضا عندما نرى أنه يمنعهم من الدخول عليه، بعد وفاة الرضا، ويأخذهم بلبس السواد (1).. بل ويأمر ولاته وأمراءه بملاحقتهم، والقضاء عليهم، كما سيأتي. مع المأمون في وثيقة العهد: ويحسن بنا هنا: أن نقف قليلا مع وثيقة العهد، التي كتبها المأمون للامام (ع) بخط يده، فلقد ضمنها المأمون إشارات هامة، رأى أنها تخدم أهدافه السياسية من البيعة وحيث اننا قد تحدثنا، ولسوف نتحدث في مطاوي هذا الكتاب عن بعض فقراتها.. فلسوف نقتصر هنا على: أولا: إننا نلاحظ: أنه يؤكد كثيرا على نقطتين: الاولى: أنه منطلق في هذه البيعة من طاعة الله، وإيثاره لمرضاته، الثانية: أنه لا يريد بذلك إلا مصلحة الامة، والخير لها. وسر ذلك واضح: فهو يريد أن يذهب باستغراب واستهجان الناس، الذين يرون الرجل الذي قتل حتى أخاه من أجل الحكم - يرونه الآن - يتخلى عن هذا الحكم لرجل غريب، ولمن يعتبر زعيما لاخطر المنافسين للعباسيين.. كما أنه يريد بذلك أن يكتسب ثقة الناس به، وبنظام حكمه. وعدا من ذلك فهو يريد أن يطمئن العلويين والناس إلى أن ذلك لا ينطوي على لعبة من أي نوع، بل هو أمر طبيعي فرضته طاعة الله ومرضاته، ومصلحة الامة، والصالح العام. (1) الكامل لابن الاثير، طبع دار الكتاب العربي ج 5 ص 204. (*)
[ 252 ]
وتانيا: نراه يجعل العباسيين والعلويين في مرتبة واحدة، وذلك لكي يضمن لاهل بيته حقا في الخلافة كآل علي. وثالثا: يلاحظ: أنه يعطي خلافته صفة الشرعية، حيث يربطها بالمصدر الاعلى (الله) وعلى حسب منطق الناس هذا تام وصحيح، لانهم بمجرد أن يعمل أحد عملا يؤدي إلى المناداة بواحد على أنه خليفة، ويصير مقبولا لدى الناس.. إنهم بمجرد ذلك يصيرون يعتبرونه خليفة الله في أرضه، وحجته على عباده.. وهو أيضا تام وصحيح حسب منطق العباسيين، الذين يدعون الخلافة بالارث عن طريق العباس بن عبد المطلب، حسبما تقدم بيانه.. ولهذا نلاحظ أنه يقدم عبد الله بن العباس على علي بن أبي طالب ! مع أن عبد الله تلميذ علي. وليس ذلك إلا من أجل إثبات هذه النقطة، وجعل حق له بالخلافة، بل وجعل نفسه الاحق بها. هذه الخلافة التي هي منصب إلهي، وصل إليه بالطريق الشرعي، سواء على حسب منطق الناس في تلك الفترة، أو على حسب منطق العباسيين. وفي هذا إرضاء للعباسيين، وتطمين لهم، كما أنه في نفس الوقت تطمين لسائر الناس، الذين كانوا غالبا - يرون الخلافة بالكيفية التي أشرنا إليها وقد أكد لهم هذا التطمين باستشهاده بقول عمر، حيث أثبت لهم: أنه لا يزال على مذهبه، وعلى نفس الخط الذي هم عليه. ورابعا: إننا نراه في نفس الوقت الذي يؤكد فيه مذهبه، ووجهة نظره بتلك الاساليب المتعددة والمختلفة المشار إليها آنفا - نراه في نفس الوقت - يدعي: أنه إنما يجعل الخلافة للرضا (ع) لا من جهة أنها حق له، ولا من جهة النص عليه، حسبما يدعيه الرضا، بل من جهة أنه أفضل من قدر عليه. وهذا أمر طبيعي جدا، وليس إقرارا بمقالة
[ 253 ]
الرضا.. وكما ينطبق الآن على الرضا، يمكن أن ينطبق غدا على غيره، عندما يوجد من له فضل، وأهلية.. وهذا دون شك ضربة لما يدعيه الرضا ويدعيه آباؤه من الحق في الخلافة، ومن النص، وغير ذلك.. هذا. ولسوف يأتي في فصل: خطة الامام، شرح ما كتبه الامام (ع) على ظهر الوثيقة، ولنرى من ثم كيف نسف الامام كل ما بناه المأمون، وصيره هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف. كلمة أخيرة: وأخيرا: فاننا مهما شككنا في شئ، فلسنا نشك في أن المأمون كان قد درس الوضع دراسة دقيقة، وقبل أن يقدم على ما أقدم عليه. وأخذ في اعتباره كافة الاحتمالات، ومختلف النتائج، سواء مما قدمناه، أو من غيره، مما أخفته عنا الايدي الاثيمة، والاهواء الرخيصة.. وإن كانت لعبته تلك لم تؤت كل ثمارها، التي كان يرجوها منها، وذلك بسبب الخطة الحكيمة التي كان الامام (ع) قد اتبعها. ولعمري: ".. إن بيعته للامام لم تكن بيعة محاباة، إذ لو كانت كذلك لكان العباس ابنه، وسائر ولده، أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه. " على حد تعبير المأمون في رسالته للعباسيين، التي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
[ 254 ]
أسباب البيعة لدى الآخرين: أحمد أمين المصري، وأسباب البيعة: وعلى ضوء ما تقدم، نستطيع أن نلقي نظرة على ما ذكره بعض المؤرخين، والباحثين، مما جعلوه أسبابا لاخذ البيعة للامام (ع) بولاية العهد، ولنرى - من ثم - أنها لا تقوى على الصمود أمام النقد التاريخي الواعي والدقيق، إذ أنها على الغالب: إما أنها لا تعتمد على سند تاريخي أصلا، أو أنها تعتمد على ما لا يصلح للاعتماد عليه. ولعل الدكتور أحمد أمين المصري، قد جمع كلا الناحيتين فيما جعله - بنظره - أسبابا للبيعة، حيث نلاحظ: أن بعض ما ذكره ليس له أي سند تاريخي، بل التاريخ على اختلاف أهوائه، واتجاهاته يدحضه، ويكذبه. والبعض الآخر قد اعتمد فيه على ما لا يصح الاعتماد عليه، ولذا فلا يكون من التجني عليه القول: إن ما ذكره كان سطحيا، أو بوحي من تعصب مذهبي رخيص.. وما ذكره يرجع إلى أسباب أربعة، رأى أنها صالحة، كلا أو بعضا، لان تكون سببا لاخذ البيعة للرضا بولاية العهد.. ونلخصها بما يلي:
[ 255 ]
1 - إن المأمون قد أراد بذلك: أن يصلح بين البيتين، العلوي، والعباسي، ويجمع شملهما، ليتعاونا على ما فيه خير الامة، وصلاحها. وتنقطع الفتن، وتصفو القلوب. 2 - إنه كان معتزليا، على مذهب معتزلة بغداد، يرى أحقية علي (ع) وذريته بالخلافة، فأراد أن يحقق مذهبه. 3 - إنه كان تحت تأثير الفضل والحسن بني سهل الفارسيين. والفرس يجري في عروقهم التشيع، فما زالا يلقنانه آراءهما، حتى أقرها، ونفذها. 4 - " إنه رأى أن عدم تولي العلويين للخلافة، يكسب أئمتهم شيئا من التقديس، فإذا ولوا الحكم ظهروا للناس، وبان خطؤهم، وصوابهم، فزال عنهم هذا التقديس. " (1). هذا.. وقد ادعى في كتابه: " المهدي والمهدوية ": أن هؤلاء الائمة كانوا يرتكبون الآثام في الخفاء، فأراد المأمون: أن يظهرهم، ليعرفهم الناس على حقيقتهم.. كان ذلك ما يراه أحمد أمين يصلح - كلا أو بعضا - سببا للبيعة.. آراء أحمد أمين في الميزان: ونحن بدورنا، وإن كنا نعتقد أن فيما قدمناه، وما سيأتي كفاية في تفنيد هذه المزاعم واسقاطها، إلا أننا نرى لزاما علينا أن نشير بايجاز إلى بعض ما يشير إلى ضعفها ووهنها، معتمدين في بقية ما يرد عليها على ذكاء القارئ، وتنبهه، ووعيه. فنقول: (1) ضحى الاسلام ج 3 ص 295. (*)
[ 256 ]
أما ما ذكر أولا: فقد كفانا هو نفسه مؤونة الكلام فيه، حيث قد اعترف بأن المأمون لو كان يرمي إليه لكان في منتهى السطحية والسذاجة. وأما ما جعله سببا ثانيا: فلعله لا يقل عن سابقه في الضعف والوهن، سيما بملاحظة ما قدمناه في الفصلين السابقين، من الظروف التي كان المأمون يعاني منها، وأيضا ملاحظة ما سيأتي من سلوك المأمون المشبوه، مع الامام (ع)، ومعالمته السيئة للعلويين، وكل من يتشيع معهم، ويتعاطف معهم. وعلى الاخص إذا لاحظنا: أن المأمون لم تكن عقيدته هي المنطلق له في موافقه السياسية، بل كان ينطلق مما يراه يخدم مصالحه الخاصة، ويؤكد وجوده في الحكم. وقد قدمنا أنه كان تارة يتحرج من تنقص الحجاج بن يوسف، وتارة يصف الصحابة، ما عدا الامام علي (ع) ب‍ " الملحدين "، ويصف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ب‍ " جعل " إلى آخر ما هنالك من الشواهد والادلة، مما لا نرى ضرورة لاعادته، ولعل الاهم من ذلك كله: أن تفضيل المعتزلة - معتزلة بغداد - عليا (ع) على جميع الصحابة، لم يكن واضحا بعد في تلك الفترة، وإنما بدأه بشر بن المعتمر حسبما سيأتي بيانه في فصل خطة الامام. وعليه فهذا الوجه لا يستقيم، على جميع الوجوه والتقادير. وأما ما جعله سببا ثالثا، فسيأتي الكلام عليه بنوع من التفصيل.. ولكننا نستغرب منه جدا، بل ونأسف كل الاسف، لما طلع به علينا، بما جعله سببا رابعا: من أن عدم تولي الائمة للحكم يكسبهم شيئا من التقديس، فأراد أن يولي الامام الرضا العهد، ليزول عنهم ذلك التقديس - وقد أشرنا سابقا إلى أنه استوحى هذه الفكرة من ابن القفطي في تاريخ الحكماء.
[ 257 ]
وليس واضحا نماما من هم " الائمة " الذين يقصدهم أحمد أمين في عبارته تلك. وإذا ما كان يقصد الائمة الاثني عشر، حيث إنه في معرض الحديث عن أحدهم، وهو الامام الرضا.. بل أعلن ذلك صراحة في عبارته الاخرى، التي أوردها في كتابه: " المهدي والمهدوية " - إذا كان كذلك -، فاننا نرى: أن لنا كل الحق في أن نتسأل: هل عثر أحمد أمين لهؤلاء الائمة، أو لواحد منهم على ما يتنافى مع التقديس، على مدى تاريخهم الطويل ؟ ! وهل يستطيع أن يثبت عليهم أدنى شئ يمس كرامتهم، ويتنافى مع مروءتهم، ويخالف دينهم ورسالتهم ؟ !. ولماذا تظهر تفاهات غيرهم، وأخطاؤهم، رغم اجتهادهم وتفانيهم في سترها، واخفائها.. ولا تظهر أخطاء هؤلاء الائمة، رغم اجتهاد الناس في الافتراء عليهم، والتعرف على أية نقيصة أو خطاء منهم إن كان ؟ !. ومتى كان هؤلاء الائمة مستورين عن الناس، منفصلين عنهم، حتى استطاعوا أن يحصلوا على هذا التقديس ؟ !. وهل كل شخصية لا تصل إلى الحكم يقدسها الناس ؟ !. وهل كل شخصية تصل إلى الحكم لا يقدسها الناس ؟ !. وهل التقديس مقصور على الشخصية المستورة، ولاحظ للشخصية الظاهرة منه ؟ !. وهل أثر وصول الامام علي (ع) للحكم طيلة أكثر من أربعة أعوام على تقديس الناس له ؟ !.
[ 258 ]
وهل يستطيع أحمد أمين أن يذكر لنا خطأ واحدا، ارتكبه الامام علي (ع)، طيلة فترة حكمه ؟ ! رغم أن معاوية وسواه، ممن كانوا معادين للامام (ع)، ما كانوا يألون جهدا في الصاق التهم به، والافتراء عليه ؟ !. وأما عن الامام الرضا (ع): فمتى كان مستورا عن الناس، بعيدا عنهم ؟ !. وهل تتفق دعواه باستتار الائمة - والرضا منهم - عن الناس، مع ما اعترف به المأمون نفسه للامام الرضا (ع)، فيما كتبه بخط يده في وثيقة العهد، حيث يقول: ".. وقد استبان له [ أي للمأمون ] ما لم تزل الاخبار عليه متواطية، والالسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل: يافعا، وناشئا، وحدثا، ومكتهلا الخ. ". فهل يعقل: أن إنسانا من هذا النوع يكون مستترا عن الناس، بعيدا عنهم، ولا يعيش فيما بينهم، منذ حداثة سنه إلى أوان اكتهاله ؟ !. ومع ذلك.. فأي خطأ يستطيع أحمد أمين، أن يسجله على الامام الرضا (ع) طيلة الفترة التي عاشها مع المأمون، رغم محاولاته الجادة - وهو الحاكم المطلق - من أجل أن يضع من الامام (ع) قليلا قليلا، ويصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الامر، على حد تعبير نفس المأمون ؟ !. وهل لم يقرأ أحمد أمين أقوال كبار علماء أهل السنة. وأئمتهم، وتصريحاتهم الكثيرة جدا حول أئمة أهل البيت (ع)، والامام الرضا منهم بالذات، ليعرف مقدار عظمتهم، وطهارتهم، ونزاهتهم التي لا يشك، ولا يرتاب، ولا يناقش فيها أحد ؟ !.
[ 259 ]
وأخيرا.. هل زال ذلك التقديس عن الامام الرضا، عندما ظهر للناس ؟ ! أم أن الامر كان على عكس ذلك تماما ؟ !. هذه بعض الاسئلة التي نوجهها للاستاذ: " أحمد أمين "، ولكل من يرى رأيه، ويذهب مذهبه،. وإننا لعلى يقين من أنها سوف لن تجد لدى هؤلاء الجواب المقنع والمفيد.. وإنما ستواجه عنتا وعنادا صاعقين، يبتزان منهم كل غريبة، ويظهران الكثير الكثير من الترهات العجيبة.. ولكن ليطمئن بالهم، وتهدأ ثائرتهم، فإننا سوف لن نستغرب عليهم مثل هذه الترهات، ولن نعجب لمثل تلك الافتراءات، فما تلك إلا: " شنشنة أعرفها من أخزم ". رأي غريب آخر في البيعة: هذا.. ويرى بعض المؤلفين: أن المأمون كان في بيعته للرضا (ع) واقعا تحت تأثير القوات المسلحة، وأنها هي التي أجبرته على ذلك، حيث كان القسم الكبير من قوادها، وزعماء فرقها يميلون إلى العلويين، وقد شرطوا عليه: أنهم لا يفتحون نار الحرب ضد الامين إلا إذا جعل الرضا ولي عهده، فأجابهم إلى ذلك (1). وأقول: ليت هذا المؤلف ذكر لنا اسم ذلك المؤرخ، الذي نقل له هذا الاشتراط من أولئك القواد على المأمون، والذي تنافيه تصريحات المأمون نفسه، وسلوكه مع الامام (ع)، حتى قبل أن يصل إلى مرو، وكذلك سائر مواقفه معه، والتي تكشف عن حقيقة دوافعه ونواياه إلى آخر ما هنالك مما قدمنا وسيأتي شطر منه. (1) هذا ما ذكره الشيخ القرشي في كتابه: حياه الامام موسى بن جعفر ج 2 ص 387. (*)
[ 260 ]
وأحسب أن هذا المؤلف يشير بما ذكره هنا إلى ما ذكره جرجي زيدان في روايته: " الامين والمأمون " ص 203، طبع دار الاندلس، فقد ذكر أن الفضل بن سهل قد اشترط على المأمون ذلك. واحتمل ذلك أيضا في كتابه: تاريخ التمدن الاسلامي، المجلد الثاني جزء 4 ص 439. وكأن مؤلفنا يريد أن يقول: إن المأمون كان مضطرا إلى إجابتهم: إما خوفا من انتفاضتهم عليه، أو رغبة في القضاء على أخيه الامين، أو للسببين معا.. ولكن هذا الاشتراط كما قلنا، ليس له أي سند تاريخي يدعمه، بل الشواهد التاريخية كلها على خلافه، سيما ونحن نرى الفضل بن سهل وأخوه يمانعان في عقد البيعة للرضا. وما ذكره " زيدان " لا يصلح شاهدا تاريخيا، بعد أن كان روائيا، لا يلتزم بالحقائق التاريخية. وبعد أن لاحظنا: أنه يعتمد التضليل في كتابه: تاريخ التمدن الاسلامي. وأحسب أن هذا هو عين الاتهام الموجه للفضل بن سهل في أمر البيعة، بأنه هو المدبر لها، والقائم بها. لكنه صيغ بنحو آخر فيه الكثير من الايهام والابهام. وفريق آخر يرى: وهناك بعض الباحثين يرى: أن من جملة الاسباب الهامة للبيعة: هو أن المأمون أراد أن يحذر العباسيين من مغبة المخالفة له، والاستمرار في ذلك. وأن يرغمهم، ويدفعهم إلى الوقوف إلى جانبه، بدافع من خوفهم من انتقال الخلافة عنهم إلى خصومهم العلويين. وأن ينتقم منهم بسبب خلعهم له من ولاية العهد، وتأييدهم أخاه الامين عليه، وتشجيعهم له
[ 261 ]
ضده. كما أنه يكون بذلك قد جمع المزيد من المؤيدين له، ليستطيع مقابلتهم، والوقوف في وجههم، وينتقم منهم (1). ولكنه رأي لا تمكن المساعدة عليه: لان منطق الاحداث، وواقع ظروف المأمون يأبيان كل الاباء أن يكون هذا سببا منطقيا للبيعة.. وقد قدمنا في الفصلين السابقين البيان الكافي والوافي لما يتعلق بهذا الموضوع. هذا بالاضافة إلى أن ذلك لا يتلائم مع ما هو معروف عن المأمون، من الدهاء والسياسة، وهل يمكن أن يقدم المأمون على خلق وإثارة مشاكل هو في غنى عنها ؟ وعلى الاخص في تلك الفترة من الزمن، التي كانت طافحة بالمشاكل، وكان العصيان فيها معلنا في أكثر مناطق الدولة، ومهددا به من كل جانب ومكان ؟ !. إن الحقيقة هي: أن المأمون في تلك الفترة بالذات، وكان بحاجة إلى أن يكتسب ثقة وحب أي إنسان كان. فضلا عن ثقة وحب أهل بيته، وعشيرته: العباسيين. ثم.. وهل يمكن أن يلجأ المأمون للانتقام منهم، إلى هذا الاسلوب بالعاجز، بعد أن خضعوا له وانقادوا لامره، وسلموا بالامر الواقع، بعد مقتل الامين ؟ ! ولماذا لا يقدر: أنهم سوف يقابلونه بالمثل، ويقومون في وجهه، ثأرا لكرامتهم، ودفاعا عن وجودهم ؟ !. ولماذا يعطيهم الفرصة لابراز عضلاتهم ضده، ويجعلهم يفكرون في (1) الصلة بين التصوف والتشيع ص 219، والامام الصادق والمذاهب الاربعة ج 2 جزء 4 ص 492، والتربية الدينية للفضلي ص 100، الطبعة الخامسة، وغير ذلك. (*)
[ 262 ]
تحدي سلطته، وهتك حرمته ؟ !. حيث رأيناهم قد خلعوا المأمون، بسبب بيعته للامام (ع)، وبايعوا لابراهيم بن المهدي، في أواخر ذي الحجة، من نفس السنة التي بويع فيها للامام (ع) بولاية العهد. وأخيرا.. ألم يكن باستطاعة المأمون أن يصفي حساباته مع خصومه الضعفاء جدا، الذين كاد يلتهمهم المد العلوي ويقضي عليهم، بأساليب أخرى، أقل إثارة، وأشد نكاية ؟ !. ولقد أشرنا، ولسوف نشير إلى ما قاله المأمون لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين. بل ويكفينا هنا: أن نلقي نظرة على ما قاله المأمون للعباسيين في كتابه المعروف لهم، يقول المأمون: ". فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، وابنائكم من بعدكم.. " وكذلك ما كتبه بخط يده في وثيقة العهد.. إلى آخر ما هنالك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه.. فتلخص أن ما ذكر هنا، لا يمكن أن ينسجم مع ما يقال عن حنكة المأمون، ودهائه السياسي. الفضل في قفص الاتهام: وأخيرا.. فإن بعض المؤلفين، كأحمد أمين في كلامه المتقدم، وجرجي زيدال (1) وأحمد شلبي (2)، وغيرهم. وبعض المؤرخين كابن الاثير في الكامل، طبعة ثالثة ج 5 ص 123، وابن الطقطقي في: (1) تاريخ التمدن الاسلامي، المجلد الثاني جزء 4 ص 439. (2) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 320. (*)
[ 263 ]
الفخري في الآداب السلطانية ص 217، وغيرهما.. يرون أن الفضل بن سهل كان العامل الرئيسي في لعبة " ولاية العهد " هذه، وأن المأمون كان في ذلك واقعا تحت تأثير الفضل، الذي كان يتشيع. ويرى آخر: أن سبب إشارة الفضل على المأمون بذلك، هو أنه أراد أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في العلويين (1). الفضل برئ من كل ما نسب إليه: أما نحن فإننا بدورنا نستطيع أن نؤكد على ما يلي: إن ما بأيدينا من النصوص التاريخية يابى عن نسبة التشيع للفضل، بل وحتى عن نسبة إشارته على المأمون بهذا الامر، فضلا عن كونه المدبر له، والقائم به.. اللهم إلا أن تكون مؤامرة اشترك الرجلان معا في وضع خطوطها العريضة، آخذان في اعتبارهما ظروفهما، ومصالحهما الشخصية، ليس إلا.. بل إن بعض النصوص تفيد أن الفضل كان عدوا للامام (ع)، حيث إنه كان من صنائع البرامكة (2)، أعداء أهل البيت (ع). وأنه لم يكن حتى راغبا في البيعة للرضا (ع)، وأنه وأخاه قد مانعا في عقد العهد للرضا (3)، فكيف يكون هو المشير على المأمون بالبيعة له.. بل لم يكن (1) البحار 49 ص 132، وعيون أخبار الرضا ص 147، نقلا عن: البيهقي عن الصولي. (2) البحار ج 49 ص 143، 113، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 166، وص 226 (3) مقاتل الطالبيين ص 562، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 270، ونور الابصار للشبلنجي ص 142، وكشف الغمة ج 3 ص 66، وروضة الواعظين ج 1 ص 269، والبحار ج 49، ص 145، وارشاد المفيد ص 310، 311، وغير ذلك. (*)
[ 264 ]
يعلم أن المأمون يريد عقد البيعة له إلا بعد وصوله إلى خراسان واحضار المأمون له، واعلامه بأنه يريد عقد البيعة له على ما في مقاتل الطالبيين ص 562 والطبري وغيرهما. وإن كان ربما يناقش في ذلك بمنافاته لرسالة الفضل التي ارسلها إلى الامام وهو في المدينة والتي أوردها الرافعي في التدوين. وذلك ما يقوي أنه كان متآمرا على الامام مع المأمون كما نصت عليه تلك الرسالة بأن ذلك عن اتفاق بينه وبين المأمون فراجعها. ولو أنه كان ممن يتشيع للامام (ع)، فكيف يمكن أن يتآمر عليه، ويحاول أن يجعل للمأمون ذريعة للاقدام على التخلص منه (ع)، وذلك عندما ذهب إلى الرضا، وحلف له بأغلظ الايمان، ثم عرض عليه قتل المأمون، وجعل الامر إليه. (1) لكن الامام بسبب وعيه وتيقظه قد ضيع عليه وعلى سيده هذه الفرصة، حيث أدرك للتو أنها دسيسة ومؤامرة، فزجر الفضل وطرده، ثم دخل من فوره على المأمون، وأخبره بما كان من الفضل، وأوصاه أن لا يأمن له. وبذلك يكون الامام (ع) قد ضيع على المأمون والفضل فرصة تنظيم اتهام له بما لم يكن. وعاد الفضل من مهمته تلك بخفي حنين، يجر هو وسيده أذيال الخيبة، والخزي، والخسران. أما إذا كان الفضل قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون - كما (1) وان كنا لا نستبعد أن يكون قد أقدم على ذلك من دون علم المأمون، وبدافع من حقده الدفين على الامام عليه السلام، وحسده له، يريد بذلك تمهيد السبيل لقتله ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء وحسبما يريد. (*)
[ 265 ]
هو غير بعيد - فليس ذلك إلا بدافع من حقده الدفين على الامام (ع)، وحسده له، يريد بذلك تمهيد الطريق لمقتله، ليخلو له الجو، وليفعل من ثم ما يشاء، وحسبما يريد. وأيا ما كانت الحقيقة، فإن النتيجة ليست سوى الخزي والعار، والخيبة القاتلة بالنسبة للفضل في هذه القضية. ويا ليته كان قد قنع بذلك.. ولكنه استمر في تحريض المأمون على التخلص من الامام (ع) حتى إن بعض المؤرخين يرى: أن المأمون لم يقتل الامام إلا بتحريض من الفضل بن سهل ! !. وبعد.. فهل يمكن أن تنسجم دعوى تشيعه مع إشارته على المأمون بارجاع الامام عن صلاة العيد، وذلك حتى لا تخرج الخلافة منه ؟ !. كما سنشير إليه انشاء الله. وأيضا. مع إظهاره العداوة الشديدة للامام (ع) وحسده له على ما كان المأمون يفضله به، على حد تعبير الريان بن الصلت ؟ ! (1). وكذلك مع اصطناعه هشام بن إبراهيم الراشدي. وجعله عينا للمأمون على الامام، ينقل إليه حركاته وسكناته، ويمنع الناس من الوصول إليه حسبما تقدم ؟ !. ولو أن الفضل كان ممن يتشيع للامام، لكان يجب أن يعد من أعظم البلهاء، إذ كيف لا يلتفت لامر المأمون المؤكد لرسله: أن لا يمروا بالامام عن طريق الكوفة وقم، لئلا يفتتن به الناس. ثم إلى تهديداته له بالقتل، إن لم يقبل ما يعرضه عليه، ثم إلى جلبه العلماء والمتكلمين (1) مسند الامام الرضا ج 1 ص 78، والبحار ج 49 ص 139. وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 153. (*)
[ 266 ]
من أقاصي البلاد، من أجل افحام الامام. واظهار جهله وعجزه، إلى آخر ما هنالك، من صفحات تاريخ المأمون السوداء. ثم نرى أنه هو بنفسه يشارك في ذلك كله، وسواه، ويعمل من أجله حتى لقد شارك في التهديد للامام، إن لم يقبل ما يعرضه عليه المأمون.. وإذا كان نفوذه قد بلغ حدا يجعل المأمون ينازل عن عرشه - الذي قتل من أجله أخاه - لرجل غريب، فلماذا لا يعمل هذا النفوذ من أجل أن يمنع المأمون عن ذلك السلوك اللاإنساني، الذي انتهجه مع الامام، ابتداء من حين وجود الامام في المدينة، وإلى آخر لحظة عاشها معه، وبعد ذلك إلى ما شاء الله. هذا كله من جهة. موقف الامام من الفضل ينفي نسبة التشيع له: ومن جهة ثانية.. لو كان للفضل فضل في مسألة البيعة للامام (ع)، أو كان ممن يتشيع له، لم يكن من اللائق من الرضا (ع) أن بخبر المأمون بما عرضه عليه الفضل من قتل المأمون، وجعل الامر إليه. ولا من المناسب أن يوصيه بأن لا يأمن له، ويخبره بغشه وكذبه، وأنه يخفي عنه حقيقة ما يجري في بغداد، وغيرها (1). ولا من اللائق منه ايضا: أن يعامله تلك المعاملة، التي لا يعامل بها المحبون المخلصون. والتي كان فيها الكثير من الخشونة، والاحتقار والامتهان، فقد قدمنا أنه عندما ذهب إليه الفضل يطلب منه كتاب (1) تاريخ الطبري، طبع ليدن ج 11 ص 1025. (*)
[ 267 ]
الامان، لم يسأله عن حاجته إلا بعد ساعة من وقوفه، ثم أمره بقراءة الكتاب، فقرأه - وكان كتابا في اكبر جلد - وهو واقف، لم يأذن له بالجلوس. وكذلك لم يكن من اللائق منه: أن يزري عليه عند المأمون، فقد ذكر المؤرخون: أنه ".. كان يذكر ابني سهل عند المأمون، ويزري عليهما، مما دفعهما إلى السعاية به، وكان يوصيه أن لا يأمن لهما " (1). إلى آخر ما هنالك مما لا يصدر في حق أي إنسان عادي آخر في حق من يتشيع له، فضلا عمن يتسبب في جعله وليا لعهد الخلافة الاسلامية للامة بأسرها. والمأمون نفسه يستنكر ذلك: ومن جهة ثالثة.. فقد كفانا المأمون نفسه مؤونه الحديث عن دور الفضل بن سهل في هذه القضية.. ولا شك أن " عند جهينة الخبر اليقين ". فقد قدمنا في الفصل السابق: أن الريان بن الصلت - وكان من رجال الحسن بن سهل (2) ! - عندما رأى أن القواد والعامة قد أكثروا في بيعة الرضا، وأنهم يقولون: " إن هذا من تدبير الفضل ". قال للمأمون ذلك، فأجابه المأمون: ".. ويحك ياريان ! أيجسر أحد أن يجئ إلى خليفة قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت الخلافة، فيقول (1) مقاتل الطالبيين ص 565، 566، وإعلام الورى ص 325، وكشف الغمة ج 3 ص 71، وروضة الواعظين ج 1 ص 276، والبحار ج 49، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وغير ذلك. (2) صرح بأنه من رجاله في كتاب: البحار ج 49 ص 133، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 149. (*)
[ 268 ]
له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك ؟ ! أيجوز هذا في العقل ؟ !.. الخ " لا.. أبدا.. لا يمكن أن نتصور، ولا يجوز في العقل: أن يأتي وزير ملك إليه، ويطلب منه التنازل عن عرشه، ويسلمه إلى رجل غريب، وهو يعلم أن ذلك الملك، قد قتل أخاه، وغيره، وهدم البلاد، وأهلك العباد، من أجل ذلك العرش.. هذا مع علمه أنه سوف لا يكون له هو في دولة ذلك الرجل الجديد الغريب، أي شأن، أو دور يذكر. أو على الاقل لن يكون له من النفوذ، والسلطة والطول، ما كان له مع ذلك الملك الاول. بل سوف يكون كأي فرد عادي آخر، محكوما لا حاكما، بكل ما لهذه الكلمة من معنى.. اللهم إلا أن يكون قد تآمر مع ذلك الملك الاول، لتنفيذ خطة معينة. قد رسماها معا من قبل، وعملا على أن تكون الامور في نهاية الامر في صالحهما، ومن أجل تعزيز نفوذهما وسلطتهما. أما حصيلة هذه الجولة: وهكذا.. تأبى الاحداث، ويأبى المنطق أن يكون للفضل في هذه القضية شئ، إلا على طريق التآمر والتواطؤ مع سيده المأمون، أفعى الدهاء والسياسة، بعد دراسة دقيقة مشتركة للوضع، وتقييم عام له. اتفقا على أثره على خطة للتخلص من المشاكل التي كانت تعترض سبيلهما، وتشكل - إلى حد ما - خطرا على وجودهما في الحكم، وتفردهما بالسلطة.. وبذلك فقط نستطيع أن نفسر قول ابراهيم بن العباس في مدح الفضل في جملة أبيات له: وإذا الحروب غلت بعثت لها * رأيا نقل به كتائبها رأيا إذا نبت السيوف مضى * عزم به فشفى مضاربها
[ 269 ]
أجرى إلى فئة بدولتها * وأقام في أخرى نواد بها (1) ولعل الفضل كان مخدوعا !. ولكن ألا يحتمل قريبا: أن يكون الفضل مخدوعا في هذه المرة على الاقل ؟ وأنه هو أيضا راح ضحية تآمر وتضليل من نفس سيده: المأمون ؟ !. الحقيقة أن ذلك أمر محتمل جدا، لاننا نرى في النصوص التاريخية، ما يشير لنا بوضوح إلى أن الفضل لم يكن سوى لعبة بيد المأمون، وأنه قد جازت عليه حيلة في بادئ الامر، بادعائه: أنه إنما يوليه العهد، لانه يريد خير الامة ومصلحتها. أو لانه يريد أن يفي بنذره (أي أنه نذر إن ظفر بأخيه الامين، فلسوف يسلم الخلافة لرجل غريب !).. وقد تقدم أن ابن القفطي يرى أن الفضل لم يكن عارفا بسر القضية، ولا عالما بواقع الامر.. ولعلنا نستطيع: أن نستدل على ذلك بقوة بممانعة الفضل وأخيه الحسن في هذا الامر. كما أننا رأينا المأمون: يرفض أن يطلب من الامام (ع) كتاب الامان للفضل، بحجة أن الامام كان قد اشترط: أن لا يتدخل في شئ من أمور الدولة وشؤونها (2). ثم نرى المأمون نفسه يطلب من الامام: أن يولي فلانا، أو أن يكتب إلى فلان بكذا، أو أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة، أو أن (1) الاغاني ط ساسي ج 9 ص 31 - 32. (2) أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 139، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 162. والبحار ج 49 ص 168. ومسند الامام الرضا ج 1 ص 88. (*)
[ 270 ]
يصلي بالناس، إلى غير ذلك من الامور.. مع أن ما كان يريده الفضل من الامام، لم يكن له من الاهمية مثل ما كان يطلبه منه المأمون. وعلى كل فقد يجوز للمأمون - حتى مع الشرط - ما لا يجوز لغيره بدونه. الفضل يقع في الشرك: واخيرا.. فلا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا أن نقول: مسكين الفضل بن سهل، لقد استطاع المأمون أن يبرئ ساحة نفسه، من كل الذنوب العظيمة والخطيرة التي ارتكبها، وأن يجعل هذا الوزير المسكين، الذي كان عدوا للامام، والذي لم يشعر إلا وهو في الفخ، هو المسؤول عن أكثر جرائمه وموبقاته، بل وعنها جميعا، حتى البيعة للرضا (ع) بل وحتى عن قتل أخيه الامين ! ولقد أدرك الفضل أنه قد وقع في الشرك، ولكن.. بعد فوات الاوان، ولذا نراه يمتنع عن الذهاب إلى بغداد، لانه يعرف ما سوف يواجهه من مشاكل وأخطار، وما سوف يتعرض له من مؤامرات، وحاول بكل وسيلة أن يقنع المأمون بالعدول عن رأيه، وبين له صراحة أنه هو المتهم بالبيعة للرضا، وبقتل الامين، فلقد قال له: ".. يا أمير المومنين، إن ذنبي عظيم عند أهل بيتك، وعند العامة، والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع، وبيعة الرضا، ولا آمن السعاة والحساد، وأهل البغي أن يسعوا بي، فدعني أخلفك بخراسان الخ. " (1). (1) أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 139، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 162، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 87، والبحار ج 49 ص 167. (*)
[ 271 ]
ولكن أنى له أن يتركه المأمون، الذي كان يريد التخلص منه، من أجل أن ترضى عنه بغداد، مضافا إلى أنه هو أيضا كان يخشاه ويخافه. فلقد كان قد أعد العدة، وأحكم الخطة في أمره، ولم يبق إلا التنفيذ (كما سيأتي بيانه). وبعد أن يئس الفضل من اقناع المأمون، حاول أن يحتاط لنفسه ما أمكنه ذلك. فطلب منه أن يكتب له كتاب ضمان وأمان. فاستجاب المأمون لهذا الطلب، وكتب له كتابا (1)، يسمى كتاب الحباء والشرط يظهر بوضوح الدور الذي لعبه الفضل في تشييد صرح خلافة المأمون، وتوطيد سلطانه. ونلاحظ: أن المأمون قد كتب للفضل كل ما يريد، بل وزاد على ما كان يتوقعه الفضل الشئ الكثير، إذ لم يكن يرى في ذلك أي ضرر عليه، ما دام أنه قد أحكم الخطة، ودبر له النهاية. وكما رسم ودبر. كانت النهاية !. لماذا الاصرار على اتهام الفضل: وهكذا. فإننا بعد كل ما تقدم، لا نرى مجالا للاصرار على نسبة التشيع للفضل، أو القول: بأن المأمون كان واقعا في أمر البيعة تحت تأثيره، وخاضعا لارادته، فقد يكون الفضل قد أعطي اكثر مما يستحقه من النفوذ والقدرة.. ولعل إصرار أولئك أو هؤلاء على اتهام الفضل بذلك، حتى وإن أنكره المأمون نفسه، وكذبته جميع الوقائع والاحداث - لعله - يرجع إلى حرصهم على أن لا يتهم المأمون - السلطة - بما (1) الكتاب موجود في: البحار ج 49 ص 160، 162، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 157، 159، وأوعز إليه اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 451 طبع صادر (*)
[ 272 ]
لا يحبون اتهامه به، كالتشيع، والحب لآل علي (ع)، أو ليبرءوا ساحته من هذه التهمة، لو فرض وجودها فعلا.. أو لعل لانهم لم يكونوا على درجة من الوعي تؤهلهم لادراك حقيقة ظروف المأمون، وأهدافه من البيعة.. هذا.. وقد رأينا: أن العباسيين في بغداد، بمجرد وصول نبأ البيعة لهم، يتهمون الفضل بن سهل بتدبيرها (1).. مع أنهم لم يكونوا قد اطلعوا بعد على حقيقة الامر وواقع القضية، وما ذلك إلا لما قلناه، وليبقوا على علاقاتهم مع المأمون، وليبقى باب الصلح معه في المستقبل مفتوحا. وكذلك ليحافظوا على شخصية المأمون، حتى لا تلصق بها تهمة، يعلمون هم أكثر من غيرهم - وأهل البيت أدرى بما فيه - ببراءته منها، ألا وهي تهمة: الحب لعلي، وآل بيته. ولعله أيضا لهذه الاسباب نفسها جعلوا المأمون لعبة في يد الفضل، وأنه لا يملك معه من الامر شيئا، حتى لقد قالوا عنه: إنه مسجون ومسحور (2). وإن كان لا شاهد لهذه الدعوى أصلا إلا البيعة للرضا (ع) ولولاها لكان العكس عندهم هو الصحيح فعلا.. جميل.. وجميل جدا.. فلقد أصبح المأمون لعبة بيد الفضل، وإن كانت جميع الدلائل والشواهد متظافرة على العكس من ذلك.. ولو لم يكن ذلك يكفي لتبرئة المأمون، فهم على استعداد لاتهامه بعقله، كما قد حدث ذلك بالفعل، فذلك عندهم خير من اتهامه بالحب لآل علي والتشيع لهم.. (1) فقد اتهموا الفضل بذلك بمجرد وصول رسالة الحسن بن سهل إليهم، يخبرهم فيها بأمر البيعة. راجع: الطبري ج 11 ص 1013، طبع ليدن وتجارب الامم ج 6 ص 436 وغير ذلك من كتب التاريخ. (2) راجع: البداية والنهاية ج 10 ص 248، والطبري ج 11، وغير ذلك.. (*)
[ 273 ]
احتمال وجيه جدا: على أننا لا نستبعد كثيرا.. أن يكون المأمون نفسه قد شجع وغذي هذه التبريرات والتمويهات، وخصوصا بعد مقتل الفضل، ليبرئ نفسه أمام العباسيين، وليشوه الفضل.. كما أننا لا نشك أبدا في أن كثيرا مما يذكر عن الامين هو في عداد الخرافات والاساطير التي شجعها المأمون وحزبه، لان الامين كان هو المغلوب، والمأمون كان هو الغالب.. وللغالب القدرة، بل والحق أيضا - في نظر قاصري النظر - في أن يشوه المغلوب، ويصوره بالصورة التي يريد. ويدلنا على أن المأمون هو المسؤول عن ذلك، ما رواه الحصري في زهر الآداب من: " أنه لما خلع المأمون أخاه أمين، ووجه بطاهر ابن الحسين لمحاربته. كان يعمل كتبا بعيوب أخيه، تقرأ على المنابر بخراسان الخ.. " (1). وطبيعي بعد ذلك: أن على الكتاب والمؤرخين الذين ما كانوا أحرارا، ولا يعتمدون النزاهة في كتاباتهم: أن يؤرخوا كما يريد المأمون، وأن يكتبوا ما يمليه عليهم، لا ما هو حق وواقع. يرونه بام أعينهم. أو تحكم به - إن كانت - ضمائرهم. وأخيرا.. وإذا تحقق أن الفضل برئ من تهمة التشيع، وتهمة تدبير أمر البيعة، فلا يعني ذلك أنه برئ مما هو أشنع من ذلك وأقبح " فكل إناء بالذي فيه ينضح ". (1) راجع: امراء الشعر العربي في العصر العباسي ص 86، نقلا عن: زهر الآداب ج 2 ص 111، تحقيق زكي مبارك، وطبع دار الجيل ج 2 ص 464. (*)
[ 275 ]
القسم الثالث أضواء على الموقف: 1 - عرض الخلافة، ورفض الامام. 2 - قبول ولاية العهد بعد التهديد. 3 - مدى جدية عرض الخلافة. 4 - موقف الامام. 5 - خطة الامام..
[ 277 ]
عرض الخلافة، ورفض الامام (ع): نصوص تاريخية: تحدثنا كتب التاريخ: أن المأمون كان قد عرض الخلافة على الامام أولا.. (1) لكنه (ع) رفض قبولها أشد الرفض، وبقي مدة يحاول اقناعه بالقبول، فلم يفلح. وقد ورد أن محاولاته هذه، استمرت في مرو وحدها اكثر من شهرين والامام عليه السلام يأبى عليه ذلك (2). بل لقد ورد أنه (ع) كان قد أجاب المأمون بما يكره، فقد: قال المأمون للامام: ".. يا ابن رسول الله، قد عرفت فضلك، وعلمك، وزهدك، وورعك، وعبادتك، وأراك أحق بالخلافة مني.. ". (1) كما نص عليه في البداية والنهاية ج 10 ص 250، والفخري في الآداب السلطانية ص 217، وغاية الاختصار ص 67، وينابيع المودة للحنفي ص 384، ومقاتل الطالبيين، وغير هؤلاء كثير.. وسنشير في آخر هذا الفصل إلى طائفة منهم أيضا.. لكن السيوطي قال في تاريخ الخلفاء ".. حتى قيل: أنه هم أن يخلع نفسه، ويفوض الامر إليه.. " أما رفضه لذلك، فهو أشهر من أن يذكر كما سيأتي.. (2) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 149، والبحار ج 49 ص 134، وينابيع المودة وغير ذلك. (*)
[ 278 ]
فقال الامام (ع): ".. بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله.. قال المأمون: فاني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك، وأبايعك ؟ !. فقال الامام (ع): إن كانت هذه الخلافة لك، فلا يجوز أن تخلع لباسا ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك (1). قال المأمون: لا بد لك من قبول هذا الامر ! ! فقال الامام (ع): لست أفعل ذلك طائعا أبدا.. فما زال يجهد به اياما، والفضل والحسن (2) يأتيانه، حتى يئس من قبوله.. وخرج ذو الرئاستين مرة على الناس قائلا: واعجبا ! وقد رأيت عجبا ! رأيت المأمون أمير المؤمنين يفوض أمر الخلافة إلى الرضا. (1) عبارة تاريخ الشيعة ص 51، 52 هكذا: ". إن كانت الخلافة حقا لك من الله، فليس لك أن تخلعها عنك، وتوليها غيرك. وإن لم تكن لك، فكيف تهب ما ليس لك. " وهذه أوضح وأدل. (2) لا ندري ما الذي أوصل الحسن بن سهل إلى مرو، مع أنه كان آنئذ في العراق، ولعل ذكر الحسن اشتباه من الراوي، واحتمل السيد الامين في أعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 120: أن يكون المأمون قد استدعى الحسن بهذه المناسبة إلى خراسان، فلما تم أمر البيعة عاد إلى بغداد. (*)
[ 279 ]
ورأيت الرضا يقول: لا طاقة لي بذلك، ولا قدرة لي عليه. فما رأيت خلافة قط كانت أضيع منها (1). (1) راجع في جميع هذه النصوص بالاضافة إلى ما تقدم: روضة الواعظين ج 1 ص 267، 268، 269، وإعلام الورى ص 320، وعلل الشرايع ج 1 ص 236، وينابيع المودة ص 384، وأمالي الصدوق ص 42، 43، والارشاد ص 310، وكشف الغمة ج 3 ص 65، 66، 66، 87، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 149، 140. والمناقب ج 4 ص 363، والكافي ج 1 ص 489، والبحار ج 49 ص 129، 134، 136. ومعادن الحكمة، وتاريخ الشيعة، ومثير الاحزان ص 261، وشرح ميمية أبي فراس ص 164، 165، وغاية الاختصار ص 68. (*)
[ 280 ]
قبول ولاية العهد بعد التهديد مع محاولات المأمون لاقناع الامام: الذي يبدو من ملاحظة كتب التاريخ والرواية، هو: أن محاولات المأمون لاقناع الامام بما يريد، كانت متعددة، ومتنوعة، وأنها بدأت من حين كان الامام (ع) لا يزال في المدينة. حيث كان المأمون يكاتبه، محاولا إقناعه بذلك، فلم ينجح، وعلم الامام أنه لا يكف عنه. ثم أرسل رجاء بن أبي الضحاك، وهو قرابة الفضل والحسن ابني سهل (1)، فأتى بالامام (ع) من المدينة إلى مرو رغما عنه.. وبذل المأمون في مرو أيضا محاولات عديدة، استمرت أكثر من شهرين. وكان يتهدد الامام بالقتل، تلويحا تارة، وتصريحا أخرى، والامام (ع) يأبى قبول ما يعرضه عليه.. إلى أن علم أنه لا يمكن أن يكف عنه، وأنه لا محيص له عن القبول، فقبل ولاية العهد مكرها، وهو باك حزين - على حد تعبير الكثيرين -، وكانت البيعة له في السابع من شهر رمضان، سنة (201 ه‍.)، كما يتضح من تاريخ ولاية العهد.. (1) وقيل: أنه عمهما، وقد كان رجاء هذا من قواد المأمون، وقد ولاه المأمون خراسان مدة، لكنه أساء السيرة، فعزله. (*)
[ 281 ]
بعض ما يدل على عدم رضا الامام (ع): والنصوص الدالة على عدم رضا الامام (ع) بهذا الامر كثيرة، ومتواترة، فقد قال أبو الفرج: ".. فأرسلهما (يعني الفضل والحسن ابني سهل) إلى علي بن موسى، فعرضا ذلك (يعني ولاية العهد) عليه، فأبى، فلم يزالا به، وهو يأبى ذلك، ويمتنع منه.. إلى أن قال له أحدهما: إن فعلت ذلك، وإلا فعلنا بك وصنعنا، وتهدده، ثم قال له أحدهما: " والله، أمرني بضرب عنقك، إذا خالفت ما يريد " !. ثم دعا به المأمون، وتهدده، فامتنع، فقال له قولا شبيها بالتهديد، ثم قال له: " إن عمر جعل الشورى في ستة، أحدهم: جدك وقال: من خالف فاضربوا عنقه، ولابد من قبول ذلك.. " (1) ! ويروي آخرون: أن المأمون قال له: ".. يا ابن رسول الله، إنما تريد بذلك (يعني بما أخبره به عن آبائه من موته قبله مسموما) التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الامر عنك، ليقول الناس: إنك زاهد في الدنيا.. فقال الرضا: والله، ما كذبت منذ خلقني ربي عزوجل، وما زهدت في الدنيا للدنيا، وإني لاعلم ما تريد ؟ !. فقال المأمون: وما أريد ؟ ! قال: الامان على الصدق ؟ قال: لك الامان. قال: تريد بذلك أن يقول الناس: إن علي بن موسى لم يزهد في (1) مقاتل الطالبيين ص 562، 563، وقريب منه ما في ارشاد المفيد ص 310 وغير ذلك. (*)
[ 282 ]
الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه: ألا ترون: كيف قبل ولاية العهد طعما في الخلافة ؟ ! فغضب المأمون، وقال له: " إنك تتلقاني أبدا بما أكرهه، وقد آمنت سطوتي، فبالله أقسم: لئن قبلت ولاية العهد. وإلا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت، وإلا ضربت عنقك.. " (1). وقال الامام الرضا (ع) في جواب الريان له، عن سر قبوله لولاية العهد: ".. قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم. إلى أن قال: ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك، على إجبار واكراه، بعد الاشراف على الهلاك إلخ.. " (2). وقال في دعاء له: ".. وقد اكرهت واضطررت، كما أشرفت من عبد الله المأمون على القتل، متى لم أقبل ولاية العهد.. ". وقال في جواب أبي الصلت: " وأنا رجل من ولد رسول الله (ص) (1) راجع في ذلك. مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 363، وأمالي الصدوق ص 43، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 140، وعلل الشرايع ج 1 ص 238، ومثير الاحزان ص 261، 262، وروضة الواعظين ج 1 ص 267، والبحار ج 49 ص 129، وغير ذلك. وفي تاريخ الشيعة ص 52: أنه بعد أن عرض عليه الخلافة، وأجابه بالجواب المتقدم في الفصل السابق، قال له: ".. إذن، تقبل ولاية العهد. فأبى عليه الامام أشد الاباء، فقال له المأمون: ".. ما استقدمناك باختيارك، فلا نعهد إليك باختيارك. والله، إن لم تفعل ضربت عنقك.. ". (2) علل الشرايع ج 1 ص 239، وروضة الواعظين ج 1 ص 268، وأمالي الصدوق. ص 72، والبحار ج 49 ص 130، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 139. (*)
[ 283 ]
أجبرني على هذا الامر واكرهني عليه.. ". بل لقد أعرب عن عدم رضاه في نفس ما كتبه على ظهر وثيقة العهد، وأنه يعلم بعدم تمامية هذا الامر، وإنما يفعل ذلك امتثالا لامر المأمون، وإيثارا لرضاه.. أما الباحثون وغيرهم فيقولون: أما الباحثون، فلعلنا لا نكاد نعثر على باحث يتعرض لهذا الامر ينسى أن يؤكد على رفض الامام (ع) لهذا الامر، واستيائه منه. يقول أحمد أمين: ".. والزم الرضا بذلك، فامتنع، ثم اجاب.. " (4). وقال القندوزي: إنه قبل ولاية العهد، وهو باك حزين (2). وقال المسعودي: ".. فألح عليه، فامتنع، فأقسم، فأبر قسمه الخ. " (3). وعلى كل حال: فإن النصوص التاريخية الدالة على عدم رضاه (ع) بهذا الامر، وأنه مكره مجبر عليه كثيرة جدا (4). وتضارعها كثرة (1) ضحى الاسلام ج 3 ص 294. (2) ينابيع المودة ص 284. (3) إثبات الوصية ص 205. (4) وإنه وإن كان سيمر معنا نصوص اخرى تدل على ذلك.. إلا أننا نحيل القارئ على بعض مظان وجودها، فراجع: ينابيع المودة ص 384، ومثير الاحزان ص 261، 262، 263، وكشف الغمة ج 3 ص 65، وأمالي الصدوق ص 68، 72، = (*)
[ 284 ]
أقوال الباحثين، الذين تعرضوا لهذا الموضوع. ولذا فليس من اليسير الاحاطة بها واستقصاؤها في مثل هذه العجالة. ولهذا.. فإننا نكتفي هنا بهذا القدر، حيث إن المجال لا يتسع لاكثر من ذلك.. = والبحار ج 49 ص 129، 131، 149، وعلل الشرايع ج 1 ص 237، 238، وإرشاد المفيد ص 191، وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 19، وج 2 ص 139، 140، 141، 149، وإعلام الورى 320، والخرائج والجرائح، وغير ذلك.. (*)
[ 285 ]
مدى جدية عرض الخلافة: عرض الخلافة ليس جديا..: مر معنا أن المأمون كان قد عرض أولا الخلافة على الامام، وأنه ألح عليه بقبولها كثيرا، سواء وهو في المدينة، أو بعد استقدامه إلى مرو، وأنه تهدده فلم يقبلها، فلما يئس من قبوله الخلافة، عرض عليه ولاية العهد، فامتنع أيضا. ولم يقبل إلا بعد أن تهدده بالقتل، وعرف الجد في ذلك التهديد ! ! وهنا سؤال لابد من الاجابة عليه، وهو: هل كان المأمون جادا في عرضه الخلافة على الامام ؟ !. ويتفرع على الاجابة على هذا السؤال سؤال آخر، وهو: إذا لم يكن المأمون جادا في عرضه ذاك، فماذا ترى سوف يكون موقف المأمون، لو أن الامام قبل أن يتقلد الخلافة، ويضطلع بشؤونها ؟ !. ومن أجل استيفاء الجواب عن هذين السؤالين، لابد لنا من الاسهاب في المقال، بالقدر الذي يتسع لنا به المجال فنقول:
[ 286 ]
الاجابة على السؤال الاول: أما عن السؤال الاول، فان الحقيقة هي: أن جميع الشواهد والدلائل تدل على أنه لم يكن جادا في عرضه للخلافة: وقد قدمنا أننا لا يمكن أن نتصور المأمون الحريص على الخلافة حرصه على نفسه، والذي قتل من أجلها أخاه. وأتباعه، بل وحتى وزراءه هو وقواده، وغيرهم. وأهلك العباد، وخرب البلاد، حتى لقد خرب بغداد بلد آبائه، وأزال كل محاسنها - لا يمكن أن نتصور - المأمون، الذي فعل كل ذلك وسواه من أجل الحصول على الخلافة.. أن يتنازل عنها بهذه السهولة، بل ومع هذا الالحاح والاصرار منه، لرجل غريب، ليس له من القربى منه ما لاخيه، ولا من الثقة به ماله بقواده، ووزرائه !. أم يعقل أن تكون الخلافة أعز من هؤلاء جميعا، والرضا فقط هو الاعز منها ؟ !. وهل يمكن أن نصدق، أو يصدق أحد: أن كل ذلك، حتى قتله أخاه، كان في سبيل مصلحة الامة ومن أجلها، ولكي يفسح المجال أمام من هو أجدر بالخلافة، وأحق بها من أخيه، ومنه ؟ !. وكيف يمكن أن نعتبر اصراره الشديد على الامام، والذي استمر أشهرا عديدة، قبل استقدامه إلى مرو وبعده، والذي انتهى به إلى حد تهديده إياه بالقتل - كيف يمكن أن نعتبره رفقا منه بالامة، وحبا لها، وغيرة على صالحها.. مع أننا نسمعه من جهة ثانية هو نفسه يصرح: بأن نفسه لم تسنح بالخلافة، عندما عرضها على الامام ؟ ! (1). وإذا لم تسنح نفسه بالخلافة، فلماذا يهدده بالقتل إن لم يقبلها ؟ !. (1) قاموس الرجال ج 10 ص 371، وغيبة الشيخ الطوسي ص 49. (*)
[ 287 ]
وكيف يمكن أن نوفق بين تهديداته تلك، وجدية عرضه للخلافة.. وبين قوله: إنه لم يقصد إلا أن يوليه العهد، ليكون دعاء الامام له، وليعتقد فيه المفتونون به الخ. ما سيأتي ؟ !. وإذا كان قد نذر أن يوليه " الخلافة "، لو ظفر بأخيه الامين، حسبما ورد في بعض النصوص التاريخية، فلماذا، وكيف جاز له الاكتفاء بتوليته العهد ؟ !. وكيف استطاع إجباره على قبول ولاية العهد، ولم يستطع إجباره على قبول الخلافة ؟ ! وأيضا.. ولماذا بعد أن رفض الامام (ع) العرض، لا يتركه وشأنه ؟ وأين هي أنفة الملوك، وعزة السلطان ؟ !. وإذا كان يأتي به المدينة ليجعله خليفة المسلمين، ويرفع من شأنه، فلماذا يأمره ويؤكد عليه في أن لا يمر عن طريق الكوفة وقم، وحتى لا يفتتن به الناس ؟ !. وأيضا. هل يتفق ذلك مع إرجاعه للامام (ع) عن صلاة العيد مرتين، لمجرد أنه جاءه من ينذره بأن الخلافة سوف تكون في خطر، لو أن الامام (ع) وصل إلى المصلى ؟ !.. حتى لقد خرج هو بنفسه مسرعا، وصلى بالناس، رغم تظاهره بالمرض، ورغم زعمه، أنه: كان يريد من الامام أن يصلي بالناس، من أجل أن تطمئن قلوبهم على دولته المباركة - على حد تعبيره - بسبب مشاركة الامام (ع) في ذلك.. وأيضا.. هل يتفق عرضه الخلافة على الامام، وتنازله عنها له، ثم توليته العهد، وبكاؤه عليه حين وفاته، وبقاؤه على قبره ثلاثة أيام، حسبما سيأتي بيانه.. هل يتفق كل ذلك، مع كتابته لعامله على
[ 288 ]
مصر: يأمره بغسل المنابر التي دعي عليها للامام (ع)، فغسلت ؟ ! (1). وبعد.. وإذا كان الامام (ع) حجة الله على خلقه، وأعلم أهل الارض على حد تعبير المأمون، فلماذا يفرض عليه نظرية لا يراها مناسبة، ويتهدده، ويتوعده على عدم قبولها، والاخذ بها ؟ !. وأخيرا.. هل يتفق ذلك كله، مع ما أشرنا، ولسوف نشير إليه، من ذلك السلوك اللاإنساني مع الامام (ع)، قبل البيعة، وبعدها، في حياة الامام، وحين وفاته، وبعدها.. وكذلك سلوكه مع العلويين. وإخوة الامام الرضا (ع) بالذات، ذلك السلوك الذي يترفع حتى الاعداء عن انتهاجه، والالتزام به، إلى آخر ما هنالك مما عرفت، وستعرف جانبا منه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.. المأمون يرتبك في تبريراته: ولعل من الامور الجديرة بالملاحظة هنا: هو أن المأمون لم يكن قد حسب حسابا للاسئلة التي سوف تواجهه في هذا الصدد، ولذا نرى أنه كان مرتبكا جدا في تبريراته لما أقدم عليه، فهو تارة يعلل ذلك بأنه: (1) ولا منافاة بينهما في نظر المأمون، فانه لم يكن يخشى من ردة الفعل في مصر، لانها بالاضافة إلى بعدها، لم تكن من المناطق الحساسة في الدولة، ولم تكن أيضا شديدة التعاطف مع العلويين، فهي إذن مأمونة الجانب.. وما كان يخشى منه قد أمنه، بتظاهره أمام الملا بالحزن الشديد على الامام عليه السلام، حيث يكون بذلك قد طمأنهم، وأبعد التهمة عن نفسه في المنطقة التي يخشى منها في الوقت الحاضر.. وإلى أن تصل أخبار مصر إلى هذه المناطق الحساسة، فانه يكون قد تجاوز المرحلة الخطيرة، ولم يعد يخشى شيئا على الاطلاق.. (*)
[ 289 ]
أراد مكافأة علي بن أبي طالب في ولده ! (1). وأخرى: بأن ذلك كان منه حرصا على طاعة الله، وطلب مرضاته، ولما يعلمه من فضل الرضا، وعلمه، وتقاه. وأنه أراد بذلك الخير للامة. ومصلحة المسلمين ! (2). وثالثة: بأنه أراد أن يفي بنذره: أنه إن أظفره الله بالمخلوع - يعني أخاه الامين الذي قتله - أن يجعل ولاية العهد في أفضل آل أبي طالب ! (3). بل ورابعة: بأنه أراد أن يجعله ولي عهده، ليكون دعاؤه له، وليعتقد فيه المفتونون به إلخ (4).. ما سيأتي تفصيله. مع تبريرات المأمون تلك: ومن الواضح أن تلك العلل والتبريرات وسواها، مما كان يتعلل (1) الفخري في الآداب السلطانية ص 219، والبحار ج 49 ص 312، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 308، والتذكرة لابن الجوزي ص 356، ونقل أيضا: عن شذرات الذهب، لابن العماد، وغير ذلك.. (2) صرح بذلك وفي وثيقه العهد، وفي الفخري في الآداب السلطانية ص 217، قال: " كان المأمون قد فكر في حال الخلافة بعده، وأراد أن يجعلها في رجل يصلح لها، كذا زعم.. ". وفي البداية والنهاية ج 10 ص 247 قال: " إن المأمون رأى عليا الرضا خير أهل البيت، وليس في بني العباس مثله، في علمه، ودينه، فجعله ولي عهده من بعده ". ومثل ذلك كثير.. (3) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 241، ومقاتل الطالبيين ص 563، واعلام الورى ص 320، والبحار ج 49، ص 143، 145، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 112، وعيون أخبار الرضا، وارشاد المفيد، وغير ذلك. (4) لكن هذا الكلام لم يكن إلا لخصوص العباسيين، كما عرفت وستعرف ! !. (*)
[ 290 ]
به المأمون، كانت مفتعلة قبل أوان نضجها، ولعله لما أشرنا إليه من أنه لم يكن قد حسب حسابا لهذه الاسئلة التي واجهته، فكانت أجوبته متناقضة، متضادة، من موقف لآخر، ومن وقت لآخر.. حتى إن التناقض يبدو في التبرير الواحد، إذ تراه مرة يقول: " إنه نذر أن يجعل الخلافة في ولد علي ". وأخرى يقول: " إنه نذر أن يجعل ولاية العهد فيهم ". وثالثة: يضيف إليهم آل العباس. وهكذا. ولولا خوف الناس منه، ومن بطشه لوجدنا الكثيرين يسألونه: إنه إذا صح: أنه نذر الخلافة لولد علي، فلماذا قبل منه واكتفى بولاية العهد ؟ !، إذ قد كان عليه أن يجبره على قبول الخلافة، كما أجبره على قبول ولاية العهد.. وإذا صح أنه نذر له ولاية العهد، فلماذا عرض عليه الخلافة، وأصر عليه بقبولها. وإننا وإن لم نجد لهذه الاسئلة، وسواها أثرا فيما بأيدينا من كتب التاريخ. إلا أننا رأينا الشواهد الكثيرة الدالة على أن الناس كانوا يشكون كثيرا في نوايا المأمون وأهدافه مما أقدم عليه. وحسبنا هنا: ما رواه لنا الصولي، والقفطي، وغيرهما من قضية عبد الله بن أبي سهل النوبختي المنجم، حيث أراد اختبار ما في نفس المأمون، فأخبره أن وقت البيعة للامام (ع) كان غير صالح، فأصر المأمون على إيقاع البيعة في ذلك الوقت، وتهدده بالقتل إن حدث تغيير في الوقت والموعد، وقد تقدمت القصة بكاملها تقريبا في فصل سابق، وقد ذهب إلى ذكره غير واحد من المؤلفين (1). (1) تاريخ الحكماء 222، 223، وفرج المهموم في تاريخ علماء النجوم ص 142، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 114. والبحار ج 49، ص 132، 133، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 147، 148، وغير ذلك.. (*)
[ 291 ]
الامام يدرك أهداف المأمون من عرض الخلافة: ولعلنا نستطيع أن نجد فيما قدمناه في هذا الكتاب ما يفسر لنا موقف الامام (ع) من المأمون.. ذلك الموقف الذي لم يكن يتسم بالمهادنة، أو الموافقة أصلا. بل كان قاسيا وعنيفا في مقابل عرض المأمون للخلافة عليه، كما ألمحنا إليه في باب: " عرض الخلافة، ورفض الامام ". وما ذلك.. إلا لانه كان يعلم أنها لعبة خطيرة، تحمل في طياتها الكثير من المشاكل والاخطار، سواء بالنسبة إليه (ع)، أو بالنسبة إلى العلويين، أو بالنسبة إلى الامة بأسرها.. ولقد كان (ع) يدرك: أن المأمون كان يرمي من وراء هذا العرض إلى أن يعرض حقيقة نوايا الامام (ع)، ويستظهر دخيلة نفسه، حتى إذا ما رآه راغبا فيها رغبة حقيقية، سقاه الكأس، التي سقاها من قبل لمحمد بن محمد بن يحيى بن زيد، صاحب أبي السرايا، ومن بعد لمحمد بن جعفر، وطاهر بن الحسين، وغيرهم، وغيرهم.. وانه كان يريد أن يجعل ذلك ذريعة لفرض ولاية العهد، وتمهيدا لاجباره على قبولها، لان ما يحقق له مآربه، ويوصله إلى غاياته، التي تحدثنا عن جانب منها في فصل: ظروف البيعة.. هو قبول الامام لولاية العهد، لا الخلافة.. كما أن هذا هو الذي يمكن أن يكون ممهدا لتنفيذ الجزء التالي من خطته، ألا وهو القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. ومن ثم.. وبعد كل ما تقدم.. تكون النتيجة هي: أن المأمون لم يكن جادا في عرضه للخلافة، وإنما فقط كان جادا في عرضه لولاية العهد.
[ 292 ]
ويبقى هنا سؤال: " لو أن الامام قبل عرض الخلافة، فماذا ترى سوف يكون موقف المأمون ؟ ! ". أولا: وقد يمكن الاقتناع بالجواب هنا لو قيل: بديهي أن المأمون كان قد أعد العدة لاي احتمال من هذا النوع.. وقد كان يعلم أنه يستحيل على الامام، خصوصا في تلك الظروف: أن يقبل عرض الخلافة، من دون إعداد مسبق لها، وتعبئة شاملة لجميع القوى، وفي مختلف المجالات، ولسوف يكون قبوله لها بدون ذلك عملا انتحاريا، لا مبرر له، ولا منطق يساعده. إذ من البديهي أن الامام الذي كان يعلم كم كان للقائد الحقيقي، والمصلح الواعي، من أثر في حياة الامة، وفي مستقبلها، وكيف يمكن أن تتحد في ظلة قدرات الامة - أفرادا وجماعات - وامكاناتها المادية، والفكرية وغيرها في طريق صلاحها، واصلاحها.. ويعلم أيضا: كيف يكون الحال، لو كان القائد فاسدا، حتى بالنسبة لما يبدو من تصرفاته في ظاهره صحيحا وسليما.. إن الامام الذي كان يعلم ذلك وسواه - وبصفته القائد الحقيقي للامة، لو حكم، فلابد له أن يقيم دولة الحق والعدل، ويحمل الناس على المحجة، ويحكم بما أنزل الله، كما حكم جده محمد صلى الله عليه وآله، وأبوه علي (ع) من قبل.. وحكمه هذا سوف يكون مرفوضا جملة وتفصيلا، لان الناس، وإن كانوا عاطفيا مع أهل البيت عليهم السلام، إلا أنهم حيث لم يتربوا تربية إسلامية صحيحة، وصالحة، إذا أراد العلويون، أو غيرهم حملهم على المحجة، فلسوف لا ينقادون لهم بسهولة، ولا يطيعونهم بيسر، ولسوف يكون الحكم بما أنزل الله غريبا على أمة اعتادت
[ 293 ]
على حياة خلفاء بني العباس، ومن قبلهم بني أمية المليئة بالانحرافات والموبقات. أولئك الخلفاء الذين كانوا في طليعة المستهترين، والمتحللين من كل قيود الدين والانسانية، والذين كانوا يتساهلون في كل شئ، ما دام لا يضر بوجودهم في الحكم.. نعم.. في كل شئ على الاطلاق، حتى في الدين وأحكامه، والاخلاق، والمثل العليا، وما ذلك إلا لانهم لم يكن همهم إلا الحكم، والتسلط، وامتصاص دماء الشعوب، ولا يهمهم - بعد - أن يفعل الناس ما شاءوا. ليتستروا بالدين، ليكفروا بالله، ليتحللوا من الاخلاق والفضائل الانسانية، ليأكل بعضهم بعضا، ليكونوا أنعاما سائمة، أو ليكونوا وحوشا ضارية، فان ذلك كله لا يضر. والذي يضر فقط هو: أن يتعرضوا للحكم، ويفكروا بالسلطان، كيفما كان التعرض، وأيا كان التفكير. وإذا كان الامام علي (ع) عندما أراد أن يحكم بما أنزل الله تعالى، قد لاقى ما لاقى مما لا يجهله أحد.. رغم ما سمعته الامة من فم النبي صلى الله عليه وآله مباشرة في حقه، وقرب عهدها به. فكيف بعد أن مرت عشرات السنين، وأصبح الانحراف عادة جارية، وسنة متبعة، واتخذ نحوا من الاصالة في حياة الامة، وروحها، وأصبح - للاسف - جزءا لا يتجزأ من كيانها وواقعها.. وأيضا.. إذا كان أبو مسلم قد قتل ست مئة ألف نفس صبرا، عدا مئات الالوف الاخرى، التي ذهبت طعمة للسيوف في المعارك. وإذا كانت ثورة أبي السرايا قد كلفت المأمون " 200 " ألف جندي، من جنوده هو.. وإذا كان العصيان ما انفك يظهر من كل جانب ومكان، رغم أن
[ 294 ]
الحكم كان أولا وآخرا مع أهواء الناس، ومصالحهم الشخصية.. فهل يمكن مع هذا.. ان لا يتعرض الامام (ع) لعصيان أصحاب الاهواء - وما أكثرهم - والكيد من قبل الاعداء، الذين سوف يزيد عددهم، وتتضاعف قوتهم. عندما يحاول الامام (ع) ان يفرض عليهم حكما ما اعتادوه، وسلوكا ما ألفوه ؟ !.. إن من الواضح: ان الناس وان كانت قلوبهم معه، الا ان سيوفهم سوف تنقلب لتصير عليه، كما انقلبت على آبائه وأجداده من قبل، وذلك عندما لا ينسجم مع رغائبهم. وأهوائهم، وانحرافاتهم. حيث إن الامام (ع) إذا أراد أن يحكم، فلسوف يواجه - بطبيعة الحال - تلك العناصر القوية، ذات النفوذ، وأولئك المستأثرين بكل الاموال والاقطاع، من أصحاب الاطماع، والمصالح الشخصية، وجها لوجه.. إذ أننا لا يمكن أن ننتظر من حكومة الامام، التي هي على الفرض حكومة الحق، والعدل: أن تقرهم على ما هم عليه، فضلا عن أن توفر لهم الحماية لتصرفاتهم المشبوهة، وغير المنطقية، بل حتى ولا الاخلاقية أيضا. إن حكومة الامام (ع)، إذا أرادت أن تقوم بعمل أساسي في سبيل استئصال كل جذور الانحراف والفساد.. فان عليها أولا، وقبل كل شئ، أن تقوم بقطع أيدي أولئك الغاصبين لاموال الامة، والمتحكمين بمقدراتها. وإبعاد كل أولئك الذين كانوا يستغلون مناصبهم، التي وصلوا إليها عن طريق الظلم، والغطرسة، والابتزاز - يستغلونها - لمأربهم الشخصية، وانحرافاتهم اللاأخلاقية. ثم. قطع أعطيات ذلك الفريق من الناس، الذين كانوا يعيشون على حساب الامة، ويأكلون خيراتها. ثم لا يقومون في مقابل ذلك بأي عمل، أو نشاط يذكر.
[ 295 ]
وأيضا. منع المحسوبيات، والوساطات، من أصحاب الوجاهات، الذين كانت تسيرهم الروح القبلية، ويهيمن عليهم الشعور الطبقي في دولة الاطماع والمزايدات، أو دولة التهديد، والعسف، والارهاب. يضاف إلى ذلك كله.. أنه إذا أراد الامام (ع) أن ينطلق في كل نصب وعزل من مصلحة الامة، لا من مصلحة الحاكم والقبيلة، فطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إثارة القبائل ضده، ويؤلبهم عليه.. فزعماء القبائل سواء كانوا عربا أو فرسا كانوا يلعبون دورا هاما في انجاح اية ثورة وقيام أية دعوة واستمرار ونجاح أي حكم. وبعد كل ذلك، فإن من الطبيعي إذن: أن يستفحل الصراع بينه، وبين العناصر القوية، ذات النفوذ، من أصحاب الاهواء، والمصالح الشخصية، وأولئك الذين يعتمل في نفوسهم طموح كبير، نحو زبارج الدنيا، وبهارجها. وذلك عندما يعطي القيمة الحقيقية لهؤلاء جميعا، ويجعلهم في المستوى الذي يجب أن يكونوا فيه، ويحدد ويقيم لهم واقعهم الذي لن يرضوا أبدا بتحديده وتقييمه. وعلى الاقل لن تساعده تلك العناصر على تصحيح الوضع، وإقرار النظام.. هذا إن لم تكن هي العقبة الكأداء، التي تحول بينه وبين ما يصبو إليه، وتمنعه من تحقيق ما يريد.. يضاف إلى ذلك كله: أن القيادة القبلية كانت قد فسدت آنذاك، واعتاد رؤساء القبائل على نكث العهود والمواثيق التي يعطونها، فكانوا يؤيدون هذه الدعوة، وهذا القائم بها، إلى أن يجدوا من يستفيدون منه، ويغدق عليهم أكثر من الاموال، ويخصهم بما يفضل ما يخصهم به ذاك من المناصب. وكان للقيادات القبلية دور كبير في إنجاح أية دعوة، وانتصار أية ثورة.. وبعد.. فإنه إذا كان الامام (ع) لن يحابي أحدا على حساب دينه ورسالته.. وإذا كان - من الجهة الاخرى - مركزه ضعيفا في الحكم. وإذا كان ليس لديه القوة والقدرة الكافية لمواجهة مسؤولياته كاملة.
[ 296 ]
فلسوف ينهار حكمه وسلطانه أمام أول عاصفة تواجهه، ولن يستطيع أن يبقى محتفظا بوجوده في الحكم، أو على الاقل بمركز يخوله أن يفرض الحكم الذي يريد على المجتمع، بجميع فئاته، ومختلف طبقاته. إلا أن يكون حاكما مطلقا، لا تحد سلطته حدود، ولا تقيدها قيود، وأنى له بذلك. وبعد كل ما تقدم، فان النتيجة تكون، أن الامام (ع)، وإن كان يمتلك القدرة على الاصلاح، لكن الامة لم تكن لتتحمل مثل هذا الاصلاح، خصوصا وأن الحكام - بوحي من مصالحهم الخاصة - كانوا قد أدخلوا في أذهان الناس صورا خاطئة عن الحكم، وعن الحكام، الذين يفترض فيهم ان يقودوا الامة في مسيرها إلى مصيرها. هذا كله. لو فرض - جدلا - سكوت العباسيين والمأمون عنه، مع أن من المؤكد أنهم سوف يعملون بكل ما لديهم من قوة وحول، من أجل تقويض حكمه، وزعزعة سلطانه. وإذا كان يستحيل على الامام (ع)، في تلك الفترة على الاقل: أن يتسلم زمام السلطة إلا أن يكون حاكما مطلقا كما قدمنا. فمن الواضح أن سؤالا من هذا النوع لا مجال له بعد. ولن يكون في تجشم الاجابة عليه كبير فائدة، أو جليل أثر. ولكن.. مع ذلك، وحتى لا نفرض على القارئ وجهة نظر معينة، إذ قد يرى أن من حقه أن يفترض - وإن أبى واقع الاحداث مثل هذا الافتراض - أنه كان على الامام (ع): أن يجاري، ويداري في بادئ الامر، من أجل الوصول إلى أهداف فيها خير الامة ومصلحتها، من أجل ذلك.. نرى لزاما علينا أن نجاريه في هذا الافتراض، ونتجه إلى الاجابة على ذلك السؤال بنحو آخر، فنقول: وثانيا: إنه إذا كان المأمون في تلك الفترة هو الذي يمتلك القدرة والسلطان.. وإذا كانت كل أسباب القوة والمنعة متوفرة لديه بالفعل،
[ 297 ]
فإنه سوف يسهل عليه - إذا لم يكن حكم الامام (ع) على وفق ما يشتهي، وحسبما يريد -: أن يأخذ على ذلك الحكم: (الذي يرى نفسه، ويرى الناس أنه مدين للمأمون) أقطار الارض، وآفاق السماء. ولن يصعب عليه تصفيته، والتخلص منه من أهون سبيل، حيث إنه حكم لا يزال، ولسوف يسعى المأمون لان يبقيه في المهد، يستطيع المأمون أن ينزل به الضربة القاصمة القاضية متى شاء، دون أن تعطى له الفرصة لحشد قدراته، وتجميع قواه في أي من الظروف والاحوال. وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الامام (ع) سوف يكون بين خيارين لا ثالث لهما: فاما أن يحاول تحمل المسؤولية الحقيقية، بكل أبعادها، وتبعاتها، باعتباره القائد الحقيقي للامة، ويقدم على كل ما تقدمت الاشارة إليه من اصلاحات جذرية في جميع المجالات، وعلى مختلف المستويات، مما سوف يكون من نتائجه أن يعرض نفسه للهلاك، حيث لا يستطيع الناس، والمأمون واشياعه تحمل ذلك، والصبر عليه، ويكون له ولهم كل العذر في تصفيته، والتخلص منه. وإما أن لا يتحمل مسؤولية الحكم، ولا يأخذ على عاتقه قيادة الامة، وإنما تكون مهمته، وما يأخذه على عاتقه هو فقط تنفيذ إرادات المأمون، وأشياعه من المنحرفين. ويكون هو الواجهة التي يختفي وراءها الحكام الحقيقيون، المأمون ومن لف لفه.. وواضح أن نتيجة ذلك سوف تكون أعظم خطرا على الامام، وعلى العلويين، وعلى الامة بأسرها، وأشد فداحة من نتيجة الخيار السابق، حيث يكون قد قضى بذلك على كل آمال الامة، وكل توقعاتها. وذلك هو كل ما يريده المأمون، ويسعى من أجل الحصول عليه، بكل ما أوتي من قوة وحول. وثالثا: إن من الواضح: أن عرض المأمون التنازل عن الخلافة للامام (ع)، لا يعني أبدا أن المأمون سوف لا يحتفظ لنفسه بأي من
[ 298 ]
الامتيازات، التي تضمن له - في نظره - نصيبا من الامر (1). ولسوف يرى الناس كلهم أن له كل الحق في ذلك. كما أن ذلك لا يعني أنه سوف لا يعود له نفوذ في الاوساط ذات النفوذ والقوة. بل إنني أعتقد أنه سوف يكون في تلك الحال أقوى بكثير منه في غيرها، حتى إن المنصب للامام (ع)، قد يكون شكليا، ومركزه صوريا، لا حول له فيه ولا قوة. وحينئذ.. وإذا كان المأمون سوف يبقى له نفوذ وقوة، وإذا كان سوف يشترط لتنازله عن الخلافة للامام، ما يضمن له استمرار تلك القوة، وذلك النفوذ، بل وعودة الخلافة له في نهاية الامر. فلسوف لا يصعب عليه كثيرا أن يدبر - وهو الداهية الدهياء - في الامام (ع) بما يحسم عنه مواد بلائه، على حد تعبير المأمون. وليطمئن - من ثم - خاطره، ويهدأ باله، حيث يكون قد حقق كل ما كان يصبو ويطمح إلى تحقيقه. كما أنه يكون قد اصبح يمتلك اعترافا من العلويين بشرعية خلافته.. بل يكون العلويون على يد أعظم شخصية فيهم، هم الذين رفعوه على العرش وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان.. إلى آخر ما هنالك مما قدمناه، ولا نرى ضرورة لاعادته. وفي النهاية: والآن.. وبعد أن ألقينا نظرة سريعة على مدى جدية المأمون، في عرضه للخلافة على الامام (ع)، وتحدثنا عن الوضع الذي سوف ينتج لو أن الامام قبل ذلك العرض.. فإن من الطبيعي أن نتطلع لنعرف ما هو موقف الامام من تلك اللعبة - لعبة ولاية العهد - وما هي خطته في مواجهة ما يعلمه من خطط المأمون، وأهدافه الشريرة. فإلى الفصل التالي، والذي بعده.. (1) كأن يشترط أن يكون هو الوزير، أو ولي العهد مثلا. (*)
[ 299 ]
موقف الامام (ع): سؤال يطرح نفسه: هل يعقل أن رجلا تعرض عليه الخلافة، أو ولاية العهد، بل ما هو أقل منهما بمراتب، ويعرف جدية العرض، ثم يرفض ذلك رفضا قاطعا، ثم يهدد، فلا يقبل إلا بما هو أبعد منالا، وأقل احتمالا - بالنسبة إلى سنه - وبشروط تبعده كل البعد عن مسرح السياسة والحكم، وتجعل من كل شئ مجرد إجراءات شكلية، لا أثر لها. هل يعقل أن رجلا من هذا القبيل - يسلم من أن ينسب إلى ما لا يرضى أحد بأن ينسب إليه ؟ !. اللهم إلا إذا كان هناك ما هو أعظم، وأدهى وأخطر من ذلك المنصب، وإلا إذا علم أنه سوف يدفع ثمن ذلك غاليا، وغاليا جدا، ألا وهو نفسه التي بين جنبيه !. والامام. الذي نعرف، ويعرف كل أحد: أنه ذلك الرجل الجامع لكن صفات الفضل والكمال: من العلم، والعقل، والحكمة، والدراية، والتقى، شهد له بذلك أعداؤه ومحبوه، على حد سواء - هذا الامام. قد رفض كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد.. رفضهما رفضا
[ 300 ]
باتا وقاطعا، ولم يقبل ولاية العهد إلا على كره واجبار منه، وإلا وهو باك حزين، وعاش بعد ذلك في ضيق شديد، ومحنة عظيمة، حتى إنه كان يدعو الله بالفرج بالموت !. وعليه. أفلا يكفي موقف الامام هذا، وسائر مواقفه من مختلف تصرفات المأمون، لان يضع علامة استفهام كبيرة حول طبيعية هذا الحدث ؟ !. ألم يكن من الواجب أن يكون الامام (ع) مستبشرا مبتهجا كل الابتهاج لما سيؤول إليه أمره. ومدافعا عن المأمون، ونظام حكمه، ومناصرا له، بكل ما أوتي من قوة وحول ؟ !. ثم ألا يفهم من ذلك كله: أنه (ع) كان يدرك ما يكمن وراء قبوله لاي من العرضين من مشاكل، وما ينتظره من أخطار ؟ !. وأن ذلك ليس إلا شركا يقصد ايقاعه به، ومن بعده كل العلويين، للقضاء عليه وعليهم، وإلى الابد ! !. وإذا كان الامام (ع) يعرف الحقيقة.. فهل يمكن أن نتصور أن يكون راضيا بأن يجعله المأمون وسيلة لاغراضه، وآلة لتحقيق مآربه وأهدافه ! !. سيما إذا لاحظنا أنه يعرف أكثر من أي انسان آخر ما لتلك اللعبة من عواقب سيئة، وما تحمله في طياتها من آثار، ليس عليه هو، وعلى العلويين، والمتشيعين لهم فحسب. وإنما على الامة بأسرها إن حاضرا، وإن مستقبلا ! ؟. هذا كله عدا عن أن هذه اللعبة سوف تكون بمثابة قطع الطريق عليه في أي تحرك يقوم به، وأي نشاط إصلاحي يمارسه، حيث لم يعد
[ 301 ]
يستطيع أن يكون في المستقبل قائدا للحركة المضادة للمأمون، ونظام حكمه، القائم على غير أساس شرعي، ومنطقي سليم (1). لا يرضى الامام (ع)، ولا يقتنع المأمون: لا.. لا يمكن أن يرضى الامام بذلك، وخصوصا بعد أن تلقى العلم عن آبائه الصادقين، عن النبي صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى: بأن ذلك شئ لا يتم، وأوضح ذلك بما كتبه على وثيقة العهد الآتية بخط يده، حيث قال: " والجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك، لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين. ". لا. لا يمكن أن يرضى ببيعة يعلم أنها لا تتم له، وإنما تخدم مصالح آخرين. وتحقق لهم مأربهم، على حساب الدين، والامة، ولهذا رفض بشدة وعنف، وأصر عليه المأمون بشدة وعنف أيضا. ولم يكن ليقنع المأمون شئ، بعد أن كان يرى أن القضية بالنسبة إليه قضية مصير ومستقبل، وهو مستعد لان يضحي بكل شئ في سبيل مصيره ومستقبله، كما ضحى بأخيه وأشياعه من قبل. وإنه إذا تأكد لديه رفض الامام (ع) القاطع، وتصور ما سوف تؤول إليه حاله نتيجة لذلك الرفض، فلسوف لا يألو جهدا، ولا يدخر (1) وفي كتاب: الامامة للشيخ محمد حسن آل ياسين ص 86، قال إنه عليه السلام وافق على فكرة ولاية العهد، لتكون فترة امتحان وتجربة للمأمون. ولا يخفى ما فيه، فان كل الدلائل والشواهد كانت تشير إلى أن الامام عليه السلام كان يعلم بحقيقة نوايا المأمون وأهدافه، ولم تكن ثمة حاجة إلى امتحان وتجربة، كما اتضح وسيتضح إن شاء الله تعالى. (*)
[ 302 ]
وسعا في الانتقام لنفسه من الامام (ع)، ومن كل من تصل إليه يده، ممن له به (ع) أية صلة أو رابطة. هي قضية مصير: وبأوضح بيان نقول: إنه لم يكن امتناع الامام (ع) عن قبول ولاية العهد بالذي يثني المأمون عما كان قد عقد العزم عليه، لان الاسباب التي كانت تدعوه لذلك لم تكن تسمح له أبدا بالاصغاء لهذا الرفض، فهي تحتم عليه أن يفعل ذلك، مهما كلفه الامر، ومهما كانت النتائج، ولم يكن لديه مانع من تنفيذ تهديداته، ولو علم أنه لا سبيل إلى تنفيذ ما يصبو إليه، والحصول على ما يريد الحصول عليه، والقضية بالنسبة إليه هو المتعطش إلى الحكم والسلطة قضية مصير ومستقبل، لا يمكن المساومة معها، ولا مجال لغض النظر والتساهل فيها.. وإذا كان قد قتل أخاه من أجل الملك وفي سبيله، فأي مانع يمنعه من قتل الرضا (ع) من أجل الملك أيضا، وفي سبيله.. أم يعقل أن يكون الرضا أعز عليه من أخيه، وسائر من قتل من وزرائه هو، وقواده، وأشياعه ؟ ! ؟. ولسوف لا نستغرب على المأمون - بعد قتله أخاه - الاقدام على أي تصرف في سبيل الملك، حتى الاقدام على قتل الرضا (ع)، بعد أن كان أبوه الرشيد قد أملى عليه درس، " الملك عقيم "، وقال له: " والله، لو نازعتني أنت هذا الامر، لاخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم.. " (1). (1) شرح ميمية أبي فراس ص 73، والبحار ج 48 ص 131، وقاموس الرجال ج 10 صرح 370، وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 91، وينابيع المودة ص 383، مع بعض تحريف لها، وغير ذلك.. (*)
[ 303 ]
ولم يكن ليخفى عليه أيضا قول موسى بن عيسى، عندما رأى عبادة الحسين بن علي وأصحابه، في وقعة فخ: ".. هم والله، اكرم عند الله، وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم. ولو أن صاحب هذا القبر (يعني النبي صلى الله عليه وآله)، نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف. " (1). وهذا الدرس قد أخذه الكل عن عبد الملك بن مروان، فإنه عندما قتل مصعب بن الزبير بكى، وقال: " لقد كان أحب الناس إلي، وأشدهم مودة لي، ولكن الملك عقيم، ليس أحد يريده من ولد ولا والد إلا كان السيف " (2). بل وحتى نفس أخيه الامين، عندما لم يعد له نجاة من براثن أخيه المأمون، نراه يتذكر هذه القاعدة، فيقول: " هيهات، الملك عقيم، لا رحم له.. " (3). ولقد عمل المأمون بهذه القاعدة، فقتل أخاه، وأعطى الذي جاءه برأسه مليون درهم. بعد أن سجد شكرا لله، ونصب الرأس على خشبة ليلعنه الناس، إلى آخر ما مر تفصيله.. وإذا كانت القضية بالنسبة إلى المأمون قضية مصير ومستقبل وقضية ملك وسلطان، فطبيعي إذن أن نراه يخاطر بالخلافة (وان كنا قدمنا أن ذلك كان منه سياسة ودهاء من أجل التمهيد لفرض ولاية العهد)، وأقدم على التخلي عن ولاية العهد، مع أن العباس ابنه وسائر ولده (1) مقاتل الطالبيين ص 453، وثمرات الاعواد 199، 200، وشرح ميمية أبي فراس ص 74. (2) شرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 296، وطبقات ابن سعد ج 5 ص 168، والبداية والنهاية ج 8 ص 316. (3) تتمة المنتهى ص 185. (*)
[ 304 ]
كانوا أحب إلى قلبه، وأجلى في عينه من كل أحد، على حد تعبيره في رسالته للعباسيين. ولقد قدمنا الشرح الكافي والوافي لحقيقة الظروف والاسباب، التي دعت المأمون إلى ذلك، والتي هي دون شك كافية لان تجعل المأمون يقدم على أي عمل - ولو كان انتحاريا - من أجل انقاذ نفسه وخلافته، والعباسيين.. حتى ولو كان ذلك الشئ هو قتل الامام (ع).. ولقد أخبر الامام كرات، ومرات: أنه لم يقبل إلا بعد أن اشرف من المأمون على الهلاك. مبررات قبول الامام لولاية العهد: ولقد قبل الامام (ع) ولاية العهد. ولكن.. بعد أن عرف أن ثمن رفضه لها لن يكون غير نفسه التي بين جنبيه. هذا عدا عما سوف يتبع ذلك من تعرض العلويين، وكل من يتشيع لهم إلى أخطار هم في غنى عنها.. ولو فرض أنه كان له هو (ع) الحق - في مثل هذه الظروف - في أن يعرض نفسه للهلاك، فلن يكون له حق أبدا في أن يعرض غيره من شيعته ومحبيه، والعلويين أجمع إلى الهلاك أيضا.. هذا.. عدا عن أنه (ع) كان عليه أن يحتفظ بحياته، وحياة شيعته ومحبيه، لان الامة كانت بأمس الحاجة إلى وعيهم وإدراكهم، ليكونوا لها قدوة ومنارا، تهتدي، وتقتدي به، في حالكات المشاكل، وظلم الشبهات. نعم.. لقد كانت الامة بأمس الحاجة إلى الامام (ع)، وإلى من رباهم الامام، حيث كان قد غزاها في ذلك الوقت تيار فكري، وثقافي غريب، من الزندقة والالحاد، وشاعت فيها الفلسفات والتشكيكات
[ 305 ]
بالمبادئ الالهية الحقة، فكان على الامام (ع) أن يقف. ويقوم بواجبه، وينقذ الامة، ولقد كان ذلك منه بالفعل، فلقد قام بواجبه، وأدى ما عليه، على أكمل وجه، رغم قصر المدة التي عاشها بعد البيعة نسبيا، ولهذا نقرأ في الزيارة الجوادية، ".. السلام على من كسرت له وسادة والده أمير المؤمنين، حتى خصم أهل الكتب، وثبت قواعد الدين.. " (1). والمراد بذلك: الامام الرضا (ع). ولو أنه (ع) رفض ولاية العهد، وعرض نفسه، وشيعته، ومحبيه للهلاك فلسوف لا يكون لموته، وموتهم أدنى أثر في هذا السبيل، بل كان الاثر عكسيا، وخطيرا جدا.. أضف إلى ذلك: أن قبول الامام بولاية العهد، معناه اعتراف من العباسيين عملا، مضافا إلى القول: بأن العلويين لهم حق في هذا الامر، بل إنهم هم الاحق فيه، وأن الناس قد ظلموهم حقهم هذا. وأن ظلم الناس لهم ليس معناه عدم ثبوت ذلك الحق لهم. وقد رأينا ابن المعتز يهتم في الاستدلال على أن جعل المأمون الرضا وليا للعهد، لا يعني أن الحق في الخلافة كان للرضا والعلويين، دون المأمون والعباسيين. وأنه انما أعطاهم عن طريق التقوى والورع، وليثبت لهم أن الخلافة التي ثاروا من أجل الوصول إليها وقتلوا انفسهم في سبيلها لا تساوي عنده جناح بعوضه، فهو يقول: وأعطاكم المأمون حق خلافة * لنا حقها لكنه جاد بالدنيا ليعلمكم أن الذي قد حرصتم * عليها وغودرتم على اثرها صرعى (1) البحار ج 102 ص 53. (*)
[ 306 ]
يسير عليه فقدها غير مكثر * كما ينبغي للصالحين ذوي التقوى فمات الرضا من بعد ما قد علمتم * ولاذت بنا من بعده مرة أخرى (1) وأيضا.. حتى لا يتناساهم الناس، ويقطعوا آمالهم بهم، وحتى لا يصدق الناس ما يشاع عنهم من أنهم مجرد علماء فقهاء، لا يهمهم العمل لما فيه خير الامة، ولا يفكرون في الخروج إلى المجتمع بصفتهم رواد صلاح واصلاح ولعل إلى ذلك كله، يشير الامام (ع) في قوله لمحمد ابن عرفة، عندما سأله عن قبوله بولاية العهد، فقال له: " يا ابن رسول الله، ما حملك على الدخول في ولاية العهد ؟ ! ".. فأجابه الامام (ع): " ما حمل جدي على الدخول في الشورى.. " (2). هذا بالاضافة إلى أنه يكون في فترة ولاية العهد قد أظهر المأمون على حقيقته أمام الملا، وعرفهم بواقع واهداف كل ما أقدم عليه، وأزال كل شبهة ولبس في ذلك. كما قد حدث ذلك بالفعل. هل الامام راغب في هذا الامر: ولكن هذا كله وسواه، لا يعني أن الامام (ع) كان راغبا في أي من الخلافة، أو ولاية العهد، فإن ما دكرناه لا يبرر ذلك، حيث إنه لا يعدو عن أن يكون من الفوائد التي كان لا يمكن الحصول على بعضها (1) مناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 365، وديوان ابن المعتز ص 22 - 23 وان اهتمام ابن المعتز الواضح بقضية الرضا مع المأمون، كما يظهر من شعره هنا، والذي قدمناه مع التعليق عليه في فصل: ظروف البيعة.. يدلنا على أن هذه القضية كان لها في الامة صدي واسعا، وآثارا هامة، لم يكن بوسع ابن المعتز التغاضي عنها، والسكوت عليها، (2) راجع: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 364، ومعادن الحكمة ص 192، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 140، والبحار ج 49 ص 141 140. (*)
[ 307 ]
من دون الدخول في هذا الامر. والبعض الآخر لا يساوي في أهميته وخطره، ما سوف يجره الدخول في هذا الامر من مآس ومشاكل، وما سوف يترتب عليه من آثار سيئة وخطيرة. وقد قدمنا في الفصل السابق البيان الكافي والوافي، لما سوف يعترض طريق الامام (ع) من عقبات في الحكم، لو أنه كان قبل عرض الخلافة، وكيف ستكون النهاية له، ولنظام حكمه.. وهو يوضح لنا أيضا حقيقة حاله، ونظام حكمه لو أنه قبل ولاية العهد، إذ أنه (ع) كان يعلم: أن وصوله للخلافة، وتسلمه لازمة الحكم والسلطان تعترضه عقبات صعبة، وأهوال عظيمة، لن يكون من اليسير التغلب عليها، وتجاوزها. فلقد كان يعلم - كما أظهرت الاحداث والوقائع بعد ذلك - أنه لن يسلم من دسائس المأمون وأشياعه، بحيث يبقى محتفظا بحياته، أو على الاقل بمركزه، إلى ما بعد وفاة المأمون، ولم يكن يشك في أن المأمون سوف يقدم على كل غريبة، من أجل التخلص منه، وتصفيته، إن جسديا، وان معنويا.. بل.. وحتى لو أن المأمون لم يقدم على أي عمل، فإن آماله بالبقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، وهو بهذه السن المتقدمة، بالنسبة لسن المأمون.. كانت ضعيفة جدا، لا تبرر له الاقدام على قبول مثل هذا الامر، إلا إذا كان يريد أن يعطي الناس انطباعا عن نفسه، بأنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت، كما كان يريد المأمون ! ! ومع غض النظر عن كل ذلك.. فإنه لو قدر له البقاء على قيد الحياة إلى ما بعد وفاة المأمون، فلسوف يصطدم بتلك العناصر القوية ذات النفوذ، والتي لن ترضى عن سلوكه في الحكم بصورة عامة، وفوق
[ 308 ]
ذلك كله، لسوف يصطدم بمؤامرات العباسيين، وأشياعهم، والذين كانوا على استعداد لان يعملوا المستحيل للحيلولة بينه وبين ذلك، ولو تمكن من ذلك، فلسوف لا يدخرون وسعا، ويجندون كل ما لديهم من طاقة وقوة وحول، من أجل زعزعة حكمه، وتقويض سلطانه، وخلق المشاكل الكثيرة له، لتضاف إلى ذلك الركام الهائل من المشاكل التي كانت تواجه الحكم. إنهم سوف لا يمكنونه من قيادة الامة قيادة صالحة، وسليمة وحكيمة، وليمنى - من ثم - بالفشل الذريع، والخببة ؟ ؟ القاتلة. ولسوف يجدون هناك مرتعا خصبا لمؤامراتهم، ودسائسهم في تلك الدولة المترامية الاطراف، الطافحة بالمشاكل، وذلك عندما يجدون أن الامام (ع) لن يرضى إلا أن يحكم بحكم جديه محمد صلى الله عليه وآله وعلي (ع). وأن الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم سوف لا يكونون مستعدين لتقبل حكم كهذا. ولا أن ينقادوا لحاكم يريد منهم ذلك، ويخضعوا لارادته، بعد أن كانوا قد اعتادوا على حياة الخلفاء الامويين، والعباسيين، المليئة بالانحرافات والموبقات. اللهم إلا أن يقوم الامام (ع) في فترة ولاية العهد، أو بداية حكمه باعداد مسبق، وتعبئة عامة وشاملة، على جميع المستويات، وفي مختلف المجالات.. وإلا.. فلسوف لا يكون قادرا على مواجهة ذلك الركام الهائل من المشاكل، ولا على النجاح والاستمرار في الحكم.. ولن يفسح العباسيون، والمأمون، وأشياعهم له المجال للقيام بذلك الاعداد، وتلك التعبئة، مهما كلفهم ذلك من تضحيات. فالسلبية اذن هي الموقف الصحيح: وبعد كل ما تقدم: فإن من الطبيعي أن لا يفكر الامام (ع) في
[ 309 ]
الوصول إلى الحكم عن مثل هذا الطريق الملتوي، والمحفوف بالاخطار، والذي لم يحقق له أي هدف من أهدافه. بل على العكس: سوف يكون موجبا للقضاء عليه، وعلى كل آماله، وكل العلويين، والمتشيعين لهم، ويحقق فقط آمال الآخرين، وأهدافهم.. ولسوف يكون إقدامه على عمل من هذا النوع عملا انتحاريا، لا مبرر له، ولا منطق يساعده، لابد من خطة لمواجهة الموقف: وأخيرا.. وإذا كان لم يكن الرضا (ع) خيار في قبول ولاية العهد.. وإذا كان لا يمكن أن يقبل بأن يجعل وسيلة لتحقيق أهداف، وآلة يتوصل بها إلى مآرب يمقتها، ويكرهها كل الكره، لعلمه بما سوف يكون لها من آثار سيئة وخطيرة، على حاضر الامة، ومستقبلها، وعلى مستقبل هذا الدين، وكذلك لا يمكنه أن يسكت، ويظهر بمظهر الموافق، والمؤيد، والمساعد. فان كل ما يمكن له أن يفعله - بعد هذا - هو أن يضع خطة، يستطيع بها مواجهة مؤامرات المأمون، وإحباط مخططاته، حتى لا يزداد الوضع سوءا، والطين بلة.. فإلى الحديث عن خطته هذه في الفصل التالي.
[ 310 ]
خطة الامام (ع) إنحراف الحكام: إن أدنى مراجعة لتاريخ الحكام آنداك - العباسيين والامويين على حد سواء - لكفيلة بأن تظهر بجلاء مدى منافاة تصرفات أولئك الحكام، وسلوكهم، وحياتهم لمبادئ الاسلام وتعاليمه.. الاسلام، الذي كانوا يستطيلون على الناس به، ويحكمون الامة - حسب ما يدعون - باسمه، وفي ظله. حتى لقد اصبح الناس، والناس على دين ملوكهم، يتأثرون بذلك، ويفهمون خطأ: أن الاسلام لا يبتعد كثيرا عما يرون، ويشاهدون، مما كان من نتائجه شيوع الانحراف عن الخط الاسلامي القويم. بنحو واسع النطاق، ليس من السهل بعد السيطرة عليه، أو الوقوف في وجهه. العلماء المزيفون وعقيدة الجبر: ولقد ساعد على ذلك، وزاد الطين بلة، فريق من أولئك الذين اشتريت ضمائرهم، ممن يتسمون، أو بالاحرى سماهم الحكام ب‍ " العلماء " حيث إنهم قاموا يتلاعبون بمفاهيم الاسلام، وتعاليمه،
[ 311 ]
لتوافق هوى، وتخدم مصالح أولئك الحكام المنحرفين، الذين أغدقوا عليهم المال، وغمروهم بالنعمة. حتى إن أولئك المأجورين قد جعلوا عقيدة الجبر - الواضح لكل أحد زيفها وسخفها - من العقائد الدينية الاسلامية !.، من أجل أن يسهلوا على أولئك الحكام استغلال الناس، ولكي يوفروا لهم حماية لتصرفاتهم تلك. التي يندى لها جبين الانسان الحر ألما وخجلا، إذ أنهم يكونون بذلك قد جعلوا كل ما يصدر منهم هو بقضاء من الله وقدره، ولذا فليس لاحد الحق في أن ينكر عليهم أي تصرف من تصرفاتهم، أو أي جناية من جناياتهم. وكان قد مضى على ترويجهم هذه العقيدة المبتدعة - حتى زمان المأمون - أكثر من قرن ونصفا، أي من أول خلافة معاوية، بل وحتى قبل ذلك أيضا. بزمان طويل ! المزيفون وعقيدة الخروج على سلاطين الجور: كما أنهم - أعني هؤلاء العلماء - قد جعلوا الخروج على سلاطين الجور والفساد موبقة من الموبقات، وعظيمة من العظائم.. وقد جرحوا بذلك عدد من كبار العلماء: مثل الامام أبي حنيفة وغيره، بحجة أنه: " يرى السيف في أمة محمد " (1). (1) راجع: نظرية الامامة، للدكتور أحمد محمود صبحي وغيره. وفي تاريخ بغداد ج 5 ص 274،: أنه قيل لابي مسهر: كيف لم تكتب عن محمد بن راشد ؟ ! قال: " كان يرى الخروج على الائمة ".. وفي طبقات الحنابلة لابي يعلى ج 3 ص 58، في مقام ترجيح سفيان على حسن بن حي، كان من جملة ما جرحه به أنه: " كان يرى السيف " ومثل ذلك كثير لا نرى حاجة لاستقصائه. (*)
[ 312 ]
بل لقد جعلوا عدم جواز الخروج هذا من جملة العقائد الدينية، كما يظهر من تتبع كلماتهم (1). وأما عقائد التشبيه، وقضية خلق القرآن، فلعلها أشهر من أن تذكر، أو تحتاج إلى بيان. والذي زاد الطين بلة: يضاف إلى ذلك كله غررو الحكام، الذي لا مبرر له، وكذلك من لف لفهم، الذين كانوا يحكمون الامة باسم الدين. وكذلك غفلة الناس، وعدم إدراكهم لحقيقة ما يجري وما يحدث، وللواقع المزري، الذي كان قائما آنذاك. وأيضا.. وهو الاهم من كل ذلك - ابتعادهم، بسعي من الهيئات الحاكمة، عن أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة. كل ذلك. قد أدى بالفعل إلى انحلال الدولة داخليا، وتمزيق أوصالها.. كما وأنه قد أسهم إسهام كبيرا في ابعاد الناس عن تعاليم السماء، وشريعة الله.. الامر الذي لم يكن يعني إلا نهاية الحكم الاسلامي، (1) حسبما صرح به أحمد بن حنبل في رسالة " السنة " وهي عقايد أهل الحديث، والسنة. وقد أوردها أبو يعلى في طبقات الحنابلة ج 1 ص 26. وصرح بذلك أيضا الاشعري في مقالات الاسلاميين ج 1 ص 323، وفي الابانة ص 9. وقد علل ذلك في نظرية الامامة ص 417 بقوله: ".. ذلك أنها: إن كانت بلوى من الله عقابا لهم، فما ثورتهم برادة عقاب الله. وإن كانت محنة للمسلمين، فما هم برادي قضاء الله " !. وفي كتاب السنة قبل التدوين ص 467، نقل عن ابن خزيمة، في وصفه الطاعنين على أبي هريرة، قوله: إنهم إما معطل جهمي.. " وإما خارجي يرى السيف على امة محمد، أو قدري، اعتزل الاسلام، وأهله الخ. ". (*)
[ 313 ]
وردة الناس إلى الجاهلية الجهلاء.. الامر الذي لم يكن يرهب الحكام كثيرا، لان الاسلام الذي يريدون، والدين الذي ينشدون، هو ذلك الذي يستطيعون أن يتسلطوا على الامة، ويستأثروا بقدراتها وامكاناتها في ظله. ويمهد لهم السبيل لاستمرارهم في فرض نفوذهم وسيطرتهم، ولو كان ذلك على حساب جميع الشرائع السماوية، وكل المفاهيم الانسانية. إن أولئك الحكام. ما كانوا يفكرون إلا في وسائل بقائهم واستمرارهم في الحكم، وإلا في شؤونهم ومصالحهم الخاصة بهم. أما الامة المسلمة، وأما الاسلام، فلم يكن لهما لديهم أية قيمة، أو شأن يذكر، إلا في حدود ما يستطيعون الافادة منهما في بقائهم ووجودهم في الحكم والسلطة. الائمة في مواجهة مسؤولياتهم: وفي هذا الوسط الغريب: من غفلة الناس، ومن سيرة الحكام، والمتسمين بالعلماء وسلوكهم.. كان الائمة عليهم السلام يؤدون واجبهم في نشر تعاليم السماء، ويكافحون، وينافحون عنها، بقدر ما كانت تسمح لهم ظروفهم، التي كانت في ظل سلطان أولئك المنحرفين قاسية إلى حد بعيد. وأما عن الامام الرضا بالذات: وقد سنحت للامام الرضا (ع) فرصة لفترة وجيزة، كان الحكام منشغلين فيها بأمور تهمهم.. للقيام بواجبه في توعية الامة، وتعريفها بتعاليم الاسلام. وذلك في الفترة التي تلت وفاة الرشيد، وحتى قتل الامين. بل نستطيع أن نقول: إنها امتدت - ولو بشكل محدود - حتى وفاة الامام (ع) في سنة (203). الامر الذي كان من نتيجته ازدياد
[ 314 ]
نفوذه (ع)، واتساع قاعدته الشعبية، حتى لقد كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان هو الارضى في الخاصة والعامة، حسبما ألمحنا إليه من قبل، الخطة الحكيمة: وعندما أراد المأمون أن ينفذ خطته في البيعة له بولاية العهد، وعرف الرضا: أن لا مناص له من قبول ذلك، كان من الطبيعي أن يعد (ع) العدة، ويضع خطة لمواجهة خطط المأمون، واحباط أهدافه الشريرة، والتي كان أهونها القضاء على سمعة الامام (ع)، وتحطيمه معنويا واجتماعيا. ولقد كانت حطة الامام هذه في منتهى الدقة والاحكام، وقد نجحت أيما نجاح في إفشال المؤامرة وتضييع كثير من أهدافها، وجعل الامور في صالح الامام (ع)، وفي ضرر المأمون.. حتى لقد ضاع رشد المأمون (بل ورشد أشياعه أيضا)، وهو أفعى الدهاء والسياسة، ولم يعد يدري ما يصنع، ولا كيف يتصرف.. مواقف لم يكن يتوقعها المأمون: ولعلنا نستطيع أن نسجل هنا بعض المواقف للامام (ع)، التي لم يكن المأمون قد حسب لها حسابا، والتي كانت ضمن خطة الامام (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون.. الموقف الاول: اننا نلاحظ أن الامام (ع) قد رفض دعوة المأمون، وهو في المدينة
[ 315 ]
ولم يقبل إلا بعد أن علم أنه لا يكف عنه.. بل إن بعض النصوص تشير إلى أنه قد حمل إلى مرو بالرغم عنه، لا باختياره.. وما ذلك إلا ليعلم المأمون: أن حيلته لم تكن لتجوز عليه، وأنه (ع) على علم تام بأبعاد مؤامرته وأهدافها.. كما أنه بذلك يثير شكوك الناس وظنونهم حول طبيعة هذا الحدث، وسلامة النوايا فيه، الموقف الثاني: إنه رغم أن المأمون كان قد طلب من الامام (ع) - وهو في المدينة - أن يصطحب معه من أحب من أهل بتيه في سفره إلى مرو. انه رغم ذلك.. نلاحظ: أنه (ع) لم يصطحب معه حتى ولده الوحيد الامام الجواد (ع)، مع علمه بطول المدة، التي سوف يقضيها في هذا السفر، الذي سوف يتقلد فيه زعامة الامة الاسلامية، حسب ما يقوله المأمون.. بل مع علمه بأنه سوف لن يعود من سفره ذاك، كما تؤكد عليه كثير من النصوص التاريخية. شكوك لها مبرراتها: ونرى أننا مضطرون للشك في نوايا المأمون واهدافه من وراء طلبه هذا " أن يصطحب الامام (ع) من شاء من أهل بيته إلى مرو ". بعد أن رأينا: أنه لم يرجع أحد ممن ذهب مع محمد بن جعفر إلى مرو، ولا رجع محمد بن جعفر نفسه، ولا رجع محمد بن محمد بن زيد، ولا غير هؤلاء، كما سيأتي بيانه في الفصل التالي وغيره.. فلعل الامام (ع) بل إن ذلك هو المؤكد، الذي تدل عليه
[ 316 ]
تصريحاته وتصرفاته حيت تأهب للسفر - لعله - قد ظن لنوايا المأمون هذه، فضيع الفرصة عليه، وأعاد كيده إليه.. الموقف الثالث: سلوكه في الطريق، كما وصفه رجاء بن أبي الضحاك (1)، حتى اضطر المأمون لان يظهر على حقيقته، ويطلب من رجاء هذا: أن لا يذكر ما شاهده منه لاحد، بحجة أنه لا يريد أن يظهر فضله إلا على لسانه (2)، ولكننا لم نره يظهر فضله هذا، حتى ولو مرة واحدة، فلم يدع أحد أنه سمع شيئا من المأمون عن سلوك الامام (ع)، وهو في طريقه إلى مرو. وأما رجاء، فلعله لم يحدث بذلك إلا بعد أن لم يعد في ذلك ضرر على المأمون، وبعد أن ارتفعت الموانع، وقضي الامر. الموقف الرابع: موقفه في نيشابور، الذي لم يكن أبدا من المصادفة. كما لم يكن ذكره للسلسلة التي يروي عنها من المصادفة أيضا، حيث أبلغ الناس في ذلك الموقف، الذي كانت تزدحم فيه أقدام عشرات بل مئات الالوف (3) - أبلغهم -: " كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل (1) راجع: البحار ج 49 من ص 91 حتى 95، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 181 فما بعدها: وهو كلام معروف لا نرى أننا بحاجة لتكثير مصادره هنا. (2) البحار ج 49 ص 95، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 183. (3) وذلك يدل على مدى تعاطف الناس مع أهل البيت، ومحبتهم لهم. الامر الذي كان يرعب المأمون ويخيفه. حتى لقد كان يحاول كبت عواطف الناس هذه، وهذا هو السبب في منع الامام من المرور عن طريق الكوفة وقم، كما سيأتي. (*)
[ 317 ]
حصني أمن من عذابي (1) ". هذه الكلمة.. التي عد أهل المحابر والدوى، الذين كانوا يكتبونها، فانافوا على العشرين الفا.. هذا على قلة من كانوا يعرفون القراءة والكتابة آنذاك، وعدا عمن سواهم ممن شهد ذلك الموقف العظيم.. ". ونلاحظ: أنه (ع) - في هذا الظرف - لم يحدثهم عن مسألة فرعية، ترتبط ببعض مجالات الحياة: كالصوم، والصلاة، وما شاكل. ولم يلق عليهم موعظة تزهدهم في الدنيا، وترغبهم في الآخرة، كما كان شأن العلماء آنذاك. كما أنه لم يحاول أن يستغل الموقف لاهداف شخصية، أو سياسية، كما جرت عادة الآخرين في مثل هذه المواقف.. مع أنه يتوجه إلى مرو، ليواجه أخطر محنة تحدد وجوده، وتهدد العلويين، ومن ثم الامة بأسرها. وانما كلم الناس باعتباره القائد الحقيقي، الذي يفترض فيه: أن يوجه الناس - في ذلك الظرف بالذات - إلى أهم مسألة ترتبط بحياتهم، ووجودهم، إن حاضرا، وإن مستقبلا، ألا وهي مسألة: التوحيد.. التوحيد: الذي هو في الواقع الاساس للحياة الفضلى، بمختلف جوانبها، وإليه تنتهي، وعلى وبه تقوم.. التوحيد: الذي ينجي كل الامم من كل عناء وشقاء وبلاء. والذي إذا فقده الانسان، فإنه يفقد كل شئ في الحياة حتى نفسه.. مدى ارتباط مسألة الولاية بمسألة التوحيد: هذا.. ولانه قد يكون الكثيرون ممن شهدوا ذلك الموقف لم يتهيأ (1) قد ذكرنا بعض مصادر هذه القضية في فصل: " شخصية الامام الرضا " فمن أراد فليراجع. (*)
[ 318 ]
لهم سماع كلمة الامام (ع)، لانشغالهم مع بعضهم بأحاديث خاصة، أو لتوجههم لامور جانبية أخرى، كما يحدث ذلك كثيرا في مناسبات كهذه.. نرى الامام (ع) يتصرف بنحو آخر، حيث إنه عندما سارت به الناقة، وفي حين كانت أنظار الناس كلهم. وقلوبهم مشدودة إليها.. نراه يخرج رأسه من العمارية، فيسترعي ذلك انتباه الناس، الذين لم يكونوا يترقبون ذلك منه. ثم يملي عليهم - وهم يلتقطون أنفاسهم، ليستمعوا إلى ما يقول - كلمته الخالدة الاخرى: " بشروطها، وأنا من شروطها ". لقد أملى الامام (ع) كلمته هذه عليهم، وهو مفارق لهم، لتبقى الذكرى الغالية، التي لابد وأن يبقى لها عميق الاثر في نفوسهم (1). لقد أبلغهم (ع) مسألة أساسية أخرى، ترتبط ارتباطا وثيقا بالتوحيد، ألا وهي مسألة: " الولاية ". وهي مسألة بالغة الاهمية، بالنسبة لامة تريد أن تحيا الحياة الفضلى، وتنعم بالعيش الكريم، إذ ما دامت مسألة القيادة الحكيمة. والعادلة، والواعية لكل ظروف الحياة. وشؤونها، ومشاكلها - ما دامت هذه (1) (1) ويلاحظ: أن هذه الكلمة قد صيغت بنحو لابد معه من الرجوع إلى الكلمة الاولى، ومعرفتها. وبعد.. فما أشبه موقفه عليه السلام هنا بموقف النبي صلى الله عليه وآله في غدير خم، حيث إنه صلى الله عليه وآله كان أيضا قد أبلغ المسلمين مسألة الولاية، في ذلك الموقف الحاشد، وفي المكان الذي لابد فيه من تفرق الناس عنه صلى الله عليه وآله، وذهاب كل منهم إلى بلده، ولعل إرجاع المتقدمين، وحبس المتأخرين يشبهها إخراج الامام عليه السلام رأسه من العمارية.. يضاف إلى ذلك: أن موقفه صلى الله عليه وآله كان آخر مواقفه العامة في حياته إلى آخر ما هنالك من وجوه الشبه بين الواقعتين. ولعلنا نجد تشابها بين هذه الواقعة، وبين قضية إرجاع أبي بكر عن تبليغ آيات سورة براءة، ثم إرسال علي مكانه.. (*)
[ 319 ]
المسألة - لم تحل، فلسوف لا يمكن إلا أن يبقى العالم يرزح تحت حكم الظلمة والطواغيت، والذين يجعلون لانفسهم صلاحيات التقنين والتشريع الخاصة بالله، ويحكمون بغير ما أنزل الله، وليبقى العالم - من ثم - يعني الشقاء والبلاء، ويعيش في متاهات الجهل، والحيرة، والضياع.. " (1). وإننا إذا ما أدركنا بعمق مدى ارتباط مسألة: " الولاية " بمسألة " التوحيد " فلسوف نعرف: أن قوله (ع): " وأنا من شروطها " لم تمله عليه مصلحته الخاصة، ولا قضاياه الشخصية.. ولسوف ندرك أيضا: الهدف الذي من أجله ذكر الامام (ع) سلسلة سند الرواية، الامر الذي ما عهدناه، ولا ألفناه منهم عليهم السلام. إلا في حالات نادرة، فإنه عليه السلام قد أراد أن ينبه بذلك على مدى ارتباط مسألة القيادة للامة بالمبدأ الاعلى.. الامام ولي الامر من قبل الله، لا من قبل المأمون: وعدا عن ذلك كله.. فإننا نجد أن الامام (ع)، حتى في هذا الموقف، قد اهتبل الفرصة، وأبلغ ذلك الحشد الذي يضم عشرات بل مئات الالوف: أنه الامام للمسلمين جميعا، والمفترض الطاعة عليهم، على حد تعبير القندوزي الحنفي، وغيره.. وذلك عندما قال لهم: " وأنا من شروطها ". وبذلك يكون قد ضيع على المأمون أعظم هدف كان يرمي إليه من استقدام الامام (ع) إلى مرو. ألا وهو: الحصول على اعتراف بشرعية خلافته، وخلافة بني أبيه العباسيين. (1) قد استرشدنا في بعض ما ذكرناه بما ذكره الاستاذ علي غفوري، في كتابه: " ياد بود هشتمين امام " (فارسي). (*)
[ 320 ]
إذ أنه قد بين للملا بقوله: " وأنا من شروطها ": أنه هو بنفسه من شروط كلمة التوحيد، لا من جهة أنه ولي الامر من قبل المأمون، أو سيكون ولي الامر أو العهد من قبله، وإنما لان الله تعالى جعله من شروطها. وقد أكد (ع) على هذا المعنى كثيرا، وفي مناسبات مختلفة، حتى للمأمون نفسه في وثيقة العهد كما سيأتي، وأيضا في الكتاب الجامع لاصول الاسلام والاحكام، الذي طلبه منه المأمون، حيث كتب فيه أسماء الائمة الاثنى عشر عليهم السلام، مع أن عددا منهم لم يكونوا قد ولدوا بعد، كما أنه ذكر أسماءهم في احتجاجه على العلماء والمأمون في بعض مجالسهم العلمية، وفي غير ذلك من مواقفه الكثيرة (ع). الامام يبلغ عقيدته لجميع الفئات: وأخيرا.. لابد لنا في نهاية حديثنا عن هذا الموقف التاريخي من الاشارة إلى أنه كان من الطبيعي أن يضم ذلك الحشد العظيم، الذي يقدر بعشرات. بل بمئات الالوف: 1 - حشدا من أهل الحديث واتباعهم، الذين جعلوا صلحا جديدا بين الخلفاء الثلاثة، وبين علي (ع) في معتقداتهم، بشرط أن يكون هو الرابع في الخلافة والفضل. ولفقوا من الاحادث في ذلك ما شاءت لهم قرائحهم، حتى جعلوه إذا سمع ذكرا لابي بكر يبكي حبا، ويمسح عينيه ببرده (1). وجعلوه أيضا ضرابا للحدود بين يدي الثلاثة: أبي بكر، وعمر، (1) تاريخ الخلفاء ص 120، وغيره. (*)
[ 321 ]
وعثمان (1)، كما تنبأ هو نفسه (ع) بذلك (2). إلى غير ذلك مما لا يكاد يخفى على الناظر البصير، والناقد الخبير.. 2 - وحشدا من أهل الارجاء، الذين ما كانوا يقيمون وزنا لعلي، وعثمان. بل كانت المرجئة الاولى لا يشهدون لهما بإيمان، ولا بكفر.. 3 - وأيضا.. أن يضم حشدا من أهل الاعتزال، الذين أحاطوا بالمأمون، بل ويعد هو منهم، والذين تدرجوا في القول بفضل علي (ع) حسبما اقتضته مذاهبهم ومشاربهم، فقد كان مؤسسا نحلة الاعتزال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، لا يحكمان بتصويبه في وقعة الجمل مثلا، ولكن أتباعهما تدرجوا على مر الزمان في القول بفضله، فقد شكك أبو الهذيل العلاف في أفضليته على أبي بكر، أو القول بتساويهما في الفضل. ولكن رئيس معتزلة بغداد: بشر بن المعتمر، قد جزم بأفضليته على الخلفاء الثلاثة، ولكنه قال بصحة خلافتهم.. وقد تبعه جميع معتزلة بغداد، وكثير من البصريين. وإذا كان ذلك الحشد الهائل يضم كل هؤلاء. وغيرهم ممن لم نذكرهم.. فمن الطبيعي أن تكون كلمة الامام هذه: " وأنا من شروطها " ضربة موفقة ودامغة لكل هؤلاء، وإقامة للحجة عليهم جميعا. على اختلاف أهوائهم، ومذاهبهم.. ويكون قد بلغ بهذه الكلمة: " وأنا.. " صريح عقيدته، وعقيدة (1) تاريخ الخلفاء ص 119، 120، والمحاسن والمساوي ج 1 ص 79 طبع مصر. والفتوحات الاسلامية لدحلان ط مصطفى محمد ج 2 ص 368. (2) فقد قال بعد أن ضرب الوليد بن عقبة الحد، لشربه الخمر: " لتدعوني قريش بعد هذا جلادها ". الغدير ج 8 ص 121. وقد صدقت نبوءته، صلوات الله وسلامه عليه، فقد جعلوه - كما ترى - ضرابا للحدود بين يدي الثلاثة ! !. (*)
[ 322 ]
آبائه الطاهرين (ع) في أعظم مسألة دينية، تفرقت لاجلها الفرق في الاسلام، وسلت من أجلها السيوف. بل لقد قال الشهرستاني: ".. واعظم خلاف بين الامة خلاف الامامة، إذ ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الامامة في كل زمان. " (1). وبعد كل ما قدمناه.. لا يبقى مجال للقول: إن قوله هذا: " وأنا.. " لا ينسجم مع ما عرف عنه (ع) من التواضع البالغ، وخفض الجناح، إذ ليس ثمة من شك في أن للتواضع وخفض الجناح موضع آخر. وأنه كان لابد للامام في ذلك المقام، من بيان الحق الذي يصلح به الناس أولا وآخرا، ويفتح عيونهم وقلوبهم على كل ما فيه الخير والمصلحة لهم، إن حاضرا، وإن مستقبلا، وإن جزع من ذلك قوم. وحنق آخرون. تعقيب هام وضروري: ومما هو جدير بالملاحظة هنا، هو أن أئمة الهدى عليهم السلام كانوا يستعملون التقية في كل شئ إلا في مسألة أنهم عليهم السلام الاحق بقيادة (1) الملل والنحل، ج 1 ص 24، وقال الخضري في محاضراته ج 1 ص 167: ".. والخلاصة: أن مسألة الخلافة الاسلامية والاستخلاف، لم تسر مع الزمن في طريق يؤمن فيه العثار. بل كان تركها على ما هي عليه، من غير محل محدد ترضاه الامة، وتدفع عنه سببا لاكثر الحوادث التي أصابت المسلمين، وأوجدت ما سيرد عليكم من أنواع الشقاق والحروب المتواصلة، التي قلما يخلو منها زمن، سواء كان ذلك بين بيتين، أو بين شخصين. " انتهى. وأقول: إذن. كيف جاز للنبي صلى الله عليه وآله أن يترك الامة هكذا هملا، ثم لا يضع حلا لاعظم مشكلة تواجهه، مع أن شريعته كاملة وشاملة، وقد بين فيها كل ما تحتاجه الامة، حتى أرش الخدش. (*)
[ 323 ]
الامة، وخلافة النبي صلى الله عليه وآله. مع أنها لا شئ أخطر منها عليهم. كما تشير إليه عبارة الشهرستاني الآنفة، وغيرها. وذلك يدل على مدى ثقتهم بأنفسهم، وبأحقيتهم بهذا الامر. فنرى الامام موسى (ع) يواجه ذلك الطاغية الجبار هارون بهذه الحقيقة، ويصارحه بها، أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة (1). بل لقد رأينا الرشيد نفسه يعترف بأحقيتهم تلك في عدد من المناسبات على ما في كتب السير والتاريخ. ولقد نقل غير واحد (2) أنه: عندما وقف الرشيد على قبر النبي صلى الله عليه وآله، وقال مفتخرا: السلام عليك يا ابن عم. جاء الامام موسى (ع)، وقال: السلام عليك يا أبة. فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه: وعندما قال له الرشيد: أنت الذي تبايعك الناس سرا ؟ ! أجابه الامام (ع): أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم (3). وأما الحسن، والحسين، وأبوهما، فحالهما في ذلك أشهر من أن يحتاج إلى بيان. بل إن أعظم شاهد على مدى ثقتهم بأحقية دعواهم الامامة ما قاله الامام الرضا (ع) للقائل له: إنك قد شهرت نفسك بهذا الامر، وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر الدم ؟ !. راجع: الصواعق المحرقة، وينابيع المودة، ووفيات الاعيان، والبحار، وقاموس الرجال، وغير ذلك. (2) البداية والنهاية ج 10 ص 183، والكامل لابن الاثير ج 6، ص 164 ط صادر، والصواعق المحرقة ص 122، والاتحاف بحب الاشراف ص 55، ومرآة الجنان ج 1 وأعيان الشيعة، وينابيع المودة، وغير ذلك. (3) الاتحاف بحب الاشراف ص 55، والصواعق المحرقة ص 122. (*)
[ 324 ]
فأجابه الامام (ع): " جرأني على هذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة، فأشهد أني لست بنبي.. وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة، فاشهدوا أني لست بإمام. " (1). وفي هذا المعنى روايات عديدة (2). ولكنهم عليهم السلام قد انصرفوا بعد الحسين (ع) عن طلب هذا الامر بالسيف. إلى تربية الامة، وحماية الشريعة من الانحرافات التي كانت تتعرض لها باستمرار، ولانهم كانوا يعلمون: أن طلب هذا الامر من دون أن يكون له قاعدة شعبية قوية وثابتة، وواعية، لن يؤدى إلى نتيجة، ولن يقدر له النجاح، الذي يريدونه هم، ويريده الله. ولكنهم - كما قلنا - ظلوا عليهم السلام يجاهرون بأحقيتهم بهذا الامر، حتى مع خلفاء وقتهم، كما يظهر لكل من راجع مواقفهم وأقوالهم في المناسبات المختلفة. الموقف الخامس: رفضه الشديد لكلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، وإصراره على هذا الرفض الذي استمر أشهرا، وهو في مرو نفسها، حتى لقد هدده المأمون اكثر من مرة بالقتل. وبذلك يكون قد مهد الطريق ليواجه المأمون بالحقيقة، حيث قال له: إنه يريد أن يقول للناس: إن علي بن موسى لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه، وليكون بذلك قد أفهم المأمون أن (1) المناقب لابن شهر اشوب ج 4 ص 339، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 213. (2) راجع: البحار ج 49، وروضة الكافي: وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وغير ذلك. (*)
[ 325 ]
حيلته لم تكن لتجوز، وأن زيفه لا ينطلي عليه، وأن عليه أن يكف في المستقبل عن كل مؤامراته ومخططاته. وليكون المأمون بعد هذا غير مطمئن لاي عمل يقدم عليه، وضعيف الثقة بكل الحيل والمؤامرات التي يحوكها. هذا بالاضافة إلى أن الناس سوف يشكون في طبيعية هذا الامر، وسلامة نوايا المأمون فيه. الموقف السادس: ولم يكتف الامام (ع) بذلك كله.. بل كان لا يدع فرصة تمر إلا يؤكد فيها على أن المأمون قد اكرهه على هذا الامر، وأجبره عليه، وهدد بالقتل إن لم يقبل. يضاف إلى ذلك. أنه كان يخبر الناس في مختلف المناسبات: أن المأمون سوف ينكث العهد، ويغدر به.. حتى لقد قال في نفس مجلس البيعة للمستبشر: " لا تستبشر، فانه شئ لا يتم " بل لقد كتب في نفس وثيقة العهد ما يدل على ذلك دلالة واضحة، كما سيأتي بيانه في الموقف الثامن. هذا عدا عن أنه كان يصرح بأنه لا يقتله إلا المأمون، ولا يسمه إلا هو، حتى لقد واجه نفس المأمون بهذا الامر. بل إنه لم يكن يكتفي بمجرد القول، وإنما كانت حالته على وجه العموم في فترة ولاية العهد تشير إلى عدم رضاه بهذا الامر، وإلى أنه مكره مجبر عليه. حيث إنه كان على حد تعبير الرواة: " في ضيق شديد، ومحنة عظيمة " و " لم يزل مغموما مكروبا حتى قبض "، و " قبل البيعة، وهو باك حزين " وكان كما يقول المدائني: " إذا رجع يوم الجمعة من
[ 326 ]
الجامع، وقد أصابه العرق والغبار، رفع يديه وقال: " اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت، فعجل لي الساعة (1). ". إلى آخر ما هنالك، مما لا يمكن استقصاؤه في مثل هذه العجالة.. وواضح أن كل ذلك سوف يؤدي إلى عكس النتيجة، التي كان يتوخاها المأمون من البيعة، وخصوصا إذا ما أردنا الملائمة بين مواقفه هذه، وموقفه في نيشابور، وموقفه صلاتي العيد في مرو. الموقف السابع: انه كان لا يدع فرصة تمر إلا ويؤكد فيها على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله، بعد أن كانوا قد اغتصبوه منهم، بل واثبات أن خلافة المأمون ليست صحيحة ولا هي شرعية. أما ما يتعلق به بصحة خلافة المأمون: فنلاحظ: أنه (ع) حتى في كيفية البيعة يشير - على ما صرح به كثير من المؤرخين - إلى أن المأمون، الذي يحتل عنوة مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله، يجهل حتى كيفية ذلك العقد الذي خوله - بنظره - أن يكون في ذلك المجلس الخطير، حيث إنه (ع): ".. رفع يده، فتلقى بظهرها وجه نفسه، وبطنها وجوههم، فقال له المأمون: ابسط (1) البحار ج 49 ص 140، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 15. (*)
[ 327 ]
يدك للبيعة، فقال له: إن رسول الله هكذا كان يبايع، فبايعته الناس. " (1). ونظير ذلك أيضا: ما روي من أن المأمون قد أمر الناس: أن يعودوا للبيعة من جديد، عندما أعلمه الامام (ع): بأن كل من كان قد بايعه، قد بايعه بفسخ البيعة إلا الشباب الاخير.. وهاج الناس بسبب ذلك. وعابوا المأمون على عدم معرفته بالعقد الصحيح والكيفية الصحيحة للبيعة وهذه القضية مذكورة في العديد من المصادر أيضا (2). وأما أن الخلافة حق للامام (ع) دون غيره: فلعله لا يكاد يخفى على من له أدنى اطلاع على حياة الامام (ع) ومواقفه وقد تحدثنا آنفا عن موقفه في نيشابور، وهو في طريقه إلى مرو، وكيف أنه (ع) جعل نفسه الشريفة والاعتراف بامامته شرطا لكلمة التوحيد، والدخول في حصن الله الحصين.. وأشرنا ايضا إلى أنه قد عدد الائمة الشرعيين، وهو أحدهم في عديد من المناسبات والمواقف حتى فيما كتبه للمأمون. بل لقد المح إلى ذلك أيضا بل لقد ذكره صراحة فيما كتبه على حاشية وثيقة العهد بخط يده. كما أن من الامور الجديرة بالملاحظة هنا خطاب الامام (ع) حينما بويع له بولاية العهد، وهو ما يلي: (1) راجع: المناقب ج 4 ص 369، 364 والبحار ج 49 ص 144. وعلل الشرايع، ومقاتل الطالبيين، ونور الابصار، ونزهة الجليس، وعيون أخبار الرضا. (2) راجع: على سبيل المثال: شرح ميمية أبي فراس ص 204. (*)
[ 328 ]
".. إن لنا عليكم حقا برسول الله، ولكم علينا حق به، فإذا أنتم أديتم لنا ذلك وجب علينا الحق لكم.. ". ولم يؤثر عنه في ذلك المجلس غير ذلك.. وهو معروف ومشهور بين أرباب السير والتاريخ.. ومن الواضح أن اقتصاره على هذه الكلمة في ذلك المجلس الذي يقتضي إيراد خطبة طويلة، يتعرض فيها لمختلف المواضيع، وعلى الاقل لشكر المأمون على ما خصه به من ولاية العهد بعده - إن اقتصاره على هذا - يعتبر أسلوبا رائعا لتركيز المفهوم الذي يريده الامام (ع) في أذهان الناس، وإعطائهم الانطباع الحقيقي عن البيعة، وعن موقفه منها، ومن جهاز الحكم، في نفس مجلس البيعة، حتى لا يبقى هناك مجال للتكهن بأن: الامام كان يرغب في هذا الامر، ثم حدث ما أوجب غضبه وسخطه. وقد يكون له الحق في ذلك وقد لا يكون. يضاف إلى كل ذلك أنه (ع) قال لحميد بن مهران، حاجب المأمون: ".. وأما ذكرك صاحبك (يعني المأمون، والمأمون جالس)، الذي أجلني، فما أحلني إلا المحل الذي أحله ملك مصر ليوسف الصديق (ع)، وكانت حالهما ما قد علمت. ". كما أنه (ع) قد قال أكثر من مرة وفي اكثر من مناسبة: " إن من أخذ برسول الله، لحقيق بأن يعطي به "، وذلك عندما عرض له بالمن عليه بأن جعله ولي عهده، وفي غير هذه المناسبة أيضا. المأمون يعترف بأحقية آل علي بالامر: ولعل من أعظم المواقف الجديرة بالتسجيل هنا موقفة (ع) مع المأمون،
[ 329 ]
عندما حاول هذا أن يحصل منه (ع) على اعتراف بأن العباسيين والعلويين سواء بالنسبة لقرباهم من النبي صلى الله عليه وآله، وذلك من أجل أن يثبت - بزعمه - أن له ولبني أبيه حقا في الخلافة، فكانت النتيجة: أن نجح الامام (ع) في انتزاع اعتراف من المأمون بأن العلويين هم الاقرب.. وتكون النتيجة - على حسب منطق المأمون، ومنطق أسلافه كما قدمنا - هي: أن العلويين هم الاحق بالخلافة والرياسة، وأنه هو، وآباءه غاصبون، ومعتدون.. فبينما المأمون والرضا (ع) يسيران، إذ قال المأمون: ".. يا أبا الحسن، إني فكرت في شئ، فنتج لي الفكر الصواب فيه: فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية. فقال له أبو الحسن الرضا (ع): إن لهذا الكلام جوابا، إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت.. فقال له المأمون: إني لم أقله إلا لاعلم ما عندك فيه.. قال له الرضا (ع): أنشدك الله يا أمير المؤمنين، لو أن الله تعالى بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وآله، فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام، يخطب إليك ابنتك، كنت مزوجه إياها ؟. فقال: يا سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ !. فقال له الرضا (ع)، أفتراه كان يحل له أن يخطب إلي ؟. قال: فسكت المأمون هنيئة، ثم قال:. " أنتم والله، أمس برسول الله رحما. " (1). (1) كنز الفوائد للكراجكي ص 166، والفصول المختارة من العيون والمحاسن ص 15، 16، والبحار ج 49 ص 188، ومسند الامام الرضا عليه السلام ج 1 ص 100. (*)
[ 330 ]
وكانت هذه ضربة قاضية وقاصمة للمأمون. لم يكن قد حسب لها أي حساب. ولم يكن ليتمكن في مقابل ذلك من أي عمل ضد الامام (ع)، بعد أن كان هو الجاني على نفسه، ف‍ " على نفسها جنت براقش ". وبعد كل ذلك فقد قدمنا قول ابن المعتز: وأعطاكم المأمون حق خلافة * لنا حقها، لكنه جاد بالدنيا وخلاصة الامر: انه (ع) لم يكن يدخر وسعا في إحباط مسعى المأمون، وتضييع الفرصة عليه، وإفهام الناس أنه مكره على هذا الامر، مجبر عليه. والتأكيد على أن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، ولذا فلا يمكن أن يعتبر قبوله بولاية العهد اعترافا بشرعية الخلافة العباسية، أو بشرعية أي تصرف من تصرفاتها. كما أنه إذا كان ذلك حقا للامام اغتصبه الغاصبون، واعتدى عليه فيه المعتدون، فليس المأمون حق في أن يعرض له (ع) بالمن عليه، بما جعل له من ولاية العهد. وكذلك ليس للمأمون بعد: أن يدعي العدل والانصاف، فضلا عن الايثار والتضحية في سبيل الآخرين، بعد أن فضح الامام اهدافه من لعبته تلك، وعرف كل أحد أنها لم تكن شريفة ولا سليمة. الاكذوبة المفضوحة: وبعد.. فقد ذكر بعض أهل الاهواء، كابن قتيبة، وابن عبد ربه، واقعة خيالية، غير تلك التي ذكرناها آنفا وهي: أن المأمون قال لعلي بن موسى: علام تدعون هذا الامر ؟ !. قال: " بقرابة علي وفاطمة من رسول الله صلى الله عليه وآله.. ".
[ 331 ]
فقال المأمون: " إن لم تكن إلا القرابة، فقد خلف رسول الله صلى الله عليه وآله من هو أقرب إليه من علي، أو من هو في قعدده. وإن ذهبت إلى قرابة فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن الامر بعدها للحسن، والحسين، فقد ابتزهما علي حقهما، وهما حيان، صحيحان، فاستولى على ما لا حق له فيه. ". فلم يحر علي بن موسى له جوابا (1).. انتهى. وهي واقعة مزيفة ومجعولة من أجل التغطية على الواقعة الحقيقية، التي جرت بينهما، والتي تنسجم مع كل الاحداث والوقائع، وجميع الدلائل والشواهد متظافرة على صحتها، ألا وهي تلك التي قدمناها آنفا.. والدليل على زيف هذه الرواية: أنها لا توافق نظرة أئمة أهل البيت ورأيهم في الخلافة ومستحقها، لانهم يرون - كما تدل عليه تصريحاتهم المتكررة، وأقوالهم المتضافرة -: " أن منصب الامامة لا يكون إلا بالنص. وأما الاستدلال بالقرابة، فقد قلنا في الفصل الاول من هذا الكتاب: أن أول من التجأ إليه أبو بكر، ثم عمر. ثم الامويون، فالعباسيون، ثم أكثر، إن لم يكن كل مطالب بالخلافة.. وأنه إذا كان في كلام الائمة وشيعتهم ما يفهم منه ذلك، فإنما اقتضاه الحجاج مع خصومهم، وبعد.. فهل يخفى على الامام (ع) ضعف ووهن هذه الحجة، مع اننا نراه يصرح في أكثر من مناسبة بأن القرابة لا تجدي ولا تفيد - كما سنشير إليه - وانه لابد في الامام من جدارة وأهلية في مختلف الجهات، وعلى جميع المستويات. ولقد كان على المأمون - لو صحت هذه الرواية - ان يغتنمها فرصة، (1) راجع: عيون الاخبار ج 2 ص 140، 141، طبع مصر سنة 1346، والعقد الفريد ج 5 ص 102، وج 2 ص 386، طبع دار الكتاب العربي.. (*)
[ 332 ]
ويعلنها على الملا، ويشهر بالامام (ع)، ليسقطه - ومن ثم.. يسقط العلويين كلهم من أعين الناس.. ويسلبهم وإلى الابد السلاح الذي كانوا يحاربونه ويحاربون آباءه به.. مع أن ذلك هو ما كان يبحث عنه المأمون ليل نهار، ويدبر المكايد، ويعمل الحيل، من أجله، وفي سبيله.. وعدا عن ذلك كله. كيف يمكن أن تنسجم هذه الرواية مع مواقف الامام، وتصريحاته المتكررة حول مسألة الامامة، وبأي شئ تثبت، وحول أوصاف الامام ووظائفه، والتي لو أردنا استقصاءها لاحتجنا إلى عشرات الصفحات ؟ !. وكذلك.. مع احتجاج الامام (ع) على العلماء والمأمون في اكثر من مناسبة بالنص، وأيضا مع موقفه (ع) في نيشابور ؟ ! اللهم إلا أن يكون أعلم أهل الارض - باعتراف المأمون قد نسي حجته، وحجة آبائه، وكل من ينتسب إليهم، ويذهب مذهبهم.. تلك الحجة - التي عرفوا وكل المتشيعين لهم بها على مدى الزمان - نسيها - في تلك اللحظة فقط، لان المأمون هو الذي يسأل، والرضا هو الذي يجيب ! !. وبعد، فهل يستطيع أن يشك في ذلك أحد.. وهو يرى رسالة الرضا، التي كتبها للمأمون تلبية لطلبه، وجمع له بها أصول الاسلام، والتي صرح فيها بالنص على علي (ع). بل وذكر فيها الائمة الاثني عشر، الذين نص عليهم النبي صلى الله عليه وآله كلهم بأسمائهم، حتى من لم يكن قد ولد بعد منهم ؟ !. وهذه الرسالة مشهورة وقد أوردها واستشهد بها غير واحد من المؤرخين والباحثين (1). (1) وكان آخرهم الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه: نظرية الامامة ص 388، وقال: إنها من المخطوطات الموجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم 1258. (*)
[ 333 ]
وفيها يصف الامام (ع) أئمة الهدى أدق وصف، وأروعه، وأوفاه. بل إن المأمون نفسه كان يرى وجوب نصب الامام من قبل الله كالنبي، كما يتضح من مناظرته الشهيرة لعلماء وقته، التي أوردها غير واحد من كتب التاريخ، والادب، والرواية، وذكرها في العقد الفريد أيضا قبل ذكره لهذه الرواية المفتعلة. وإن كان قد تصرف فيها (أي في المناظرة)، فحرف فيها، وحذف منها الكثير.. وأشار إليها أيضا أحمد أمين في ضحى الاسلام ج 2 ص 57، وغيره.. فلماذا لا يلزمه الامام بمقالته التي كان يلزم نفسه بها ؟ !. أم يمكن أن لا يكون مطلعا على مقالة المأمون هذه، التي سار ذكرها في الآفاق ؟ !. ويحسن بنا هنا أن ننبه إلى أن الاختلاف في نقل مثل هذه القضايا، حسب أهواء الناقلين لم يكن بالامر الذي يخفى على أحد، فقد رأينا: أن جواب أحمد بن حنبل في المحنة بخلق القرآن، يرويه كل من الشيعة، والمعتزلة، وأهل السنة بصور ثلاثة مختلفة، ومناظرة هشام لابي الهذيل العلاف يروي المعتزلة أن الغلبة فيها كانت لابي الهذيل، بينما يروي الشيعة، ويؤيدهم المسعودي (1) أن الغلبة فيها كانت لهشام. إلى غير ذلك من عشرات القضايا بل المئات.. ولكن الامر هنا مختلف تماما، إذ أن مختلق الرواية هنا قد غفل عن أن روايته المفتعلة تتنافى كليا مع نظرة الائمة عليهم السلام ورأيهم في الخلافة ومستحقها.. ويبدو أنه لم يكن مطلعا على الآراء المختلفة الشائعة آنذاك في مسألة الامامة، ولذا نراه ينسب إلى الامام (ع) رأيا لا يقول به، ولا يقره. وإنما هو يناسب رأي الشيعة الزيدية القائلين بإمامة ولد علي (ع) من فاطمة، بشرط أن يكون بليغا، شجاعا، عادلا مجتهدا، (1) مروج الذهب ج 4 ص 21. (*)
[ 334 ]
يخرج بالسيف ضد كل ظلم وانحراف إلخ.. وبأن إمامة علي (ع) قد ثبتت بالوصف والاشارة إليه، لا بالتصريح والنص عليه (1). كما أنه غفل عن أن الذين كانوا يحتجون بالقرابة والارث هم العباسيون، الذين كانوا إلى عصر المهدي - كما قدمنا - يدعون انتقال الخلافة إليهم عن طريق علي (ع)، ومحمد بن الحنفية، وفي عصر المهدي عدلوا عن ذلك، لما يتضمنه من اعتراف للعلويين، ورأوا أن يجعلوا إمامتهم عن طريق العباس وأبنائه.. وحاولوا تقوية هذه النحلة بكل وسيلة، وبذلوا من أجلها الاموال الطائلة للعلماء والفقهاء، والشعراء. ولم يكن لتخفى على أحد أبيات مروان بن أبي حفصة المتقدمة: هل تطمسون من السماء نجومها * أو تسترون إلخ.. ولا قوله: أنى يكون وليس ذلك بكائن * لبني البنات وراثة الاعمام وقد أجابه جعفر بن عفان المعاصر له. على هذا البيت بقوله: ما للطليق وللتراث وإنما * صلى الطليق مخافة الصمصام (2) وكيف يخفى كل ذلك على الامام (ع)، خصوصا بعد أن كان الجدل في هذا الموضوع قائما على قدم وساق في زمن هارون، بل وفي زمن المأمون كما يظهر من قول ابن شكلة المتقدم: فضجت أن نشد على رؤوس * تطالبها بميراث النبي (1) مقدمة ابن خلدون ص 197 ر 198. (2) مقتل الحسين للمقرم ص 119، والاغاني ج 9 ص 45، طبع ساسي، والادب في ظل التشيع ص 201، وضحى الاسلام ج 3 ص 313، وقاموس الرجال ج 2 ص 393، وغير ذلك. (*)
[ 335 ]
ومن قول القاسم بن يوسف وهي قصيدة طويلة فلتراجع (1). إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه.. وبعد كل تلك الوقائع الشهيرة التي حدثت قبل خلافة المأمون، واثناءها بالنسبة لدعوى العباسيين هذه، فلا يمكن أبدا أن تجري المحاورة ببن أعلم أهل الارض (باعتراف المأمون) وبين المأمون أعلم خلفاء بني العباس على هذا النحو من السذاجة والبساطة. اللهم إلا إذا كان أعلم أهل الارض، لا يرى ولا يسمع، أو أنه كان يعيش في غير هذا العالم، أو في سرداب تحت هذا الارض. وأللهم إلا إذا كان القائل: ما للطليق وللتراث إلخ.. أعلم بالحجة للدعوى التي يدعيها أعلم أهل الارض من مدعي الدعوى نفسه.. وهل لم يكن يحسن أن يقول للمأمون - لو سلم أنه احتج بالقرابة -: إن قرابة العباس لا تفيده، بعد أن تخلى عنها يوم الانذار. وبعد أن كان من الظالمين، الذين حرمهم الله من عهده. حيث قال تعالى: " ولا ينال عهدي الظالمين ". وبعد أن ترك الهجرة معه صلى الله عليه وآله. وبعد أن حارب النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر. وبعد جهله بالدين واحكامه، ولقد قال سبحانه: " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أمن لا يهدي إلا أن يهدى، فما لكم كيف تحكمون.. " (2). إلى آخر ما هنالك. وأخيرا.. وبعد أن لم يبق مجال للشك في زيف هذه الرواية وافتعالها. فإننا نرى أن لنا كل الحق في أن نسجل هنا: أنه لم يخف علينا، ونأمل أن لا يخفى على أحد سر ذكر ابن عبد ربه هذه الرواية المزيفة المفتعلة، بعد ذكره لرواية احتجاج المأمون على علماء وقته في أفضلية علي (ع) على جميع الخلق، والتي تصرف فيها ما شاء له حقده ونصبه، (1) الاوراق للصولي ص 180، وقد تقدم شطر منها في بعض فصول هذا الكتاب. (2) يونس آية 35. (*)
[ 336 ]
الحذف والتحريف، فإنه - على ما يبدو - ليس إلا من أجل التشويش على تلك، وإبطال كل أثر لها، ظلما للحقيقة، وتجنيا على التاريخ. الموقف الثامن: وأعتقد أنه أعظمها أثرا، وأعمها نفعا، وهو ما كتبه (ع) على وثيقة العهد، التي كتبها المأمون بخط يده.. فإننا إذا ما رجعنا إليه نجد: أن كل سطر فيه، بل كل كلمة لها مغزى عميق، ودلالة هامة، تلقي لنا ضوءا كاشفا على خطته (ع) في مواجهة مؤامرات المأمون، وخططه، وأهدافه. فلقد كان يعلم: أن هذه الوثيقة ستقرأ في مختلف الاقطار الاسلامية، ولذلك نراه (ع) قد اتخذها وسيلة لابلاغ الامة الحقيقة كل الحقيقة، وتعريفها بواقع نوايا وأهداف المأمون. وأيضا تأكيد حق العلويين، وكشف المؤامرة التي تحاك ضدهم.. فبينما نراه (ع) يبدأ كلامه - فيما كتبه في الوثيقة المشارة إليها - بداية غير طبيعية، ولا مألوفة في مناسبات كهذه حيث قال: " الحمد لله الفعال لما يشاء، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.. ". لا يأتي بعدها بما يناسب المقام، ويتلائم مع سياق الكلام، من تمجيد الله، والثناء عليه على أن ألهم أمير المؤمنين ! هذا الامر.. بل نراه يأتي بعبارة غريبة، وغير متوقعة، ألا وهي قوله: " يعلم خائنة الاعين، وما تخفي الصدور الخ. ". أفلا توافقني - قارئي العزيز - على أنه (ع) يريد أن يوجه أنظار الناس إلى أن الامر ينطوي على خيانة مبيتة، وأن هناك صدورا تخفي غير ما تظهر ؟ !.. ثم.. ألا توافقني على أن هذه العبارة تعريض بالمأمون
[ 337 ]
نفسه، من أجل تعريف الناس بحقيقة نواياه وأهدافه ؟ !. هذا مع علمه (ع) بأن هذه الوثيقة سوف ترسل إلى مختلف أقطار العالم الاسلامي، لتقرأ على الملا العام، كما حدث ذلك بالفعل. وإذا ما وصلنا إلى فقرة أخرى، مما كتبه (ع) على وثيقة العهد، فإننا نراه يقول: ".. وصلاته على نبيه محمد خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين.. " فإننا إذا لاحظنا: أنه لم نجر العادة في الوثائق الرسمية في ذلك العهد بعطف " الآل " على " محمد "، ثم توصيفهم ب‍ " الطيبين الطاهرين " - نعرف أن هذا ليس إلا ضربة أخرى للخليفة المأمون، وهجوم آخر عليه، حيث إنه يتضمن التأكيد على طهارة أصل الامام (ع)، وسنخه، ومحتده، وعلى أن الآل قد اختصوا بهذه المزية، وليس لكل من سواهم. حتى الخليفة المأمون، مثل هذا الشرف، ولا مثل تلك المزية.. ثم نراه (ع) يعقب ذلك بقوله: ".. إن أمير المؤمنين... عرف من حقنا ما جهله غيره.. ". فما هو ذلك الحق الذي جهله الذي كلهم، حتى بنو العباس، فيما عدا المأمون ؟ !. فهل يمكن أن تكون الامة الاسلامية قد انكرت أنهم (ع) ابناء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ !. أليس ذلك منه (ع) إعلان للامة بأسرها بأن المأمون لم يجعل له إلا ما هو حق له، وأنه لم يزد بذلك على أن أرجع الحق إلى أهله، بعد أن كان قد اغتصبه منهم الغاصبون، واعتدى عليهم به المعتدون ؟ !. بل أليس ذلك ضربة للمأمون نفسه، وأن خلافته ليست شرعية، ولا صحيحة، لانه كآبائه مغتصب لحق غيره ؟ !. نعم. إن الحق الذي جهله الناس هو حق الطاعة. ولم يكن
[ 338 ]
الامام (ع) يتقي المأمون، ولا غيره من رجال الدولة، في إظهار هذا الحق، وبيان أن خلافة الرسول صلى الله عليه وآله إنما كانت في علي (ع)، وولده الطاهرين، وأنه يجب على الناس كلهم طاعتهم، والانقياد لهم. وقد اعلن (ع) ذلك في نيشابور كما قدمنا.. ورأيناه يصرح به، ويطلب من الناس أن يعلم شاهدهم غائبهم به، في محضر من رجال الدولة في خراسان، ففي الكافي: بسنده عن محمد بن زيد الطبري قال: كنت قائما على رأس الرضا (ع) بخراسان، وعنده عدة من بني هاشم، وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي، فقال: " يا إسحاق، بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم: أن الناس عبيد لنا !. لا وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله ما قلته قط، ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكنني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب. " (1). وستأتي الاشارة إلى هذه الرواية مرة أخرى في الفصل الآتي.. وليتأمل في عبارته الاخيرة، فليبلغ إلخ.. وليلاحظ أيضا أنه اختار لتوجيه خطابه: اسحاق بن موسى بن عيسى العباسي ! !. وفي الكافي أيضا بسنده عن معمر بن خلاد قال: سأل رجل فارسي أبا الحسن (ع)، فقال: طاعتك مفترضة ؟ فقال: نعم. قال: مثل طاعة علي بن أبي طالب (ع) ؟. قال: نعم (2). والمراد بأبي الحسن هو الرضا (ع)، لانه هو الذي كان في خراسان، وهو الذي يروي عنه معمر بن خلاد كثيرا.. ومثل ذلك كثير لا مجال لتتبعه. (1) الكافي ص 187، وأمالي المفيد ص 148 ط النجف وأمالي الطوسي ج 1 ص 21، ومسند الامام الرضا عليه السلام ج 1 ص 96. (2) الكافي: ج 1 ص 187، والاختصاص 278، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 103 عنه. (*)
[ 339 ]
ويقول (ع) في وثيقة العهد، بعد تلك العبارة مباشرة: ".. فوصل أرحاما قطعت، وآمن أنفسا فزعت، بل أحياها وقد تلقت، وأغناها إذا افتقرت ". وهو كما ترى.. في حين يشكر المأمون، ويكتب تحت اسمه: " بل جعلت فداك " (حسب رواية الاربلي فقط)، لا ينسى أن يشوب ذلك بالازراء ضمنا على آبائه العباسيين. ويذكر بما اقترفوه في حق العلويين، حيث كانوا يلاحقونهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبونهم في كل سهل وجبل، كما قدمنا.. هذا.. ولا بأس أن نقف قليلا عند قوله: " وانه جعل إلي عهده، والامرة الكبرى - إن بقيت - بعده. ". فإننا لا نكاد نتردد في أنه (ع) يشير بقوله: إن بقيت بعده إلى ذلك الفارق الكبير بالسن بينه (ع)، وبين المأمون، وأنه يتعمد توجيه الانظار إلى عدم طبيعية هذا الامر، وإلى عدم رغبته فيه. وانه كان يريد أن يعرف الناس بأنه يتوقع في أن لا يدخر المأمون وسعا من أجل التخلص منه، ولو بالاعتداء على حياته (ع)، فيما لو سنحت له الفرصة لذلك، بعد أن يكون قد حقق كل ما كان يريد تحقيقه، ووصل إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه، حيث لابد حينئذ أن " يحل العقدة التي أمر الله بشدها ". ولابد أيضا أن تنكشف خيانته للملا، ويظهر ما يخفيه في صدره، على حد تعبيره (ع).. وإلا فما هو الداعي له (ع) لاقحام هذا الشرط - إن بقيت - في أثناء مثل هذا الكلام. وإننا إذا نظرنا بعمق إلى قوله بعد ذلك: فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله إيثاقها.. ". وتأملنا قوله السابق:
[ 340 ]
يعلم خائنة الاعين، وما تخفي الصدور. وقوله اللاحق: لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه.. فلسوف نعرف: أنه (ع) يعرض هنا بالمأمون نفسه، ويقول الناس جميعا: إنه لا يشك في أن المأمون سوف ينقض العهد، ويحل العقدة. ويلاحظ هنا أيضا: أنه وصف هذه العقدة بأنها مما أمر الله بشده، وأحب إيثاقه.. وهذا لعله لا يختلف عما كان (ع) يردده، ويؤكد عليه كثيرا، ونص عليه آنفا، وهو أن المأمون لم يجعل له إلا الحق الذي جهله غيره، واغتصبه هو وآباؤه، منه (ع) ومن آبائه.. وإذا ما وصلنا إلى قوله (ع): ".. بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض بعدها على العزمات، خوفا من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية الخ.. ". فإننا نراه كأنه يستشهد لاطاعته المأمون، وعدم اصراره على الرفض الموجب لتعريض نفسه، والعلويين، وشيعته لهلاك، والاضطهاد - يستشهد لذلك - بما جرى لسالفه: وهو أمير المؤمنين علي (ع)، حيث صبر على الفلتات (1) التي كانت من خلفاء عصره، ولم يعترض (ع) على ما كانوا قد عقدوا العزم عليه، من المضي قدما في مخططاتهم، التي كانت تستهدف إبعاده عن مسرح السياسة، وتكريس الامر الواقع، وتثبيته، لانه يخدم مصالحهم، ويرضي مطامحهم. - لم يعترض علي (ع) على ذلك - لانه خاف من شتات الدين، (1) ومن المحتمل جدا أنه عليه السلام: يشير إلى تعبير عمر - كانت بيعة أبي بكر فلتة إلخ - ولكنه عمم الكلام بحيث يشمل غير بيعة أبي بكر أيضا، باعتبار أن بيعة عمر وعثمان، ومعاوية وغيرها، كانت أيضا من الفلتات، أو باعتبار تفرعها على بيعة أبي بكر التي كانت فلتة.. (*)
[ 341 ]
واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية.. وهذا مما قد نص عليه علي (ع) نفسه في أكثر من مورد، وأكثر من مناسبة، قال (ع): ".. وأيم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر، ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه.. "، ويقول: " إن الله لما قبض نبيه، استأثرت علينا قريش بالامر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالاسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أدنى خلف.. " (1). وهكذا تمام كان الحال بالنسبة للامام الرضا (ع)، حفيد علي، ووارثه، الذي كان زمانه لا يبعد حال الناس فيه على حال الجاهلية، فإنه آثر أن يصبر على هذه المحنة، خوفا من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، وذلك بتعريض نفسه، وشيعته، والعلويين للهلاك، أو على الاقل للاضطهاد، الامر الذي سوف تكون له أسوأ النتائج على الدين والامة، كما قلنا.. وإذا ما قرأنا بعد ذلك قوله (ع): ".. وقد جعلت الله على نفسي، - إن استرعاني على المسلمين، وقلدني خلافته - العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة، بطاعة الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله.. ".. فإن ما يسترعي انتباهنا هو تنصيصه على بني العباس خاصة وأنه سوف يعمل فيهم بطاعة الله، ورسوله.. " فلا يسفك دما حراما، ولا يبيح فرجا ولا مالا، إلا ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه إلخ. ". فإن هذا التنصيص إنما هو في مقابل " الارحام التي قطعت، وفزعت، (1) راجع شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 307، 308 وغير ذلك. (*)
[ 342 ]
وتلفت، وافتقرت..، من العلويين، على يد بني العباس، الذين فعلوا بهم. أكثر من فعل بني امية معهم، حسبما قدمنا. وتعهده والتزامه بأن يعمل في المسلمين عامة. وفي بني العباس خاصة، بطاعة الله، وسنة ورسوله.. هو التزام بنفس الخط الذي النزم به علي (ع)، وتعهد بانتهاجه. الامر الذي كان سببا في ابعاده عن الخلافة في الشورى، واضطلاع عثمان بها. بل كان ذلك هو السبب في ابعاده عنها، بالنسبة لما قبل ذلك أيضا، وما جرى بعده. وعلي (ع) هو نفس ذلك الذي استشهد به آنفا، وبين أنه صبر على الفلتات، ولم يعترض على العزمات خوفا من شتات الدين إلخ.. والالتزام بخط علي (ع) لن يرضي المأمون، والعباسيين، والهيئة الحاكمة، ولن يكون في مصلحتهم، حسبما المحنا إليه في فصل: جدية عرض الخلافة.. كما أننا لا نستبعد كثيرا: أنه (ع) يريد أن ينبه على مدى التفاوت بين المنطلقات لسياسات أهل البيت، ومنطلقات سياسات خصومهم، التي عرفت جانبا منها في القسم الاول من هذا الكتاب. ومن هنا نعرف السر في قوله (ع): ".. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي.. " فإنه إشارة إلى أنه (ع) سوف ينطلق في كل نصب وعزل - تماما كالامام علي (ع) - من مصلحة الامة، وعلى وفق رضا الله، وتعاليم رسوله. لا من مصالح شخصية، أو اعتبارات سياسية، أو قبلية، أو غير ذلك من الاعتبارات، التي لا يعترف بها الاسلام، ولا يقيم لها وزنا. وإذا ما قرأنا قوله (ع): ".. وإن أحدثت، أو غيرت، أو بدلت، كنت للغير مستحقا، وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه إلخ. ".
[ 343 ]
فإننا ندرك للتو أنه (ع) يريد ضرب العقيدة، التي كان قد شجعها الحكام، وروج لها علماء السوء.. من أن الخليفة، بل مطلق الحاكم في منأى ومأمن من أي مؤاخذة، أو عقاب، مهما اقترف من جرائم، وأتاه من موبقات، فهو فوق القانون، ولا يجوز لاحد الخروج، أو الاعتراض عليه، في أي ظرف من الظروف والاحوال، حتى ولو رمى القرآن بالنبل، وقتل ابن بنت رسول الله، فضلا عما عدا ذلك من الجرائم والموبقات.. والامام.. الذي يعرف كيف كانت سيرة المأمون، وسائر خلفاء بني العباس، ومن لف لفهم، والتي عرفت فيما تقدم طرفا منها، والذين كانوا يتمتعون بهذه الحصانة الزائفة.. قد أراد أن يوجه ضربة قاضية لهم جميعا، حتى للمأمون. وأشياعه، وكل من كان الطواغيت والظلمة على شاكلتهم، ويبين لهم. وللملا أجمع: أن الحاكم حارس للنظام والقانون، ولا يمكن أن يكون فوق النظام والقانون، ولذا فلا يمكن أن يكون في منأى عن العقاب والقصاص، لو ارتكب أي جريمة، أو اقترف أية عظيمة. فالمأمون، وآباؤه، وأشياعهم، كانوا يضحون بكل شئ في سبيل أنفسهم، ومصالحهم الشخصية، ويقترفون كل عظيمة في سبيل تدعيم حكمهم، وتقوية سلطانهم.. أما الامام (ع) فهو مستعد لان يقدم نفسه - إن اقتضى الامر - للعقاب والنكال، عند صدور أية مخالفة، وحصول أي تجاوز عما يرضي الله تعالى، وعن سنة رسوله. وبعد كل ما تقدم.. نراه يعبر عن عدم رضاه بهذا الامر، وعدم تهالكه عليه، لعلمه بعدم تماميته له، ويقول بصريح العبارة: إنه أمر لا يتم، لان ".. الجفر والجامعة يدلان على ضد ذلك. ". كما أن في هذا تنويه مهم منه (ع) بذكر الركن الثاني من أركان إمامة أئمة
[ 344 ]
أهل البيت عليهم السلام، وهو أن الله تعالى اختصهم بأمور غيبية، وعلوم لدنية، منعها عن سائر الناس، وهذان الكتابان: الجفر، والجامعة، هما من الكتب التي أملاها رسول الله صلى الله عليه وآله على علي أمير المؤمنين (ع)، وكتبها بخط يده، وقد أظهر الائمة عليهم السلام بعض هذه الكتب التي بخط علي (ع)، وباملاء الرسول صلى الله عليه وآله لعدة من كبار شيعتهم، واستشهدوا بها في موارد عديدة في الاحكام (1). وفي الحقيقة.. إن الامام (ع)، وإن قبل ولاية العهد مكرها من المأمون.. ولكنه يريد بكلامه هذا، واستشهاده بالجفر والجامعة أن يقول له، ولكل من كان على شاكلته بصريح العبارة: ".. قد انبأنا الله بأخباركم، وسيرى الله عملكم. ورسوله، والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون، ويجزيكم على ظلمكم وبغيكم علينا، وانتهاككم الحرمات منا، ولعبكم بدمائنا وأعراضنا، وأموالنا. ". ثم نراه يترقى في صراحته، حيث يقول: ".. لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه.. " أي أنه لو لم يقبل بهذا الامر لتعرض لسخط المأمون.. والكل يعلم ماذا كان يعني سخط أولئك الحكام، الذين كانوا لا يحتاجون إلى أي مبرر لاقترافهم أي جريمة. واقدامهم على أي عظيمة. وأخيرا.. ورغم أن المأمون قد تقدم منه (ع) وطلب منه أن يشهد الله، والحاضرين على نفسه.. نراه يأبى أن يكون المأمون، ولا أي من الحاضرين شاهدا على نفسه، ولا جعل لهم على نفسه سبيلا، لانه (1) راجع: كتاب مكاتيب الرسول ج 1 من ص 59 حتى ص 89، فقد اسهب القول حول هذه الكتب، واستشهادات الائمة بها، وغير ذلك. (*)
[ 345 ]
كان يعلم بما كانت تكنه صدورهم. وتضطرم به قلوبهم عليه. بل جعل الله فقط شهيدا عليه، واستعان بالآية الكريمة، التي تقطع الطريق على كل أحد، وتكتفي بالله شهيدا، حيث قال: " وأشهدت الله على نفسي (وكفى بالله شهيدا). ". وإذا كان لابد من كلمة: وإذا كان لابد في نهاية المطاف من كلمة، فاننا نقول: إن أولئك الذين عاشوا في تلك الفترة، ووقفوا على الظروف والملابسات التي اكتنفت هذا الحدث التاريخي الهام - إن هؤلاء ولا شك - كانوا أقدر منا على فهم جميع ما كان يرمي إليه الامام (ع) من كل كلمة، كلمة، مما كتبه على وثيقة العهد.. وإذا كان هناك من يرى: أن بعض الفقرات تحتمل غير ما قلناه.. فاننا نرى: أن كون بعض الفقرات الاخرى لا يحتمل غير ما قلنا، وايضا بما أن ما ذكرناه هو الذي يساعد على الجو العام. الذي توحي به النصوص التاريخية الكثيرة جدا، والتي قدمنا وسيأتي شطر منها - إن ذلك - وهو ما يجعلنا نجزم بأن ما فهمناه هو بعض ما كان يرمي إليه (ع) مما كتبه على وثيقة العهد. ملاحظات هامة: إن من الامور الغريبة حقا أن نرى نفس الخليفة يكتب وثيقة العهد - الطويلة جدا ! - بخط يده.. وأغرب منه أنه تقدم إلى الامام (ع)، وقال له: " اكتب خطك بقبول هذا العهد. وأشهد الله والحاضرين عليك،
[ 346 ]
بما تعده في حق الله ورعاية المسلمين (1). ". وهذا إن دل على شئ، فإنما يدل على مدى أهمية هذا الامر بالنسبة إلى المأمون، وأنه يريد تطويق هذا الموضوع من جميع جهاته، وإن استلزم ذلك كل تلك الامور، وإلا.. فما هو الداعي لان يكتب له العهد بخط يده ! ! ثم أن يتقدم إليه بنفسه ! !. ثم ما الداعي لان يطلب من الامام ذلك ! !. هذا.. ولا بأس أيضا بملاحظة تعبير المأمون ب‍ " قبول " ! !. ثم ملاحظة أنه طلب منه أن يكتب هذا القبول ب‍ " خط يده " ! !. ثم طلب منه أن يشهد الله والحاضرين على نفسه ! !. حقا.. إنها للعبقرية السياسية: وعلى كل حال.. فلا شك أن المحاورات السياسية تعتبر من الصنايع المستظرفة،، وذلك لما تتضمنه من تعريضات، وكنايات، حسبما تفرضه الاتجاهات السياسية، التي يلتزم بها المتحاورون.. ولذا.. نلاحظ أنه (ع).. وإن كان يضمن كلامه الشكر للمأمون، بل ويكتب تحت اسمه - حسب رواية الاربلي فقط -: " بل جعلت فداك. ولكنه يبطن كلامه، ويضمنه تعريضات عميقة، بلهجة معتدلة، لا عنف فيها، وذلك يعني: أن الامام (ع) لم يتنازل عن مبدئه، ولا حاد عن نهجه، الذي اختطه لنفسه، بوحي من رسالة الله، وتعاليم محمد (ص)، وخطى جده علي (ع).. لم يحد عنه قيد شعرة، ولا هاون فيه، ولا حابى أحدا، حتى في هذا الموقف. (1) مآثر الانافة ج 2 ص 332. (*)
[ 347 ]
ولعمري.. لو كان ما كتبه الامام الرضا (ع) على وثيقة العهد من شخص عادي آخر، لكان يقال عنه الشئ الكثير تعظيما وتبجيلا، حيث إنه لم يضل عن خطته التي اختطها لنفسه، ولا حاد عن نهجه قيد أنملة.. مع أن المأمون كان قد فاجأه بطلب الكتابة على الوثيقة، ولم يكن هو مستعدا، ولا متوقعا لذلك، لان العادة لم تكن قد جرت على ذلك.. وهذا ولا شك مما يزيد من عظمة الامام، ويعلي من شأنه، ويستدعي المزيد من التعظيم والتبجيل له. ولكن الحقيقة هي: أنه - وهو الامام المعصوم - غني عن كل تلكم التقريظات، وعن ذلكم التعظيم والتبجيل.. الموقف التاسع: شروطه (ع) على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي: " أن لا يولي أحدا، ولا يعزل أحدا، ولا ينقض رسما، ولا يغير شيئا مما هو قائم، ويكون في الامر مشيرا من بعيد (1) "، فأجابه المأمون إلى ذلك كله ! ! !. وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ أن: (1) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص 241، ونور الابصار من ص 143، وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 20، وج 2 ص 183، ومواضع اخرى، ومناقب آل أبي طالب ج 4 ص 363، وعلل الشرايع ج 1، ص 238، وإعلام الورى ص 320، والبحار ج 49. ص 34 و 35، وغيرها، وكشف الغمة ج 3 ص 69، وارشاد المفيد ص 310، وأمالي الصدوق ص 43، واصول الكافي ص 489، وروضة الواعظين ج 1 ص 268، 269، ومعادن الحكمة ص 180، وشرح ميمية أبي فراس ص 165. (*)
[ 348 ]
السلبية تعني الاتهام: فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سببا في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل اعمالهم وتصرفاتهم، إذ أن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض - حتى ولي العهد - التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لاي من تصرفاته وأعماله ؟ !. رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام: ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الامام (ع) على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك " وليعترف بالملك، والخلافة لنا ". والامام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الاسلامي الاصيل. هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق. النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم: والاهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس
[ 349 ]
للناس - بعد هذا - أن ينظرو إلى تصرفات واعمال المأمون وحزبه، على أنه تحظى برضى الامام (ع) وموافقته. ولا يمكن لها - من ثم - أن تعكس وجهة نظره (ع) في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الاسلام الصحيح فيه. الاسلام. الذي يعتبر الائمة (ع) الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات.. وانطلاقا مما تقدم: نراه (ع) يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضا: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه. وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولابد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأي عليه السلام: أنه لابد له من قبول ذلك - نلاحظ -: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول الله (ص)، لا كما يخرج الآخرون.. ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الامام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنه (ع) قد أفهم الناس جميعا: أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمد صلى الله عليه وآله، ومنهاجه هو منهاج علي (ع)، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم. ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل،
[ 350 ]
والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شئ، ومستهترة بكل شئ، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الامام (ع) المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلا عن غيره من العلويين أو من غيرهم - لم يعد يستطيع أن يقول ذلك - لان الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماما، إذ قد رأينا: كيف أن الامام (ع) بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئا، بل إن كثيرا منها كان سوءا ووبالا عليه، كما سيأتي. لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته: ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الامام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الامة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت له (ع) حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيته (ع) مع النظام كانت أمرا لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..
[ 351 ]
ولعل الاهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الامام (ع) أنه كان عارفا بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الاخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الامام، ويجد المأمون - من ثم - العذر، والفرصة لتصفيته (ع) من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر - إلى حد ما - الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته - كما قلنا - في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم. الامام.. لا ينفذ ارادات الحكم: ولعل من الاهمية بمكان... أن نشير إلى أنه (ع) كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لان يقتنع بالتشريفات، والامور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للامة، لا يمكن أن يرضى بديلا عن أن ينقذ الامة، ويرتقع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول الله صلى الله عليه وآله، وأوصيائه عليهم السلام، وحكموا بغير ما أنزل الله. إنه يريد أن يخدم الامة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..
[ 352 ]
لا زهد أكثر من هذا: إنه مضافا إلى أن مجرد رفض الامام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الاثر في الاظهار لكل أحد أن الامام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الامام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الامام والنيل من كرامته. ولقد قدمنا: أن الامام (ع) قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فان من الافضل والاسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد اجبار الامام على التعاون معه، فلسوف يجد أنه (ع) على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملا، وافهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالامام (ع) في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها - كما فعل في مناسبات عديدة - الامر الذي لن يكون أبدا في صالح المأمون، ونظام حكمه.. ومن هنا رأيناه (ع) يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، واظهاره الزهد بالدنيا - يجيبه -: ببيان أنه مجبر على هذا الامر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم.. وهكذا.. وبعد أن كان (ع) سلبيا مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب
[ 353 ]
إليه (ع): أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه. وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الامام (ع)، بفضل وعيه، ويقظته، واحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الانسانية، وإلى الابد. الموقف العاشر: موقفه (ع) في صلاتي العيد.. ففي إحداهما: " بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضا صلى الله عليه وآله، وقال: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الامر، فاعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الامر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به.. ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال: يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال المأمون: أخرج كيف شئت.. وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسن (ع)، فقعد الناس لابي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابه (ع)، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.
[ 354 ]
فلما طلعت الشمس قام الرضا (ع) فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، والقى طرفا منها على صدره، وطرفا بين كتفيه، ومس شيئا من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت. ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة.. فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيأوا بأحسن هيئة.. فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال: ".. الله اكبر، الله اكبر على ما هدانا، الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الانعام، والحمد لله على ما أبلانا ". ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا. فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الارض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالا من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة. فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والارض، والحيطان تجاوبه. وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع.. فبعث المأمون إلى الامام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه مما
[ 355 ]
كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم.. فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع. واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ.. " (1). ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس: ذكروا بطلعتك النبي، فهللوا * لما طلعت من الصفوف وكبروا حتى انتهيت إلى المصلى لابسا * نور الهدى يبدو عليك فيظهر ومشيت مشية خاشع متواضع * لله، ولا يزهى، ولا يتكبر ولوان مشتاقا تكلف غير ما * في وسعه لمشى اليك المنبر (2) ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض.. وعلى كل حال. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما: (1) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع.. (2) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج 4 ص 372، ولكن هذا الشعر ينسب أيضا للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. (*)
[ 356 ]
1 - الاثر العاطفي، والقاعدة الشعبية: فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور إثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم ؟ !. وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية له (ع).. 2 - لماذا يجازف المأمون بارجاعه (ع): وإذا كان هدف المأمون من الاصرار على الامام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضا أن إرجاع المأمون للامام (ع) في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لابد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الاقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال. وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد اقامة الامام للصلاة.. فلا معنى لان يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لان يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الامام (ع) وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شئ خاف المأمون إذن ؟ ! إنه كان يخشى ما هو أعظم
[ 357 ]
وأبعد أثرا، وأشد خطرا.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد - خشي - أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور: " وأنا من شروطها.. " وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله، ووصيه علي (ع).. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الامام مروا من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم - من العرب وغيرهم - سوف يحولها إلى حصن لاعداء العباسيين والمأمون، حصن لائمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعه (ع) عن الصلاة، لانه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين.. ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لان يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الامر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفه (ع) وتصريحاته في مختلف الاحوال والظروف.. الموقف الحادي عشر: وأخيرا. فقد كان سلوك الامام (ع) العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: " ما رأيت أبا الحسن جفا أحدا بكلامه قط، وما رأيته قطع على
[ 358 ]
أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحدا عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحدا من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس. وكان قليل النوم بالليل، يحيى اكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر. وكان كثير المعروف والصدقة في السر، واكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه.. " (1). وهذه الصفات بلا شك قد اسهمت اسهاما كبيرا في أن يكون الامام (ع) هو الارضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم.. الحكم ليس امتيازا وإنما هو مسؤولية: وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابه (ع): " مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والام واحدة، والاب واحد، والجزاء بالاعمال.. " (2). وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الامام: " لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. واطوع له، والله ما (1) كلام ابراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره. (2) البحار ج 49 ص 101، والكافي الكليني، ومسند الامام الرضا ج 1 قسم 1 ص 46. (*)
[ 359 ]
نسخت هذه الآية: " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم.. " (1). وقال لابراهيم العباسي: إنه لا يرى أن قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله تجعله خيرا من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به (2). وقال رجل له: ما على وجه الارض اشرف منك آباء. فقال: التقوى شرفهم، وطاعة الله أحظتهم (3). وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنه (ع) يريد بذلك أن يفهم الملا: أن الحكم لا يعطي للشخص - من كان، ومهما كان - امتيازا، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز - فقط - بالتقوى والفضائل الاخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الاخلاقية، والانسانية. والامتيازات التي يجعلونها لانفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون.. وبكلمة مختصرة: إن الامام (ع) يرى: أن الحكم ليس امتيازا، وإنما هو مسؤولية. وعلى كل حال.. فان سلوك الامام (ع)، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الاخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منه (ع) طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلا بينهم، ومحلا في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص (1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 236، ومسند الامام الرضا ج 1 قسم 1 ص 46. (2) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 237. (3) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 236. ومسند الامام الرضا ج 1 قسم 1 ص 46. (*)
[ 360 ]
آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الاخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه. وفي نهاية المطاف نقول: وحسبنا هنا ما ذكرنا من الامثلة، التي نحسب أنها تكفي لان تلقي ضوءا كاشفا على الخطة التي اتبعها الامام (ع) في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لان لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لان تبقى تراود نفوسهم. ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات... حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.
[ 361 ]
القسم الرابع من خلال الاحداث 1 - مع بعض خطط المأمون.. 2 - كاد المريب أن يقول خذوني 3 - ما يقال حول وفاة الامام.. 4 - دعبل والمأمون. 5 - كلمة ختامية.
[ 363 ]
مع بعض خطط المأمون التوجيهات الراضية غير مقبولة: كل ما تقدم يلقي لنا ضوءا على بعض نوايا المأمون مع الامام (ع)، وعلى كثير من الاحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام. وإننا حتى لو سلمنا جدلا، وغضضنا النظر عن كل تلك الاسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع - مع ذلك - أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية. ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الامام، الذي كان يكبر المأمون ب‍ " 22 " سنة، والذي كان مجبرا على قبول هذا الامر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الارواح من أجله. نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الامام (ع)، والتي لا تبقي مجالا للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقدا العزم عليه..
[ 364 ]
وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط. المأمون يفضح نفسه: وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الامام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعا من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضا (ع) يقول المأمون: ".. قد كان هذا الرجل مستترا عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الامر لنا دونه. وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه.. والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلا، قليلا، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الامر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه.. ". ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الامام (ع)، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: " لا شئ أحب إلي من هذا ".
[ 365 ]
ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة (1). والذي يعنينا الحديث عنه هنا: هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفا، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الامام خشية شديدة، كان يخطط أولا إلى أخذ زمام المبادرة من الامام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منه (ع) قليلا قليلا إلى آخر ما تقدم.. ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الامر الحط من الامام عليه السلام، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الامام عليه السلام، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك.. لان كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الامر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لانه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس به عليه السلام، فأراد أن يعمل عملا يفقد الامام عليه السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائيا، وإلى الابد. ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الامام (ع)، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضا تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم. (1) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص 196، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 170. والبحار ج 49 ص 183، ومسند الامام الرضا ج 2 ص 96.. (*)
[ 366 ]
نزيد هنا بعض الامور الاخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية اخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الامور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكرارا ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وافادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول: لماذا على البصرة فالاهواز: إن من جملة الامور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الامام (ع) وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك (1) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته - أمره - بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالامام (ع) من المدينة إلى مرو مهما كلفه الامر.. فقد أمره: أن يجعل طريقه بالامام " على البصرة، والاهواز، ففارس. وحذره كثيرا من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم. " (2). (1) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لاحضار الرضا عليه السلام، لان ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لانه موجب لسوء ظن الرضا عليه السلام، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الامر، وواقع القضية. وذلك لان الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدوا متجاهرا للامم، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضا عليه السلام بولاية العهد ! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان واليا على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للامام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الامام الرضا ولي عهد المأمون ص 35. (2) تهذيب التهذيب ج 7 ص 387، وتاريخ اليعقوبي ج 3 ص 176، وينابيع المودة ص 384، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص 236. واثبات الوصية ص 205. = (*)
[ 367 ]
بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: " لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالاهواز، ففارس.. " (1). وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين (2) وأهل البيت، ومرور الامام (ع) من هذين البلدين، وخصوصا الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جدا في الدولة.. سوف = وإعلام الورى ص 320، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 149، 180، والكافي ج 1 ص 486، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 40 والبحار ج 49 ص 91، 92 118 و 134، وكشف الغمة ج 3 ص 65، وغير ذلك كثير. (1) اصول الكافي ج 1 ص 489، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 149 و 180، وشرح ميمية أبي فراس ص 165، ومعادن الحكمة ص 180، وإثبات الوصية للمسعودي ص 204، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 73، والبحار ج 49 ص 134. (2) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان... لكننا نورد - مع ذلك - بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الاثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: ".. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فانهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ. "، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين.. ولاجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج 3 ص 421. وفي البداية والنهاية ج 10 ص 93: أن المنصور قد اعترف بأن لابراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء = (*)
[ 368 ]
يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الاجلال، والاعزاز والتكريم. ولا شك أن الامام (ع) سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، = المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص 405: " أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان.. " وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الامام الرضا عليه السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: " إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لاخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك.. ". وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الامويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريبا بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي.. ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب ماجريات الاحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الامام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل علي عليه السلام، وأجاب بأنه لا يحسن شيئا، قال المأمون: " سبحان الله ! ما أجد أحدا يعيني على هذا الامر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري. ". ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لان يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الاخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضا، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج 11 ص 1093، والكامل لابن الاثير ج 5 ص 212، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 255، والنجوم الزاهرة ج 2 ص، 190 وتاريخ التمدن الاسلامي مجلد 1 جزء 2 ص 337، وفتوح البلدان للبلاذري ص 440، وتجارب الامم ج 6 ص 460. (*)
[ 369 ]
ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الاخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الامام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم - إذا كان هؤلاء هكذا - فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لاهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الامام (ع) بينهم، وبالقرب منهم.. يقول الراوندي في ذلك: " إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالامام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها.. " (1) !. والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالامام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماما.. إنه يريد أن يضع من الامام لا أن يرفع. أما أهل البصرة: بعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلا مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الامام الكاظم، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائيا، ولا كلاميا.. وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الامام (ع) نهائيا.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك.. (1) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص 236. (*)
[ 370 ]
الامام يرفض كل مشاركة تعرض عليه: إنه برغم شروط الامام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للامام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها (1)، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلانا، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة (2) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان ! هذا. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الامام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعا، وإلى الابد. أو على الاقل كان يريد بذلك: أن يوجد للامام أعداء في الاوساط ذات القوة والنفوذ.. وأيا ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الامام (ع) كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له: " إن وفيت لي وفيت لك. ". وهذا تهديد صريح له من الامام (ع). ولا نعجب كثيرا - بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه - إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: " بل أفي لك " !. (1) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن علي عليه السلام: إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا !. (2) الكافي ج 8 ص 151، وكشف الغمة ج 3 ص 68 و 87، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 164 و 166 و 167 والبحار ج 49 ص 144 و 155 و 171، وغير ذلك. (*)
[ 371 ]
وهكذا.. فقد كان الامام (ع) يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه. الاختبار لشعبية الامام (ع): كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الامام (ع)، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الاوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبح (ع) يشكل خطرا حقيقيا، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شئ، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منه (ع). (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الامام " ع "). سؤال.. وجوابه: ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الامام (ع) إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الاسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الامويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الامور التي من شأنها أن تعزز من مركز الامام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الانظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الامر لان يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..
[ 372 ]
ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الامر موت الامام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك. ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الامام (ع)، وذلك لما قدمناه من الاسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان - كما قدمنا - قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الامام (ع) بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا.. وأما كتمه لفضائل الامام (ع): ومن جملة الامور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الامام قليلا قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الامر - محاولاته كتم فضائل الامام (ع) ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولي إشخاص الرضا (ع) من المدينة إلى مرو، عن حال الرضا (ع) في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادته (ع)، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: ".. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الارض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحدا بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني.. " !. وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بدا في كثير من الاحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها
[ 373 ]
المأمون لان يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول - مع ذلك - أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع. ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: " الغريق يتشبث بالطحلب ". - ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الامام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الامام واسقاطه، قد أسهمت كثيرا وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح. الشائعات الكاذبة ! وكان بالاضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الامام (ع)، وسائر الائمة عليهم السلام خاصة. فهذا أبو الصلت يسأل الامام (ع) فيقول: " يا ابن رسول الله، ما شئ يحكيه الناس عنكم ؟ !. قال (ع): ما هو ؟ !. قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد !. قال (ع): يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا - على ما حكوه - فممن نبيعهم ؟ ! " إلخ (1). (1) مسند الامام الرضا ج 1 قسم 1 ص 45، والبحار ج 49 ص 170، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 184. (*)
[ 374 ]
ونرى أنه (ع) يقول - وعنده جماعة من بني هاشم، فيهم إسحاق ابن عيسى العباسي -: " يا إسحاق بلغني أن الناس يقولون: إنا نزعم: أن الناس عبيد لنا. لا.. وقرابتي من رسول الله ما قلته قط، ولا سمعته من آبائي قاله، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله الخ.. ". وقد تقدمت هذه الرواية في فصل: خطة الامام. كما أن هشام بن ابراهيم العباسي، الذي وضعه الفضل بن سهل ليراقب الرضا (ع)، ويضيق عليه، كان يشيع عن الرضا (ع): أنه أحل له الغناء، فلما سئل (ع) عن ذلك قال: " كذب الزنديق الخ (1).. ". بهذه الشائعات الكاذبة، وامثالها أراد المأمون الحط من كرامة الامام وتصعيف مركزه، وزعزعة ثقة الناس به، وبالعلويين بصورة عامة. ولكن كما يقولون: حبل الكذب قصير، إذ أن أقوال الامام (ع) وأفعاله وجميع جهات سلوكه، سواء قبل توليته للعهد أو بعدها.. كانت تناقض هذه الشائعات، وتدحضها (2). الامر الذي كان من شأنه (1) رجال المامقاني ج 3 ص 291، وقاموس الرجال ج 9 ص 309، ووسائل الشيعة ج 12 ص 227، ومسند الامام الرضا ج 2 ص 452، عن رجال الكشي ص 422. والبحار ج 49 ص 263، عن قرب الاسناد ص 198. وكان هشام بن ابراهيم هذا جريئا على المأمون، لانه هو الذي رباه، وشخص إلى خراسان في فتنة ابراهيم بن المهدي، راجع الاغاني ط ساسي ج 9 ص 31. ويسمى: العباسي مع أنه لم يكن عباسيا: إما لان المأمون ولاه تربية ولده العباس، أو لانه ألف كتابا في امامة العباس نص على ذلك الكشي ط النجف ص 223 وغيره. (2) وكيف يمكن أن نصدق مثل هذا الذي لا يقره العقل، ولا يقبل به القرآن، على الامام الذي كان يتخذ لنفسه أسلم، وأروع منهج، ألا وهو منهج القرآن، حتى إنه عندما أنكر رؤية النبي لله تعالى، واستدل على ذلك بالآيات، وقال له أبو قرة: فتكذب بالروايات ؟ ! قال الامام عليه السلام: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها. وما أجمع المسلمون = (*)
[ 375 ]
أن يثير شكوك الناس، وظنونهم في المأمون نفسه، فلم ير بدا من أن يضرب عن هذا الاسلوب صفحا. ويتجه إلى غيره بتخيل أنه أجدى وأكثر نفعا وأقل ضررا !. وبقي في كنانته سهم أخير، كان يحسب أنه سوف يصيب الهدف، ويحقق الغاية: التي هي تشويه سمعة الامام (ع)، والحط من كرامته. ألا وهو: التركيز على افحام الامام (ع): فبدأ يجمع العلماء. وأهل الكلام من المعتزلة، وهم أصحاب جدل، وكلام، واستدلال، وتنبه للدقائق من الامور، ليحدق هؤلاء بالرضا (ع) وتجري فيما بينهم وبينه محاورات، ومجادلات، من أجل أن ينقصوا منه مجلسا بعد مجلس، وأن يكسروه في أعظم ما يدعيه هو وآباؤه (ع): من العلم والمعرفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وآله، وعلومه.. والذي هو الشرط الاعظم لامامة الامام، على ما يدعيه الشيعة المفتونون بالرضا (ع)، وبسائر آبائه وأبنائه الائمة الطاهرين.. ولا يبقى من ثم مجال لابي نؤاس لان يقول فيه عندما رآه خارجا من عند المأمون: مطهرون نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له في قديم الدهر مفتخر = عليه: أنه لا يحاط به علما، ولا تدركه الابصار، وليس كمثله شئ. راجع: تفسير البرهان طبعة حجرية ص 1057، 1058. نقلا عن الكافي.. ومثل ذلك كثير لا مجال لاستقصائه.. (*)
[ 376 ]
الله لما برى خلقا فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر فأنتم الملا الاعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور (1) هذه الابيات التي سارت بها الركبان والتي هي تعبير صادق عن هذه الحقيقة التي أشرنا إليها، والتي كانت تقض على المأمون وكل أسلافه وأتباعه مضاجعهم، وتنغص عليهم حياتهم.. وعليه: وإذا استطاع المأمون أن يظهر للملا أن الامام (ع) صفر اليدين مما يدعيه، ويدعيه آباؤه من قبل، فإنه يكون قد قضى على المصدر والاساس لكل المشاكل، والاخطار، وينهار المذهب الشيعي حيئذ بانهيار فكرة الامامة فيه، التي هي المحور، والاساس له، ويتحقق من ثم - حلمه الكبير، الذي طالما جهد وشقي من أجل تحقيقه. وأعتقد: أنه لو كان تم له ما أراد، فلسوف لا يتعرض بعد هذا للامام (ع) بسوء، وأنه كان سوف يبقي على حياته (ع) إبقاء لحجته، وأنه خال من شرائط الامامة، وليأفل من ثم.. نجمه، ونجم العلويين من بعده.. وإلى الابد. (1) شهرة هذه الابيات تغنينا عن ذكر مصادرها، وقد أعطاه عليه السلام ما كان معه، وهو مئة دينار، والبغلة التي كان يركبها.. لكن بعض الباحثين يرى أن أبا نؤاس لم يعش إلى زمان تولي الرضا العهد، بل مات قبل ذلك بثلاث سنوات أي في سنة 198 ه‍. ومن ثم هو ينكر الحادثة الاخرى، التي تقول: إن البعض لام أبا نؤاس حيث لم يمدح الامام عليه السلام، فقال أبياته المشهورة: " قيل لي أنت أشعر الناس طرا في فنون إلخ.. ". ولكن الظاهر أن هذا الباحث لم يطلع على عبارة ابن خلكان في وفيات الاعيان، طبع سنة 1310 ج 1 ص 457، فانه قال: " وفيه (أي في الرضا عليه السلام) يقول أيضا - وله ذكر في شذور العقود سنة احدى أو اثنتين وماءتين -: مطهرون نقيات إلخ.. ". بل يكفي دلالة على أنه عاش إلى ما بعد ولاية العهد ذكر هذه الابيات، وتلك له والنص على أنه قد قالها فيه عليه السلام. (*)
[ 377 ]
ومن أجل ذلك - بكل تأكيد - أخذ يجمع العلماء (1) ويجلبهم من أقاصي البلدان، ويأمرهم بتهيئة أشكل المسائل وأصعبها، وطرحها على الامام (ع) عله يقطعه عن الحجة. ولو مرة واحدة. ليحط بذلك من كرامته، ويشوه سمعته، ويظهر عجزه وعيه، ويرى الناس أن ما يدعيه من العلم والمعرفة بآثار رسول الله وعلومه لا حقيقة له، ولا واقع وراءه. قال الصدوق عليه الرحمة: ".. كان المأمون يجلب على الامام (ع) من متكلمي الفرق، وأهل الاهواء المضلة كل من سمع به، حرصا على انقطاع الرضا (ع) عن الحجة مع واحد منهم إلخ. " (2). وقال ابراهيم بن العباس: " سمعت العباس يقول:... وكان المأمون يمتحنه (أي يمتحن الامام (ع) بالسؤال عن كل شئ، فيجيبه الجواب الشافي.. " (3). وقال أبو الصلت: ".. فلما لم يظهر منه للناس إلا ما ازداد به فضلا عندهم، ومحلا في نفوسهم،. حلب عليه المتكلمين من البلدان، طمعا في أن يقطعه واحد منهم، فيسقط محله عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة، فكان لا يكلمه خصم من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصائبين، والبراهمة، والملحدين، والدهرية، ولا خصم (1) مع أنه هو نفسه قد فرق عن الامام تلامذته، عندما أخبروه أنه يقوم بمهمة التدريس، كما أشرنا إليه !. (2) مسند الامام الرضا ج 2 ص 105، والبحار ج 49 ص 179، وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 191. (3) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 237، وإعلام الورى ص 314، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 107، ويراجع أيضا: مناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 350، وغير ذلك. (*)
[ 378 ]
من فرق المسلمين المخالفين له إلا قطعه، والزمه الحجة، وكان الناس الخ.. " (1). وقال المأمون لسليمان المروزي: ".. إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط.. " (2). وتقدم قوله لحميد بن مهران، عندما طلب منه هذا أن يوليه مجادلته، لينزله منزلته: " ما من شئ أحب إلي من هذا.. ". بل لقد صرح المأمون نفسه: بأنه كان يريد أن يجعل من جهل الامام - نعوذ بالله - ذريعة ووسيلة إلى خلعه، ليشتهر بين الناس أنه قد خلع بسبب جهله، وقلة معرفته، فقد ورد أنه عندما أخبره الرضا بصفات حمل جاريته، قال المأمون: " فقلت في نفسي هذه والله فرصة، إن لم يكن الامر على ما ذكر، خلعته، فلم أزل أتوقع أمرها إلخ.. " (3). إلى غير ذلك مما قد امتلات به كتب الاخبار والسير. وحتى مع الامام الجواد قد حاول ذلك: لا نستبعد أيضا: أن يكون قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع (1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 239، ومثير الاحزان ص 263، والبحار ج 49 ص 290، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 128، وشرح ميمية أبي فراس ص 204. (2) البحار ج 49 ص 178، وعيون أخبار الرضا ج 1 ص 179، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 97. (3) الغيبة للشيخ الطوسي ص 49، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 224، والبحار ج 49. ص 307، ومناقب آل أبي طالب ج 4 ص 333 عن الجلاء والشفاء.. هذا.. ولا بأس بملاحظة قوله: إنها والله فرصة !.. الدالة على أنه كان يتحين الفرص لذلك. (*)
[ 379 ]
الامام الجواد (ع) أيضا، والذي كان لا يزال صغير السن، فأغرى العباسيين بأن يقفوا ذلك الموقف، ليفسح المجال ليحيى بن أكثم ليطرح مسائله الصعبة على الامام الصغير، ليعجز عنها، ويظهر للملا: أن إمام الشيعة طفل صغير، لا يعلم ولا يعقل شيئا، وان كل ما يدعونه في الامام ما هو إلا زخرف باطل، وظل زائل.. ويلاحظ: أنه قام بهذه اللعبة قبل أن يسلم إليه ابنته، التي كان قد عقد له عليها في حياة أبيه الرضا (ع)، وجعل شرط تسليمها أن يغلب يحيى بن اكثم ويجيبه على مسائله ! ومعنى ذلك: أنه لو توقف ولو في مسألة واحد لامتنع عن اعطائه زوجته، وكانت النتيجة أن يشتهر ذلك بين الناس كلهم، ويصبح حديث كل الندوات والمحافل أن سبب عدم تسليمه زوجته هو جهله وعيه.. لكن الامام الجواد كان كأبيه قد أعاد على المأمون كيده ومكره، ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله.. ولقد سبقه إلى ذلك المنصور مع الامام الصادق، حيث أمر أبا حنيفة بتهيئة مسائل صعبة يلقيها على الامام، لانه رأى الناس قد فتنوا به (1).. وجرى على منواله في ذلك المعتصم مع الجواد أيضا، وغيره مع غيره.. وكان الله هو المؤيد والناصر والمسدد. ملاحظة لابد منها: ومما يلاحظ هنا: أننا لا نجد أثرا لهذه المجالس العلمية للمأمون !، والمناظرات الكلامية ! بعد موت الامام (ع)، فبعد أن مات (ع) بسم المأمون، وهدأت ثائرة العلويين والشيعة أو صد الباب كليا تقريبا، (1) راجع: البحار ج 47 ص 217. (*)
[ 380 ]
وانصرف عن ذلك نهائيا.. اللهم إلا بعض مناظرات نادرة ومحدودة جدا في بغداد، لا تقاس بتلك التي كانت تجري في مرو على الاطلاق.. الامام يقول: إن المأمون سوف يندم: هذا.. ولم يكن من الغريب: أن يعلم الرضا (ع) بمقاصد المأمون، وحقيقة نواياه من مثل هذه التصرفات، وكان (ع) يقول: ".. إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوارتهم، وعلى أهل الانجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصائبين بعبرانيتهم، وعلى أهل الهرابدة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف، ودحضت حجته، وترك مقالته، ورجع إلى قولي، علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه.. (1). نعم.. إنه سوف يندم كثيرا عندما يرى: أن كل ما كان يدبره ينقلب عليه، ويؤدي إلى عكس النتيجة التي كان يرجوها منه.. حتى إن الناس كانوا يقولون: " والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أصحاب الاخبار يرفعون ذلك إليه، فيغتاظ ويشتد حسده.. " (2). وهكذا. فإن هذا القول يعتبر تحقيقا لنبوءة الامام: من أن المأمون سوف يندم. إذا علم أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له. ولقد علم المأمون، ولكن بعد فوات الاوان بذلك، وبأنه قد ساعد بأعماله تلك على اتساع القاعدة الشعبية للامام (ع) وإظهار مزاياه (1) مسند الامام الرضا ج 2 ص 75، والبحار ج 49 ص 175، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 156. (2) كشف الغمة ج 3 ص 87، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 239. (*)
[ 381 ]
وفضائله، التي كان يجهد المأمون في طمسها وإخفائها. بل لقد ساعد على ترسيخ عقيدة الشيعة في نفوسهم، وشد إلى قلوب الكثيرين، حيث قد ثبت بالفعل: أن الامام أعلم أهل الارض على الاطلاق وأفضلهم وأتقاهم إلى آخر ما هنالك من الكمالات والفضائل الاخلاقية، ولم يعد ذلك مجرد دعوى لا يدعمها دليل، ولا يؤيدها برهان. وكان على المأمون أن يتبع أسلوبا جديدا، يضمن له تحقيق غاياته في التخلص من الامام (ع)، والقضاء عليه اجتماعيا، ونفسيا، بل وحتى جسديا أيضا. وبقي في كنانته سهم آخر، ظن أن سوف يحقق له ما عجز كل ما سواه عن تحقيقه.. ألا وهو: الاقتراح العجيب: وكل قضايا المأمون تثير عجبا، وهو أن يذهب الامام إلى بغداد، وقبل أن نتكلم عن هذا الاقتراح العجيب.. يحسن بنا أن نتكلم عن بغداد أولا، وعن موقفها من البيعة للرضا (ع)، وعن ردة الفعل فيها تجاه هذا الفعل الذي أقدم عليه المأمون من دون رضا منها.. فنقول: موقف بغداد من المأمون والبيعة للرضا (ع): تعتبر بغداد أهم معقل للعباسيين على الاطلاق وهي عاصمتهم، وحصنهم، الذي يلوذون به، ويلجأون إليه. والعباسيون هم الذين نقموا على المأمون بسبب جعل ولاية العهد للرضا (ع)، وخلعوا المأمون بمجرد سماعهم لذلك النبأ الذي نزل عليهم نزول
[ 382 ]
الصاعقة، فشغبوا في بغداد، وأخرجوا الحسن بن سهل منها، وبايعوا لابراهيم بن المهدي، المعروف، بابن شكلة المغني، الذي كان عاملا للمأمون على البصرة (1) والذي كان من ألد أعداء الامام علي بن أبي طالب وولده.. وموقف بغداد هذا لم يكن ليخفى على أحد، فكيف يخفى على المأمون، وقد رأينا: أن الامام نفسه يخبر المأمون: بأن الناس - يعني العباسيين، ومواليهم (2) - ينقمون عليه مكان الامام منه، ومكان بيعته له بولاية العهد (3). والفضل بن سهل أيضا قال للمأمون: ".. ثم أحدثت هذا الحدث الثاني إنك جعلت ولاية العهد لابي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك. والعامة والعلماء، والفقهاء، وآل عباس، لا يرضون بذلك. وقلوبهم (1) مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص 28. (2) لانهم هم فقط الذين كانوا ينقمون ذلك عليه، كما تدل عليه النصوص التاريخية، ولم يشر التاريخ، ولو من بعيد إلى شئ من ذلك من غيرهم على الاطلاق، بل نص على عكس ذلك كما عرفت، حتى من أهل بغداد أنفسهم.. (3) الطبري ج 11 ص 1025، وابن خلدون ج 3 ص 249، والكامل لابن الاثير ج 5، وغير ذلك. وقال في النجوم الزاهرة ج 2 ص 174: " أنه بسبب ولاية العهد للرضا قامت الفتن، واضطربت البلاد " وقريب منه ما في مقدمة ابن خلدون ص 211، وواضح: أن ذلك قول مبالغ فيه. حيث لم يحدث بسبب البيعة شئ أصلا إلا في بغداد، وأما سائر البلاد، فقد خمدت الثورات فيها، واستوسقت للمأمون كما نص عليه الذهبي، وغيره حسبما تقدم، وحتى في بغداد نفسها كان أكثرها يؤيد المأمون في ذلك باستثناء العباسيين، ومن لف لفهم، قال في تاريخ أبي الفداء ج 2 ص 22: " وامتنع بعض أهل بغداد عن البيعة ".. ويتفق المؤرخون: على أن بغداد انقسمت إلى قسمين: قسم يقول: نلبس الخضرة، ونبايع وقسم يأبى ذلك. إلى أن غلب الممتنعون، لان من بينهم رجال الدولة، وبايعوا لابراهيم بن المهدي.. (*)
[ 383 ]
متنافرة عنك، والرأي: أن تقيم بخراسان، حتى تسكن قلوب الناس على هذا إلخ.. " (1). وسيأتي أن المأمون قد كتب للعباسيين، بعد وفاة الامام: أن الاشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت.. إلى غير ذلك مما ليس في تتبعه كثير فائدة.. وأما نصب ابن شكلة: لقد رضي العباسيون بابن شكلة حاكما عليهم، مع علمهم بانحرافه عن علي، ونصبه، بل لعل هذا هو أحد المرجحات لاختيارهم له. ويكفي دلالة على انحرافه عن علي (ع) وولده ما تقدم: من أن المأمون كان يظهر التشيع، وابن شكلة يظهر التسنن (2)، وأنه عير المأمون بتشيعه فقال: إذا الشيعي جمجم في مقال * فسرك إلخ. وعيره المأمون بنصبه، فقال: إذا المرجي سرك أن تراه * يموت إلخ (3). وقال ابراهيم مرة للمأمون: إن عليا ليس من البلاغة في شئ، (1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 160، والبحار ج 49 ص 166. وواضح أن من مصلحة الفضل: أن يضخم الامر ويهول به على المأمون، لانه يريد أن يردعه عن الذهاب إلى بغداد، التي يعرف أنه سوف يتعرض فيها لاهوال وأخطار قد لا يكون له القدرة على تحملها، (2) استعمال المسعودي لكلمة " التسنن " هنا يفند ما ادعاه أحمد أمين المصري: من أنه هو المصطنع لهذه الكلمة، وأول من استعملها. والظاهر أنه قرأها فيه أو في النجوم الزاهرة، أو وفيات الاعيان ترجمة علي بن الجهم أو غيرها.. ثم نسي. (3) مروج الذهب ج 3 ص 417. (*)
[ 384 ]
حيث إنه رآه في منامه، فسأله مسألة، فقال له الامام (ع): " سلاما سلاما ".. فعندما أفهمه المأمون: أنه (ع) يشير بذلك إلى قوله تعالى: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " خجل، وندم على إخباره المأمون بما كان (1). وعن صلاح الدين الصفدي في شرح الجهورية: أنه لما مات ابراهيم ابن المهدي سأل الواثق عن وصيته، فوجده قد أمر بمال عظيم: أن يفرق على أولاد الصحابة، إلا أولاد علي (ع)، فقال الواثق: " والله، لولا إطاعة أمير المؤمنين لما وقفت عليه، ولا انتظرت دفنه " ثم انصرف الواثق وهو يقول: " منحرف عن شرفه، وخير أهله، والله، لقد أدليته في قبره كافرا. " (2). إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد التي يطول بذكرها المقام. المأمون: هو الذي ينقل لنا اقتراحه العجيب: ولكن رغم موقف بغداد ذاك، ورغم أنه كان يعلم به، ويعلم بكل ما جرى في بغداد بسبب جعله ولاية العهد للرضا نرى المأمون يحاول أن يرسل الامام إلى بغداد، ليكون وجها لوجه مع ألد أعدائه العباسيين، وفي نفس معقلهم، ومحل قوتهم، وحيث لهم كل النفوذ والسيطرة، يرسله - وحده ! - ويبقى هو خليفته في خراسان. ويرفض الامام، ويصر على الرفض، حتى يئس المأمون من قبوله. يقول المأمون: " رحم الله الرضا (ع)، ما كان أعلمه، لقد (1) مناقب ابن شهر آشوب ج 3 ص 271، ونزهة الجليس ج 1 ص 403. (2) نزهة الجليس ج 1 ص 404. (*)
[ 385 ]
أخبرني بعجب. سألته ليلة، وقد بايع له الناس، فقلت: جعلت فداك، أرى لك أن تمضي إلى العراق، وأكون خليفتك بخراسان، فتبسم، ثم قال: لا.. لعمري.. " إلى أن يقول المأمون: " فجهدت الجهد كله، وأطمعته في الخلافة، وما سواها، فما أطمعني في نفسه.. " (1). ولماذ هذا العرض: عجيب إذن !.. هكذا أصبحت الخلافة رخيصة إلى هذا الحد ! الخلافة. التي لم يكن يعدلها عنده في الدنيا شئ !. الخلافة.. التي قتل من أجلها المئات والالوف !، وخرب المدن ودك الحصون ! !. التي قتل من أجلها أخاه، ومن معه، وقواده، ووزراءه !.. الخلافة هذه.. أصبحت رخيصة إلى حد أنه يبذلها - حسب منطقه - لرجل غريب !، وفي مقابل أي شئ ؟ ! في مقابل أن يذهب إلى العراق !. !. ولقد عرفنا الخلافة التي بذلها، لكن ما سواها لم نستطع أن نعرفه بالتحديد !. ولماذا يجهد الجهد كله ؟ ! ولماذا يبذل الخلافة ؟ ! ولماذا يبذل ما سواها ؟ ! لماذا كل ذلك ؟ !. أليس هو ذا القوة والسلطان ؟ !، فلم لا يجبر الامام (ع) على ذلك، كما أجبره على قبول ولاية العهد ؟ !. ألم يكن باستطاعته أن يرسله مقيدا مصفدا بالحديد ؟ !. ولماذا يسمح له بأن يعصيه ويخالف أمره ؟ !. أفلا يعتبر ذلك جريمة يستحق عليها أقسى العقوبات، باعتبار أنه يعرض الخليفة والخلافة، وهيبتهما للخطر ؟ !. (1) الغيبة للطوسي ص 48، ومناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 337، والبحار ج 49 ص 58 و 145. (*)
[ 386 ]
نعم. إنه يريد أن يذهب الامام إلى بغداد، ولكنه يريد في نفس الوقت أن يذهب راضيا وغافلا عما يهدف إليه المأمون من وراء ذهابه هذا.. وإلا فإن ذهابه لن يجديه نفعا، لانه قد جرب معه الاكراه والاجبار من قبل، في قضية ولاية العهد، ورأى أن الامام قد اتخذ ذلك وسيلة من الوسائل المضادة، من أجل تضييع الفرصة على المأمون. كما أن بذله للخلافة لم يكن مجازفة بها، لانه كان مطمئنا إلى أن ما يبذله اليوم سوف يعود إليه غدا.. وبالشكل الافضل والاكمل، لو أن الامام (ع) قبل منه ما كان عرضه عليه. نعم.. إنه يريد أن يرسله إلى العراق - بغداد - وطلب منه أن يذهب وحده، ويبقى هو خليفة له في خراسان، ليواجه المحنة، التي لن يكون له القدرة على تحملها، والصمود في وجهها.. ويتخلص المأمون منه بذلك من أهون سبيل. المأمون يتحرك نحو بغداد بنفسه: لكن رفض الامام القاطع جعله يفكر في الامر بنحو آخر، فلقد تحرك هو بنفسه نحو بغداد، مصطحبا معه وزيره الفضل بن سهل وولي عهده الامام الرضا (ع)، الذي كان هو الشجا المعترض في حلق المأمون. ولقد كان من الممكن: أن يحتفظ بهما حتى يدخلوا بغداد، فتقوم قائمة بني العباس، ويثورون، ويعصفون، وتعم الفوضى، ويختل النظام.. وقد يتخلص المأمون حينئذ من الامام (ع) على يد من يرتفع به حقده، ويخرجه غضبه عن طوره. وإن لم يكن ذلك، وجبنوا على الاقدام عليه.. وبعد أن يكون الناس قد رأوا أن وجود الامام - وليس قتل الامين - هو المانع والعائق
[ 387 ]
من عودة المياه إلى مجاريها بين المأمون، وبين العباسيين بني أبيه، الذين أصبح يرى الناس: أن لهم - كغيرهم - الحق في الخلاقة.. فإن المأمون سوف يجد - من ثم - العذر والمبرر لخلعه من ولاية العهد، من أجل أن تستقر البلاد، وتذهب الاحقاد والاحن، وتعود الامور إلى حالتها الطبيعية بينه وبين بني أبيه، والمحبين والمتشيعين لهم.. ولتكون هذه - وبعد ملاحقتها بحملة دعائية واسعة - ضربة قاضية لسمعة الامام، وطعنة نجلاء في كرامته، سوف يسعد المأمون بها أيما سعادة.. لكن المأمون لم يكن يثق بالعباسيين: لقد كان من الممكن ذلك.. ولكن المأمون لم يكن يثق بالعباسيين، الذين في بغداد، أن يتفهموا حقيقة موقفه، ويدركوا ما ترمي إليه مخططاته.. فقد يثورون ضده هو، ويوصلون إليه ما يسوءه ويزعجه، كما حدث ذلك من قبل.. فهو مع أنه لم يبايع للرضا بولاية العهد، إلا من أجل أن يحقن دماءهم، ومع أنه كان يدبر الامر ليدوم لهم، ولعقبهم من بعدهم.. إلا أنهم لم يدركوا ذلك رغم أنه كتب إليهم به صراحة.. واستمروا على مناوأته ومحاربته. ولا كان واثقا من سكوت الامام (ع): كما أنه كان يخشى أن الامام، الذي رأى المأمون منه العجائب، والذي أصبح قريبا من العباسيين، وأشياعهم، وقريبا، من محبيه ومواليه أيضا - كان يخشى أن يتمكن - من قلب ما يدبره، ويخططه، وجعله وبالا عليه. وقد تقدم ان أباه موسى (ع) قد أفسد على الرشيد قلوب شيعته، رغم أنه كان في سجونه وتحت نظره ومراقبته الدقيقة.
[ 388 ]
كما أنه لم ينس بعد أبدا: أنه قد أفسد عليه جل، إن لم يكن كل مؤامراته، وتدبيراته.. بل لقد كان يجعلها كلها في صالحه هو، ودمارا، ووبالا على المأمون مدبرها، ومخططها الحقيقي. وقد يكون الاممام مستعدا لقبول اقتراح من المأمون بالتنحي عن ولاية العهد. ولكن ذلك ولا شك سوف يعيد الامور إلى سيرتها الاولى. بل سوف يزيد الامر تعقيدا، والوضع خطورة عما كان عليه قبل البيعة له (ع) بولاية العهد. ولن يسكت العلويون ولا الخراسانيون، بل حتى ولا العرب عن أمر كهذا. ولن يعيد الامور إلى سيرتها الاولى بيعة أو مناورة أخرى من أي نوع كانت، وعلى أي مستوى كانت. كيف يخرج المأمون من المأزق إذن ؟ ! وهكذا.. وبعد أن رأى المأمون نفسه قد فشل في تحقيق الجزء الاهم من خطته، ألا وهو أن يضع منه (ع) قليلا قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الامر.. بل لقد رأى نفسه يحصد غير ما يزرع، وأن النتائج التي كان يحصل عليها هي تماما عكس ما كان ينتظر ويؤمل، وذلك بسبب وعي الامام وحنكته، ويقظته.. ورأى أنه قد حارب الامام بجميع الاسلحة التي كان يمتلكها، من المكر والخديعة، والدهاء إلخ.. لكن أسلحة الامام كانت أمضى وأقوى من كل ما كان يمتلكه المأمون. ومن أين للمأمون علم الامام وزهده، وتقواه وفضله، وفضائله النفسية، وشخصيته الفذة، وسائر صفاته وخصاله الحميدة، صلوات الله وسلامه عليه ؟.. وإذا كان قد تأكد لديه أن محاولاته تلك لم تكن تثمر إلا أن يزداد الامام رفعة بين الناس، ومحلا في نفوسهم، وإلا اتساع قاعدته الشعبية
[ 389 ]
باطراد وأنه هو نفسه قد ساعد على اتساعها.. حتى لقد اضطر هو نفسه لان يستجير بالامام لينقذه من أولئك الذين شغبوا عليه بسبب قتله الفضل ابن سهل.. إلى آخر ما هنالك مما قدمناه.. إذا كان كذلك.. فإنه قد أصبح يرى نفسه مستحقا لذلك التأنيب القاسي الذي تلقاه من حميد بن مهران، وجمع من العباسيين، حيث قال له حميد: ".. ما أخوفني أن يخرج هذا الامر عن ولد العباس إلى ولده علي، بل ما أخوفني أن يتوصل بسحره إلى إزالة نعمتك، والتوثب على مملكتك. هل جنى أحد مثل جنايتك ؟ ! ".. وقد تقدم جواب المأمون لهم في أول هذا الفصل، فلا نعيد.. ويلاحظ هنا: أن قول حميد بن مهران: " ما أخوفني أن يخرج هذا الامر عن ولد العباس إلى ولد علي " قد كان بعد البيعة للرضا (ع) بولاية العهد، فكأنه كان على علم بخطة المأمون، وأهدافه من البيعة.. نعود فنقول: إنه كما أصبح يرى نفسه مستحقا لذلك التأنيب القاسي أصبح ايضا يرى أن من الضروري العثور على وسيلة تسهل عليه الخروج من ذلك المأزق الحرج الذي أوقع نفسه فيه. حتى لا ينتهي به الامر إلى تلك النهاية المرعبة، التي كان يخشاها كل الخشية، وتمتلئ نفسه فرقا ورعبا منها.. فما هي تلك الوسيلة ؟ !، وأين يجدها ؟ ! وهل يستطيع أن يحصل عليها ؟ ! وكيف ؟. ولقد وجد الوسيلة وهي سهلة جدا، ولكنها غير مأمونة العواقب، وهذه الوسيلة هي: تصفية الامام (ع) جسديا: والتدبير فيه - وبسرعة - بما يحسم عنه مواد بلائه.. وواضح:
[ 390 ]
أن قتل الامام (ع) جهارا سوف يثير مشاعر العلويين والشيعة. سواء من الخراسانيين، أو من غيرهم. بل هو يثير الامة بأسرها، ولسوف يعطيهم، وخصوصا العلويين الفرصة، بل والحق في القيام بوجه نظام الحكم من جديد. وبكلمة.. سوف يخسر المأمون حينئذ كل ما كان يرى نفسه أنه قد ربحه، هذا إن لم تكن النتيجة أسوأ من ذلك بكثير. وأسوأ مما يتصور. وإذن.. فلابد للقضاء على الامام من إعمال الحيلة، واحكام الخطة. ودراستها دراسة كافية ووافية. قضية حمام سرخس: وحاول أن يقضي على الامام (ع)، والفضل معا، مرة واحدة في حمام سرخس. ولكن يقظة الامام (ع)، ووعيه قد حال دون ذلك، حيث إنه رفض الذهاب إلى الحمام. وأصر المأمون بدوره على ذلك، واعاد عليه الرقعة مرتين !. لكن الامام قد بين له بيانا قاطعا: أنه لن يدخل الحمام بأي وجه من الوجوه.. كما أنه (ع) قد حاول أن يدفع المكيدة عن الفضل، فقال للمأمون: " ولا أرى للفضل أن يدخل الحمام غدا. " لكن المأمون يصر على أن يدخل الفضل الحمام، ويمتنع من تحذيره، حيث قال للامام: " وأما الفضل فهو أعلم وما يفعله.. " (1). مقتل الفضل بن سهل: ونجح المأمون في تنفيذ أحد جزئي مهمته، وفشل في تنفيذ الجزء (1) قد تقدم بعض مصادر هذا النص في فصل: شخصية الامام الرضا، عند ذكر التجاء المأمون إلى الرضا (ع) عندما شغب عليه الجند، بسبب مقتل الفضل. (*)
[ 391 ]
الآخر، والاهم منها، فقد نجا الامام (ع) بفضل وعيه ويقظته، ووقع الفضل في الشرك وحده وقتل بتدبير من المأمون، فرضي بذلك العباسيون، وقتل قتلته، فرضي الحسن بن سهل والخراسانيون. ومجمل قضية قتل الفضل هنا: " أن المأمون لما رأى إنكار الناس ببغداد لما فعله من نقل الخلافة إلى بني علي، وأنهم نسبوا ذلك إلى الفضل بن سهل، ورأى الفتنة قائمة ولا يستطيع أن يقتل الفضل جهارا لمكان أخيه الحسن بن سهل، وكثرة من معه من الرجال (1) فأعمل الفكرة في ذلك، ودس جماعة لقتل الفضل.. والذين قتلوا الفضل كانوا خمسة اشخاص من حشم المأمون، أحدهم: خاله غالب، فأخذوا وجئ بهم إليه، فقالوا: أنت أمرتنا بقتله !. فقال لهم: أنا أقتلكم باقراركم، وأما ما ادعيتموه: من أني أنا أمرتكم بذلك، فدعوى ليس لها بينه، ثم أمر بهم فضربت أعناقهم، وحمل رؤوسهم إلى الحسن أخي الفضل، وأظهر الحزن عليه.. " (2) ! كما أنه قد اقصى قوما من قواده سماهم الشامتة، واظهر عليه أشد الجزع كما نص عليه اليعقوبي، وواضح أن قتله لقتلة الفضل، ثم إرساله رؤوسهم إلى الحسن، ثم إظهاره للحزن عليه لخير دليل على دهائه وحنكته السياسية. بل ذكر المسعودي، ويظهر ذلك من غيره أيضا: أن المأمون قتل (1) راجع لطف التدبير ص 164 - 166. (2) راجع في ذلك: الآداب السلطانية ص 218، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 249، ولطف التدبير ص 164 - 166 ومآثر الانافة ج 1 ص 211، والكامل لابن الاثير ج 5 ص 191 و 192، والطبري ج 11 ص 1027، ووفيات الاعيان، طبع سنة 1310 ج 1 ص 414، ومرآة الجنان ج 2 ص 7، واثبات الوصية ص 207، وليراجع تجارب الامم ج 6 ص 443. (*)
[ 392 ]
الفضل بن سهل بيده، وأنه باشر قتله بنفسه (1)، ولعله اتهم هؤلاء من أجل أن يبعد التهمة عن نفسه لاسباب سياسية لا تكاد تخفى ومن أهمها أن لا يفسد عليه الحسن بن سهل ومن معه والخراسانيون. وتحسن الاشارة هنا إلى ما قدمناه من عرض المأمون على الفضل أن يزوجه ابنته - على الرغم من استهجان تزويج بنات الخلفاء من غير ذوي قرباهم. فرفض الفضل العرض، وشكر المأمون، وجهد المأمون الجهد كله في اقناعه، فلم يفلح !. وقال له: لو صلبتني ما فعلته (2) فإن عرضه هذا، وجهده في إقناعه ما كان إلا شركا منه للتجسس والايقاع بالفضل على يدها، كما فعل بالجواد والرضا (ع).. وعندما لم يفلح في اقناع الفضل، وفشلت مؤامرته، دبر قضية حمام سرخس، ونحج في تدبيره ذاك كما عرفنا.. وقبل أن نمضي في الحديث يحسن بنا أن نشير إلى ما ذكره الاصفهاني في أغانيه، فيما يتعلق بمقتل الفضل، حيث قال ما ملخصه: إن ابراهيم ابن العباس الشاعر كان من خواص الفضل بن سهل. وجعله كاتبا لعبد العزيز بن عمران، فلما دبر المأمون قتل الفضل، وندب إليه عبد العزيز ابن عمران. علم ابراهيم بذلك، فأخبر به الفضل، فأظهره للمأمون، وعاتبه عليه.. وبعد قتل المأمون للفضل ولقتلته سأل من أين سقط الخبر للفضل، فعرف أنه من جهة ابراهيم، فطلبه، فاستتر، وتحمل ابراهيم بالناس على المأمون. وجرد في أمره هشام الخطيب المعروف بالعباسي، (1) مروج الذهب ج 3 ص 417، ويظهر أيضا من: الفخري في الآداب السلطانية ص 218. (2) الوزراء والكتاب ص 307. (*)
[ 393 ]
وكان جريئا على المأمون، لانه رباه، فلم يجبه المأمون إلى ما سأل (1). إلى آخر ما قال. ظاهرة قتل الوزراء: وتحسن الاشارة هنا: إلى أن قتل الوزراء كان ظاهرة شائعة في حياة الخلفاء العباسيين، حتى إن أحمد بن أبي خالد الاحول امتنع بعد مقتل الفضل عن قبول اسم " وزير " مع قبوله بالقيام بكل أعمال الوزير ووظائفه. وهنا لطائف وظرائف تتعلق بهذا المطلب، ليس هنا محل ذكرها.. ولنعد الآن للحديث عن موقف المأمون فنقول: لابد من العودة إلى سنة معاوية: إنه رغم فشل المأمون في قضية حمام سرخس، لم ييأس، ولم يهن في الوصول إلى ما كان يطمح إلى الوصول إليه، فاستمر يعمل الحيلة ويدبر المكيدة للامام (ع). وكان عليه: أن لا يعرض نفسه للخطأ الذي وقع فيه في قضية الفضل، حيث أعلن القتلة في وجهه بأنه هو الذي أمرهم بقتله، مما كان سببا في ثورة الجند عليه، تعرض لخطر عظيم جدا، لو لم يلتجئ إلى الامام، الذي أنقذ موقفه، وفرق الناس عنه، كما تقدم.. ولم ير وسيلة أسهل وأسلم من تلك التي سنها سلفه معاوية، الذي (1) الاغاني ط الساسي ج 9 ص 31. (*)
[ 394 ]
قدمنا في فصل: آمال المأمون وآلامه: أن المأمون قد ارتضى سيرته، ورد سيرة أبي بكر وعمر وعلي وهذه الوسيلة هي: " السم ". ودس إليه السم في العنب، أو في ماء الرمان، ومضى الامام (ع) شهيدا، صابرا محتسبا.. وهذه هي نفس الطريقة التي تخلص بواسطتها، من قبل: محمد بن محمد، صاحب أبي السرايا، ولا نستبعد أنه قد دبر مثل ذلك في محمد بن جعفر، الذي مات هو الآخر - كالرضا (ع) والفضل بن سهل - في طريق بغداد (1). وهكذا. مات اللذان تكرههما بغداد، في نفس طريق بغداد.. ولم يعد هناك ما يعكر صفو العلاقات بينه، وبين بني أبيه العباسيين وأشياعهم، وأصبح باستطاعته أن يكتب إليهم: ".. إن الاشياء التي كانوا ينقمونها عليه قد زالت، وأنهم ما نقموا عليه إلا بيعته لعلي بن موسى الرضا (ع) وقد مات، فارجعوا إلى السمع والطاعة، وانه يجعل ولاية العهد في ولد العباس.. " (2). فرجعوا إليه، وانقادوا له، ولكن بعد التخلص ممن كان يكره (1) ولعل ابن قتيبة يشير إلى هذا في معارفه طبع سنة 1300 ص 133 حيث يقول: " وظفر بمحمد بن جعفر، فحمله إلى المأمون مع عدة من أهل بيته، فلم يرجع منهم أحد.. " ! !. ولكننا نراه مع ذلك، عندما يؤتى بجنازة محمد بن جعفر قد نزل بين العمودين، وحمله ! وقال: هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة، وصلى عليه وقضى دينه ! !.. بل إننا لا نستبعد أن يكون هو المدبر لشائعة عقليه السوداء على الحسن بن سهل أخي الفضل. وهكذا.. فيكون قد قضى على كل أولئك الذين تكرههم بغداد وتخشاهم، وتخلص منهم واحدا بعد الآخر. (2) راجع في ذلك: الطبري ج 11 ص 1030، والبداية والنهاية ج 1 ص 249، وتاريخ الخلفاء ص 307، وابن الاثير ج 5 ص 193، والفخري الآداب السلطانية ص 218، وتاريخ أبي الفداء ج 2 ص 24، وتاريخ ابن خلدون ج 3 ص 250، والنجوم الزاهرة ج 2 ص 173، وغير ذلك، وتجارب الامم ج 6 ص 444. (*)
[ 395 ]
ويكرهون، ويخاف ويخافون.. رجع إلى بغداد، فأطاعته، وانقادت له، لانه قضى على من كانت تخافهم، وتخشاهم، وحقق لها ما كانت ترجوه، وتصبو إليه، وغفرت له قتله أخاه، ونسيته حتى كأنه أمر لم يكن !.. بل لقد أصبحت ترى أنه أفضل من أخيه الامين، لانه استطاع أن يثبت أقدام بني أبيه في الحكم والسلطان إلى ما شاء الله.. رجع إلى بغداد، إلى بني أبيه، لان رجوعه إليهم كان ضروريا، من أجل أن يرجع إليهم اعتبارهم من جهة.. ولانهم هم الدرع الواقي له، والحصن الحصين من جهة أخرى.. هذا بالاضافة إلى أن خلافة لا تكون بغداد مقرا لها ليست في الحقيقة بخلافة. إلى غير ذلك من أمور واعتبارات. نبوءة الامام (ع) قد تحققت: هذا.. وكما تنبأ الامام (ع) من قبل بأن أمر البيعة لا يتم، وتنبأ أيضا بأنه يموت ويدفن بخراسان.. لم يكن ليصعب عليه أن يتنبأ بأن المأمون سوف يقدم في النهاية على ما أقدم عليه: من الاعتداء على حياته (ع) سيما وأنه كان على علم أكثر من أي إنسان آخر بحقيقة نوايا المأمون وأهدافه.. وبالفعل نرى الامام (ع) يصرح بذلك في أكثر من مورد، وأكثر من مناسبة، حتى للمأمون نفسه، كما تقدم.. ومن جهة أخرى، فرغم محاولات المأمون للتستر على جريمته النكراء تلك خوفا من ثورة الرأي العام ضده.. فإنه لم يستطع إخفاء الحقيقة، وطمس الواقع بل شاع الامر، وافتضح المأمون.. بل سيمر معنا أنه هو نفسه قد فضح نفسه..
[ 396 ]
الحقد الدفين: وأخيرا.. فإن ما أقدم عليه المأمون من الغدر بالامام (ع) ودس السم له لخير دليل على فشل المأمون في سياسته، الفضل المزري والمهين.. حتى إنه عندما عجز عن أن ينال من الامام (ع) حيا أراد أن ينال منه ميتا، بدافع من حقده الدفين، الذي لم يعد يستطيع أن يتحمل مضاعفاته، فكتب إلى السرى عامله على مصر، يخبره بوفاة الرضا، ويأمره بغسل المنابر، التي دعي له عليها، فغسلت.. كما تقدم.. وهذا إن دل على شئ، فإنما يدل على أن الحقد كان قد أكل قلبه، وأعمت البغضاء بصره وبصيرته.. كما أنه يدل على خسة في النفس، وإسفاف في التفكير، وشعور بالعجز، وبالنقص أيضا..
[ 397 ]
كاد المريب أن يقول: خذوني. ومع غض النظر عن كل ما تقدم: لسوف نغض النظر هنا عن تصريحات المأمون الدالة على أنه سوف يدبر في الامام بما يحسم عنه مواد بلائه، وعن تأكيدات الامام وتصريحاته بأنه سوف يموت شهيدا بسم المأمون، حتى لقد واجه نفس المأمون بذلك، لكنه تجاهل الامر، وغير الحديث (1). ولسوف نغض النظر أيضا عن اعتراف المأمون نفسه بأن الامام (ع) لم يمت حتف أنفه، وإنما مات مقتولا بالسم، وأن قتلته هما عبيدالله، والحمزة، ابنا الحسن (2) واللذان لم يكن بينهما وبين الامام (ع) ما يوجب ذلك.. بل إن كان لهما دور ما، فإنما هو باشارة من يهمه مثل هذا الامر.. بل لقد ورد أن المأمون رمى بنفسه على الارض، وجعل يخور كما يخور الثور، ويقول: " ويلك يا مأمون، ما حالك، وعلى ما (1) راجع: عيون أخبار الرضا ج 2 ص 140، والبحار ج 49 ص 149، وعلل الشرايع ج 1 ص 237، وأمالي الصدوق ص 42، 43، وغير ذلك. (2) راجع: غيبة الشيخ الطوسي ص 49، والبحار ج 49. ص 306. (*)
[ 398 ]
أقدمت، لعن الله فلانا وفلانا، فإنهما أشارا علي بما فعلت.. " (1). لسوف نغض النظر عن كل ما تقدم، وحتى عن رسالته للسري، عامله على مصر، والتي أشرنا إليها غير مرة.. والذي نريده هنا: ولا نريد هنا إلا أن نضع بعض علامات استفهام على بعض تصرفات المأمون، وأقواله حين وفاة الامام (ع)، حيث رأيناه: قد ارتبك في أمر وفاة الرضا (ع) أشد ما يكون الارتباك.. الاسئلة التي لن تجد جوابا: فأول ما يطالعنا من الاسئلة هو أنه: لماذا يستر موت الرضا (ع) يوما وليلة ؟ ! (2). ولماذا يقول للامام، وهو بعد لم يمت: ".. ما أدري أي المصيبتين علي أعظم، فقدي إياك، أو تهمة الناس لي: أني اغتلتك وقتلتك " (3) ؟ !. (1) إثبات الوصية للمسعودي ص 209. (2) مقاتل الطالبيين ص 567، وكشف الغمة ج 3 ص 72، وروضة الواعظين ج 1 ص 277، والبحار ج 49 ص 309، وإرشاد المفيد ص 316. (3) مقاتل الطالبيين ص 572، وارشاد المفيد ص 316، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 241، والبحار ج 49 ص 299. وعبارة مقاتل الطالبيين: " وأغلظ من ذلك علي، وأشد: أن الناس يقولون: إني سقيتك سما ". (*)
[ 399 ]
ولماذا يظهر التمارض بعد أن أكل مع الامام (ع) العنب (1).. ؟ ! وكيف مات الامام (ع) في مرضه من العنب، ولم يمت المأمون منه أيضا ؟ !. ولماذا يحضر محمد بن جعفر، وجماعة من آل أبي طالب، ويشهدهم على أن الرضا مات حتف أنفه، لا مسموما (2) ؟ !. ولماذا يبقى على قبره ثلاثة أيام ! ! يؤتى ! كل يوم برغيف واحد وملح ليأكله !. الامر الذي لم يفعله حتى عندما مات أبوه الذي ولد منه، وأخوه الذي قتله، وفعل برأسه ما فعل ؟ !. وهل يمكن أن نصدقه حينما نسمعه يقول: " وقد كنت أؤمل أن أموت قبلك " (3) !. هذا مع علمه بأن الامام (ع) كان يكبره ب‍ (22) سنة ؟ ! أم أن وقع المصيبة جعله يتكلم بما لا معنى له، ولا واقع وراءه ؟ !. ولماذا أيضا: يجبره على أكل العنب بعد امتناع الامام (ع) من أكله، ثم يقول له: " لابد من ذلك، وما يمنعك منه، لعلك تتهمنا بشئ ؟ ! " وبعد أن أكل منه الامام (ع) قام، فقال له المأمون: إلى أين ؟ قال (ع): إلى حيث وجهتني.. " (4) ؟ ! ولماذا ؟ ولماذا ؟ إلى آخر ما هنالك مما يضيق عنه المقام.. (1) إعلام الورى ص 325، وارشاد المفيد ص 316، ومقاتل الطالبيين ص 566، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص 258، وغير ذلك.. (2) روضة الواعظين ج 1 ص 277، ومقاتل الطالبيين ص 567، وارشاد المفيد ص 316، وكشف الغمة ج 3 ص 72 و 123. والبحار ج 49 ص 309، وإعلام الورى ص 329. (3) نفس المصادر السابقة باستثناء كشف الغمة. (4) أمالي الصدوق ص 393، وروضة الواعظين ج 1 ص 274، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 243، وإعلام الورى ص 226، والبحار ج 49 ص 301، وغير ذلك. (*)
[ 400 ]
كاد المريب أن يقول: خذوني: وبعد.. فهذه بعض الاسئلة، التي تدور حول تصرفات المأمون عند استشهاد الامام (ع).. تحتاج إلى جواب.. وأنى لها من المأمون الجواب الصحيح، والصريح. ولكن مواقفه وتصرفاته هذه، هي الجواب الكافي والشافي، فلقد قيل، وما أصدق ما قيل: " كاد المريب ان يقول: خذوني.. كما أن المؤرخين بدورهم قد أجابوا عنها بكل صراحة أحيانا، وباللف والدوران - لاسباب مختلفة - أحيانا أخرى.. فإلى الفصل التالي، لنقف على بعض أقوال ومواقف المؤرخين، بالنسبة لسبب وفاة الامام (ع)..
[ 401 ]
ما يقال حول وفاة الامام (ع) ماذا ترى بعض الفرق في الحكام: قبل كل شئ نود أن نشير إلى أمر مهم، كنا قد أشرنا إليه من قبل، وله - إلى حد ما - صلة فيما نحن بصدده.. وهو: أن بعض فرق المسلمين ترى: أن الحكام تجب طاعتهم، ولا تجوز مخالفتهم، والقيام ضدهم، والوقوف في وجههم بحال من الاحوال.. مهما كانت هويتهم، وأيا كان سلوكهم، حتى ولو أنهم ارتكبوا أعظم المحرمات، وانتهكوا جميع الحرمات.. أي.. أنهم حتى لو قتلوا الابرياء - ولو كانوا أبناء محمد -، وهدموا الكعبة.. مع ذلك كله - تجب طاعتهم، ولا تجوز مخالفتهم، ولا الوقوف في وجههم.. هكذا.. تعتقد الفرق الاسلامية - كما قلنا -.. ومن المؤسف جدا أن من هؤلاء الفرق: أهل الحديث، وعامة أهل السنة، قبل الامام الاشعري، وبعده. وهو أيضا قائل بهذه المقالة ومعتقد بهذه العقيدة.. ولقد أيدوا هذه العقيدة بمختلف أنواع التأييد، حتى لقد وضعوا في
[ 402 ]
تأييدها الروايات على لسان النبي صلى الله عليه وآله، مع عدم تنبههم إلى أن ذلك ينافي صريح القرآن، ويصادم حكم العقل والوجدان.. انعكاسات هذه العقيدة على التراث: وطبيعي أن ينعكس ذلك إلى حد كبير على كتابهم ومؤرخيهم (1)، وحتى على علمائهم، وفقهائهم أيضا، حيث كان لابد لهم من التستر على كل هفوات أولئك الحكام. وكل مخازيهم وموبقاتهم، مما كان من نتيجته - بطبيعة الحال - إخفاء كثير من الخقائق، وطمسها، حتى إذا لم يتمكنوا من ذلك، تراهم يحاولون اللف والدوران، وتوجيهها بما لا يسمن ولا يغني من جوع.. هذا إن لم تخولهم غيرتهم، وتدفعهم حميتهم إلى تشويهها، والتغيير والتبديل فيها، بحيث تبدو مستهجنة، وغريبة. ولتسقط من ثم عن الاعتبار.. وقد يختلقون في كثير من الاحيان في مقابلها، ما ينسجم مع نظرتهم الضيقة، وتعصبهم المقيت، أو يوافق هوى نفوسهم، ويرضي حكامهم، الذين كانوا يرون أنهم يقربونهم من الله زلفى. إخفاء كل الحقائق عن الائمة عليهم السلام: ولقد أراد الحكام - لسبب أو لآخر - إخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالائمة الاطهار عليهم السلام، أو تشويهها، فكان لهم ما أرادوا، ووجدوا من العلماء، والكتاب، والمؤرخين، من لا يألوا جهدا، ولا يدخر وسعا من أجل تنفيذ إرادتهم تلك، التي يرون: أنها إرادة الله (1) راجع تمهيد الكتاب.. (*)
[ 403 ]
- حسب عقيدة الجبر التي ابتدعوها -.. حتى إنك قد لا تجد في كثير من الكتب التاريخية، حتى اسم الائمة الاطهار عليهم السلام. فضلا عن شرح أحوالهم، وبيان نشاطاتهم.. وليس ذلك لانهم عليهم السلام كانوا غير مشهورين، ولا معروفين.. أو لانهم ممن لا يعتنى بشأنهم، ولا يلتفت إليهم.. لا.. أبدا. فقد كان ذكرهم يسري في جميع الآفاق في الدولة الاسلامية المترامية الاطراف: إما حبا وتشيعا، واما عداء ونصبا.. وقذ ذكر الجاحظ في رسالته: " فضل هاشم على عبد شمس " - وهو الكاتب المعروف في عصره، وبعد عصره.. وحتى الآن، والذي تعرض في كتبه لمختلف الموضوعات التي شاع التكلم بها في زمانه، ومنها موضوع رسالته المشار إليها. والذي كان يظهر الحياد في كتاباته، وإن كان المعتزلة - أهل نحلته - مثل الاسكافي وغيره يتهمونه بالنصب والعداء لاهل البيت عليهم السلام. ومما يدل على نصبه وتعصبه: أنه قد ألف كتابا في نقض فضائل الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) (1) - الجاحظ هذا - يقول في رسالته المشار إليها: ".. ومن الذين يعد من قريش، أو من غيرهم، ما بعد الطالبيون في نسق واحد، كل واحد منهم: عالم، زاهد، ناسك، شجاع، جواد، طاهر، زاك، فمنهم خلفاء، ومنهم مرشحون: ابن، ابن، ابن، ابن. هكذا إلى عشرة.. وهم: الحسن بن علي، بن محمد، ابن علي، بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، ابن علي. وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب، ولا من العجم إلخ.. " (2). (1) مروج الذهب ج 3 ص 237، (2) آثار الجاحظ ص 235. (*)
[ 404 ]
هذا.. ويجب أن لا يفوتنا هنا: التنبيه على أن الجاحظ كان في البصرة، والامام العسكري (ع) كان في سامراء، موضوعا تحت الرقابة الشديدة. وتوفي الجاحظ قبل وفاة العسكري بخمس سنين. وقد كان عمره (ع) عندما ألف الجاحظ رسالته في حدود اثنتين وعشرين سنة، لو فرض ان الجاحظ كان قد ألفها في آخر يوم من أيام حياته.. ولم يكن الامام العسكري أنبه. ولا أشهر من آبائه الطاهرين (ع)، سيما الامام علي، والحسن، والصادق، والرضا عليهم السلام. بل كان الائمة (ع)، بعد الرضا (ع) - مع نباهة شأنهم، وعلو أمرهم - يسمون: ب‍ " ابن الرضا "، وذلك يدل على أنه (ع) كان أنبه من أبنائه الطاهرين، فكان يقال ذلك - يعني: ابن الرضا - للجواد، والهادي بعده، بل وللعسكري أيضا (1)، ويؤيد ذلك قول أبي الغوث، اسلم بن مهوز المنبجي في داليته المعروفة، التي يمدح فيها أئمة سامراء عليهم السلام: إذا ما بلغت الصادقين بني الرضا * فحسبك من هاد يشير إلى هاد (2) نعم.. إن هؤلاء الائمة، الذين كان يسري ذكرهم في الآفاق، قد لا تجد حتى أسماءهم في كثير من الكتب التاريخية.. مع أنك تجد ما شاء الله. من قصص المغنين، والجواري، والاعراب، بل وحتى قطاع الطرق، مما لا يسمن، ولا يغني من جوع. (1) راجع: قاموس الرجال ج 10 ص 248. والرسالة التي في آخر ج 11 من قاموس الرجال ص 58. (2) سفينة البحار ج 2 ص 529، والكنى والالقاب ج 1 ص 133. (*)
[ 405 ]
كل ذلك خيانة للحقيقة، وتخليا عن الامانة. التي أخذوا على أنفسهم أداءها للاجيال التي تأتي بعدهم، حيث كان عليهم: أن يصدعوا بالحق، ويظهروا الواقع، مهما كانت الظروف، وأيا كانت الاحوال.. وإلا.. فيجب أن لا يتصدوا للكتابة، ويبوؤا باثم الخيانة.. هذا.. ولم يكن المجال مفسوحا أمام شيعة أهل البيت (ع)، ليتمكنوا من إظهار الحقائق كاملة، وذلك بسبب ملاحقة الحكام لهم. ومحاولات القضاء علهيم أينما كانوا، وحيثما وجدوا، وبأي ثمن كان.. ومن قبلهم القضاء على أئمتهم أئمة الهدى، وقادتهم، القادة إلى الحق. ويبقى هنا سؤال: لماذا إذن كان يهتم الخلفاء بالعلماء، ويرسلون إليهم يستدعونهم من مختلف الاقطار والامصار ؟ !.. وكيف لا يتنافى ذلك مع اضطهادهم الائمة، أئمة أهل البيت، وشيعتهم ومواليهم ؟ !، ومحاولاتهم تصغير شأنهم، وطمس ذكرهم ؟ !. سر اهتمام الخلفاء بأهل العلم: وللاجابة على هذا السؤال نقول: إن سر اضطهادهم لاهل البيت (ع) يعود: أولا: إلى أن الحق في الحكم كان لاهل البيت، من كل جهة، فالقضاء معناه القضاء على ذلك الحق، وتكريس الامور لهم. وفي صالحهم.. وثانيا: إلى أن الائمة عليهم السلام ما كانوا يؤيدون أولئك الحكام، ولا يرضون عن أعمالهم، وسلوكهم الذي كان يتنافي مع مبادئ الاسلام وتعاليمه.. (*)
[ 406 ]
وثالثا: إلى أن الائمة عليهم السلام بسلوكهم المثالي، وبشخصياتهم الفذة كانوا يشكلون أكبر مصدر للخطر عليهم، وعلى حكمهم ذاك غير الاصيل.. إلى غير ذلك من أمور يمكن استخلاصها من الفصول الاولى من الكتاب.. وأما السبب في تشجيعهم - في تلك الحقبة من الزمن للعلم والعلماء فإنه يعود إلى أهداف سياسية معينة. وفي الحدود التي كانت لا تشكل عليهم خطرا في الحكم، لان الحكم كان في نظرهم هو كل شئ، وليس قبله ولا بعده شئ، وكل ما في الوجود يجب أن يكون من أجله، وفي خدمته، حتى العلماء والمفكرون. ولم يكن جمعهم للعلماء من حولهم. والاتيان بهم من كل حدب وصوب، إلا: 1 - ليكون أولئك العلماء، الذين يمثلون الطليعة الواعية في الامة تحت نظرهم، وسيطرتهم. 2 - ليتمكنوا بواسطتهم من تنفيذ الكثير من مخططاتهم، والوصول إلى كثير من مأربهم، كما تشهد به الاحداث التاريخية الكثيرة.. 3 - ليظهروا للناس بمظهر المحبين للعلم والعلماء، ليقوى مركزهم في نفوسهم، وتتأكد ثقتهم بهم، إذ كان لابد لهم، بعد أن تركوا أهل البيت عليهم السلام. من الاستعاضة عنهم بغيرهم، ودفع شكوك وشبهات الناس عن أنفسهم.. 4 - محاولة التشويش بذلك على أهل البيت عليهم السلام، وطمس ذكرهم، واخفاء أمرهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.. ولكن. يأبى الله إلا أن يتم نوره.
[ 407 ]
ويتفرع على ما سبق: وإذا تحقق لدينا أنهم إنما كانوا يقدرون العلم والعلماء لاهداف سياسة معينة كما أوضحنا.. فلسوف لا نستغرب إذا رأينا: أنهم كانوا إذا شعروا بالخطر يتهددهم من قبل أية شخصية، ولو كانت علمية، لا يترددون في القضاء عليها، والتخلص منها، بأي وسيلة كانت. قال أحمد أمين: إن المنصور كان " يقرب المعتزلة إذا شاء، ويقرب المحدثين والفقهاء، ما لم تقض تعاليم أحدهم بشئ يمس سلطانه، فهناك التنكيل.. " (1). وقال السيد أمير علي: ".. كان خلفاء بني العباس يسحقون كل اختلاف معهم في الرأي بصرامة. وحتى الفقهاء المعاصرون كانوا عرضة للعقاب، إذا تجرءوا على الافصاح عن رأي لا يتفق ومصلحة الحاكمين. " (2). ولقد رأينا المنصور يدس السم لابي حنيفة، ويضيق على الامام الصادق - الذي لم يبايع لمحمد بن عبد الله العلوي -، وضيق على من تلاه من ذريته، ولاحق تلامذته ومحبيه. لكنه لم يقتل عمرو بن عبيد، ولا أهانه بل مدحه بقوله: كلكم يطلب صيد * غير عمرو بن عبيد. رغم أن عمرا هذا قد بايع لمحمد بن عبد الله العلوي، ورغم أن مذهبه يفرض عليه الخروج على النظام، لان من أصول المعتزلة الخمسة، (1) ضحى الاسلام ج 3 ص 202، ولا بأس أيضا بمراجعة ج 2 ص 46 و 47. (2) روح الاسلام ص 302. (*)
[ 408 ]
التي يكون الانسان بها معتزليا هو: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعملا بهذا الاصل كان عمرو هذا قد خرج مع يزيد الناقص سنة 126 ه‍. على الوليد بن يزيد - لم يفعل المنصور مع ابن عبيد إلا كل ما يقتضي الاجلال والتكريم بخلاف ما فعله مع أولئك - لان عمرا - بخلافهم - قد تخلى عن مذهبه، ومالا النظام. وكان المنصور، ومن تبعه من الخلفاء يستفيدون منه، ومن أضرابه، ولم يروا بأسا في مبايعته لمحمد لكنهم لما لم يكونوا يستفيدون من أولئك الذين نكلوا بهم، وفعلوا بهم الافاعيل رغم امتناعهم عن مبايعة محمد.. وإلا فما قيمة عمرو هذا عند واحد من تلامذة الصادق، كزرارة، وهشام، ومحمد بن مسلم، وأضرابهم (1). عودة على بدء: قلنا: إن الحكام كانوا يريدون - لسبب أو لآخر - اخفاء كل الحقائق التي ترتبط بالائمة عليهم السلام، أو تشويهها، فكان لهم ما أرادوا على أيدي حفنة ممن يطلق عليهم اسم: " علماء "، فتلاعبوا، ودسوا، وشوهوا ما شاءت لهم قرائحهم، وأوحاه لهم تعصبهم المذهبي المقيت.. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن ابن الاثير، والطبري، (1) يرى البعض: أن الخلفاء كانوا يحاولون القاء أسباب النزاع بين العلماء، بهدف صرفهم عن واقع الامة، وعما يجري ويحدث في مخادع الخلفاء، وداخل قصورهم. ولعل ذلك هو السر في عنايتهم بالترجمة، وإدخال الثقافات الغربية إلى البلاد الاسلامية.. ولذا رأينا الكثيرين من المؤرخين غير راضين عن أعمال الترجمة تلك كالمقريزي في النزاع والتخاصم ص 55، وغيره.. ولكل ما ذكرنا شواهد تاريخية كثيرة، ليس هنا محل ذكرها، ولعلنا نوفق ذلك في مجال آخر.. (*)
[ 409 ]
وأبو الفداء، وابن العبري، واليافعي وابن خلكان.. كانوا من أولئك الذين ظلموا الحقيقة والتاريخ، بل وأنفسهم، عندما أرخوا للامة الاسلامية، وكتبوا في أحوالها، وأوضاعها السالفة، دون أن يراعوا الانصاف والحيدة فيما أرخوا، وفيما كتبوا.. ولعل من جملة سقطات هؤلاء الشنيعة، التي لم يخف على أحد تعصبهم فيها، وانقيادهم للحكام، والهوى الاعمى في بيانها، قضية: " كيفية وفاة الامام الرضا (ع).. "، حيث ذكروا: أن سبب وفاته (ع) هو أنه: " أكل عنبا، فأكثر منه، فمات.. " (1). وكأن ابن خلدون، الاموي النزعة، يريد أن يتابعهم في ذلك، حيث قال في تاريخه: " ولما نزل المأمون مدينة طوس، مات علي الرضا فجأة، آخر صفر من سنة ثلاث ومائتين، من عنب أكله. " (2). ولعله نسي ما ذكره هو نفسه من ثورة ابراهيم بن موسى على المأمون لاتهامه اياه بقتل أخيه. كما سيأتي. ما عشت أراك الدهر عجبا: وهو كلام عجيب حقا: فهل يعقل ويتصور أن يصدر هذا العمل من أي إنسان عادي، فضلا عن الامام، الذي شهد بعلمه، وحكمته، وزهده، كل من عرفه، وكل من أتى من المؤرخين على ذكره ؟ !. (1) الكامل ج 5 ص 150، والطبري ج 11 ص 1030، وتاريخ أبو الفداء ج 2 ص 23، ومختصر تاريخ الدول ص 134، ومرآة الجنان ج 2 ص 12، ووفيات الاعيان طبع سنة 1310 ه‍ ج 1 ص 321. لكن بعضهم قد حكى سمه بلفظ: قيل.. (2) تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 250. (*)
[ 410 ]
أفهل يمكن أن يسمح أحد لنفسه أن يصدق بأن شخصا عاقلا، وحكيما، كالامام (ع)، يسمح لنفسه بالاقدام على الانتحار من كثرة الاكل ؟ !. وهل عرف عن الامام في سابق عهده: أنه كان اكولا، أو نهما إلى هذا الحد ؟ !، أي إلى حد أنه ينتهي به ذلك إلى قتل نفسه ؟ !. أم أن الزهد والتقوى والعلم، فضلا عن العقل والحكمة. تقضي وتحتم عليه أن يأكل هذا المقدار الهائل، الذي من شأنه أن يودي بحياته ؟ !. أم أن الامام (ع) قد نسي ما كتبه في رسالته الذهبية، التي كتبها للمأمون، والتي هي من أشهر وأجل الوثائق المأثورة عنه ؟ !. أم أنه (ع) لم يكن قد رأى العنب في حياته، فأراد أن يغتنم هذه الفرصة الذهبية، لينال أكبر قدر تصل إليه يده ؟ !. لا.. لا هذا، ولا ذاك. ولا ذلك. وإنما العصبية المذهبية، والهوى الاعمى.. هما اللذان فرضا على الامام (ع) أن يأكل العنب، ويكثر منه، ويموت هذه الميتة.. حتى ولو لم يقبل بها العقل، ويصدق بها الوجدان.. إن الامام (ع) لو كان هو الحاكم، والمتسلط لم يمت هذه الميتة، بل كان مات على حسب ما اشتهى، وبالكيفية التي أراد.. دعك من هؤلاء وأمثالهم، فإنني لا أرى: أن كلاما كهذا يستحق من العناية أكثر من ذلك.. بل لا رأى أنه يستحق شيئا من العناية على الاطلاق.. دعك منه.. وذره لاهله في سنبله !. وتعال معي لننظر إلى ما يقوله الآخرون، ممن أرخو للامة، وتحدثوا عن ماضيها، فقد نجد في كلامهم ما ينقع الغلة، ويشفي الغليل..
[ 411 ]
قول فريق آخر من المؤرخين: وإننا بعد القاء نظرة سريعة وعابرة على أقوال المؤرخين في هذا المجال، نستطيع أن نلاحظ: إلى أي حد اضطربت كلماتهم في هذه القضية، وتباينت اتجاهاتهم. فعدا عن أولئك القلة الذين تحدثنا عنهم آنفا نرى: فريقا ثانيا قد أوردوا خبر وفاته مجردا عن بيان السبب، ثم سكتوا، أو عقبوا ذلك بقولهم: " وقيل: إنه مات مسموما " ومن هؤلاء اليعقوبي في تاريخه ج 3 ص 80، وإن كان يظهر من عبارته اختيار مسموميته، وابن العماد في شذرات الذهب، وغيرهم. ولعل هؤلاء ممن جازت عليهم لعبة المأمون، وانطلت عليهم حيلته، وأقنعتهم الحجج الواهية الآتية التي يسوقها الفريق القائل ببراءة المأمون من دم الرضا (ع).. أو لعلهم لم يكونوا بصدد بحث هذا الامر وتمحيصه.. أو لانهم لم يستطيعوا أن يصدعوا بالحقيقة، لما كانوا يخشونه من سطوة الحكام، وبطشهم، ولم يريدوا أن يحرفوا الكلم عن مواضعه، فآثروا السكوت، واهمال ذلك، على أمل أن يقيض الله من يصدع بالحق ويكشف عن الواقع.. إلى غير ذلك من الاحتمالات، التي قد يجد بعضها شواهد تاريخية كثيرة. رأي فريق ثالث في ذلك: وهناك فريق آخر يرى أنه (ع) مات مسموما، وأن الذي دس إليه السم هم العباسيون. وهذا هو رأي السيد أمير علي، وأشار إليه
[ 412 ]
أحمد أمين (1) أيضا.. وهذا الرأي ليس له أي شاهد أو سند تاريخي إلا ما نقل عن الاربلي انه قال: " فلما رأوا أن الخلافة قد خرجت إلى أولاد علي، سقوا علي بن موسى سما، فتوفي بطوس في رمضان " (2). وهو عدا عن أنه كلام مبهم، فإن، الشواهد كلها على خلافه.. كما قدمنا وسيأتي. ولذا فهو لا يحتاج إلى كبير عناء في رده وتفنيده. ورأي آخر يقول: إنه (ع) مات مسموما من قبل المأمون، ولكن بإشارة الفضل، واغرائه. ونرى نحن بدورنا: أن المأمون لم يكن بحاجة إلى حث واغراء، بعد أن كان يرى أن وجود الامام (ع) يشكل خطرا محققا عليه، وعلى كل بني أبيه من بعده. ونحن - وإن كنا لا نستبعد أن يكون هذا الرأي قد جاء بدافع من حب تبرئة المأمون - السلطة - إلا أننا لا نضايق في أن الفضل، الذي قتل قبل الامام (ع) بمدة ! ! كان من الراغبين في التخلص من الامام، سيما إذا لاحظنا: أنه كان يشكل عقبة كبرى في طريق نفوذه وقوته وسلطانه.. ولكننا لا نوافق على أن المأمون كان لا يريد ذلك، وإنما فعله استجابة لرغبة الفضل، الذي كان قد قتل قبل ذلك بزمان ! !. (1) روح الاسلام للسيد أمير علي ص 311، 312. وأما أحمد أمين فقد أشار إليه في عبارته الآتية عما قريب بقوله: " فان كان حقا قد سم، يكون سمه أحد غير المأمون، من دعاة البيت العباسي ". (2) الامام الرضا ولي عهد المأمون ص 102، عن خلاصة الذهب المسبوك ص 142. (*)
[ 413 ]
وقد تحدثنا في فصل: أسباب البيعة لدى الآخرين، وغيره من الفصول، وسيأتي الحديث بما فيه الكفاية انشاء الله، تعالى.. ورأي فريق خامس يقول: إنه (ع) قد مات حتف أنفه، ولا يقبل أبدا بأنه (ع) مات مسموما، ويورد لذلك الحجج والبراهين التي رأى أنها كافية للدلالة على أنه (ع) لم يمت مسموما. ونذكر من هؤلاء ابن الجوزي، حيث قال - بعد أن أورد خبر وفاته، وحكى القيل بأنه دخل الحمام ثم خرج، فقدم له طبق فيه عنب قد أدخلت فيه الابر المسمومة، من غير أن يظهر أثرها، فأكله، فمات - قال بعد ذلك: " وزعم قوم: أن المأمون سمه، وليس بصحيح. فإنه لما مات علي توجع له المأمون، وأظهر الحزن عليه، وبقي أياما لا يأكل طعاما، ولا يشرب شرابا (1)، وهجر اللذات إلخ.. " (2). لكن عبارة ابن الجوزي هذه تقتضي أنه ينكر أن يكون المأمون هو الذي سمه، ولا ينكر أن يكون (ع) قد مات بسم غير المأمون. وقد تابعه الاربلي في كشف الغمة على ذلك، محتجا بعين ما احتج به، وأضاف إلى ذلك: أن سمه إياه يتنافى مع اكرامه له، وأنه كان ينبه على علم الرضا، وشرف نفسه وبيته إلخ.. (1) في تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 81: أن المأمون بقي ثلاثة أيام مقيما عند قبر الرضا (ع)، يؤتى كل يوم برغيف وملح، فيأكله. ثم انصرف في اليوم الرابع. (2) تذكرة الخواص ص 355. (*)
[ 414 ]
وأما أحمد أمين فيقول: إن ذلك بعيد، لان المؤرخين " يروون حزن المأمون الشديد عليه، كما يرون أن المأمون بعد موته. وبعد انتقاله إلى بغداد ظل يلبس الخضرة.. إلى أن قال: فإن كان حقا قد سم، يكون قد سمه أحد غير المأمون، من دعاة البيت العباسي.. ". ثم استشهد لذلك أيضا بمناظرة المأمون للعلماء في تفضيل الامام علي (ع)، والتي ذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد، وبأنه ظل يظهر العطف على العلويين، رغم كثرة خروجهم عليه (1). وصاحب كتاب عصر المأمون يستند في استبعاده لذلك إلى تلك الرعاية. التي أظهرها المأمون له، وذلك الاحترام والتقدير، الذي كان يحيطه به، وخصوصا بعد أن توثقت عرى المودة بينهما بالمصاهرة، وضيف إلى ذلك أيضا: أن نفسية المأمون، وخلقه، يأبيان - على زعمه - عليه ذلك. وعقد ولاية العهد له من بعده هو عند هؤلاء الدليل القاطع على حسن نية المأمون، وسلامة طويته. والدكتور أحمد محمود صبحي يرى: أن قضية مسمومية الرضا (ع) هي من مختلقات الشيعة " الذين لم يجدوا تناقضا بين الحظوة التي كان ينالها من المأمون، ثم مبايعته له بولاية العهد، وتزويجه أخته (2)، وبين أن يدس له المأمون السم في العنب، ثم يصلي عليه، ويدفنه بجوار قبر أبيه الرشيد، فقد أصبح مقدرا على الائمة منذ الحسن: أن يكون قاتلوهم هم: الخلفاء، أو بإيعاز منهم. " (3). (1) ضحى الاسلام ج 3 ص 295، 296. (2) قد اتفق المؤرخون تقريبا على أن المأمون قد زوج للرضا عليه السلام " ابنته " وليس اخته. ولم يذكر أنها اخته إلا شاذ منهم لا يعتد به، وهو الذي يتشبث به الدكتور هنا، ولعله لانهم رأوا عدم انسجام سن الامام مع سن ابنته آثروا أن يجعلوها اخته.. وأيا كانت الحقيقة فان مقصود المأمون هنا حاصل.. (3) نظرية الامامة ص 387. (*)
[ 415 ]
هذه هي الحجج، التي حاول هؤلاء إقامتها على صحة ما ذهبوا إليه، من براءة المأمون من دم الامام (ع). ملخص ما سبق: ومن أجل التسهيل على القارئ نعود فنوجز ما ذكروه من الادلة في النقاط التالية: 1 - عقده له ولاية العهد من بعده.. 2 - إكرامه وتقديره له، وتنبيهه على شرفه، وعلمه وفضله، وبيته. 3 - تزويجه ابنته، الامر الذي كان سببا في توثيق عرى المودة بينهما. 4 - احتجاجه على العلماء في تفضيل علي (ع) على جميع الخلق.. 5 - إظهاره الحزن والتوجع لوفاته، وهجره الطعام والشراب، واللذات لذلك. 6 - دفنه له بجوار أبيه الرشيد، وصلاته عليه. 7 - بقاؤه بعد وفاته على لباس الخضرة حتى دخل بغداد. 8 - إنه ظل يظهر العطف على العلويين، رغم كثرة خروجهم عليه.. 9 - إن نفسية المأمون وخلقه يأبيان عليه ذلك. 10 - إن ذلك من مختلقات الشيعة. حيث كتب على أئمتهم بعد الحسن أن يموتوا بسم الخلفاء، أو بإيعاز منهم. آفة ذلك: هل هو الجهل، أم التعصب: هذا ملخص أدلة ما ذهبوا إليه من عدم دس المأمون السم للامام (ع)، ونحسب أن هؤلاء: إما أنهم لم يطلعوا على الحقائق اطلاعا كافيا، يخولهم
[ 416 ]
إصدار أحكام صائبة، في قضايا هي من أكثر المسائل التاريخية تعقيدا، بل وغموضا وابهاما، كقضية حقيقة ظروف وعلاقات المأمون بالرضا، فحكموا على الامور حكما سطحيا، لا يلبث أن ينهزم أمام المنطق السليم والنظر الصائب. وإما أنهم جروا على ديدن أسلافهم في التعصب على الائمة (ع)، والمجاراة لاهوائهم، ولخلفائهم في طمس معالم الحقيقة، التي كان يضر أولئك الخلفاء أكثر من غيرهم إظهارها، ومعرفة الناس لها.. نحن.. وما يقوله هؤلاء: إن كان ما ذكره هؤلاء لا يمكن أن يمنع المأمون من التدبير في الامام بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما دبر من قبل بوزيره الفضل بن سهل، الذي أراد أن يزوجه ابنته، وكما دبر في قائده الكبير هرثمة بن أعين، الذي قتله فور وصوله إلى مرو، دون أن يستمع لشكواه، أو يصغي إلى دفاعه عن نفسه (1) وكما دبر فيما بعد بطاهر وأبنائه (2) وغيرهم، (1) هكذا ذكر بعض المؤرخين، وقال ابن خلدون في تاريخه ج 3 ص 245، و 249: إنه حبس، ثم دس عليه المأمون من قتله.. وفي معارف ابن قتيبة ص 133 طبع سنة 1300 ه‍. قال: ".. فلما سمع حاتم بن هرثمة ما صنع أبوه كاتب الاحرار هناك. والملوك، ودعاهم إلى الخلافة، فبينما هو على ذلك أتاه الموت، فيقال: إن سبب خروج بابك كان ذلك.. ". ومن يدري فلعل المأمون قد دبر بحاتم بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما دبر في الكثيرين قبله وبعده.. وفي البداية والنهاية ج 10 ص 246: أن أهل بغداد ثاروا. وأعلنوا العصيان بسبب قتل هرثمة. هذا.. ويقال: إن الفضل بن سهل قد عمل على قتل هرثمة. ولا بأس بمراجعة تاريخ ابن الوردي ج 1 ص 289، وغيره. (2) في البداية والنهاية ج 10 ص 260، ومرآة الجنان ج 2 ص 36، ووفيات الاعيان ج 1 ص 237، طبع سنة 1310: إن سبب وفاة طاهر هو أن المأمون عندما ولاه = (*)
[ 417 ]
وغيرهم، وغيرهم ممن كان يختلهم واحدا فواحدا - على حد تعبير عبد الله بن موسى في رسالته له - سواء من العلويين أو من غيرهم.. مع أن هؤلاء كانوا وزراءه وقواده، ولهم من الفضل عليه، وعلى دولته ما لا يمكن أن يخفى على أحد، فإنهم هم الذين وطدوا له دعائم حكمه، وبسطوا نفوذه وسلطانه على البلاد، وأذلوا له العباد، وقامت دولته بأسيافهم، وعلى أكتافهم.. لقد ختلهم واحدا فواحدا.. مع أنه كان يظهر لهم من الحب والتقدير ما لا يقل عما كان يظهره للامام.. وحسبنا أن نذكر هنا: أنه قتل أخاه وعمل برأسه ما تقدمت الاشارة إليه من أجل الملك والسلطان فكيف لا يقتل الرضا من أجل الملك والسلطان، ايضا.. ثم يتستر على فعلته بتلك الظواهر التي لا تضره ؟ ! أم يعقل أن يكون الرضا أعز من هؤلاء جميعا.. وحتى أعز عليه من أخيه الذي قتله ؟ !. وأما تظاهره بالحزن والاسى لوفاة الامام (ع) إلخ.. فما أدرى إن كان هؤلاء يريدون من ذلك الافعى الداهية: أن يظهر الفرح والاستبشار بموت الامام (ع) !. وهل نسوا أنه قتل الفضل ثم تظاهر بالحزن العظيم عليه (1) وتتبع قتلته = خراسان، أهداه غلاما ليخدمه، ودفع إليه سما لا يطاق، فسمه الخادم في كامخ، فمات من ليلته. وفي الفخري في الآداب السلطانية ص 224: أن الذي أهداه الغلام هو أحمد ابن أبي خالد وزير المأمون، ليقتله إذا فارق الطاعة، فقتله بأمر من المأمون.. وفي تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 192: أن المأمون تآمر عليه فقتله. والمؤرخون متفقون على أن المأمون كان يضمر الشر والخيانة. والنتيجة أن طاهر يموت - بتدبير من المأمون بهذه الكيفية الغامضة، ويبقى المأمون نفسه بعيدا عن الشكوك والشبهات. (1) التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 322، ومآثر الانافة ج 1 ص 211. وقد تكلمنا عن كيفية قتل الفضل في ما تقدم فلا نعيد.. (*)
[ 418 ]
وقتلهم، وأرسل رؤوسهم إلى أخيه الحسن بن سهل، ثم تزوج ابنة الحسن هذا ؟ !. ولكنه عاد فغض من الحسن بن سهل حينما ظفر بابراهيم ابن شكلة، وأسقطه وحجبه وعزله عما كان في يده (1). وقتل طاهرا ثم أرسل يحيى بن اكثم إلى الرقة، لينوب عنه في تقديم التعازي، لولده عبد الله، ثم ولى أبناءه مكانه، ثم غدر بهم واحدا بعد الآخر.. ؟ ! (2). وأنه قتل محمد بن جعفر، ثم جاء وحمل نعشه، وقال: إن هذه رحم مجفوة منذ مأتي سنة ؟ !. وغيرهم وغيرهم، ممن لا مجال هنا لتتبع أسمائهم وأحوالهم.. أما مواقفه وتصريحاته عند وفاة الامام، فالظاهر أنهم لم يقيموا لها وزنا، ولا أعارها أي منهم أذنا صاغية، أو قلبا واعيا ؟ !. وكيف يتفق كل ما ذكرناه - وخصوصا ما فعله مع أخيه حيا، أو ميتا، وتخريبه بغداد، وأيضا قتله لسبعة من أخوة الامام واضطهاده للعلويين كما سنبينه، وكتابه للسري عامله على مصر يأمره فيه بغسل المنابر إلخ.. كيف يتفق كل ذلك، وسائر أفاعيله التي قدمنا شطرا منها مع خلق المأمون ونفسيته ؟ !. ولا يتفق قتله الامام (ع) مع نفسيته وخلقه الكريم ؟ !. وهل قتل أولئك مع إظهار المحبة والاكرام لهم (1) لطف التدبير ص 166، (2) ولقد كان يؤكد براءته من تلك الجرائم بأساليب مختلفة اخرى، ويرضي جميع الاطراف، فهو يرضي العباسيين بقتل الرضا، ويرضي العلويين باستقدام الجواد - ولد الرضا - من المدينة، وإكرامه إياه، ويقتل الفضل، ويرضي الحسن أخاه، بما ذكرنا، ويقتل طاهرا، ويرضي أبناءه بتوليتهم مكانه، ويبقى يستعين بهم طيلة فترة حكمه تقريبا. حيث يغدر بهم واحدا واحدا كما ذكرنا، وعلى هذه فقس ما سواها مما يدل على مدى حنكة المأمون ودهائه السياسي.. (*)
[ 419 ]
لا يتنافى مع نفسيته وخلقه الكريم، ويتنافى قتل الامام مع الاكرام والمحبة له وللعلويين مع نفسيته وخلقه الكريم أيضا.. وأيضا هل بعد كل ذلك، يمكن أن يقال: إن مصاهرته للامام تمنعه من الغدر به، ودس السم إليه ؟ ! ولقد بينا في فصل: ظروف البيعة بعض أهدافه من تزويجه، وتزويج ولده الجواد، وتزويج الفضل أيضا.. وتحدثنا أيضا عن السبب في لباسه والخضرة، ودوافع ولاية العهد، وغير ذلك من أمور. بل نجرؤ على القول هنا: إن المأمون قد اكره الامام (ع) على هكذا زواج، إذ كيف يمكن أن نتصور رجلا حكيما عاقلا، زاهدا في الدنيا.. يقدم ويرغب في زواج طفلة ومن هي بالنسبة إليه بمنزلة حفيدته، بل أصغر، حيث كان يكبرها بحوالي أربعين سنة.. ثم لا يكون هناك سر آخر يكمن وراء مثل هكذا زواج، إلا أن يدعي هؤلاء: أن ذلك يتفق مع العقل والحكمة، وينسجم مع زهد الامام في الدنيا، وانصرافه عنها.. وإذا كان ثمة سر آخر يكمن وراء ذلك الزواج، فان ما تجدر الاشارة إليه هنا هو أنه (ع) لم يكن يستطيع التصريح بحقيقة الامر، وواقع القضية إلى آخر ما قدمناه في فصل: ظروف البيعة. وأما قوله بتفضيل علي (ع) على جميع الخلق.. فاننا إن لم نقل: أنه كان من ضمن المخطط، الذي كان قد رسمه للوصول إلى مآربه وأهدافه - كما اتضح في فصل ظروف البيعة.. فاننا - ونحن نرى تباين مواقفه وتصريحاته - نرى أنفسنا مضطرين إلى القول: بأنه لم يكن ينطلق في مواقفه السياسية من مواقف عقائدية. وأما إكرامه للعلويين.. فقد تقدم تصريحه في كتابه للعباسيين: بأن ذلك ما كان منه إلا سياسة ودهاء.. وتقدم أنه بعد وفاة الرضا (ع)
[ 420 ]
قد أخذهم بلبس السواد، ومنعهم من الدخول عليه.. وأنه كان يختلهم واحدا فواحدا حسب ما كتب إليه عبد الله بن موسى. وسيأتي بيان أنه قتل سبعة من اخوة الامام (ع). وأنه أمر الولاة والحكام بالقبض على كل علوي. وأما ما ذكره أحمد أمين: من كثره خروج العلويين عليه. فإننا لم نجد، ولم نسمع ذكرا في التاريخ لثورة قامت ضد المأمون، بعد وفاة الرضا (ع) إلا ثورة عبد الرحمن بن أحمد في اليمن، والتي كانت باتفاق المؤرخين بسبب جور العمال، وظلمهم.. وسوى ثورة إخوة الامام الرضا (ع) طلبا بثأر أخيهم كما سيأتي.. ولم يبق ثمة إلا نسبة فكرة اغتيال الرضا (ع) إلى الشيعة.. وأنهم انما اختلقوها وابتدعوها بدافع من الشعور بالحاجة إلى مثل هذه التزويرات، إذ قد كتب إلخ.. فهي دعوى تكذبها جميع الشواهد والدلائل التاريخية.. هذا بالاضافة إلى أن السنة قد اتهموا المأمون بهذه التهمة، قبل اتهام الشيعة له بها، والشيعة إنما يعتمدون في ذلك على كتب أهل السنة، التي استفاضت في اتهام المأمون بذلك، والتى يؤيدها الكثر مما قدمناه في هذا الكتاب، وغيره.. وهكذا.. يتضح أن كل ما ذكره هؤلاء لا يصلح مانعا ولا دليلا على أن المأمون لم يكن وراء استشهاد الامام (ع).. بل جميع الدلائل والشواهد متضافرة على خلاف ذلك حسبما فصلناه في الفصلين المتقدمين وغيرهما، ولولا أن تعداد مواقف المأمون مع الامام وتصريحاته يستلزم تكرارا نربأ بالقارئ الفطن أن يضطرنا إليه.. لا استطعنا أن نحشد الكثير الكثير من الدلائل والشواهد، التي تؤكد سوء نية المأمون، وخبث طويته تجاه الامام (ع).. فما استند إليه هؤلاء في حكمهم ذاك،
[ 421 ]
لا يصلح للاستناد إليه، ولا للاعتماد عليه، وإن صيغ بعبارات منمقة، وأساليب مختلفة، فيها الاغراق والمبالغة أحيانا، ويبدو عليها الاتزان والموضوعية أحيانا أخرى. وبعد. فعلى المكابر: أن يجيب على السؤال التالي: وإلا.. فاننا نرى: أن لنا كل الحق في توجيه السؤال التالي إلى كل من يكابر، ويصر على براءة المأمون، وحسن نيته، والسؤال هو: إنه إذا كان قد عرض ولاية العهد. بعد وفاة الرضا (ع) على عبد الله بن موسى، فلماذا لم يجعل ولد الرضا " الجواد " وليا لعهده، مع أنه كان زوج ابنته، وولد ولي عهده، الذي أظهر عليه الحزن والجزع، ومع أنه كان قد اعترف له بالعلم. والفضل والتقدم، كما اعترف لابيه من قبل ! !. ولا مجال هنا للاصغاء للقول: بأن الجواد (ع) لم يكن يصلح لولاية العهد، بالنظر لصغر سنه.. إذ أن جعله وليا للعهد لا يعني تسليمه بالفعل أزمة الحكم والسلطان.. وقد أخذ الخلفاء، حتى أبوه الرشيد، وأخوه الامين البيعة لم كانوا أصغر من الجواد سنا، ولمن لم يكن له من العقل والحكمة والدراية ما كان الجواد (ع). هذا بالاضافة إلى أن صغر سنه لم يكن ليضره، بعد أن كان من أهل بيت زقوا العلم زقا، وبعد أن شهد المأمون، واعترف له العباسيون بالعلم والفضل، بعد ذلك المجلس الذي أجاب فيه يحيى بن اكثم عن مسائله، حيث كان العباسيون قد بذلوا له الاموال الطائلة ليقطعه عن
[ 422 ]
الحجة ! (1). راجع فصل: مع بعض خطط المأمون لتعرف أهداف المأمون من هذه المناظرة. رأي الفريق السادس: الرأي الحق: وأما ذلك الفريق الذي يرى: أنه (ع) مات مسموما دون شك، والذين أشار إليهم ابن الجوزي بقوله: " وزعم قوم أن المأمون قد سمه " - أما هؤلاء، فكثيرون: ويمكننا أن نقول: إن ذلك مما تسالم عليه الشيعة رضوان الله عليهم، ما عدا المرحوم الاربلي في كشف الغمة، ونسب ذلك أيضا إلى السيد ابن طاووس، وإلى الشيخ المفيد قدس سره، لكن ربما يستظهر من المفيد أنه يذهب إلى مسموميته، حيث ذكر أنهما - أي المأمون والرضا - قد اكلا معا عنبا، فمرض الرضا، وتمارض المأمون ! واتفاق الشيعة على ذلك لخير دليل على أنه (ع) قد قضى شهيدا، لانهم هم أعرف وأخبر بأحوال ائمتهم من غيرهم، وليس لديهم ما يوجب كتم الحقائق، أو تشويهها. فإذا ما سنحت لهم فرصة لاظهارها أظهروها، دون تكتم على شئ، أو تشويه لشئ. ومن أهل السنة، وغيرهم. طائفة كبيرة من العلماء، والمؤرخين، يعتقدون بأنه (ع) لم يمت حتف أنفه، أو على الاقل يرجحون ذلك، وإن لم يعين كثير منهم من فعل ذلك، أو أمر به. ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: (1) راجع الصواعق المحرقة، والفصول المهمة، لابن الصباغ، وينابيع المودة للحنفي، واثبات الوصية للمسعودي، والبحار، واعيان الشيعة، وإحقاق الحق ج 2 نقلا عن: أخبار الدول للقرماني، ونور الابصار، وأئمة الهدى للهاشمي، والاتحاف بحب الاشراف ومفتاح النجا في مناقب أهل العبا إلخ.. (*)
[ 423 ]
ابن حجر في صواعقه ص 122. وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 250 والمسعودي في اثبات الوصية ص 208، وفي التنبيه والاشراف ص 203، ومروج الذهب ج 3 ص 417، وإن كان في مكان آخر من مروجه قد حكى ذلك بلفظ: قيل. والقلقشندي في مآثر الانافة في معالم الخلافة ج 1 ص 211. والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص 263، وغيرها. وجرجي زيدان في تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني جزء 4 ص. 44 قال: " وفكر في بيعته علي الرضا، فأعظم أن يرجع عنها، وخاف إذا رجع أن يثور عليه أهل خراسان، فيقتلوه، فعمد إلى سياسة الفتك، فدس إليه من أطعمه عنبا مسموما، فمات ". وذكر ذلك أيضا في آخر صفحة من كتابه: الامين والمأمون. وأبو بكر الخوارزمي يقول في رسالته: " وسم علي بن موسى الرضا بيد المأمون " وقد تقدم شطر كبير من هذه الرسالة.. ويؤيد قوله هذا بعض ما تقدم بالاضافة إلى عدة روايات ليس هنا محل ذكرها. وأحمد شلبي في: التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية ج 3 ص 107 يقول: إن ثورة بغداد قد أرغمت المأمون على التخلص من الرضا، وخلع الخضرة إلخ. وأبو الفرج الاصفهاني يقول في مقاتل الطالبيين: " وكان المأمون عقد له على العهد من بعده، ثم دس إليه - فيما ذكر - بعد ذلك سما فمات ". وذكر استشهاده أيضا أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل 171 / 352.
[ 424 ]
وابن طباطبا في الآداب السلطانية ص 218. والشبلنجي في نور الابصار ص 176، 177 طبع سنة 1948 يروي ذلك أيضا. ويروي ابن حجر عن الحاكم في تاريخ نيسابور أنه قال: " استشهد علي بن موسى الرضا بسنا آباد ". وهو نفسه ينقل عن ابن حبان أنه (ع) مات مسموما بماء الرمان (1). والسمعاني أيضا في أنسابه ج 6 ص 139، يذهب إلى إستشهاده (ع). وينقل القندوزي ذلك عن محمد بارسا البخاري في كتاب فصل الخطاب. كما وينقله عن اليافعي، فراجع ص 385 من ينابيع المودة.. وفي خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في اسماء الرجال ص 278 ينقل ذلك عن سنن ابن ماجة القزويني. وينقل ذلك أيضا عن السلامي في كتابه الذي ألفه في تاريخ خراسان (2). وعن البيهقي في تاريخ بيهق. وعارف تامر في كتابه: الامامة في الاسلام ص 125 يقول بذلك أيضا. ونقله في احقاق الحق (الملحق) ج 12 ص 346 فصاعدا عن: النبهاني في جامع كرامات الاولياء ج 2 ص 311. وعن السيد عباس بن علي بن نور الدين في نزهة الجليس ج 2 ص 65. وعن المناوي في الكواكب الدرية ج 1 ص 256. وعن ابن طلحة بن مطالب السؤول ص 86. (1) تهذيب التهذيب لابن حجر ج 7 ص 388، وأعيان الشيعة ج 4 قسم 2 ص 154. (2) راجع: البحار ج 49 ص 143، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 166. (*)
[ 425 ]
وعن الهاشمي الافغاني في كتابه: " أئمة الهدى ص 127. وعن البدخشي في: مفتاح النجا ص 181 (مخطوط). وعن الجوزجاني الحنفي في: طبقات ناصري ص 113. وذكر ذلك ايضا صاحب كتاب عيون الحدائق ص 357. وأخيرا فقد قال الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص 226: ".. ومات الرضا مسموما، كما يرى أكثر المؤرخين ". وهذا غيض من فيض.. وحسبنا ما ذكرنا هنا، فإننا لو أردنا تتبع ما قيل حول وفاة الامام، لاحتجنا إلى وقت طويل.. هذا كله.. بالنسبة إلى أقوال المؤرخين. صدى قتل الرضا في نفس زمن المأمون: وأما إذا راجعنا كتب التاريخ أنفسها، فإننا نستطيع أن نقول: إن استشهاد الامام (ع) بالسم على يد المأمون كان شائعا ومعروفا بين الناس في ذلك الزمان، أعني: زمن المأمون نفسه، ومتسالما عليه فيما بينهم.. فلقد تقدم في الفصل السابق: أن المأمون قد اعترف بأن الناس يتهمونه: بأنه قد اغتاله وقتله بالسم !. وورد أيضا أن الخلق عند وفاة الرضا (ع) اجتمعوا وقالوا: إن هذا قتله واغتاله - يعنون المأمون -، واكثروا من القول والجلبة، حتى أرسل إليهم المأمون محمد بن جعفر، عم أبي الحسن يخبرهم: أن أبا الحسن لا يخرج في ذلك اليوم، خوفا من الفتنة (1). (1) مسند الامام الرضا ج 1 ص 130، والبحار ج 49 ص 299، 300، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 242. (*)
[ 426 ]
كما وأن عبد الله بن موسى يصرح في رسالته التي أرسلها إلى المأمون بأنه قد بلغه ما فعله بالرضا من اطعامه العنب المسموم، وستأتي هذه الرسالة بتمامها في أواخر هذا الكتاب.. وسئل أبو الصلت الهروي: " كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه إياه ومحبته له ؟ !. " فجاء في آخر جوابه قوله: " فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله، فقتله بالسم.. " (1). فإن هذا السؤال يكشف عن أن ذلك كان معروفا آنذاك بين الناس لكن الناس كانوا في حيرة من ذلك، بسبب ما كانوا يرونه من اكرام المأمون للرضا (ع) في الظاهر. وعن الطالقاني: إنه كان متى ظهر للمأمون من الرضا علم وفضل، وحسن تدبير حسده على ذلك، وحقد عليه، حتى ضاق صدره منه، فغدر به فقتله ". بل لقد ذكر ابن خلدون: أن سبب خروج إبراهيم ابن الامام موسى (ع) على المأمون هو أنه اتهم المأمون بقتل أخيه علي الرضا (ع) (2). ويؤيد ذلك: أنه قد نقل الاتفاق من كل من ترجم لابراهيم هذا على أنه مات مسموما، وأن المأمون هو الذي دس إليه السم، وقد أنشد ابن السماك الفقيه، حينما ألحده: مات الامام المرتضى مسموما * وطوى الزمان فضائلا وعلوما قد مات بالزوراء مظلوما كما * أضحى أبوه بكربلا مظلوما (1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 239، والبحار ج 49 ص 290، ومسند الامام الرضا ج 1 ص 128، 129. (2) تاريخ ابن خلدون ج 3 ص 115. (*)
[ 427 ]
إلى آخر الابيات (1).. وابراهيم هذا هو الذي كان قد خرج على المأمون في اليمن قبل ذلك أيضا. كما أن المأمون قد دس السم إلى أخية زيد ابن موسى (2)، الذي كان قد خرج عليه قبلا بالبصرة، وإن كان اليعقوبي يذكر أن المأمون قد عفا عن زيد وابراهيم (3).. لكن من الواضح أن عفوه عنهما في الظاهر بسبب خروجهما عليه في البصرة واليمن، لا ينافي أنه دس إليهما السم بعد ذلك بأعوام بسبب مطالبتهما بدم أخيهما الرضا (ع). كما أن بعض المصادر التاريخية تذكر: أن " أحمد بن موسى " أخا الامام الرضا.. لما بلغه غدر المأمون بأخيه الرضا، وكان آنذاك في بغداد، خرج من بغداد للطلب بثأر أخيه، وكان معه ثلاثة آلاف من العلوية. وقيل: اثنا عشر ألفا. وبعد وقائع جرت بينه وبين " قتلغ خان "، الذي أمره المأمون فيهم بأمره، والذي كان عاملا للمأمون على شيراز.. استشهد أصحابه، واستشهد هو، وأخوه " محمد العابد " أيضا (4). (1) حياة الامام موسى بن جعفر ج 2 ص 408، والبحار ج 48 ص 278 باختصار. ولكن في وفيات الاعيان ج 1 ص 491 وصفة الصفوة ج 3 ص 177 والكنى والالقاب. ج 1 ص 316، ومرآة الجنان ج 1 ص 393، والطبري في أحداث سنة 183: أن تاريخ وفاة محمد بن السماك كانت سنة 183 ه‍. وأما وفاة ابراهيم فهي إما سنة 210، أو سنة 213، فلا يمكن أن يكون ابن السماك هو المتولي لحده، فضلا عن أن ينشد الشعر المذكور.. اللهم إلا أن يكون ابن السماك اثنين، أحدهما الفقيه، والآخر: القصاص، أو لعل هناك تصحيف عمدي، أو عفوي من الراوي. (2) البحار ج 48 ص 315، وكذا هامش ص 386 منه وشرح ميمية أبي فراس ص 178. وعمدة الطالب ص 221، وأيضا حياة الامام موسى بن جعفر. (3) مشاكلة الناس لزمانهم ص 29. (4) راجع: كتاب قيام سادات علوي ص 169 (فارسي)، وأعيان الشيعة ج 10 من المجلد 11 ص 286، 287، نقلا عن كتاب: الانساب، لمحمد بن هارون الموسوي = (*)
[ 428 ]
وأيضا.. فإن شرطة المأمون قد قتلوا " هارون بن موسى " أخا الرضا، حيث إن هارون هذا كان في القافلة التي كانت تقصد خراسان، وكانت تضم (22) علويا، وعلى رأسها السيدة فاطمة أخت الرضا (ع) (1). فأرسل المأمون إلى هذه القافلة، فقتل وشرد كل من فيها، وجرحوا هارون المذكور، ثم هجموا عليه وهو يتناول الطعام فقتلوه (2). وأما زعيمة القافلة السيدة فاطمة بنت موسى (ع) فيقال إنها هي الاخرى قد دس إليها السم في ساوة، ولهذا لم تلبث إلا أياما قليلة واستشهدت (3). وآخر من يذكره المؤرخون من ضحايا المأمون: " حمزة بن موسى "، أخا الامام (ع)، حيث ذكروا أنه كان من جملة من قتلهم أتباع المأمون (4). فيكون المأمون قد قتل ستة، بل سبعة من إخوة الامام (ع)، لانهم طالبوه بدم أخيهم، أو كادوا. وألحق بهم ما شاء الله ممن تابعهم، أو خرج معهم. ويقول الكاتب الفارسي، علي أكبر تشيد: " إن كثيرا من العلويين كانوا قد قصدوا خراسان، أيام تولي الامام العهد من المأمون، لكن أكثرهم لم يصل، وذلك بسبب استشهاد الامام (ع)، وأمر المأمون الحكام، وأمراء البلاد بقتل، أو القبض على كل علوي. " (5). = النيشابوري. وراجع أيضا: مدينة الحسين (السلسلة الثانية) ص 91، والبحار ج 8 ص 308، وحياة الامام موسى بن جعفر ج 2 ص 413، وفرق الشيعة هامش ص 97 عن بحر الانساب ط بمبي وغير ذلك. (1) قيام سادات علوي ص 161. (2) جامع الانساب ص 56، وقيام سادات علوي ص 161، وحياة الامام موسى بن جعفر ج 2. (3) قيام سادات علوي ص 168. (4) حياة الامام موسى بن جعفر ج 2. (5) قيام سادات علوي ص 160. (*)
[ 429 ]
وفي الشعر أيضا نجد ما يدل على ذلك: بل إن دعبلا المعاصر للامام والمأمون، يرثي الامام (ع) فيقول: شككت: فما أدري أمسقي شربة * فأبكيك أم ريب الردى فيهون أيا عجبا منهم: يسمونك الرضا * ويلقاك منهم كلحة وغضون فدعبل لم يكن شاكا في الامر، بدليل البيت الثاني، أعني قوله: أيا عجبا منهم يسمونك إلخ.. وبدليل مرثيته الاخرى للامام، التي يقول فيها: لم يبق حي من الاحياء نعلمه * من ذي يمان ولا بكر ولا مضر إلا وهم شركاء في دمائهم * كما تشارك أيسار على جزر إلى آخر الابيات.. ومهما شككت في شئ، فإنني لا أشك في أن أقوال دعبل هذه هي التي دعتهم لاتهامه بالزندقة، والمروق من الدين.. ويقول السوسي: بأرض طوس نائي الاوطان * إذ غره المأمون بالاماني حين سقاه السم في الرمان (1) والقاضي التنوخي أيضا يقول: ومأمونكم سم الرضا بعد بيعة * فآدت له شم الجبال الرواسب (2) وأبو فراس أيضا يقول في شافيته: باءوا بقتل الرضا من بعد بيعته * وأبصروا بعض يوم رشدهم وعموا (1) مناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 374. (2) مناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 328، وفي الغدير ج 3 ص 380، هكذا: " تود ذرى شم الجبال إلخ. ".، ولعل الصواب فيه: " تهد ذرى الخ. ". (*)
[ 430 ]
عصابة شقيت من بعدما سعدت * ومعشر هلكوا من بعدما سلموا لا بيعة ردعتهم عن دمائهم * ولا يمين، ولا قربى، ولا ذمم وهكذا.. يتضح بما لا مجال معه للشك: أن كون المأمون هو الذي اغتال الامام قد كان معروفا لدى الناس، وشائعا بينهم منذ ذلك الحين.. ولا غرابة في ذلك فلقد كان وعد حاجبه، وجمعا من العباسيين بأنه سوف يدبر في الامام بما يحسم عنه مواد بلائه !. الامام وآباؤه عليهم السلام يخبرون بشهادته: وبعد كل ما تقدم.. نرى أنه لابد لنا قبل أن نأتي على آخر هذا الفصل من الاشارة إلى أن الامام نفسه قد أخبر أكثر من مرة بأنه سوف يقضي شهيدا بالسم، بل لقد أخبر بذلك آباؤه الطاهرون، وغيرهم ممن عاشوا في ذلك الزمان. ونستطيع أن نقسم هذه الروايات الكثيرة جدا إلى ثلاث طوائف: 1 - طائفة وردت على لسان النبي صلى الله عليه وآله، والائمة (ع): يخبرون فيها عن استشهاد الامام الرضا (ع) في طوس، وهذه على ما يبدو خمسة أحاديث. 2 - طائفة وردت عن الامام نفسه، يخبر فيها بهذا الامر، وبأن المأمون نفسه هو الذي سوف يقدم على ذلك، وأنه سوف يدفن في طوس إلى جنب هارون. وهذه الطائفة كثيرة جدا - وفي بعضها يصرح بذلك للمأمون نفسه، كما المحنا إليه - حتى إنه زاد في قصيدة دعبل، من أجل تتميم قصيدته قوله:
[ 431 ]
وقبر بطوس يالها من مصيبة * الحت على الاحشاء بالزفرات (1) 3 - تلك الطائفة التي تشرح لنا كيفية دس السم إليه. وأنه بالعنب، أو بادخال الابر المسمومة في، أو بالرمان، أو بهما معا، أو بغير ذلك. وهذه الطائفة كثيرة أيضا، وقد ورد بعضها عن الامام نفسه. وقال بعض الكتاب: إنه تتبع هذه الروايات، فوجد انها تنتهي إلى ستة أشخاص، هم: أبو الصلت عبد السلام الهروي، والريان بن شبيب، وهرثمة بن أعين (2) ومحمد بن الجهم، وعلي بن الحسين الكاتب، و عبد الله بن بشير (3). ولكنني قد راجعت بدوري هذه الروايات، فوجدت: أن عددا آخر غير هؤلاء قد رووا ذلك أيضا. وحتى الزيارة تؤكد على استشهاده (ع): وأخيرا.. فقد ورد في الزيارة الجوادية قول الامام الجواد (ع): (1) ينابيع المودة ص 454، ومناقب ابن شهر آشوب ج 4 ص 338، والبحار ج 49 ص 239، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 263، 264. (2) لم يكن هرثمة حيا حين وفاة الامام، لانه بعد مقتل أبي السرايا ذهب إلى مرو، فلم يمهله المأمون. وتخلص منه بعد أيام قلائل من وصوله، فروايته لكيفية وفاة الامام عليه السلام لا تصح. إلا أن يكون هرثمة اثنين.. هذا ويلاحظ بعض التشابه بين رواية هرثمة، ورواية أبي الصلت.. فلعل الامر قد اشتبه على الراوي، أو أنه قد ذكر اسم هرثمة لحاجة في نفسه قضاها.. (3) القائل بذلك هو علي موحدي في كتابه: ولاية عهدي امام رضا.. (*)
[ 432 ]
" السلام عليك من إمام عصيب، وامام نجيب، وبعيد قريب، ومسموم غريب (1).. ". وفي كامل الزيارة لابن قولويه، وهو من الكتب المعتمدة، والموثوقة، وغيره: قد ورد قولهم (ع) في زيارته: " قتل الله من قتلك بالايدي والالسن (2) ". وفقرة أخرى في زيارته تقول: " السلام عليك أيها الشهيد السعيد، المظلوم المقتول.. إلى أن قال: لعن الله أمة قتلتك، لعن الله أمة ظلمتك (3) ". وأما قولهم (ع): أيها الصديق الشهيد، فهي موجودة في غير مورد من زيارته، وفي مختلف الكتب الموردة لها. القمة الشامخة الخالدة: والآن.. وبعد أن أصبح الصبح واضحا لكل ذي عينين، وبان وظهر ما جهد المأمون ومن يدور في فلكه في إخفائه وطمسه - الآن - قد آن لنا أن نقول: فليكد المأمون كيده، وليسع سعيه، وليناصب جهده، فلقد بقي الامام (ع) رغم كل مؤامراته ودسائسه: قمة شامخة، لم تدنسه الاهواء، ولم تنل منه العوادي.. ويبقى - وإلى الابد - كعبة الزوار، ومهوى الافئدة، من شرق الارض وغربها. أما المأمون.. فيبوء بعارها وشنارها، ويذهب إلى لعنة إلى.. لعنة الله والتاريخ. (1) البحار ج 102 ص 53. (2) كامل الزيارات ص 313. ومفاتيح الجنان ص 501، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 270 (3) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 269. (*)
[ 433 ]
دعبل والمأمون !: الموقف الجرئ جاء في أمالي الشيخ ج 1 ص 98، 99، وامالي المفيد ص 200، 201، وط الحيدرية في النجف ص 192 - 193 والاغاني 8 ص 57، والغدير ج 2 ص 375، 376 عنه، وعن ابن عساكر في تاريخه ج 5 ص 233 وأخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص 94 - 95 ما يلي: عن يحيى بن أكثم، قال: إن المأمون أقدم دعبل رحمه الله، وآمنه على نفسه، فلما مثل بين يديه، وكنت جالسا بين يدي المأمون، فقال له: أنشدني قصيدتك " الرائية " فجحدها دعبل، وأنكر معرفتها، فقال له: لك الامان عليها كما آمنتك على نفسك، فأنشده: تأسفت جارتي لما رأت زوري * وعدت الحلم ذنبا غير مغتفر ترجو الصبا بعدما شابت ذوائبها * وقد جرت طلقا في حلبة الكبر أجارتي: إن شيب الدهر يعلمني * ذكر المعاد، وأرضاني عن القدر لو كنت اركن للدنيا وزينتها * إذن بكيت على الماضين من نفر
[ 434 ]
أخنى الزمان على أهلي فصدعهم * تصدع الشعب لاقى صدمة الحجر بعض أقام، وبعض قد أصاربه * داعي المنية والباقي على الاثر أما المقيم: فأخشى أن يفارقني * ولست أوبة من ولى بمنتظر أصبحت أخبر عن أهلي وعن ولدي * كحالم قص رؤيا بعد مدكر * * * لولا تشاغل عيني بالاولى سلفوا * من أهل بيت رسول الله لم أقر وفي مواليك للحرين مشغلة * من أن تبيت لمشغول على أثر كم من ذراع لهم بالطف بائنة * وعارض بصعيد الترب منعفر أمسى الحسين ومسراهم لمقتله * وهم يقولون هذا سيد البشر يا أمة السوء ما جازيت أحمد في * حسن البلاء على التنزيل والسور خلفتموه على الابناء حين مضى * خلافة الذئب في انفاد ذي بقر * * * قال يحيى: وأنفذني المأمون في حاجة، فقمت، فعدت إليه، وقد انتهى إلى قوله: لم يبق حي من الاحياء نعلمه * من ذي يمان، ولا بكر، ولا مضر إلا وهم شركاء في دمائهم * كما تشارك أيسار على جزر قتلا، وأسرا، وتخويفا ومنهبة * فعل الغزاة بأهل الروم والخزر أرى أمية معذورين إن قتلوا * ولا أرى لبني العباس من عذر قوم قتلتم على الاسلام أولهم * حتى إذا استمكنوا جازوا على الكفر أبناء حرب، ومروان، وأسرتهم * بنو معيط، ولاة الحقد والوغر * * * إربع بطوس على قبر الزكي بها * إن كنت تربع من دين على وطر
[ 435 ]
قبران في طوس: خير الناس كلهم * وقبر شرهم، هذا من العنر ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا * على الزكي بقرب الرجس من ضرر هيهات كل امرئ رهن بما كسبت * له يداه فخذ من ذاك أو فذر قال: فضرب المأمون بعمامته الارض، وقال: " صدقت والله يا دعبل ".
[ 436 ]
كلمة ختامية: وفي الختام: فإنني أرجو أن اكون قد وفقت في هذه الدراسة، للكشف عن الحقائق التي أريد لها أن تبقى طي الكتمان.. وأن يكون القارئ قد وجد فيها ما يصح أن يكون جوابا على الاسئلة الكثيرة، التي قد يثيرها لديه هذا الحدث التاريخي الهام، الذي لم يكن طبيعيا، وعاديا كسائر ما يجري وما يحدث.. الاكثار من النصوص التاريخية في الكتاب: ولعل المطلع على هذا الكتاب يكون قد لاحظ: أنني أكثرت فيه من النصوص التاريخية، ولم يكن هدفي إلا أن لا يجد القارئ كبير عناء في استخلاص الحقائق، بعيدا عن نزوات العاطفة، وعثرات الميول.. ولا شك أنه يكون قد لاحظ أيضا: أنني لم أحاول انتقاء ألفاظه، ولا صياغة جمله صياغة فنية أنيقة.. وإذا كنت مقتنعا بأن ذلك من مميزاته وحسناته، لاعتقادي بأن ذلك هو ما تفرضه طبيعة البحث
[ 437 ]
الموضوعي الهادئ. فلسوف لا أستغرب، ولا أتألم إذا كان هناك الكثيرون، ممن يعتقدون أنه عيب ونقص، كان بالامكان تجنبه، والابتعاد عنه. ومع ذلك: فلن أجد نفسي مغبونا حين أقدم - بإخلاص - اعتذاري لهم، وطلب المسامحة، وغض النظر منهم. رجاء واعتذار: وإذا كان يجوز لي أخيرا: أن أطلب من إخواني الاعزاء شيئا، فان رجائي الاكيد من كل من يقرأ كتابي هذا: أن يتحفني بملاحظاته، وأن ينبهني لما يجده، أو يراه خطأ، أو نقصا، فان الانسان - إلا من اصطفى الله - معرض للخطأ وللصواب.. وإذا كان كثيرا ما يكون له فضل فيما أصاب، فكثيرا ما يكون له العذر أيضا فيما أخطأ. شكر وتقدير: هذا.. ولا يسعني هنا الا أن أتقدم بجزيل شكري، وعميق تقديري لسماحة حجة الاسلام المحقق السيد مهدي الروحاني، ولاصحاب السماحة والفضيلة. من أساتذتي وإخواني، الذين تفضلوا بمطالعة هذا الكتاب، حيث كان لآرائهم الصائبة، وتوجيهاتهم السديدة، وملاحظاتهم الدقيقة أكبر الاثر على هذا الكتاب، إن في الشكل، وإن في المحتوى.. وأخيرا.. فإنني أتقدم أيضا بخالص شكري، وفائق تقديري للقارئ الكريم. الذي جعلني مدينا له، بما منحني من وقته. وعقله، وفكره. وأرجو أن أكون قد وفقت للفوز بثقته أيضا. ولا أطيل عليك - قارئي الكريم -، فقد كان الفراغ من نقله إلى
[ 438 ]
المبيضة ليلة الاحد السابع من صفر، الساعة التاسعة منها سنة 1396 ه‍. ق. الموافق 8 شباط سنة 1976 م ش. والحمد لله، وله المنة، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى.. نزيل قم المقدسة جعفر مرتضى الحسيني العاملي
[ 439 ]
وثائق هامة 1 - رسالة الفضل بن سهل إلى الامام (ع). 2 - وثيقة ولاية العهد. 3 - رسالة المأمون إلى العباسيين. 4 - رسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون. 5 - رسالة سفيان إلى هارون. قصيدة الامير أبي فراس الحمداني.
[ 441 ]
رسالة الفضل بن سهل إلى الامام (ع) هذه الرسالة: هذه الرسالة هي التي أرسلها الفضل بن سهل إلى الامام (ع)، يطلب فيها منه القدوم، من أجل عقد ولاية العهد له.. وقد اطلعت عليها في وقت متأخر، وتحدثت عن بعض ما يمكن استخلاصه منها في بعض فصول الكتاب. ونظرا لاهميتها.. فقد آثرت أن أجعلها مع الوثائق الهامة، ليطلع عليها القارئ بنفسه. وقد أورد هذه الرسالة أبو القاسم عبد الكريم بن محمد، بن عبد الكريم الرافعي، الشافعي، القزويني المتوفى سنة 623 ه‍. في كتابه: " التدوين ". والكتاب موجود منه نسختان خطيتان: إحداهما في مكتبة " ناصرية " القسم الثاني رقم 782 في لكنهو. والاخرى: خطية أيضا موجودة في الاسكندرية.. وهناك نسختان مصورتان عنهما: إحداهما: في مكتبة دار التبليغ الاسلامي في قم مصورة عن نسخة لكنهو، والاخرى: في مكتبة المرعشي النجفي العامة في قم مصورة في طهران عن نسخة الاسكندرية.
[ 442 ]
وهي في النسخة المصورة عن لكنهو موجودة في المجلد الثاني. وفي المصورة عن مكتبة الاسكندرية موجودة في ج 4 ص 51. ونقلها عن هذه النسخة السيد المرعشي النجفي في ج 12 من ملحقات الاحقاق ص 381، 382: نص الرسالة: قال في التدوين: والنص لنسخة: لكنهو: ولما عزم المأمون على تفويض العهد إليه (أي إلى الرضا)، بسعي ذي الرياستين الفضل بن سهل.. كتب إليه ذو الرياستين: بسم الله الرحمن الرحيم: لعلي بن موسى الرضا، وابن رسول الله المصطفى، المهتدى بهديه، المقتدى بفعله، الحافظ لدين الله، الخازن لوحي الله، من وليه الفضل ابن سهل، الذي بذل في رد حقه إليه مهجته، ووصل ليله فيه بنهاره.. سلام عليك أيها المهتدي ورحمة الله وبركاته. فاني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله. أما بعد: فإني أرجو أن الله قد أدى لك، وأذن لك في ارتجاع حقك ممن استضعفك، وأن يعظم مننه عليك، وأن يجعلك الامام الوارث. ويري أعداك، ومن رغب عنك، منك ما كانوا يحذرون.. وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين، عبد الله الامام المأمون
[ 443 ]
ومني: على رد مظلمتك عليك، وإثبات حقوقك في يديك، والتخلي منها إليك، على ما أسال الله الذي وقف عليه: أن تبلغني ما أكون بها أسعد العالمين، وعند الله من الفائزين، ولحق رسول الله من المؤدين. ولك عليه من المعاونين، حتى أبلغ في توليتك ودولتك كلتا الحسنتين (1). فإذا أتاك كتابي - جعلت فداك - وأمكنك أن لا تضعه من يدك، حتى تسير إلى باب أمير المؤمنين، الذي يراك شريكا في أمره، وشفيعا في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده.. فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفا، وبملايكته محفوظا، وبكلاءته محروسا. وإن الله كفيل لك بكل ما يجمع حسن العائدة عليك، وصلاح الامة بك. وحسبنا الله ونعم الوكيل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.. وكتبت بخطي. (1) الظاهر انها: الحسنيين، لانها اقتباس من الآية الكريمة.. (*)
[ 444 ]
وثيقة ولاية العهد مصادر الوثيقة: نذكر من المصادر التي أوردت هذه الوثيقة، على سبيل المثال لا الحصر: القلقشندي في صبح الاعشى ج 9 من ص 362، إلى ص 366، وأكملها بذكر ما كتبه الرضا (ع) والشهود في نفس الجزء من 391 وحتى 393، وأوردها أيضا في مآثر الانافة في معالم الخلافة ج 2 من ص 325 حتى ص 336، وهي أيضا في شرح ميمية أبي فراس من 299 إلى 303، وفي نور الابصار 142، 143، وفي البحار ج 49 ص 148، إلى 153 ومسند الامام الرضا ج 1 قسم 1 من ص 102 إلى ص 107، والفصول المهمة لابن الصباغ ابتداء من ص 293. ووسيلة النجاة لمحمد مبين الهندي ابتداء من ص 387، طبع لكنهو، ورواها أيضا الكاشاني في معادن الحكمة، والشبراوي في الاتحاف بحب الاشراف مختصرا وابن شهر اشوب في مناقب آل أبي طالب، والاربلي في كشف الغمة، والسيد الامين في المجالس السنية، وأعيان الشيعة، وابن الجوزي في التذكرة، وذكر الاخيران إنها قد ذكرها عامة المؤرخين، وعن التفتازاني إن الوثيقة كانت موجودة في عهده، والاربلي أيضا يقول
[ 445 ]
بأنها كانت موجودة في عهده، وأنه في سنة سبعين وستماية اطلع على وثيقة العهد الاصلية، ونقلها في كتابه حرفا فحرفا.. وأشار إليها أيضا ابن الطقطقي في الفخري في الآداب السلطانية. وغير هؤلاء كثير. ونحن نذكر الوثيقة موافقة لما في صبح الاعشى، ومآثر الانافة، فنقول: نص الوثيقة: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد، أمير المؤمنين، لعلي بن موسى بن جعفر، ولي عهده. أما بعد: فإن الله عزوجل اصطفى الاسلام دينا، واصطفى من عباده رسلا دالين عليه، وهادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم. ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة الله إلى محمد صلى الله عليه وآله، على فترة من الرسل، ودروس من العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين، وجعله شاهدا لهم، ومهيمنا عليهم. وأنزل عليه كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، بما أحل وحرم، ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، وأمر به، ونهى عنه، لتكون له الحجة البالغة على خلقه، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم. فبلغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به: من الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة التي هي أحسن، ثم بالجهاد والغلظة،
[ 446 ]
حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده صلى الله عليه وآله، فلما انقضت النبوة، وختم الله بمحمد صلى الله عليه وآله الوحي والرسالة، جعل قوام الدين، ونظام أمر المسلمين بالخلافة، واتمامها وعزها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة، التي يقام بها فرائض الله تعالى وحدوده، وشرائع الاسلام وسننه، ويجاهد بها عدوه. فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم، ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبيل، وحقن الدماء، وصلاح ذات البين، وجمع الالفة، وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين، واختلالهم، واختلاف ملتهم، وقهر دينهم، واستعلاء عدوهم، وتفرق الكلمة، وخسران الدنيا والآخرة فحق على من استخلفه الله في أرضه، وائتمنه على خلقه، أن يجهد الله نفسه، ويؤثر ما فيه رضا الله وطاعته، ويعتد لما الله مواقفه عليه، ومسائله عنه، ويحكم بالحق، ويعمل بالعدل فيما أحله الله وقلده، فإن الله عزوجل يقول لنبيه داود: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ". وقال الله عزوجل: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ". وبلغنا أن عمر بن الخطاب قال: " لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات، لتخوفت أن يسألني الله عنها ". وأيم الله، إن المسؤول عن خاصة نفسه، الموقوف على عمله فيما بينه وبين الله، ليعرض على أمر كبير، وعلى خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الامة، وبالله الثقة. وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة، والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة، والفوز من الله بالرضوان والرحمة..
[ 447 ]
وأنظر الامة لنفسه، وأنصحهم لله في دينه وعباده، من خلائقه في أرضه، من عمل بطاعة الله وكتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله في مدة أيامه، وبعدها، وأجهد رأيه فيمن يوليه عهده، ويختاره لامامة المسلمين ورعايتهم بعده، وينصبه علما لهم. ومفزعا في جمع الفتهم. ولم شعثهم، وحقن دمائهم، والامن بإذن الله من فرقتهم. وفساد ذات بينهم واختلافهم، ورفع نزغ الشيطان وكيد عنهم، فإن الله عزوجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام الاسلام وكماله، وعزه، وصلاح أهله، وألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة، وشملت فيه العافية، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة، والسعي والفرقة، والتربص للفتنة. ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة، فاختبر بشاعة مذاقها، وثقل محملها، وشدة مؤونتها، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله، ومراقبته فيما حمله منها. فأنصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عز الدين، وقمع المشركين، وصلاح الامة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، ومنعه ذلك من الخفض والدعة، ومهنأ العيش، علما بما الله سائله عنه، ومحبة أن يلقى الله مناصحا له في دينه، وعباده، ومختارا لولاية عهده. ورعاية الامه من بعده: أفضل من يقدر عليه: في دينه وورعه، وعلمه، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقه، مناجيا بالاستخارة في ذلك. ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته، في آناء ليله ونهاره. معملا في طلبه والتماسه في أهل بيته: من ولد عبد الله بن العباس، وعلي بن أبي طالب فكره، ونظره. مقتصرا ممن علم حاله ومذهبه منهم على علمه، وبالغا في المسألة عمن خفي عليه أمره جهده وطاقته.. حتى استقصى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة، واستبرأ أحوالهم معاينة، وكشف ما عندهم مسألة، فكان خيرته بعد
[ 448 ]
استخارته الله، وإجهاده نفسه في قضاء حقه في عباده وبلاده في البيتين جميعا: علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد ابن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب لما رأى من فضله البارع، وعلمه النافع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخليه من الدنيا، وتسلمه من الناس.. وقد استبان له ما لم تزل الاخبار عليه متواطئة، والالسن عليه متفقة، والكلمة فيه جامعة، ولما لم يزل يعرفه به من الفضل: يافعا، وناشئا، وحدثا، ومكتهلا، فعقد له بالعقد والخلافة من بعده (1). واثقا بخيرة الله في ذلك. إذ علم الله أنه فعله إيثارا له، وللدين، ونظرا للاسلام والمسلمين، وطلبا للسلامة، وثبات الحجة، والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، ودعا أمير المؤمنين ولده، وأهل بيته، وخاصته، وقواده، وخدمه فبايعوا مسارعين مسرورين، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم. ممن هو أشبك منه رحما، وأقرب قرابة. وسماه " الرضا " (2) إذ كان رضا عند أمير المؤمنين (1) في بعض نسخ كشف الغمة في الهامش: أنه (ع) كتب بقلمه الشريف تحت قوله: " والخلافة من بعده " قوله: " بل جعلت فداك ". (2) في بعض نسخ كشف الغمة في الهامش: أنه (ع) كتب بقلمه الشريف تحت كلمة: " الرضا " قوله: " رضي الله عنك وأرضاك، واحسن في الدارين جزاك " وفي اخرى: أنه كتب تحت ذكر اسمه عليه السلام بقلمه الشريف: " وصلتك رحم، وجزيت خيرا "، وكتب بقلمه الشريف تحت الثناء عليه: " أثنى الله عليك فأجمل، وأجزل لديك الثواب فأكمل ". (*)
[ 449 ]
فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة، من قواده وجنده، وعامة المسلمين، لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده علي ابن موسى على اسمه وبركته، وحسن قضائه لدينه وعباده، بيعة مبسوطة إليها أيديكم، منشرحة لها صدوركم. عالمين بما أراد أمير المؤمنين، بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين بها: من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم وصلاحكم، راجين عائدة ذلك في جمع الفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم، وقوة دينكم، ورغم عدوكم، واستقامة أموركم. وسارعوا إلى طاعة الله، وطاعة أمير المؤمنين، فإنه الامن إن سارعتم إليه، وحمدتم الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله. وكتب بيده يوم الاثنين، لسبع خلون من شهر رمضان، سنة إحدى ومائتين. قال القلقشندي: " ثم إنه تقدم إلى علي بن موسى، وقال له: اكتب خطك بقبول هذا العهد، وأشهد الله، والحاضرين عليك بما تعده في حق الله، ورعاية المسلمين، فكتب علي الرضا تحته إلخ. ". صورة ما كان على ظهر العهد، بخط الامام علي بن موسى الرضا عليهما السلام بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الفعال لما يشاء، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الاعين، وما تخفي الصدور. وصلاته على نبيه محمد، خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين. أقول - وأنا علي بن موسى الرضا بن جعفر -: إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد، ووفقه للرشاد، عرف من حقنا ما جهله غيره،
[ 450 ]
فوصل أرحاما قطعت، وأمن أنفسا فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افتقرت، مبتغيا رضا رب العالمين، لا يريد جزاء من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر المحسنين.. وإنه جعل إلي عهده، وإلامرة الكبرى - إن بقيت - بعده، فمن حل عقدة أمر الله بشدها، وفصم عروة أحب الله إيثاقها، فقد أباح الله حريمه، وأحل محرمه، إذ كان بذلك زاريا على الامام، منتهكا حرمة الاسلام. بذلك جرى السالف، فصبر منه على الفلتات، ولم يعترض على العزمات، خوفا من شتات الدين، واضطراب حبل المسلمين، ولقرب أمر الجاهلية، ورصد فرصة تنتهز، وبايقة تبتدر.. وقد جعلت الله على نفسي، إن استرعاني أمر المسلمين، وقلدني خلافته: العمل فيهم عامة، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة بطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وأن لا أسفك دما حراما، ولا أبيح فرجا. ولا مالا، إلا ما سفكته حدود الله، وأباحته فرائضه. وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي، وجعلت بذلك على نفسي عهده مؤكدا، يسألني الله عنه، فإنه عزوجل يقول: " وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسؤولا ". وإن أحدثت، أو غيرت، أو بدلت، كنت للغير مستحقا، وللنكال متعرضا. وأعوذ بالله من سخطه. وإليه أرغب في التوفيق لطاعته، والحول بيني وبين معصيته، في عافية لي وللمسلمين. والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم. إن الحكم إلا لله، يقضي بالحق (1)، وهو خير الفاصلين.. (1) الظاهر أن الصواب هو " يقص الحق " كما في معالم الانافة (*)
[ 451 ]
لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله على نفسي بذلك، وكفى بالله شهيدا.. وكتبت بخطي، بحضرة أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، والفضل ابن سهل، وسهل بن الفضل، ويحيى بن اكثم، و عبد الله بن طاهر، وثمامة بن أشرس، وبشر بن المعتمر، وحماد بن النعمان، في شهر رمضان، سنة إحدى وماءتين. الشهود على الجانب الايمن: شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب، ظهره، وبطنه. وهو يسأل الله: أن يعرف أمير المؤمنين، وكافة المسلمين ببركة هذا العهد، والميثاق. وكتب بخطه في تاريخ المبين فيه.. عبد الله بن طاهر بن الحسين، أثبت شهادته فيه بتاريخه. شهد حماد بن النعمان بمضمونه: ظهره وبطنه، وكتب بيده في تاريخه بشر بن المعتمر يشهد بمثل ذلك. الشهود على الجانب الايسر: رسم أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه قراءة هذه الصحيفة. التي هي صحيفة الميثاق. نرجو أن نجوز بها الصراط، ظهرها وبطنها، بحرم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله، بين الروضة والمنبر، على رؤوس الاشهاد، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم، وساير الاولياء والاجناد، بعد استيفاء شروط البيعة عليهم، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على جميع
[ 452 ]
المسلمين، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين: " وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ". وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتاريخ فيه (1). إنتهى.. (1) وفي هامش نسخة مصححة قال: مصححها: " قال العبد الفقير إلى الله تعالى، الفضل بن يحيى عفى الله عنه: قابلت المكتوب الذي كتبه الامام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه، وعلى آبائه الطاهرين بأصله الذي كتبه الامام المذكور (ع) بيده الشريفة، حرفا فحرفا. والحقت ما فات منه، وذكرت أنه من خطه. وذلك يوم الثلاثاء، مستهل المحرم، من سنة تسع وتسعين وست مأة الهلالية بواسط، والحمد لله، وله المنة. " انتهى أقول: والذي الحقه هو ما قدمناه في هوامش الصفحات المتقدمة.. (*)
[ 453 ]
رسالة المأمون إلى العباسيين مصادر الكتاب: هذا الكتاب مذكور في طرائف ابن طاووس، الترجمة الفارسية من ص 131، إلى ص 135، نقلا عن كتاب نديم الفريد، لابن مسكويه، صاحب كتاب حوادث الاسلام.. وفي البحار للعلامة المجلسي ج 49 من ص 208 إلى ص 214، وفي قاموس الرجال ج 10 ص 356، إلى 360، وفي ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 484، 485 مختصرا، ونقل في الغدير ج 1 ص 212 قسما منه عن عبقات الانوار للهندي ج 1 ص 147، وأشار إليه غير واحد من المؤلفين. نص الكتاب: كتب العباسيون كتابا إلى المأمون، وطلبوا منه الاجابة عليه، فأجابهم بما يلي: " بسم الله الرحمن الرحيم: والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد. على رغم أنف الراغمين..
[ 454 ]
أما بعد: عرف المأمون كتابكم، وتدبير أمركم. ومخض زبدتكم. وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم، وعرفكم مقبلين ومدبرين، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم. في مراوضة الباطل، وصرف وجوه الحق عن مواضعها، ونبذكم كتاب الله والآثار، وكلما جاءكم به الصادق محمد (ع)، حتى كأنكم من الامم السالفة، التي هلكت بالخسفة، والغرق، والريح، والصيحة، والصواعق، والرجم.. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟. والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد، لولا أن يقول قائل: إن المأمون ترك الجواب عجزا لما أجبتكم، من سوء أخلاقكم، وقلة أخطاركم. وركاكة عقولكم، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم، فليستمع مستمع، فليبلغ شاهد غائبا.. أما بعد: فإن الله تعالى بعث محمدا على فترة من الرسل، وقريش في أنفسها، وأموالها، لا يرون أحدا يساميهم، ولا يباريهم، فكان نبينا صلى الله عليه وآله أمينا من أوسطهم بيتا، وأقلهم مالا، فكان أول من آمن به خديجة بنت خويلد، فواسته بمالها. ثم آمن به أمير المومنين علي بن أبي طالب سبع سنين، لم يشرك بالله شيئا طرفة عين، ولم يعبد وثنا، ولم يأكل ربا، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم، وكانت عمومة رسول الله إما مسلم مهين، أو كافر معاند، إلا حمزة فإنه لم يمتنع من الاسلام، ولا يمتنع الاسلام منه، فمضى لسبيله على بينة من ربه. وأما أبو طالب: فإنه كفله ورباه، ولم يزل مدافعا عنه، ومانعا منه، فلما قبض الله أبا طالب، فهم القوم، وأجمعوا عليه ليقتلوه،
[ 455 ]
فهاجر إلى القوم الذين تبؤوا الدار والايمان من قبلهم. يحبون من هاجر إليهم. ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. فلم يقم مع رسول الله صلى الله عليه وآله أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب (ع): فإنه آزره ووقاه بنفسه، ونام في مضجعه. ثم لم يزل بعد مستمسكا بأطراف الثغور، وينازل الابطال، ولا ينكل عن قرن، ولا يولي عن جيش، منيع القلب، يؤمر على الجميع، ولا يؤمر عليه أحد. أشد الناس وطأة على المشركين، وأعظمهم جهادا في الله، وأفقههم في دين الله، وأقرأهم لكتاب الله، وأعرفهم بالحلال والحرام، وهو صاحب الولاية في حديث " غدير خم " وصاحب قوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " وصاحب يوم الطائف، وكان أحب الخلق إلى الله تعالى، وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله. وصاحب الباب، فتح له، وسد أبواب المسجد. وهو صاحب الراية يوم خبير. وصاحب عمرو بن عبدود في المبارزة. وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله حين آخى بين المسلمين. وهو منيع جزيل. وهو صاحب آية: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا، ويتيما، وأسيرا ". وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وهو ختن خديجة (ع). وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، رباه وكفله. وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده. وهو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم المباهلة. وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفذان أمرا حتى يسألانه عنه، فما رأى إنفاذه أنفذاه، وما لم يراه رداه. وهو دخل من بني هاشم في
[ 456 ]
الشورى، ولعمري لو قدر أصحابه على دفعه (1) عنه (ع)، كما دفع العباس رضوان الله عليه، ووجدوا إلى ذلك سبيلا لدفعوه. فأما تقديمكم العباس عليه، فإن الله تعالى يقول: " أجعلتم سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله ". والله، لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل، والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل من رجالكم. أو غيره، لكان مستأهلا متأهلا للخلافة، مقدما على أصحاب رسول الله بتلك الخلة. ثم لم يزل الامور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين، فلم يعن بأحد من بني هاشم إلا بعبدالله بن عباس، تعظيما لحقه، ووصلة لرحمه، وثقة به، فكان من أمره الذي يغفر الله له.. ثم.. نحن وهم يد واحدة - كما زعمتم - حتى قضى الله تعالى بالامر إلينا، فأخفناهم. وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم.. ويحكم، إن بني أمية إنما قتلوا من سل منهم سيفا، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت بغداد والكوفة أحياء، هيهات، إنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.. وأما ما وصفتم في أمر المخلوع، وما كان فيه من لبس، فلعمري ما لبس عليه أحد غيركم، إذ هونتم عليه النكث، وزينتم له الغدر، وقلتم له: ما عسى أن يكون من أمر أخيك، وهو رجل مغرب، ومعك الاموال والرجال، نبعث إليه، فيؤتى به، فكذبتم، ودبرتم، (1) في الترجمة الفارسية هكذا: " على دفع علي (ع) عنها إلخ. ". (*)
[ 457 ]
ونسيتم قول الله تعالى: " ومن بغي عليه لينصرنه الله. ". وأما ما ذكرتم: من استبصار المأمون في البيعة لابي الحسن الرضا (ع)، فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره، عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلا، ولا أظهر عفة، ولا أورع ورعا، ولا أزهد زهدا في الدنيا، ولا أطلق نفسا، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه. وإن البيعة له لموافقة رضا الرب عزوجل. ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم. ولعمري، لو كانت بيعتي بيعة محاباة، لكان العباس ابني، وسائر ولدي أحب إلى قلبي، وأجلى في عيني، ولكن أردت أمرا، وأراد الله أمرا، فلم يسبق أمري أمر الله وأما ما ذكرتم: مما مسكم من الجفاء في ولايتي: فلعمري ما كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه، علي (خ د) وممايلتكم إياه، فلما قتلته وتفرقتم عباديد، فطورا أتباعا لابن أبي خالد، وطورا أتباعا لاعرابي، وطورا أتباعا لابن شكلة، ثم لكل من سل سيفا علي، ولولا أن شيمتي العفو، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحدا، فكلكم حلال الدم، محل بنفسه. وأما ما سألتم: من البيعة للعباس ابني.. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ ! ويلكم، إن العباس غلام حدث السن، ولم يؤنس رشده، ولم يمهل وحده، ولم تحكمه التجارب. تدبره النساء، وتكفله الاماء، ثم.. لم يتفقه في الدين، ولم يعرف حلال من حرام، إلا معرفة لا تأتي به رعية، ولا تقوم به حجة، ولو كان مستأهلا، قد أحكمته التجارب، وتفقه في الدين، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا، وصرف النفس عنها.. ما كان له عندي في الخلافة، إلا ما كان لرجل من عك وحمير، فلا تكثروا من هذا المقال، فإن لساني لم
[ 458 ]
يزل مخزونا عن أمور وأنباء، كراهية أن تخنث النفوس عندما تنكشف، علما بأن الله بالغ أمره، ومظهر قضاه يوما. فإذ أبيتم إلا كشف الغطاء، وقشر العظاء، فالرشيد أخبرني عن آبائه، وعما وجده في كتاب الدولة، وغيرها: أن السابع من ولد العباس، ولا تقوم لبني العباس بعده قائمة، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته، فإذا أودعت فودعها، فإذا أودع فودعاها، وإذا فقدتم شخصي، فاطلبوا لانفسكم معقلا، وهيهات، ما لكم إلا السيف، يأتيكم الحسني الثائر البائر، فيحصدكم حصدا، أو السفياني المرغم، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلا بحقها. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، واختيار مني له، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيئ بيسير ما يصيبهم منه. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم ولعقبكم، وانبائكم من بعدكم.. وأنتم ساهون، لاهون، تائهون، في غمرة تعمهون، لا تعلمون ما يراد بكم، وما أظللتم عليه من النقمة، وابتزاز النعمة. همة أحدكم أن يمسي مركوبا، ويصبح مخمورا تباهون بالمعاصي، وتبتهجون بها، وآلهتكم البرابط، مخنثون. مؤنثون لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة، ولا استدامة نعمة، ولا اصطناع مكرمة، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أضعتم الصلاة، واتبعتم الشهوات، واكببتم على اللذات، فسوف تلقون غيا. وأم الله، لربما أفكر في أمركم. فلا أجد أمة من الامم استحقوا
[ 459 ]
العذاب، حتى نزل بهم لخلة من الخلال، إلا أصيب تلك الخلة بعينها فيكم، مع خلال كثيرة، لم أكن أظن أن إبليس اهتدى إليها، ولا أمر بالعمل بها. وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح: أنه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون، فأيكم ليس معه تسعة وتسعون من المفسدين في الارض، قد اتخذتموهم شعارا، ودثارا، استخفافا بالمعاد، وقلة يقين بالحساب، وأيكم له رأي يتبع، أو روية تنفع، فشاهت الوجوه، وعفرت الخدود. وأما ما ذكرتم: من العثرة كانت في أبي الحسن (ع) نور الله وجهه، فلعمري، إنها عندي للنهضة والاستقلال الذي أرجو به قطع الصراط، والامن والنجاة من الخوف يوم الفزع الاكبر. ولا أظن عملا هو عندي أفضل من ذلك، إلا أن أعود بمثلها إلى مثله، وأين لي بذلك، وأنى لكم بتلك السعادة. وأما قولكم: إني سفهت آراء آبائكم، وأحلام أسلافكم، فكذلك قال مشركوا قريش: " إنا وجدنا آباءنا على أمة. وإنا على آثارهم مقتدون ". ويلكم، إن الدين لا يؤخذ إلا من الانبياء، فافقهوا، وما أراكم تعقلون. وأما تعييركم إياي: بسياسة المجوس إياكم، فما أذهبكم الانفة (1) من ذلك، ولو ساستكم القردة والخنازير، وما أردتم إلا أمير المؤمنين. ولعمري، لقد كانوا مجوسا فأسلموا، كآبائنا، وأمهاتنا في القديم، فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدوا، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد، فهم يتناهون عن المنكر، ويأمرون بالمعروف، ويتقربون من الخير، ويتباعدون من الشر، ويذبون عن حرم المسلمين، (1) الظاهر أن الصواب: " فما أذهبكم عن الانفة ". (*)
[ 460 ]
يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر، ويتباشرون بما نال الاسلام وأهله من الخير.. منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا. وليس منكم إلا لاعب بنفسه، مأفون في عقله وتدبيره: إما مغن، أو ضارب دف، أو زامر. والله، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالامس نشروا، فقيل لهم: لا تأنفوا من معائب تنالوهم بها، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا، وصناعة وأخلاقا.. ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع، وإذا مسه الخير منع، ولا تأنفون، ولا ترجعون إلا خشية، وكيف يأنف من يبيت مركوبا، ويصبح باثمه معجبا، كأنه قد اكتسب حمدا، غايته بطنه وفرجه، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل، أو ملك مقرب، أحب الناس إليه من زين له معصية، أو أعانه في فاحشة، تنظفه المخمورة، وتربده المطمورة، فشتت الاحوال.. فإن ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح. وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم.. وإلا فدونكم تعلوا بالحديد.. ولا قوة إلا بالله، وعليه توكلي، وهو حسبي ".
[ 461 ]
رسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون النص الاول للرسالة: قال أبو الفرج الاصفهاني، صاحب كتاب " الاغاني "، في كتابه: مقاتل الطالبيين ص 630، 631، في معرض حديثه عن عبد الله بن موسى، بن عبد الله بن الحسن، بن علي بن أبي طالب (ع)، الذي كان قد توارى في أيام المأمون: ". وأخبرني جعفر بن محمد الوراق الكوفي، قال: حدثني عبد الله بن علي بن عبيدالله العلوي الحسيني، عن أبيه، قال: كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى، وهو متوار منه، يعطيه الامان، ويضمن له: أن يوليه العهد بعده، كما فعل بعلي بن موسى، ويقول: ".. ما ظننت أن أحدا من آل أبي طالب يخافني، بعدما عملته بالرضا.. ". وبعث الكتاب إليه. فكتب إليه عبد الله بن موسى: ". وصل كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي.
[ 462 ]
وعجبت من بذلك العهد، وولايته لي بعدك، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا ! ففي أي شئ ظننت أني أرغب من ذلك ؟ !. أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته ؟ !. فوالله، لان أقذف - وأنا حي - في نار تتأجج أحب إلي من أن ألي أمرا بين المسلمين، أو أشرب شربة من غير حلها، مع عطش شديد قاتل.. أم في العنب المسموم، الذي قتلت به الرضا ؟ !. أم ظننت أن الاستتار قد أملني، وضاق به صدري ؟ !. فوالله، إني لذلك، ولقد مللت الحياة، وأبغضت الدنيا، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك، حتى تبلغ من قبلي مرادك. لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر علي المخاطرة بدمي. وليتك قدرت علي، من غير أن أبذل نفسي لك. فتقتلني، ولقيت الله عزوجل بدمي، ولقيته قتيلا مظلوما، فاسترحت من هذه الدنيا. واعلم: أني رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عزوجل عني، وفي عمل أتقرب به إليه، فلم أجد رأيا يهدي إلى شئ من ذلك. فرجعت إلى القرآن. الذي فيه الهدى والشفاء، فتصفحته سورة سورة، وآية آية، فلم أجد شيئا أزلف للمرء عند ربه، من الشهادة في طلب مرضاته. ثم تتبعته ثانية، أتأمل الجهاد أيه أفضل، ولاي صنف، فوجدته جل وعلا يقول: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة " فطلبت أي الكفار أضر على الاسلام. وأقرب من موضعي، فلم أجد أضر على الاسلام منك، لان الكفار أظهروا كفرهم، فاستبصر الناس في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم. وأنت ختلت المسلمين بالاسلام، وأسررت الكفر، فقتلت بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت مال الله من غير حله، فأنفقته في غير حله، وشربت الخمر المحرمة صراحا،
[ 463 ]
وأنفقت مال الله على الملهين، وأعطيته المغنين، ومنعته من حقوق المسلمين، فغششت بالاسلام. وأحطت بأقطاره إحاطة أهله، وحكمت فيه للمشرك، وخالفت الله ورسوله في ذلك، خلافة المضاد المعاند، فان يسعدني الدهر، ويعني الله عليك بأنصار الحق، أبذل نفسي في جهادك، بذلا يرضيه مني، وان يمهلك ويؤخرك، ليجزيك بما تستحقه في منقلبك، أو تختر مني الايام قبل ذلك. فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عزوجل من نيتي، والسلام ". وثمة نص آخر: وكان أبو الفرج قد ذكر قبل ذلك أي في ص 628، 629 من نفس الكتاب نصا آخر هو إما رسالة أخرى. أو نص آخر لهذه الرسالة نفسها.. والظاهر أنه رسالة اخرى.. وكيف كان فقد قال أبو الفرج: " وكان عبد الله توارى في أيام المأمون، فكتب بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور، ليجعله مكانه، ويبايع له، واعتد عليه بعفوه عمن عفا من أهله، وما أشبه هذا من القول: فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها: فبأي شئ تغرني ؟ ما فعلته بأبي الحسن - صلوات الله عليه - بالعنب الذي أطعمته إياه فقتلته. والله، ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت، ولا كراهة له، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي، ولولا ذلك لاتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة. ويقول فيها: هبني لا ثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا، الآخذين حقنا،
[ 464 ]
الذين جاهروا في أمرنا فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر لمحننا، تختل واحدا فواحدا منا، ولكنني كنت امرءا حبب إلي الجهاد، كما حبب إلى كل امرئ بغيته، فشحذت سيفي، وركبت سناني على رمحي، واستفرهت فرسي، لم أدر أي العدو أشد ضررا على الاسلام، فعلمت أن كتاب الله يجمع كل شئ، فقرأته، فإذا فيه: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة ". فما أدري من يلينا منهم، فأعدت النظر، فوجدته يقول: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم " فعلمت أن علي أن أبدأ بما قرب مني.. وتدبرت، فإذا أنت أضر على الاسلام والمسلمين من كل عدو لهم، لان الكفار خرجوا منه، وخالفوه، فحذرهم الناس، وقاتلوهم، وأنت دخلت فيه ظاهرا، فأمسك الناس. وطفقت تنقض عراه عروة عروة، فأنت أشد أعداء الاسلام ضررا عليه.. ".. ثم قال أبو الفرج: وهي رسالة طويلة أتينا بها في الكتاب الكبير..
[ 465 ]
رسالة سفيان إلى هارون مصادر الرسالة: ذكر هذه الرسالة الدميري في حياة الحيوان ج 2 ص 188، 189، نقلا عن ابن بليان، والامام الغزالي، ودحلان في الفتوحات الاسلامية ط مصطفى محمد ج 2 ص 449 حتى 453. وأشار إليها ابن خلدون في مقدمته، ص 17 مستدلا بها على تدين الرشيد والتزامه.. وذكر جرجي زيدان شطرا منها في كتابه: تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الاول، جزء 2 ص 385، 386، والمجلد الثاني جزء 4 ص 480، ونحن نذكرها هنا عن الدميري مع بعض تعديلات عن دحلان. مناقشة لا بد منها: ولكن الرسالة تذكر أن الذي كاتبه الرشيد، والمجيب له هو سفيان الثوري.. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحا، فان سفيان قد توفي في خلافة المهدي متخفيا، في سنة 161 ه‍، وهارون لم يتول الخلافة إلا في سنة 170 ه‍.
[ 466 ]
ولعل الصواب: هو أن مرسلها هو: إمام مكة سفيان بن عيينة، المتوفى سنة 198 ه‍. عن إحدى وتسعين سنة. ولعل الراوي قد اشتبه عليه الامر، عفوا، أو عمدا ! لحاجة في نفسه قضاها. وأياما كانت الحقيقة، فإن هذه الرسالة تعتبر وثيقة تاريخية هامة، لانها تصور لنا حقيقة الوضع في تلك الفترة من الزمن.. وتعطينا شأنها شأن رسالة الخوارزمي، ورسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون صورة واضحة عما كان يمارسه خلفاء ذلك الوقت من مآثم، وما يرتكبونه من موبقات.. نص الرسالة: وملخص حكاية هذه الرسالة هي: أن الرشيد أرسل إلى سفيان الثوري ! - وقد قلنا: إن الظاهر: أنه ابن عيينة - كتابا يتودد إليه فيه، ويطلب منه أن يقدم عليه. فلما وصل الكتاب إلى سفيان، رماه من يده، وقال لاخوانه: ليقرأه بعضكم، فإني أستغفر الله أن أمس شيئا مسه ظالم. فلما قرءوه، أمرهم أن يكتبوا إلى الظالم في الجواب ما يلي: " من العبد الميت سفيان، إلى العبد المغرور بالآمال هارون، الذي سلب حلاوة الايمان، ولذة قراءة القرآن. أما بعد: فإني كتبت إليك أعلمك: أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودك، وقليت موضعك، وأنك جعلتني شاهدا عليك، بإقرارك على نفسك في كتابك: بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه،
[ 467 ]
وأنفذته بغير حكمه، ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك، فأما أنا فإني قد شهدت عليك، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم العدل.. يا هارون، هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم. هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل ؟ أم رضي بذلك حملة القرآن، وأهل العلم ؟ ! أم رضي بفعلك الايتام والارامل ؟ !. أم رضي بذلك خلق من رعيتك ؟ !. فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جوابا، وللبلاء جلبابا، واعلم أنك ستقف بين يدي الله الحكم العدل، فاتق الله في نفسك، إذا سلبت حلاوة العلم والزهد، ولذة قراءة القرآن. ومجالسة الاخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالما، وللظالمين إماما. يا هارون، قعدت على السرير، ولبست حرير، وأسبلت سترا دون بابك. وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون. ويشربون الخمر، ويحدون الشارب، ويزنون، ويحدون الزاني، ويسرقون، ويقطعون السارق. ويقتلون، ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الاحكام عليك، وعليهم، قبل أن يحكموا بها على الناس ؟ ! فكيف بك يا هارون غدا، إذا نادى المنادي من قبل الله: احشروا الظلمة. وأعوانهم أين الظلمة، وأعوان الظلمة، فتقدمت بين يدي الله، ويداك مغلولتان إلى عنقك، لا يفكهما إلا عدلك وانصافك، والظالمون حولك، وأنت لهم إمام، أو سائق إلى النار.
[ 468 ]
وكأني بك يا هارون.. وقد أخذت بضيق الخناق، ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك، بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيتك. واحفظ محمدا صلى الله عليه وآله في أمته. واعلم أن هذا الامر لم يصر إليك. إلا وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها، واحدا بعد واحد، فمنهم من تزود زادا نفعه، ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته. وإياك، ثم إياك أن تكتب إلي بعد هذا، فإني لا أجيبك.. والسلام. ". ثم بعث بالكتاب منشورا، من غير طي، ولا ختم..
[ 469 ]
قصيدة الامير أبي فراس الحمداني نقاط رئيسية: كنت قد وعدت القارئ الكريم في فصل: سياسة العباسيين ضد العلويين، بأن أورد في أواخر هذا الكتاب قصيدة الامير أبي فراس الحمداني المعروفة ب‍: " الشافية ". وقد حان الآن موعد الوفاء بذلك الوعد. وقبل ذلك، لا بأس بالاشارة إلى: أن أبا فراس قد ولد في سنة 320 ه‍. وتوفي في سنة 357 ه‍. عليه الرحمة والرضوان.. وفي زمانه: كان بنو العباس الخلفاء، وآل بويه السلاطين، وآل حمدان الامراء. ولاء. وشجاعة: وأما عن سبب نظم هذه القصيدة، فهو أن أبا فراس وقف على قصيدة ابن سكرة، التي يتحامل فيها على العلويين، والتي أولها:
[ 470 ]
بني علي دعوا مقالتكم * لا ينقص الدر وضع من وضعه فحمي أبو فراس، ونظم هذه القصيدة، التي سارت بها الركبان، ودخل بغداد، وأمر أن يشهر في المعسكر خمسمأة سيف، وقيل: أكثر من ذلك.. ثم أنشد هذه القصيدة، وخرج من الناحية الاخرى (1) وقد شرح هذه القصيدة عدد من الادباء والعلماء منهم ابن خالويه، ومنهم محمد بن أمير الحاج حسيني. والقصيدة هي: الدين مخترم والحق مهتضم * وفيئ آل رسول الله مقتسم والناس عندك لا ناس فيحفظهم * سوم الرعاع ولا شاء ولا نعم إني أبيت قليل النوم أرقني * قلب تصارع فيه الهم والهمم وعزمة لا ينام الدهر صاحبها * إلا على ظفر في طيه كرم يصان مهري لامر لا أبوح به * والدرع والرمح والصمصامة الخذم وكل مائرة الضبعين مسرحها * رمث الجزيرة والحذراف والعنم وفتية قلبهم قلب إذا ركبوا * يوما ورأيهم رأي إذا عزموا * * * يا للرجال أما لله منتصر * من الطغاة، أما للدين منتقم بنو علي رعايا في ديارهم * والامر تملكه النسوان والخدم (1) راجع: شرح الشافية، لمحمد بن أمير حاج حسيني ص 6، وقاموس الرجال ج 10. ص 157، ورجال المامقاني ج 3 ص 30 من باب الكنى، ورجال أبي علي ص 349، والغدير ج 3 ص 403، والكنى والالقاب ج 1 ص 137، والفتوني في كشكوله، وغير ذلك. (*)
[ 471 ]
محلاون فأصفى وردهم وشل * عند الورود وأوفى شربهم لمم فالارض إلا على ملاكها سعة * والمال إلا على أربابه ديم فما السعيد بها إلا الذي ظلموا * وما الشقي بها إلا الذي ظلموا للمتقين من الدنيا عواقبها * وإن تعجل فيها الظالم الاثم * * * لا يطغين بني العباس ملكهم * بنو علي مواليهم، وإن رغموا أتفخرون عليهم لا أبا لكم * حتى كأن رسول الله جدكم وما توازن يوما بينكم شرف * ولا تساوت لكم في موطن قدم ولا لكم مثلهم في المجد متصل * ولا لجدكم مسعاة جدهم ولا لعرقكم من عرقهم شبه * ولا نثيلتكم من أمهم أمم * * * قال النبي بها " يوم الغدير " لهم * والله يشهد، والاملاك، والامم حتى إذا أصبحت في غير صاحبها * باتت تنازعها الذؤبان والرخم وصيروا أمرهم شورى كأنهم * لا يعلمون ولاة الحق أيهم تالله ما جهل الاقوام موضعها * لكنهم ستروا وجه الذي علموا * * * ثم ادعاها بنو العباس ملكهم * وما لهم قدم فيها، ولا قدم لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا * ولا يحكم في أمر لهم حكم ولا رآهم أبو بكر وصاحبه * أهلا لما طلبوا منها وما زعموا فهل هم يدعوها غير واجبة * أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا
[ 472 ]
أما علي فقد أدنى قرابتكم * عند الولاية إن لم تكفر النعم أينكر الحبر عبد الله نعمته * أبوكم، أم عبيدالله، أم قثم بئس الجزاء جزيتم في بني حسن * أباهم العلم الهادي، وأمهم لا بيعة ردعتكم عن دمائهم * ولا يمين، ولا قربى ولا ذمم هلا صفحتم عن الاسرى بلا سبب * للصافحين ببدر عن أسيركم هلا كففتم عن الديباج سوطكم * وعن بنات رسول الله شتمكم ما نزهت لرسول الله مهجته * عن السياط فهلا نزه الحرم ما نال منهم بنو حرب وان عظمت * تلك الجرائر إلا دون نيلكم * * * كم غدرة لكم في الدين واضحة * وكم دم لرسول الله عندكم أأنتم آله فيما ترون وفي * أظفاركم من بنيه الطاهرين دم هيهات لا قربت قربى. ولا رحم * يوما إذا أقصت الاخلاق والشيم كانت مودة سلمان لهم رحما * ولم تكن بين نوح وابنه رحم * * * يا جاهدا في مساويهم يكتمها * غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتم ذاق الزبيري عبء الحنث وانكشفت * عن ابن فاطمة الاقوال والتهم ليس الرشيد كموسى في القياس ولا * مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم (1) باؤا بقتل الرضا من بعد بيعته * وأبصروا بعض يوم رشدهم وعموا يا عصبة شقيت من بعد ما سعدت * ومعشر هلكوا من بعد ما سلموا لبئسما لقيت منهم وان بليت * بجانب الطف تلك الاعظم الرمم (1) كان هذا البيت مقدما على الذي قبله في بعض مصادر هذه القصيدة. لكن الصواب تأخيره، ليتحد السياق، وينسجم المعنى.. (*)
[ 473 ]
لا عن أبي مسلم في نصحه صفحوا * ولا الهبيري نجى الحلف والقسم ولا الامان لاهل الموصل اعتمدوا * فيه الوفاء، ولا عن غيهم حلموا * * * أبلغ لديك بني العباس مألكة * لا تدعوا ملكها ملاكها العجم أي المفاخر أمست في منابركم * وغيركم آمر فيها، ومحتكم أنى يفيدكم في مفخر علم * وفي الخلاف عليكم يخفق العلم يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم * لمعشر بيعهم يوم الهياج دم خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا * يوم السؤال، وعمالين إن علموا لا يغضبون لغير الله إن غضبوا * ولا يضيعون حكم الله إن حكموا تنشى التلاوة في أبياتهم سحرا * وفي بيوتكم الاوتار والنغم إذا تلوا آية غني إمامكم: * قف بالديار التي لم يعفها قدم منكم علية أم منهم، وكان لكم * شيخ المغنين ابراهيم، أم لهم * * * ما في بيوتهم للخمر معتصر * ولا بيوتهم للشر معتصم ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم * ولا يرى لهم قرد له حشم * * * الركن، والبيت، والاستار منزلهم * وزمزم، والصفا، والحجر، والحرم
[ 473 ]
لا عن أبي مسلم في نصحه صفحوا * ولا الهبيري نجى الحلف والقسم ولا الامان لاهل الموصل اعتمدوا * فيه الوفاء، ولا عن غيهم حلموا * * * أبلغ لديك بني العباس مألكة * لا تدعوا ملكها ملاكها العجم أي المفاخر أمست في منابركم * وغيركم آمر فيها، ومحتكم أنى يفيدكم في مفخر علم * وفي الخلاف عليكم يخفق العلم يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم * لمعشر بيعهم يوم الهياج دم خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا * يوم السؤال، وعمالين إن علموا لا يغضبون لغير الله إن غضبوا * ولا يضيعون حكم الله إن حكموا تنشى التلاوة في أبياتهم سحرا * وفي بيوتكم الاوتار والنغم إذا تلوا آية غني إمامكم: * قف بالديار التي لم يعفها قدم منكم علية أم منهم، وكان لكم * شيخ المغنين ابراهيم، أم لهم * * * ما في بيوتهم للخمر معتصر * ولا بيوتهم للشر معتصم ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم * ولا يرى لهم قرد له حشم * * * الركن، والبيت، والاستار منزلهم * وزمزم، والصفا، والحجر، والحرم وليس من قسم في الذكر نعرفه * إلا وهم دون شك ذلك القسم وبذلك ينتهي هذا الكتاب، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين.. جعفر مرتضى الحسيني العاملي