عون المعبود
العظيم آبادي ج 10

[ 1 ]
عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي مع شرح الحافظ شمس الدين ابن قيم الجوزية محتوى الجزء العاشر : تتمة كتاب القضاء - كتاب العلم - كتاب الاشربة - كتاب الاطعمة - كتاب الطب - كتاب الكهانة ، والتطير - كتاب العقيق . .
[ 2 ]
الطبعة الثانية 1415 ه‍ . 1995 دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
[ 3 ]
13 في الشهادات (بخير الشهداء) جمع شهيد (أو يخبر بشهادته) شك من الراوي (قبل أن يسألها) بصيغة المجهول أي قبل أن تطلب منه الشهادة قال النووي فيه تأويلان أصحهما وأشهرهما تأويل مالك وأصحاب الشافعي أنه محمول على من عنده شهادة لإنسان بحق ولا يعلم ذلك الإنسان أنه شاهد ويأتي إليه فيخبره بأنه شاهد له لأنها أمانة له عنده والثاني أنه محمول على شهادة الحسبة في غير حقوق الآدميين كالطلاق والعتق والوقف والوصايا العامة والحدود ونحو ذلك فمن علم شيئا من هذا النوع وجب عليه رفعه إلى القاضي وإعلامه به قال تعالى وأقيموا الشهادة لله كذا في المرقاة (أيتهما قال) أي أبو بكر والد عبد الله أي قال كلمة يأتي بشهادته أو قال كلمة يخبر بشهادته قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (قال مالك) في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها (ولا يعلم بها) أي بشهادته (الذي هي له) فاعل لا
[ 4 ]
يعلم أي لا يعلم بشهادته الرجل الذي الشهادة له قال ابن عبد البر قال ابن وهب قال مالك تفسير هذا الحديث أن الرجل يكون عنده شهادة في الحق لرجل لا يعلمها فيخبره بشهادته ويرفعها إلى السلطان زاد يحيى بن سعيد إذا علم أنه ينتفع بها الذي له الشهادة وهذا لأن الرجل ربما نسي شاهده فظل مغموما لا يدري من هو فإذا أخبره الشاهد بذلك فرج كربه وفي الحديث من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ولا يعارض هذا حديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها لأن النخعي قال معنى الشهادة هنا اليمين أي يحلف قبل أن يستحلف واليمين قد تسمى شهادة قال تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انتهى كلامه قال المنذري وقال غيره هذا في الأمانة والوديعة تكون لليتيم لا يعلم بها بمكانها غيره فيخبر بما يعلم من ذلك وقيل هذا مثل في سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد لا يمنعها ولا يؤخرها كما يقال الجواد يعطي قبل سؤاله عبارة عن حسن عطائه وتعجيله وقال الفارسي قال العلماء إنما هي في شهادته الحسبة وإذا كان عنده علم لو لم يظهره لضاع حكم من أحكام الدين وقاعدة من قواعد الشرع فأما في شهادات الخصوم فقد ورد الوعيد في من يشهد ولا يستشهد لأن وقت الشهادة على الأحكام إنما يدخل إذا جرت الخصومة بين المتخاصمين وأيس من الإقرار واحتيج إلى البينة فحينئذ يدخل وقت الشهادة بهذا الوجه وفي هذا الحديث انتهى كلام المنذري 14 في الرجل يعين على خصومه إلى إلخ (من حالت) من الحيلولة أي حجبت (شفاعته دون حد) أي عنده والمعنى من منع بشفاعته حدا قال الطيبي أي قدام حد فيحجز عن الحد بعد وجوبه عليه بأن بلغ الإمام (فقد ضاد الله) أي خالف أمره لأن أمره إقامة الحدود قاله القاري وقال في فتح الودود أي
[ 5 ]
حاربه وسعى في ضد ما أمر الله به (ومن خاصم) أي جادل أحدا (في باطل وهو يعلمه) أي يعلم أنه باطل أو يعلم نفسه أنه على الباطل أو يعلم أن خصمه على الحق أو يعلم الباطل أي ضده الذي هو الحق ويصر عليه (حتى ينزع عنه) أي يترك وينتهي عن مخاصمته يقال نزع عن الأمر نزوعا إذا انتهى عنه (ما ليس فيه) أي من المساوئ (ردغة الخبال) قال في النهاية بفتح الراء وسكون الدال المهملة وفتحها هي طين ووحل كثير وجاء تفسيرها في الحديث أنها عصارة أهل النار وقال في حرف الخاء الخبال في الأصل الفساد وجاء تفسيره في الحديث أن الخبال عصارة أهل النار قلت فالإضافة في الحديث للبيان وقال في فتح الودود قلت والأقرب أن يراد بالخبال العصارة والردغة الطين الحاصل باختلاط العصارة بالتراب انتهى (حتى يخرج مما قال) قال القاضي وخروجه مما قال أن يتوب عنه ويستحل من المقول فيه وقال الأشرف ويجوز أن يكون المعنى أسكنه الله ردغة الخبال ما لم يخرج من إثم ما قال فإذا خرج من إثمه أي إذا استوفى عقوبة إثمه لم يسكنه الله ردغة الخبال بل ينجيه الله تعالى منه ويتركه قال الطيبي حتى على ما ذهب إليه القاضي غاية فعل المغتاب فيكون في الدنيا فيجب التأويل في قوله أسكنه ردغة الخبال بسخطه وغضبه الذي هو سبب في إسكانه ردغة الخبال كذا في المرقاة والحديث سكت عنه المنذري (من أعان على خصومة بظلم) في معنى ذلك ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أوس بن شرحبيل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام (فقد باء) أي انقلب ورجع قال المنذري في إسناده مطر بن طهمان الوراق قد ضعفه غير واحد وفيه أيضا المثنى بن يزيد الثقفي وهو مجهول
[ 6 ]
15 (في شهادة الزور بضم الزاي وسكون الواو الكذب (عن خريم) بضم خاء معجمة وفتح راء وسكون ياء (ابن فاتك) بفاء بعدها ألف فتاء مثناة فوقية مكسورة (فلما انصرف) أي عن الصلاة (قام قائما) أي وقف حال كونه قائما أو قام قياما قال الطيبي هو اسم الفاعل أقيم مقام المصدر وقد تقرر في علم المعاني أن في العدول عن الظاهر لا بد من نكتة فإذا وضع المصدر موضع اسم الفاعل نظر إلى أن المعنى تجسم وانقلب ذاتا وعكسه في عكسه وكأن قيامه صلى الله عليه وسلم صار قائما على الإسناد المجازي كقولهم نهاره صائم وليله قائم وذلك يدل على عظم الشأن ما قام له وتجلد وتشمر بسببه (عدلت) بضم أوله (شهادة الزور) أي شهادة الكذب (بالإشراك بالله) أي جعلت الشهادة الكاذبة مماثلة للاشراك بالله في الإثم لأن الشرك كذب على الله بما لا يجوز وشهادة الزور كذب على العبد بما لا يجوز وكلاهما غير واقع في الواقع قاله القاري وقال الطيبي وإنما ساوى قول الزور الشرك لأن الشرك من باب الزور فإن المشرك زاعم أن الوثن يحق العبادة (ثلاث مرات) أي قاله ثلاث مرات (ثم قرأ) أي استشهادا (من الأوثان) من بيانية أي النجس الذي هو الأصنام (واجتنبوا قول الزور) أي قول الكذب الشامل لشهادة الزور قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي وهذا عندي أصح وخريم بن فاتك له صحبة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وهو مشهور وأخرجه الترمذي أيضا من حديث أيمن بن خريم بن فاتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد يعني حديث خريم بن فاتك ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم هذا آخر كلامه وذكر غيره أن له صحبة وأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين اختلف في أحدهما
[ 7 ]
ورجح يحيى بن معين حديث خزيم بن فاتك كما ذكره الترمذي رضي الله عنهم وخريم بضم الخاء المعجمة وبعدها راء مهملة مفتوحة وياء آخر الحروف ساكنة وميم انتهى كلام المنذري 16 من ترد شهادته (رد شهادة الخائن والخائنة) صرح أبو عبيد بأن الخيانة تكون في حقوق الله كما تكون في حقوق الناس من دون اختصاص (وذي الغمر) بكسر الغين المعجمة وسكون الميم أي الحقد والعداوة (على أخيه) أي المسلم فلا تقبل شهادة عدو على عدو سواء كان أخاه من النسب أو أجنبيا (ورد شهادة القانع لأهل البيت) قال المظهر القانع السائل المقتنع الصابر بأدنى قوت والمراد به ها هنا أن من كان في نفقة أحد كالخادم والتابع لا تقبل شهادته له لأنه يجر نفعا بشهادته إلى نفسه لأن ما حصل من المال للمشهود له يعود إلى الشاهد لأنه يأكل من نفقته ولذلك لا تقبل شهادة من جر نفعا بشهادته إلى نفسه كالوالد يشهد لولده أو الولد لوالده أو الغريم يشهد بمال للمفلس على أحد وتقبل شهادة أحد الزوجين لآخر خلافا لأبي حنيفة وأحمد وتقبل شهادة الأخ لأخيه خلافا لمالك انتهى قال الخطابي ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن ترد شهادة الزوج لزوجته لأن ما بينهما من التهمة في جر المنفعة أكبر وإلى هذا ذهب أبو حنيفة والحديث أيضا حجة على من أجاز شهادة الأب لأبنه انتهى (وأجازها) أي شهادة القانع (لغيرهم) أي لغير أهل البيت لانتفاء التهمة (قال أبو داود الغمر الحقد) وفي بعض النسخ الحنة وهي بكسر الحاء المهملة وتخفيف النون المفتوحة لغة في إحنة وهي الحقد (والشحناء) بالمد العداوة (والقانع الأجير التابع مثل الأجير الخاص) هذه العبارة ليست في بعض النسخ قال الخطابي القانع السائل والمستطعم وأصل القنوع السؤال ويقال في القانع إنه
[ 8 ]
المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم وذلك مثل الوكيل والأجير ونحوه انتهى قال المنذري وأخرجه ابن ماجه والغمر بكسر الغين المعجمة وسكون الميم وبعدها راء مهملة (ولازان ولا زانية) المانع من قبول شهادتهما الفسق الصريح (ولا ذي غمر على أخيه) فإن قيل لم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة قال ابن رسلان قلنا العداوة ها هنا دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور بخلاف العداوة الدنيوية قال وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور وقال أبو حنيفة لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخل بالعدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة انتهى قال في النيل والحق عدم قبول شهادة العدو على عدوه لقيام الدليل على ذلك والأدلة لا تعارض بمحض الآراء انتهى 17 شهادة البدوي على أهل الأمصار كان (لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية) البدوي هو الذي يسكن البادية في المضارب والخيام ولا يقيم فموضع خاص بل يرتحل من مكان إلى مكان وصاحب القرية هو الذي يسكن القرى وهي المصر الجامع قال في النهاية إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها قال الخطابي يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من عدم العلم بإتيان الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يغيرها عن وجهها وكذلك قال أحمد وذهب إلى العمل بالحديث جماعة من أصحاب أحمد وبه قال مالك وأبن عبيد
[ 9 ]
وذهب الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم كذا في النيل قال المنذري وأخرجه ابن ماجه ورجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه وقال البيهقي وهذا الحديث مما تفرد أبو به محمد بن عمرو بن عطاء عن عطاء بن يسار فإن كان حفظه فقد قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من عدم العلم بإتيان الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عن ما تحملها وتغيرها عن جهتها والله أعلم 18 الشهادة على الرضاع (وحدثنيه) عطف على حدثني عقبة وقائلهما ابن أبي مليكة (صاحب لي) اسمه عبيد كما في الرواية التالية (عنه) أي عن عقبة بن الحارث والحاصل أن ابن أبي مليكة روى الحديث عن عقبة بن الحارث بلا واسطة ورواه عنه بواسطة عبيد (بنت أبي إهاب) بكسر الهمزة وآخره باء موحدة (فزعمت) أي قالت (إنها أرضعتنا جميعا) يعني نفسه وزوجته أم يحيى (وقد قالت) أي تلك المرأة السوداء والواو للحال (ما قالت) من أنها أرضعتكما (دعها) أي اتركها قال في السبل والحديث دليل على أن شهادة المرضعة وحدها تقبل وإليه ذهب ابن عباس وجماعة من السلف وأحمد بن حنبل وقال أبو عبيد يجب على الرجل المفارقة ولا يجب على الحاكم الحكم بذلك وقال مالك إنه لا يقبل في الرضاع إلا امرأتان وذهب الحنفية إلى أن الرضاع كغيره لا بد من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ولا تكفي شهادة المرضعة لأنها تقرر فعلها وقال الشافعي تقبل المرضعة مع ثلاث نسوة بشرط أن لا تعرض بطلب أجرة قالوا وهذا الحديث محمول على الاستحباب والتحرز عن مظان الاشتباه وأجيب بأن هذا
[ 10 ]
خلاف الظاهر سيما وقد تكرر سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات وأجابه بقوله كيف وقد قيل وفي بعض ألفاظه دعها وفي رواية الدارقطني لا خير لك فيها ولو كان من باب الاحتياط لأمره بالطلاق مع أنه في جميع الروايات لم يذكر الطلاق فيكون هذا الحكم مخصوصا من عموم الشهادة المعتبر فيها العدد وقد اعتبرتم ذلك في عورات النساء فقلتم يكفي بشهادة امرأة واحدة والعلة عندهم فيه أنه قل ما يطلع الرجال على ذلك فالضرورة داعية إلى اعتباره فكذا هنا انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي (قال أبو داود نظر حماد بن زيد إلخ) لم توجد هذه العبارة في بعض النسخ 19 شهادة أهل الذمة والوصية في السفر (بدقوقاء) بفتح الدال المهملة وضم القاف وسكون الواو بعدها قاف مقصورة وقد مدها
[ 11 ]
بعضهم وهي بلد بين بغداد وإربل كذا في النيل وفي النسخ الحاضرة بالمد (من أهل الكتاب) يعني نصرانيين كما بين ذلك البيهقي وبين أن الرجل من خثعم ولفظه عن الشعبي توفي رجل من خثعم فلم يشهد موته إلا رجلان نصرانيان (وقدما بتركته) أي الرجل المسلم المتوفي (فقال الأشعري) أبو موسى (بعد) الأمر (الذي كان) ذلك الأمر (في عهد رسول الله) يشير أبو موسى إلى واقعة السهمي التي كانت في عهد النبي ومراد أبي موسى أن بعد واقعة السهمي لم تكن واقعة مثلها إلا هذه الواقعة وهي وفاة رجل من المسلمين بدقوقا وشهادة رجلين من أهل الكتاب على وصيته (فأحلفهما) يقال في المتعدي أحلفته إحلافا وحلفته تحليفا واستحلفته (بعد العصر) هذا يدل على جواز التغليظ بزمان من الأزمنة (ولا بدلا) بصيغة الماضي المعلوم من التبديل
[ 12 ]
قال الخطابي في هذا دليل على أن شهادة أهل الذمة مقبولة على وصية المسلم في السفر خاصة وممن روي عنه أنه قبلها في مثل هذه الحالة شريح وإبراهيم النخعي وهو قول الأوزاعي وقال أحمد بن حنبل لا تقبل شهادتهم إلا في مثل هذا الموضع للضرورة وقال الشافعي لا تقبل شهادة الذمي بوجه لا على مسلم ولا على كافر وهو قول مالك وقال أحمد بن حنبل لا يجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض وقال أصحاب الرأي شهادة بعضهم على بعض جائزة والكفر كله ملة واحدة وقال آخرون شهادة اليهودي على اليهودي جائزة ولا تجوز على النصراني والمجوسي لأنها ملل مختلفة ولا تجوز شهادة أهل ملة على ملة أخرى وهذا قول الشعبي وابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه وحكي ذلك عن الزهري قال وذلك للعداوة التي ذكر الله سبحانه بين هذه الفرق انتهى والحديث سكت عنه المنذري (وعدي بن بداء) بفتح الموحدة وتشديد الدال المهملة مع المد (فمات السهمي) وكان لما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ذكره القسطلاني (فلما قدما) أي تميم وعدي (فقدوا) أي أهل المتوفي (جام فضة) أي كأسا من فضة (مخوصا بالذهب) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والواو المشددة آخره صاد مهملة أي فيه خطوط طوال كالخوص وكانا أخذاه من متاعه (ثم وجد) بصيغة المجهول (فقالوا) أي الذين وجد الجام معهم (فقام رجلان) هما عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة (لشهادتنا أحق من شهادتهما) أي يميننا أحق من يمينهما
[ 13 ]
قال الخطابي في هذا حجة لمن رأى رد اليمين على المدعي والآية محكمة لم ينسخ منها في قول عائشة والحسن البصري وعمرو بن شرحبيل وقالوا المائدة آخر ما نزل من القرآن لم ينسخ منها شئ وتأول من ذهب إلى خلاف هذا القول الآية على الوصية دون الشهادة لأن نزول الآية إنما كان في الوصية وتميم الداري وصاحبه عدي بن بداء إنما كانا وصيين لا شاهدين والشهود لا يحلفون وقد حلفهما رسول الله وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها وهو معنى قوله تعالى ولا نكتم شهادة الله أي أمانة الله وقالوا معنى قوله تعالى وآخران من غيركم أي من غير قبيلتكم وذلك أن الغالب في الوصية أن الموصى شهد أقرباؤه وعشيرته دون الأجانب والأباعد ومنهم من زعم أن الآية منسوخة والقول الأول أصح والله أعلم انتهى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم أي ليشهد ما بينكم لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وقوع التنازع والتشاجر واختلف في هذه الشهادة فقيل هي هنا بمعنى الوصية وقيل بمعنى الحضور للوصية وقال ابن جرير الطبري هي هنا بمعنى اليمين أي يمين ما بينكم أن يحلف اثنان واختار هذا القول القفال وضعف ذلك ابن عطية واختار أنها هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود أي الإخبار بحق للغير على الغير قال القرطبي ورد لفظ الشهادة في القرآن على أنواع مختلفة بمعنى الحضور قال الله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه وبمعنى قضى قال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو وبمعنى أقر قال تعالى والملائكة يشهدون وبمعنى حكم قال تعالى وشهد شاهد من أهلها وبمعنى حلف قال تعالى فشهادة أحدكم أربع شهادات وبمعنى وصى قال تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم انتهى وقال الخطيب والخازن وهذه الآية الكريمة وما بعدها من أشكل آي القرآن وأصعبها حكما وإعرابا وتفسيرا ونظما انتهى وفي حاشية الجمل على الجلالين هذه الآية واللتان بعدها من أشكل القرآن حكما وإعرابا وتفسيرا ولم يزل العلماء يستشكلونها أو ويكفون عنها حتى قال مكي بن أبي طالب في كتابه الكشف هذه الآيات في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آي
[ 14 ]
القرآن وأشكله) وقال السخاوي ولم أر أحدا من العلماء تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها انتهى وقال القرطبي ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا وقال التفتازاني في حاشيته على الكشاف واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا ونظما وحكما والله أعلم (إذا حضر أحدكم الموت) ظرف للشهادة وحضوره ظهور أمارته يعني إذا قارب وقت حضور الموت (الآية) وتمام الآية مع تفسيرها هكذا (حين الوصية) بدل من الظرف وفيه دليل على أن الوصية مما لا ينبغي التساهل فيها (اثنان) خبر شهادة أي شهادة بينكم شهادة اثنين قال الخازن لفظه خبر ومعناه الأمر يعني ليشهد اثنان منكم عند حضور الموت وأردتم الوصية (ذوا عدل منكم) من المسلمين وقيل من أقاربكم وهما أي ذوا عدل ومنكم صفتان لاثنان يعني من أهل دينكم وملتكم يا معشر المؤمنين واختلفوا في هذين الاثنين فقيل هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي وقيل هما الوصيان لأن الآية نزلت فيهما ولأنه قال تعالى فيقسمان بالله والشاهد لا يلزمه يمين وجعل الوصي اثنين تأكيدا فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك شهدت وصية فلان بمعنى حضرت (أو آخران) عطف على اثنان (من غيركم) يعني من غير دينكم فالضمير في منكم للمسلمين والمراد بقوله غيركم الكفار وهو الأنسب بسياق الآية وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والشعبي وابن سيرين ويحيى بن يعمر وأبي مجلز وعبيدة السلماني ومجاهد وقتادة وبه قال الثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل قالوا إذا لم يجد مسلمين يشهدان على وصيته وهو في أرض غربة فليشهد كافرين أو ذميين أو من أي دين كانا لأن هذا موضع ضرورة قال شريح من كان بأرض غربة لم يجد مسلما يشهد وصيته فليشهد كافرين على أي دين كانا من أهل الكتاب أو من عبدة الأصنام فشهادتهم جائزة في هذا الموضع ولا تجوز شهادة كافر على مسلم بحال إلا على وصيته في سفر لا يجد فيه مسلما وقال قوم في قوله ذوا عدل منكم يعني من عشيرتكم وحيكم أو آخران من غيركم من غير عشيرتكم وحيكم وأن الآية كلها في المسلمين هذا قول الحسن والزهري وعكرمة وقالوا لا تجوز شهادة كافر في شئ من الأحكام وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة أجاز شهادة أهل الذمة فيما بينهم بعضهم على بعض
[ 15 ]
واحتج من قال بأن هذه الآية محكمة بأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ واحتج من أجاز شهادة غير المسلم في هذا الموضع بأن الله تعالى قال في أول الآية يا أيها الذين آمنوا فعم بهذا الخطاب جميع المؤمنين ثم قال بعده ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم فعلم بذلك أنهما من غير المؤمنين ولأن الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه يمين ولأن الميت إذا كان في أرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ضاع ماله وربما كان عليه ديون أو عنده وديعة فيضيع ذلك كله وإذا كان ذلك احتاج إلى إشهاد من حضر من أهل الذمة وغيرهم من الكفار حتى لا يضيع ماله وتنفذ وصيته فهذا كالمضطر الذي أبيح له أكل الميتة في حال الاضطرار والضرورات قد تبيح شيئا من المحظورات واحتج من منع ذلك بأن الله تعالى قال ممن ترضون من الشهداء والكفار ليسوا مرضيين ولا عدولا فشهادتهم غير مقبولة في حال من الأحوال قاله الخازن قلت الآية محكمة وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ وأما قوله تعالى ممن ترضون الآية وقوله وأشهدوا ذوي عدل منكم فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين ولا تعارض بين خاص وعام والله أعلم (إن أنتم ضربتم) أي سافرتم (في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) عطف على ضربتم وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم في سفر ولم تجدوا مسلمين فيجوز إشهاد غير المسلمين كذا في جامع البيان والمعنى أي فنزل بكم أسباب الموت وقاربكم عبد الأجل وأردتم الوصية حينئذ ولم تجدوا شهودا عليها من المسلمين فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أنكم (تحبسونهما) وتوقفونهما عليه صفة للآخران أو استئناف (من بعد الصلاة) أي بعد صلاة العصر فإن أهل الكتاب أيضا يعظمونها أو بعد صلاة ما أو بعد صلاتهم (فيقسمان بالله) أي فيحلفان بالله قال الشافعي الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان فيحلف بعد صلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام وإن كان بالمدينة فعند المنبر وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها قاله الخازن وقال الشربيني وعن ابن عباس أن اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا
[ 16 ]
فإن كانا مسلمين فلا يمين وعن غيره إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما وإن كانا الوصيين فلا ثم شرط لهذا الحلف شرطا فقال اعتراضا بين القسم والمقسم عليه (إن ارتبتم) أي شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما فحلفوهما وهذا إذا كانا كافرين أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع قاله الخازن ثم ذكر المقسم عليه بقوله (لا نشتري به) أي بالقسم (ثمنا) الجملة مقسم عليه أي لا نبيع عهد الله بشئ من الدنيا ولا نحلف بالله كاذبين لأجل عوض نأخذه أو حق نجحده ولا نستبدل به عرضا من الدنيا بل قصدنا به إقامة الحق (ولو كان) المشهود له ومن نقسم له (ذا قربى) ذا قرابة منا لا نحلف له كاذبا وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم (ولا نكتم شهادة الله) أي الشهادة التي أمر الله بإقامتها (إنا إذا لمن الآثمين) أي إن كتمنا الشهادة أو خنا فيها ولما نزلت هذا الآية صلى رسول الله صلاة العصر ودعا تميما وعديا وحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك فخلى رسول الله سبيلهما ثم ظهر الإناء بعد ذلك قال ابن عباس وجد الإناء بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي (فإن عثر) اطلع بعد حلفهما وكل من اطلع على أمر كان قد خفي عليه قيل له قد عثر عليه (على أنهما استحقا إثما) يعني الوصيين والمعنى فإن حصل العثور والوقوف على أن الوصيين كانا استوجبا الإثم بسبب خيانتهما وأيمانهما الكاذبة (فآخران) فشاهدان آخران من أولياء الميت وأقربائه (يقومان مقامهما) خبر لقوله فآخران أي مقام الوصيين في اليمين (من الذين استحق) قرئ بصيغة المجهول والمعروف (عليهم) الوصية وهم الورثة قال أبو البقاء ومن الذين صفة أخرى لآخران ويجوز أن يكون حالا من ضمير الفاعل في يقومان انتهى ويبدل من آخران (الأوليان) هو على القراءة الأولى مرفوع كأنه قيل من هما فقيل هما الأوليان والمعنى على الأولى من الذين استحق الإثم أي جنى عليهم وهم أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم فالأوليان تثنية أولى بمعنى الأحق والأقرب إلى الميت نسبا وفي حاشية البيضاوي فقوله من الذين استحق قراءة الجمهور بضم التاء على بناء المجهول والمعنى من الورثة الذين جني عليهم فإن الأولين لما جنيا واستحقا إثما بسبب جنايتهما على الورثة كانت الورثة مجنيا عليهم متضررين أبي بجناية الأولين انتهى والمعنى على القراءة الثانية من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين لكونهما الأقربين إلى الميت فالأوليان فاعل
[ 17 ]
استحق ومفعوله أن يجردوهما للقيام بالشهادة وقيل المفعول محذوف والتقدير من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها وفي الخازن والمعنى على قراءة المجهول أي إذا ظهرت خيانة الحالفين وبان كذبهما يقوم اثنان آخران من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته (فيقسمان بالله) أي فيحلفان بالله (لشهادتنا أحق من شهادتهما) يعني أيماننا أحق وأصدق من أيمانهما (وما اعتدينا) يعني في أيماننا وقولنا أن شهادتنا أحق من شهادتهما (إنا إذا لمن الظالمين) ولما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان وهما من أهل الميت وحلفا بالله بعد العصر ودفع الإناء إليهما وإنما ردت اليمين على أولياء الميت لأن الوصيين ادعيا أن الميت باعهم الإناء وأنكر ورثة الميت ذلك ومثل هذا أن الوصي إذا أخذ شيئا من مال الميت وقال إنه أوصى له به وأنكر ذلك الورثة ردت اليمين عليه ولما أسلم تميم الدارمي بعد هذه القصة كان يقول صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأنا أتوب إلى الله وأستغفره (ذلك) أي البيان الذي قدمه الله تعالى في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد الوصية في السفر ولم يكن عنده أحد من أهله وعشيرته وعنده كفار وفي الخازن يعني ذلك الذي حكمنا به من ورد اليمين على أولياء الميت بعد إيمانهم (أدنى) أي أجدر وأحرى وأقرب إلى (أن يأتوا بالشهادة) أي يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة (على وجهها) فلا يحرفوا ولا يبدلوا ولا يخونوا فيها والضمير في يأتوا عائد إلى شهود الوصية من الكفار وقيل إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم والمراد تحذيرهم من الخيانة وأمرهم بأن يشهدوا بالحق (أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) أي وأقرب أن يخاف الوصيان أن ترد الأيمان على الورثة المدعين فيحلفون على خلاف ما شهد به شهود الوصية فتفتضح حينئذ شهود الوصية وهو معطوف على قوله أن يأتوا فيكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم هي أحد الأمرين إما احتراز شهود الوصية عن الكذب والخيانة فيأتون بالشهادة على وجهها أو يخافوا الافتضاح إذا ردت الأيمان على قرابة الميت فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم فيكون ذلك سببا لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة وحاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز أن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين فإن لم يجد شهودا مسلمين وكان في سفر ووجد كفارا جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته فإن ارتاب بهما ورثه الموصي حلفا بالله على أنهما شهدا بالحق وما كتما من الشهادة شيئا ولا خانا مما ترك الميت شيئا فإن تبين بعد ذلك
[ 18 ]
خلاف ما أقسما عليه من خلل في الشهادة أو ظهور شئ من تركة الميت وزعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك وروى الترمذي عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت قال تميم برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام بتجارتهما قبل الإسلام فأتيا إلى الشام بتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم ولما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي فلما أتينا أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقد الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا ولا دفع إلينا غيره قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم النبي المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم على أهل دينه فحلف فأنزل الله يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت إلى قوله أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانكم فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي قال الترمذي هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح وقد روي عن ابن عباس شئ من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه كما أخرجه المؤلف سواء قال الحافظ المنذري وأخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرجه البخاري في صحيحه فقال وقال لي علي بن عبد الله يعني المديني فذكره وهذه عادته في ما لم يكن على شرطه وقد تكلم علي بن المديني على هذا الحديث وقال لا أعرف ابن أبي القاسم وقال وهو حديث حسن هذا آخر كلامه وابن أبي القاسم هذا هو محمد بن أبي القاسم قال يحيى بن معين ثقة قد كتبت عنه انتهى
[ 19 ]
20 باب إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد إلخ (إن عمه حدثه) قال ابن سعد في الطبقات لم يسم لنا أخو خزيمة بن ثابت الذي روى هذا الحديث وكان له أخوان يقال لأحدهما وحوح والآخر عبد الله (ابتاع) أي اشترى فرسا من أعرابي اسمه سواء بن قيس المحاربي واسم الفرس المرتجز قال ابن سعد أخبرنا محمد بن عمر سألت محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة عن المرتجز فقال هو الفرس الذي اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعرابي الذي شهد فيه خزيمة بن ثابت وكان الأعرابي من بني مرة (فاستتبعه) أي طلب منه أن يتبعه (فطفق) أي أخذ (فيساومونه بالفرس) زاد ابن سعد في الطبقات حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما زاده فنادى الأعرابي كذا في مرقاة الصعود (فقا إن كنت مبتاعا هذا الفرس) أي فاشتره (أو ليس قد ابتعته منك) بفتح الواو بعد الهمزة أي أتقول هكذا وليس إلخ فالمعطوف عليه محذوف
[ 20 ]
وعند ابسعد فقال له الأعرابي لا والله ما بعتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ابتعته منك فطفق الناس يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالأعرابي وهما يتراجعان ويقول هلم شهيدا فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي ويلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا حقا فقال له خزيمة أنا أشهد أنك قد بايعته (فقال بم تشهد) زاد ابن سعد ولم تكن معنا (فقال بتصديقك يارسول الله) زاد ابن سعد أنا أصدقك بخبر السماء ولا أصدقك بما تقول وفي لفظ قال أعلم أنك لا تقول إلا حقا قد آمناك على أفضل من ذلك على ديننا (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين) قال العلامة السيوطي قد حصل لذلك تأثير في مهم ديني وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وذلك فيما روى ابن أبي شيبة في المصاحف عن الليث بن سعد قال أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد بن ثابت وكان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع خزيمة بن ثابت فقال اكتبوها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده انتهى وقال الخطابي هذا حديث يضعفه كثير من الناس غير موضعه وقد تذرع به قوم من أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف عنده بالصدق على كل شئ ادعاه وإنما وجه الحديث ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم على الأعرابي بعلمه إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم صادقا بارا في قوله وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد لقوله والاستظهار بها على خصمه فصارت في التقدير شهادته له وتصديقه إياه على قوله كشهادة رجلين في سائر القضايا انتهى قلت شهادة خزيمة قد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادتين دون غيره ممن هو أفضل منه
[ 21 ]
وهذا لمخصص اقتضاه وهو مبادرته دون من حضره من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلمن وقد قبل الخلفاء الراشدون شهادته وحده وهي خاصة له قال المنذري وأخرجه النسائي وهذا الأعرابي هو ابن الحارث وقيل سواء بن قيس المحاربي ذكره غير واحد في الصحابة وقيل إنه جحد البيع بأمر بعض المنافقين وقيل إن هذا الفرس هو المرتجز المذكور في أفراس رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى كلام المنذري (قال في القاموس في باب الزاي وفصل الراء المرتجز ابن الملاة فرس للنبي صلى الله عليه وسلم سمي به لحسن صهيله اشتراه من سواء بن الحارث بن ظالم) 21 (باب القضاء باليمين والشاهد (إن زيد بن الحباب) بضم أوله وبموحدتين (حدثهم) أي عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي وغيرهما (قال عثمان) أي ابن أبي شيبة (سيف بن سليمان) بنسبته إلى أبيه وأما الحسن بن علي فقال سيف ولم ينسبه إلى أبيه (قضى بيمين وشاهد) قال الخطابي يريد أنه قضى للمدعي بيمينه مع شاهد واحد كأنه أقام اليمين مقام شاهد آخر فصار كالشاهدين انتهى
[ 22 ]
والحديث دليل على جواز القضاء بشاهد ويمين قال النووي واختلف العلماء في ذلك فقال أبو حنيفة رحمه الله والكوفيون والشعبي والحكم والأوزاعي والليث والأندلسيون من أصحاب مالك لا يحكم بشاهد ويمين في شئ من الأحكام وقال جمهور علماء الإسلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار يقضى بشاهد ويمين المدعي في الأموال وما يقصد به الأموال وبه قال أبو بكر الصديق وعلي وعمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأحمد وفقهاء المدينة وسائر علماء الحجاز ومعظم علماء الأمصار رضي الله عنهم وحجتهم أنه جاءت أحاديث كثيرة في هذه المسألة من رواية علي وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر وأبي هريرة وعمارة بن حزم وسعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم قال الحافظ أصح أحاديث الباب حديث ابن عباس قال ابن عبد البر لا مطعن لأحد في إسناده قال ولا خلاف بين أهل المعرفة في صحته قال وحديث أبي هريرة وجابر وغيرهما حسنان والله أعلم بالصواب انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه (قال عمرو في الحقوق) وفي رواية لأحمد إنما كان ذلك في الأموال
[ 23 ]
قال الخطابي القضاء بيمين وشاهد خاص في الأموال دون غيرها لأن الراوي وقفه عليها والخاص لا يتعدى به محله ولا يقاس عليه غيره واقتضاء العموم منه غير جائز لأنه حكاية فعل والفعل لا عموم له فوجب صرفه إلى أمر خاص قال وإنما (ولما) قال الراوي هو في الأموال كان مقصورا عليها انتهى (قضى باليمين مع الشاهد) قال الخطابي وليس هذا بمخالف لقوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه لأنه في اليمين إذا كانت مجردة وهذه يمين مقرونة ببينة وكل واحدة منهما غير الأخرى فإذا تباين محلاهما جاز أن يختلف حكماهما انتهى واعلم أن لمن لا يقول بالقضاء باليمين مع الشاهد أعذار عن أحاديث الباب وللقائلين به أجوبة شافية كافية فعليك بالمطولات
[ 24 ]
قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب (قال فذكرت ذلك) أي ذلك الحديث (لسهيل فقال) أي سهيل (أخبرني ربيعة وهو) أي ربيعة وجملة وهو عندي ثقة معترضة بين فاعل أخبرني ومفعوله (أني) مرجع الضمير هو سهيل لا ربيعة (حدثته) أي ربيعة (إياه) أي هذا الحديث وجملة أني حدثته إياه مفعول أخبرني (ولا أحفظه) أي هذا الحديث (قال عبد العزيز وقد كان إلخ) هذا تعليل لعدم حفظه الحديث (فكان سهيل بعد) بضم الدال أي بعد ما ذكر عبد العزيز له ما ذكر (يحدثه) أي الحديث (عن ربيعة عنه عن أبيه) الضميران لسهيل قال الحافظ في شرح النخبة وإن روى عن شيخ حديثا وجحد الشيخ مرويه فإن كان
[ 25 ]
الإنكار جزما كأن يقول الكذب علي أو ما رويت له هذا ونحو ذلك رد ذلك الخبر لكذب واحد منهما لا بعينه ولا يكون ذلك قادحا في واحد منهما للتعارض أو كان جحده احتمالا كأن يقول ما أذكر هذا الحديث أو لا أعرفه قبل ذلك الحديث في الأصح وهو مذهب جمهور أهل الحديث وأكثر الفقهاء لأن ذلك يحمل على نسيان الشيخ وفي هذا النوع صنف الدارقطني كتاب من حدث ونسي وفيه ما يدل على تقوية المذهب الصحيح لكون كثير منهم حدثوا بأحاديث فلما عرضت عليهم لم يتذكروها لكنهم لاعتمادهم على الرواة عنهم صاروا يروونها عن الذين رووها عنهم عن أنفسهم كحديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا في قصة الشاهد واليمين
[ 26 ]
قال عبد العزيز بن محمد الدراوردي حدثني به ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل قال فلقيت سهيلا فسألته عنه فلم يعرفه فقلت إن ربيعة حدثني عنك هكذا فكان سهيل بعد ذلك يقول حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي به ونظائره كثيرة انتهى كلامه مع زيادات عليه من شرحه (أخبرنا عمار بن شعيث) بالثاء المثلثة وهو بالتصغير قال الحافظ عبد الغني بن سعيد في كتاب مشتبه النسبة شعيب بالباء معجمة من تحتها بواحدة واسع وشعيث بالثاء قليل منهم شعيث بن عبد الله بن الزبيب بن ثعلبة روى عنه ابن وهب وغيره وشعيث بن مطر وعمار ابن شعيث حدث عنه أحمد بن عبدة انتهى كلامه مختصرا وقال للذهبي في كتاب المختلف والمشتبه شعيب كثير وبمثلثة شعيث بن عبد الله بن الزبيب بن ثعلبة عن آبائه انتهى مختصرا (ابن عبد الله بن الزبيب) بموحدتين مصغرا ابن ثعلبة (فأخذوهم) أي بني العنبر (بركبة) بضم الراء وسكون الكاف وفتح الموحدة بلفظ ركبة الرجل واد من أودية الطائف
[ 27 ]
وقال الزمخشري مفازة على يومين من مكة يسكنها اليوم عدوان وقال الواقدي هو بين غمرة وذات عرق كذا في مراصد الاطلاع (وقد كنا أسلمنا) الواو للحال (وخضرمنا آذان النعم) قال الخطابي يقول قطعنا أطراف آذانها وكان ذلك في الأموال علامة بين من أسلم وبين من لم يسلم والمخضرمون قوم أدركوا الجاهلية وبقوا إلى أن أسلموا ويقال إن أصل الخضرمة خلط الشئ بالشئ انتهى (فلا قدم بلعنبر) هو مخفف بني العنبر (فشهد الرجل) أي على إسلامهم (وأبى) أي امتنع (اذهبوا) الخطاب للجيش (فقاسموهم أنصاف الأموال) قال في فتح الودود هذا يدل على أنه جعل اليمين مع الشاهد سببا للصلح والأخذ بالوسط بين المدعي والمدعى عليه لا أنه قضى بالدعوى بهما انتهى (ذراريهم) جمع ذرية (لولا أن الله تعالى لا يحب ضلالة العمل) أي بطلانه وضياعه وذهاب نفعه يقال ضل اللبن في الماء إذا بطل وتلف قال في فتح الودود الظاهر أن المراد ضياع عمل الجيش (ما رزيناكم) بتقديم الراء المهملة على الزاي المعجمة أي ما نقصناكم ما وهذا خطاب لبني العنبر قال الخطابي اللغة
[ 28 ]
الفصيحة ما رزأناكم لا بالهمز يقول ما أصبناكم من أموالكم عقالا انتهى وفي بعض النسخ ما زربناكم أن بتقديم المعجمة على المهملة وهو غلط (زر بيتي) بكسر وتفتح وتضم ثم مهملة ساكنة ثم موحدة مكسورة ثم تحتية مشددة مفتوحة ثم تاء تأنيث الطنفسة وقيل البساط ذو الخمل وجمعها زرابي كذا في فتح الودود ومرقاة الصعود (احبسه) أي الرجل (فأخذت بتلبيبه) قال في النهاية أخذت بتلبيب فلان إذا جمعت عليه ثوبه الذي هو لابسه وقبضت عليه تجره والتلبيب مجمع ما في موضع اللبب في القاموس اللبب المنحر كاللبة على وموضع القلادة من الصدر من ثياب الرجل ويقال لبيت الرجل إذا جعلت في عنقه ثوبا أو غيره وجررته به انتهى (فاختلع نبي الله صلى الله عليه وسلم سيف الرجل فأعطانيه إلخ) أي صالح بينهما على ذلك ولعل الآصع كانت معلومة قاله في فتح الودود قال الخطابي وفي هذا الحديث استعمال اليمين مع الشاهد في غير الأموال إلا أن إسناده ليس بذاك وقد يحتمل أيضا أن يكون اليمين قد قصد بها ها هنا الأموال لأن الإسلام يعصم الأموال كما يحقن الدم وقد ذهب قوم من العلماء إلى إيجاب اليمين مع البينة العادلة كان شريح والشعبي والنخعي يرون أن يستحلف الرجل مع بينة وهو قول سوار بن عبد الله القاضي انتهى قال المنذري قال الخطابي إسناده ليس بذاك وقال أبو عمر النمري إنه حديث حسن هذا آخر كلامه وقد روي القضاء بالشهادة واليمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وسعد ابن عبادة والمغيرة بن شعبة وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم زبيب بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وبعدها باء موحدة أيضا ثم ذكر بعضهم أنه من الأسماء المفردة وفيما قاله نظر ففي الرواة من اسمه زبيب على خلاف فيه وقد قيل في زبيب بن ثعلبة أيضا زنيب بالنون انتهى كلام المنذري
[ 29 ]
22 باب الرجلان يدعيان شيئا وليس بينهما بينة (ليست لواحد منهما بينة) قال في فتح الودود أي بعينه بل لهما أو لا بينة أصلا (فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما) أي قسمه بينهما نصفين قال الخطابي يشبه أن يكون هذا البعير أو الدابة كان في أيديهما معا فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما لاستوائهما في الملك باليد ولولا ذلك لم يكونا بنفس الدعوى يستحقانه لو كان الشئ في يد غيرهما انتهى قال القاري أو في يد غير منازع لهما انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه
[ 30 ]
(فبعث كل واح منهما شاهدين) أي أقامهما (فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين) قال ابن رسلان يحتمل أن تكون القصة في حديث أبي موسى الأول والثاني واحدة إلا أن البينتين لما تعارضتا تساقطتا وصارتا كالعدم ويحتمل أن يكون أحدهما في عين كانت في يديهما والآخر كانت العين في يد ثالث لا يدعيها بدليل ما وقع في رواية للنسائي ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث ودفعت إليهما قال وهذا أظهر لأن حمل الإسنادين على معنيين متعددين أرجح من حملهما على معنى واحد لأن القاعدة ترجيح ما فيه زيادة علم على غيره انتهى وقال الخطابي وهذا الحديث مروي بالإسناد الأول إلا أن في الحديث المتقدم أنه لم يكن لواحد منهما بينة وفي هذا أن كل واحد منهما قد جاء بشاهدين فاحتمل أن يكون القصة واحدة إلا أن الشهادات لما تعارضت تساقطت فصارا كمن لا بينة له وحكم لهما بالشئ نصفين بينهما لاستوائهما في اليد ويحتمل أن يكون البعير في يد غيرهما فلما أقام كل واحد منهما شاهدين على دعواه نزع الشئ من يد المدعى عليه ودفع إليهما واختلف العلماء في الشئ يكون في يدي الرجل فيتداعاه اثنان ويقيم كل واحد منهما بينة فقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة صار له وكان الشافعي يقول به قديما ثم قال في الجديد فيه قولان أحدهما يقضي به بينهما نصفين وبه قال أصحاب الرأي وسفيان الثوري والقول الآخر يقرع بينهما وأيهما خرج سهمه حلف لقد شهد شهوده بحق ثم يقضى له به وقال مالك لا أحكم به لواحد منهما إذا كان في يد غيرهما وحكي عنه أنه قال هو لأعدلهما شهودا وأشهرهما بالصلاح وقال الأوزاعي يؤخذ بأكثر
[ 31 ]
البينتين عددا وحكي عن الشعبي أنه قال هو بينهما على حصص الشهود انتهى كلام الخطابي قال المنذري وأخرجه النسائي وقال هذا خطأ ومحمد بن كثير هذا هو المصيصي وهو صدوق إلا أنه كثير الخطأ وذكر أنه خولف في إسناده ومتنه هذا آخر كلامه ولم يخرجه أبو داود من حديث محمد بن كثير وإنما خرجه بإسناد رجاله كلهم ثقات (عن خلاس) بكسر أوله وتخفيف اللام ابن عمرو الهجري بفتحتين البصري ثقة وكان يرسل من الثانية (استهما) أي اقترعا (ما كان) وفي بعض النسخ ما كانا بصيغة التثنية قال بعض الأعاظم في تعليقات السنن لفظة ما في ما كان مصدر أي مفعول مطلق لكان كما في قوله تعالى ما أغنى عنه ماله وما كسب والتقدير أي غناء أغنى عنه ماله وكسبه وكان هذه تامة والضمير فيها عائد إلى الاستهام الذي يتضمنه قوله صلى الله عليه وسلم استهما وجملة أحبا ذلك أو كرها كالتفسير لجملة ما كان والغرض من زيادة المفسر والمفسر تقرير المعنى السابق وتوكيده والمعنى أي كون كان الاستهام المذكور أي سواء أحبا ذلك الاستهام أو كرهاه والحاصل أنهما يستهمان على اليمين لا محالة وعلى كل تقدير سواء كان الاستهام المذكور محبوبا لهما أو مكروها لهما وما في بعض النسخ ما كانا بصيغة التثنية فهو أيضا صحيح وضمير التثنية يرجع إلى الرجلين المدعيين والتقدير أي كون كان المدعيان المذكوران أي سواء أحبا ذلك الاستهام أو كرهاه والله أعلم انتهى أحبا ذلك أو كرها) أي مختارين لذلك بقلبهما أو كارهين قال الخطابي معنى الاستهام ها هنا الاقتراع يريد أنهما يقترعان فأيهما خرجت له القرعة حلف وأخذ ما ادعاه وروى ما يشبه هذا عن علي رضي الله عنه قال حنش بن المعتمر أتي علي ببغل وجد في السوق يباع فقال رجل هذا بغلي لم أبع ولم أهب ونزع علي ما قال بخمسة يشهدون قال وجاء رجل آخر يدعيه يزعم أنه بغله وجاء بشاهدين فقال علي رضي الله عنه إن فيه قضاء وصلحا وسوف أبين لكم ذلك كله أما صلحه أن يباع البغل فيقسم ثمنه على سبعة أسهم لهذا خمسة ولهذا سهمان وإن لم يصطلحوا إلا القضاء فإنه يحلف أحد
[ 32 ]
الخصمين أنه بغله ما باعه ولا وهبه فإن تشاححتما فأيكما يحلف أقرعت بينكما على الحلف فأيكما قرع حلف قال فقضى بهذا وأنا شاهد انتهى قال الكرماني وإنما يفعل الاستهام والاقتراع إذا تساوت درجاتهم في أسباب الاستحقاق مثل أن يكون الشئ في يد اثنين كل واحد منهما يدعي كله فيريد أحدهما أن يحلف ويستحق ويريد آخر مثل ذلك فيقرع بينهما فمن خرجت له حلف واستحقه انتهى قال في شرح المشكاة صورة المسألة أن رجلين إذا تداعيا في يد ثالث ولم يكن لهما بينة أو لكل واحد منهما بينة وقال الثالث لا أعلم بذلك يعني أنه لكما أو لغير كما فحكمهما أن يقرع بين المتداعيين فأيهما خرجت له القرعة يحلف معها ويقضى له بذلك المتاع وبهذا قال علي وعند الشافعي يترك في يد الثالث وعند أبي حنيفة يجعل بين المتداعيين نصفين وقال ابن الملك وبقول علي قال أحمد والشافعي في أحد أقواله وفي قوله الآخر وبه قال أبو حنيفة أيضا إنه يجعل بين المتداعيين نصفين مع يمين كل منهما وفي قول آخر يترك في يد الثالث انتهى وقال الشوكاني لو تنازع رجلان في عين دابة أو غيرها فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه ولم يكن بينهما بينة وكانت العين في يديهما فكل واحد مدع في نصف ومدعى عليه في نصف أو أقام البينة كل واحد على دعواه تساقطتا وصارتا كالعدم وحكم به الحاكم نصفين بينهما لاستوائهما في اليد وكذا إذا لم يقيما بينة وكذا إذا حلفا أو نكلا انتهى وأما قوله أحبا أو كرها فقال الحافظ في الفتح قال الخطابي وغيره الإكراه هنا لا يراد به حقيقته لأن الإنسان لا يكره على اليمين وإنما المعنى إذا توجهت اليمين على اثنين وأرادا الحلف سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما وهو معنى الإكراه أو مختارين لذلك بقلبهما وهو معنى الاستحباب وتنازعا أيهما يبدأ فلا يقدم أحدهما على الآخر بالتشهي بل بالقرعة وهو المراد بقوله فليستهما أي فليقترعا وقيل صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع اثنان عينا ليست في يد واحد منهما ولا بينة لواحد منهما فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واستحقها ويؤيده حديث أبي هريرة من طريق أبي رافع وفي رواية البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن
[ 33 ]
يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف فيحتمل أن تكون قصة أخرى فيكون القوم المذكورون مدعى عليهم بعين في أيديهم مثلا وأنكروا ولا بينة للمدعى عليهم فتوجهت عليهم اليمين فتسارعوا إلى الحلف والحلف لا يقع معتبرا إلا بتلقين المحلف فقطع النزاع بينهم بالقرعة فمن خرجت له بدأ به انتهى وقال البيهقي في بيان معنى الحديث إن القرعة في أيهما تقدم عند إرادة تحليف القاضي لهما وذلك أنه يحلف واحدا ثم يحلف الآخر فإن لم يحلف الثاني بعد حلف الأول قضي بالعين كلها للحالف أولا وإن حلف الثاني فقد استويا في اليمين فتكون العين بينهما كما كانت قبل أن يحلفا وقد حمل ابن الأثير في جامع الأصول الحديث على الاقتراع في المقسوم بعد القسمة قال الشوكاني وهو بعيد وترده الرواية بلفظ فليستهما عليها أي على اليمين قال المنذري وأخرجه النسائي (قال أحمد) أي ابن حنبل (قال) أي عبد الرزاق فأحمد قال في روايته عن عبد الرزاق حدثنا معمر وقال سلمة في روايته عن عبد الرزاق أخبرنا معمر (إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها) قال في فتح الودود أي نكلا اليمين أو حلفا جميعا والمتاع في يديهما أو في يد ثالث انتهى (فليستهما عليها) أي على اليمين (قال سلمة قال) أي عبد الرزاق (إذا أكره) بصيغة المجهول (الاثنان على اليمين) أي فليستهما عليها قال المنذري وأخرجه البخاري ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أخبرنا خالد إلخ) هذا الحديث وقع في بعض النسخ بعد
[ 34 ]
حديث محمد بن منهال وقبل حديث أحمد بن حنبل وسلمة بن شبيب وهو الظاهر كما لا يخفى (فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين) أي اقترعا عليها قال القاري ويمكن أن يكون معناه استهما نصفين على يمين كل واحد منكما انتهى قال الشوكاني وجه القرعة أنه إذا تساوى الخصمان فترجيح أحدهما بدون مرجح لا يسوغ فلم يبق إلا المصير إلى ما فيه التسوية بين الخصمين وهو القرعة وهذا نوع من التسوية المأمور بها بين الخصوم وقد طول أئمة الفقه الكلام على قسمة الشئ المتنازع فيه بين متنازعيه إذا كان في يد كل واحد منهم أو في يد غيرهم مقربة لهم وأما إذا كان في يد أحدهما فالقول قوله واليمين عليه والبينة على خصمه وأما القرعة في تقديم أحدهما في الحلف فالذي في فروع الشافعية أن الحاكم يعين لليمين منهما من شاء على ما يراه قال البرماوي لكن الذي ينبغي العمل به هو القرعة للحديث انتهى قال المنذري وأخرجه ابن ماجه 23 باب اليمين على المدعى عليه (قضى باليمين على المدعى عليه) ولفظ مسلم من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه وفي فتح الباري وأخرج الطبراني من رواية سفيان عن نافع بن عمر عن ابن عمر بلفظ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن جريج بلفظ ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب وأخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن
[ 35 ]
أبي مليكة قال كنت قاضيا لابن الزبير على الطائف فذكر قصة المرأتين فكتبت إلي ابن عباس فكتب إلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهذه الزيادة ليست في الصحيحين وإسنادها حسن انتهى قال النووي فيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه بل يحتاج إلى بينة أو تصديق الله المدعى عليه فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكم في كونه لا يعطى بمجرد دعواه لأنه لو كان أعطى بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه وأما المدعي فيمكنه صيانتها بالبينة وفيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور على أن اليمين تتوجه على كل من ادعي عليه حق سواء كان بينه وبين المدعي اختلاط أم لا وقال مالك وأصحابه والفقهاء السبعة وفقهاء المدينة إن اليمين لا تتوجه إلا على من بينه وبينه خلطة لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم مرارا في اليوم الواحد فاشترطت الخلطة دفعا لهذه المفسدة واختلفوا في تفسير الخلطة فقيل هي معرفته بمعاملته ومداينته بشاهد أو بشاهدين وقيل تكفي الشبهة وقيل هي أن تليق به الدعوى بمثلها على مثله ودليل الجمهور هذا الحديث ولا أصل لذلك الشرط في كتاب ولاسنة ولا إجماع انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه 24 باب كيف اليمين أي على المدعى عليه (حلفه) بتشديد اللام أي أراد تحليفه والجملة صفة رجل (احلف) بصيغة الأمر (بالله الذي لا إله إلا هو) قال في فتح الودود تغلظ اليمين بذكر بعض الصفات (ماله) أي ليس للمدعي (يعني المدعي) أي يريد النبي صلى الله عليه وسلم بالضمير المجرور في قوله ماله المدعى وفي بعض النسخ للمدعي
[ 36 ]
قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده عطاء بن السائب وفيه مقال وقد أخرجه البخاري حديثا مقرونا 25 إذا كان المدعى عليه ذميا أيحلف بصيغة المجهول من التحليف (فجحدني) أي أنكر علي (فقدمته) بالتشديد أي جئت به ورافعت عن أمره (قال لليهودي احلف) في شرح السنة في دليل على أن الكافر يحلف في الخصومات كما يحلف المسلم (إذا) بالتنوين هكذا بالتنوين في جميع النسخ قال في مغني اللبيب قال سيبويه معناها الجواب والجزاء فالجزاء نحو أن يقال آتيك فتقول إذن أكرمك أي إن أتيتني إذن أكرمك وقال الله تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق الآية وأما لفظ إذا عند الوقف عليها فالصحيح أن نونها تبدل ألفا وقيل يوقف بالنون فالجمهور يكتبونها في الوقف بالألف وكذا رسمت في المصاحف والمازني والمبرد بالنون انتهى مختصرا (يحلف) بالنصب (بمالي) أي بأرضي (فأنزل الله إن الذين إلخ) قال الطيبي فإن قلت كيف يطابق نزول هذه الآية قوله إذا يحلف ويذهب بمالي قلت فيه وجهان أحدهما كأنه قيل للأشعث ليس لك عليه إلا الحلف فإن كذب فعليه وباله وثانيهما لعل الآية تذكار لليهودي بمثلها في التوراة من الوعيد انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه أتم منه وأخرجه مسلم بنحوه
[ 37 ]
26 باب الرجل المدعى عليه (يحلف) بالبناء للمفعول من التحليف أو بصيغة المعروف من باب ضرب والأول أولى (على علمه) أي على علم الرجل المدعى عليه أي على حسب علمه ومطابقته فالضمير المجرور يؤول إلى الرجل المدعى عليه وذلك أي تحليفه على علمه إنما هو (فيما غاب) أي في المعاملة التي غابت (عنه) أي عن الرجل المدعى عليه ولم يرتكبه المدعى عليه لذلك بل ارتكبه غيره بأن عوملت تلك المعاملة في غيبته وهو لا يعلمها بحقيقتها فحينئذ لا يحلفه المدعي على البت والقطع بل إنما يحلفه على حسب علمه بأن يقول له المدعي احلف بهذا الوجه والله إني لا أعلم أن الشئ الفلاني الذي ادعاه المدعي علي هو ملكه قد أخذه منه أبي أو أخي مثلا ظلما وعدوانا (حدثني كردوس) بضم الكاف وسكون الراء قال في التقريب واختلف في اسم أبيه وهو مقبول من الثالثة (من كندة) بكسر فسكون أبو قبيلة من اليمن (من حضرموت) بسكون الضاد والواو بين فتحات وهو موضع من أقصى اليمن (فقال الحضرمي) نسبة إلى حضرموت (أبو هذا) أي أبو هذا الرجل الكندي (وهي أي الأرض (في يده) أي الآن (ولكن أحلفه) بتشديد اللام (والله ما يعلم) قال الطيبي هو اللفظ المحلوف به أي أحلفه بهذا والوجه أن تكون الجملة القسمية منصوبة المحل على المصدر أي أحلفه هذا الحلف (أن أرضي) بفتح همزة أن وفي بعض النسخ أنها أرضي (فتهيأ الكندي) أي أراد أن يحلف (وساق الحديث) ليس هذا اللفظ في بعض النسخ والحديث فيه دليل على أنها إذا طلبت يمين العلم وجبت قاله في النيل والحديث سكت عنه المنذري
[ 38 ]
(إن هذا غلبني) أي بالغصب والتعدي (على أرض كانت لأبي) أي كانت ملكا له (في يدي) أي تحت تصرفي (ليس له) أي للكندي (فلك يمينه) أي يمين الكندي (قال) أي الحضرمي (إنه) أي الكندي (فاجر) أي كاذب (ليس يبالي ما حلف) وفي بعض النسخ بما حلف عليه والجملة صفة كاشفة لفاجر (إلا ذلك) أي ما ذكر من اليمين قال الخطابي فيه من الفقه أن المدعى عليه يبرأ باليمين من دعوى صاحبه وفيه أن يمين الفاجر كيمين البر في الحكم انتهى قال الشوكاني وفي هذا دليل على أنه لا يجب للغريم على غريمه اليمين المردودة ولا يلزمه التكفيل ولا يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس ولكنه قد ورد ما يخصص هذه الأمور من عموم هذا النفي منها ما ورد في جواز الحبس لمن استحقه كما سيجئ بعد الأبواب والله أعلم واعلم أن في حديثي الباب أن الخصومة بيرجلين غير الأشعث بن قيس أحدهما حضرمي والآخر كندي وفي حديث الباب المتقدم أن الأشعث هو أحد الخصمين والآخر رجل من اليهود ويمكن الجمع بالحمل على تعدد الواقعة والله تعالى أعلم قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي انتهى قلت وأخرجه مسلم وزاد فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر الرجل أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض
[ 39 ]
27 باب الذمي كيف يستحلف (أنشدكم بالله) قال في النهاية نشدتك بالله سألتك وأقسمت عليك نشده نشدة ونشدانا ومناشدة (ما تجدون) ما استفهامية أو نافية بتقدير حرف الاستفهام قال المنذري وأخرجه في الحدود أتم من هذا والرجل من مزينة مجهول (ويعيه) أي يحفظه (قال له يعني لابن صوريا) بضم الصاد المهملة وسكون الواو وكسر الراء المهملة ممدودا وأصل القصة أن جماعة من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا فقال ائتوني بأعلم رجل منكم فأتوه بابن صوريا (أذكركم) من التذكير (قال) أي ابن صوريا (ذكرتني) بتشديد الكاف المفتوحة (أن أكذبك) بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة يعني فيما ذكرته لي
[ 40 ]
والحديث فيه دليل على جواز تغليظ اليمين على أهل الذمة فيقال لليهودي بمثل ما قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ومن أراد الاختصار قال قل والله الذي أنزل التوراة على موسى كما في الحديث الذي قبله وإن كان نصرانيا قال والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى قال المنذري هذا مرسل باب الرجل يحلف على حقه أي الرجل يحلف على إثبات حقه ولا يضيع ماله بمجرد دعوى أحد بل يقيم عليه البينة أو يحلف كما أرشده إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وعليك بالكيس فيدخل فيه جميع التدابير والأسباب والله أعلم (عن بحير) بكسر المهملة ثقة ثبت من السادسة (قضى بين رجلين) أي حكم لأحدهما على الآخر (لما أدبر) أي حين تولى ورجع من مجلسه الشريف (حسبي الله) أي هو كافي في أموري (ونعم الوكيل) أي الموكول إليه في تفويض الأمور وقد أشار به إلى أن المدعي أخذ المال منه باطلا (يلوم على العجز) أي على التقصير والتهاون في الأمور قاله القاري وقال في فتح الودود أي لا يرضى بالعجز والمراد بالعجز ها هنا ضد الكيس (ولكن عليك بالكيس) بفتح فسكون أي بالاحتياط والحزم في الأسباب وحاصله أنه تعالى لا يرضى بالتقصير ولكن يحمد على التيقظ والحزم فلا تكن عاجزا وتقول حسبي الله بل كن كيسا متيقظا حازما (فإذا غلبك أمر إلخ) قال في فتح الودود الكيس هو التيقظ في الأمور والابتداء إلى التدبير والمصلحة بالنظر إلى الأسباب واستعمال الفكر في العاقبة يعني كان ينبغي لك أن تتيقظ من في معاملتك فإذا غلبك الخصم قلت حسبي الله وأما ذكر حسبي الله بلا تيقظ كما فعلت فهو من الضعف فلا
[ 41 ]
ينبغي انتهى ولعل المقضي عليه دين فأداه بغير بينة فعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على التقصير في الإشهاد قاله القاري قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال انتهى قلت لم يخرجه النسائي في السنن بل في عمل اليوم والليلة قال المزي حديث سيف الشامي ولم ينسب عن عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين الحديث أخرجه أبو داود في القضاء عن عبد الوهاب بن نجدة وموسى بن مروان الرقي والنسائي في عمل اليوم والليلة عن عمرو بن عثمان ثلاثتهم عن بقية بن الوليد عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان 29 باب في الدين هل يحبس به (لي الواجد) بفتح اللام وتشديد التحتية والواجد بالجيم أي مطل القادر على قضاء دينه (يحل) بضم أوله وكسر ثانيه (عرضه وعقوبته) بالنصب فيهما على المفعولية والمعنى إذا مطل الغني عن قضاء دينه يحل للدائن أن يغلظ القول عليه ويشدد في هتك عرضه وحرمته وكذا للقاضي التغليظ عليه وحبسه تأديبا له لأنه ظالم والظلم حرام وإن قل والله تعالى أعلم (قال ابن المبارك يحل عرضه) أي قال في تفسير هذا اللفظ (يغلظ) بصيغة المجهول من التغليظ (له) وفي بعض النسخ عليه (وعقوبته) أي قال في تفسير هذا اللفظ (يحبس له) على البناء للمفعول قال الخطابي في الحديث دليل على أن المعسر لاحبس في عليه لأنه إنما أباح حبسه إذا كان واجدا والمعدم غير واجد فلا حبس عليه وقد اختلف الناس في هذا فكان شريح يرى حبس الملي والمعدم وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي وقال مالك لا حبس على معسر إنما حظه الإنظار ومذهب الشافعي أن من كان ظاهر حاله العسر فلا يحبس ومن كان ظاهره اليسار حبس إذا امتنع من أداء الحق انتهى
[ 42 ]
قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه (أخبرنا هرماس) بكسر الهاء وسكون الراء المهملة (رجل) بالرفع بدل من هرماس (عن جده) ليس هذا اللفظ في بعض النسخ (بغريم) أي مديون (فقال لي الزمه) بفتح الزاي فيه دليل على جواز ملازمة من له الدين لمن هو عليه بعد تقرره بحكم الشرع قال في النيل وعن أبي حنيفة وأحد وجهي أصحاب الشافعي فقالوا إنه يسير حيث سار ويجلس حيث جلس غير مانع له من الاكتساب ويدخل معه داره وذهب أحمد إلى أن الغريم إذا طلب ملازمة غريمه حتى يحضر ببينته القريبة أجيب إلى ذلك لأنه لو لم يمكن من ملازمته ذهب من مجلس الحاكم وهذا بخلاف البينة البعيدة وذهب الجمهور إلى أن الملازمة غير معمول بها بل إذا قال لي بينة غائبة قال الحاكم لك يمينه أو أخره حتى تحضر بينتك وحملوا الحديث على أن المراد إلزم غريمك بمراقبتك له بالنظر من بعد ولعل الاعتذار عن الحديث بما فيه من المقال أولى من هذا التأويل المتعسف (ما تريد أن تفعل بأسيرك) وزاد ابن ماجه ثم مر بي آخر النهار فقال ما فعل أسيرك يا أخي بني تميم وسماه أسيرا باعتبار ما يحصل له من المذلة بالملازمة له وكثرة تذلله عند المطالبة وكأنه يعرض بالشفاعة قال المنذري وأخرجه ابن ماجه ووقع في كتاب ابن ماجه عن أبيه عن جده على الصواب وذكره البخاري في تاريخه الكبير عن أبيه عن جده وقال ابن أبي حاتم هرماس بن حبيب العنبري روى عن أبيه عن جده ولجده صحبة وذكر أنه سأل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين عن الهرماس بن حبيب العنبري فقالا لا نعرفه وقال سألت أبي عن هرماس بن حبيب فقال هو شيخ أعرابي لم يرو عنه غير النضر بن شميل ولا يعرف أبوه ولا جده انتهى كلام المنذري وقال المزي في الأطراف حبيب التميمي العنبري والد هرماس بن حبيب عن أبيه أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي الحديث أخرجه أبو داود في القضاء عن معاذ بن أسد عن النضر بن شميل عن هرماس بن حبيب عن أبيه عن جده وسقط من كتاب الخطيب أي نسخة من أبي داود عن جده ولا بد منه وأخرجه ابن ماجه في الأحكام انتهى (
[ 43 ]
حبس رجلا في تهمة) أي في أداء شهادة بأن كذب فيها أو بأن ادعى عليه رجل ذنبا أو دينا فحبسه صلى الله عليه وسلم ليعلم صدق الدعوى بالبينة ثم لما لم يقم البينة خلى عنه قاله القاري قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن وزاد في حديث الترمذي والنسائي ثم خلى عنه وجد بهز بن حكيم هو معاوية بن حيدة القشيري وله صحبة وقد تقدم الكلام على الاختلاف في الاحتجاج بحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده انتهى وفي أسد الغابة معاوية بن حيدة القشيري من أهل البصرة غزا خراسان ومات بها وهو جد بهز بن حكيم بن معاوية روى عنه ابنه حكيم بن معاوية وسئل يحيى بن معين عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فقال إسناده صحيح إذا كان من دون بهز ثقة انتهى (إسماعيل) هو ابن علية (عن بهز بن حكيم) ابن معاوية بن حيدة القشيري (عن أبيه) حكيم (عن جده) معاوية (إن أخاه) أي أخا معاوية (أو عمه) شك من الراوي (وقال مؤمل إنه) أي معاوية (جيراني) جمع جار وهو مفعول مقدم لقوله أخذوا (بما أخذوا) على بناء الفاعل أي بأي وجه أخذ أصحابك جيراني وقومي وحبسوهم أو قوله بما أخذوا بصيغة المجهول وجيراني مفعول ما لم يسم فاعله (فأعرض) النبي صلى الله عليه وسلم (ثم ذكر) أي معاوية (شيئا) أي في شأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره المؤلف تأدبا وهو مذكور في رواية أحمد كما سيجئ (خلوا) أمر من خلى يخلي من التفعيل يقال خلى عنه أي تركه (له) أي لمعاوية (عن جيرانه) أي اتركوا جيرانه وأخرجوها من الحبس وهذا الحديث أخرجه أحمد من عدة طرق منها عن إسماعيل بن علية أخبرنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن أباه أو عمه قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال جيراني بم أخذوا فأعرض عنه ثم قال أخبرني بم أخذوا فأعرض عنه فقال لئن قلت ذاك إنهم ليزعمون أنك تنهى عن الغي
[ 44 ]
وتستخلي به فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فقام أخوه أو ابن أخيه فقال يارسول الله إنه قال فقال لقد قلتموها أو قائلكم ولئن كنت أفعل ذلك إنه لعلي وما هو عليكم خلوا له عن جيرانه وأخرج من طريق عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده قال أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناسا من قومي في تهمة فحبسهم فجاء رجل من قومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال يا محمد علام تحبس جيراني فصمت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال إن ناسا ليقولون إنك تنهي عن الشر وتستخلي به فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول قال فجعلت أعرض بينهما بالكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دعوة لا يفلحون بعدها أبدا فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم به حتى فهمها فقال قد قالوها أو قائلها منهم والله لو فعلت لكان علي وما كان عليهم خلوا له عن جيرانه انتهى وقوله تستخلي به أي تنفرد به والله أعلم (لم يذكر مؤمل وهو يخطب) أي لم يذكر هذا اللفظ والحديث سكت عنه المنذري 30 باب في الوكالة بفتح الواو وقد تكسر وهي في الشرع إقامة الشخص غيره مقام نفسه مطلقا أو مقيدا (فإن ابتغى) أي طلب (الآية) أي علامة (فضع يدك على ترقوته) بفتح المثناة من فوق وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان من الجانبين كذا في النهاية وفي اللمعات مقدم الحلق في أعلى الصدر حيثما يرقى فيه النفس وفي الحديث دليل على صحة الوكالة وفيه أيضا دليل على استحباب اتخاذ علامة بين الوكيل وموكله لا يطلع عليها غيرهما ليعتمد الوكيل عليها في الدفع لأنها أسهل من الكتاب فقد لا يكون أحدهما ممن يحسنها ولأن الخط يشتبه قال المنذري في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار
[ 45 ]
31 باب في القضاء (إذا تدارأتم) أي تنازعتم (فاجعلوه سبعة أذرع) قال في الفتح الذي يظهر أن المراد بالذراع ذراع الآدمي فيعتبر ذلك بالمعتدل وقيل المراد ذراع البنيان المتعارف انتهى قال النووي وأما قدر الطريق فإن جعل الرجل بعض أرضه المملوكة طريقا مسبلة للمارين فقدرها إلى خيرته والأفضل توسيعها وليس هذه الصورة مرادة الحديث وإن كان الطريق بين أرض لقوم وأرادوا إحياءها فإن اتفقوا على شئ فذاك وإن اختلفوا في قدره جعل سبع أذرع وهذا مراد الحديث أما إذا وجدنا طريقا مسلوكا وهو أكثر من سبعة أذرع فلا يجوز لأحد أن يستولي على شئ منه وإن قل لكن له عمارة ما حواليه من الموت ويملكه بالإحياء بحيث لا يضر المارين انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح وأخرجه الترمذي أيضا من حديث بشير بن نهيك عن أبي هريرة وقال وهو غير محفوظ وذكر أن الأول أصح وأخرجه مسلم من حديث عبد الله بن الحارث ختن محمد بن سيرين انتهى كلام المنذري (أن يغرز) بكسر الراء أي يضع (فنكسوا) أي طأطأوا رؤوسهم والمراد المخاطبون وهذا قاله أبو هريرة أيام إمارته على المدينة في زمن مروان فإنه كان يستخلفه فيها قاله في السبل (فقال) أي أبو هريرة (قد أعرضتم) أي عن هذه السنة أو هذه المقالة (لألقينها) أي هذه المقالة (بين أكتافكم) بالتاء جمع كتف
[ 46 ]
قال القسطلاني أي لأصرخن بالمقالة فيكم ولأوجعنكم بن بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشئ بين كتفيه ليستيقظ من غفلته أو الضمير أي في قوله بها للخشية والمعنى إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلن الخشبة على رقابكم كارهين وقصد بذلك المبالغة قاله الخطابي وقال الطيبي هو كناية عن إلزامهم بالحجة القاطعة على ما ادعاه أي لا أقول الخشبة ترمى على الجدار بل بين أكتافكم لما وصى رسول الله بالبر والإحسان في حق الجار وحمل أثقاله انتهى قال النووي اختلفوا في معنى هذا الحديث هل هو على الندب إلى تمكين الجار ووضع الخشب على جدار داره أم على الإيجاب وفيه قولان للشافعي ولأصحاب مالك أصحهما الندب وبه قال أبو حنيفة والثاني الإيجاب وبه قال أحمد وأصحاب الحديث وهو الظاهر لقول أبي هريرة بعد روايته مالي أراكم إلخ انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه (من ضار) أي مسلما كما في رواية أي من أدخل على مسلم جارا كان أو غيره مضرة في ماله أو نفسه أو عرضه بغير حق (أضر الله به) أي جازاه من جنس فعله وأدخل عليه المضرة (ومن شاق) أي مسلما كما في رواية والمشاقة المنازعة أي من نازع مسلما ظلما وتعديا (شاق الله عليه) أي أنزل الله عليه المشقة جزاء وفاقا والحديث فيه دليل على تحريم الضرار على أي صفة كان غير فرق بين الجار وغيره قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي قال الترمذي حسن غريب هذا آخر كلامه . وأبو صرمة هذا له صحبة شهد بدرا واسمه مالك بن قيس ويقال ابن أبي أنيس ويقال قيس بن مالك وقيل مالك بن أسعد وقيل لبابة بن قيس أنصاري نجاري (سمعت أبا جعفر محمد بن علي) هو الإمام المعروف بالباقر (أنه كانت له عضد من نخل) بالعين المهملة المفتوحة والضاد المعجمة المضمومة
[ 47 ]
قال الخطابي عضد هكذا في رواية أبي داود وإنما هو عضيد يريد نخلا لم تسبق ولم تطل قال الأصمعي إذا صار للنخلة جذع يتناول منه المتناول فتلك النخلة العضيدة هذه وجمعه عضيدات سنة وفيه من العلم أنه أمر بإزالة الضرر عنه وليس في هذا الخبر أنه قلع نخله ويشبه أن يكون أنه إنما قال ذلك ليردعه عن الإضرار انتهى كلام الخطابي وقال السندي عضد من نخل أراد به طريقة من النخل ورد بأنه لو كان له نخل كثيرة لم يأمر الأنصاري بقطعها لدخول الضرر عليه أكثر مما يدخل على الأنصاري من دخوله وأيضا إفراد ضمير يناقله يدل على كونه واحدا فالوجه ما قيل الصحيح عضيد وهي نخلة يتناول منها باليد انتهى وفي النهاية أراد طريقة من النخل وقيل إنما هو عضيد من نخل وإذا صار للنخلة جذع يتناول منه فهو عضيد انتهى وقال في المجمع قالوا للطريقة من النخل عضيد لأنها مشاطرة في جهة وقيل إفراد الضمائر يدل على أنه فرد نخل وأيضا لو كانت طريقة من النخل لم يأمره لكثرة الضرر واعتذر بإن إفرادها لإفراد اللفظ انتهى وفي القاموس العضد والعضيدة عمرو الطريقة من النخل وفيه والطريقة النخلة الطويلة (فيتأذى) أي الرجل (فطلب إليه) الضمير المرفوع للرجل والمجرور لسمرة (أن يناقله) أي يبادله بنخيل من موضع آخر (ولك كذا وكذا) أي من الأجر (أمرا رغبة فيه) وفي بعض النسخ أمر بالرفع قال في المجمع أي قوله فهبه له أمر على سبيل الترغيب والشفاعة وهو نصب على الاختصاص أو حال أي قال آمرا مرغبا فيه انتهى (أنت مضار) أي تريد إضرار الناس ومن يرد إضرار الناس جاز دفع ضرره ودفع ضررك أي تقطع شجرك كذا في فتح الودود قال المنذري في سماع الباقر من سمرة بن جندب نظر فقد نقل من مولده ووفاة سمرة ما يتعذر معه سماعا منه وقيل فيه ما يمكن معه السماع منه والله عز وجل أعلم
[ 48 ]
(أن رجلا) أي من الأنصار واسمه ثعلبة بن حاطب وقيل حميد وقيل إنه ثابت بن قيس بن شماس (في شراج) بكسر الشين المعجمة وبالجيم مسايل المياه أحدها شرجة قاله النووي (الحرة) بفتح الحاء المهملة والراء المشددة هي أرض ذات حجارة سود وقال القسطلاني موضع بالمدينة (سرح الماء) أي أرسله (إلى جارك) أي الأنصاري (أن كان ابن عمتك) بفتح الهمزة أي حكمت بهذا لكون الزبير ابن عمتك ولهذا المقال نسب الرجل إلى النفاق وقال القرطبي يحتمل أنه لم يكن منافقا بل صدر منه ذلك عن غير قصد كما اتفق لحاطب بن أبي بلتعة ومسطح وحمنة وغيرهم ممن بدره لسانه بدرة شيطانية (فتلون وجه رسول الله) أي تغير من الغضب لانتهاك حرمة النبوة (إلى الجدار) بفتح الجيم وسكون الدال المهملة وهو الجدار والمراد به أصل الحائط وقيل أصول الشجر والصحيح الأول وفي الفتح أن المراد به هنا المسناة وهي ما وضع بين شريات النخل كالجدار كذا في النيل وما أمر الزبير أولا إلا بالمسامحة وحسن الجوار بترك بعض حقه فلما رأى الأنصاري يجهل موضع حقه أمره باستيفاء تمام حقه وقد بوب الإمام البخاري على هذا الحديث باب إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم البين قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن وأخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه وأخرجه البخاري والنسائي من حديث عروة بن الزبير عن أبيه (في مهزور) بفتح الميم وسكون الهاء بعدها زاي مضمومة ثم واو ساكنة ثم راء وهو
[ 49 ]
وادي بني قريظة بالحجاز قال البكري في المعجم هو واد من أودية المدينة وقيل موضع سوق المدينة وقال ابن الأثير والمنذري أما مهروز بتقديم الراء على الزاي فموضع سوق المدينة قاله في النيل (أن الماء إلى الكعبين) أي كعبي رجل الإنسان الكائنين عند مفصل الساق والقدم (لا يحبس الأعلى على الأسفل) المراد من الأعلى من يكون مبدأ الماء من ناحيته والمعنى لا يمسك الأعلى الماء على الأسفل بل يرسله بعد ما يمسكه إلى الكعبين والحديث سكت عنه المنذري (عبد الرحمن بن الحارث) بدل من أبي (قضى في السيل المهزور) كذا في جميع النسخ الحاضرة بلام التعريف فيهما قال في المرقاة قال التوربشتي رحمه الله هذا اللفظ وجدناه مصروفا عن وجهه ففي بعض النسخ في السيل المهزور وهو الأكثر وفي بعضها في سيل المهزور بالإضافة وكلاهما خطأ وصوابه بغير ألف ولام فيهما بصيغة الإضافة إلى علم وقال القاضي لما كان المهزور علما منقولا من صفة مشتقة من هزره إذا غمضه جاز إدخال اللام فيه تارة وتجريده أخرى انتهى وحاصله أن ال فيه للمح الأصل وهو الصفة ومع هذا كان الظاهر في سيل المهزور فكان مهزور بدلا من السيل بحذف مضاف أي سيل مهزور انتهى (أن يمسك) بصيغة المجهول أي الماء في أرضه (حتى يبلغ) أي الماء في هذا الحديث والذي قبله أن الأعلى تستحق أرضه الشرب بالسيل والغيل وماء البئر قبل الأرض التي تحتها وأن الأعلى يمسك الماء حتى يبلغ إلى الكعبين قال ابن التين الجمهور على أن الحكم أن يمسك إلى الكعبين وخصه ابن كنانة بالنخل والشجر قال وأما الزرع فإلى الشراك وقال الطبري الأراضي مختلفة فيمسك لكل أرض ما يكفيها كذا في النيل وأخرج أبو نعيم عن ثعلبة بن أبي مالك عن أبيه قال اختصم إلى رسول الله في واد يقال له مهزور وكان الوادي فينا وكان يستأثر بعضهم على بعض فقضى رسول الله إذا بلغ الماء كعبين أن لا يحبس الأعلى على الأسفل
[ 50 ]
وأخرج أيضا عن صفوان بن سليم عن ثعلبة بن أبي مالك أن رسول الله قضى في مشارب النخل بالسيل الأعلى على الأسفل حتى يشرب الأعلى ويروي الماء إلى الكعبين ثم يسرح الماء إلى الأسفل وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء كذا في كنز العمال قال المنذري وأخرجه ابن ماجه والراوي عن عمرو بن شعيب عبد الرحمن بن الحارث المخزومي المدني تكلم فيه الإمام أحمد (حدثهم) أي محمود بن خالد وغيره (أخبرنا عبد العزيز بن محمد) الدراوردي (عن أبي طوالة) بضم الطاء المهلمة وتخفيف الواو هو عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري المدني قاضي المدينة لعمر بن عبد العزيز (وعمرو بن يحيى) بن عمارة المازني المدني (عن أبيه) يحيى بن عمارة المازني فأبو طوالة وعمرو بن يحيى كلاهما يرويان عن يحيى بن عمارة (في حريم نخلة) أي في أرض حول النخلة قريبا منها قاله ابن الأثير في جامع الأصول قال أصحاب اللغة الحريم هو كل موضع تلزم حمايته وحريم البئر وغيرها ما حولها من حقوقها ومرافقها وحريم الدار ما أضيف إليها وكان من حقوقها (في حديث أحدهما) أي أبي طوالة أو عمرو بن يحيى (فأمر) النبي (بها) أي بالنخلة يشبه أي يكون المعنى أن يذرع طول النخلة وقامتها بالذراع والساعد وسيجئ تفسير عبد العزيز الراوي لهذا اللفظ (فذرعت) بصيغة المجهول أي تلك النخلة يعني قامتها (فوجدت) قامتها (سبعة أذرع) أي من ذراع الإنسان (فقضى) النبي (بذلك) أي بأن يكون حريم شجر النخلة على قدر قامتها فإن كانت النخلة سبعة أذرع يكون حريمها أي ما حواليها سبعة أذرع وإن كانت أكثر من سبعة أذرع يكون حريمها مثلها وإن كانت أقل من سبعة أذرع يكون حريمها مثله في القلة فلا يجوز لأحد أن يستولي على شئ من حريمها وإن قل ولكن له عمارة أو غيرها بعد حريمها وكذلك الحكم لكل شجر من الأشجار فيكون حريمه بقدر قامته وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وأبو عوانة والطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت قال قضى رسول الله في الرحبة يكون من الطريق ثم يريد أهلها البنيان فيها فقضى أن يترك للطريق منها سبعة أذرع وقضى في النخل أو النخلتين أو الثلاث يختلفون في
[ 51 ]
حقوق ذلك فقضى أن لكل نخلة من أولئك مبلغ جريدها حريم لها وقضى في شرب النخل من السيل أن الأعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه فكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء الحديث بطوله وعند ابن ماجه من حديثه بلفظ حريم النخل مد جريدها كذا في كنز العمال قلت والجمع بينهما بتعدد الواقعة وأن حريم النخل فيه قضيتان أو حديث عبادة مفسر لحديث أبي سعيد (قال عبد العزيز) راوي الحديث مفسرا لقوله فأمر بها فذرعت (فأمر) النبي (بجريدة) واحدة الجريد فعيلة بمعنى مفعولة وإنما تسمى جريدة إذا جرد عنها خوصها أي ورق النخل (من جريدها) أي من جريد النخلة والجريد أغصان النخل إذا زال منها الخوص أي ورقها والسعف أغصان النخل ما دامت بالخوص والغصن بالضم ما تشعب عن ساق الشجر دقاقها قبل وغلاظها يحيى وجمعه غصون وأغصان والمعنى أي أمر النبي بغصن من أغصان النخلة أن يجعل بقدر الذراع ويذرع به النخلة (فذرعت) النخلة أي قامتها بهذا الغصن والله أعلم والحديث سكت عنه المنذري
[ 52 ]
كتاب العلم اول كتاب في العلم باب في فضل العلم قال في الفتح والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه (عن كثير بن قيس) الشامي ضعيف من الثالثة ووهم ابن قانع فأورده في الصحابة كذا في التقريب (دمشق) بكسر الدال وفتح الميم ويكسر أي الشام (فجاءه) أي أبا الدرداء (رجل) أي من طلبة العلم (لحديث) أي لأجل تحصيل حديث (ما جئت) إلى الشام (لحاجة) أخرى غير أن أسمعت الحديث ثم تحديث أبي الدرداء بما حدثه يحتمل أن يكون مطلوب الرجل بعينه أو يكون بيانا أن سعيه مشكور عند الله ولم يذكر هنا ما هو مطلوبه والأول أغرب والثاني أقرب (قال) أبو الدرداء (من سلك) أي دخل أو مشى (يطلب فيه) أي في ذلك الطريق أو في ذلك المسلك أو في سلوكه (سلك الله به) الضمير المجرور عائد إلى من والباء للتعدية أي جعله سالكا ووفقه أن يسلك طريق الجنة وقيل عائد إلى العلم والباء للسبية وسلك بمعنى سهل والعائد إلى من محذوف والمعنى سهل الله له بسبب العلم (طريقا) فعلى الأول سلك من السلوك وعلى
[ 53 ]
الثاني من السلك والمفعول محذوف (رضى) حال أو مفعول له على معنى إرادة رضى ليكون فعلا لفاعل الفعل المعلل قاله القاري (لطالب العلم) اللام متعلق برضى وقل التقدير لأجل الرضى الواصل منها إليه أو لأجل إرضائها لطالب العلم بما يصنع من حيازة الوراثة العظمى وسلوك السنن الأسنى قال زين العرب وغيره قيل معناه أنها تتواضع لطالبه توقيرا لعلمه كقوله تعالى واخفض لهما جناح الذل من الرحمة أي تواضع لهما أو المراد الكف عن الطيران والنزول للذكر أو معناه المعونة وتيسير المؤنة بالسعي في طلبه أو المراد تليين الجانب والانقياد والفئ عليه بالرحمة والانعطاف أو المراد حقيقته وإن لم تشاهد وهي فرش الجناح وبسطها لطالب العلم لتحمله عليها وتبلغه مقعده من البلاد قاله القاري (وإن العالم ليستغفر له) قال الخطابي إن الله سبحانه قد قيض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان العلم على ألسنة العلماء أنواعا من المنافع والمصالح والأرزاق فهم الذين بينوا الحكم فيما يحل ويحرم منها وأرشدوا إلى المصلحة في بابها وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم عليها (والحيتان) جمع الحوت (ليلة البدر) أي ليلة الرابع عشر (لم يورثوا) بتشديد الراء من التوريث (ورثوا العلم) لإظهار الإسلام ونشر الأحكام (فمن أخذه) أي أخذ العلم من ميراث النبوة (أخذ بحظ) أي بنصيب (وافر) كثير كامل قال المنذري والحديث أخرجه ابن ماجه وأخرجه الترمذي وقال فيه عن قيس بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء فذكره وقال ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة وليس إسناده عندي بمتصل وذكر أن الأول أصح هذا آخر كلامه وقد اختلف في هذا الحديث اختلافا كثيرا فقيل فيه كثير بن قيس وقيل قيس بن كثير بن قيس ذكر أنه جاءه رجل من أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعضها عن كثير بن قيس قال أتيت أبا الدرداء وهو جالس في مسجد دمشق فقلت يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة
[ 54 ]
الرسول في حديث بلغني عنك وفي بعضها جاءه رجل من أهل المدينة وهو بمصر ومنهم من أثبت في إسناده داود بن جميل ومنهم من أسقطه وروي عن كثير بن قيس عن يزيد بن سمرة عن أبي الدرداء وروى يزيد بن سمرة وغيره من أهل العلم عن كثير بن قيس قال أقبل رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء وذكر ابن سميع في الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام وقال كثير بن قيس أمره ضعيف أثبته أبو سعيد يعني دحيما انتهى كلام المنذري (شبيب بن شيبة) شبيب بالشين المعجمة ثم الباء الموحدة كذا في كتب الرجال وقال في التقريب شبيب بن شيبة شامي مجهول وقيل الصواب شعيب ابن رزيق انتهى وقال المزي أخرج أبو داود في العلم عن محمد بن الوزير عن الوليد قال لقيت شبيب بن شيبة فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة قال المزي ورواه عمرو بن عثمان الحمصي عن الوليد بن مسلم عن شعيب بن زريق عن عثمان بن أبي سودة انتهى (فحدثني به) أي بالحديث المذكور (يسلك) أي يدخل أو يمشي (طريقا) أي قريبا أو بعيدا (يطلب) حال أو صفة (إلا سهل الله له) أي للرجل (به) أي بذلك السلوك أو الطريق أو الالتماس أو العلم (طريقا) أي موصلا (ومن أبطأ عمله) أي من أخره عمله السيئ وتفريطه في العمل الصالح لم ينفعه في الآخرة شرف النسب يقال بطأ به وأبطأ به بمعنى قاله في النهاية وقال القاري أي من أخره وجعله بطيئا عن بلوغ درجة السعادة عمله السيئ في الآخرة (لم يسرع به نسبه) أي لم يقدمه نسبه ولم يحصل له التقرب إلى الله تعالى قال المنذري والحديث أخرجه مسلم أتم منه وأخرجه الترمذي مختصرا
[ 55 ]
2 باب رواية حديث أهل الكتاب (وعنده) أي النبي صلى الله عليه وسلم (مر) بصيغة المجهول (فقال) اليهودي (هل تتكلم هذه الجنازة) أي في القبر مع الملكين المنكر والنكير (الله أعلم) يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف قبل أن
[ 56 ]
يعلم بسؤال الملكين في القبر أو أنه توقف في خصوصية ذلك الميت لأن اليهودي فرض الكلام في خصوصه قاله في فتح الودود (فلا تصدقوهم) أي في ذلك الحديث وهذا محل الترجمة قال المنذري أبو نملة الأنصاري الظفري اسمه عمار بن معاذ وقيل غير ذلك له صحبة وأخوه أبو ذر الحارث له صحبة ولأبيهما معاذ بن زرارة أيضا صحبة وابنه هو نملة بن أبي نملة روى عنه الزهري (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي بتعلم كتاب يهود (فتعلمت له) أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم (وقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم هو عطف على أمرني لبيان علة الأمر (ما آمن يهود على كتابي) أي أخاف إن أمرت يهوديا بأن يكتب كتابا إلى اليهود أو يقرأ كتابا جاء من اليهود أن يزيد فيه أو ينقص (فتعلمته) أي كتاب يهود (حتى حذقته) بذال معجمة وقاف أي عرفته وأتقنته وعلمته (فكنت أكتب له) أي للنبي صلى الله عليه وسلم (إذا كتب) أي إذا أراد الكتابة ومطابقة الترجمة للحديث في قوله ما آمن يهود فإن من كان حاله أن لا يعتمد عليه في الكتابة فكيف يعتمد على روايته بالأخبار والله أعلم قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وأخرجه البخاري تعليقا في كتاب العلم
[ 57 ]
3 باب كتابة العلم (وقالوا) أي قريش (ورسول الله صلى الله عليه وسلم) الواو للحال (فأومأ) أي أشار النبي صلى الله عليه وسلم (بإصبعه) الكريمة (إلى فيه فقال) النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو مشيرا إلى فمه الكريمة (أكتب) يا عبد الله بن عمرو (ما) نافية (منه) أي من فمي (إلا حق) من الله تعالى فلا تمسك عن الكتابة بل اكتب ما تسمعه مني والحديث سكت عنه المنذري وأخرج الدارمي عن عبد الله بن عمرو أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله إني أريد أن أروي من حديثك فأردت أن أستعين بكتاب يدي مع قلبي إن رأيت ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان حديثي ثم استعن بيدك مع قلبك أي إن كان حديثا يقينا من غير شبهة فاحفظه ثم استعن بيدك مع قلبك قاله الشيخ ولي الله الدهلوي وأخرج الدارمي وغيره عن وهب بن منبه عن أخيه سمع أبا هريرة يقول ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب (فسأله) أي سأل زيد معاوية (فأمر) معاوية (أمرنا أن لا نكتب)
[ 58 ]
قال الخطابي يشبه أن يكون النهي متقدما وآخر الأمرين الإباحة وقد قيل إنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه انتهى قال علي القاري فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا فلا وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالتبليغ وقال ليبلغ الشاهد الغائب فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ ولم يؤمن ذهاب العلم وأن يسقط أكثر الحديث فلا يبلغ آخر القرون من الأمة ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم والله أعلم انتهى قال المنذري في إسناده كثير بن زيد الأسلمي مولاهم المزني وفيه مقال والمطلب بن عبد الله بن حنطب قد وثقه غير واحد وقال محمد بن سعد كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه لأنه يرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس له لقا وعامة أصحابه يدلسون هذا آخر كلامه وقد قيل إنه سمع من عمرو أن الأوزاعي روى عنه والظاهر أنهما اثنان لأن الراوي عن عمر لم يدركه الأوزاعي وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه الحديث (عن أبي سعيد الخدري) والحديث ليس من رواية اللؤلؤي قال المزي هو في رواية أبي الحسن بن العبد ولم يذكره أبو القاسم (فقال اكتبوا لأبي شاه) هو بشين معجمة وهاء بعد الألف في الوقف والدرج ولا يقال بالتاء قاله العيني وقال الحافظ في الفتح يستفاد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة الحديث عنه وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن رواه مسلم والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره والإذن في غير ذلك أو النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شئ واحد والإذن في
[ 59 ]
تفريقها أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنه لا ينافيها وقيل النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ والإذن لمن أمن منه ذلك ومنهم من أعل حديث أبي سعيد وقال الصواب وقفه على أبي سعيد قاله البخاري وغيره انتهى قال المزي في الأطراف حديث مؤمل بن الفضل ليس في الرواية وكذلك حديث علي ابن سهل وهما في رواية أبي الحسن بن العبد وغيره ولم يذكره أبو القاسم (قلت لأبي عمرو) هو الأوزاعي والحديث ليس من رواية اللؤلؤي وتقدم قول المزي فيه 4 باب التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (عن بيان بن بشر) الأحمسي هو أبو بشر الكوفي ثقة ثبت (قال قلت) قال عبد الله بن الزبير (قال) الزبير (أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم من حروف التنبيه (منه) أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم (وجه ومنزلة) أي قرب وقرابة فكثر بذلك مجالستي معه وسماعي منه صلى الله عليه وسلم فليس سبب ذلك قلة السماع له سببه خوف الوقوع في الكذب عليه قاله في فتح الودود (من كذب
[ 60 ]
علي متعمدا) وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشئ على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذا الإكثار مظنة الخطأ والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشارع فمن خشي من الإكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه اثم إذا تعمد الإكثار فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبيت أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان قاله في الفتح وقال العيني من موصولة تتضمن معنى الشرط وكذب علي صلتها وقوله فليتبوأ جواب الشرط فلذلك دخلته الفاء (فليتبوأ) بكسر اللام هو الأصل وبالسكون هو المشهور وهو أمر من التبوء وهو اتخاذ المباءة أي المنزل يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه موضعا لمقامه وقال الخطابي تبوأ بالمكان أصله من مباءة الإبل وهي أعطانها وظاهره أمر ومعناه خبر يريد أن الله تعالى يبوءه مقعده من النار قاله العيني (مقعده) هو مفعول ليتبوأ وكلمة من من النار بيانية أو ابتدائية قال جماعة من الحفاظ إن حديث من كذب علي في غاية الصحة ونهاية القوة حتى أطلق عليه أنه متواتر قال المنذري والحديث أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه وليس في حديث البخاري والنسائي متعمدا والمحفوظ من حديث الزبير أنه ليس فيه متعمدا وقد روي عن الزبير أنه قال والله ما قال متعمدا وأنتم تقولون متعمدا
[ 61 ]
5 الكلام في كتاب الله بلا علم (من قال) أي من تكلم (في كتاب الله) أي في لفظه أو معناه (برأيه) أي بعقله المجرد ومن تلقاء نفسه من غير تتبع أقوال الأئمة من أهل اللغة والعريبة الرحمن المطابقة للقواعد الشرعية بل بحسب ما يقتضيه عقله وهو مما يتوقف على النقل قال السيوطي قال البيهقي إن صح أراد والله أعلم الرأي الذي يغلب على القلب من غير دليل قام عليه وأما الذي يشده برهان فالقول به جائز وقال البيهقي في المدخل في هذا الحديث نظر وإن صح فإنما أراد به والله أعلم فقد أخطأ الطريق فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي معرفة ناسخه ومنسوخه وسبب نزوله وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله وأدوا إلينا من السنن ما يكون بيانا لكتاب الله تعالى قال تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ففيه كفاية عن فكرة من بعده وما لم يرد عنه بيانه ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد قال وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة بأصول العلم وفروعه فتكو ن موافقته للصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة وقال الماوردي قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولو صحبها الشواهد ولم يعارض شواهدها نص صريح وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه كما قال تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم بالاستنباط ولما فهم الأكثر من كتابه تعالى شيئا وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق وإصابته اتفاق إذ الغرض أنه مجرد رأي لا شاهد له انتهى كلام السيوطي (فأصاب) أي ولو صار مصيبا بحسب الاتفاق (فقد أخطأ) أي فهو مخطئ بحسب
[ 62 ]
الحكم الشرعي وفي رواية الترمذي من حديث ابن عباس مرفوعا من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل بن أبي حزم هذا آخر كلامه وسهيل بن أبي حزم بصري واسم أبي حزم مهران وقد تكلم فيه الإمام أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم 6 تكرير الحديث (لئلا يخفى على السامع شئ (عن أبي عقيل) بفتح العين هو الدمشقي (عن أبي سلام) بفتح اللام المخففة هو ممطور الأسود الحبشي (خدم) بصيغة الماضي من باب نصر وضرب (كان) أي غالبا أو أحيانا (أعاده) أي الحديث وكرره (ثلاث مرات) حتى يفهم ذلك الحديث عنه فهما قويا راسخا في النفس ولفظ البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه قال السندي هو محمول على الحديث المهتم بشأنه وإلا لما كان لقول الصحابة في بعض الأحاديث قاله مرتين أو ثلاث مرات كثير وجه انتهى وقال الخطابي إعادة الكلام ثلاثا إما لأن من الحاضرين من يقصر فمه عن وعيه فيكرره ليفهم وإما أن يكون القول فيه بعض الإشكال فيتظاهر بالبيان انتهى وقال بعض الأئمة أو أراد إبلاغ في التعليم والزجر في الموعظة
[ 63 ]
7 في سرد الحديث أي تتابعه وتواليه والاستعجال فيه هل يجوز أم لا (فجعل) أبو هريرة (فلما قضت) عائشة رضي الله عنها (ألا تعجب) بعموم الخطاب أو الخطاب لعروة (إلى هذا) أي أبي هريرة (و) إلى (حديثه) كيف سرد الحديث (إن كان) إن مخففة من مشددة (لو شاء العاد) اسم فاعل من العد أي لو أراد مريد العد عد الحديث والكلام والجملة مبتدأة (أن يحصيه) الضمير المنصوب إلى الحديث وفاعله العاد والجملة مفعول شاء (أحصاه) خبر المبتدأ أي عده واستقصاه وفي وضع أحصاه موضع عده مبالغة لا تخفى فإن أصل الإحصاء هو العد بالحصى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه المهري بالفتح والسكون إلى مهرة قبيلة من قضاعة (حدثه) أي ابن شهاب (يسمعني) أي أبو هريرة (ذلك) الحديث (وكنت أسبح) أي أصلي نافلة (فقام) أبو هريرة (قبل أن أقضي سبحتي) أن نافلتي وكان (ولو أدركته) أي أبا هريرة حالة التحديث (لرددت عليه) بتشديد الدال الأولى أي رددت الكلمات الحديثية وعرضتها على أبي هريرة لأحفظهن ومنه في الحديث فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ونبيك كذا في المجمع (لم يكن يسرد) بضم الراء أي لم يكن يتابع (الحديث) أي الكلام (سردكم) أي كسردكم المتعارف
[ 64 ]
بينكم من كمال اتصال ألفاظكم روى بل كان كلامه فصلا بينا واضحا لكونه مأمورا بالبلاغ المبين قال الطيبي يقال فلان سرد الحديث إذا تابع الحديث بالحديث استعجالا وسرد الصوم تواليه يعني لم يكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم متتابعا بحيث يأتي بعضه إثر بعض فيلتبس على المستمع بل كان يفصل كلامه لو أراد المستمع عده أمكنه فيتكلم بكلام واضح مفهوم في غاية الوضوح والبيان كذا في المرقاة وفيه دليل على أن المحدث والقارئ للقرآن لا يحدث ولا يقرأ متتابعا استعجالا بحيث يلتبس ويشتبه على السامع حديثه وقراءته بل يحدث بكلام واضح مفهوم ليأخذ عنه المستمع ويحفظ عنه وهكذا يفعل القارئ للقرآن والله أعلم قال المنذري وهو معنى الحديث المتقدم والحديث أخرجه الترمذي والنسائي 8 باب التوقي أي الاحتراز في الفتيا بالضم والقصر ويفتح بمعنى الفتوى والفتوى بالواو فتفتح الفاء وتضم مقصورا وهي اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم أي حكم المفتي والمعنى هذا باب في الاحتراز عن الفتوى في الواقعات والحوادثات بين بغير علم والاجتناب عن الإشاعة لصعاب المسائل التي غير نافعة في الدين ويكثر فيها الغلط ويفتح بها باب الشرور والفتن فلا يفتي إلا بعد العلم من الكتاب والسنة وآثار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين (نهى عن الغلوطات) بفتح الغين قال في النهاية وفي رواية الأغلوطات قال الهروي الغلوطات تركت منها الهمزة كما تقول جاء الأحمر وجاء الحمر بطرح الهمزة وقد غلط من قال إنها جمع غلوطة وقال الخطابي يقال مسألة غلوط أهل إذا كان يغلط فيها كما يقال شاة حلوب وفرس ركوب فإذا جعلتها اسما زدت فيها الهاء فقلت غلوطة كما يقال حلوبة وركوبة وأراد المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها فيهيج بذلك شر وفتنة وإنما نهى عنها لأنها غير نافعة في الدين ولا تكاد تكون إلا فيما لا يقع ومثله قول ابن مسعود أنذرتكم صعاب المنطق يريد المسائل
[ 65 ]
الدقيقة الغامضة فأما الأغلوطات فهي جمع أغلوطة أفعولة من الغلط كالأحدوثة حديث والأعجوبة انتهى قال الخطابي قال الأوزاعي وهي شرار المسائل والمعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها ويسقط رأيهم فيها انتهى قال المنذري في إسناده عبد الله بن سعد قال أبو حاتم الرازي مجهول (أبو عبد الرحمن المقري) هو عبد الله بن يزيد ثقة فاضل أقرأ القرآن نيفا وسبعين سنة (مسلم بن يسار أبي عثمان) بدل من مسلم (عن أبي عثمان الطنبذي) بضم الطاء والموحدة بينهما نون ساكنة آخره معجمة إلى طنبذا قرية بمصر كذا في الباب (رضيع عبد الملك) صفة أبي عثمان (من أفتى بغير علم) على بناء المفعول أي من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم وهذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه قاله في فتح الودود وقال القاري على صيغة المجهول وقيل من المعلوم يعني كل جاهل سأل عالما عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده (ومن أشار على أخيه) في القاموس أشار عليه بكذا أمره واستشار طلبه المشورة انتهى والمعنى أن من أشار على أخيه وهو مستشير وأمر المستشار المستشير بأمر قاله القاري (يعلم) والمراد بالعلم ما يشمل الظن (أن الرشد) أي المصلحة (في غيره) أي غير ما أشار إليه (فقد خانه) أي خان المستشار المستشير إذ ورد أن المستشار مؤتمن ومن غشنا فليس منا قال المنذري والحديث أخرجه ابن ماجه مقتصرا على الفصل الأول بنحوه
[ 66 ]
9 باب كراهية منع العلم (من سئل عن علم) وهو علم يحتاج إليه السائل في أمر دينه (فكتمه) بعدم الجواب أو بمنع الكتاب (ألجمه الله) أي أدخل الله في فمه لجاما (بلجام من نار) مكافأة له حيث ألجم نفسه بالسكوت قال الخطابي الممسك عن الكلام ممثل بمن ألجم نفسه كما يقال التقي ملجم فإذا ألجم لسانه عن قول الحق والإخبار عن العلم والإظهار به يعاقب في الآخرة بلجام من نار وخرج هذا على معنى مشاكلة العقوبة الذنب قال وهذا في العلم الذي يتعين عليه فرضه كمن رأى كافرا يريد الإسلام يقول علموني الإسلام وما الدين وكيف أصلي وكمن جاء مستفتيا في حلال أو حرام فإنه يلزم في مثل هذا إن يمنعوا الجواب عما سئلوا عنه ويترتب عليه الوعيد والعقوبة وليس الأمر كذلك في نوافل العلم الذي لا ضرورة للناس إلى معرفتها انتهى قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن هذا آخر كلامه
[ 67 ]
وقد روي عن أبي هريرة من طرق فيها مقال والطريق الذي خرج بها أبو داود طريق حسن فإنه رواه عن التبوذكي وقد احتج به البخاري ومسلم عن حماد بن سلمة وقد احتج به مسلم واستشهد به البخاري عن علي بن الحكم البناني قال الإمام أحمد ليس فيه بأس وقال أبو حاتم الرازي لا بأس به صالح الحديث عن عطاء بن أبي رباح وقد اتفق الإمامان على الاحتجاج به وقد روي هذا الحديث أيضا من رواية عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعمرو بن عبسة وعلي بن طلق وفي كل منها مقال باب فضل نشر العلم (عن عبد الله بن عبد الله) قال المزي هو عبد الله بن عبد الله الرازي انتهى وفي بعض النسخ عبد الله بن عبيد الله وهو غلط (تسمعون) على صيغة المعلوم (ويسمع) مبني للمجهول (منكم) خبر بمعنى الأمر أي لتسمعوا مني الحديث وتبلغوه عني وليسمعه من بعدي منكم (ويسمع) بالبناء للمفعول (ممن يسمع) بفتح الياء وسكون السين أي ويسمع الغير من الذي
[ 68 ]
يسمع (منكم) حديثي وكذا من بعدهم وهلم جرا وبذلك يظهر العلم وينتشر ويحصل التبليغ وهو الميثاق المأخوذ على العلماء قاله المناوي والحديث سكت عنه المنذري (نضر الله) قال الخطابي معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة يقال نضره الله ونضره بالتخفيف والتثقيل وأجودهما التخفيف انتهى وقال في النهاية نضره ونضره وأنضره أي نعمه ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه والبريق وإنما أراد حسن خلقه وقدره انتهى قال السيوطي قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن جابر أي ألبسه نضرة وحسنا وخلوص لون وزينة وجمالا أو أوصله الله لنضرة الجنة نعيما ونضارة قال تعالى ولقاهم نضرة تعرف في وجوههم نضرة النعيم قال سفيان بن عيينة ما من أحد يطلب حديثا إلا وفي وجهه نضرة رواه الخطيب وقال القاضي أبو الطيب الطبري رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت يارسول الله أنت قلت نضر الله امرأ فذكرته كله ووجهه يستهل فقال نعم أنا قلته انتهى (فرب) قال العيني رب للتقليل لكنه كثر في الاستعمال للتكثير بحيث غلب حتى صارت كأنها حقيقة فيه (حامل فقه) أي علم قد يكون فقيها ولا يكون أفقه فيحفظه ويبلغه (إلى من هو أفقه منه) فيستنبط منه ما لا يفهمه الحامل (حامل فقه) أي علم (ليس بفقيه) لكن يحصل له الثواب لنفعه بالنقل وفيه دليل على كراهية اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي عند في الفقه لأنه إذا فعل ذلك فقطع طريق الاستنباط والاستدلال لمعاني الكلام من طريق التفهم وفي ضمنه وجوب التفقه والحث على استنباط معاني الحديث واستخراج المكنون من سره قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن وأخرجه ابن ماجه من حديث عباد الأنصاري عن زيد بن ثابت
[ 69 ]
(من حمر النعم) بفتحتين واحد الأنعام وهي الأموال الراعية وأكثر ما يقع على الإبل قاله الكرماني وفي المجمع والأنعام يذكر ويؤنث وهي الإبل والبقر والغنم والنعم الإبل خاصة انتهى فمعنى حمر النعم أي أقواها وأجلدها لأنه والإبل الحمر هي أنفس أموال العرب قال المنذري والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي مطولا في غزوة خيبر وقوله هذا لعلي رضي الله عنه انتهى 11 باب الحديث عن بني إسرائيل (حدثوا عن بني إسرائيل) قال الخطابي ليس معناه إباحة الكذب في أخبار بني إسرائيل ورفع الحرج عمن نقل عنهم الكذب ولكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على معنى البلاغ وإن لم يتحقق صحة ذلك بنقل الإسناد وذلك لأنه أمر قد تعذر في أخبارهم لبعد المسافة وطول المدة ووقوع الفترة بين زماني النبوة وفيه دليل على أن الحديث لا يجوز عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بنقل الإسناد والتثبت فيه (ولا حرج) أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم لأنه كان تقدم منه صلى الله عليه وسلم الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ثم حصل التوسع في ذلك وكان النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار وقيل معنى قوله لا حرج لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب فإن ذلك وقع لهم كثيرا وقيل لا حرج في أن لا تحدثوا عنهم لأن قوله أولا حدثوا صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار إلى عدم الوجوب وأن الأمر فيه للإباحة بقوله ولا حرج أي في ترك التحديث عنهم وقال مالك المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن أما ما علم كذبه فلا قاله في الفتح والحديث سكت عنه المنذري
[ 70 ]
(إلى عظم صلاة) عظم كقفل أي بضم العين وسكون الظاء معظم الشئ قال في النهاية عظم الشئ أكبره كأنه أراد لا يقوم إلا إلى الفريضة انتهى قال المنذري والحديث أخرجه البخاري من حديث أبي كبشة السلولي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار 12 باب في طلب العلم لغير الله (عن أبي طوالة عبد الله) هو اسم أبي طوالة (مما يبتغى) من للبيان أي مما يطلب (به وجه الله) أي رضاه (لا يتعلمه) حال إما من فاعل تعلم أو من مفعوله لأنه تخصص بالوصف ويجوز أن يكون صفة أخرى لعلما (إلا ليصيب به) أي لينال ويحصل بذلك العلم (عرضا) بفتح الراء ويسكن أي حظا مالا أو جاها (عرف الجنة) بفتح عين مهملة وسكون راء مهملة الرائحة مبالغة في تحريم الجنة لأن من لم يجد ريح الشئ لا يتناوله قطعا وهذا محمول على أنه يستحق أنه لا يدخل أولا ثم أمره إلى الله تعالى كأمر أصحاب الذنوب كلهم إذا مات على الإيمان قاله في فتح الودود قال المنذري والحديث أخرجه ابن ماجه انتهى قلت وسريج بن النعمان روى عنه البخاري وغيره ووثقه يحيى بن معين
[ 71 ]
13 باب في القصص أي هذا باب في بيان من أحق من الناس بالقصص والمواعظ والتذكير (لا يقص) نفي لا نهي ووجهه ما قاله الطيبي إنه لو حمل على النهي الصريح لزم أن يكون المختال مأمورا بالاقتصاص ثم القص التكلم بالقصص والأخبار والمواعظ وقيل المراد به الخطبة خاصة والمعنى لا يصدر هذا الفعل إلا من هؤلاء الثلاثة قاله القاري (إلا أمير) أي حاكم (أو مأمور) أي مأذون له بذلك من الحاكم أو مأمور من عند الله كبعض العلماء والأولياء (أو مختال) أي مفتخر متكبر طالب للرياسة وقال في النهاية معناه لا ينبغي ذلك إلا لأمير يعظ الناس ويخبرهم بما مضى ليعتبروا أو مأمور بذلك فيكون حكمه حكم الأمير ولا يقص تكسبا أو يكون القاص مختالا يفعل ذلك تكبرا على الناس أو مرائيا يرائي الناس بقوله وعلمه لا يكون وعظه وكلامه حقيقة وقيل أراد الخطبة لأن الأمراء كانوا يلونها في الأول ويعظون الناس فيها ويقصون عليهم أخبار الأمم السالفة انتهى قال الخطابي بلغني عن ابن سريج أنه كان يقول هذا في الخطبة وكان الأمراء يسلون الخطب ويعظون الناس ويذكرونهم فيها فأما المأمور فهو من يقيمه الإمام خطيبا فيقص الناس ويقص عليهم والمختال هو الذي نصب نفسه لذلك من غير أن يؤمر به ويقص على الناس طلبا للرياسة فهو الذي يرائي بذلك ويختال وقد قيل إن المتكلمين على الناس ثلاثة أصناف مذكر وواعظ وقاص فالمذكر الذي يذكر الناس آلاء الله ونعمائه ويبعثهم به على الشكر له والواعظ يخوفهم بالله وينذرهم عقوبته فيردعهم به عن المعاصي والقاص هو الذي يروي لهم أخبار الماضين ويسرد لهم القصص فلا يأمن أن يزيد فيها أو ينقص والمذكر والواعظ مأمون عليهما ذلك انتهى وقال السندي القص التحدث بالقصص ويستعمل في الوعظ والمختال هو المتكبر قيل هذا في الخطبة والخطبة من وظيفة الإمام فإن شاء خطب بنفسه وإن شاء نصب نائبا
[ 72 ]
يخطب عنه وأما من ليس بإمام ولا نائب عنه إذا تصدى للخطبة فهو ممن نصب نفسه في هذا المحل تكبرا ورياسة وقيل بل القصاص والوعاظ لا ينبغي لهما الوعظ والقصص إلا بأمر الإمام وإلا لدخلا في المتكبر وذلك لأن الإمام أدرى بمصالح الخلق فلا ينصب إلا من لا يكون ضرره أكثر من نفعه بخلاف من نصب فقد يكون ضرره أكثر فقد فعل تكبرا ورياسة فليرتدع أخبرنا عنه قال المنذري في إسناده عباد بن عباد الخواص وفيه مقال (سكت القارئ فسلم) أي النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه لا يسلم على قارئ القرآن وقت قراءته لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما سلم عليهم إلا إذا سكت القارئ (قال) أبو سعيد (من) مفعول لجعل (أمرت أن أصبر نفسي معهم) أي أحبس نفسي معهم إشارة إلى قوله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي (قال) أبو سعيد (ليعدل) أي ليسوي (بنفسه) أي نفسه الكريمة بجلوسه (فينا) قال في مجمع البحار أي يسوي نفسه ويجعلها عديلة مماثلة لنا بجلوسه فينا تواضعا ورغبة فيما نحن فيه انتهى وقيل معناه أي جلس النبي صلى الله عليه وسلم وسط الحلقة ليسوي بنفسه الشريفة جماعتنا ليكون القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لكل رجل منا سواء أو قريبا من السواء يقال عدل فلان بفلان سوى بينهما وعدل الشئ أي أقامه من باب ضرب (ثم قال) أي أشار النبي صلى الله عليه وسلم (له) أي للنبي صلى الله عليه وسلم (قال) أبو سعيد (أبشروا) إلى آخره هو محل الترجمة لأنه الموعظة (صعاليك) جمع صعلوك وهو فقير لا مال له ولا اعتماد ولا احتمال قاله في مجمع البحار (وذلك) أي نصف يوم
[ 73 ]
قال المنذري في إسناده المعلى بن زياد أبو الحسن وفيه مقال وقد أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام نصف يوم وقال الترمذي حسن صحيح وفي لفظ الترمذي يدخل فقراء المسلمين ولفظ ابن ماجه فقراء المسلمين وأخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا فيجمع بينهما بأن فقراء المهاجرين يسبقون إلى الجنة مثل فقراء المسلمين بهذه لما لهم من فضل الهجرة وكونهم تركوا أموالهم بمكة رغبة فيما عند الله عز وجل وقد أخرج الترمذي وابن ماجه أن فقراء المهاجرين يدخلون قبل أغنيائهم بخمس مائة عام وأخرج الترمذي يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا غير أن هذين الحديثين لا يثبتان والله أعلم انتهى كلام المنذري (لأن) بفتح الهمزة (يذكرون الله تعالى) من قراءة القرآن والتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة على النبي صلى الله عليه واله وسلم ويلحق به ما في معناه كدرس علم التفسير والحديث وغير ذلك من علوم الشريعة (من صلاة الغداة) أي الصبح (من أن أعتق) بضم الهمزة وكسر التاء (أربعة) أنفس (مع قوم يذكرون الله) ظاهره وإلم يكن ذاكرا بل مستمعا وهم القوم لا يشقى جليسهم وفيه أن الذكر أفضل من العتق والصدقة قال المنذري في إسناده موسى بن خلف أبو خلف العمي البصري وقد استشهد به البخاري وأثنى عليه غير واحد من المتقدمين وتكلم فيه ابن حبان البستي رضي الله عنه
[ 74 ]
(قال) أي عبد الله (وعليك) الواو للحال (قال إني) أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال) عبد الله (فقرأت عليه) سورة النساء (إلى قوله) تعالى (فكيف) حال الكفار إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليها بعملها وهو نبيها (الآية) وتمام الآية مع تفسيرها وجئنا بك يا محمد على هؤلاء شهيدا يومئذ يوم المجئ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو أي أن (تسوى) بالبناء للمفعول والفاعل مع حذف إحدى التاءين في الأصل ومع إدغامها في السين أي تتسوى بهم الأرض بأن يكونوا ترابا مثلها لعظم هوله كما في آية أخرى ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا ولا يكتمون الله حديثا عما عملوه وفي وقت آخر يكتمون والله ربنا ما كنا مشركين كذا في تفسير الجلالين تهملان قال في المصباح همل المطر والدمع همولا يا من باب قعد انتهى وفي فتح الودود تهملان من باب ضرب ونصر أي تفيضان بالدمع وتسيلان انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي
[ 75 ]
اول كتاب الاشربة باب تحريم الخمر (قال نزل تحريم الخمر) أي في قوله تعالى في آية المائدة يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الآية وفي رواية البخاري خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه قد نزل إلخ (وهي من خمسة أشياء) أي الخمر وفي القاموس قد يذكر والجملة حالية أي نزل تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خسمة أشياء (والخمر ما خامر العقل) أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله وهو من مجاز التشبيه والعقل هو آلة التمييز فلذلك حرم ما غطاه أو غيره لأن بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه قال الكرماني هذا تعريف بحسب اللغة وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة قال الحافظ وفيه نظر لأن عمر ليس في مقام تعريف اللغة بل هو في مقام تعريف الحكم الشرعي فكأنه قال الخمر الذي وقع تحريمه على لسان الشرع هو ما خامر العقل ولو سلم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشرعية
[ 76 ]
وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمرا والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية (وثلاث) أي ثلاث من المسائل (وددت) بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية أي تمنيت (لم يفارقنا) أي من الدنيا (حتى يعهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه) أي يبين لنا فيهن بيانا ننتهي إليه والضمير المجرور في فيهن لثلاث (الجد) أي هل يحجب الأخ أو يحجب به أو يقاسمه فاختلفوا فيه اختلافا كثيرا (والكلالة) بفتح الكاف واللام المخففة من لا ولد له ولا والد له أو بنو العم الأباعد أو غير ذلك (وأبواب من أبواب الربا) أي ربا الفضل لأن ربا النسيئة متفق عليه بين الصحابة ورفع الجد وتالييه بتقدير مبتدأ أي هي الجد قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (عباد بن موسى الختلي) بضم المعجمة وفتح المثناة الشديدة منسوب إلى ختل كورة خلف جيحون قاله السيوطي (بيانا شفاء) وفي بعض النسخ شافيا يسألونك عن الخمر والميسر أي القمار أي ما حكمهما قل فيهما أي في تعاطيهما إثم كبير أي عظيم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش (فدعي) على البناء للمجهول (فقرئت) أي الآية المذكورة لا تقربوا الصلاة أي لا تصلوا وأنتم سكارى جملة حالية فنزلت هذه الآية فهل أنتم منتهون وفي رواية النسائي فنزلت الآية التي في المائدة فدعى عمر فقرئت عليه فلما بلغ فهل أنتم منتهون (قال عمر انتهينا) أي عن إتيانهما أو عن طلب البيان الشافي
[ 77 ]
قال الطيبي فنزلت هذه الآية يعني قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الآيتين وفيهما دلائل سبعة على تحريم الخمر أحدها قوله رجس والرجس هو النجس وكل نجس حرام والثاني قوله من عمل الشيطان وما هو من عمله حرام والثالث قوله فاجتنبوه وما أمر الله تعالى باجتنابه فهو حرام والرابع قوله لعلكم تفلحون وما علق رجاء الفلاح باجتنابه فالإتيان به حرام والخامس قوله إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر وما هو سبب وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين فهو حرام والسادس ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وما يصد به الشيطان عن ذكر الله وعن الصلاة فهو حرام والسابع قوله فهل أنتم منتهون معناه انتهوا وما أمر الله عباده بالانتهاء عنه فا تيان به حرام انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وذكر الترمذي أنه مرسل أصح (دعاه وعبد الرحمن) بالنصب أي دعا عليا وعبد الرحمن (فسقاهما) أي الخمر (فخلط) أي فالتبس عليه ولفظ الترمذي وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون انتهى فيها أي في السورة حتى تعلموا ما تقولون بأن تصحوا وفي الحديث أن المصلي بهم هو علي بن أبي طالب وأخرجه الحاكم عن علي رضي الله عنه بلفظ دعانا رجل من الأنصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدم رجل فقرأ الحديث ثم قال صحيح قال وفي هذا الحديث فائدة كبيرة وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره وقد برأه الله منها فإنه راوي الحديث قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال
[ 78 ]
الترمذي حسن غريب صحيح هذا آخر كلامه وفي إسناده عطاء بن السائب لا يعرف إلا من حديثه وقد قال يحيى بن معين لا يحتج بحديثه وفرق مرة بين حديثه القديم وحديثه الحديث ووافقه على التفرقة الإمام أحمد وقال أبو بكر البزار وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن علي رضي الله تعالى عنه متصل الإسناد إلا من حديث عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن يعني السلمي وإنما كان ذلك قبل أن يحرم الخمر فحرمت من أجل ذلك هذا آخر كلامه وقد اختلف في إسناده ومتنه فأما الاختلاف في إسناده فرواه سفيان الثوري وأبو جعفر الرازي عن عطاء بن السائب فأرسلوه وأما الاختلاف في متنه ففي كتاب أبي داود والترمذي ما قدمناه وفي كتاب النسائي وأبو جعفر النحاس أن المصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وفي كتاب أبي بكر البزار أمروا رجلا فصلى بهم ولم يسمه وفي حديث غيره فتقدم بعض القوم انتهى كلام المنذري (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) جمع سكران وتمام الآية (حتى تعلموا ما تقولون) وهذه الآية في النساء وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى قبل أن تحرم الخمر فقال الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا الآية (ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما) أي في الخمر والميسر (إثم كبير) أي وزر عظيم وقيل إن الخمر عدو للعقل فإذا غلبت على عقل الإنسان ارتكب كل قبيح ففي ذلك آثام كبيرة منها إقدامه على شرب المحرم ومنها فعل ما لا يحل فعله وأما الإثم الكبير في الميسر فهو أكل المال الحرام بالباطل وما يجري بينهما من الشتم والمخاصمة والمعاداة وكل ذلك فيه آثام كثيرة ومنافع للناس يعني أنهم كانوا يربحون في بيع الخمر قبل تحريمها وهذه الآية في البقرة وتمامها مع تفسيرها هكذا (وإثمهما أكبر من نفعهما) يعني إثمهما
[ 79 ]
بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم وقيل إنهما قوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع الآية فهذه ذنوب يترتب عليها آثام كبيرة بسبب الخمر والميسر (نسختهما) أي الآية الأولى وهي يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى والآية الثانية وهي يسالونك عن الخمر ووالميسر الآية التى في المائدة) يا أيها الذين آمنوا (إنما الخمر والميسر والأنصاب الآية) الميسر القمار والأنصاب الأصنام وهي الحجارة التي كانو ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها وتمام الآيتين مع تفسيرهما هكذا والأزلام هي القداح التي كانوا يستقسمون بها رجس نجس أو خبيث مستقذر من عمل الشيطان لأنه يحمل عليه فكأنه عمله فاجتنبوه أي الرجس لأنه اسم جامع للكل كأنه قال إن هذه الأربعة الأشياء كلها رجس فاجتنبوه لعلكم تفلحون يعني لكي تدركوا الفلاح إذا اجتنبتم هذه المحرمات التي هي رجس إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر يعني إنما يزين لكم الشيطان شرب الخمر والقمار وهو الميسر ويحسن ذلك لكم إرادة أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء بسبب شرب الخمر لأنها تزيل عقل شاربها فيتكلم بالفحش وربما أفضى ذلك إلى المقاتلة وذلك سبب إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيها وقال قتادة كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقمر فيقعد حزينا سليبا ينظر إلى ماله في يد غيره فيورثه ذلك العداوة والبغضاء فنهى الله عن ذلك (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) لأن شرب الخمر يشغل عن ذكر الله وعن فعل الصلاة وكذلك القمار يشغل صاحبه عن ذكر الله وعن الصلاة (فهل أنتم منتهون) لفظة استفهام ومعناه الأمر أي انتهوا وهذا من أبلغ ما ينهى به لأنه تعالى ذم الخمر والميسر وأظهر قبحهما للمخاطب كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم منتهون مع هذه الأمور أم أنتم على ما كنتم عليه كأنكم لم توعظوا يكون ولم تنزجروا وفي هذه الآية دليل على تحريم شرب الخمر لأن الله تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأصنام وعدد أنواع المفاسد الحاصلة بهما ووعد بالفلاح عند اجتنابهما وقال فهل أنتم منتهون كذا في تفسير العلامة الخازن ووجه النسخ أن الآية التي في المائدة فيها الأمر بمطلق الاجتناب وهو يستلزم أن لا ينتفع بشئ من الخمر في حال من حالاته في وقت الصلاة وغير وقت الصلاة وفي حال السكر وحال عدم السكر وجميع المنافع في العين والثمن وأخرج أبو داود الطيالسي والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شئ نزل يسألونك عن الخمر والميسر الآية فقيل حرمت الخمر فقالوا
[ 80 ]
يارسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فقيل حرمت الخمر فقالوا يارسول الله لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت الخمر وأخرج أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال حرمت الخمر ثلاث مرات قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فأنزل الله يسألونك عن الخمر والميسر الآية فقال الناس ما حرم علينا قال إثم كبير وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه في المغرب خلط في قراءته فأنزل الله أغلظ منها يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مغتبق ثم نزلت آية أغلظ من ذلك يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر إلى قوله فهل أنتم منتهون قالوا انتهينا ربنا الحديث قال المنذري والحديث في إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال انتهى (وما شرابنا يومئذ إلا الفضيخ) بفتح فاء وكسر ضاد معجمة على وزن عظيم شراب يتخذ من البسر المفضوخ أي المكسور ومراد أنس أن الفضيخ هو محل الآية فتناول الآية له أولى كذا في فتح الودود والحديث سكت عنه المنذري 15 باب العصير للخمر أي لاتخاذ الخمر (عن أبي علقمة) قال المزي في الأطراف هكذا قال أبو علي اللؤلؤي وحده عن أبي داود أبو علقمة وقال أبو الحسن بن العبد وغير واحد عن أبي داود أبو طعمة وهو الصواب
[ 81 ]
وكذلك رواه أحمد بن حنبل وغيره عن وكيع انتهى وسيجئ كلام المنذري فيه (الغافقي) منسوب إلى غافق حسن بالأندلس قاله السيوطي (لعن الله الخمر) أي ذاتها لأنها أم الخبائث مبالغة في التنفر عنها ويحتمل أن يكون المراد أكل ثمنها (ومبتاعها) أي مشتريها (وعاصرها) وهو من يعصرها بنفسه لنفسه أو لغيره (ومعتصرها) أي من يطلب عصرها لنفسه أو لغيره (والمحمولة إليه) أي من يطلب أن يحملها أحد إليه قال المنذري وأخرجه ابن ماجه إلا أنه قال وأبي طعمة مولاهم وعبد الرحمن الغافقي هذا سئل عنه يحيى بن معين فقال لا أعرفه وذكره ابن يونس في تاريخه وقال إنه روى عن ابن عمر روى عنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن عياض وأنه كان أمير الأندلس قتلته الروم بالأندلس سنة خمس عشرة ومائة وأبو علقمة مولى ابن عباس ذكر ابن يونس أنه روى عن ابن عمر وغيره من الصحابة وأنه كان على قضاء إفريقية وكان أحد فقهاء الموالي وأبو طعمة هذا مولى عمر بن عبد العزيز سمع من عبد الله بن عمر رماه مكحول الهذلي بالكذب انتهى 16 باب ما جاء في الخمر تخلل (أهرقها) بسكون القاف وكسر الراء أي صبها والهاء بدل من الهمزة والأصل أرقها وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمزة والهاء معا كما وقع هنا وهو نادر وفيه دليل على أن الخمر لا تملك ولا تحبس بل تجب إراقتها في الحال ولا يجوز لأحد الانتفاع بها إلا بالإراقة (قال لا)
[ 82 ]
قال الخطابي في هذا بيان واضح أن معالجة الخمر حتى تصير خلا غير جائز ولو كان إلى ذلك سبيل لكان مال اليتيم أولى الأموال به لما يجب من حفظه وتثميره والحيطة عليه وقد كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال فعلم بذلك أن معالجته لا تطهره ولا ترده إلى المالية بحال انتهى وقال في النيل فيه دليل للجمهور على أنه لا يجوز تخليل الخمر ولا تطهر بالتخليل هذا إذا خللها بوضع شئ فيها أما إذا كان التخليل بالنقل من الشمس إلى الظل أو نحو ذلك فأصح وجه عن الشافعية أنها تحل وتطهر وقال الأوزاعي وأبو حنيفة تطهر إذا خللت بإلقاء شئ فيها وعن مالك ثلاث روايا ت أصحها أن التخليل حرام فلو خللها عصى وطهرت انتهى وقال السندي ظاهره أن الخل المتخذ من الخمر حرام ويحتمل أنه قال ذلك لما فيه من إبقاء الخمر قبل أن يتخلل وذلك غير جائز للمؤمن انتهى وقال المحدث محمد إسحاق الدهلوي رحمه الله ويحتمل أن اكتساب الخل من الخمر ليس بجائز وإذا تخللت فالخل يحل والله أعلم قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي 17 باب الخمر مما هي (إن من العنب خمرا الحديث) قال الخطابي في هذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله
[ 83 ]
عمر رضي الله عنه في الحديث الأول من كون الخمر من هذه الأشياء وليس معناه أن الخمر لا تكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها وإنما جرى ذكرها خصوصا لكونها معهودة في ذلك الزمان فكل ما كان في معناها من ذرة أو سلت أو لب ثمرة وعصارة شجر فحكمها حكمها كما قلنا في الربو ورددنا إلى الأشياء الأربعة المذكورة في الخبر كل ما كان في معناها من غير المذكور فيه انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي غريب هذا آخر كلامه وفي إسناده إبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة (إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة) بضم المعجمة وتخفيف الراء من الحبوب معروفة
[ 84 ]
قال المنذري في إسناده أبو حريز عبد الله بن الحسين الأزدي الكوفي قاضي سجستان وثقه يحيى بن معين وأبو زرعة الرازي واستشهد به البخاري وتكلم فيه غير واحد وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء من العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل الحديث (يحيى) هو ابن أبي كثير (الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة)
[ 85 ]
قال الخطابي هذا غير مخالف لما تقدم ذكره من حديث النعمان بن بشير وإنما وجهه ومعناه أن معظم الخمر وما يتخذ منه الخمر إنما هو من النخلة والعنبة وإن كانت الخمر قد تتخذ أيضا من غيرهما وإنما هو من باب التوكيد لتحريم ما يتخذ من هاتين الشجرتين لضراوته سعيد وشدة سورته وهذا كما يقال الشبع في اللحم والدفء في الوبر ونحو ذلك من الكلام وليس فيه نفي الشبع من غير اللحم ولا نفي الدفء عن غير الوبر ولكن فيه التوكيد لامرهما والتقديم لهما على غيرهما في نفس ذلك المعنى انتهى (الغبري) بالغين المعجمة المضمومة ثم الباء الموحدة المفتوحة ثم الراء المهملة قال الحافظ عبد الغني المصري في مشتبه النسبة أبو كثير الغبري يزيد بن عبد الرحمن بن غفيلة وهو ابن أذينة انتهى وفي لب اللباب هو منسوب إلى غير بطن من يشكر انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه 18 باب ما جاء في السكر (كل مسكر خمر) قال الخطابي يتأول على وجهين أحدهما أن الخمر اسم لكل ما
[ 86 ]
يوجد فيه السكر من الأشربة كلها ومن ذهل إلى هذا زعم أن للشريعة أن تحدث الأسماء بعد أن لم تكن كما لها أن تضع الأحكام بعد أن لم تكن والوجه الآخر أن يكون معناه أنه يكون كالخمر في الحرمة ووجوب الحد على شاربه وإن لم يكن عين الخمر وإنما ألحق بالخمر حكما إذ كان في معناها وهذا كما جعلوا النباش في حكم السارق والمتلوط بكر في حكم الزاني وإن كان كل واحد منهما في اللغة يخص باسم غير الزنا وغير السرقة انتهى وفي لفظ كل مسكر خمر وكل خمر حرام أخرجه مسلم والدارقطني وأخرج الشيخان وأحمد عن أبي موسى أن النبي قال كل مسكر حرام وأخرج أحمد ومسلم والنسائي عن جابر أن النبي قال كل مسكر حرام وأخرجه أحمد والترمذي وصححه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة عن النبي قال كل مسكر حرام وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود (يدمنها) أي يداوم على شربها بأن لم يتب عنها حتى مات على ذلك والجملة حالية (لم يشربها في الآخرة) قال الخطابي معناه أنه لم يدخل الجنة لأن شراب أهل الجنة خمر إلا أنه لا غول فيها ولا نزف انتهى وقال النووي معناه أنه يحرم شربها في الجنة وإن دخلها فإنها من فاخر شراب الجنة فيمنعها هذا العاصي بشربها في الدنيا قيل إنه ينسى شهوتها لأن الجنة فيها كل ما يشتهي وقيل لا يشتهيها وإن ذكرها ويكون هذا نقص نعيم في حقه تمييزا بينه وبين تارك شاربها انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي مختصرا
[ 87 ]
(كل مخمر) أي كل ما يغطي العقل من التخمير بمعنى التغطية (وكل منكر حرام) سواء كان من عنب أو غيره (بخست) بضم الباء وكسر الخاء المعجمة من البخس وهو النقص (أربعين صباحا) ظرف قال المناوي خص الصلاة لأنها أفضل عبادات البدن والأربعين لأن الخمر يبقى في جوف الشارب وعروقه تلك المدة (فإن تاب) أي رجع إليه تعالى بالطاعة (تاب الله عليه) أي أقبل عليه بالمغفرة (من طينة الخبال) بفتح الخاء المعجمة والموحدة المخففة وهو في الأصل الفساد ويكون في الأفعال والأبدان والعقول والخبل بالتسكين الفساد (صديد أهل النار) قال في القاموس الصديد ماء الجرح الرقيق (ومن سقاه صغيرا) أي صبيا (لا يعرف حلاله من حرامه) الجملة صفة للصغير والحديث سكت عنه المنذري (ما أسكر) أي أي شئ أسكر وإن لم يكن مشروبا (كثيره فقليله حرام) قال العلقمي قال الدميري قال ابن المنذر أجمعت الأمة على أن خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام وأن الحد واجب في القليل منها والكثير وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب أنه يحرم كثيره وقليله والحد في ذلك واجب وقال أبو حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى وابن سيرين وجماعة من فقهاء الكوفة ما أسكر كثيره من غير عصير العنب فما لا يسكر منه حلال وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه انتهى وأخرج النسائي والبزار وابن حبان والدارقطني عن سعد بن أبي وقاص نهى رسول الله عن قليل ما أسكر كثيره وفي الباب عن علي رضي الله عنه عند الدارقطني وعن ابن عمر غير حديثه المتقدم عند الطبراني وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم والطبراني وعن زيد بن ثابت عند الطبراني وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن الدارقطني والله أعلم
[ 88 ]
قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب من حديث جابر هذا آخر كلامه وفي إسناده داود بن بكر بن أبي الفرات الأشجعي مولاهم المدني سئل عنه يحيى بن معين فقال ثقة وقال أبو حاتم الرازي لا بأس به ليس بالمتين هذا آخر كلامه وقد روى هذا الحديث من رواية علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعائشة وخوات بن جبير وحديث سعد بن أبي وقاص أجودهما إسنادا فإن النسائي رواه في سننه عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وهو أحد الثقات عن الوليد بن كثير وقد احتج به البخاري ومسلم في الصحيحن عن الضحاك بن عثمان وقد احتج به مسلم في صحيحه عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عامر بن سعد بن أبي وقاص وقد احتج البخاري ومسلم بهما في الصحيحين فقال أبو بكر البزار وهذا الحديث لا نعلمه روي عن سعد إلا من هذا الوجه ورواه عن الضحاك وأسنده جماعة عنه منهم الدراوردي والوليد بن كثير ومحمد بن جعفر بن أبي كثير المدني هذا آخر كلامه وتابع محمد بن عبد الله بن عمار أبو سعيد عبد الله بن سعيد الأشج وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج به (عن البتع) بكسر الموحدة وسكون المثناة وقد تفتح وهي لغة يمانية وهو نبيذ العسل كما في الرواية الآتية (كل شراب أسكر فهو حرام) هذا حجة للقائلين بالتعميم من غير فرق بين خمر العنب وغيره لأنه لما سأله السائل عن البتع قال كل شراب أسكر فهو حرام فعلمنا أن المسألة إنما وقعت على ذلك الجنس من الشراب وهو البتع ودخل فيه كل ما كان في معناه مما يسمى شرابا مسكرا من أي نوع كان فإن قال أهل الكوفة إن قوله كل شراب أسكر يعني به الجزء الذي يحدث عقبه السكر فهو حرام فالجواب أن الشراب اسم جنس فيقتضي أن يرجع التحريم إلى الجنس كله كما يقال هذا الطعام مشبع والماء مرو يريد به الجنس وكل جزء منه يفعل ذلك الفعل فاللقمة تشبع العصفور وما هو أكبر منها يشبع ما هو أكبر من العصفور وكذلك جنس الماء يروي الحيوان على هذا الحد فكذلك النبيذ
[ 89 ]
قال الطبري يقال لهم أخبرونا عن الشربة التي يعقبها السكر أهي التي أسكرت صاحبها دون ما تقدمها من الشراب أم أسكرت باجتماعها مع ما تقدم وأخذت كل شربة بحظها من الإسكار فإن قالوا إنما أحدث له السكر الشربة الآخرة التي وجد خبل العقل عقبها قيل لهم وهل هذه التي أحدثت له ذلك إلا كبعض ما تقدم من الشربات قبلها في أنها لو انفردت دون ما قبلها كانت غير مسكرة وحدها وأنها إنما أسكرت باجتماعها واجتماع عملها فحدث عن جميعها السكر كذا في النيل قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (الجرجسي) بضم الجيمين بينهما راء ساكنة ثم مهملة موضع بحمص (عن الزهري) عن أبي سلمة عن عائشة (زاد) أي يزيد بن عبد ربه (سمعت أحمد بن حنبل) في توثيق يزيد بن عبد ربه (لا إله إلا الله) هذه كلمة التوحيد بمنزلة الحلف وهذا غاية توثيق من أحمد ليزيد بن عبد ربه (ما كان فيهم مثله) أي ما كان في أهل حمص مثل يزيد في التثبيت والإتقان وكذا وثقه ابن معين والله أعلم (عن مرثد بن عبد الله اليزني) بفتح التحتانية والزاي بعدها نون أبو الخير المصري ثقة فقيه من الثالثة (عن ديلم) بفتح أوله (الحميري) بكسر أوله نسبه إلى حمير كدرهم موضع غربي صنعاء اليمن وأبو قبيلة (بأرض باردة) أي ذات برد شديد (نعالج) أي نمارس نزاول (عملا شديدا) أي قويا يحتاج إلى نشاط عظيم (من هذا القمح) بفتح أوله أي الحنطة
[ 90 ]
(لنقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا) قال الطيبي وإنما ذكر هذه الأمور الداعية إلى الشرب وأتى بهذا ووصفه به لمزيد البيان وأنه من هذا الجنس وليس من جنس ما يتخذ منه المسكر كالعنب والزبيب مبالغة في استدعاء الإجازة (فقلت فإن الناس غير تاركيه) فكأنه وقع لهم هناك نهي عن سالكيه (فإن لم يتركوه) أي ويستحلوا شربه قال المنذري في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار وقد تقدم الكلام عليه (ذاك البتع) بكسر موحدة وسكون فوقية وقد يحرك (وينتبذ من الشعير والذرة) بضم الذال المعجمة وتخفيف الراء حب معروف وأصله ذروا وذرى والهاء عوض ذكره الجوهري (قال ذلك المزر) بكسر فسكون نبيذ يتخذ من الذرة أو من الحنطة أو الشعير كذا في المجمع (أخبر قومك أن كل مسكر حرام) سواء كان من العسل أو الشعير أو الذرة أو غير ذلك قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه من حديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه (عن عبد الله بن عمرو) أورد المزي هذا الحديث في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ثم قال هكذا رواه أبو الحسن بن العبد وأبو عمرو البصري وغير واحد عن أبي داود وهو الصواب ووقع في رواية اللؤلؤي عن عبد الله بن عمر وهو وهم (نهى عن الخمر والميسر) أي القمار (والكوبة) بضم أوله في النهاية قيل هي النرد وقيل الطبل أي الصغير وقيل البربط
[ 91 ]
وقال الخطابي في المعالم الكوبة تفسر بالطبل ويقال بل هو النرد ويدخل في معناه كل وتر ومزهر ونحو ذلك من الملاهي انتهى (والغبيراء) بالتصغير ضرب من الشراب يتخذه الحبش من الذرة والمعنى أنها مثل الخمر التي يتعارفها الناس لا فضل بينهما في التحريم (سكركة قد) قال في النهاية هو بضم السين والكاف وسكون الراء وهو نوع من الخمور يتخذ من الذرة وهي خمر الحبشة وهو لفظ حبشي فعربت وقيل السقرقع وفي قال المنذري الوليد بن عبدة بالعين المهملة المفتوحة وبعدها باء بواحدة مفتوحة أيضا قال أبو حاتم الرازي هو مجهول وقال أبو يونس في تاريخ المصريين وليد بن عبدة مولى عمرو بن العاص روى عنه يزيد بن أبي حبيب والحديث معلول ويقال عمرو بن الوليد بن عبدة وذكر له هذا الحديث وذكر أن وفاته سنة مائة وهكذا وقع في رواية الهاشمي عبد الله بن عمر والذي وقع في رواية ابن العبد عن أبي داود عبد الله بن عمرو وهو الصواب (الفقيمي) بضم الفاء وفتح القاف منسوب إلى فقيم بطن من تميم قاله السيوطي (نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر) قال القاري في المرقاة بكسر التاء المخففة قال في النهاية المفتر هو الذي إذا شرب أحمى الجسد وصار فيه فتور وهو ضعف وانكسار يقال أفتر الرجل فهو مفتر إذا ضعفت جفونه وانكسر طرفه فإما أن يكون أفتره كل بمعنى فتره أي جعله فاترا وإما أن يكون أفتر الشراب إذا فتر شاربه كأقطف الرجل إذا قطفت دابته ومقتضى هذا سكون الفاء وكسر المثناة الفوقية مع التخفيف قال الطيبي لا يبعد أن يستدل به على تحريم البنج والشعثاء % ونحوهما مما يفتر ويزيل العقل لأن العلة وهي إزلة العقل مطردة فيها وقال في مرقاة الصعود يحكى أن رجلا من العجم قدم القاهرة وطلب الدليل على تحريم الحشيشة وعقد لذلك مجلس حضره علماء العصر فاستدل الحافظ زين الدين العراقي بهذا الحديث فأعجب الحاضرين انتهى
[ 92 ]
وقال في السبل قال المصنف أي الحافظ ابن حجر من قال إنها أي الحشيشة لا تسكر وإنما تخدر فهي مكابرة فإنها تحدث ما يحدث الخمر من الطرب والنشأة قال وإذا سلم عدم الإسكار فهي مفترة وقد أخرج أبو داود أنه نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر قال الخطابي المفتر كل شراب يورث الفتور والرخوة في الأعضاء والخدر في الأطراف وهو مقدمة السكر ونهى عن شربه لئلا يكون ذريعة إلى السكر وحكى العراقي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة وأن من استحلها كفر قال ابن تيمية إن الحشيشة أو ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة التتار وهي من أعظم المنكرات وهي شر من الخمر من بعض الوجوه لأنها تورث نشأة ولذة وطربا كالخمر وتصعب الطعام عليها أعظم من الخمر وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة لأنها لم تكن في زمنهم وقد أخطأ القائل حرموها من غير عقل ونقل وحرام تحريم غير الحرام وأما البنج فهو حرام قال ابن تيمية إن الحد في الحشيشة واجب قال ابن البيطار إن الحشيشة وتسمى القنب يوجد في مصر مسكرة جدا إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين وقبائح خصالها كثيرة وعد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية وقبائح خصالها موجودة في الأفيون وفيه زيادة مضار قال ابن دقيق العيد في الجوزة إنها مسكرة ونقله عنه متأخر علماء الفريقين واعتمدوه انتهى وقال ابن رسلان في شرح السنن المفتر بضم الميم وفتح الفاء وتشديد المثناة فوق المكسورة ويجوز فتحها ويجوز تخفيف التاء مع الكسر هو كل شراب يورث الفتور والخدر في أطراف الأصابع وهو مقدمة السكر وعطف المفتر على المسكر يدل على المغايرة بين السكر والتفتير فلا لأن العطف يقتضي التغاير بين الشيئين فيجوز حمل المسكر على الذي فيه شدة مطربة وهو محرم يجب فيه الحد ويحمل المفتر على النبات كالحشيش الذي يتعاطاه السفلة قال الرافعي إن النبات الذي يسكر وليس فيه شدة مطربة يحرم أكله ولا حد فيه قال ابن رسلان ويقال إن الزعفران يسكر إذا استعمل مفردا بخلاف ما إذا استهلك في
[ 93 ]
الطعام وكذا البنج شرب القليل من مائه يزيل العقل وهو حرام إذا زال العقل لكن لا حد فيه انتهى كلامه ملخصا وقال العلامة الأردبيلي في الأزهار شرح المصابيح ناقلا عن الإمام شرف الدين إن الجوز الهندي والزعفران ونحوهما يحرم الكثير منه لأضراره لا لكونه مسكرا وكذلك القريط منه وهو الأفيون انتهى وقال العلامة أبو بكر بن قطب القسطلاني في تكريم المعيشة إن الحشيشة ملحقة بجوز الطيب والزعفران والأفيون والبنج وهذه من المسكرات المخدرات قال الزركشي إن هذه الأمور المذكورة تؤثر في متعاطيها المعنى الذي يدخله في حد السكران فإنهم قالوا السكران هو الذي اختل كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم وقال بعضهم هو الذي لا يعرف السماء من الأرض وقيل والأولى أن يقال إن أريد بالإسكار تغطية العقل فهذه كلها صادق عليها معنى الإسكار وإن أريد بالإسكار تغطية العقل مع الطرب فهي خارجة عنه فإن إسكار الخمر تتولى منه النشأة والنشاط والطرب والعربدة والحمية والسكران بالحشيشة ونحوها يكون مما فيه ضد ذلك فنقرر من هذا أنها لا تحرم إلا لمضرتها العقل ودخولها في المفتر المنهي عنه ولا يجب الحد على متعاطيها لأن قياسها على الخمر مع الفارق وهو انتفاء بعض الأوصاف لا يصح انتهى وفي التلويح السكر هو حالة تعرض للانسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه فيعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة والقبيحة انتهى وفي كشف الكبير قيل هو سرور يغلب على العقل بمباشرة بعض الأسباب الموجبة له فيمتنع الإنسان عن العمل بموجب عقله من غير أن يزيله وبهذا بقي السكران أهلا للخطاب انتهى وقال السيد الشريف الجرجاني في تعريفاته السكر غفلة تعرض بغلبة السرور على العقل بمباشرة ما يوجبها من الأكل والشرب والسكر من الخمر عند أبي حنيفة رحمه الله أن لا يعلم الأرض من السماء وعند أبي يوسف ومحمد الشافعي أن يختلط كلامه وعند بعضهم أن يختلط في مشيه بحركة انتهى
[ 94 ]
وفي القاموس فتر جسمه فتورا لانت مفاصله وضعف الفتار كغراب ابتداء النشوة وافتر الشراب فتر شاربه انتهى وفي المصباح وخدر العضو خدرا من باب تعب استرخى فلا يطيق الحركة وقال في النهاية في حديث عمر أنه رزق الناس الطلاء فشربه رجل فتخدر أي ضعف وفتر كما يصيب الشارب قبل السكر انتهى وسيجئ حديث عمر رضي الله عنه وفي رد المحتار عن الخانية في تعريف السكران أنه من يختلط كلامه ويصير غالبه الهذيان وقال الشيخ زكريا بن محمد القزويني في كتابه عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات الزعفران يقوي القلب ويفرح ويورث الضحك والزائد على الدرهم سم قاتل انتهى ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يكتب على جام أبيض بزعفران للمرأة التي عسر عليها ولادتها وكانت المرأة تشربه كما صرح به الزرقاني في شرح المواهب وفيه دلالة واضحة على أن الإمام أحمد لا يرى السكر في الزعفران وإلا كيف يجوز له الكتابة بزعفران لأجل شربها قال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد قال الخلال حدثني عبد الله بن أحمد قال رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض أو شئ نظيف يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنه لا إله إلا الله الحليم الكريم إلى آخر الحديث قال الخلال أنبأنا أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال يا أبا عبد الله تكتب لامرأة قد عسر عليها ولدها منذ يومين فقال قل له يجئ بجام واسع وزعفران ورأيته يكتب لغير واحد قال شمس ادين لابن القيم وكل ما تقدم من الرقي فإن كتابته نافعة ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه انتهى والحافظ ابن القيم أيضا لا يرى السكر في الزعفران وأنه لا يذكر في زاد المعاد شيئا من هذه الأدوية التي فيها سكر وقد قرن الزعفران بالعسل المصفى فقال في بيان الفضة هي من الأدوية المفرحة النافعة من الهم والغم والحزن وضعف القلب وخفقانه وتدخل في المعاجين الكبار وتجتذب بخاصيتها ما يتولد في القلب من الأخلاط الفاسدة خصوصا إذا أضيفت إلى العسل المصفى والزعفران انتهى
[ 95 ]
وللأئمة الحنفية فيه كلام على طريق آخر فقال الشامي في رد المحتار وقال محمد ما أسكر كثيره فقليله حرام وهو نجس أيضا انتهى أقول الظاهر أن هذا خاص بالأشربة المائعة دون الجامد كالبنج والأفيون فلا يحرم قليلها بل كثيرها المسكر وبه صرح ابن حجر المكي في التحفة وغيره وهو مفهوم من كلام أئمتنا لأنهم عدوها من الأدوية المباحة وإن حرم السكر منها بالاتفاق ولم نر أحدا قال بنجاستها ولا بنجاسة زعفران مع أن كثيره مسكر ولم يحرموا أكل قليله أيضا ويدل عليه أنه لا يحد بالسكر منها بخلاف المائعة فإنه يحد ويدل عليه أيضا قوله في غرر الأفكار وهذه الأشربة عند محمد وموافقيه كالخمر بلا تفاوت في الأحكام وبهذا يفتى في زماننا فخص الخلاف بالأشربة والحاصل أنه لا يلزم من حرمة الكثير المسكر حرمة قليله ولا نجاسته مطلقا إلا في المائعات لمعنى خاص بها أما الجامدات فلا يحرم منها إلا الكثير المسكر ولا يلزم من حرمته نجاسته كالسم القاتل فإنه حرام مع أنه طاهر انتهى كلام الشامي وقال في الدر المتار ويحرم أكل البنج والحشيشة هي ورق القنب والأفيون لأنه مفسد للعقل قال الشامي البنج بالفتح نبات يسمى شيكران يصدع ويسبت ويخلط العقل كما في التذكرة للشيخ داود والمسبت الذي لا يتحرك وفي القهستاني هو أحد نوعي شجر القنب حرام لأنه يزيل العقل وعليه الفتوى بخلاف نوع آخر منه فإنه مباح كالأفيون لأنه وإن اختل العقل به لا يزول وعليه يحمل ما في الهداية وغيرها من إباحة البنج كما في شرح اللباب أقول هذا غير ظاهر لأن ما يخل العقل لا يجوز أيضا بلا شبهة فيكف يقال إنه مباح بل الصواب أن مراد صاحب الهداية وغيره إباحة قليله للتداوي ونحوه ومن صرح بحرمته أراد به القدر المسكر منه يدل عليه ما في غاية البيان عن شرح شيخ الإسلام أكل قليل السقمونيا والبنج مباح للتداوي وما زاد على ذلك إذا كان يفتر أو يذهب العقل حرام فهذا صريح فما قلناه مؤيد لما بحثناه سابقا من تخصيص ما مر من أن ما أسكر كثيره حرم قليله بالمائعات وهكذا يقال في غيره من الأشياء الجامدة المضرة في العقل أو غيره يحرم تناول القدر المضر منها دون القليل النافع لأن حرمتها ليست لعينها بل لضررها وفي أول طلاق البحر من غاب عقله بالبنج والأفيون يقع طلاقه إذا استعمل للهو وإدخال
[ 96 ]
الآفات قصدا لكونه معصية وإن كان للتداوي فلا لعدمها كذا في فتح القدير وهو صريح في حرمة البنج والأفيون لا للدواء وفي البزازية والتعليل ينادى بحرمته لا للدواء انتهى كلام البحر وجعل في النهر هذا التفصيل هو الحق والحاصل أن استعمال الكثير المسكر منه حرام مطلقا كما يدل عليه كلام الغاية وأما القليل فإن كان للهو حرم وإن سكر منه يقع طلاقه لأن مبدأ استعماله كان محظورا وإن كان للتداوي وحصل منه إسكار فلا هذا آخر كلام الشامي ثم قال الشامي وكذا تحرم جوزة الطيب وكذا العنبر والزعفران كما في الزواجر لابن حجر المكي وقال فهذه كلها مسكرة ومرادهم بالإسكار هنا تغطية العقل لا مع الشدة المطربة لأنها من خصوصيات المسكر فلا ينافي أنها تسمى مخدرة فما جاء في الوعيد على الخمر يأتي فيها لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه أقول ومثله زهر القطن فإنه قوي التفريح يبلغ الإسكار كما في التذكرة فهذا كله ونظائره يحرم استعمال القدر المسكر منه دون القليل كما قدمناه فافهم ومثله بل أولى البرش وهو شئ مركب من البنج والأفيون وغيرهما ذكر في التذكرة أن إدمانه يفسد البدن والعقل ويسقط الشهوتين ويفسد اللون وينقص القوى وينهك وقد وقع به الآن ضرر كثير انتهى كلام الشامي قلت إذا عرفت هذه الأقاويل للعلماء فاعلم أن الزعفران والعنبر والمسك ليس في هذه الثلاثة سكر أصلا بل ولا تفتير ولا تخدير على التحقيق وأما الجوز الطيب والبسباسة والعود الهندي فهذه كلها ليس فيها سكر أيضا وإنما في بعضها التفتير وفي بعضها التخدير ولا ريب أن كل ما أسكر كثيره فقليله حرام سواء كان مفردا أو مختلطا بغيره وسواء كان يقوى على الإسكار بعد الخلط أو لا يقوى فكل هذه الأشياء الستة ليس من جنس المسكرات قطعا بل بعضها ليس من جنس المفترات ولا المخدرات على التحقيق وإنما بعضها من جنس المفترات على رأي البعض ومن جنس المضار على رأي البعض فلا يحرم قليله سواء يؤكل مفردا أو يستهلك في الطعام أو في الأدوية نعم أن يؤكل المقدار الزائد الذي يحصل به التفتير لا يجوز أكله لأن النبي نهى عن كل مفتر ولم يقل إن كل ما أفتر كثيره فقليله حرام فنقول على الوجه الذي قاله ولا نحدث من قبلي شيئا فالتحريم للتفتير : لا لنفس المفتر فيجوز قليله الذي لا يفتر
[ 97 ]
وهذه العلماء الذين نقلت عباراتهم لم يتفقوا على أمر واحد بل اختلفت أقوالهم فذهبت الأئمة الحنفية أن ما أسكر كثيره حرم قليله وهو في المائعات دون الجامدات وهكذا في غيره من الأشياء الجامدة المضرة في العقل أو غيره يحرم تناول القدر المضر منها دون القليل النافع لأن حرمتها ليست لعينها بل لضررها فيحرم عندهم استعمال القدر المسكر من الجامدات دون القليل منها وأما ابن رسلان فصرح بلفظ التمريض فقال ويقال إن الزعفران يسكر وقال الطيبي ولا يبعد أن يستدل به على تحريم البنج وقال ابن دقيق العيد في الجوزة إنها مسكرة وقال الأردبيلي إن الجوز الهندي والزعفران ونحوهما يحرم الكثير منه لإضراره لا لكونه مسكرا وقال أبو بكر بن قطب القسطلاني الجوز الطيب والزعفران والبنج والأفيون هذه كلها من المسكرات المخدرات وقال الزركشي إن هذه الأشياء لا تحرم إلا لمضرتها العقل ودخولها في المفتر المنهي عنه وقال القزويني الزعفران الزائد على الدرهم سم قاتل قلت والصحيح من هذه الأقاويل قول العلامة الأردبيلي والزركشي وقد أطنب الكلام وأفرط فيه الشيخ الفقيه ابن حجر المكي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر فقال الكبيرة السبعون بعد المائة أكل المسكر الطاهر كالحشيشة والأفيون والشيكران بفتح الشين المعجمة وهو البنج وكالعنبر غير والزعفران وجوزة الطيب فهذه كلها مسكرة كما صرح به النووي في بعضها وغيره في باقيها ومرادهم بالإسكار هنا تغطية العقل لا مع الشدة المطربة لأنها من خصوصيات المسكر المائع وبما قررته في معنى الإسكار في هذه المذكرات علم أنه لا ينافي أنها تسمى مخدرة وإذا ثبت أن هذه كلها مسكرة أو مخدرة فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر فكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في مستعمل شئ من هذه المذكورات لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه فكان في تعاطي ما يزيله وعيد الخمر والأصل في تحريم كل ذلك ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر
[ 98 ]
قال العلماء المفتر كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف وهذه المذكورات كلها تسكر وتخدر وتفتر وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة وذكر الماوردي قولا أن النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد وصرح ابن دقيق العيد أن الجوزة مسكرة ونقله عنه المتأخرون من الشافعية والمالكية واعتمدوه وبالغ ابن العماد فجعل الحشيشة مقيسة على الجوزة وذلك أنه لما حكى عن القرافي نقلا عن بعض الفقهاء أنه فرق في إسكار الحشيشة بين كونها ورقا أخضر فلا إسكار فيها بخلافها بعد التحميص بعد فإنها تسكر قال والصواب أنه لا فرق لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون والبنج وهو من المسكرات المخدارت يقول ذكر ذلك ابن القسطلاني انتهى فتأمل تعبيره بالصواب وجعله الحشيشة التي أجمع العلماء على تحريمها مقيسة على الجوزة تعلم أنه لا مرية في تحريم الجوزة لإسكارها أو تخديرها وقد وافق المالكية والشافعية على إسكارها الحنابلة فنص إمام متأخريهم ابن تيمية وتبعوه على أنها مسكرة وهو قضية كلام بعض أئمة الحنفية ففي فتاوى المرغيناني المسكر من البنج ولبن الرماك أي أناثى الخيل حرام ولا يحد شاربه انتهى وقد علمت من كلام ابن دقيق العيد وغيره أن الجوزة كالبنج فإذا قال الحنفية بإسكاره لزمهم القول بإسكار الجوزة فثبت بما تقرر أنها حرام عند الأئمة الأربعة الشافعية والمالكية والحنابلة بالنص والحنفية بالاقتضاء لأنها إما مسكرة أو مخدرة وأصل ذلك في الحشيشة المقيسة على الجوزة والذي ذكره الشيخ أبو إسحاق في كتابه التذكرة والنووي في شرح المهذب وابن دقيق العيد أنها مسكرة وقد يدخل في حدهم السكران بأنه الذي اختل كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم أو الذي لا يعرف السماء من الأرض ولا الطول من العرض ثم نقل عن القرافي أنه خالف في ذلك فنفى عنها الإسكار وأثبت لها الإفساد ثم رد عليه وممن نص على إسكارها أيضا العلماء بالنبات من الأطباء وكذلك ابن تيمية والحق في ذلك خلاف الإطلاقين إطلاق الإسكار وإطلاق الإفساد وذلك أن الإسكار يطلق ويراد به مطلق تغطية العقل وهذا إطلاق أعم ويطلق ويراد به تغطية العقل مع نشوة وطرب وهذا
[ 99 ]
إطلاق أخص وهو المراد من الإسكار حيث أطلق فعلى الإطلاق الأول بين المسكر والمخدر عموم مطلق إذ كل مخدر مسكر وليس كل مسكر مخدرا فإطلاق الإسكار على الحشيشة والجوزة ونحوهما المراد منه التخدير ومن نفاه عن ذلك أراد به معناه الأخص وتحقيقه أن من شأن السكر بنحو الخمر أنه يتولد عنه النشوة والنشاط والطرب والعربدة والحمية ومن شأن السكر بنحو الحشيشة والجوز أنه يتولد عنه أضداد ذلك من تخدير البدن وفتوره ومن طول السكوت والنوم وعدم الحمية وفي كتاب السياسة لابن تيمية أن الحد واجب في الحشيشة كالخمر لكن لما كانت جمادا وليست شرابا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره فقيل نجسة وهو الصحيح انتهى وقال ابن بيطار ومن القنب الهندي نوع ثالث يقال له القنب ولم أره بغير مصر ويزرع في البساتين ويسمى بالحشيشة أيضا وهو يسكر جدا إذا تناول منه الإنسان يسيرا قدر درهم أو درهمين حتى إن من أكثر منه أخرجه إلى حد الرعونة وقد استعلمه قوم فاختلت عقولهم وأدى بهم الحال إلى الجنون وربما قتلت وقال الذهبي الحشيشة كالخمر في النجاسة والحد وتوقف بعض العلماء عن الحد فيها ورأى فيها التعزير لأنها تغير العقل من غير طرب كالبنج وأنه لم يجد للعلماء المتقدمين فيها كلاما وليس ذلك بل آكلوها يحصل لهم نشوة واشتهاء كشراب الخمر ولكونها جامدة مطعومة تنازع العلماء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره فقيل هي نجسة كالخمر المشروبة وهذا هو الاعتبار الصحيح وقيل لا لجمودها وقيل يفرق بين جامدها ومائعها وبكل حال فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر المسكر لفظا ومعنى قال أبو موسى الأشعري يارسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال وكان رسول الله قد أعطى جوامع الكلم بخواتيمه فقال كل مسكر حرام وقال ما أسكر كثيره فقليله حرام ولم يفرق بين نوع ونوع ككونه مأكولا أو مشروبا على أن الخمر قد تؤكل بالخبز والحشيشة قد تذاب وتشرب انتهى كلام الذهبي هذا آخر كلام ابن حجر المكي ملخصا قلت قول ابن حجر المكي هذا مبالغة عظيمة فإنه عد العنبر والزعفران من المسكرات وجعل استعمالها من الكبائر كالخمر وهذا كلام باطل وساقط الاعتبار ولم يثبت
[ 100 ]
قط عن الأئمة القدماء من العلماء بالنبات سكرهما الذي كما سيجئ وقد عرفت معنى السكر من أقوال العلماء وليس في تعريف السكر تغطية العقل بنوع ما كما فهمه ابن حجر المكي بل بوجه يعطل عقله المميز بين الأمور الحسنة والقبيحة أو مع ذلك يحصل له به الطرب والنشاط والعربدة وغير ذلك وقوله وبما قررته في معنى الإسكار في هذه المذكورات علم أنه لا ينافي أن هذه المذكورات تسمى مخدرة قلت لم يثبت قط أن كل المذكورات بأجمعها فيها سكر وثبت في محله أن السكر غير الخدر فإطلاق السكر على الخدر غير صحيح فإن الخدر هو الضعف في البدن والفتر الذي يصيب الشارب قبل السكر كما صرح به ابن الأثير في النهاية فأنى يصح القول بأن هذه المذكورات تسمى مسكرة ومخدرة وقوله والأصل في تحريم كل ذلك ما رواه أحمد وأبو داود إلى آخره قلت إنا نسلم أن النبي نهى عن كل مسكر ومفتر بل ونهى عن كل مخدر أيضا وقد ثبت عنه أن ما أسكر كثيره فقليله منه حرام وما ثبت عنه أن ما أفتر كثيره فقليله منه حرام أو ما خدر كثيره فقليله منه حرام وليس المسكر والمخدر والمفتر شيئا واحدا والذي يسكر فكثيره وقليله سواء في الحرمة والذي يفتر أو يخدر فلا يحرم منهما إلا قدر التفتير أو قدر التخدير ويؤيده ما أخرجه أبو نعيم كما في كنز العمال عن الحكم بن عتيبة عن أنس بن حذيفة صاحب البحرين قال كتبت إلى رسول الله أن الناس قد اتخذوا بعد الخمر أشربة تسكرهم لأن كما تسكر الخمر من التمر والزبيب يصنعون ذلك في الدباء والنقير والمزفت والحنتم فقال رسول الله إن كل شراب أسكر حرام والمزفت حرام والنقير حرام والحنتم حرام فاشربوا في القرب وشدوا الأوكية فاتخذ الناس في القرب ما يسكر فبلغ النبي فقام في الناس فقال إنه لا يفعل ذلك إلا أهل النار ألا إن كل مسكر حرام وكل مفتر وكل مخدر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام وفي رواية لأبي نعيم عن أنس بن حذيفة ألا إن كل مسكر حرام وكل مخدر حرام وما أسكر كثيره حرم قليله وما خمر العقل فهو حرام انتهى فانظر رحمك الله تعالى وإياي بعين الإنصاف أن النبي قال ألا إن كل مسكر حرام وكل مفتر وكل مخدر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام فالنبي صرح أولا بالحرمة على كل من المسكر والمفتر والمخدر ثم عقب
[ 101 ]
بقوله إن ما أسكر كثيره فقليله حرام وما قال أن ما أفتر كثيره فقليله حرام أو ما خدر كثيره فقليله حرام والسكوت عن البيان في وقت الحاجة لا يجوز فذكر النبي حرمة هذه الأشياء الثلاثة في وقت واحد ثم في ذكره لحرمة قليل من المسكر وعدم ذكره لحرمة قليل من المفتر والمخدر أبين دليل وأصرح بيان على أن حكم قليل من المفتر وحكم قليل من المخدر غير حكم قليل من المسكر فإن قليلا من المسكر يحرم وقليلا من المخدر والمفتر لا يحرم والله أعلم وقوله إن الإسكار يطلق ويراد به مطلق تغطية العقل وهذا إطلاق أعم قلت إن أراد بتغطية العقل وفتر الأعضاء واسترخائها فهو يسمى مخدرا ولا يسمى بمسكر وإن أراد بتغطية العقل مخامرة العقل بحيث لايستطيع الإنسان العمل بموجب عقله ولا يتميز بين الأمور الحسنة والقبيحة فهو يسمى مسكرا ولا يسمى مخدرا وقوله فعلى الإطلاق الأول بين المسكر والمخدر عموم مطلق قلت إذا ثبت أن المسكر غير المخدر فلا يقال بينهما عموم مطلق فإن النعاس مقدمة النوم فمن نعس لا يقال له إنه نائم فليس كل مخدر مسكرا كما ليس كل مسكر مخدرا ويؤيده ما أخرجه ابن راهويه كما في كنز العمال عن سفيان بن وهب الخولاني قال كنت مع عمر بن الخطاب بالشام فقال أهل الذمة أنك كلفتنا وفرضت علينا أن نرزق المسلمين العسل ولا نجده فقال عمر إن المسلمين إذا دخلوا أرضا فلم يوطنوا فيها اشتد عليهم أن يشربوا الماء القراح فلا بد لهم مما يصلحهم فقالوا إن عندنا شرابا نصلحه من العنب شيئا يشبه العسل قال فأتوا به فجعل يرفعه بأصبعه فيمده كهيئة العسل فقال كأن هذا طلاء الإبل فدعا بماء فصبه عليه ثم خفض فشرب منه وشرب أصحابه وقال ما أطيب هذا فارزقوا وقد المسلمين منه فأرزقوهم منه فلبث ما شاء الله ثم إن رجلا خدر منه فقام المسلمون فضربوه بنعالهم وقالوا سكران فقال الرجل لا تقتلوني فوالله ما شربت إلا الذي رزقنا عمر فقام عمر بين ظهراني الناس فقال يا أيها الناس إنما أنا بشر لست أحل حراما ولا أحرم حلالا وإن رسول الله قبض فرفع الوحي فأخذ عمر بثوبه فقال إني أبرأ إلى الله من هذا أن أحل لكم حراما فاتركوه فإني أخاف أن يدخل الناس فيه مدخلا وقد سمعت رسول الله يقول كل مسكر حرام فدعوه فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد فرق بين السكر والخدر وما زجر للرجل الذي تخدر بعد شرب الطلاء قائلا بأنك شربت المسكر بل قال للضاربين له اتركوه ثم قال عمر سمعت رسول الله يقول كل مسكر حرام ولما كان عند عمر رضي الله عنه الفرق بين
[ 102 ]
السكر والخدر أمر محققا قال هذا القول واحتج بهذا الحديث على التفرقة بينهما إطلاقا وعلى أن كل مسكر حرام وليس كل مخدر حراما فهذا الأثر واستدلال عمر رضي الله عنه بهذا الحديث يدل على التفرقة بين السكر والخدر إطلاقا وعلى أن الحرمة ليست مشتركة بين المسكر والمخدر وإنما عمر رضي الله عنه ذهب إلى أن المخدر ليس كالمسكر في الحرمة لعدم بلوغه الخبر وهو نهي رسول الله له عن كل مسكر ومفتر أو لعدم صحة هذا الخبر عنده وعلى كل حال فرق عمر رضي الله عنه بين المخدر والمسكر وإن كان المخدر عنده مسكرا لما سكت عن الرجل ولما أمر بترك ضربه وأخرجه النسائي مختصرا من طريق سويد بن غفلة قال كتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله أن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وأخرج مالك في الموطأ حديث شرب الطلاء بنحو آخر عن محمود بن لبيد الأنصاري أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام فشكى إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها وقالوا لا يصلحنا إلا هذا الشراب فقال عمر اشربوا العسل فقالوا لا يصلحنا العسل فقال رجل من أهل الأرض هل لك أن تجعل لنا من هذا الشراب شيئا لا يسكر قال نعم فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث فأتوا به عمر فأدخل فيه عمر أصبعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط فقال هذا الطلاء هذا مثل طلاء الإبل فأمرهم عمر أن يشربوه فقال له عبادة بن الصامت أحللتها والله فقال عمر كلا والله اللهم إني لا أحل لهم شيئا حرمته عليهم ولا أحرم عليهم شيئا أحللته لهم انتهى قلت الطلاء بكسر الطاء المهملة والمد هو ما طبخ من العصير حتى يغلظ وشبه بطلاء الإبل وهو القطران الذي يطلى به الجرب كذا في مقدمة الفتح وهذا الأثر فيه دليل على الذي أحله عمر رضي الله عنه من الطلاء والمثلث العنبي ما لم يكن يبلغ حد الإسكار والتخدير عنده ليس في حكم الإسكار فلذا شرب عمر بنفسه الطلاء وأمر إلى عماله أن ارزق المسلمين من الطلاء وما زجر الرجل الذي حصل له من شربه الخدر وما تعرض له عمر رضي الله عنه على هذا الفعل كما تقدم وأما إذا بلغ الطلاء حد الإسكار فلم يحل عند عمر رضي الله عنه كما أخرج مالك في الموطأ عن ابن شها ب عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال إني وجدت من فلان ريح شراب فزعم أنه شراب الطلاء وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته فجلده عمر بن الخطاب الحد تاما انتهى أي ثمانين جلدة وفلان هو ابنه عبيد الله بضم العين كما في البخاري
[ 103 ]
ورواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن الزهري عن السائب وسماه عبيد الله وزاد قال ابن عيينة فأخبرني معمر عن الزهري عن السائب قال فرأيت عمر يجلده كذا في شرح الزرقاني وفيه دليل على أن المثلث العنبي إذا أسكر يصير حراما قليله وكثيره فيه سواء ولذلك لم يستفصل عمر رضي الله عنه هل شرب منه قليلا أو كثيرا قال الحافظ والذي أحله عمر من الطلاء ما لم يكن يبلغ حد الإسكار فإذا بلغ لم يحل عنده انتهى وفي المحلى شرح الموطأ وفي رواية محمود بن لبيد عن عمر دلالة على حل المثلث العنبي لأنه في تلك الحالة غالبا لا يسكر فإن كان يسكر حرم وعلى ذلك يحمل الطلاء الذي حد عمر شاربه انتهى والحاصل أن الطلاء لا يسكر إن اشتد وأحيانا يخدر وعمر رضي الله عنه شرب الطلاء وأمر الناس بشربه ما لم يكن يبلغ حد الإسكار فلما بلغ حد الإسكار ضرب الحد لشاربه لكونه شاربا للمسكر وأما من خدر بشربه فما قال له عمر رضي الله عنه شيئا للفرق عنده بين المسكر والمخدر وإن كان عنده شئ واحد لضرب الحد على شارب المخدر كما ضرب الحد على شارب المسكر والله أعلم وعلمه أتم وأما الكلام على الزعفران والعنبر خصوصا على طريق الطب فأقول إن كيفيات الأدوية وأفعالها وخواصها لا تثبت على بدن الإنسان ببرهان إنى ولا ببرهان لمى بل تثبت أفعالها وخواصها بالتجارب وقد ثبت بالتجربة أن العنبر يقوي الحواس وأما سائر الأشياء المسكرة فينتشر في الحواس فالقول بسكر العنبر من عجب العجاب ومن أباطيل الأقوال ومخالف لكلام القدماء الأطباء بأسرها فإن واحدا منهم ما ذهب إلى سكره قال الشيخ في القانون عنبر ينفع الدماغ والحواس وينفع القلب جدا انتهى مختصرا وفي التذكرة للشيخ داود عنبر ينفع سائر أمراض الدماغ الباردة طبعا وغيرها خاصية ومن الجنون والشقيقة والنزلات وأمراض الأذن والأنف وعلل الصدر والسعال شما وأكلا وكيف كان فهو أجل المفردات في كل ما ذكر شديد التفريح خصوصا بمثله بنفسج ونصفه صمغ أو في الشراب مفردا ويقوي الحواس ويحفظ الأرواح انتهى مختصرا وقد ثبت بالتجربة أن الزعفران يفرح القلب فرحا شديدا ويقويها ولا يسكر أبدا وأن
[ 104 ]
يستعمل على الزائد على القدر المعين نعم استعماله على القدر الزائد ينشأ الفتر ولينة الأعضاء على رأي البعض وقد ثبت بالتجربة وصح عن أئمة الطب أن كل المفرحات المطيبات حتى أن يختلط بالأشربة المسكرة فإنها تزداد قوة السكر ومن قال إن الزعفران يسكر مفردا فقد أخطأ وإنما صدر هذا القول منه تقليدا للعلامة علاء الدين علي القرشي من غير تجربة ولا بحث فإنه قال في موجز القانون والنفيسي في شرحه والمسكرات بسرعة كالتنقل تعالى بجوز الطيب ونقعه في الشراب وكذلك العود الهندي والشيلم وورق القنب الزعفران وكل هذه يسكر مفرده فكيف مع الشراب وأما البنج واللفاح والشوكران فإن والأفيون فمفرط في الإسكار انتهى وقال القرشي في شرح قانون الشيخ الزعفران يقوي المعدة والكبد ويفرح القلب ولأجل لطافة أرضيته يقبل التصعد عمر كثيرا فلذلك يصدع ويسكر بكثرة ما يتصعد منه إلى الدماغ انتهى وقوله يسكر بكثرة ما يتصعد منه إلى الدماغ ظن محض من العلامة القرشي وخلاف للواقع وأن الأطباء القدماء قاطبة قد صرحوا بأنه يسكر إذا جعل في الشراب ولم ينقل عن واحد منهم أنه ذهب إلى سكره مفردا أو مع استهلاك الطعام هذا ابن بيطار الذي ينتهى إليه الرياسة في علم الطب ذكر الزعفران في جامعه ونقل أقوال الأئمة القدماء بكثرة وأطال الكلام فيه بما لا مزيد عليه وما ذكر عن واحد منهم أن الزعفران يسكر مفردا فقال الزعفران تحسن اللون وتذهب الخمار إذا شرب بالميفختج وقد يقال إنه يقتل إذا شرب منه مقدار وزن ثلاثة مثاقيل بماء وله خاصية شديدة عظيمة في تقوية جوهر الروح وتفريحه وقال الرازي في الحاوي وهو يسكر سكرا شديدا إذا جعل في الشراب ويفرح حتى إنه يأخذ منه الجنون من شدة الفرح انتهى كلام ابن بيطار مختصرا وهذا الشيخ الرئيس أبو علي إمام الفن قال في القانون الزعفران حار يابس قابض محلل مصدع يضر الرأس ويشرب بالميفختج للخمار وهو منوم مظلم للحواس إذا سقي في الشراب أسكر حتى يرعن مقو للقلب مفرح قيل إن ثلاثة مثاقيل منه تقتل بالتفريح انتهى ملخصا مختصرا وهذا علي بن العباس إمام الفن بلا نزاع قال في كامل الصناعة في الباب السابع
[ 105 ]
والثلاثين الزعفران حار يابس لطيف مجفف تجفيفا مع قبض يسير ولذلك صار يدر البول وفيه منضجة وينفع أورام الأعضاء الباطنة إذا شرب وضمد به من خارج ويفتح السدد التي في الكبد أو في العروق ويقوي جميع الأعضاء الباطنة وينفذ الأدوية التي يخلط بها إلى جميع البدن انتهى وقال الشيخ داود الأنطاكي في تذكرته الزعفران يفرح القلب ويقوي الحواس ويهيج شهوة الباه فيمن يئس منه ولو شما ويذهب الخفقان في الشراب ويسرع بالسكر على أنه يقطعه إذا شرب بالميفختج عن تجربة انتهى وقال الأقصرائي زعفران يسر مع الشراب جدا حتى يرعن أي يورث الرعونة وهي خفة العقل وقيل إن ثلاثة مثاقيل من الزعفران يقتل بالتفريح انتهى فمن أين قال العلامة القرشي إن الزعفران يسكر مفردا أيضا هل حصلت له التجربة على أنه يسكر مفردا كلا بل ثبت بالتجربة أنه لا يسكر إلا مع الشراب وقد سألت غير مرة من أدركنا من الأطباء الحذاق أصحاب التجربة والعلم والفهم فكلهم اتفقوا على أنه لا يسكر مفردا بل قالوا إن القول بالسكر غلط وحكى لي شيخنا العلامة الدهلوي في سنة أربع وتسعين بعد الألف والمائتين من الهجرة النبوية أن قبل ذلك بأربعين سنة أو أكثر من ذلك جرى الكلام في مسألة الزعفران بين الأطباء والعلماء فتحقق الأمر على أن الزعفران ليس بمسكر وإنما فيه تفتير واتفق عليه آراء الأطباء والعلماء كافة على أن الفرق بين حكم المائعات والجامدات محقق بين الأئمة الأحناف انتهى وقد أطنب الكلام في مسألة الزعفران الفاضل السيد رحمه الله في كتابه دليل الطالب فقال إن ثبت السكر في الزعفران فهو مسكر وإن ثبت التفتير فقط فهو مفتر انتهى حاصله قلت ذلك الفاضل رحمه الله تعالى تردد في أمر الزعفران ولم يترجح له سكر وقيل إن الرجل إن دخل في الأرض التي فيها زرع الزعفران لا يملك نفسه من شدة الفرح بل يخر مغشيا عليه وهذا قول غلط باطل لا أصل له وقد كذ ب قول هذا القائل وغلطه بعض الثقات من أهل الكشمير وكان صاحب أرض وزرع للزعفران والله أعلم بالصواب وإن شاء ربي سأفصل النبي الكلام على الوجه التمام في هذه المسألة في رسالة مستقلة أسميها بغاية البيان في حكم استعمال العنبر والزعفران والله الموفق
[ 106 ]
وحديث الباب قال الإمام المنذري فيه شهر بن حوشب وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وتكلم فيه غير واحد والترمذي يصحح حديثه انتهى وقال الشوكاني في بعض فتاواه هذا حديث صالح للاحتجاج به لأن أبا داود سكت عنه وقد روي عنه أنه لا يسكت إلا عما هو صالح للاحتجاج به وصرح بمثل ذلك جماعة من الحفاظ مثل ابن الصلاح وزين الدين العراقي والنووي وغيرهم وإذا أردنا الكشف عن حقيقة رجال إسناده فليس منهم من هو متكلم فيه إلا شهر بن حوشب وقد اختلف في شأنه أئمة الجرح والتعديل فوثقه الإمام أحمد ويحيى بن معين وهما إماما الجرح والتعديل ما اجتمعا على توثيق رجل إلا وكان ثقة ولا على تضعيف رجل إلا وكان ضعيفا فأقل أحوال حديث شهر المذكور أن يكون حسنا والترمذي يصحح حديثه كما يعرف ذلك من له ممارسة بجامعة انتهى قلت قال مسلم في مقدمة صحيحه سئل ابن عون عن حديث الشهر وهو قائم على اسكفة الباب فقال إن شهرا تركوه إن شهرا تركوه انتهى قال النووي في شرحه إن شهرا ليس متروكا بل وثقه كثيرون من كبار أئمة السلف أو أكثرهم فممن وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون وقال أحمد بن حنبل ما أحسن حديثه ووثقه وقال أحمد بن عبد الله العجلي هو تابعي ثقة وقال ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين هو ثقة ولم يذكر ابن أبي خيثمة غير هذا وقال أبو زرعة لا بأس به وقال الترمذي قال محمد يعني البخاري شهر حسن الحديث وقوى أمره وقال إنما تكلم فيه ابن عون وقال يعقوب بن شيبة شهر ثقة وقال صالح بن محمد شهر روى عنه الناس من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ولم يوقف منه على كذب وكان رجلا ينسك أي يتعبد إلا أنه روى أحاديث ولم يشركه فيها أحد فهذا كلام هؤلاء الأئمة في الثناء عليه وأما ما ذكر من جرحه أنه أخذ خريطة من بيت المال فقد حمله العلماء المحققون على محل صحيح وقول أبي حاتم بن حبان إنه سرق من رفيقه في الحج عليه غير مقبول عند المحققين بل أنكروه والله أعلم انتهى وقال الذهبي في الميزان شهر بن حوشب الأشعري عن أم سلمة وأبي هريرة وجماعة وعنه قتادة وداود بن أبي هند وعبد الحميد بن بهرام وجماعة قال أحمد روى عن أسماء بنت يزيد أحاديث حسانا وروى ابن أبي خيثمة ومعاوية بن
[ 107 ]
أبي صالح عن ابن معين ثقة وقال أبو حاتم ليس هو بدون أبي الزبير ولا يحتج به وقال أبو زرعة لا بأس به وروى النضر بن شميل عن ابن عون قال إن شهرا تركوه وقال النسائي وابن عدي ليس بالقوي وقال الدولابي شهر لا يشبه حديثه حديث الناس وقال الفلاس كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن شهر وكان عبد الرحمن يحدث عنه وقال ابن عون لمعاذ بن معاذ إن شعبة قد ترك شهرا وقال علي بن حفص المدايني سألت شعبة عن عبد الحميد بن بهرام فقال صدوق إلا أنه يحدث عن شهر وقال أبو عيسى الترمذي قال محمد وهو البخاري شهر حسن الحديث وقوى أمره وقال أحمد بن عبد الله العجلي ثقة شامي وروى عباس عن يحيى ثبت وقال يعقوب بن شيبة شهر ثقة طعن فيه بعضهم وقال ابن عدي شهر ممن لا يحتج به قال الذهبي وقد ذهب إلى الاحتجاج به جماعة فقال حرب الكرماني عن أحمد ما أحسن حديثه ووثقه وهو حمصي وروى حنبل عن أحمد ليس به بأس وقال النسوي شهر وإن تكلم فيه ابن عون فهو ثقة وقال صالح جزرة قدم على الحجاز فحدث بالعراق ولم يوقف منه على كذب وكان رجلا منسكا وتفرد ثابت عنه عن أم سلمة أن النبي نهى عن كل مسكر ومفتر انتهى كلام الذهبي ملخصا ثم اعلم رحمك الله تعالى أن المباشرة بالأشياء المسكرة المحرمة بأي وجه كان لم يرخصها وإن الشارع بل نهى أشد النهي أخرج الشيخان وأصحاب السنن عن ابن عمر قال قال رسول الله كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وعن أنس بن مالك قال لعن رسول الله في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له رواه ابن ماجه والترمذي واللفظ له وقال حديث غريب قال المنذري في الترغيب ورواته ثقات وعن ابن عمر قال قال رسول الله لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه رواه أبو داود واللفظ له وابن ماجه وزاد وآكل ثمنها فإن كان في العنبر والمس‍ ك والزعفران والعود سكر لزجر النبي عن استعمالها
[ 108 ]
ومباشرتها بجميع الوجوه كلها كما فعل بالأشربة المسكرة لكن لم يثبت قط عنه أنه نهى عن استعمال الزعفران والعنبر والمسك والعود لأجل سكرها بل كان وجودها زمن النبي واستعملها النبي ثم الصحابة في حضرته وكذا بعده أخرج النسائي وأبو داود عن ابن عمر أن النبي كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران وكان ابن عمر يفعل ذلك وأخرج النسائي أيضا عن عبد الله بن زيد عن أبيه أن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران فقيل له فقال كان رسول الله يصبغ وأخرج مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يلبس الثوب المصبوغ بالمشق والمصبوغ بالزعفران وفي الموطأ أيضا عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني أن أبا بكر الصديق قال لعائشة وهو مريض في كم كفن رسول الله فقالت في ثلاثة أثواب بيض سحولية فقال أبو بكر الصديق خذوا هذا الثوب لثوب عليه قد أصابه مشق أو زعفران فاغسلوه ثم كفنوني فيه مع ثوبين آخرين الحديث وأخرج الشيخان وأصحاب السنن عن أنس قال نهى النبي أن يتزعفر الرجل قال الزرقاني وفي أن النهي للونه أو لرائحته تردد لأنه للكراهة وفعله لبيان الجواز أو النهي محمول على تزعفر الجسد لا الثوب أو على المحرم بحج أو عمرة لأنه من الطيب وقد نهى المحرم عنه انتهى وفي المرقاة أي نهى أن يستعمل الزعفران في ثوبه وبدنه لأنه عادة النساء انتهى ويجئ تحقيقه في كتاب اللباس وفي شرح الموطأ قال مالك لا بأس بالمزعفر لغير الإحرام وكنت ألبسه انتهى وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن عطاء الهاشمي عن محمد بن علي قال سألت عائشة أكان رسول الله يتطيب قالت نعم بذكارة الطيب والمسك والعنبر وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله إن امرأة من بني إسرائيل اتخذت خاتما من ذهب وحشته مسكا قال رسول الله هو أطيب الطيب وأخرج النسائي من طريق مخرمة عن أبيه عن نافع قال كان ابن عمر إذا استجمر استجمر بالألوة غير مطراة وبكافور يطرحه مع الألوة ثم قال هكذا كان يستجمر رسول الله والله أعلم
[ 109 ]
(ما أسكر منه الفرق) قال الخطابي الفرق مكيلة تسع ستة عشر رطلا وقال في النهاية الفرق بالفتح مكيال يسع ستة عشر رطلا وهي اثنا عشر مدا وثلاثة أصوع عند أهل الحجاز وقيل الفرق خمسة أقساط القسط نصف صاع فأما الفرق بالسكون فمائة وعشرون رطلا ومنه الحديث ما أسكر منه الفرق فالحسو كما منه حرام (فملء الكف منه حرام) قال الطيبي الفرق وملأ الكف عبارتان عن التكثير والتقليل لا التحديد قال الخطابي وفي هذا أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب المسكر قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن والأمر كما ذكره فإن رواية جميعهم محتج بهم في الصحيحين سوى أبي عثمان عمرو ويقال عمرو بن سالم الأنصاري مولاهم المدني ثم الخراساني وهو مشهور ولي القضاء بمرو ورأى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وسمع من القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وعنه روى الحديث روى عنه غير واحد ولم أر أحدا قال فيه كلاما 19 في الداذي بدال مهملة وبعد الألف ذال معجمة قال الأزهري هو حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر
[ 110 ]
(فتذاكرنا الطلاء) بالكسر والمد الشراب الذي يطبخ حتى يذهب ثلثاه ويسمي البعض الخمر طلاء قاله في المجمع (ليشربن) أي والله ليشربن (يسمونها بغير اسمها) قال التوربشتي أي يتسترون في شربها بأسماء الأنبذة وقال ابن الملك أي يتوصلون إلى شربها بأسماء الأنبذة المباحة كماء العسل وماء الذرة ونحو ذلك ويزعمون أنه غير محرم لأنه ليس من العنب والتمر وهم فيه كاذبون لأن كل مسكر حرام قال القاري فالمدار على حرمة المسكر فلا يضر شرب القهوة المأخوذة من قشر شجر معروف حيث لا سكر فيها مع الإكثار منها وإن كانت القهوة من أسماء الخمر لأن الاعتبار بالمسمى كما في نفس الحديث إشارة إلى ذلك وأما التشبه بشرب الخمر فهو منهي عنه إذا تحقق ولو في شرب الماء واللبن وغيرهما انتهى
[ 111 ]
قال المنذري وأخرجه ابن ماجه أتم من هذا وفي إسناده حاتم بن حريث الطائي الحمصي سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال شيخ وقال يحيى بن معين لا أعرفه انتهى (حدثنا شيخ من أهل واسط) الحديث ليس من رواية اللؤلؤي
[ 112 ]
20 باب في الأوعية جمع وعاء بالكسر (نهى عن الدباء) ممدودا ويقصر أي عن ظرف يعمل منه (والحنتم) الجرة الخضراء (والمزفت) بتشديد الفاء المفتوحة المطلي بالزفت وهو القير (والنقير) أي المنقور من الخشب قال الخطابي وإنما نهى عن هذه الأوعية لأن لها ضراوة ويشتد فيها النبيذ ولا يشعر بذلك صاحبها فيكون على غرر من شربها وقد اختلف الناس في هذا فقال قائلون كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بحديث بريدة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت نهيتكم عن الأوعية فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا وهذا أصح الأقاويل وقال بعضهم الحظر باق وكرهوا أن ينبذ في هذه الأوعية وإليه ذهب مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق وقد روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس انتهى قلت حديث بريدة أخرجه مسلم قال المنذري وأخرجه مسلم (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر) بفتح الجيم وتشديد الراء جمع جرة كتمر جمع تمرة وهو بمعنى الجرار الواحدة جرة ويدخل فيه جميع أنواع الجرار من الحنتم وغيره (فزعا) بفتحتين قال في القاموس الفزع الزعر والفرق (من قوله حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم) قوله حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدل من قوله (قال صدق) بتخفيف الدال والضمير لابن عمر (كل شئ يصنع من مدر) بفتح الميم
[ 113 ]
والدال الطين المجتمع الصلب كذا في النهاية هذا تصريح أن الجر يدخل فيه جميع أنواع الجرار المتخذة من المدر الذي هو التراب والطين يقال مدرت الحوض أمدره إذا أصلحته بالمدر وهو الطين من التراب قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي (حماد) هو ابن زيد كما في رواية البخاري في باب وجوب الزكاة (عن أبي حمزة) بالجيم والراء اسمه نصر بن عمران بن عصام وقيل ابن عاصم الضبعي فحماد وعباد بن عباد كلاهما يرويان عن أبي جمرة (قال مسدد) أي في روايته (عن ابن عباس) أي ذكر لفظة عن بين أبي جمرة وابن عباس حيث قال أخبرنا عباد بن عباد عن أبي جمرة عن ابن عباس وأما سليمان بن حرب ومحمد بن عبيد فقالا في روايتهما أخبرنا حماد عن أبي جمرة قال سمعت ابن عباس فذكرا بين أبي جمرة وابن عباس لفظ السماع (قدم وفد عبد القيس) الوفد الجماعة المختارة للتقدم في لقي العظماء واحدهم وافد وعبد القيس اسم أبي قبيلة من أسد (إنا هذا الحي من ربيعة) قال ابن الصلاح الحي منصوب على الاختصاص والمعنى إنا هذا الحي حي من ربيعة قال والحي هو اسم لمنزل القبيلة ثم سميت القبيلة به لأن بعضهم يحيا ببعض (قد حال بيننا وبينك كفار مضر) لأن كفار مضر كانوا بينهم وبين المدينة ولا يمكنهم الوصول إلى المدينة إلا عليهم (وليس نخلص إليك) أي لا نصل إليك (إلا في شهر حرام) جنس يشمل الأربعة الحرم وسميت بذلك لحرمة القتال فيها أي فإنهم لا يتعرضون لنا كما كانت عادة العرب من تعظيم الأشهر الحرم وامتناعهم من القتال فيها (نأخذ به) أي بذلك الشئ وقوله نأخذ بالرفع على أنه صفة لشئ وقوله ندعو عطف عليه (من وراءنا) في حالة النصب على
[ 114 ]
المفعولية أي من قومنا أو من البلاد النائية أو الأزمنة المستقبلة (قال) صلى الله عليه وسلم (آمركم) بمد الهمزة (الإيمان بالله) بالجر ويجوز الضم (وشهادة أن لا إله إلا الله) عطف تفسيري لقوله الإيمان وقال ابن بطال هي مقحمة كهي في فلان حسن وجميل أي حسن جميل انتهى قلت وواو العطف إنما وجدت في بعض نسخ اللؤلؤي وأكثرها خالية عنها وأخرج البخاري في الزكاة وفي المغازي من طريق سليمان بن حرب عن حماد بن زيد الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله قال القسطلاني أي بدون الواو وهو أصوب والإيمان بالجر بدل من قوله في السابق بأربع وقوله شهادة بالجر على البدلية أيضا وبالرفع فيهما مبتدأ وخبر (وعقد) أي الرواي (بيده واحدة) أي كلمة واحدة أي وجعل الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله كلمة واحدة وهذا لفظ سليمان ومحمد بن عبيد وأما حديث مسدد فهو أصرح وأبين في المراد وإليه أشار المؤلف بقوله وقال مسدد الإيمان بالله ثم فسرها لهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله انتهى فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هي كلمة واحدة وثانيهما إقامة الصلاة وثالثهما إيتاء الزكاة وخامسها أداء الخمس من الغنيمة ولم يذكر في هذه الرواية صيام رمضان إما لغفلة الراوي أو اختصاره وليس ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الحج أيضا لشهرته عندهم أو لكونه على التراخي والتفصيل في الفتح (وأنهاكم عن الدباء) بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد هو القرع والمراد اليابس منه (والحنتم) بفتح المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق هي الجرة كذا فسرها ابن عمر في صحيح مسلم وله عن أبي هريرة الحنتم الجرار الخضر (والمزفت) بالزاي والفاء ما طلي بالزفت (والمقير) بفتح القاف والياء ما طلي بالقار ويقال له القير وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت كذا في الفتح (وقال ابن عبيد) أي في روايته (النقير) بفتح النون وكسر القاف أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء (وقال مسدد) أي في روايته (والنقير والمقير) أي قال مسدد أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير (ولم يذكر) أي مسدد
[ 115 ]
(المزفت) بل ذكر مكانه النقير (أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي) مبتدأ وخبر أي أبو جمرة اسمه نصر بن عمران والضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الباء إلى ضبيعة بن قيس بطن من بكر بن وائل وضبيعة بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان قاله السيوطي قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (والمزادة) هي السقاء الكبير سميت بذلك لأنه يزاد فيها على الجلد الواحد كذا قال النسائي (المجبوبة) بالجيم بعدها موحدتان بينهما واو كذا ضبطه في النهاية أي التي قطع رأسها فصارت كالدن مشتقة من الجب وهو القطع ليكون رأسها يقطع حتى لا يكون لها رقبة توكى وقيل هي التي قطعت رقبتها وليس لها عزلاء أي من أسفلها يتنفس الشراب منها فيصير شرابها مسكرا ولا يدري به بخلاف السقاء المتعارف فإنه يظهر فيه ما اشتد من غيره لأنها تنشق بالاشتداد القوي (ولكن اشرب في سقائك وأوكه) بفتح الهمزة أي وإذا فرغت من صب الماء واللبن الذي من الجلدة فأوكه أي شد رأسه بالوكاء يعني بالخيط لئلا يدخله حيوان أو يسقط فيه شئ كذا قال في النيل وقال النووي معناه أن السقاء إذا أوكى أمنت مفسدة الإسكار لأنه متى تغير نبيذه واشتد وصار مسكرا شق الجلد الموكى فما لم يشقه لا يكون مسكرا بخلاف الدباء والحنتم والمزادة المجبوبة والمزفت وغيرها من الأوعية الكثيفة فإنه قد يصير فيها مسكرا ولا يعلم قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي (بأسقية الأدم) بفتح الهمزة والدال جمع أديم وهو الجلد الذي تم دباغه والأسقية جمع
[ 116 ]
سقاة (التي يلاث) بضم المثناة من تحت وتخفيف اللام وآخره ثاء مثلثة أي يلف الخيط على أفواهها ويربط به قال المنذري وأخرجه النسائي مسندا ومرسلا وقد أخرج مسلم في الصحيح حديث أبي سعيد الخدري في وفد عبد القيس وفيه فقلت ففيم تشرب يارسول الله قال في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها (فإن اشتد فاكسروه بالماء فإن أعياكم فأهريقوه) أي إن اشتد النبيذ في الجلد أيضا فأصلحوه عنه بتخليط الماء به وإن غلب اشتداده بحيث أعياكم فصبوه والله تعالى أعلم والحديث سكت عنه المنذري (حدثني علي بن بذيمة) بفتح الموحدة وكسر المعجمة الخفيفة بعدها تحتانية ساكنة ثقة رمي بالتشيع (حدثني قيس بن حبتر) بمهملة وموحدة ومثناة على وزن جعفر ثقة (نهشلي) بفتح أوله والمعجمة إلى نهشل بطن من تميم ومن كلب (فإن اشتد) أي النبيذ (في الثالثة أو الرابعة) أي في المرة الثالثة أو الرابعة (فسألت علي بن بذيمة عن الكوبة قال الطبل) وقال الخطابي
[ 117 ]
الكوبة تفسر بالطبل ويقال بل هو النرد ويدخل في معناه كل وتر ومزهر ونحو ذلك من الملاهي والحديث سكت عنه المنذري (والجعة) بكسر الجيم وفتح العين المهملة قال الخطابي قال أبو عبيد هي نبيذ الشعير قال المنذري وأخرجه النسائي (نهيتكم) أي أولا (عن ثلاث) أي ثلاث أمور وهذا من الأحاديث التي تجمع الناسخ والمنسوخ (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) قال ابن الملك الإذن مختص للرجال لما روي أنه عليه السلام لعن زوارات القبور وقيل إن هذا الحديث قبل الترخيص فلما رخص عمت الرخصة لهما كذا في شرح السنة (فإن في زيارتها تذكرة) أي للموت والقيامة (إلا في ظروف الأدم) بفتح الهمزة والدال جمع أديم ويقال أدم بعضهما وهو القياس ككثيب وكثب وبريد وبرد والأديم الجلد المدبوغ والاستثناء منقطع لأن المنهي عنه هي الأشربة في الظروف المخصوصة وليست ظروف الأدم من جنس ذلك ذكره الطيبي (فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا) فيه دليل على نسخ النهي عن الانتباذ في الأوعية المذكورة قال النووي كان الانتباذ في هذه الأوعية منهيا عنه في أول الإسلام خوفا من أن يصير مسكرا فيها ولا نعلم به لكثافتها فيتلف ماليته وربما شربه الإنسان ظانا أنه لم يصر مسكرا فيصير شاربا للمسكر وكان العهد قريبا بإباحة المسكر فلما طال الزمان واشتهر تحريم المسكرات وتقرر ذلك في نفوسهم نسخ ذلك وأبيح لهم الانتباذ في كل وعاء بشرط أن لا يشربوا مسكرا انتهى (ونهيتكم عن لحوم الأضاحي) تقدم الكلام فيه في كتاب الأضاحي
[ 118 ]
قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي بمعناه وأخرج مسلم والترمذي فصل الظروف في جامعه من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه وأخرج ابن ماجه في سننه هذا الفصل أيضا وقال فيه عن ابن بريدة عن أبيه ولم يسمعه (عن الأوعية) أي عن الانتباذ في الأوعية (قال) أي جابر (إنه) أي الشأن (لا بد لنا) أي من الأوعية (قال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلا إذا) أي إذا كان لا بد لكم منها فلا ينهى عن الانتباذ فيها فالنهي كان قد ورد على تقدير عدم الاحتياج ويحتمل أن يكون الحكم في هذه المسألة مفوضا لرأيه صلى الله عليه وسلم أو أوحي إليه في الحال بسرعة وعند أبي يعلى وصححه ابن حبان من حديث الأشج العصري أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم مالي أرى وجوهكم قد تغيرت قالوا نحن بأرض وخمة وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا فلما نهيتنا عن الظروف فذلك الذي ترى في وجوهنا فقال صلى الله عليه وسلم إن الظروف لا تحل ولا تحرم ولكن كل مسكر حرام كذا في القسطلاني قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه (فقال أعرابي إنه) أي الشأن (فقال اشربوا ما حل) أي الذي حل من الأشربة في أي ظرف كان (بإسناده) أي المذكور قبل (اجتنبوا ما أسكر) أي احترزوا عن المسكر واشربوا ما حل في أي ظرف كان قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم بمعناه وفيه فأرخص لهم في الجر غير المزفت
[ 119 ]
(نبذ له في تور من حجارة) التور بفوقية مفتوحة فواو ساكنة قال بعضهم التور إناء صغير يشرب فيه ويتوضأ منه وقال ابن الملك وهو ظرف يشبه القدر يشرب منه وفي النهاية إناء من صفر أو حجارة كالإجانة وقد يتوضأ منه وفي القاموس إناء يشرب منه مذكر قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه 22 باب في الخليطين هو عبارة عن نقيع الزبيب ونقيع التمر يخلطان فيطبخ بعد ذلك أدنى طبخة ويترك إلى أن يغلي ويشتد كذا في النهاية (نهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعا إلخ) البسر بضم الموحدة قال في القاموس هو التمر قبل إرطابه قال الخطابي ذهب غير واحد من أهل العلم إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب المتخذ منهما مسكرا قولا بظاهر الحديث ولم يجعلوه معلولا بالإسكار وإليه ذهب عطاء وطاووس وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وعامة أهل الحديث وهو غالب مذهب الشافعي وقالوا إن من شرب الخليطين قبل حدوث الشدة فيه فهو آثم من جهة واحدة وإذا شربه بعد حدوث الشدة كان آثما من جهتين أحدهما شرب الخليطين والآخر شرب المسكر ورخص فيه سفيان الثوري وأصحاب الرأي وقال الليث بن سعد إنما جاءت الكراهة أن ينبذا جميعا لأن أحدهما يشتد بصاحبه
[ 120 ]
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (وعن خليط الزهو والرطب) الزهو بفتح الزاي وضمها لغتان مشهورتان قال الجوهري أهل الحجاز يضمون والزهو هو البسر الملون الذي بدا فيه حمرة أو صفرة وطاب كذا قال النووي (انتبذوا كل واحدة على حدة) بكسر المهملة وفتح الدال بعدها هاء تأنيث أي بانفرادها قال القاضي إنما نهى عن الخلط وجوز انتباذ كل واحد وحده لأنه ربما أسرع التغير إلى أحد الجنسين فيفسد الآخر وربما لم يظهر فيتناوله محرما وقال النووي سبب الكراهة فيه أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه فيظن الشارب أنه ليس مسكرا ويكون مسكرا قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه مسندا (قال) أي يحيى (وحدثني أبو سلمة إلخ) رواية يحيى هذه مسندة والأولى موقوفة قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي (قال حفص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) أي زاد حفص بن عمر في روايته بعد قوله عن رجل لفظة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (عن البلح) بفتح الموحدة وفتح اللام ثم حاء مهملة كذا في القاموس وشمس العلوم بفتحهما وهو أول ما يرطب من البسر واحده بلحة كذا في النهاية وفي المصباح البلح ثمر النخل ما دام أخضر قريبا إلى الاستدارة إلى أن يغلظ النوى وهو كالحصرم من العنب وأهل البصرة يسمونه الخلال الواحدة بلحة وخلالة إن فإذا أخذ في الطول والتلون إلى الحمرة أو الصفرة فهو بسر فإذا خلص لونه وتكامل إرطابه فهو الزهو انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي (حدثتني ريطة) هي بنت حريث لا تعرف من السادسة كذا في التقريب (كان ينهانا أن
[ 121 ]
نعجم النوى طبخا) أي ننضج إلا قال في المجمع هو أن يبالغ في نضجه حتى تتفتت وتفسد قوته التي يصلح معها للغنم والعجم بالحركة النوى من عجمت النوى إذا لكته في فيك وقيل المعنى أن التمر إذا طبخ لتؤخذ حلاوته وطبخ عفوا حتى لا يبلغ الطبخ النوى ولا يؤثر فيه تأثير من يعجمه أي يلوكه ويعضه لأنه يفسد طعم الحلاوة أو لأنه قوت الدواجن فلا ينضج لئلا تذهب طعمته انتهى قال المنذري في إسناده ثابت بن عمارة وقد وثقه يحيى بن معين وأثنى عليه غيره وقال أبو حاتم الرازي ليس عندي بالمتين (أو تمر) أي ينبذ له تمر فيلقى فيه زبيب هذا يفيد أن النهي عن الجمع إنما هو بسبب الخوف من الوقوع في الإسكار فعند الأمن منه لا نهي كذا في فتح الودود قال المنذري امرأة من بني أسد مجهولة (الحساني) بتشديد السين منسوب إلى حسان جد (الحماني) بالكسر والتشديد إلى حمان قبيلة من تميم قاله السيوطي (فألقيه في إناء فأمرسه) من باب نصر أي أدلكه بالأصابع قال الخطابي تريد بذلك أنها تدلكه بأصبعها في الماء والمرس والمرث فيه بمعنى واحد وفيه حجة لمن رأى الانتباذ بالخليطين انتهى قال المنذري في إسناده أبو بحر عبد الرحمن بن عثمان البكراوي البصري ولا يحتج حديثه
[ 122 ]
23 باب في نبيذ البسر بضم الموحدة نوع عن ثمر النخل معروف قال في المجمع لثمرة النخل مراتب أولها طلع ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب (أنهما كانا يكرهان البسر) أي نبيذ البسر (وحده) بالنصب على الحالية أي منفردا (ويأخذان ذلك) أي كراهة نبيذ البسر (وقال ابن عباس أخشى) أي أخاف (أن يكون) أي نبيذ البسر (المزاء) بالنصب خبر يكون وهو بضم الميم وتشديد الزاي والمد قال في النهاية هي الخمر التي فيها حموضة وقيل هي من خلط البسر والتمر (فقلت لقتادة ما المزاء قال النبيذ في الحنتم والمزفت) قال الخطابي قد فسر قتادة المزاء وأخبر أنه النبيذ في الحنتم والمزفت وذكره أبو عبيد فقال ومن الأشربة المسكرة شراب يقال لها المزاء ولم يفسر بأكثر من هذا وأنشد في الأخطل بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر والحديث سكت عنه المنذري 24 في صفة النبيذ فعيل بمعنى مفعول وهو الماء الذي نبذ فيه تمرات لتخرج حلاوتها إلى الماء وفي النهاية لابن الأثير النبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك يقال نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذا فصرف من المفعول إلى فعيل وانتبذته اتخذته نبيذا سواء كان مسكرا أو غير مسكر (عن السيباني) بفتح المهملة والموحدة بينهما تحتانية وسيبان بطن من حمير واسمه
[ 123 ]
يحيى بن أبي عمرو السيباني روى عنه ضمرة بن ربيعة كذا في الشرح (قال زببوها) من التزبيب يقال زبب فلان عنبه تزبيبا (انبذوه) من باب ضرب أو من باب الإفعال (في الشنان) قال الخطابي الشنان الأسقية من الأدم وغيرها واحدها شن وأكثر ما يقال ذلك في الجلد الرقيق أو البالي من الجلود (ولا تنبذوه في القلل) القلل الجرار الكبار واحدتها قلة ومنه الحديث إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا قال المنذري وأخرجه النسائي (كان ينبذ) وفي رواية مسلم كنا ننبذ (في سقاء) بكسر أوله ممدودا (يوكأ أعلاه) أي يشد رأسه بالوكاء وهو الرباط (وله) أي للسقاء (عزلاء) بمهملة مفتوحة فزاي ساكنة ممدودة أي ما يخرج منه الماء والمراد به المزادة الأسفل قال ابن الملك أي له ثقبة في أسفله ليشرب منه الماء وفي القاموس العزلاء مصب الماء من الراوية ونحوها (ينبذ غدوة) بالضم ما بين صلاة الغداوة وطلوع الشمس (فيشربه عشاء) بكسر أوله وهو ما بعد الزوال إلى المغرب على ما في النهاية قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي
[ 124 ]
(عن مقاتل بن حيان) قال المزي في الأطراف هكذا أي بإثبات لفظة عن رواه أبو بكر ابن داسة وأبو عمرو وأحمد بن علي البصري وغير واحد عن أبي داود وفي رواية أبي الحسن بن العبد عن أبي داود عن مسدد عن معتمر قال سمعت شبيب بن عبد الملك يحدث مقاتل بن حيان عن عمته عمرة وسقط من روايته عن وذلك وهم لاشك فيه انتهى (أنها كانت تنبذ) بكسر الموحدة لا غير ويجوز ضم التاء مع تخفيف الموحدة وتشديدها (فتعشى) أي أكل طعام العشاء (شرب على عشائه) قال في القاموس العشاء كسحاب طعام العشي والعشي آخر النهار (تغدى) قال في القاموس تغدى أي أكل أول النهار (فشرب على غدائه) بفتح أوله وهو طعام الغدوة والغدوة بضم المعجمة البكرة وما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس (قالت) أي عائشة (تغسل السقاء غدوة وعشية) لئلا يبقى فيه دردي النبيذ والحديث سكت عنه المنذري (فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة) وفي رواية لمسلم فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة بذكر واو العطف أيضا (ثم يأمر به) أي بالنبيذ (فيسقى) بصيغة المجهول (أو) للتنويع لا للشك (يهراق) بضم أوله أي يصب أي تارة يسقى الخادم وتارة يصب وذلك الاختلاف لاختلاف حال النبيذ فإن كان لم يظهر فيه تغير ونحوه من مبادئ الإسكار يسقى الخادم ولا يراق لأنه مال يحرم إضاعته ويترك شربه تنزها وإن كان قد ظهر فيه شئ من مبادئ الإسكار والتغير يراق لأنه إذا أسكر صار حراما ونجسا (معنى يسقى الخدم يبادر به الفساد) لأنه لا يجوز سقيه بعد فساده وكونه مسكرا كما لا يجوز شربه
[ 125 ]
وأما قوله في حديث عائشة المتقدم ينبذ غدوة فيشربه عشاء وينبذ عشاء فيشربه غدوة فليس مخالفا لحديث ابن عباس هذا في الشرب إلى ثلاث لأن الشرب في يوم لا يمنع الزيادة وقال بعضهم لعل حديث عائشة كان زمن الحر وحيث يخشى فساده في الزيادة على يوم وحديث ابن عباس في زمن يؤمن فيه التغير قبل الثلاث والله تعالى أعلم وفي هذه الأحاديث دلالة على جواز الانتباذ وجواز شرب النبيذ ما دام حلوا لم يتغير ولم يغل وهذا جائز بإجماع الأمة كذا قال النووي قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه 25 في شراب العسل (فتواصيت) بالصاد المهملة من المواصاة أي أوصى إحدانا الأخرى (أيتنا ما دخل عليها) لفظة ما زائدة وفي رواية البخاري أن أيتنا دخل عليها (إني أجد منك ريح مغافير) بفتح الميم والغين المعجمة وبعد الألف فاء جمع مغفور بضم الميم وليس في كلامهم مفعول بالضم إلا قليلا والمغفور صمغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يسمى العرفط بعين مهملة وفاء مضمومتين بينهما راء ساكنة آخره طاء مهملة (فقالت ذلك) أي القول الذي تواصيا عليه (له) أي للنبي صلى الله عليه وسلم (ولن أعود له) أي للشرب (فنزلت لم تحرم ما أحل الله لك) من شرب العسل أو مارية القبطية قال ابن كثير والصحيح أنه كان في تحريمه العسل وقال الخطابي الأكثر على أن الآية نزلت في تحريم مارية حين حرمها على نفسه ورجحه في فتح الباري بأحاديث عند سعيد بن منصور والضياء في المختارة والطبراني في عشرة النساء وابن مردويه والنسائي ولفظه عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة رضي الله عنهما حتى حرمها فأنزل الله تعالى يا أيها النبي لم
[ 126 ]
تحرم ما أحل الله لك كذا قال القسطلاني ولكن قال الخطابي في معالم السنن في هذا الحديث دليل على أن يمين النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقعت في تحريم العسل لا في تحريم أم ولده مارية القبطية كما زعمه بعض الناس انتهى قال الخازن قال العلماء الصحيح في سبب نزول الآية أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح قال النسائي إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غاية انتهى (فنزلت) هذه الآيات يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك أي من العسل أو من ملك اليمين وهي أم ولده مارية القبطية قال النسفي وكان هذا زلة من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله انتهى وفي الخازن وهذا التحريم تحريم امتناع عن الانتفاع بها أو بالعسل لا تحريم اعتقاد بكونه حراما بعد ما أحله الله تعالى فالنبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الانتفاع بذلك مع اعتقاده أن ذلك حلال تبتغي إلى قوله تعالى إن تتوبا إلى الله وتمام الآية مع تفسيرها تبتغي مرضاة أزواجك تفسير لتحرم أو حال أي تطلب رضاهن بترك ما أحل الله لك والله غفور قد غفر لك ما زللت فيه رحيم قد رحمك فلم يؤاخذك بذلك التحريم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم أي قد قدر الله لكم ما تحللون وقال به أيمانكم وهي الكفارة أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة أو شرع لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول إن شاء الله عقيبها حتى لا يحنث وتحريم الحلال يمين عند الحنفية وعن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين والله مولاكم وهو العليم الحكيم فيما أحل وحرم (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه) يعني حفصة (حديثا) حديث تحريم مارية أو تحريم العسل وقيل حديث إمامة الشيخين (فلما نبأت به) أفشته إلى عائشة رضي الله عنها (وأظهره الله عليه) وأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على إفشائها الحديث على لسان جبرئيل عليه السلام (عرف بعضه) بتشديد الراء في قراءة أي أعلم حفصة ببعض الحديث وأخبرها ببعض ما كان منها (وأعرض عن بعض) أي لم يعرفها إياه ولم يخبرها به تكرما قال سفيان ما زال التغافل من فعل الكرام والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية أو تحريم العسل وأعرض عن بعض (فلما نبأها به) أي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بما أفشت من السر وأظهر ه الله عليه (قالت) حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم (من أنبأك هذا) أي من ا خبرك بأني أفشيت السر (قال نبأني العليم) بالسرائر (الخبير) بالضمائر (إن تتوبا إلى الله) خطاب لحفصة وعائشة
[ 127 ]
على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما وجواب الشرط محذوف والتقدير إن تتوبا إلى الله فهو الواجب ودل على المحذوف (فقد صغت) زاغت ومالت (قلوبكما) عن الحق وعن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة يعد ذلك ظهير) فوج مظاهر له فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه والله أعلم (لعائشة وحفصة) هذا تفسير من عائشة رضي الله عنها أو ممن دونها لقوله تعالى إن تتوبا تعني الخطاب في قوله تعالى إن تتوبا لعائشة وحفصة (لقوله) أي النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أيضا تفسير كما قبله لقوله تعالى حديثا والمعنى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه بل شربت عسلا هو مراد الله تعالى بقوله حديثا أي أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أزواجه بقوله إني شربت عسلا قال الحافظ كان المعنى وأما المراد بقوله تعالى وإذ أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أزواجه حديثا فهو لأجل قوله بل شربت عسلا انتهى واعلم أن في هذا الحديث أي حديث عائشة من طريق عبيد بن عمير أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش وفي الحديث الآتي أي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن شرب العسل كان عند حفصة وأن عائشة وسودة وصفية هن اللواتي تظاهرن عليه فقال القاضي عياض والصحيح الأول قال النسائي إسناد حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج صحيح جيد غاية وقال الأصيلي حديث حجاج أصح وهو أولى بظاهر كتاب الله تعالى وأكمل فائدة يريد قوله تعالى وإن تظاهرا عليه وهما ثنتان لا ثلاثة وأنهما عائشة رضي الله عنها وحفصة رضي الله عنها كما اعترف به عمر رضي الله عنه في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى الذي فيه أن الشرب كان عند حفصة قال القاضي والصواب أن شرب العسل كان عند زينب ذكره القرطبي والنووي قاله الشيخ علاء الدين في لباب التأويل قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (يحب الحلواء) بالمد ويجوز قصره قال العلامة القسطلاني في فقه اللغة للثعالبي إن حلوى النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يحبها هي المجيع بالجيم بوزن عظيم وهو تمر يعجن بلبن فإن صح هذا وإلا فلفظ الحلوى يعم كل ما فيه حلو كذا قال القسطلاني
[ 128 ]
وقال النووي المراد بالحلوى في هذا الحديث كل شئ حلو وذكر العسل بعدها للتنبيه على شرفه ومزيته وهو من الخاص بعد العام (جرست) بفتح الجيم والراء بعدها مهملة أي رعت ولا يقال جرس بمعنى رعى إلا للنحل (نحله العرفط) بضم المهملة والفاء بينهما راء مهملة ساكنة وآخره طاء مهملة هو الشجر الذي صمغه المغافير (نبت من نبت النحل) هذا تفسير للعرفط أنه من المؤلف رحمه الله أي العرفط نبت من النبت الذي ترعيه النحل وقال ابن قتيبة هو نبات مر له ورقة عريضة تفرش بالأرض وله شوكة وثمرة بيضاء كالقطن مثل زر القميص وهو خبيث الرائحة والحديث هكذا أخرجه المؤلف مختصرا وعند الشيخين من حديث عائشة أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له يارسول الله أكلت مغافير فإنه سيقول لا فقولي ما هذه الريح التي أجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل فقولي له جرست نحله العرفط وسأقول ذلك وقولي أنت يا صفية ذلك فلما دخل على سودة قالت له سودة يا رسول الله أكلت مغافير قال لا قالت فما هذه الريح التي أجد منك قال سقتني حفصة شربة عسل قالت جرست نحله العرفط فلما دخل علي قلت له مثل ذلك ثم دخل على صفية فقالت له مثل ذلك فلما دخل على حفصة قالت له يارسول الله ألا أسقيك منه قال لا حاجة لي فيه قالت تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه قلت لها اسكتي (قال أبو داود المغافير) هذه العبارة إلى آخرها وجدت في بعض النسخ (مقلة) كذا في الأصل بالتاء في آخر اللفظ والظاهر بحذف التاء لأن المقلة على وزن غرفة معناه شحمة العين التي تجمع سوادها وبياضها يقال مقلته نظرته إليه وأما المقل بضم الميم وسكون القاف وبحذف التاء بعد اللام فهو الظاهر في هذا المحل
[ 129 ]
قال شراح الموجز مقل هو صمغ شجرة أكثر ما يكون في بلاد العرب خصوصا بعمان والله أعلم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرا ومطولا 26 في النبيذ إذا غلا (فتحينت فطره) أي طلبت حين فطره (في دباء) أي قرع (ثم أتيته) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (به) أي بالنبيذ (فإذا هو ينش) بفتح الياء التحتية وكسر النون أي يغلي يقال نشت الخمر تنش نشيشا إذا غلت (اضرب بهذا الحائط) أي اصببه وأرقه في البستان وهو الحائط قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه 27 في الشرب قائما (نهى أن يشرب الرجل قائما) قال النووي في شرح مسلم وفي رواية زجر عن الشرب قائما
[ 130 ]
وفي حديث أبي هريرة لا يشربن أحدكم قائما فمن نسي فليستقئ وعن ابن عباس سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم وفي أخرى أنه صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم وروي أن عليا رضي الله عنه شرب قائما الحديث (هذا هو الحديث الثاني من الباب) قال وقد أشكل على بعضهم وجه التوفيق بين هذه الأحاديث وأولوا فيها بما لا جدوى في نقله والصواب فيها أن النهي محمول على كراهة التنزيه وأما شربه قائما فبيان
[ 131 ]
للجواز وأما من زعم النسخ أو الضعف فقد غلط غلطا فاحشا وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بينهما لوثبت التاريخ وأنى له بذلك وإلى القول بالضعف مع صحة الكل قلت وكذلك سلك آخرون في الجمع بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين قال الحافظ وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض وقال الحافظ ابن القيم في حاشية السنن وقد خرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما وفيه أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يشربن أحد منكم قائما فمن نسى فليستقئ وفي الصحيحين عن ابن عباس قال سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم وفي لفظ آخر فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير فاختلف في هذه الأحاديث فقوم سلكوا بها مسلك النسخ وقالوا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرب قائما كما شرب في حجة الوداع وقالت طائفة في ثبوت النسخ بذلك نظر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعله شرب قائما لعذر وقد حلف عكرمة أنه كان حينئذ راكبا وحديث على قصة عين فلا عموم لها وقد روى الترمذي عن عبد الرحمن بن أبي عمر عن جدته كبشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قربة معلقة فشرب قائما فقمت إلى فيها فقطعته وقال الترمذي حديث صحيح وأخرجه ابن ماجه وروى أحمد في مسنده عن أم سليم قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت قربة معلقة فشرب منها وهو قائم فقطعت فاها فإنه لعندي فدلت هذه الوقائع على أن الشرب منها قائما كان لحاجة لكونه القربة معلقة وكذلك شربه من زمزم أيضا لعله لم يتمكن لعله لم يتمكن من القعود لضيق الموضع أو الزحام وغيرها والجملة فالنسخ لا يثبت بمثل ذلك وأما حديث ابن عمر كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نأكل ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه فلا يدل على النسخ إلا بعد ثلاثة أمور مقاومة لأحاديث النهي في الصحة وبلوغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وتأخره عن أحاديث النهي
[ 132 ]
وبعد ذلك فهو حكاية فعل لا عموم لها فإثبات النسخ في هذا عسر انتهى كلامه وقال في زاد المعاد وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الشرب قاعدا هذا كان هديه المعتاد وصح عنه أنه نهى عن الشرب قائما وصح عنه أنه أمر الذي شرب قائما إن يستقئ وصح عنه أنه شرب قائما قالت طائفة هذا ناسخ للنهي وقالت طائفة بل مبين أن النهي ليس للتحريم بل للإرشاد وترك الأولى وقالت طائفة لا تعارض بينهما أصلا فإنه إنما شرب قائما للحاجة فإنه جاء إلى زمزم وهم يسقون منها فاستقى فناولوه الدلو فشرب وهو قائم هذا كان موضع حاجة وللشرب قائما آفات عديدة منها أنه لا يحصل له الري التام ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء وينزل بسرعة وحدة إلى المعدة فيخشى منه أن يبرد حرارتها ويشوشها ويسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج وكل هذا يضر بالشارب وأما إذا فعله نادرا أو لحاجة لم يضره انتهى وأخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان كانوا يشربون قياما مالك عن ابن شهاب أن عائشة أم المؤمنين وسعد بن أبي وقاص كانا لا يريان بشرب الإنسان وهو قائم بأسا قال مالك عن أبي جعفر القاري أنه قال رأيت عبد الله بن عمر يشرب قائما مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه كان يشرب قائما انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه بنحوه (عن النزال) بفتح النون وتشديد الزاي (ابن سبرة) بفتح المهملة وسكون الموحدة (وهو قائم) جملة حالية أي في حالة القيام (أن يفعل هذا) أي شرب الماء قائما (مثل ما رأيتموني فعلت) أي من الشرب قائما
[ 133 ]
قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي 28 الشراب من في السقاء أي من السقاء (عن الشرب من في السقاء) أي من القربة (وعن ركوب الجلالة) بفتح الجيم وشدة اللام وفي رواية أخرى عند المؤلف نهى عن أكل الجلالة وألبانها وهو من الحيوان ما تأكل العذرة والجلة بالفتح البعرة وتطلق على العذرة كذا في المصباح قال الطيبي وهذا إذا كان غالب علفها منها حتى ظهر على لحمها ولبنها وعرقها فيحرم أكلها وركوبها إلا بعد أن حبست أياما انتهى قال في النهاية أكل الجلال حلال إن لم يظهر النتن في لحمها وأما ركوبها فلعله لما يكثر من أكلها العذرة والبعر وتكثر النجاسة على أجسامها وأفواهها وتلحس راكبها بفمها وثوبه بعرقها وفيه أثر النجس فيتنجس انتهى (والمجثمة) بضم الميم وفتح الجيم ثم بعدها ثاء مثلثة مشددة وعند الترمذي في كتاب الصيد من حديث أبي الدرداء مرفوعا نهى عن أكل المجثمة وهي التي تصبر بالنبل انتهى قال في النهاية هي كل حيوان ينصب ويرمى ليقتل إلا أنها تكثر في نحو الطير والأرانب مما يجثم بالأرض أي يلزمها ويلتصق بها وجثم الطائر جثوما وهو بمنزلة البروك للإبل انتهى وقال الخطابي بين الجاثم والمجثم فرق وذلك أن الجاثم من الصيد يجوز لك أن ترميه حتى تصطاده والمجثم هو ما ملكته فجثمته إذا وجعلته عرضا ترميه حتى تقتله وذلك محرم
[ 134 ]
وقال إنما يكره الشرب من في السقاء من أجل ما يخاف من أذى عسى يكون فيه لا يراه الشارب حتى يدخل في جوفه فاستحب له أن يشربه في إناء ظاهر يبصره وروي أن رجلا شرب من في سقاء فانساب جان فدخل جوفه قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وليس في حديث البخاري وابن ماجه ذكر الجلالة والمجثمة 29 في اختناث الأسقية الاختناث افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة وهو الانطواء والتسكر فقال والانثناء والأسقية جمع السقاء والمراد المتخذ من الأدم صغيرا كان أو كبيرا وقيل القربة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة والسقاء لا يكون إلا صغيرا (نهى عن اختناث الأسقية) قال الخطابي معنى الاختناث فيها أن يثني رؤوسها ويعطفها أي ثم يشرب منها وقال في النهاية والمجمع خنثت السقاء إذا ثنيت فمه إلى خارج وشربت وقبعته إذا ثنيته إلى داخل ووجه النهي أنه ينتنها بإدامة الشرب أو حذر من الهامة أو لئلا يترشش الماء على الشارب انتهى قال السيوطي وإنما نهى عنه لنتنها فإدامة الشرب هكذا مما يغير ريحها وقيل لئلا يترشش الماء على الشارب لسعة السقاء انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه (عبيد الله بن عمر) هكذا عبيد الله مصغرا في بعض النسخ وهو إمام ثقة وفي بعض النسخ عبد الله مكبرا وهو ضعيف والمنذري رجح نسخة المكبر كما يظهر من كلامه الآتي والله أعلم
[ 135 ]
(رجل من الأنصار) بالجر بدل بدل من عيسى (فقال اخنث الإداوة) في هذا دلالة على جواز الاختناث من الإداوة وقد دل الحديث الأول على النهي عن ذلك قال الخطابي في المعالم يحتمل أن يكون النهي إنما جاء عن ذلك إذا شرب من السقاء الكبير دون الإداوة ونحوها ويحتمل أن يكون إنما أباحه للضرورة والحاجة إليه في الوقت وإنما النهي أن يتخذه الإنسان دربة وعادة وقد قيل إنما أمره بذلك لسعة السقاء لئلا ينصب عليه الماء انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال هذا حديث ليس إسناده بصحيح وعبد الله بن عمر العمري يضعف من قبل حفظه ولا أدري سمع من عيسى أم لا هذا آخر كلامه وأبو عيسى هذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري وهو غير عبد الله ابن أنيس الجهني فرق بينهما علي بن المديني وخليفة بن خياط بن شباب وغيرهما 30 في الشرب من ثلمة القدح بضم المثلثة وسكون اللام هي موضع الكسر منه (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح) قال الخطابي إنما نهى عن الشراب من ثلمة القدح لأنه إذا شرب منه تصبب الماء وسال قطره على وجهه وثوبه لأن الثلمة لا يتماسك عليها شفة الشارب كما يتماسك على الموضع الصحيح من الكوز والقدح وقد قيل إنه مقعد الشيطان فيحتمل أن يكون المعنى في ذلك أن موضع الثلمة لا يناله التنظيف التام إذا غسل الإناء فيكون شربه على غير نظافة وذلك من فعل الشيطان وتسويله وكذلك إذا خرج من الثلمة وأصاب وجهه وثوبه فإنما هو من إعنات الشيطان وإيذائه إياه والله أعلم (وأن ينفخ في الشراب) بصيغة المجهول أي وعن النفخ في الشراب لما يخاف من خروج شئ من فمه
[ 136 ]
قال المنذري وفي إسناده قرة بن عبد الرحمن بن حيويل المصري أخرج له مسلم مقرونا بعمرو بن الحرث وغيره وقال الإمام أحمد منكر الحديث جدا وقال ابن معين ضعيف وتكلم فيه غيرهما 31 في الشرب في آنية الذهب والفضة (عن الحكم) بفتحتين هو ابن عتيبة مصغرا (عن ابن أبي ليلى) هو عبد الرحمن (كان حذيفة) أي ابن اليمان رضي الله عنه (بالمدائن) اسم بلفظ جمع مدينة وهو بلد عظيم على دجلة بينها وبين بغداد سبعة فراسخ كانت مسكن ملوك الفرس وبها إيوان كسرى المشهور وكان فتحها على يد سعد ابن أبي وقاص في خلافة عمر سنة ست عشرة وقيل قبل ذلك وكان حذيفة عاملا عليها في خلافة عمر ثم عثمان إلى أن مات بعد قيل عثمان (فاستسقى) أي طلب الماء ليشرب (فأتاه دهقان) بكسر الدال المهملة ويجوز ضمها بعدها هاء ساكنة ثم قاف هو كبير القرية بالفارسية (بإناء فضة) وفي رواية البخاري بقدح فضة (فرماه به) أي فرمى حذيفة الدهقان بذلك الإناء (ألا أني قد نهيته) أي عن إتيان الماء بإناء الفضة (نهى عن الحرير والديباج) بكسر الدال المهملة وبفتح وهو نوع من الحرير فارسي معرب قال في المجمع استبرق بكسر الهمزة ما غلظ من الحرير والديباج ما رق والحرير أعم انتهى (عن الشرب في آنية الذهب والفضة) قال الحافظ كذا وقع في معظم الروايات عن حذيفة الاقتصار على الشرب ووقع عنه أحمد من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى بلفظ نهى أن يشرب في آني الذهب والفضة وأن يؤكل فيها (هي) الضمير راجع إلى الثلاثة المذكورة من الحرير والديباج والآنية ووقع في رواية البخاري هن ولمسلم هو أي جميع ما ذكر (لهم) أي للكفار كما يدل عليه السياق (ولكم) أي معشر المسلمين قال النووي ليس في الحديث حجة لمن يقول الكفار غير مخاطبين بالفروع لأنه صلى الله عليه وسلم
[ 137 ]
لم يصرح فيه بإباحته لهم وإنما أخبر عن الواقع في العادة أنهم هم الذي يستعملونه في الدنيا وإن كان حراما عليهم كما هو حرام على المسلمين قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه 32 في الكرع الكرع بفتح الكاف وسكون الراء تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف كما يشرب البهائم لأنها تدخل فيه أكارعها (ورجل من أصحابه) وفي رواية البخاري معه صاحب له قال الحافظ هو أبو بكر الصديق (وهو) الرجل الأنصاري (يحول الماء) أي ينقل الماء من مكان إلى مكان اخر من البستان ليعم أشجاره بالسقي أو ينقله من عمق البئر إلى ظاهرها (في حائطه) أي في بستانه (إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شن) بفتح المعجمة وتشديد النون وفي رواية البخاري في شتة وهما بمعنى واحد قال الحافظ هي القربة الخلقة وقال الداودي هي التي زال شعرها من البلاء قال المهلب الحكمة في طلب الماء البائت أنه يكون أبرد وأصفى انتهى وجواب الشرط محذوف أي فأعطنا (وإلا كرعنا) بفتح الراء وتكسر أي شربنا من غير إناء ولا كف بالفم والحديث يدل على جواز الكرع وقد أخرج ابن ماجه عن ابن عمر قال مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها فهذا يدل على النهي عن الكرع قال الحافظ ولكن في سنده ضعف فإن كان محفوظا فالنهي فيه للتنزيه والفعل لبيان الجواز أو قصة جابر قبل النهي أو النهي في غير حال لضرورة وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الذي ليس ببارد فيشرب بالكرع لضرورة العطش لئلا تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع فقد لا يبلغ الغرض من الري قال ووقع عند ابن ماجه من
[ 138 ]
وجه اخر عن ابن عمر فقال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع وسنده أيضا ضعيف فهذا إن ثبت احتمل أن يكون النهي خاصا بهذه الصورة وهي أن يكون الشارب منبطحا على بطنه ويحمل حديث جابر على الشرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح انتهى مختصرا قال المنذري وأخرجه البخاري وابن ماجه 33 في الساقي متى يشرب (عن أبي المختار) اسمه سفيان بن المختار ويقال سفيان بن أبي حبيبة (ساقي القوم اخرهم شربا) قال النووي هذا أدب من اداب ساقي القوم الماء واللبن وغيرهما وفي معناه ما يفرق على الجماعة من المأكول كلحم وفاكهة ومشموم وغير ذلك فيكون المفرق اخرهم تناولا منه لنفسه قال المنذري رجال إسناده ثقات وقد أخرج مسلم في حديث أبي قتادة الأنصاري الطويل فقلت لا أشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن ساقي القوم اخرهم وأخرجه الترمذي وابن ماجه مختصرا وفي حديث الترمذي وابن ماجه شربا وقال الترمذي حسن صحيح (أتى) بصيغة المجهول (قد شيب) بكسر أوله أي خلط (فشرب) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثم أعطى الأعرابي) أي اللبن الذي فضل منه بعد شربه (وقال الأيمن فالأيمن) بالرفع فيهما أي يقدم فالأيمن ويجوز النصب فيهما بتقدير قدموا أو أعطوا وفي الحديث دليل على أنه يقدم من على يمين الشارب في الشرب وهلم جرا وهو مستحب عند الجمهور وقال ابن حزم يجب ولا فرق في هذا بين شراب اللبن وغيره قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه
[ 139 ]
(تنفس ثلاثا) أي في أثناء شربه قال البغوي في شرح السنة المراد من هذا الحديث أن يشرب ثلاثا كل ذلك يبين الإناء عن فمه فيتنفس ثم يعود والخبر المروي أنه نهى عن التنفس في الإناء هو أن يتنفس في الإناء من غير أن يبينه عن فيه (وقال هو) أي تعدد التنفس أو التثليث (أهنأ) بالهمزة من الهنأ (وأمرأ) من المراءة قال في النهاية هنأني الطعام ومرأني إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عليها طيبا (وأبرأ) من البراءة أو من البرء أي يبرئ من الأذى والعطش والمعنى أنه يصير هنيئا مريا بريا أي سالما أو مبريا من مرض أو عطش أو أذى ويؤخذ منه أنه أقمع للعطش وأقوى على الهضم وأقل أثرا في ضعف الأعضاء وبرد المعدة واستعمال أفعل التفضيل في هذا يدل على أن للمرتين وفي ذلك مدخلا في الفضل المذكور ويؤخذ منه أن النهي عن الشرب في نفس واحد للتنزيه قاله الحافظ قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وأبو عصام هذا لا يعرف اسمه وانفرد به مسلم وليس له في كتابه سوى هذا الحديث 34 في النفخ في الشراب (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس) بصيغة المجهول أي لخوف بروز شئ من ريقه فيقع في الماء وقد يكون متغير الفم فتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطافته فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه وأن لا يتنفس فيه (أو ينفخ) بصيغة المجهول ايضا لان النفخ انما يكون لاحد معنيين فان من حرارة الشراب فليصبر حتى يبرد وإن كان من أجل قذي يبصره فليمطه بأصبع أو بخلال أو نحوه ولا حاجة به إلى النفخ فيه بحال (فيه) أي في الإناء الذي يشرب منه والإناء يشمل إناء الطعام والشراب فلا ينفح في الإناء ليذهب ما في الماء من قذاة ونحوها فإنه لا يخلو النفخ غالبا من بزاق يستقذر منه وكذا لا ينفح في الإناء لتبريد
[ 140 ]
الطعام الحار بل يصبر إلى أن يبرد ولا يأكله حارا فان البركة تذهب منه وهو شراب أهل النار كذا في النيل قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح هذا اخر كلامه وقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي النهي عن التنفس في الإناء من حديث أبي قتادة الأنصاري وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهم والجمع بينهما ظاهر والله أعلم (عن يزيد بن خمير) بضم الخاء المعجمة وفتح الميم صدوق من الخامسة (عن عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة صحابي صغير ولأبيه صحبة (فنزل) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (عليه) أي على أبي (فقدم) بتشديد الدال (حيسا) الحيس طعام متخذ من تمر وأقط وسمن أو دقيق أو فتيت بدل أقط (فناول) أي أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضله (فجعل يلقي النوى على ظهر أصبعيه السبابة والوسطى) أي يجمعه على ظهر الأصبعين لقلته ثم يرمي به ولم يلقه في إناء التمر لئلا يختلط به قال السيوطي قلت لأنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يجعل آكل النوى على الطبق رواه البيهقي وعلله الترمذي بأنه قد يخالطه الريق ورطوبة الفم فإذا خالطه ما في الطبق عافته النفس كذا في فتح الودود (فلما قام) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومطابقة الحديث بالباب أنه لما لم يلق النوى الذي خالطه الريق ورطوبة الفم في إناء التمر لئلا يختلط بالتمر فتستقذر ثنا به النفس فكيف ينفخ في الشراب والطعام لأن النفخ لا يخلو من بزاق وغيره الذي يستقذر به النفس قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي
[ 141 ]
35 ما يقول إذا شرب اللبن (عن علي بن زيد) فحماد بن زيد وحماد بن سلمة كلاهما يرويان عن علي ابن زيد بن جدعان (كنت في بيت ميمونة) أي زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد (فجاءوا بضبين) تثنية الضب كل وهو دويبة تشبه الحرذون لكنه أكبر منه قليلا ويقال للأنثى ضبة ويأتي حكم أكله في مقامه (على ثمامتين) أي عودين واحدهما ثمامة والثمام شجرة دقيق العود ضعيفة كذا قال الخطابي (فقال خالد إخالك) بكسر الهمزة أي أظنك قال في القاموس خال الشئ ظنه وتقول في مستقبله إخال بكسر الألف ويفتح في لغية (تقذره) أي تكرهه (وإذا سقى) بصيغة المجهول (فإنه ليس شئ يجزئ) بضم الياء وكسر الزاي بعدها همزة أي يكفي في دفع الجوع والعطش معا (من الطعام والشراب) أي من جنس المأكول والمشروب (إلا اللبن) بالرفع على أنه بدل من الضمير في يجزئ ويجوز نصبه على الاستثناء (هذا لفظ مسدد) أي لفظ الحديث المذكور لفظ حديث مسدد قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال حسن هذا اخر كلامه وعمر بن حرملة ويقال ابن أبي حرملة سئل عنه أبو زرعة الرازي فقال بصري لا أعرفه إلا في هذا الحديث وفي إسناده أيضا علي بن زيد بن جدعان أبو الحسن البصري وقد ضعفه جماعة من الأئمة
[ 142 ]
36 في إيكاء الآنية (أغلق بابك) من الإغلاق (واذكر اسم الله) أي حين الإغلاق (فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا) أي بابا أغلق مع ذكر الله عليه (وأطف) بفتح الهمزة من الإطفاء (مصباحك) أي سراجك (وخمر) بفتح المعجمة وتشديد الميم أي غط من التخمير وهو التغطية (ولو بعود تعرضه) بفتح أوله وضم الراء قاله الأصعمي وهو رواية الجمهور وأجاز أبو عبيد كسر الراء وهو مأخوذ من العرض أي تجعل العود عليه بالعرض والمعنى أنه لم يغطه فلا أقل من أن يعرض عليه شيئا قال الحافظ وأظن السر في الاكتفا بعرض العود أن تعاطي التغطية أو العرض يقترن بالتسمية فيكون العرض علامة على التسمية فتمتنع الشياطين من الدنو منه (عليه) أي على الإناء (وأوك) بفتح الهمزة من الإيكاء (سقاءك) أي شد واربط رأس سقاءك بالوكاء وهو الحبل لئلا يدخله حيوان أو يسقط فيه شئ (واذكر اسم الله) أي وقت الإيكاء قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر) أي رواية أبي الزبير كرواية عطاء لكن ليست بأتم وأطول مثل رواية عطاء وأخرج مالك في الموطأ عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أغلقوا الباب وأوكوا السقاء وأكفؤا الإناء أو خمروا الإناء وأطفؤا المصباح فإن الشيطان لا يفتح غلقا ولا يحل وكاء ولا يكشف إناء وإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم (فإن الشيطان لا يفتح بابا غلقا) ضبطه في فتح الودود بفتحتين وكذا ضبطه الزرقاني في شرح الموطأ لكن قال في القاموس باب غلق بضميتين به مغلق وبالتحريك المغلاق وهو ما يغلق به لباب (ولا يحل) بضم الحاء (ولا يكشف إناء) أي بشرط التسمية عند الأفعال جميعها (وإن
[ 143 ]
الفويسقة) تصغير الفاسقة والمراد الفأرة لخروجها من جحرها على الناس وإفسادها (تضرم) بضم التاء وكسر الراء المخففة أي توقد النار وتحرق (بيتهم أو بيوتهم) شك من الراوي قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه (السكرى) بضم السين وبعدها كاف مشددة منسوب إلى بيع السكر والله أعلم (عن كثير بن شنظير) بكسر المعجمتين بينهما نون ساكنة صدوق يخطئ (رفعه) أي رفع الحديث (أكفتوا هذا) بهمز وصل وكسر فاء وضم فوقية أي ضموا صبيانكم إليكم وأدخلوهم البيوت وامنعوهم عن الانتشار (عند العشاء) بكسر العين أي أول ظلام الليل (وقال مسدد) أي في روايته (عند المساء) أي مكان عند العشاء (فإن للجن انتشارا وخطفة) بفتح فسكون أي سلبا سريعا قال المنذري وقد تقدم حديث عطاء (فاستسقى) أي طلب الماء (فخرج الرجل يشتد) أي يسعى (ألا) بتشديد اللام أي هلا (خمرته) من التخمير بمعنى التغطية أي لم لا سترته وغطيته (ولو أن تعرض عليه عودا) يقال عرضت العود على الإناء أعرضه بكسر الراء في قول عامة الناس إلا الأصمعي فإنه قال أعرضه مضمومة الراء في هذا خاصة والمعنى هلا غطيته بغطاء فإن لم تفعل فلا أقل من أن تعرض عليه شيئا (قال الأصمعي تعرضه عليه) أي بضم الراء بخلاف عامة الناس فإنهم يكسرونها كما مر ولعل المؤلف كان ضبط ضم الراء بالقلم ثم تركه النساخ والله تعالى أعلم قال المنذري وأخرجه مسلم بنحوه عن أبي صالح وحده انتهى يعني أخرج مسلم
[ 144 ]
الحديث من وجهين الأول من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله والثاني من طريق جرير عن الأعمش عن أبي سفيان وأبي صالح كليهما عن جابر فرواية أبي داود نحو الرواية الأولى لمسلم وهي رواية أبي صالح وحده عن جابر (يستعذب له الماء) بصيغة المجهول أي يجاء بالماء العذب وهو الطيب الذي لا ملوحة فيه لأن مياه المدينة كانت مالحة (من بيوت السقيا) بضم السين المهملة وسكون القاف ومثناة مقصورا (قال قتيبة هي) أي السقيا (عين بينها وبين المدينة يومان) وقال السيوطي هي قرية جامعة بين مكة والمدينة وفي القاموس السقيا بالضم موضع بين المدينة وواد بالصفراء والحديث سكت عنه المنذري
[ 145 ]
كتاب الأطعمة ما جاء في إجابة الدعوة (إذا دعي) بصيغة المجهول (أحدكم إلى الوليمة) هي الطعام الذي يصنع عند العرس (فليأتها) أي فليأت مكانها والتقدير إذا دعي إلى مكان وليمة فليأتها ولا يضر إعادة الضمير مؤنثا قاله الحافظ قال النووي في الحديث الأمر بحضورها ولا خلاف في أنه مأمور به ولكن هل هو أمر إيجاب أو ندب فيه خلاف الأصح في مذهبنا أنه فرض عين على كل من دعي لكن يسقط بأعذار سنذكرها والثاني أنه فرض كفاية والثالث مندوب هذا مذهبنا في وليمة العرس وأما غيرها ففيها وجهان لأصحابنا أحدهما أنها كوليمة العرس والثاني أن الإجابة إليها ندب وإن كانت في العرس واجبة ونقل القاضي اتفاق العلماء على وجوب الإجابة في وليمة العرس قال واختلفوا فيما سواها فقال مالك والجمهور لا تجب الإجابة إليها وقال أهل الظاهر تجب الإجابة إلى كل دعوة من عرس وغيره وبه قال بعض السلف وأما الأعذار التي يسقط بها وجوب إجابة الدعوة أو ندبها فمنها أن يكون في الطعام شبهة أو يخص بها الأغنياء أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه أو لا تليق به مجالسته أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه أو ليعاونه على باطل وأن لا يكون هناك منكر من خمر أو لهو أو فرش حرير أو صور حيوان غير مفروشة أو انية ذهب أو فضة فكل هذه أعذار في ترك الإجابة ومن الأعذار أن يعتذر إلى الداعي فيتركه ولو دعاه ذمي لم تجب إجابته على الأصح
[ 146 ]
ولو كانت الدعوة ثلاثة أيام فالأول تجب الإجابة فيه والثاني تستحب والثالث تكره انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (بمعناه) أي بمعنى الحديث المذكور (زاد) أي عبيد الله الراوي عن نافع (فإن كان) أي المدعو (مفطرا فليطعم) ظاهره وجوب الأكل على المدعو وقد اختلف العلماء في ذلك والأصح عند الشافعية أنه لا يجب الأكل في طعام الوليمة ولا غيرها وقيل يجب لظاهر الأمر وأقله لقمة وقال من لم يوجب الأكل الأمر للندب والقرينة الصارفة إليه حديث جابر الآتي في هذا الباب (وإن كان صائما فليدع) أي لأهل الطعام بالمغفرة والبركة وفيه دليل على أنه يجب الحضور على الصائم ولا يجب عليه الأكل قال النووي لا خلاف أنه لا يجب عليه الأكل لكن إن كان صومه فرضا لم يجز له الأكل لأن الفرض لا يجوز الخروج منه وإن كان نفلا جاز الفطر وتركه فإن كان يشق على صاحب الطعام صومه فالأفضل الفطر وإلا فإتمام الصوم قال المنذري وأخرجه مسلم وابن ماجه وفي حديثهما وليمة عرس وليس في حديثهما الزيادة (إذا دعا أحدكم أخاه فليجب) أي أخوه المدعو دعوة أخيه الداعي (عرسا) بضم العين المهملة وإسكان الراء وضمها لغتان مشهورتان (كان أو نحوه) كالعقيقة وقد احتج بهذا من ذهب إلى أنه يجب الإجابة إلى الدعوة مطلقا وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين ومنهم من فرق بين وليمة العرس وغيرها كما تقدم قال المنذري وأخرجه مسلم
[ 147 ]
(حدثنا ابن المصفى) هو محمد بن المصفى بن بهلول القرشي صدوق له أوهام وكان يدلس (أخبرنا الزبيدي) بالزاي والموحدة مصغرا هو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي ثقة ثبت (بإسناد أيوب ومعناه) أي معنى حديثه (فإن شاء طعم) بفتح الطاء وكسر العين أي أكل (وإن شاء ترك) فيه دليل على أن نفس الأكل لا يجب على المدعو في عرس أو غيره وإنما الواجب الحضور وهو مستند من لم يوجب الأكل على المدعو وقال الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم فإن كان مفطرا فليطعم للندب قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه (أخبرنا درست) بضم الدال والراء المهملتين وسكون السين المهملة بعدها مثناة ضعيف من الثامنة (فقد عصى الله ورسوله) احتج بهذا من قال بوجوب الإجابة إلى الدعوة لأن العصيان لا يطلق إلا على ترك الواجب (ومن دخل على غير دعوة) أي للمضيف إياه (دخل سارقا وخرج مغيرا) بضم الميم وكسر الغين المعجمة اسم فاعل من أغار يغير إذا نهب مال غيره فكأنه شبه دخوله على الطعام الذي لم يدع إليه بدخول السارق الذي يدخل بغير إرادة المالك لأنه اختفى بين الداخلين وشبه خروجه بخروج من نهب قوما وخرج ظاهرا بعد ما أكل بخلاف الدخول فإنه دخل مختفيا خوفا من أن يمنع وبعد الخروج قد قضى حاجته فلم يبق له حاجة إلى التستر وقال في المرقاة والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم علم أمته مكارم الأخلاق البهية ونهاهم عن الشمائل الدنية فإن عدم إجابة الدعوة من غير حصول المعذرة يدل على تكبر النفس والرعونة وعدم
[ 148 ]
الألفة والمحبة والدخول من غير دعوة يشير إلى حرص النفس ودناءة الهمة وحصول المهانة والمذلة فالخلق الحسن هو الاعتدال بين الخلقين المذمومين انتهى وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي دخل سارقا لدخوله بغير إذن صاحب البيت فكأنه دخل خفية وخرج مغيرا من الإغارة إن أكل أو حمل شيئا معه لأنه لما كان بغير إذن المالك كان في حكم الغصب والغارة انتهى قال المنذري في إسناده أبان بن طارق البصري سئل عنه أبو زرعة الرازي فقال شيخ مجهول وقال أبو أحمد بن عدي وأبان بن طارق لا يعرف إلا بهذا الحديث وهذا الحديث معروف به وليس له أنكر من هذا الحديث وفي إسناده أيضا درست بن زياد ولا يحتج بحديثه ويقال هو درست بن همزة وقيل بل هما اثنان ضعيفان شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك المساكين الجملة صفة الوليمة قال القاضي وإنما سماه شرا لما ذكر عقيبه فإنه الغالب فيها فكأنه قال شر الطعام طعام الوليمة التي من شأنها هذا فاللفظ وإن أطلق فالمراد به التقييد بما ذكر عقيبه قال الطيبي اللام في الوليمة للعهد الخارجي وكان من عادتهم مراعاة الأغنياء فيها فيدعوا الأغنياء ويتركوا الفقراء وقوله يدعى إلخ استئناف بيان لكونها شر الطعام (ومن لم يأت الدعوة) أي من غير معذرة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي موقوفا أيضا وأخرجه مسلم من حديث ابن عياض عن أبي هريرة انتهى قلت أخرج مسلم من طريق ثابت بن عياض الأعرج أنه يحدث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله عز وجل ورسوله انتهى وقد تقرر أن الحديث إذا روى موقوفا ومرفوعا حكم برفعه على المذهب الصحيح والله أعلم
[ 149 ]
2 في استحباب الوليمة عند النكاح قد اختلف السلف في وقتها هل هو عند العقد أو عقبه أو عند الدخول أو عقبه أو يوسع من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول على أقوال قال النووي اختلفوا فحكى القاضي عياض أن الأصح عند المالكية استحبابها بعد الدخول وعن جماعة منهم عند العقد وعن ابن جندب عند العقد وبعد الدخول قال السبكي والمنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول انتهى وفي حديث أنس عند البخاري وغيره التصريح بأنها بعد الدخول لقوله أصبح عروسا بزينب فدعا القوم كذا في النيل قلت قال الحافظ وقد ترجم عليه البيهقي في وقت الوليمة (قال ذكر) بصيغة المجهول (فقال) أي أنس (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم على أحد من نسائه ما أولم عليها) أي زينب يعني مثل ما أو قدر ما أولم وما إما مصدرية أو موصولة والمعنى أولم على زينب أكثر مما أولم على نسائه شكرا لنعمة الله إذ زوجه إياها بالوحي كما قاله الكرماني أو وقع اتفاقا لا قصدا كما قاله ابن بطال أو ليبين الجواز كما قاله غيره (أولم بشاة) استئناف بيان أو فيه معنى التعليل قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (أولم على صفية بسويق وتمر) وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بالحيس المتخذ من التمر والأقط والسمن قال في المرقاة وجمع بأنه كان في الوليمة كلاهما فأخبر كل راو بما كان عنده قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي غريب
[ 150 ]
3 باب في كم تستحب الوليمة أي في كم يوما رسول يستحب الوليمة (يقال له معروفا) ليس المراد أنه يدعى باسم معروف كما هو المتبادر ولذا فسره بقوله أي يثنى عليه خيرا قال السندي قوله معروفا الظاهر الرفع أي يقال في شأنه كلام معروف انتهى وقال في الخلاصة زهير بن عثمان الثقفي صحابي له حديث وعنه الحسن البصري وغيره قال البخاري لا تصح صحبته انتهى وفي التقريب زهير بن عثمان الثقفي صحابي له حديث في الوليمة انتهى (الوليمة أول يوم حق) أي ثابت ولازم فعله وإجابته أو واجب وهذا عند من ذهب إلى أن الوليمة واجبة أو سنة مؤكدة فإنها في معنى الواجب قاله القاري (والثاني معروف) أي الوليمة اليوم الثاني معروف وفي رواية الترمذي طعام يوم الثاني سنة (واليوم الثالث سمعة) بضم السين (ورياء) بكسر الراء أي ليسمع الناس وليرائيهم ولا وفي الحديث دليل على مشروعية الوليمة اليوم الأول وهو من متمسكات من قال بالوجوب وعدم كراهتها في اليوم الثاني لأنها معروف والمعروف ليس بمنكر ولا مكروه وكراهتها في اليوم الثالث لأن الشئ إذا كان للسمعة والرياء لم يكن حلالا (دعي أول يوم فأجاب) لأن الوليمة أول يوم حق (ودعي اليوم الثاني فأجاب) لأن الوليمة اليوم الثاني معروف وسنة (وقال أهل سمعة ورياء) بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي الداعون اليوم الثالث أهل سمعة ورياء
[ 151 ]
قال المنذري وأخرجه النسائي مسندا ومرسلا (فلم يجب وحصب الرسول) أي رماه بالحصى قال السندي أي رجمه بالحصباء وأخرج ابن أبي شيبة من طريق حفصة بنت سيرين قالت لما تزوج أبي دعا الصحابة سبعة أيام فلما كان يوم الأنصار دعا أبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهما فكان أبي صائما فلما طعموا دعا أبي وأخرجه عبد الرزاق وقال فيه ثمانية أيام وقد ذهب إلى استحباب الدعوة إلى سبعة أيام عند المالكية كما حكى ذلك القاضي عياض عنهم وقد أشار البخاري إلى ترجيح هذا المذهب فقال باب إجابة الوليمة والدعوة ومن أولم سبعة أيام ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم يوما ولا يومين انتهى كذا في النيل قال الحافظ في الفتح وقد وجدنا لحديث زهير بن عثمان شواهد فذكرها ثم قال وهذه الأحاديث وإن كان كل منهالا يخلو عن مقال فمجموعها يدل على أن للحديث أصلا وقد وقع في رواية أبي داود والدارمي في آخر حديث زهير بن عثمان قال قتادة بلغني عن سعيد بن المسيب أنه دعي أول يوم إلخ قال فكأنه بلغه الحديث فعمل بظاهره إن ثبت ذلك عنه وقد عمل به الشافعية والحنابلة قال النووي قال أبو القاسم البغوي ولا أعلم لزهير بن عثمان غير هذا وقال أبو عمر النمري في إسناده نظر يقال إنه مرسل وليس له غيره وذكر البخاري هذا الحديث في تاريخه الكبير في ترجمة زهير بن عثمان وقال ولا يصح إسناده ولا نعرف له صحبة وقال ابن عمر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب ولم يخص ثلاثة أيام ولا غيرها وهذا أصح وقال ابن سيرين عن أبيه لما بنى بأهله أولم سبعة أيام ودعى في ذلك أبي ابن كعب فأجابه
[ 152 ]
4 باب الإطعام عند القدوم من السفر (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة نحر جزورا) الجزور البعير ذكرا أو أنثى واللفظ مؤنث (أو بقرة) شكمن الراوي والحديث يدل على مشروعية الدعوة عند القدوم من السفر ويقال لهذه الدعوة النقيعة مشتقة من النقع وهو الغبار والحديث سكت عنه المنذري 5 ما جاء في الضيافة (فليكرم ضيفه) الضيف القادم من السفر النازل عند المقيم وهو يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى (جائزته يومه وليلته الضيافة ثلاثة أيام) قال السهيلي روي جائزته بالرفع على الابتداء وهو واضح وبالنصب على بدل الاشتمال أي يكرم جائزته يوما وليلة كذا في الفتح قال في النهاية أي يضاف ثلاثة أيا فيتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وألطاف ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما حضر ولا يزيد على عادته ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة وتسمى الجيزة وهو قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل (وما بعد ذلك فهو صدقة) أي معروف إن شاء فعل وإلا فلا (ولا يحل له) أي للضيف (أن يثوي) بفتح أوله وسكون المثلثة وكسر الواو من الثواء وهو الإقامة أي لا يحل للضيف أن يقيم (عنده) أي عند مضيفه (حتى يحرجه) بتشديد الراء أي يضيق صدره ويوقعه في الحرج والمفهوم من الطيبي أنه بتخفيف الراء حيث قال والإحراج لم التضييق على المضيف بأن يطيل الإقامة عنده حتى يضيق عليه
[ 153 ]
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وروى أبو داود أنه سئل مالك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم جائزته يوم وليلة فقال يكرمه ويتحفه ويحفظه يوم وليلة وثلاثة أيام ضيافة هذا آخر كلامه وفيها للعلماء تأويلان آخران أحدهما يعطيه ما يجوز به ويكفيه في سفره يوم وليلة يستقبلها بعد ضيافته والثاني جائزته يوم وليلة إذا اجتاز به وثلاثة أيام إذا قصده انتهى كلام المنذري (فقال يكرمه) قيل إكرامه تلقيه بطلاقة الوجه وتعجيل قراه والقيام بنفسه في خدمته (ويتحفه) بضم أوله من باب الافعال والتحفة بضم التاء وسكون الحاء وبضم الحاء أيضا البر واللطف وجمعه تحف وقد أتحفته تحفة وأصلها وحفة كذا في القاموس (وثلاثة أيام ضيافة) واختلفوا هل الثلاث غير الأول أو يعد منها وقد بسط الكلام فيه الحافظ ابن حجر في الفتح من شاء الاطلاع فليراجع إليه (فما سوى ذلك فهو صدقة) استدل بجعل ما زاد على الثلاث صدقة على الذي قبلها واجب فإن المراد بتسميته صدقة التنفير عنه لأن كثيرا من الناس خصوصا الأغنياء يأنفون غالبا من أكل الصدقة انتهى والحديث سكت عنه المنذري (ليلة الضيف حق على كل مسلم) وفي رواية أحمد ليلة الضيف واجبة على كل مسلم (فمن أصبح بفنائه) بكسر الفاء وتخفيف النون ممدودا وهو المتسع أمام الدار وقيل ما امتد من جوانب الدار جمعه أفنية أي فالذي أصبح الضيف بفنائه (فهو عليه) الضمير المجرور يرجع إلى
[ 154 ]
من وهو صاحب الدار وضمير هو يرجع إلى قرى المفهوم من المقام (إن شاء) أي الضيف (اقتضى) أي طلب حقه قال السيوطي أمثال هذا الحديث كانت في أول الإسلام حين كانت الضيافة واجبة وقد نسخ وجوبها وأشار إليه أبو داود بالباب الذي عقده بعد هذا انتهى قال الإمام الخطابي وجه ذلك أنه رآها حقا من طريق المعروف والعادة المحمودة ولم يزل قرى الضيف وحسن القيام عليه من شيم الكرام وعادات الصالحين ومنع القرى مذموم على الألسن وصاحبه ملوم وقد قال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه انتهى والحديث سكت عنه المنذري (حدثني أبو الجودي) بضم الجيم وسكون الواو مشهور بكنيته واسمه الحارث بن عمير ثقة (أيما رجل ضاف قوما) أي نزل عليهم ضيفا وفي بعض النسخ أضاف من باب الأفعال (فأصبح) أي صار (الضيف محروما) الضيف مظهر أقيم مقام المضمر إشعارا بأن المسلم الذي ضاف قوما يستحق لذاته أن يقرى فمن منع حقه فقد ظلمه فحق لغيره من المسلمين نصره قاله الطيبي (حتى يأخذ بقرى ليلة) بكسر القاف أي بقدر أن يصرف في ضيافته في ليلة في المصباح قريت الضيف أقريه من باب رمى قرى بالكسر والقصر والاسم القراه حدثنا بالفتح والمد انتهى وفي مجمع البحار قرى بكسر القاف مقصورا ما يصنع للضيف من مأكول أو مشروب والقراء بالمد وفتح القاف طعام تضيفه به انتهى (من ذرعه وماله) توحيد الضمير مع ذكر القوم باعتبار المنزل عليه أو المضيف وهو واحد قال الإمام الحافظ الخطابي يشبه أن يكون هذا في المضطر الذي لا يجد ما يطعمه ويخاف التلف على نفسه من الجوع فإذا كان بهذه الصفات كان له ان تناول من مال له اخيه ما يقيم به نفسه فإذا فعل ذلك فقد اختلف الناس فيما يلزم له فذهب بعضهم إلى أنه يؤدي إليه قيمته وهذا أشبه بمذهب الشافعي وقال آخرون لا يلزمه له قيمة وذهب إلى هذا القول نفر من أصحاب الحديث واحتجوا
[ 155 ]
بأن أبا بكر الصديق حلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبنا من غنم لرجل من قريش له فيها عبد يرعاها وصاحبها غائب فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في مخرجه من مكة إلى المدينة واحتجوا أيضا بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من دخل حائطا فليأكل منه ولا يأخذ منه خبنة وعن الحسن أنه قال إذا مر الرجل بالإبل وهو عطشان صاح برب الإبل ثلاثا فإن أجاب وإلا حلب وشرب وقال زيد بن أسلم ذكروا الرجل يضطر إلى الميتة وإلى مال المسلم فقال يأكل الميتة وقال عبد الله بن دينار يأكل الرجل مال الرجل المسلم فقال سعيد ما أحب أن الميتة تحل إذا اضطر إليها ولا يحل له مال المسلم انتهى كلامه قال المنذري ذكر البخاري أن سعيد ابن المهاجر سمع المقدام انتهى (إنك تبعثنا) أي وفدا أو غزاة (فلا يقروننا) بفتح الياء أي لا يضيفوننا (فما ترى) من الرأي أي فما تقول في أمرنا (بما ينبغي للضيف) أي من الإكرام بما لا بد منه من طعام وشراب وما يلتحق بهما (فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم) أي للضيف وهو يطلق على الواحد والجمع والموصول صفة للحق قال النووي حمل أحمد والليث الحديث على ظاهره وتأوله الجمهور على وجوه أحدها أنه محمول على المضرين فان ضيافتهم واجبة وثانيها أن معناه أن لكم أن تأخذوا من أعراضهم بألسنتكم وتذكروا للناس لومهم قلت وما أبعد هذا التأويل عن سواء السبيل قال وثالثها أن هذا كان في أو اسلام وكانت المواساة واجبة فلما اشيع الاسلام نسخ ذلك وهذا التأويل باطل لأن الذي ادعاه المأول لا يعرف قائله ورابعها أنه محمول على من مر بأهل الذمة الذي شرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين وهذا أيضا ضعيف لأنه إنما صار هذا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كذا في المرقاة قلت التأويل الأول أيضا ضعيف لأنه مما لم يقم عليه دليل ولا دعت إليه حاجة ولبطلان التأويل الثالث وجه آخر وهو أن تخصيص ما شرعه صلى الله عليه وسلم لأمته بزمن من الأزمان أو حال من الأحوال لا يقبل إلا بدليل ولم يقم ها هنا دليل على تخصيص هذا الحكم بزمن النبوة وليس فيه
[ 156 ]
مخالفة للقواعد الشرعية لأن مؤنة الضيافة بعد شرعتها قد صارت لازمة للمضيف لكل نازل عليه فللنازل المطالبة بهذا الحق الثابت شرعا كالمطالبة بسائر الحقوق فإذا أساء إليه واعتدى عليه بإهمال حقه كان له مكافأته بما أباحه له الشارع في هذا الحديث وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واعلم أن الضيافة ليست بواجبة عند جمهور العلماء لكن ذهب البعض إلى وجوبها لأمور الأول إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك وهذا لا يكون في غير واجب والثاني قوله فما سوى ذلك صدقة فإنه صريح أن ما قبل ذلك غير صدقة بل واجب شرعا والثالث قوله صلى الله عليه وسلم ليلة الضيف حق وفي رواية ليلة الضيافة واجبة فهذا التصريح بالوجوب والرابع قوله صلى الله عليه وسلم فإن نصره حق كل مسلم فإن هذا وجوب النصرة وذلك فرع وجوب الضيافة وهذه الدلائل تقوي مذهب ذلك البعض وكانت أحاديث الضيافة مخصصة لأحاديث حرمة الأموال إلا بطيبة الأنفس والتفصيل في النيل قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه وأخرجه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال حسن 6 نسخ الضيف أي نسخ حرمة الضيافة فإن الضيف كما جاء صفة جاء مصدرا أيضا قال في القاموس ضفته أضيفه ضيفا وضيافة بالكسر نزلت عليه ضيفا (في الأكل من مال غيره) أي هذا الباب منعقد لاثبات أن الضيافة في الأكل من مال غيره التي كانت محرمة بآية النساء الآتي ذكرها قد صارت منسوخة بآية النور واعلم أنها هنا أربعة نسخ أحدها هي التي مر ذكرها والثانى باب نسخ الضيف يأكل من مال غيره وهذه النسخة والنسخة الأولى متقاربان والثالثة باب ما جاء في نسخ الضيف في الأكل من مال غيره إلا بتجارة وهكذا في نسخة الخطابي من رواية ابن داسة فقوله في نسخ الضيف أي في نسخ حرمة الضيافة وقوله إلا بتجارة وإن لم تذكر في النخستين ابن السابقتين لكنها مرادة بلا شبهة فالنسخ الثلاث في المال واحد والنسخة الرابعة باب نسخ الضيق في الأكل من مال غيره والمراد بالضيق الحرمة لأنها سبب الضيق على المكلفين كما أن الإباحة سعة لأنها سبب السعة عليهم وهذه النسخة أعم من النسخ الثلاث
[ 157 ]
السابقة لأن الحرمة في هذه النسخة مطلقة غير مقيدة بالضيافة بخلاف النسخ المتقدمة فإن الحرمة في جميعها مقيدة بالضيافة وهذه النسخة هي التي ينطبق عليها حديث الباب انطباقا تاما بخلاف سائر النسخ السابقة كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى فهذه النسخة أولى النسخ المذكورة كلها كذا أفاد بعض الأماجد في تعليقات السنن وقال بعض الأعاظم وأما قوله باب نسخ الضيف في الأكل من مال غيره ففيه حذف المضاف وهو الحكم فحق العبارة باب نسخ حكم الضيف في الأكل من مال غيره وهو المنع المستفاد من قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم لأن الآية عند ابن عباس ومن تبعه تدل على أن أكل مال الغير لا يجوز بوجه من الوجوه إلا أن تكون تجارة عن تراض منهم فالتجارة بالتراضي هي الصورة المستثناة غير منهى عنها خاصة لا غيرها فدخل في الأكل المنهي عنه أكل الضيف والغني من بيوت الغير من دون التجارة فنسخ الله عز وجل ذلك الحكم بقوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أشتاتا فرخص لهم في الأكل في هذه الصور المذكورة في الآية التي ليست فيها تجارة هذا إن صح هذه النسخة وإلا الضيق فالاظهر ان في هذه الترجمة تصحيفا من بعض النساخ والصحيح باب نسخ الضيق في الأكل من مال غيره كما في بعض النسخ وهو الذي لا غبار عليه والله أعلم انتهى (قال) ابن عباس في تفسير قوله تعالى الذي في النساء يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ونحو ذلك وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيها على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل لأن معظم المقصود من المال الأكل وقيل يدخل فيه أكل مال نفسه بالباطل ومال غيره أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه وقيل يدخل في أكل المال بالباطل جميع العقود الفاسدة قاله الخازن قال السيوطي في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال أنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة وأخرج ابن جرير وابن حاتم عن السدي في الآية قال أما أكلهم أموالهم بينهم بالباطل فالزنا والقمار والبخس والظلم إلا أن تكون تجارة فليرب الدرهم ألفا إن استطاع وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن في الآ ية قال كان الرجل يتحرج
[ 158 ]
أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية فنسخ ذلك ذلك بالآية التي في النور ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية انتهى كلام السيوطي وفي الخازن قيل لما نزلت ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قالوا لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فأنزل الله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم (إلا أن تكون تجارة) أي إلا أن تكون التجارة قاله النسفي (عن تراض منكم) هذا الاستثناء منقطع لأن التجارة عن تراضى ليست من جنس أكل المال بالباطل فكأن إلا ها هنا بمعنى لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض يعني بطيبة نفس كل واحد منكم وقيل هو أن يخبر كل واحد من المتابعين صاحبه بعد البيع فيلزم وإلا فلهما الخيار ما لم يتفرقا والله أعلم وبيان مقصود الباب أنه لما نزل قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم حرم بذلك أكل الرجل من مال غيره مطلقا إلا بتجارة صادرة عن تراض فقد وقع بسبب تلك الحرمة ضيق على المكلفين في الأكل من مال غيره قال ابن عباس (فكان الرجل يحرج) من باب التفعيل أي يحسب الرجل الوقوع في الحرج والإثم وكان يجتنب (أن يأكل عند أحد من الناس) سواء كان مسلما أو كتابيا أو غيرهما وسواء كان ذلك الطعام مما ذكر عليه اسم الله أو لم يكن وذلك (بعد ما نزلت هذه الآية) الكريمة التي في النساء وهي قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية لأنها حرمت الأكل من مال الغير إلا بتجارة عن تراض وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال لما نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال المسلمون إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو من أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل من عند احد فكف الناس عن ذلك فانزل الله ليس على الأعمى حرج الآية انتهى (فنسخ ذلك) أي الحكم الذي فهمه المسلمون وقالوا لا يحل لأحد منا أن يأكل من عند أحد ونسخ ذلك أي الضيق الذي كان قد حصل في الأكل من مال غيره بسبب نزول الآية المذكورة (الآية) بالرفع فاعل نسخ (التي في النور فقال) الله تعالى في تلك الآية التي في النور (ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أشتاتا) ليست التلاوة هكذا فهذا النقل الذي في الكتاب إنما هو نقل بالمعنى لا باللفظ
[ 159 ]
وتمام الآية مع تفسيرها هكذا (ولا على أنفسكم) أي لا حرج عليكم (أن تأكلوا من بيوتكم) أي بيوت أولادكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ولذا لم يذكر الأولاد في الآية وثبت في الحديث أنت ومالك لأبيك أو بيوت أزواجكم لأن الزوجين صارا كنفس واحدة فصار بيت المرأة كبيت الزوج (أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت أخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه) قال ابن عباس عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمرة ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر (أو صديقكم) الصديق هو الذي صدقك في المودة قال ابن عباس نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسو الله صلى الله عليه وسلم وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى أنه ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا) أي مجتمعين (أو أشتاتا) أي متفرقين نزلت في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يأتي من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل وقال ابن عباس كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول والله لأجنح أي أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين أو متفرقين قاله العلامة الخازن في تفسيره وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح قالا كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون معه حتى يأكل معهم الضيف فنزلت رخصة لهم انتهى قال ابن عباس (كان الرجل يعني الغني) الداعي قبل ما نزلت آية النور وبعد ما نزلت آية النساء (يدعو الرجل) الغني المدعو (من أهله إلى الطعام قال) ذلك الرجل الغني المدعو (إني
[ 160 ]
لأجنح) بتشديد الجيم والنون أصله أتجنح قوله تفعل من الجناح أي أرى الأكل منه جناحا وإثما (أن آكل منه) أي أرى الأكل من طعامك جناحا وإثما وذلك لأجل آية النساء (والتجنح الحرج) هذا تفسير من المؤلف أو من بعض الرواة والحرج الضيق والمراد به خوف الوقوع في الضيق أي الحرمة والإثم (ويقول) ذلك الرجل المدعو للرجل الغني الداعي أيضا (المسكين أحق به) أي بهذا الطعام (مني) فأعطه المسكين (فأحل) بصيغة المجهول (في ذلك) أي في قوله تعالى الذي في النور (أي يأكلوا) من مال غيرهم إذا كان الغير ممن ذكر في هذه الآية حال كون ذلك المال (مما ذكر اسم الله عليه) بخلاف ما لم يذكر اسم الله عليه فإنه لم يدخل في الحل لكونه باقيا على حرمته كما كان (وأحل) في ذلك (طعام أهل الكتاب) أيضا أن يؤكل كما أحل في ذلك طعام المسلمين أن يؤكل لكون الآية عامة غير مختصة بأحد الفريقين فإن آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأعمامكم وعماتكم وأخوالكم وخالاتكم وما ملكتم مفاتحه وصديقكم له المذكورة في هذه الآية كلها عامة شاملة للفريقين غير مختصة بأحدهما وكذا لفظ كم في بيوتكم الذي أريد به بيوت أولادكم فهذا الباب من متممات الباب الأول ومؤيد لمعناه لأن ظاهر آية النساء يدل على نسخ أكل الضيافة على ما قاله ابن عباس فأثبت المؤلف رحمه الله حكم جواز الضيافة بآية النور وجعل حكم آية النساء منسوخا بآية النور فثبت بذلك حكم جواز الضيافة ونسخ عدم جوازها فقول العلامة السيوطي في مرقاة الصعود تحت باب ما جاء في الضيافة وقد نسخ وجوب الضيافة وأشار إليه أبو داود في الباب الذي عقده بعدها انتهى لم يظهر لي معنى كلامه ولم يتضح لي كيف يكون الباب الثاني ناسخا لحكم الباب الأول إلا أن يقال إن الباب الأول فيه حكم وجوب الضيافة والباب الثاني فيه نفي الحرج والإثم عن الضيافة فالأمر الواجب ليس من شأنه أن يقال له أن فعله ليس بإثم ولا حرج فثبت بذلك نسخ للوجوب وفي هذا الكلام بعد والله أعلم قال المنذري في إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال انتهى
[ 161 ]
7 في طعام المتباريين (نهى عن طعام المتباريين) بفتح الياء الأولى بصيغة التثنية أي المتفاخرين قال الخطابي المتباريان هما المتعارضان بفعليهما يقال تبارى الرجلان إذا فعل كل واحد منهما مثل فعل صاحبه ليرى أيهما يغلب صاحبه وإنما كره ذلك لما فيه من الرياء والمباهاة ولأنه داخل في جملة ما نهي عنه من أكل المال بالباطل (أن يؤكل) في حالة الجر لأنه بدل اشتمال من طعام المتباريين (قال أبو داود أكثر من رواه إلخ) حاصله أن أكثر أصحاب جرير بن حازم لا يذكرون في الحديث ابن عباس بل يروونه مرسلا وكذا لم يذكر حماد بن زيد ابن عباس لكن هارون بن موسى الأزدي البصري النحوي ذكر ابن عباس كما ذكره زيد بن أبي الزرقاء فروايتهما متصلة مرفوعة وقال محي السنة صاحب المصابيح والصحيح أنه عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا قال المنذري قال أبو داود أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس يريد أن أكثر الرواة أرسلوه 8 باب إجابة الدعوة إذا حضرها مكروه هكذا في بعض النسخ وفي بعضها باب الرجل يدعى فيرى مكروها (أن رجلا ضاف علي بن أبي طالب) أي صار ضيفا له يقال ضافه ضيف أي نزل به ضيف
[ 162 ]
(فصنع) أي على (له) أي للضيف وفي بعض النسخ أن رجلا أضاف أي بزيادة الألف قال في المصباح ضافه ضيفا إذا نزل عنده واضعفه وضيفته إذا انزلته قال ثعلب ضعفته إذا نزلت به وأنت ضيف عنده وأضفته بالألف إذا أنزلته عليك ضيفا انتهى وفي النهاية ضفت الرجل إذا نزلت به في ضيافته وأضفته إذا أنزلته انتهى والمعنى أي صنع الرجل طعاما وأهدى إلى علي لا أنه دعا عليا إلى بيته ذكره الطيبي (لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي لكان أحسن وأبرك أو لو للتمني (على عضادتي الباب) بكسر العين وهما الخشبتان المنصوبتان على جبنتيه ذلك (فرأى القرام) بكسر القاف وهو ثوب رقيق من صوف فيه ألوان من العهون ورقوم محمد ونقوش يتخذ سترا يغشى به الأقمشة والهوادج كذا في المرقاة وفي المصباح القرام مثل كتاب الستر الرقيق وبعضهم يزيد وفيه رقم ونقوش انتهى (قد ضرب) أي نصب (ما أرجعه) كذا في النسخ من أرجع الشئ رجعا أي ما رده وفي بعض النسخ ما رجعه من رجع رجعا أي صرف ورد قال في القاموس رجع رجوعا انصرف والشئ عن الشئ وإليه رجعا صرفه ورده كأرجعه انتهى وفي المصباح رجع من سفره وعن الأمر يرجع رجعا ورجوعا ورجعي بضم وسكون هو نقيض الذهاب ويتعدى بنفسه في اللغة الفصحى فيقال رجعت عن الشئ وإليه ورجعت الكلام وغيره أي رددته وبها جاء القرآن قال تعالى فإن رجعك الله وهذيل تعديه بالألف انتهى (فتبعته) إلتفات من الغيبة إلى التكلم وعند أحمد قالت فاطمة فتبعته (فقال إنه) أي الشأن (بيتا مزوقا) بتشديد الواو المفتوحة أي مزينا بالنقوش وأصل التزويق التمويه قال الخطابي وتبعه ابن الملك كان ذلك مزينا منقشا وقيل لم يكن منقشا ولكن
[ 163 ]
ضرب مثل حجلة العروس ستر به الجدار وهو رعونة يشبه أفعال الجبابرة وفيه تصريح بأنه لا يجاب دعوة فيها منكر كذا في المرقاة وقال الحافظ في الفتح ويفهم من الحديث أن وجود المنكر في البيت مانع عن الدخول فيه قال ابن بطال فيه أنه لا يجوز الدخول في الدعوة يكون فيها منكر مما نهى الله ورسوله عنه لما في ذلك من إظهار الرضى بها ونقل مذاهب القدماء في ذلك وحاصله إن كان هناك محرم وقدر على إزالته فأزاله فلا بأس وإن لم يقدر فليرجع وقال صاحب الهداية من الحنفية لا بأس أن يقعد ويأكل إذا لم يكن يقتدى به فإن كان ولم يقدر على منعهم فليخرج لما فيه من شين الدين وفتح باب المعصية قال وهذا كله بعد الحضور وإن علم قبله لم يلزمه الإجابة انتهى مختصرا قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وفي إسناده سعيد بن جمهان أبو حفص الأسلمي البصري قال يحيى بن معين ثقة وقال أبو حاتم الرازي شيخ يكتب حديثه ولا يحتج بحديثه 9 إذا اجتمع الداعيان أيهما أحق إلى (إذا اجتمع الداعيان) أي معا (فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا) هذا دليل لما قبله (وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق) لسبق تعلق حقه قال العلقمي فيه دليل أنه إذا دعا الإنسان رجلان ولم يسبق أحدهما الآخر أجاب أقربهما منه بابا فإذا استويا أجاب أكثرهما علما ودينا وصلاحا فإن استويا أقرع انتهى قال المنذري في إسناده أبو خالد يزيد بن عبد الرحمن المعروف بالدالاني وقد وثقه أبو حاتم الرازي وقال الإمام أحمد لا بأس به وقال ابن معين ليس به بأس وقال أبو حاتم
[ 164 ]
ومحمد بن حبان لا يجوز الاحتجاج به وقال ابن عدي وفي حديثه لين إلا أنه يكتب حديثه وحكى عن شريك أنه قال كان مرجئا باب إذا حضر الصلاة والعشاء بفتح العين طعام آخر النهار قال في القاموس هو طعام العشي وهو ممدود كسماء (إذا وضع على البناء للمجهول) عشاء أحدكم بفتح العين هو طعام يؤكل عند العشي كما تقدم (فلا يقوم حتى يفرغ) أي من أكل العشاء وفي رواية البخاري فابدأوا بالعشا ولا يعجل حتى يفرغ منه قال الحافظ في الفتح حمل الجمهور هذا الأمر على الندب ثم اختلفوا فمنهم من قيده بمن إذا كان محتاجا إلى الأكل وهو المشهور عند الشافعية وزاد الغزالي ما إذا خشي فساد المأكول ومنهم من لم يقيده وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق وعليه يدل فعل ابن عمر الآتي وأفرط ابن حزم فقال تبطل الصلاة ومنهم من اختار البداءة بالصلاة إلا إن كان الطعام خفيفا نقله ابن المنذر عن مالك وعند أصحابه تفصيل قالوا يبدأ بالصلاة إن لم يكن متعلق النفس بالأكل أو كان متعلقا به لكن لا يعجله عن صلاته فإن كان يجعله عن صلاته بدأ بالطعام واستحبت له اعادة انتهى (زاد مسدد) أي في روايته (وكان عبد الله) أي ابن عمر رضي الله عنهما وهو موصول عطفا على المرفوع (وإن سمع الإقامة) كلمة إن وصلية وكذا في قوله وإن سمع قراءة الإمام قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وليس في حديث مسلم فعل ابن عمر
[ 165 ]
(لا تؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره) قال الخطابي وجه الجمع بين الخبرين أي بين هذا الخبر والذي قبله أن حديث ابن عمر إنما جاء فيمن كانت نفسه تنازعه شهوة الطعام وكان شديد التوقان إليه فإذا كان كذالك وحضر الطعام وكان في الوقت فضل بدا بالطعام لتسكن شهوة نفسه فلا يمنعه عن توفية الصلاة حقها وكان الأمر يخف عنهم في الطعام ويقرب مدة الفراغ منه إذا كانوا لا يستكثرون منه ولا ينصبون الموائد ولا يتناولون الألوان وإنما هو مذقة من لبن أو شربة من سويق أو كف من تمر أو نحو ذلك ومثل هذا لا يؤخر الصلاة عن زمانها ولا يخرجها عن وقتها وأما حديث جابر فهو فيما كان بخلاف ذلك من حال المصلي وصفة الطعام ووقت الصلاة وإذا كان الطعام لم يوضع وكان الإنسان متماسكا في نفسه وحضرت الصلاة وجب أن يبدأ بها ويؤخر الطعام وهذا وجه بناء أحد الحديثين على الآخر والله أعلم انتهى كلام الخطابي قال المنذري في إسناده محمد بن ميمون أبو النضر الكوفي الزعفراني المفلوج قال أبو حاتم الرازي لا بأس به وقال يحيى بن معين ثقة وقال الدارقطني ليس به بأس وقال البخاري منكر الحديث وقال أبو زرعة الرازي كوفي لين وقال ابن حبان منكر الحديث جدا لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات بالأشياء المستقيمة فكيف إذا انفرد بأوابده كان (قال كنت مع أبي) أي عبيد بن عمير (في زمان ابن الزبير) هو عبد الله ابن الزبير بن العوام أبو خبيث المسكي ثم المدني أول مولود في الإسلام وفارس قريش شهد اليرمرك أبو وبويع بعد موت يزيد وغلب على اليمن والحجاز والعراق وخراسان وكان دولته تسع سنين (فقال عباد بن عبد الله بن الزبير) قال الحافظ كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ثقة من الثالثة (إنا سمعنا أنه) أي الشأن يبدأ على البناء للمفعول بالعشاء أي بطعام العشي ولعله والله أعلم استبعد أنه كيف يبدأ بالعشاء قبل الصلاة فإنه إذا يؤكل الطعام قدر الحاجة من الأكل بكماله يقع التأخير في أداء الصلاة (فقال عبد الله بن عمر ويحك) قال في المجمع ويح لمن ينكر عليه
[ 166 ]
فعله مع ترفق وترحم في حال الشفقة وويل لمن ينكر عليه مع غضب (أتراه) بضم التاء أي أتظن عشاءهم (كان مثل عشاء أبيك) أي ابن الزبير والمعنى أن عشاءهم لم يكن مختلف الألوان كثير التكلف والاهتمام مثل عشاء أبيك فهم كانوا يفرغون عن أكل العشاء بالعجلة ولم يكن في أداء الصلاة تأخير يعتد به والله تعالى أعلم والحديث سكت عنه المنذري 11 في غسل اليدين عند الطعام (خرج من الخلاء) بفتح الخاء ممدود المكان الخالي وهو هنا كناية عن موضع قضاء الحاجة (فقالوا) أي بعض الصحابة رضي الله عنهم (ألا نأتيك بوضوء) بفتح الواو أي ماء يتوضأ به ومعنى الاستفهام على العرض نحو ألا تنزل عندنا (فقال إنما أمرت) أي وجوبا (بالوضوء) أي بعد الحدث (إذا قمت إلى الصلاة) أي أردت القيام لها وهذا باعتبار الأعم الأغلب وإلا فيجب الوضوء عند سجدة التلاوة ومس المصحف وحال الطواف وكأنه صلى الله عليه وسلم علم من المسائل أنه اعتقد أن الوضوء الشرعي قبل الطعام واجب مأمور به فنفاه على طريق الأبلغ حيث أتى بأداة الحصر وأسند الأمر لله تعالى وهو لا ينافى جوازه بل استحبابه فضلا عن استحباب الوضوء العرفي سواء غسل يديه عند شروعه في الأكل أم لا والأظهر أنه ما غسلهما لبيان
[ 167 ]
الجواز مع أنه أكد لنفي الوجوب المفهوم من جوابه صلى الله عليه وسلم وفي الجملة لا يتم استدلال من احتج به على نفي الوضوء مطلقا قبل الطعام مع أن في نفس السؤال إشعارا بأنه كان الوضوء عند الطعام من دأبه عليه السلام وإنما نفى الوضوء الشرعي فبقي العرفي على حاله ويؤيده المفهوم أيضا فمع وجود الاحتمال سقط الاستدلال والله أعلم بالحال كذا قال علي القاري في المرقاة وفي بعض كلامه خفاء كما لا يخفى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن 12 في غسل اليد قبل الطعام ليس هذا الباب في كثير من النسخ وإنما وجد في بعضها وإسقاطه أولى والله أعلم (عن سلمان) أي الفارسي (قرأت في التوراة) أي قبل الإسلام (أن بركة الطعام) بفتح أن ويجوز كسرها (الوضوء) أي غسل اليدين والفم من الزهومة إطلاقا للكل على الجزء مجازا أو بناء على المعنى اللغوي والعراقي (قبله) أي قبل أكل الطعام (فذكرت ذلك) أي المقروء المذكور (فقال بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده) قيل الحكمة في الوضوء قبل الطعام
[ 168 ]
أن الأكل بعد غسل اليدين يكون أهنأ وأمرأ ولأن اليد لا تخلو عن تلوث في تعاطي الأعمال فغلسها أو أقرب إلى النظافة والنزاهة والمراد من الوضوء بعد الطعام غسل اليدين والفم من الدسومات قال صلى الله عليه وسلم من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شئ فلا يلومن إلا نفسه أخرجه ابن ماجه وأبو داود وبسند صحيح على شرط مسلم ومعنى بركة الطعام من الوضوء قبله النمو والزيادة فيه نفسه وبعده النمو الزيادة في فوائدها وآثارها بأن يكون سببا لسكون النفس وقرارها وسببا للطاعات وتقوية للعبادات وجعله نفس البركة وإلا فالمراد أنها تنشأ عنه هذا تلخيص كلام القاري (وكان سفيان) أي الثوري (يكره الوضوء قبل الطعام) لعل مستنده حديث ابن عباس المذكور قبل هذا الباب وقال الترمذي في جامعه باب في ترك الوضوء قبل الطعام ثم أورد حديث ابن عباس ثم قال قال علي بن المديني قال يحيى بن سعيد كان سفيان الثوري يكره غسل اليد قبل الطعام وكان يكره أن يوضع الرغيف تحت القصعة انتهى قال ابن القيم في حاشية السنن في هذه المسألة قولان لأهل العلم أحدهما يسحب غسل اليدين عند الطعام والثاني لا يستحب وهما في مذهب أحمد وغيره الصحيح أنه لا يستحب وقال الشافعي في كتابه الكبير بات ترك غسل اليدين قبل الطعام ثم ذكر من حديث ابن جريج عن سعيد بن الحويرث عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرز ثم خرج فطعم ولم يمس ماء وإسناده صحيح ثم قال غسل الجنب يده إذا طعم وساق من حديث الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة وإذا أراد أن يأكل غسل يديه وهذا التبويب والتفصيل في المسألة هو الصواب وقال الخلال في الجامع عن مهنا قال سألت أحمد عن حديث قيس بن الربيع عن أبي هشام عن زاذان عن سلمان فذكر الحديث فقال لي أبو عبد الله هو منكر فقلت ما حدث هذا إلا قيس بن الربيع قال لا وسألت يحيى ابن معين وذكرت له حديث قيس بن الربيع فقال لي يحيى بن معين ما أحسن الوضوء قبل الطعام وبعده فقلت له بلغني عن سفيان الثوري أنه كان يكره الوضوء قبل الطعام
[ 169 ]
قال مهنا سألت أحمد قلت بلغني عن يحيى بن سعيد أنه قال كان سفيان يكره غسل اليد عند الطعام قلت لم كره سفيان ذلك قال لأنه من زي العجم وضعف أحمد حديث قيس بن الربيع قال الخلال وأخبرنا أبو بكر المروزي قال رأيت أبا عبد الله يغسل يديه قبل الطعام وبعده وإن كان على وضوء انتهى كلام ابن القيم رحمه الله قال المنذر وأخرجه الترمذي وقال لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث قيس بن الربيع وقيس بن الربيع يضعف في الحديث 13 في طعام الفجأة بفتح فاء وسكون جيم فهمزة أو بضم فاء فجيم فألف فهمزة يقال فجأة كسمعه ومنعه فجأة وفجاءة هجم عليه وجاء بغتة من غير تقدم سبب (من شعب من الجبل) الشعب بالكسر الطريق في الجبل (على ترس أو جحفة) شك من الراوي والجحفة بتقديم الحاء على الجيم المفتوحتين بمعنى الترس (فدعوناه فأكل معنا) قال الخطابي فيه دليل أن طعام الفجأة غير مكروه إذا كان الآكل يعلم أن صاحب الطعام قد يسره مساعدته إياه على أكله ومعلوم أن القوم كانوا يفرحون بمساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ويتبركون بمؤاكلته وإنما جاءت الكراهة إذا كان لا يؤمن أن يسوء ذلك صاحب الطعام ويشق عليه انتهى والحديث سكت عنه المنذري
[ 170 ]
14 في كراهية ذم الطعام (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط) أي طعاما مباحا أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهي عنه وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره وإن كان من جهة الصنعة لم يكره لأن صنعة الله لا تعاب وصنعة الآدميين تعاب قال الحافظ والذي يظهر التعميم فإن فيه كسر قلب الصانع قال النووي من آداب الطعام المتأكدة أن لا يعاب كقوله مالح حامض قليل الملح غليظ رقيق غير ناضج ونحو ذلك (وإن كرهه تركه) قال ابن بطال هذا من حسن الأدب لأن المرء قد لا يشتهي الشئ ويشتهيه غيره وكل مأذون في أكله من قبل الشرع ليس فيه عيب قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه 15 في الاجتماع على الطعام (إنا نأكل ولا نشبع) معناه بالفارسية بتحقيق مامي) خوريم عبد وسيرنمي عليه شويم أبي والشبع نقيض الجوع وبابه سمع يسمع (تفترقون) أي حال الأكل بأن كل واحد من أهل البيت يأكل وحده (واذكروا اسم الله عليه) أي في ابتداء أكلكم (يبارك لكم فيه) أي في الطعام فقد روى أبو يعلى في مسنده وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر مرفوعا أحب الطعام إلى الله ما كثرت عليه الأيدي وروى الطبراني عن ابن عمر موقوفا طعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام
[ 171 ]
الأربعة يكفي الثمانية فاجتمعوا عليه ولا تفرقوا وأما قوله تعالى ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فمحمول على الرخصة أو دفعا للحرج على الشخص إذا كان وحده (إذا كنت في وليمة إلخ) ليست هذه العبارة في بعض النسخ قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وذكر عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال وحشي بن حرب شامي تابعي لا بأس به وذكر عن صدقة بن خالد أنه قال لا تشتغل به ولا بأبيه 16 التسمية على الطعام (قال الشيطان) أي خوانه وأعوانه ورفقته (لا مبيت لكم) أي لا موضع بيوتة لكم (ولا عشاء) بفتح العين والمد هو الطعام الذي يؤكل في العشية وهي من صلاة المغرب إلى العشاء بكسر العين أي لا يحصل لكم مسكن وطعام بل صرتم محرومين بسبب التسمية (قال أدركتم المبيت والعشاء) لتركه ذكر الله عند الدخول وعند الطعام وتخصيص المبيت والعشاء فلغالب الأحوال لأن ذلك صادق في عموم الأفعال ذكره الطيبي قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه
[ 172 ]
(لم يضع أحدنا يده) أي في الطعام (حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه بيان هذا الأدب وهو أنه يبدأ الكبير والفاضل في غسل اليد للطعام وفي الأكل (كأنما يدفع) بصيغة المجهول يعني لشدة سرعته كأنه مدفوع (فذهب) أي أراد الأعرابي وشرع (ليضع يده في الطعام) أي قبلنا (ثم جاءت جارية) أي بنت صغيرة (إن الشيطان ليستحل الطعام) أي يتمكن من أكل ذلك الطعام والمعنى أنه يتمكن من أكل الطعام إذا شرع فيه إنسان بغير ذكر الله تعالى وإما إذا لم يشرع فيه أحد فلا يتمكن وإن كان جماعة فذكر اسم الله بعضهم دون بعض لم يتمكن منه قاله النووي (إن يده لفي يدي مع أيديهما) أي إن يد الشيطان مع يد الرجل والجارية في يدي قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي (حدثنا مؤمل) على وزن محمد ثقة (عن بديل) بالتصغير (فإن نسي) بفتح النون وكسر السين (فليقل بسم الله أوله وآخره) بنصبهما على الظرفية أي في أوله وآخره أو على نزع الخافض أي على أوله وآخره والمعنى على جميع أجزائه كما يشهد له المعنى الذي قصد به التسمية فلا يقال ذكرهما يخرج الوسط فهو كقوله تعالى ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا مع قوله عز وجل أكلها دائم ويمكن أن يقال المراد بأوله النصف الأول وبآخره النصف الثاني فيحصل الإستيفاء والاستيعاب والله أعلم بالصواب قاله القاري قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي ولم يقل الترمذي عن امرأة منهم إنما قال
[ 173 ]
عن أم كلثوم وقال الترمذي وبهذا الإسناد عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاما في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه لو سمى لكفى لكم وقال حسن صحيح ووقع في بعض روايات الترمذي أم كلثوم الليثية وهو الأشبه لأن عبيد بن عمير ليثي ومثل بنت أبي بكر لا يكنى عنها بامرأة ولا سيما مع قوله منهم وقد سقط هذا من بعض نسخ الترمذي وسقوطه الصواب والله عز وجل أعلم وقد ذكر الحافظ أبو القاسم الدمشقي في أطرافه لأم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة أحاديث وذكر بعدها أم كلثوم الليثية ويقال المكية وذكر لها هذا الحديث وقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة هذا الحديث في مسنده عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة ولم يذكر فيه أم كلثوم انتهى كلام المنذري (أخبرنا جابر بن صبح) بضم الصاد وسكون الموحدة (من عمه أمية) بالتصغير (بن مخشي) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء (إلا لقمة) بالرفع على الفاعلية (إلى فيه) أي إلى فمه (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) أي تعجبا لما كشف له ذلك (استقاء) أي الشيطان (ما في بطنه) أي مما أكله والاستقاء استفعال من القئ بمعنى الاستفراغ وهو محمول على الحقيقة أو المراد البركة الذاهبة بترك التسمية كأنها كانت في جوف الشيطان أمانة فلما سمى رجعت إلى الطعام قال التوربشتي أي صار ما كان له وبالا عليه مستلبا ما عنه بالتسمية قال الطيبي وهذا التأويل محمول على ماله حظ من تطيير البركة من الطعام وأحاديث الباب تدل على مشروعية التسمية للآكل وأن الناسي يقول في أثنائه بسم الله أوله وآخره قال في الهدى والصحيح وجوب التسمية عند الأكل وهو أحد الوجهين لأصحاب أحمد وأحاديث الأمر بها صحيحة صريعة لا معارض لها ولا إجماع يسوغ مخالفتها ويخرجها عن ظاهرها وتاركها يشركه الشيطان في طعامه وشرابه انتهى
[ 174 ]
قال في النيل والذي عليه الجمهور من السلف والخلف من المحدثين وغيرهم أن أكل الشيطان محمول على ظاهره وأن للشيطان يدين ورجلين وفيهم ذكر وأنثى وأنه يأكل حقيقة بيده إذا لم يدفع وقيل ان اكلهم على المجاز والاستعارة وقيل ان اكلهم شم واسترواح ولا ملجئ إلى شئ من ذلك وقد ثبت في الصحيح أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وروي عن وهب بن منبه أنه قال الشياطين أجناس فخالص الجن لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون وهم ريح ومنهم جنس يفعلون ذلك كله ويتوالدون وهم السعالي والغيلان ونحوهم انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وقال الدارقطني لم يسند أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث تفرد به جابر بن الصبح عن المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي عن جده أمية هذا آخر كلامه وقال يحيى ابن معين جابر بن صبح ثقة وقال أبو القاسم البغوي ولا أعلم روى إلا هذا الحديث وقال أبو عمر النمري له حديث واحد في التسمية على الأكل 17 في الأكل متكئا (قال النبي صلى الله عليه وسلم لا آكل متكئا) قال الحافظ اختلف في صفة الاتكاء فقيل أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي صفة كان وقيل أن يميل على أحد شقيه وقيل أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض قال الخطابي تحسب العامة أن المتكئ هو آكل على أحد شقيه وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطأ الذي تحته قال ومعنى الحديث أني لا أقعد متكئا على الوطأ عند الأكل فعل من يستكثر من الطعام فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزا وفي حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أكل تمرا وهو مقع وفي رواية وهو محتفز والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن وأخرج ابن عدي بسند ضعيف زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل قال مالك هو نوع من الاتكاء قلت وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة كل ما يعد الأكل فيه متكئا ولا يختص بصفة بعينها وجزم ابن الجوزي في تفسير الإتكاء بأنه الميل على أحد الشقين ولم يلتفت لإنكار الخطابي ذلك وحكى ابن الأثير في النهاية أن من
[ 175 ]
فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا ولا يسيغه هنيئا وربما تأذى به قال الحافظ وإذا ثبت كونه مكروها أو خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى انتهى وقال القاري في المرقاة نقل في الشفاء عن المحققين أنهم فسروه بالتمكن للأكل والقعود في الجلوس كالمتربع المعتمد على وطاء تحته لأن هذه الهيئة تستدعي كثرة الأكل وتقتضي الكبر انتهى وقال الخطابي في المعالم يحسب أكثر العامة أن المتكئ هو المائل المعتمد على أحد شقيه لا يعرفون غيره وكان بعضهم يتأول هذا الكلام على مذهب الطب ودفع الضرر عن البدن إذا كان معلوما أن الأكل مائلا على أحد شقيه لا يسهل نزوله إلى معدته قال الخطابي وليس معنى الحديث ما ذهبوا إليه وإنما المتكئ ها هنا هو المعتمد على الوطأ الذي تحته وكل من استوى هل وطأ فهو متكئ والاتكاء مأخوذ من الوكاء ووزنه الافتعال فالمتكئ لا هو الذي أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على الوطأ الذي تحته والمعنى أني إذا أكلت لم أقعد متكأ من الأرض على الأوطية أن والوسائد فعل من يريد أن يستكثر من الأطعمة ويتوسع في الألوان انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث علي بن الأقمر (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم) أي لحاجة (وهو مقع) اسم فاعل من الإقعاء قال النووي أي جالسا على إليتيه ناصبا ساقيه قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي (ما رؤي) على البناء للمفعول (رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالرفع (يأكل متكئا) قال الحافظ اختلف
[ 176 ]
السلف في حكم الأكل متكئا فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية وتعقبه البيهقي فقال قد يكره لغيره أيضا لأنه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم قال فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه الأكل إلا متكئا لم يكن في ذلك كراهة ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك وأشار إلى حمل ذلك عنهم على الضرورة وفي الحمل نظر انتهى (ولا يطأ عقبه رجلان) أي لا يطأ الأرض خلفه رجلان والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لا يمشي قدام القوم بل يمشي في وسط الجمع أو في آخرهم تواضعا قال الطيبي التثنية في رجلان لا تساعد هذا التأويل ولعله كناية عن تواضعه وأنه لم يكن يمشي مشي الجبابرة مع الأتباع والخدم ولا يخفى أن ما ذكره لا ينافى قول غيره وفائدة التثنية أنه قد يكون واحد من الخدام وراء كأنس وغيره لمكان الحاجة به وهو لا ينافي التواضع كذا في المرقاة وقال في فتح الودود الرجلان بفتح الراء وضم الجيم هذا هو المشهور ويحتمل كسر الراء وسكون الجيم أي القدمان والمعنى لا يمشي خلفه أحد ذو رجلين انتهى قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وشعيب هذا هو والد عمرو بن شعيب ووقع هنا وفي كتاب ابن ماجه شعيب بن عبد الله بن عمرو عن أبيه وهو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو قال كان ثابت البناني ينسبه إلى جده حين حدث عنه وذلك شائع وإن أراد بأبيه محمد فيكون الحديث مرسلا وان محمد لا صحبة له وان كان اراد بابيه جده عبد الله فيكون مسندا وشعيب قد سمع من عبد الله بن عمرو والله عز وجل أعلم 18 في الأكل من أعلى الصحفة على هي إناء كالقصعة المبسوطة وجمعها صحاف (ولكن يأكل من أسفلها) أي من جانبه الذي يليه (فإن البركة تنزل من أعلاها) وفي رواية الترمذي وابن ماجه وأحمد فإن البركة تنزل في وسطها قال القاري والوسط أعدل المواضع فكان أحق بنزول البركة فيه وفي الحديث مشروعية الأكل من جوانب الطعام قبل وسطه قال الرافعي وغيره يكره
[ 177 ]
أن يأكل من أعلى الثريد ووسط القصعة وأن يأكل مما يلي أكيله ولا بأس بذلك في الفواكه وتعقبه الأسنوي بأن الشافعي نص على التحريم قال الغزالي وكذا لا يأكل من وسط الرغيف بل من استدارته إلا إذا قل الخبز فليكسر الخبز والعلة في ذلك ما في الحديث من كون البركة تنزل في وسط الطعام وقال الخطابي وفيه وجه آخر وهو أن يكون النهي إنما وقع عنه إذا أكل مع غيره وذلك أن وجه الطعام هو أفضله وأطيبه فإذا كان قصده بالأكل كان مستأثرا به على أصحابه وفيه من ترك الأدب وسوء العشرة ما لا خفاء به فأما إذا أكل وحده فلا بأس به انتهى قلت هذا وجه ضعيف لا يقبل والله أعلم قال المنذري وأخرجه محمد والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح إنما يعرفون من حديث عطاء بن السائب وقد تقدم الخلاف في عطاء بن السائب وإذا أكل معه غيره ووجه الطعام أفضل وأطيبه فإذا قصده بالأكل كان مستأثرا به على أصحابه وفيه ترك الأدب ما لا يخفى فإذا أكل وحده فلا بأس قاله بعضهم (أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن عرق) بكسر المهملة وسكون الراء بعدها قاف صدوق من الخامسة (أخبرنا عبد الله بن بسر) بضم الموحدة وسكون المهلمة صحابي صغير ولأبيه صحبة (كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة) أي صحفة كبيرة (يقال لها الغراء) تأنيث الأغر بمعنى الأبيض الأنور (فلما أضحوا) بسكون الضاد المعجمة وفتح الحاء المهملة بسكون الضاد المعجمة وفتح الحاء المهملة أي دخلوا في الضحى (وسجدوا الضحى) أي صلوها (أتى بتلك القصعة) أي جئ بها (وقد ثرد) بضم مثلثة وكسر راء مشددة (فيها) أي في القصعة (فالتفوا) بتشديد الفاء المضمومة أي اجتمعوا (عليها) أي حولها (فلما كثروا) بضم المثلثة (جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي من جهة ضيق المكان توسعة على الإخوان وفي القاموس كدعا ورمى جثوا وجثيا بضمهما جلس على ركبتيه (ما هذه الجلسة)
[ 178 ]
بكسر الجيم قال الطيبي هذه نحوها في قوله تعالى ما هذه الحياة الدنيا كأنه استحقرها ورفع منزلته عن مثلها (إن الله تعالى جعلني عبدا كريما) أي متواضعا سخيا وهذه الجلسة أقرب إلى التواضع وأنا عبد والتواضع بالعبد أليق قال الطيبي أي هذه جلسة تواضع لا حقارة ولذلك وصف عبدا بقوله كريما (ولم يجعلني جبارا) أي متكبر متمردا (عنيدا) أي معاند جائرا عن القصد وأداء الحق مع علمه به (كلوا من حواليها) مقابلة الجمع بالجمع أي ليأكل كل واحد مما يليه من أطراف القصعة (ودعوا) أي اتركوا (ذروتها) بتثليث (بضم) الذال المعجمة والكسر أصح أي وسطها وأعلاها (يبارك) بالجزم على جواب الأمر قال القاري وفي نسخة بالرفع أي هو سبب أن تكثر البركة (فيها) أي في القصعة بخلاف ما إذا أكل من أعلاها انقطع البركة من أسفلها قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وبسر بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة وبعدها راء مهملة 19 الجلوس على مائدة عليها بعض ما يكره (وأن يأكل الرجل وهو منبطح على بطنه) أي واقع على بطنه ووجهه يقال بطحه كمنعه ألقاه على وجهه فانبطح والحديث يدل على أنه لا يجوز الجلوس على مائدة يكون عليها ما يكره شرعا كشرب الخمر وغير ذلك لما في ذلك من إظهار الرضى به وعلى أنه لا يجوز الأكل منبطحا قال المنذري وأخرجه النسائي وقال أبو داود وهذا الحديث لم يسمعه جعفر يعني
[ 179 ]
ابن برقان من الزهري وهو منكر وذكر ما يدل على ذلك وذكر النسائي أيضا ما يدل على أن جعفر بن برقان لم يسمعه من الزهري 20 الأكل باليمين (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه) ظاهر الأمر فيهما للوجوب كما ذهب إليه بعضهم ويؤيده ما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل بشماله فقال له كل بيمينك قال لا أستطيع فقال لا استطعت فما رفعها إلى فيه بعد (فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) فيه إشارة إلى أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشيطان وأن للشيطان يدين وأنه يأكل ويشرب وقد تقدم أنه محمول على الحقيقة قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي (أدن) أي أقرب من الدنو (بني) أي يا بني (فسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك) أي مما يقربك لا من كل جانب قال النووي وفي هذا الحديث بيان ثلاث سنن من سنن الأكل وهي التسمية والأكل باليمين والأكل مما يليه لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مروءة فقد يتقذره صاحبه لا سيما في الأمراق وشبهها وهذا في الثريد والأمراق وشبههما فإن كان تمرا وأجناسا
[ 180 ]
فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه والذي ينبغي تعميم النهي حملا للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص انتهى قال القاري سيأتي حديث الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال في أكل التمر يا عكراش كل من حيث شئت فإنه من غير لون واحد قال المنذري وذكر الترمذي أنه روى عن أبي وجزة عن رجل من مزينة عن عمر بن أبي سلمة وأخرجه النسائي أي كما ذكره الترمذي وقال النسائي هذا هو الصواب عندي والله أعلم وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث أبي نعيم وهب بن كيسان عن عمر بن أبي سلمة بنحوه وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديثه عن عروة بن الزبير عن عمر بن أبي سلمة 21 باب في أكل اللحم (لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه) أي قطعه بالسكين ولو كان منضوجا الله (من صنيع الأعاجم) أي من دأب أهل فارس المتكبرين المترفهين فالنهي عنه لأن فيه تكبرا وأمرا عبثا بخلاف ما إذا احتاج قطع اللحم إلى السكين لكونه غير نضيج تام فلا يعارض خبر الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم كان يحتز بالسكين أو المراد بالنهي التنزيه وفعله لبيان الجواز كذا قال القاري (وانهسوه قال) بالسين المهملة وفي بعض النسخ وانهشوه بالشين المعجمة والنهس بالمهملة أخذ اللحم بأطراف الأسنان وبالمعجمة الأخذ بجميعها أي كلوه بأطراف الأسنان (فإنه) أي النهس (أهنأ وأمرأ) أي أشد هنأ ومراءة يقال هنئ صار هنيئا ومرئ صار مريئا وهو أن لا يثقل على المعدة وينهضم عنها والمعنى لا تجعلوا القطع بالسكين دأبكم وعادتكم عن كالأعاجم بل إذا كان نضيجا فانهسوه وإذا لم يكن نضيجا فحزوه من بالسكين ويؤيده قول البيهقي النهي عن قطع اللحم
[ 181 ]
بالسكين في لحم قد تكامل نضجه كذا في المرقاة (وليس هو بالقوي) فلا يكون مقاوما لحديث الصحيحين المذكور قال المنذري في إسناده أبو معشر السدي المدني واسمه نجيح وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه ويستضعفه جدا ويضحك إذا ذكره غيره وتكلم فيه غير واحد من الأئمة وقال أبو عبد الرحمن النسائي أبو معشر له أحاديث مناكير منها هذا ومنها عن أبي هريرة ما بين المشرق والمغرب قبلة انتهى (محمد بن عيسى) هكذا في أكثر النسخ وقال المزي في الأطراف محمد بن عيسى بن الطباع وهكذا نسبته في جميع كتب الرجال وفبعض النسخ موسى بن عيسى وهو غلط (فقال ادن العظم) أمر من الإدناء أي أقرب العظم (من فيك) أي من فمك والمعنى لا تأخذ اللحم من العظم باليد بل خذه منه بالفم (قال أبو داود عثمان لم يسمع من صفوان وهو مرسل) أي منقطع وهذه العبارة لم توجد في بعض النسخ قال المنذري عثمان لم يسمع من صفوان فهو منقطع وفي إسناده من فيه مقال (كان أحب العراق) بضم العين جمع عرق بالسكون وهو العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم قال في النهاية العرق بالسكون العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم وجمعه عراق وهو جمع نادر وقال في القاموس العرق وكغراب العظم أكل لحمه جمعه ككتاب وغراب نادرا والعرق العظم بلحمه فإذا أكل لحمه فعراق أو كلاهما لكليهما
[ 182 ]
قال المنذري وأخرجه النسائي (يعجبه الذراع) أي ذراع الغنم قال في القاموس الذراع بالكسر هو من يدي البقر والغنم فوق الكراع ومن يد البعير فوق الوطيف في ووجه إعجابه أنه يكون أسرع نضجا وألذ طعما وأبعد عن موضع الأذى (وسم) على البناء للمفعول أي جعل السم (وكان يرى أن اليهود هم سموه) قال في القاموس سمه سقاه السم والطعام جعله فيه قال المنذري وأخرجه الترمذي وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه الذراع وكان يعجبه الحديث 22 في أكل الدباء (الطعام) أي إلى طعام أو لأجل طعام (قال أنس فذهبت) وذهابه إما بطلب مخصوص أو بالتبعية له صلى الله عليه وسلم لكونه خادما له عملا بالرضى العرفي (ومرقا) بفتحتين (فيه دباء) بضم الدال وتشديد الموحدة والمد وقد يقصر القرع والواحدة دباءة (وقديد) أي لحم مملوح مجفف في الشمس فعيل بمعنى مفعول والقد القطع طولا (يتتبع) أي يتطلب (من حوالي الصحفة) أي جوانبها وهو بفتح اللام وسكون الياء وإنما كسر هنا لالتقاء الساكنين يقال رأيت الناس حوله وحوليه وحواليه واللام مفتوحة في الجميع ولا يجوز كسرها على ما في الصحاح وتقول حوالي الدار قيل كأنه في الأصل حوالين بن كقولك جانبين فسقطت النون للإضافة والصحيح هو الأول ومنه قوله صلى الله عليه وسلم اللهم حوالينا ولا علينا قال النووي تتبع الدباء من حوالي الصحفة يحتمل وجهين أحدهما من حوالي جانبه وناحيته من الصحفة لا من حوالي جميع جوانبها فقد أمر
[ 183 ]
بالأكل ما يلي الإنسان والثاني أن يكون من جميع جوانبها وإنما نهى عن ذلك لئلا يتقذره جليسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقذره أحد بل يتبركون بآثاره صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يتبركون ببصاقه ونخامته ويدلكون بذلك وجوههم وشرب بعضهم بوله وبعضهم دمه وغير ذلك (فلم أزل أحب الدباء بعد يومئذ) وفي رواية لمسلم منذ يومئذ قال الطيبي يحتمل أن يكون بعد مضافا إلى ما بعده كما جاء في شرح السنة بعد ذلك اليوم وأن يكون مقطوعا عن الإضافة وقوله يومئذ بيان للمضاف إليه المحذوف انتهى قلت فعلى الاحتمال الأول يكون دال بعد مفتوحة وميم يومئذ مفتوحة ومكسورة وعلى الاحتمال الثاني تكون دال بعد مضمومة وميم يومئذ مفتوحة وهذا مأخوذ من المرقاة وفي الحديث فضيلة أكل الدباء وأنه يستحب أن يحب الدباء وكذلك كل شئ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه وأنه يحرص على تحصيل ذلك قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي 23 في أكل الثريد (كان أحب الطعام) يجوز رفعه والنصب أولى لأن المناسب بالوصف أن يكون هو الخبر المحكوم به وأفعل هنا بمعنى المفعول ويتعلق به قوله (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقوله (الثريد) مرفوع ويجوز نصبه عكس ما تقدم فإنه المبتدأ المحكوم عليه في المعنى ثم بينه بقوله (من الخبز) وكذا قوله (والثريد من الحيس) وهو بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية فسين مهملة تمر يخلط بأقط وسمن قال في المصباح الثريد فعيل بمعنى مفعول يقال ثردت الخبز ثردا من باب قتل وهو أن تفته ثم تبله بمرق انتهى وفي النهاية الحيس هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن أو الدقيق أو فتيت بدل أقط انتهى وقال ابن رسلان وصفته أن يؤخذ التمر أو العجوة فينزع منه النوى ويعجن بالسمن
[ 184 ]
أو نحوه ثم يدلك باليد حتى يبقى كالثريد وربما جعل معه سويق انتهى والمراد من الثريد من الخبز هو المفتت بمرق اللحم وقد يكون معه اللحم والثريد من الحيس الخبر المفتت في التمر والعسل والأقط ونحوها قال المنذري في إسناده رجل مجهول 24 كراهية التقذر للطعام (فقال لا يتخلجن) بالخاء المعجمة من التخلج سنة وهو التحرك والاضطراب أي لا يتحركن وفي بعض النسخ وقع بالحاء المهملة وعليه شرح الخطابي حيث قال في معالم السنن معناه لا يقعن في نفسك ريبة وأصله من الحلج وهو الحركة والاضطراب ومنه حلج القطن انتهى وفي النهاية لا يدخل قلبك شئ منه فإنه نظيف فلا ترتابن عمرو فيه أي في الدجاجة وأصله من الحلج وهو الحركة والاضطراب ويروى بخاء معجمة بمعناه انتهى (في نفسك) وفي بعض النسخ في صدرك (شئ) أي شئ من الشك (ضارعت فيه النصرانية) جواب شرط محذوف أي إن شككت شابهت فيه الرهبانية والجملة الشرطية مستأنفة لبيان سبب النهي والمعنى لا يدخل في قلبك ضيق وحرج لأنك على الحنيفة السهلة فإذا شككت وشددت على نفسك بمثل هذا شابهت فيه الرهبانية كذا في فتح الودود قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن وهلب بضم الهاء وسكون اللام وباء بواحدة ويقال هلب بفتح الهاء وكسر اللام وصوبه بعضهم وهو لقب له واسمه يزيد بن قنافة وقيل يزيد بن عدي بن قنافة طائي نزل الكوفة وقيل بل هو هلب بن يزيد وذكر أبو القاسم البغوي رضي الله عنه أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أقرع فمسح رأسه فنبت شعره فسمي الهلب الطائي
[ 185 ]
25 باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة) بفتح الجيم وتشديد اللام وهي الدابة التي تأكل العذرة من الجلة وهي البعرة وسواء في الجلالة البقر والغنم والإبل وغيرها كالد جاج والأوز وغيرهما وادعى ابن حزم أنها تقع إلا على ذات الأربع خاصة ثم قيل إن كان أكثر علفها النجاسة فهي جلالة وإن كان أكثر علفها الطاهر فليست جلالة وجزم به النووي في تصحيح التنبيه وقال في الروضة تبعا للرافعي الصحيح أنه لا اعتداد بالكثرة بل بالرائحة والنتن فإن تغير ريح مرقها أو لحمها أو طعمها أو لونها فهي جلالة (وألبانها) أي وعن شرب ألبانها قال الخطابي واختلف الناس في أكل لحوم الجلالة وألبانها فكره ذلك أصحاب الرأي والشافعي وأحمد بن حنبل وقالوا لا يؤكل حتى تحبس أياما وتعلف علفا غيرها فإذا طاب لحمها فلا بأس بأكله وقد روي في حديث أن البقر تعلف أربعين يوما ثم يؤكل لحمها وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثة أيام ثم تذبح وقال إسحاق بن راهويه لا بأس أن يؤكل لحمها بعد أن يغسل غسلا جيدا وكان الحسن البصري لا يرى بأسا بأكل لحوم الجلالة وكذلك قال مالك بن أنس انتهى وقال ابن رسلان في شرح السنن وليس للحبس مدة مقدرة وعن بعضهم في الإبل والبقر أربعين يوما وفي الغنم سبعة أيام وفي الدجاج ثلاثة واختاره في المهذب والتحرير قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب هذا آخر كلامه وفي إسناده محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح وذكر الترمذي أن سفيان الثوري رواه عن ابن نجيح عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا (نهى عن لبن الجلالة) قد اختلف في طهارة لبن الجلالة فالجمهور على الطهارة لأن النجاسة تستحيل في باطنها فيطهر بالاستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوانات لحما ويصير لبنا
[ 186 ]
قال المنذري وأخرجه النسائي (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها) علة النهي أن تعرق فتلوث ما عليها بعرقها وهذا ما لم تحبس فإذا حبست جاز ركوبها عند الجميع كذا في شرح السنن والحديث سكت عنه المنذري 26 في أكل لحوم الخيل (عن محمد بن علي) أي ابن الحسين بن علي وهو الباقر أبو جعفر (يوم خيبر عن لحوم الحمر) زاد مسلم في روايته الأهلية (وأذن لنا في لحوم الخيل) قال النووي اختلف العلماء في إباحة لحوم الخيل فمذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف أنه مباح لا كراهية فيه وبه قال أحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وجماهير المحدثين وكرهها طائفة منهم ابن عباس والحكم ومالك وأبو حنيفة واحتجوا بقوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ولم يذكر الأكل وذكر الأكل من الأنعام في الآية التي قبلها وبحديث صالح بن يحيى ابن المقدام عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل الحديث قلت وهو الحديث الآتي في آخر الباب ويأتي الكلام عليه قال واحتج الجمهور بأحاديث الإباحة التي ذكرها مسلم وغيره وهي صحيحة صريحة وبأحاديث أخرى صحيحه جاءت بالإباحة ولم يثبت في النهي حديث واتفق العلماء من أئمة الحديث على أن حديث صالح بن يحيى بن المقدام ضعيف وقال بعضهم هو منسوخ
[ 187 ]
وأما الآية فأجابوا عنها بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أن منفعتهما مختصة بذلك وإنما خص هذان بالذكر لأنهما معظم المقصود من الخيل كقوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فذكر اللحم لأنه أعظم المقصود وقد أجمع المسلمون على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه قالوا ولهذا سكت عن ذكر حمل الأثقال على الخيل مع قوله تعالى في الأنعام وتحمل أثقالكم ولم يلزم من هذا تحريم حمل الأثقال على الخيل انتهى مختصرا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وقال وما أعلم أحدا وافق حماد بن زيد على محمد بن علي (فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل) وفي حديث ابن عباس عند الدارقطني وأمر بلحوم الخيل قال الطحاوي وذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه وغيرهما واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها ولو كان ذلك مأخوذا من طريق النظر لما كان بين الخيل والحمر الأهلية فرق ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول بها مما يوجبه النظر ولا سيما وقد أخبر جابر أنه صلى الله عليه وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر فدل ذلك على اختلاف حكمها انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم بمعناه (نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير) احتج بهذا الحديث من قال بكراهة أكل لحوم الخيل والحديث ضعيف ضفعه أحمد والبخاري وموسى ابن هارون والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون
[ 188 ]
كذا قال الحافظ (زاد حيوة) هو ابن شريح (وكل ذي ناب من السباع) عطف على قوله على الخيل أي ونهى عن أكل لحوم كل ذي ناب من السباع وسيأتي الكلام عليه في باب ما جاء في أكل السباع (قال أبو داود وهو) أي ما يدل عليه الحديث من كراهة أكل لحوم الخيل أو تحريمه (قول مالك) قال الحافظ قال الفاكهي المشهور عند المالكية الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم (لا بأس بلحوم الخيل) لورود الأحاديث الصحيحة في إباحتها (وليس العمل عليه) أي على حديث النهي المذكور (قال أبو داود هذا) أي حديث النهي المذكور (منسوخ) قد قرر الحازمي النسخ بأنه قد وردت في حديث جابر لفظة أذن وفي بعض روايته رخص ويظهر بذلك أن المنع كان سابقا والإذن متأخر فيتعين المصير إليه قال ولو لم ترد هذه اللفظة لكانت دعوى النسخ مردودة لعدم معرفة التاريخ وللحافظ في هذا التقرير كلام (قد أكل لحوم الخيل جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ) قال الحافظ وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد فأخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال لم يزل سلفك يأكلونه قال ابن جريج قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه قال أبو داود هذا منسوخ قد أكل لحوم الخيل جماعة إلخ قال والحديث ضعيف وسيأتي الكلام عليه مستوفى في باب أكل السباع إن شاء الله تعالى انتهى كلام المنذري 27 في أكل الأرنب هو دويبة معروفة تشبه العناق لكن في رجليها طول بخلاف يديها ويقال له بالفارسية خركوش
[ 189 ]
(كنت غلاما حزورا) بفتح المهملة والزاي والواو المشددة بعدها راء ويجوز سكون الزاي وتخفيف الواو وهو المراهق (فأصدت قبل) بتشديد الصاد المهملة كان أصله اصطيدت وفي بعض النسخ فصدت (بعجزها) أي بعجز الأرنب وهو مؤخر الشئ وفي رواية للبخاري بوركيها أو قال بفخذيها (فقبلها) فيه جواز أكل الأرنب وهو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمر من الصحابة وعن عكرمة من التابعين وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء ذكره الحافظ قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه (خالد بن الحويرث) بالنصب بدل من قوله أبي (بالصفاح) بكسر الصاد المهملة وخفة الفاء (قال محمد) هو ابن خالد أي قال في تفسير الصفاح (فلم يأكلها ولم ينه إلخ) احتج بهذا من قال بكراهة أكل الأرنب والحديث ضعيف ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة قال المنذري قال عثمان بن سعيد سألت يحيى بن معين عن خالد بن الحويرث فقال لا أعرفه وقال الحافظ أبو أحمد بن عدي وخالد هذا كما قال ابن معين لا يعرف وأنا لا أعرفه أيضا وعثمان بن سعيد هذا كثير ما سأل يحيى عن قوم فكان جوابه أن قال لا أعرفهم فإذا كان مثل يحيى لا يعرفه لا تكون له شهرة ويعرف 28 في أكل الضب هو دويبة تشبه الحرذون ولكنه أكبر منه قليلا ويقال للأنثى ضبة قال ابن خالويه إنه
[ 190 ]
يعيش سبعمائة سنة وإنه لا يشرب الماء ويبول في كل أربعين يوما قطرة ولا يسقط له سن ويقال بل أسنانه قطعة واحدة (أن خالته) أن خالة ابن عباس وهي ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (وأضبا) جمع ضب (وأقطا) وهلبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به (تقذرا) أي كراهة (وأكل) بصيغة المجهول (ولو كان حراما إلخ) فيه دليل إباحة أكل الضب قال النووي أجمع المسلمون على أن الضب كل حلال ليس بمكروه إلا ما حكى عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا هو حرام وما أظنه يصح عن أحد وإن صح عن أحفم حجوج بالنصوص وإجماع من قبله انتهى قال الحافظ متعقبا على النووي قد نقله ابا المنذر عن علي فأي إجماع يكون مع مخالفته ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة) أي زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالة خالد بن الوليد وابن عباس رضي الله عنهما كما في رواية عند الشيخين (محنوذ) أي مشوي وقيل هو ما شوى بالرضف وهي الحجارة المحماة (فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده) أي أمال يده إليه ليأخذه فيأكله (فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده) أي عن الضب كل (قال) أي خالد (أحرام هو) أي الضب كل (قال لا) أي ليس بحرام (ولكنه لم يكن بأرض قومي) أي مكة أصلا أو لم يكن مشهورا كثيرا فلم
[ 191 ]
يأكلوه (فأجدني أعافه) بعين مهملة وفاء خفيفة أي أكره أكله طبعا لا شرعا يقال عفت الشئ أعافه (فاجتررته) أي جذبته (ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر) جملة حالية والحديث يدل على أن الضب كل حلال وأصرح منه حديث مسلم بلفظ كلوه فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي قال القاري الحنفي في المرقاة أغرب ابن الملك حيث خالف مذهبه وقال فيه إباحة أكل الضب كل وبه قال جمع إذ لو حرم لما أكل بين يديه انتهى قلت وكذلك أغرب الإمام الطحاوي الحنفي حيث خالف مذهبه وقال في كتابه معاني الآثار بعد البحث فثبت بهذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضب كل وبه أقول انتهى لكن عند المحقق المنصب ليس في غرابة فقد ثبت في إباحة أكل الضب كل أحاديث صحيحة صريحة ولا مذهب للمسلم إلا مذهب رسوله صلى الله عليه وسلم نعم عند المقلدين الذين يظنون أن لا مذهب لهم غير مذهب إمامهم فيه غرابة بلا مرية قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (عن ثابت بن وديعة) قال البيهقي في سننه قيل وديعة اسم أمه واسم أبيه يزيد كذا في مرقاة الصعود (ضبابا) بكسر الضاد المعجمة جمع ضب (فأخذ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (عودا) أي خشبا (به) أي بذلك العود (أصابه) أي أصابع الضب كل وفي رواية للنسائي فجعل ينظر إليه ويقلبه (مسخت) بصيغة المجهول والمسخ قلب الحقيقة من شئ إلى شئ آخر (دوابا) وفي بعض النسخ دواب غير منون وهو الظاهر لأنه غير منصرف قال في مرقاة الصعود قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام كيف يجمع بين هذا وبين ما ورد أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا يعقب والجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبر بأشياء مجملة ثم يتبين له كما قال في الدجال إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه ثم أعلم بعد ذلك أنه لا يخرج إلا في آخر الزمان قبل نزول عيسى عليه السلام فأخبر أصحابه بذلك على وجهه فكذلك هذا علم صلى الله عليه وسلم بالمسخ ولم يعلم أن الممسوخ لا يعيش ولا يعقب له فكان في الظن والحساب على حسب القرائن الظاهرة انتهى (فلم يأكل ولم ينه) أي عن أكله
[ 192 ]
قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه ويقال فيه ثابت بن زيد بن وديعة وكنيته أبو سعيد وقال أبو عيسى الترمذي يزيد أبوه ووديعة أمه وقال أبو عمر النمري حديثه في الضب كل يختلفون فيه اختلافا كثيرا وذكر البخاري في تاريخه الكبير حديث الحمر وحديث الضب كل في ترجمة ثابت هذا وذكر اضطراب الرواة في ذلك وكأنه عنده حديث واحد اختلف الرواة فيه وذكره من حديث عبد الرحمن بن حسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحديث ثابت أصح وفي نفس الحديث نظر وذكر الدارقطني حديث الضب كل وقال غريب من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عنه تفرد به أبو بكر بن عياش عن الأعمش (عن أبي راشد الحبراني) بضم المهملة وسكون الموحدة الشامي قيل اسمه أخضر وقيل النعمان ثقة من الثالثة (عن عبد الرحمن بن شبل) بكسر المعجمة وسكون الموحدة (نهى عن أكل لحم الضب) قال الحافظ في الفتح أخرجه أبو داود بسند حسن فإنه من رواية إسماعيل ابن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل وحديث ابن عياش عن الشاميين قوي وهؤلاء شاميون ثقات ولا يغتر بقول الخطابي ليس إسناده بذلك وقول ابن حازم فيه ضعفاء ومجهولون وقول البيهقي تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة وقول ابن الجوزي لا يصح ففي كل ذلك تساهل لا يخفى فإن رواية إسماعيل عن الشاميين قوية عند البخاري وقد صحح الترمذي بعضها قال والأحاديث الماضية وإن دلت على الحل تصريحا وتلويحا نصا وتقريرا فالجمع بينها وبين هذا حمل النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مسخ ثم توقف فلم يأمر به ولم ينه عنه وحمل الإذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له ثم بعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه وأكل على مائدته فدل على الإباحة وتكون الكراهة للتنزيه في حق من يقتذره يحيى تحمل أحاديث الإباحة على من لا يتقذره ولا يلزم من ذلك أنه يكره مطلقا انتهى قال المنذري في إسناد إسماعيل بن عياش وضمضم بن زرعة وفيهما مقال وقال الخطابي ليس إسناده بذاك وقال البيهقي وحديث عبد الرحمن بن شبل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
[ 193 ]
عن أكل الضب كل لم يثبت إسناده إنما تفرد به إسماعيل ابن عياش وليس بحجة 29 في أكل لحم الحبارى الرحمن بضم الحاء وفتح الراء المهملتين مقصورا طائر معروف يقع على الذكر والأنثى واحدها وجمعها سواء وألفه ليست للتأنيث ولا للالحاق وهي من أشد الطير طيرانا وأبعدها شوطا وهو طائر كبير العنق رمادي اللون لحمه بين لحم دجاج ولحم بط (حدثني بريه) بالتصغير (أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم لحم حبارى) فيه أن حبارى حلال قال المنذري وأخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه هذا آخر كلامه وبريه بضم الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة وهاء هو إبراهيم بن عمر بن سفينة قال البخاري عمر ابن سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه بإسناد مجهول وقال أيضا في ترجمة بريه إسناد مجهول وقال ابن حبان في إبراهيم بن عمر يخالف الثقات في الروايات يروي عن أبيه ما لا يتابع عليه من روايات الأثبات فلا يحل الاحتجاج بخبره بحال وذكر له هذا الحديث وغيره وضعفه الدارقطني 30 في أكل حشرات الأرض هي صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب والقناقذ وكان ونحوها كذا قال الخطابي وقال ابن رسلان إن حشرات الأرض كالضب والقنقذ روى واليربوع وما أشبهها وأطال في ذلك (حدثني ملقام) بكسر أوله وسكون اللام ثم قاف (بن تلب) بفتح المثناة وكسر اللام
[ 194 ]
وتشديد الموحدة قال في التقريب مستور من الخامسة (فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما) قال الخطابي ليس فيه دليل على أنها مباحة لجواز أن يكون غيره قد سمعه وقد حضرنا فيه معنى آخر وهو إنما عنى بهذا القول أن عادة القوم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في استباحة الحشرة كلها وقد اختلف الناس في الأشياء أصلها على الإباحة أو على الحظر وهي مسألة كبيرة من مسائل أصول الفقه فذهب بعضهم إلى أنها على الإباحة وذهب آخرون إلى أنها على الحظر وذهبت طائفة إلى أن إطلاق القول بواحد منهما فاسد ولا بد من أن يكون بعضها محظورا وبعضها مباحا والدليل ينبئ عن حكمه في مواضعه وقد اختلف الناس في اليربوع والوبر ونحوها من الحشرات فرخص في اليربوع عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور وقال مالك لا بأس بأكل الوبر وكذلك الشافعي وروي ذلك عن عطاء ومجاهد وطاوس وكرهها ابن سيرين وحماد وأصحاب الرأي كره أصحاب الرأي القنفذ وسئل عنه مالك بن أنس فقال لا أدري وكان أبو ثور لا يرى به بأسا وحكاه عن الشافعي وروى عن ابن عمر أنه رخص فيه وقد روى أبو داود في تحريمه حديثا ليس إسناده بذاك وإن ثبت الحديث فهو محرم انتهى قال المنذري قال البيهقي وهذا إسناد غير قوي وقال النسائي ينبغي أن يكون ملقام بن التلب ليس بالمشهور (عن عيسى بن نميله) بضم النون تصغير نملة (فسئل عن أكل القنفذ) بضم القاف وسكون النون وضم الفاء وبالذال المعجمة وهو في الفارسية خاربشت ولم (فتلا) من التلاوة أي قرأ (فقال خبيثة من الخبائث) أي القنفذ خبيثة من الخبائث (فهو كما قال) أي فهو حرام لأن الخبائث محرمة بنص القرآن قال في السبل قال الرافعي في القنفذ وجهان أحدهما أنه يحرم وبه قال أبو حنيفة وأحمد لما روي في الخبر أنه من الخبائث وذهب مالك وابن أبي ليلى إلى أنه حلال وهو أقوى من القول بتحريمه لعدم نهوض الدليل عليه مع القول بأن
[ 195 ]
الأصل الإباحة في الحيوانات وهي مسألة خلافية معروفة في الأصول فيها خلاف بين العلماء انتهى قال المنذري قال الخطابي ليس إسناده بذاك وقال البيهقي وأما حديث عيسى بن نميلة عن أبيه عن شيخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر عنده فقال خبيثة فهو إسناد غير قوي ورواية شيخ مجهول وفي الإسناد أن ابن عمر سئل عنه فتلا قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما الآية ونميلة بضم النون تصغير نملة 31 باب ما لم يذكر تحريمه (كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء) أي بمقتضى طباعهم وشهواتهم (ويتركون أشياء) أي لا يأكلونها (تقذرا) أي كراهة ويعدونها من القاذورات (وأحل حلاله) أي ما أراد الله أن يكون حلالا بالإباحة قال الطيبي حلاله مصدر وضع موضع المفعول أي أظهر الله بالبعث والإنزال ما أحله الله تعالى (وحرم حرامه) أي بالمنع عن أكله (فما أحل) أي ما بين إحلاله (فهو حلال) أي لا غير (وما سكت عنه) أي لم يبين حكمه (فهو عفو) أي متجاوز عنه لا تؤاخذون به (وتلا) أي ابن عباس ردا لفعلهم وأكلهم يشتهونه وتركهم يكرهونه تقذرا (قل لا أجد فيما أوحي إلى) أي في القرآن أو في ما أوحى إلى مطلقا وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى (محرما) أي طعاما محرما والحديث يدل على أن الأشياء أصلها على الإباحة وقد تقدم الاختلاف فيه والحديث سكت عنه المنذري
[ 196 ]
32 في أكل الضبع بين هو الواحد الذكر والأنثى الضبعان ولا يقال ضبعة ومن عجيب أمره أنه يكون سنة ذكرا وسنة أنثى فيلقح في حال الذكورة ويلد في حال الأنوثة وهو مولع بنبش القبور لشهوته للحوم بنى آدم كذا في النيل ويقال للضبع في الفارسية كفتار (فقال هو صيد) قال الخطابي إذا كان قد جعلة صيدا ورأى فيه الفداء فقد أباح أكله كالضباء أهل والحمر الوحشي وغيرها من أنواع صيد البر وإنما أسقط الفداء في قتل مالا يؤكل فقال خمس لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم الحديث (ويجعل) بصيغة المجهول (فيه) أي في الضبع (كبش) وفي بعض النسخ كبشا بالنصب وعلى هذا يكون يجعل على البناء للمعلوم وفيه دليل على أن الكبش مثل الضبع وفيه أن المعتبر في المثلية بالتقريب في الصورة لا بالقيمة ففي الضبع الكبش سواء كان مثله في القيمة أو أقل أو أكثر والحديث يدل على جواز أكل الضبع وإليه ذهب الشافعي وأحمد قال الشافعي ما زال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير ولأن العرب تستطيبه وتمدحه وذهب أكثر العلماء إلى التحريم واحتجوا بأنها سبع وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل ذي ناب من السباع ويجاب بأن حديث الباب خاص فيقدم على حديث كل ذي ناب واحتجوا أيضا بما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال أو يأكل الضبع أحد فيجاب بأن هذا الحديث ضعيف لأن في إسناده عبد الكريم بن أمية وهو متفق على ضعفه والراوي عنه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف قال الخطابي في المعالم وقد اختلف الناس في أكل الضبع فروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضبع وروي عن ابن عباس إباحة لحم الضبع وأباح أكلها عطاء والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وكرهه الثوري وأصحاب الرأي ومالك وروى ذلك عن
[ 197 ]
سعيد بن المسيب واحتجوا بأنها سبع وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع قال الخطابي وقد يقوم دليل الخصوص فينزع الشئ من الجملة وخبر جابر خاص وخبر تحريم السباع عام انتهى وقال الحافظ ابن القيم في أعلام الموقعين والذين صححوا الحديث جعلوه مخصصا لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما حتى قالوا ويحرم أكل كل ذي ناب من السباع إلا الضبع وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلا على مثل من كل وجه من غير فرق بينهما ومن تأمل ألفاظه صلى الله عليه وسلم الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها فإن الغاذي شبيه بالمغتذي ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم ولا تعد الضبع من السباع لغة ولا عرفا انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح 33 ما جاء في أكل السباع (نهى عن أكل كل ذي ناب من السبع) الناب الذي خلف الرباعية جمعه أنياب وذو الناب من السباع كالأسد والذئب والنمر والفيل والقرد وكل ماله ناب يتقوى به ويصطاد قال في النهاية وهو ما يفترس الحيوان ويأكل قسرا كالأسد والنمر والذئب ونحوها وقال في القاموس والسبع بضم الباء وفتحها المفترس من الحيوان ووقع الخلاف في جنس السباع المحرمة فقال أبو حنيفة كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضب واليربوع والسنور وقال الشافعي يحرم من السباع ما يعد وعلى الناس كالأسد والنمر والذئب وأما الضبع والثعلب فيحلان عنده لأنهما لا يعدوان كذا في النيل
[ 198 ]
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (وعن كل ذي مخلب من الطير) المخلب بكسر الميم وفتح اللام قال أهل اللغة المخلب للطير والسباع بمنزلة الظفر للإنسان قال في شرح السنة أراد بكل ذي ناب ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم كالذئب والأسد والكلب ونحوها وأراد بذي مخلب ما يقطع ويشق بمخلبه كالنسر والصقر والبازي ونحوها قال المنذري وأخرجه مسلم (ولا اللقطة) بضم اللام وفتح القاف ما يلتقط مما ضاع من شخص بسقوط أو غفلة (من مال معاهد) كافر بينه وبين المسلمين عهد بأمان وتخصيصة حديث لزيادة الاهتمام (إلا أن يستغني عنها) أي يتركها لمن أخذها استغناء عنها (وأيما رجل ضاف قوما) أي نزل فيهم ضيفا (فلم يقروه) بفتح الياء وضم الراء أي لم يضيفوه من قريت الضيف قرى بالكسر والقصر وقراء بالفتح والمد إذا أحسنت إليه (فإن له) أي فللنازل (أن يعقبهم) من الإعقاب بأن يتبعهم (بمثل قراه) أي فله أن يأخذ منهم عوضا عما حرموه من القرى وقد سبق الكلام فيه قال المنذري ذكره الدارقطني مختصرا وأشار إلى غرابته (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الحديث)
[ 199 ]
قال المنذري وأخرجه النسائي (أن الناس) أي المسلمين (قد أسرعوا إلى حظائرهم) جمع حظيرة بفتح الحاء المهلمة وكسر الظاء المعجمة وهي الموضع الذي يحاط عليه لتأوي إليه الغنم والبقر يقيه البرد والريح كذا في النهاية وقال في فتح الودود المراد به أرادوا أخذ غنائمنا وإبلنا فنهى عنه صلى الله عليه وسلم وضبطها القاري في المرقاة بالخاء والضاد المعجمتين وقال هي النخلة التي ينتشر بسرها وهي أخضر أي أسرعوا إلى أخذ ثمار نخيل اليهود الذين دخلوا في العهد انتهى (ألا) للتنبيه (لا تحل أموال المعاهدين) بكسر الهاء وقيل بفتحها أي أهل العهد والذمة (إلا بحقها) أي إلا بحق تلك الأموال فإن حق مال المعاهد إن كان ذميا فالجزية وإن كان مستأمنا وماله للتجارة فالعشر (وحرام عليكم حمر الأهلية وخيلها وبغالها) فيه دليل لمن قال بتحريم الخيل ولكن الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به وقد سبق الكلام على إباحة الخيل والجواب عن تمسكات من حرمها قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه وقال أبو داود هذا منسوخ وقال الإمام أحمد هذا حديث منكر وقال النسائي الذي قبله يعني حديث جابر أصح من هذا ويشبه إن كان هذا صحيحا أن يكون منسوخا لأن قوله أذن في لحوم الخيل دليل على ذلك وقال النسائي أيضا لا أعلمه رواه غير بقية وقال البخاري صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب الكندي الشامي من أبيه فيه نظر وذكر الخطابي أن حديث جابر إسناده جيد قال وأما حديث خالد بن الوليد ففي إسناده نظر وصالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم عن بعضهم وقال موسى بن هارون الحافظ لا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه إلا بجده وقال الدارقطني هذا حديث ضعيف وقال الدارقطني أيضا هذا إسناد مضطرب وقال الواقدي لا يصح هذا لأن خالدا أسلم بعد فتح مكة وقال البخاري خالد
[ 200 ]
لم يشهد خيبر وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل لم يشهد خيبر إنما أسلم بعد الفتح وقال أبو عمر النمري ولا يصح لخالد بن الوليد مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح وقال البيهقي إسناده مضطرب ومع اضطرابه مخالف لحديث الثقات هذا آخر كلامه وحديث جابر الذي أشار إليه النسائي والخطابي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما ولفظ مسلم وأذن في لحوم الخيل ولفظ البخاري رخص في لحوم الخيل وقد تقدم ذكره (قال ابن عبد الملك) أي في روايته (عن أكل الهر وأكل ثمنها) فيه أن الهر حرام وظاهره عدم الفرق بين الوحشي والأهلي ويؤيد التحريم أنه من ذوات الأنياب قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وفي إسناده عمر بن زيد الصنعاني ولا يحتج به وقد تقدم الكلام في كتاب البيوع وأن مسلما أخرج في صحيحه من حديث أبي الزبير قال سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور قال زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك 34 في أكل لحوم الحمر الأهلية (أصابتنا سنة) أي قحط (أطعم) من الإطعام (سمان حمر) إضافة الصفة إلى الموصوف
[ 201 ]
أي حمر سمان وسمان ككتاب جمع سمين (من أجل جوال القسرية) جوال بتشديد اللام جمع جالة وهي التي تأكل الجلة وهي العذرة يقال جلت الدابة الجلة واجتلتها فهي جالة وجلالة إذا التقطتها قال الخطابي هذا لا يثبت وقد ثبت أنه إنما نهى عن لحومها لأنها رجس
[ 202 ]
وقال النووي هو حديث مضطرب مختلف الإسناد شديد الاختلاف ولو صح يحمل على الأكل منها حال الاضطرار والله أعلم بالصواب قال المنذري اختلف في إسناده اختلافا كثيرا وقد ثبت التحريم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وذكر البيهقي أن إسناده مضطرب (قال أبو داود عبد الرحمن هذا) أي المذكور في الإسناد بغير نسب (قال أبو داود روى شعبة هذا الحديث إلى قوله قال مسعر أرى غالبا الذي أتى
[ 203 ]
النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث) غرض المؤلف من ذكر كلامه هذا بيان الاختلاف في إسناد هذا الحديث ولو تأملت في هذين الإسنادين والإسناد المذكور أولا ظهر لك كثرة الاختلاف في الاسناد كما قال المنذري وهذه العبارة لم توجد في عامة النسخ وإنما وجدت في نسختين من السنن وكذا في نسخة المعالم للخطابي وحديث محمد بن سليمان ليس من رواية اللؤلؤي (أخبرني رجل) قال الخطابي هو محمد بن علي أي ابن الحسين بن علي وهو الباقر أبو جعفر (عن أن نأكل لحوم الحمر) أي الأهلية (قال عمرو) هو ابن دينار (فأخبرت هذا الخبر أبا الشعثاء) هو جابر بن زيد الأزدي البصري الفقيه أحد الأئمة (قد كان الحكم الغفاري فينا يقول هذا) في رواية البخاري قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة (وأبى)
[ 204 ]
من الإباء أي امتنع (ذلك البحر) البحر صفة لابن عباس قيل له لسعة علمه وزاد في رواية البخاري وقرأ قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما قال الخطابي لحوم الحمر الأهلية محرم في قول عامة العلماء وإنما رويت الرخصة فيها عن ابن عباس لعل الحديث في تحريمها لم يبلغه انتهى قلت واستدلالة عند بالآية إنما في الأشياء التي لم يرد النص بتحريمها وأما الحمر الأهلية فقد تواترت النصوص على ذلك والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس وأيضا الآية مكية وخبر التحريم متأخر جدا فهو مقدم وأيضا فنص الآية خبر عن حكم الموجود عند نزولها فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة
[ 205 ]
قال المنذري وأخرجه البخاري من حديث عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء وليس فيه عن رجل (وعن الجلالة) هي التي تأكل الجلة أي القذرة وقد تقدم الكلام على الجلالة قال المنذري وأخرجه النسائي وقد تقدم الكلام على حديث عمرو بن شعيب 35 في أكل الجراد بفتح الجيم وتخفيف الراء معروف والواحدة جرادة والذكر والأنثى سواء كالحمامة ويقال أنه مشتق من الجرد لأنه لا ينزل على شئ إلا جرده (فكنا نأكله معه) أي نأكل الجراد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحافظ يحتمل أن يريد بالمعية مجرد الغزو دون ما تبعه من أكل الجراد ويحتمل أن يريد مع أكله ويدل على الثاني أنه وقع في رواية أبي نعيم في الطب ويأكل معنا انتهى قال النووي أجمع المسلمون على إباحة أكل الجراد ثم قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والجماهير يحل سواء مات بذكوة أو باصطياد مسلم أو مجوسي أو مات حتف أنفه سواء قطع بعضه أو أحدث فيه سبب وقال مالك في المشهور عنه وأحمد في رواية لا يحل إلا إذا مات بسبب بأن يقطع بعضه أو يسلق أو يلقي في النار حيا أو يشوى فان مات حتف أنفه أو في وعاء لم يحل والله أعلم انتهى
[ 206 ]
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (فقال أكثر جنود الله) أي هو أكثر جنوده تعالى من الطيور فإذا غضب على قوم أرسل عليهم الجراد ليأكل زرعهم وأشجارهم ويظهر فيهم القحط إلى أن يأكل بعضهم بعضا فيفنى الكل وإلا فالملائكة أكثر الخلائق على ما ثبت في الأحاديث وقد قال عزوجل في حقهم وما يعلم جنود ربك إلا هو كذا قال القاري (لا آكله) فيه أنه صلى الله عليه وسلم عاف الجراد كما عاف الضب كل ولكن الحديث مرسل على الصواب كما قال الحافظ وقد تقدم رواية أبي نعيم بلفظ ويأكل معنا (رواه المعتمر عن أبيه) سليمان التيمي (لم يذكر سلمان) فصارت رواية المعتمر مرسلة والرواية المرسلة هي الصواب على ما قال الحافظ قال المنذري وأخرجه ابن ماجه مسندا
[ 207 ]
(عن أبي العوام الجزار) بالجيم المفتوحة وتشديد الزاى وبعدها راء مهملة أي القصاب (قال على) هو ابن عبد الله (اسمه) الضمير المجرور يرجع إلى أبي العوام (يعني أبا العوام) هذا تفسير للضمير المجرور في قوله اسمه
[ 208 ]
36 في أكل الطافي من السمك لأنه الطافي بغير همز من طفا إذا علا على الماء ولم يرسب والسمك الطافي هو الذي يموت في البحر بلا سبب قاله النووي (ما ألقى البحر) أي كل ما قذفه إلى الساحل (أو جزر عنه) بجيم ثم زاي أي انكشف عنه الماء وذهب والجزر رجوع الماء خلفه وهو ضد المد ومنه الجزيرة والمعنى وما انكشف عنه الماء من حيوان البحر (وما مات فيه وطفا) أي ارتفع فوق الماء بعد أن مات (فلا تأكلوه) استدل بهذا من ذهب إلى كراهة السمك الطافي
[ 209 ]
قال الخطابي قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قد أباح الطافي من السمك ثبت ذلك عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب الأنصاري وإليه ذهب ابن أبي رباح ومكحول وإبراهيم النخعي وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وروي عن جابر وابن عباس أنهما كرها الطافي من السمك وإليه ذهب جابر بن زيد وطاووس وبه قال أصحاب الرأي انتهى قلت يدل على
[ 210 ]
إباحة السمك الطافي حديث جابر قال غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر الحديث وفي آخره فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال كلوا رزقا أخرجه الله عزوجل لكم أطعمونا إن كان معكم فأتاه بعضهم بشئ فأكله أخرجه البخاري ومسلم وسيأتي في هذا الكتاب أيضا فهذا الحديث يدل على إباحة ميتة البحر سواء في ذلك ما مات بنفسه أو بالاصطياد وقد تبين من آخر الحديث أن جهة كونها حلالا ليست سبب الاضطرار بل كونها من صيد البحر لأنه صلى الله عليه وسلم أكل منها ولم يكن مضطرا وأما حديث الباب فهو موقوف قال الحافظ وإذا لم يصح إلا موقوفا فقد عارضه قول أبي بكر وغيره والقياس يقتضي حله لأنه سمك لو مات في البر لأكل بغير تذكية ولو نضب عنه الماء أو قتله سمكة أخرى فمات لأكل فكذلك إذا مات وهو في البحر انتهى قلت قول أبي بكر الذي أشار إليه الحافظ رواه البخاري معلقا بلفظ قال أبو بكر الطافي حلال ووصله أبو بكر بن شيبة والطحاوي والدارقطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال أشهد على أبي بكر أنه قال السمكة الطافية حلال (وقد أسند هذا الحديث) أي روي مرفوعا قال المنذري وأخرجه ابن ماجه 37 فيمن اضطر إلى الميتة (أن رجلا نزل الحرة) بفتح الحاء والراء المشددة مهملتين أرض بظاهر المدينة بها
[ 211 ]
حجارة سود (ومعه) أي مع الرجل (فقال رجل) أي آخر غير الذي نزل (فإن وجدتها) أي الناقة الضالة والخطاب لنازل الحرة (فوجدها) أي فوجد الرجل النازل الناقة (صاحبها) أي صاحب الناقة ومالكها (فمرضت) أي الناقة (فأبى) من الإباء امتنع من النحر (فنفقت) أي ماتت يقال نفقت الدابة نفوقا مثل قعدت المرأة قعودا إذا ماتت (إسلخها) انزع جلدها (حتى نقدد شحمها ولحمها) أي نجعله قديدا (هل عندك غنى يغنيك) أي تستغني به ويكفيك ويكفي أهلك وولدك عنها (فكلوها) أي الناقة الميتة وعند أحمد في مسنده عن جابر بن سمرة أن أهل بيت كانوا بالحرة محتاجين قال فماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكلها انتهى قال في المنتقى وهو دليل على إمساك الميتة للمضطر انتهى والحديث سكت عنه المنذري وقال العلامة الشوكاني وليس في إسناده مطعن انتهى (عن الفجيع) بجيم مصغرا بن عبد الله العامري صحابي نزل الكوفة له حديث واحد كذا في التقريب (قلنا نغتبق) أي نشرب قدحا من اللبن مساء (ونصطبح) أي نشرب قدحا صباحا قال أبو نعيم هو كنية الفضل بن دكين (فسره) الضمير المنصوب يرجع إلى قوله نغتبق ونصطبح (قدح غدوة) هذا تفسير للاغتباق أخبرنا وقدح عشية هذا تفسير للاصطباح (قال ذلك وأبي الواو للقسم (الجوع)) بالرفع يعني هذا القدر لا يكفي من الجوع بل يبقى الجوع على حاله (فأحل لهم الميتة على هذه الحال) أي المذكورة
[ 212 ]
قال الخطابي القدح من اللبن بالغداة والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس وإن كان لا يغذو البدن ولا يشبع الشبع التام وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت وإلى هذا ذهب مالك والشافعي في أحد قوليه انتهى قال العلامة الشوكاني والقول الراجح عند الشافعي هو الاقتصار على سد الرمق كما نقله المزني وصححه الرافعي والنووي وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك ويدل عليه قوله هل عندك غنى يغنيك إذا كان يقال لمن وجد سد رمقه مستغنيا لغة أو شرعا واستدل به بعضهم على القول الأول قال لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه والآية الكريمة قد دلت على تحريم الميتة واستثنى ما وقع الإضطرار إليه فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الأكل كحالة الابتداء ولا شك أن سد الرمق يدفع الضرورة وقيل إنه يجوز أكل المعتاد للمضطر في أيام عدم الاضطرار قال الحافظ وهو الراجح لإطلاق الآية واختلفوا في الحالة التي يصح فيها الوصف بالاضطرار ويباح عندها الأكل فذهب الجمهور إلى أنها الحالة التي يصل به الجوع فيها إلى حد الهلاك أو إلى مرض يقضي إليه وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام كذا في النيل قال المنذري في إسناده عقبة بن وهب (قال ابن معين صالح وقال ابن المدينى قلت لسفيان بن عيينة عقبة بن وهب) فقال ما كان ذاك فندري ما هذا الأمر ولا كان من شأن يعني الحديث 38 في الجمع بين لونين من الطعام (حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة) بكسر الراء المهملة وسكون الزاي المعجمة (وددت) بكسر الدال أي تمنيت وأحببت (من برة سمراء) أي حنطة فيها سواد خفي فهي
[ 213 ]
وصف لبرة ولعل المراد بها أن تكون مقمرة فإنه أبلغ في اللذة ولئلا يحصل التناقض بين البيضاء والسمراء واختار بعض الشراح أن السمراء هي الحنطة فهي بدل من برة قال القاضي السمراء من الصفات الغالبة غلبت على الحنطة فاستعملها هنا على الأصل وقيل هي نوع من الحنطة فيها سواد خفي ولعله أحمد الأنواع عندهم كذا في المرقاة (ملبقة بسمن ولبن) بتشديد الموحدة المفتوحة وهي منصوبة على أنها صفة خبزة وهو الظاهر ويحتمل بجرها على أنها صفة برة والمعنى مبلولة مخلوطة خلطا شديدا بسمن ولبن والملبقة يا اسم مفعول من التلبيق لو وهو التليين وفي القاموس لبقة لينة وثريد ملبق يكون ملين بالدسم (فاتخذه) أي صنع ما ذكر (في أي شئ كان هذا) أي سمنه ولعله صلى الله عليه وسلم وجد فيه رائحة كريهة (في عكة ضب) العكة بالضم آنية السمن وقيل وعاء مستدير للسمن والعسل وقيل العكة القربة الصغيرة والمعنى أنه كان في وعاء مأخوذ من جلد ضب (ارفعه) قال الطيبي وإنما أمر برفعه لتنفر طبعه عن الضب كل لأنه لم يكن بأرض قومه كما دل عليه حديث خالد لا لنجاسة جلده وإلا لأمره بطرحه ونهاه عن تناوله (قال أبو داود هذا حديث منكر) المنكر حديث من فحش غلطه أو كثرت غفلته أو ظهر فسقه على ما في شرح النخبة قال الطيبي هذا الحديث مخالف لما كان عليه من شيمته صلى الله عليه وسلم كيف وقد أخرج التمني ومن ثم صرح أبو داود بكونه منكرا ذكره القاري (وأيوب) أي المذكور في الإسناد وهذه العبارة أي قوله قال أبو داود إلى قوله ليس هو السختياني ليست في بعض النسخ ولم ينبه عليها المزي في الأطراف بل أورد الحديث في ترجمة أيوب السختياني ورقم عليه علامة أبي داود وابن ماجه وكذا لم يذكرها المنذري في مختصره ففي ثبوت هذه الزيادة في نفسي شئ وأيوب هذا الذي في الإسناد روى عن نافع وروى عنه حسين بن واقد والراوي عن نافع الذي اسمه أيوب هو ثلاثة رجال الأول أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني وروى عن نافع وعنه شعبة والسفيانان والحمادان هو ثقة ثبت حجة والثاني أيوب بن موسى بن عمرو الأموي الفقيه روى عن نافع عنه شعبة والليث وعبد الوارث وغيرهم هو ثقة
[ 214 ]
والثالث أيوب بن وائل روى عن نافع وعنه حماد بن زيد وأبو هلال قال الأزدي مجهول وقال البخاري لا يتابع على حديثه والله أعلم قال المنذري وأخرجه ابن ماجه 39 في أكل الجبن في القاموس الجبن بالضم وبضمتين وكعتل معروف والمراد بقوله كعتل أي بضمتين وتشديد النون على وزن عتل والجبن في الفارسية بنير (بجبنة) قال القاري أي القرص من الجبن كذا قيل والظاهر أن المراد بها قطعة من الجبن (في تبوك) بغير صرف وقد يصرف (فسمى وقطع) بتخفيف الطاء ويجوز تشديدها قال الطيبي فيه دليل على طهارة الأنفحة لأنها لو كانت نجسة لكان الجبن نجسا لأنه لا يحصل إلا بها قال المنذري قال أبو حاتم الرازي الشعبي لم يسمع من ابن عمر وذكر غير واحد أنه سمع من سمع من ابن عمر أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الشعبي عن ابن عمرو فيه قاعدت ابن عمر سنتين أو سنة ونصفا وفي إسناد حديث بن عمر في الجبنة إبراهيم بن عيينة أخو سفيان بن عيينة قال أبو حاتم الرازي شيخ يأتي بالمناكير وسئل أبو داود السجستاني عن إبراهيم بن عيينة وعمران ابن عيينة ومحمد بن عيينة فقال كلهم صالح وحديثهم قريب من قريب 40 في الخل (نعم الإدام الخل) في بعض النسخ نعم الأدم قال النووي الإدام بكسر الهمزة ما
[ 215 ]
يؤتدم به يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال وجمع الإدام أدم بضم الهمزة والدال كإهاب وأهب وكتاب وكتب والأدم بسكون الدال مفرد كالأدام سعيد قال الخطابي في المعالم معنى هذا الكلام مدح الاقتصاد في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة كأنه يقول ائتدموا بالخل وما كان في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن انتهى ونقل النووي كلام الخطابي هذا ثم قال والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه وأما الاقتصاد في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر والله أعلم انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه (عن طلحة بن نافع عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم الإدام الخل) لأنه أقل مؤنة وأقرب إلى القناعة ورواه ابن ماجه عن أم سعد وزاد اللهم بارك في الخل وفي رواية له فإنه كان إدام الأنبياء وفي رواية له لم يفتقر بيت فيه خلقال بكر المنذري وأخرجه مسلم والنسائي 41 في أكل الثوم قد (من أكل ثوما أو بصلا) أي غير مطبوخين (فليعتزلنا) أي ليبعد عنا (أو ليعتزل مسجدنا) فإنه مع أنه مجمع المسلمين فهو مهبط الملائكة المقربين والشك من الراوي قال بعض العلماء النهي عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وحجة الجمهور رواية فلا يقربن مساجدنا فإنه صريح في العموم (وإنه أتى ببدر) بفتح الموحدة وهو الطبق سمي بذلك لاستدارته تشبيها له بالقمر عند كماله وفسره به ابن وهب راوي الحديث كما في اخر الحديث (فيه خضرات) بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين جمع خضرة ويروى بضم الخاء وفتح الضاد جمع خضرة (من
[ 216 ]
البقول) من للبيان (قربوها) أي الخضرات (إلى بعض أصحابه) قال الكرماني فيه النقل بالمعنى إذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقله بهذا اللفظ بل قال قربوها إلى فلان مثلا أو فيه حذف أي قال قربوها مشيرا أو أشار إلى أصحابه والمراد بالبعض أبو أيوب الأنصاري ففي صحيح مسلم من حديث أبي أيوب في قصة نزول النبي صلى الله عليه وسلم قال فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فإذا جئ به إليه أي بعد أن يأكل النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم فصنع ذلك مرة فقيل له لم يأكل وكان الطعام فيه ثوم فقال أحرام هو يارسول الله قال لا ولكن أكرهه (كان) أي البعض (معه) أي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت (فإني أناجي من لا تناجي) أي الملائكة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (أشد ذلك كله الثوم) أي في الريح والنتن (كلوه ومن أكله الخ) فيه جواز أكل الثوم والبصل إلا أن من أكليكره له حضور المسجد والحديث سكت عنه المنذري (عن زر بن حبيش) بكسر الزاي وتشديد الراء وحبيش بمهملة وموحدة مصغرا (من تفل) بمثناة وفاء أي بصق (تجاه القبلة) أي جانب القبلة في القاموس وجاهك تجاهك مثلثين تلقاء وجهك (تفله) بفتح المثناة وسكون الفاء أي بصاقه والجملة حالية (من هذه البقلة الخبيثة) أي الثوم والبصل والكراث وخبثها من كراهة طعمها ورائحتها لأنها طاهرة قاله في المجمع (فلا يقربن مسجدنا ثلاثا) أي قال هذه الكلمة ثلاثا والحديث سكت عنه المنذري
[ 217 ]
(فلا يقربن المساجد) فيه دليل على أن النهي عام لكل مسجد وليس خاصا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم والحديث سكت عنه المنذري (وقد سبقت) على البناء للمجهول (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا) ليس في هذا تقييد النهي بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلى العيد والجنازة ومكان الوليمة وقد ألحقها بعضهم بالقياس والتمسك بهذا العموم أولى لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها وهذا هو الأظهر وإلا لعم النهي كل مجمع كالأسواق ويؤيد هذا البحث قوله في حديث أبي سعيد عند مسلم من أكل من هذه الشجرة شيئا فلا يقربنا في المسجد قال القاضي ابن العربي ذكر الصفة في الحكم يدل على التعليل بها ومن ثم رد على المازري حيث قال لو أن جماعة مسجد أكلوا كلهم ما له رائحة كريهة لم يمنعوا منه بخلاف ما إذا أكل بعضهم لأن المنع لم يختص بهم بل بهم وبالملائكة وعلى هذا يتناول المنع من تناول شيئا من ذلك ودخل المسجد مطلقا ولو كان وحده كذا أفاد الحافظ في الفتح (في كم قميص) الكم بالضم وتشديد الميم مدخل اليد ومخرجها من الثوب (فإذا أنا معصوب الصدر) كان من عادتهم إذا جاع أحدهم أن يشد جوفه بعصابة وربما جعل تحتها حجرا كذا في النهاية قال المنذري في إسناده أبو هلال محمد بن سليم المعروف بالراسبي وفي وقد تكلم فيه غير واحد
[ 218 ]
(إن كنتم لا بد آكلوهما) وفي بعض النسخ آكليهما وهو الظاهر لأنه خبر كنتم قال في القاموس بدده تبديدا فرقه ولا بد لا فراق ولا محالة انتهى وخبر لا محذوف والجملة معترضة (فأميتوهما طبخا) أي أزيلوا رائحتهما بالطبخ والحديث سكت عنه المنذري (نهى) بصيغة المجهول (عن أكل الثوم إلا مطبوخا) قال القاري هذا الحديث يفيد تقييد ما ورد من الأحاديث المطلقة في النهي (قال أبو داود شريك ابن حنبل) أي شريك المذكور في الإسناد هو ابن حنبل قال المنذري وأخرجه الترمذي قال وقد روى هذا عن علي قوله وقال ليس إسناده بذاك القوي قال أخبرنا أي بقية بن الوليد والمعنى أن إبراهيم بن موسى قال أخبرنا بقية وقال حيوة حدثنا بقية (إن آخر طعام أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام فيه بصل) أي مطبوخ بشهادة الطعام لأنه الغالب فيه قال ابن الملك قيل إنما أكل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في آخر عمره ليعلم أن النهي للتنزية لا للتحريم ذكره القاري وأحاديث الباب تدل على جواز أكل الثوم والبصل مطبوخا كان أو غير مطبوخ لمن قعد في بيته وكراهة حضور المسجد وريحه موجود لئلا يؤذي بذلك من يحضره من الملائكة وبني آدم وقد ألحق الفقهاء بالثوم والبصل ما في معناهما من البقول الكريهة الرائحة كالفجل قال الحافظ وقد ورد فيه حديث في الطبراني قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال
[ 219 ]
42 في التمر (أخذ كسرة) بكسر فسكون أي قطعة (وقال هذه) أي التم (إدام هذه) أي الكسرة قال الطيبي لما كان التمر طعاما مستقلا ولم يكن متعارفا بالأدومة كل أخبر أنه صالح لها قال المنذري وأخرجه الترمذي وقد اختلف في يوسف هذا فقال البخاري له صحبة وقال أبو حاتم الرازي ليست له صحبة له رؤية وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري ومن التابعين المخضرمين طبقة ولدوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمعوا منه منهم يوسف بن عبد الله بن سلام انتهى وفي أسماء رجال المشكاة ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل إليه وأقعد في حجره وسماه يوسف ومسح رأسه ومنهم من يقول له روية ولا رواية له عداده في أهل المدينة انتهى قال بعض العلماء وإطلاق رواية أبي داود من غير أن يقول مرسلا يدل على أن له رواية مع أن مرسل الصحابي حجة إجماعا والله أعلم (بيت لا تمر فيه جياع أهله) جياع بكسر الجيم جمع جائع قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي لأن التمر كان قوتهم فإذا خلا منه البيت جاع أهله وأهل كل بلدة بالنظر إلى قوتهم يقولون كذلك وقال الطيبي لعله حث على القناعة في بلاد كثر فيها التمر أي من قنع به لا يجوع وقيل هو تفضيل للتمر والله تعالى أعلم كذا في فتح الودود قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه
[ 220 ]
43 في تفتيش التمر المسوس عند الأكل المسوس اسم مفعول من ساس الطعام يساس سوسا بالفتح أي وقع فيه السوس بالضم وهو دود يقع في الصوف والطعام (أتي) على البناء للمجهول (بتمر عتيق) أي قديم (فجعل يفتشه يخرج السوس منه) فيه كراهة أكل ما يظن فيه الدود بلا تفتيش قاله في فتح الودود وفيه أن الطعام لا ينجس بوقوع الدود فيه ولا يحرم أكله قال القاري وروى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عمر مرفوعا نهى أن يفتش التمر عما فيه فالنهي محمول على التمر الجديد دفعا للوسوسة أو فعله محمول على بيان الجواز وأن النهي للتنزية قال المنذري وأخرجه ابن ماجه (كان يؤتى بالتمر فيه دود فذكر معناه) أي معنى الحديث المذكور قال المنذري هذا مرسل باب الإقران في التمر عند الأكل الإقران ضم تمرة إلى تمرة لمن أكل مع جماعة
[ 221 ]
(عن جبلة) بفتح الجيم والموحدة الخفيفة (بن سحيم) بمهملتين مصغرا (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإقران) قال الحافظ في فتح الباري قال النووي اختلفوا في أن هذا النهي على التحريم أو على الكراهة والأدب والصواب التفصيل فإن كان الطعام مشتركا بينهم فالقران حرام إلا برضاهم ويحصل الرضى بتصريحهم به أو بما يقوم مقامه من قرينة حال بحيث يغلب على الظن ذلك فإن كان الطعام لغيرهم حرم وإن كان لأحدهم وأذن لهم في أكل اشترط رضاه ويحرم لغيره ويجوز له هو إلا أنه يستحب أن يستأذن الآكلين معه وحسن للمضيف أن لا يقرن ليساوي ضيفه إلا إن كان الشئ كثيرا يفضل عنهم مع أن الأدب في الأكل مطلقا ترك ما يقتضي الشره إلا أن يكون مستعجلا يريد الإسراع لشغل آخر وذكر الخطابي أن شرط هذا الاستئذان إنما كان في زمنهم حيث كانوا في قلة من الشئ فأما اليوم مع اتساع الحال فلا يحتاج إلى الإستئذان وتعقبه النووي بأن الصواب التفصيلي لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كيف وهو غير ثابت وقد أخرج ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ وهو في مسند البزار من طريق ابن بريدة عن أبيه رفعه كنت نهيتكم عن القران في التمر وأن الله وسع عليكم فأقرنوا فلعل النووي أشار إلى هذا الحديث فإن في إسناده ضعفا قال الحازمي حديث النهي أصح وأشهر انتهى مختصرا (إلا أن تستأذن أصحابك) مفعول أي الذين اشتركوا معك في ذلك الثمر فإذا أذنوا جاز لك الإقران وفي رواية الشيخين عن طريق شعبة إلا أن يستأذن الرجل أخاه قال شعبة لا أرى هذه الكلمة إلا من كلمة ابن عمر يعني الاستئذان
[ 222 ]
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه 45 في الجمع بين اللونين عند الأكل (كان يأكل القثاء بالرطب) قال في المصباح القثاء بكسر القاف وتشيد الثاء المثلثة ويجوز ضم القاف وهو اسم جنس لما يقوله الناس الخيار وبعض الناس يطلق القثاء على نوع يشبه الخيار وهو مطابق لقول الفقهاء لو حلف لا يأكل الفاكهة حنث بالقثاء والخيار وهو يقتضي أن يكون نوعا غيره فتفسير القثاء بالخيار تسامح انتهى ووقع في رواية الطبراني كيفية أكله لهما فأخرج الأوسط من حديث عبد الله بن جعفر قال رأيت في يمين النبي صلى الله عليه وسلم قثاء وفي شماله رطبا وهو يأكل من ذا مرة ومن ذا مرة وفي سنده ضعف كذا في فتح الباري قال النووي فيه جواز أكلهما معا والتوسع في الأطعمة ولا خلاف بين العلماء في جوار هذا وما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمحمول على كراهة اعتياد التوسع والترفه والإكثار منه لغير مصلحة دينيه انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه (سعيد بن نصير) بضم النون مصغرا (يأكل البطيخ) وفي بعض النسخ الطبيخ بتقديم الطاء على الموحدة قال الخطابي هي لغة في البطيخ (فيقول نكسر حر هذا) أي الرطب (ببرد هذا) أي البطيخ (وبرد هذا) أي البطيخ (بحر هذا) أي الرطب قال بعض العلماء المراد بالبطيخ في الحديث الأخضر واعتل بأن في الاصفر حرارة كما في الرطب وقد ورد التعليل بأن أحدهما يطفئ حرارة الآخر وقال الحافظ ابن حجر المراد به الأصفة بدليل ورود الحديث بلفظ الخربز قال وكان يكثر وجوده بأرض الحجاز بخلاف البطيخ الأخضر وأجاب عما قال البعض بأن في الأصفر بالنسبة للرطب برودة وإن كان فيه لحلاوته طرف حرارة والحديث الذي أشار إليه الحافظ أخرجه النسائي بسند صحيح عن حميد عن أنس
[ 223 ]
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرطب والخربز وهو بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاي نوع من البطيخ الأصفر قاله الحافظ قال الخطابي فيه إثبات الطب والعلاج ومقابلة الشئ الضار بالشئ المضاد له في طبعه على مذهب الطب والعلاج انتهى قال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد جاء في البطيخ عدة أحاديث لا يصح منها شئ غير هذا الحديث الواحد قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي مختصرا وقال الترمذي حسن غريب (وليد بن مزيد) بفتح وسكون الزاي وفتح التحتانية (حدثني سليم بن عامر) بالتصغير (عن ابني بسر السلميين) بضم السين المهملة وفتح اللام المخففة وكسر الميم وفتح الياء الأولى المشددة وسكون الثانية المخففة وهما عطية وعبد الله واسم أبيهما بسر بضم الموحدة وسكون السين (فقدمنا زبدا وتمرا) أي قربناهما % إليه قال في المصباح زبد على وزن قفل ما يستخرج بالمخض من لبن البقر والغنم وأما لبن الإبل فلا يسمى ما يستخرج منه زبدا بل يقال له جناب والزبدة أخص من الزبد انتهى وفي الصراح زبد بالضم كفك وسرشير فلا زبدة مسكه قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وذكر عن محمد بن عوف أنهما عبد الله وعطية 46 في استعمال آنية أهل الكتاب (عن برد بن سنان) بضم الموحدة وسكون الراء (فلا يعيب) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذلك)
[ 224 ]
أي استمتاعنا بآنية المشركين وأسقيتهم (عليهم) فيه التفات أي علينا قال الخطابي ظاهر هذا يبيح استعمال آنية المشركين على الإطلاق من غير غسل لها وتنظيف وهذه الإباحة مقيده بالشرط الذي هو مذكور في الحديث الذي يليه من هذا الباب انتهى قلت الحديث رواه البزار أيضا وفي روايته فنغسلها ونأكل فيها ذكره الحافظ في الفتح والحديث سكت عنه المنذري (أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زبر) بفتح الزاي وسكون الوحدة (مسلم ابن مشكم) بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وهو بدل من أبي عبيد الله (إنا نجاوز) بالزاي المعجمة أي نمر وفي بعض النسخ بالراء المهملة (فأرحضوها) أي اغسلوها قال الخطابي الرحض الغسل والأصل في هذا أنه إذا كان معلوما من حال المشركين أنهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد الغسل والتنظيف فأما ثيابهم ومياههم فإنها على الطهارة كمياه المسلمين وثيابهم إلا أن يكونوا من قوم لا يتحاشون النجاسات أو كان من عاداتهم استعمال الأبوال في طهورهم فإن استعمال ثيابهم غير جائز إلا أن يعلم أنها لم يصبها شئ من النجاسات انتهى كلام الخطابي وقال المنذري وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم أهل الكتاب تأكلون في آنيتهم فإن وجدتم غير انيتهم فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها الحديث وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجه بنحوه باب في دواب البحر) جمع دوابه
[ 225 ]
47 (نتلقى عيرا) بكسر العين هي الإبل التي تحمل الطعام وغيره (زودنا) أي جعل زادنا (جرابا) بكسر الجيم وفتحها والكسر أفصح وعاء من جلد (كنا نمصها) بفتح الميم وضمها والفتح أفصح (بعصينا) بكسر المهملتين وتشديد الياء جمع عصا (الخبط) بفتحتين ورق الشجر الساقط بمعنى المخبوط (ثم نبله) أي الخبط (كهيئة الكثيب) بالثاء المثلثة وهو الرمل المستطيل المحدوب (الضخم) أي العظيم (تدعى العنبر) هي سمكة كبيرة يتخذ من جلدها الترس (فقال أبو عبيدة ميتة) أي هذه ميتة (ثم قال لا إلخ) المعنى أن أبا عبيدة رضي الله عنه قال أولا باجتهاده إن هذا ميتة والميتة حرام فلا يحل أكلها ثم تغير اجتهاده فقال بل هو حلال لكم وإن كان ميتة لأنكم في سبيل الله وقد اضطررتم وقد أباح الله تعالى الميتة لمن كان مضطرا فكلوا فأكلوا وأما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من لحمه وأكله ذلك فإنما أراد به المبالغة في تطييب نفوسهم في حله وأنه لا شك في إباحته وأنه يرتضيه لنفسه أو أنه قصد التبرك به لكونه طعمة من الله تعالى خارقة للعادة كرمهم الله بها قال الإمام الخطابي في معالم السنن فيه دليل على أن دواب البحر كلها مباحة وأن ميتتها حلال ألا تراه يقول فهل معكم من لحمه شئ فتطعمونا فأرسلنا إليه فأكل وهذا حال فاهية لا حال ضرورة وقد روي عن أبي بكر الصديق أنه قال كل دابة في البحر فقد ذبحها لله لكم وذكاها لكم وقد روي عن محمد بن على أنه قال كل ما في البحر ذكي وكان لأوزاعي يقول كل شئ كان عيشه في الماء فهو حلال قيل فالتمساح منه قال نعم وغالب مذهب الشافعي إباحة دواب البحر كلها إلا الضفدع لما جاء في النهي عن قتلها وكان أبو ثور
[ 226 ]
يقول جميع ما يأوي إلى الماء فهو حلال فما كان منه يذكى لم يحل إلا بذكاة وما كان منه لا يذكى مثل السمك حل حيا وميتا وكره أبو حنيفة دواب البحر كلها إلا السمك وقال سفيان الثوري أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس وقال ابن وهب سألت الليث بن سعد عن أكل خنزير الماء وكلب الماء وإنسان الماء ودواب الماء كلها فقال أما إنسان الماء فلا يؤكل على شئ من الحالات والخنزير إذا سماه الناس خنزيرا فلا يؤكل وقد حرم الله تعالى الخنزير وأما الكلاب فليس بها بأس في البحر والبر قال الخطابي لم يختلفوا أن المارما هي مباح أكله وهو يشبه الحيات وتسمى أيضا حية البحر فدل ذلك على بطلان اعتبار معنى الأسماء والأشباه في حيوان البحر وإنما هي كلها سموك وإن اختلفت أشكالها وصورها وقد قال الله سبحانه وتعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة فدخل فيه ما يصاد من حيوانه لأنه لا يخص منه شئ إلا بدليل وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال طهور ماؤه حلال ميتته فلم يستثن شيئا منها دون شئ فقضية العموم توجب فيها الإباحة إلا ما استثناه الدليل انتهى كلام الخطابي قال المنذري وأخرجه مسلم باب في الفأرة تقع في السمن (أخبرنا سفيان) هو ابن عيينة وهكذا أي ألقوا ما حولها وكلوا أورده أكثر أصحاب ابن عيينة عنه كالحميدي ومسدد وغيرهما ووقع في مسند إسحاق ابن راهويه ومن طريقه أخرجه ابن حبان بلفظ إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوه وإن كان ذائبا فلا تقربوه قال في الفتح وهذه الزيادة في رواية ابن عيينة غريبة انتهى (ألقوا ما حولها) أي ما حول الفأرة قيل هذا إنما يكون إذا كان جامدا وأما في المذاب فالكل حولها
[ 227 ]
قال الحافظ وقد تمسك ابن العربي بقوله وما حولها على أنه كان جامدا قال لأنه لو كان مائعا لم يكن له حول لأنه لو نقل من أي جانب مهما نقل لخلفه غيره في الحال فيصير مما حولها فيحتاج إلى إلقائه كله قال وقد وقع عند الدارقطني من رواية يحيى القطان عن مالك في هذا الحديث فأمر أن يقور ما حولها فيرمى به وهذا أظهر في كونه جامدا من قوله وما حولها فيقوى ما تمسك به ابن العربي
[ 228 ]
واستدل بحديث الباب لإحدى الروايتين عن أحمد أن المائع إذا حلت فيه النجاسة لا ينجس إلا بالتغيير وهو اختيار البخاري وقول ابن نافع من المالكية وحكي عن مالك وقد أخرج أحمد عن إسماعيل بن علية عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن فأرة ماتت في سمن قال تؤخذ الفأرة وما حولها فقلت إن أثرها كان في السمن كله قال إنما كان وهي حية وإنما ماتت حيث وجدت ورجاله رجال الصحيح وأخرجه أحمد من وجه آخر وقال فيه عن جرفيه : زيت وقع فيه جرز وفيه أليس جال في
[ 229 ]
الجر كله قال إنما جال وفيه الروح ثم استقر حيث مات وفرق الجمهور بين المائع والجامد كذا قال الحافظ وأطال الكلام في الفتح قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي (وإن كان مائعا فلا تقربوه) به أخذ في الجامد والمائع أن المائع ينجس كله دون الجامد وخالف في المائع جمع منهم الزهري والأوزاعي
[ 230 ]
قال الخطابي اختلف الناس في الزيت إذا وقعت فيه نجاسة فذهب نفر من أصحاب الحديث إلى أنه لا ينتفع به على وجه من الوجوه كلها لقوله فلا تقربوه واستدلوا فيه أيضا بما روي في بعض الأخبار أنه قال أريقوه وقال أبو حنيفة هو نجس لا يجوز أكله وشربه ويجوز بيعه والاستصباح به قال الشافعي لا يجوز أكله ولا بيعه ويجوز الاستصباح به قال المنذري وذكر الترمذي معلقا وقال وهو حديث غير محفوظ سمعت محمد بن
[ 231 ]
إسماعيل يعني البخاري يقول هذا خطأ قال والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة يعني الحديث الذي قبله 49 في الذباب يقع في الطعام (إذا وقع الذباب) قيل سمي به لأنه كلما ذب آب فامقلوه) بضم القاف أي اغموه غير في الطعام أو الشراب والمقل الغمس (وفي الآخر شفاء) بكسر الشين وفي بعض النسخ مكانه دواء (وإنه يتقي بجناحه الذي فيها الداء) أي إنه يقدم بجناحه يقال اتقى بحق عمر إذا استقبله به وقدمه إليه ويجوز أن يكون معناه إنه يحفظ نفسه بتقديم ذلك الجناح من أذية تلحقه من حرارة ذلك الطعام ذكره ابن الملك (فليغمسه) أي كل الذباب ليتعادل داؤه ودواؤه والحديث دليل طاهر على جواز قتله دفعا لضرره وأنه يطرح ولا يؤكل وأن الذباب إذا مات في ماء فإنه لا ينجسه لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه ومعلوم أنه يموت من ذلك ولا سيما إذا كان الطعام حارا فلو كان ينجسه لكان أمرا بإفساد الطعام وهصلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه ثم أدى هذا الحكم إلى كل مالا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك قال المنذري وأخرجه البخاري وابن ماجه بنحوه من حديث عبيد بن حنين عن أبي هريرة وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري
[ 232 ]
50 في اللقمة تسقط أحمد (لعق أصابعه الثلاث) فيه استحباب لعق الأصابع محافظة على بركة الطعام وتنظيفا لها (فليمط) من الإماطة أي فليزل (عنها) أي اللقمة (الأذى) أي المستقذر من غبار وتراب وقذى ونحو ذلك (وليأكلها ولا يدعها للشيطان) فيه استحباب أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها هذا إذا لم تقع على موضع نجاسة فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولا بد من غسلها إن أمكن فإن تعذر أطعمها حيوانا ولا يتركها للشيطان (وأمرنا أن نسلت الصحفة) أي نمسحها ونتتبع ما بقي فيها من الطعام يقال سلت الصحفة يسلتها من باب نصر ينصر إذا تتبع ما بقي فيها من الطعام ومسحها بالأصبع ونحوها (إن أحدكم لا يدري في أي طعامه يبارك له) أي أن الطعام الذي يحضر الإنسان فيه بركة ولا يدري أن تلك البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة فينبغي أو يحافظ على هذا كله لتحصل البركة وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والإمتناع به قال النووي والمراد هنا والله أعلم ما تحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة الله وغير ذلك قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي 51 في الخادم يأكل مع المولى (إذا صنع) أي طبخ (خادمه) أي عبده أو أمته أو مطلقا (به) أي بالطعام (وقد ولي) بكسر
[ 233 ]
اللام المخففة أي والحال أنه قد تولى أو قرب (حره) أي ناره أو تعبه (ودخانه) تخصيص بعد تعميم أو الأول مخصوص ببعض الجوارح والثاني ببعض آخر (فليقعده معه) أمر من اقعاد للاستحباب (فليأكل) أي معه ولا يستنكف كما هو دأب الجبابرة فإنه أخوه والمعنى أنه قاسى كلفة اتخاذه وحملها عنك فينبغي أن تشاركه في الحظ منه (فإن كان الطعام مشفوها) أي قليلا قال الخطابي المشفوه القليل وقيل له مشفوه بعد لكثرة الشفاه التي تجتمع على أكله (فليضع) أي المخدوم (في يده) أي يد الخادم (منه) أي من الطعام (أكلة أو أكلتين) أو للتنويع أو بمعنى بل وسببه أن لا يصير محروما فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله والأكلة بضم الهمزة ما يؤكل دفعة وهو اللقمة في القاموس والنهاية الأكلة بالضم اللقمة المأكولة وبالفتح المرة من الأكل وفي الحديث الحث على مكارم الأخلاق والمواساة في الطعام لا سيما في حق من صنعه أو حمله لأنه ولي حره ودخانه وتعلقت به نفسه وشم رائحته وهذا كله محمول على الاستحباب قال المنذري وأخرجه مسلم 52 في المنديل بكسر الميم ما يحمل في اليد للوسخ والامتهان (حتى يلعقها) بفتح الياء والعين أي يلعقها هو (أو يلعقها) بضم الياء وكسر العين أي يلعقها غيره ممن لم يتقذره كالزوجة والجارية والولد والخادم لأنهم يتلذذون بذلك وفي معناهم التلميذ ومن يعتقد التبرك بلعقها ذكره النووي وفي الحديث جواز مسح اليد بالمنديل لكن السنة أن يكون بعد لعقها قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وليس في حديثهم ذكر المنديل وأخرج مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه
[ 234 ]
(كان يأكل بثلاث أصابع) فيه أن السنة الأكل بثلاث أصابع ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقا وغيره مما لا يمكن بثلاث قاله النووي وقال الحافظ يؤخذ من حديث كعب بن مالك أن السنة الأكل بثلاث أصابع وإن كان الأكل بأكثر منها جائزا وقد أخرج سعيد بن منصور من مرسل ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أكل بخمس فيجمع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال انتهى قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وفي بعض طرق مسلم أن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أو عبد الله بن كعب بن مالك أخبره عن أبيه 53 ما يقول إذا طعم أي إذا فرغ من الطعام قال ابن بطال اتفقوا على استحباب الحمد بعد الطعام ووردت في ذلك أنواع يعني لا يتعين شئ منها (إذا رفعت المائدة) أي من بين يديه وقد ثبت في الحديث الصحيح برواية أنس رضي الله عنه إنه صلى الله عليه وسلم لم يأكل على خوان قط والمائدة هي خوان عليه طعام فأجاب بعضهم بأن أنسا ما رأى ذلك وراه غيره والمثبت يقدم على النافي قال في الفتح وقد تطلق المائدة ويراد بها نفس الطعام وقد نقل عن البخاري أنه قال إذا أكل الطعام على شئ ثم رفع قيل رفعت المائدة انتهى قلت والتحقيق في ذلك أن المائدة هي ما يبسط للطعام سواء كان من ثوب أو جلد أو حصير أو خشب أو غير ذلك فالمائدة عام لها أنواع منها السفرة ومنها الخوان وغيره فالخوان بضم الخاء يكون من خشب وتكون تحته قوائم من كل جانب والأكل عليه من دأب المترفين لئلا يفتقر إلى التطاطؤ والانحناء فالذي نفي بحديث أنس هو الخوان الذي أثبت هو نحو السفرة وغيره والله أعلم
[ 235 ]
(طيبا) أي خالصا من الرياء والسمعة (مباركا) بفتح الراء هو وما قبله صفات لحمدا مقدرا (فيه) الضمير راجع إلى الحمد أي حمدا ذا بركة دائما لا ينقطع لأن نعمه لا تنقطع عنا فينبغي أن يكون حمدنا غير منقطع أيضا ولو نية واعتقادا (غير مكفي) بنصب غير ورفعه ومكفى بفتح الميم وسكون الكاف وتشديد التحتية من كفأت أي غير مردود ولا مقلوب والضمير راجع إلى الطعام الدال عليه السياق أو هو من الكفاية فيكون من المعتل يعني أنه تعالى هو المطعم لعباده والكافي لهم فالضمير راجع إلى الله تعالى قال العيني هو من الكفاية وهو اسم مفعول أصله مكفوى على وزن مفعول فلما اجتمعت الواو والياء قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء ثم أبدلت ضمة الفاء كسرة لأجل الياء والمعنى هذا الذي أكلناه ليس فيه كفاية عما بعده بحيث ينقطع بل نعمك مستمرة لنا طول أعمارنا غير منقطعة وقيل الضمير راجع إلى الحمد أي أن الحمد غير مكفي الخ كذا قال القسطلاني في شرح البخاري (ولا مودع) بفتح الدال الثقيلة أي غير متروك ويحتمل كسرها على أنه حال من القائل أي غير تارك (ولا مستغنى عنه) بفتح النون وبالتنوين أي غير مطروح ولا معرض عنه بل محتاج إليه (ربنا) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو على أنه مبتدأ وخبر مقدم عليه ويجوز النصب على المدح أو الاختصاص أو إضمارا عني قال ابن التين ويجوز الجر على أنه بدل من الضمير في عنه وقال غيره على البدل من الاسم في قوله الحمدلله وقال ابن الجوزى ربنا بالنصب على النداء مع حذف أداة النداء قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه (عن أبيه غيره) شك من الراوي (وجعلنا مسلمين) أي موحدين منقادين لجميع أمور الدين وفائدة الحمد بعد الطعام أداء شكر المنعم وطلب زيادة النعمة لقوله تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم وفيه استحباب تجديد حمد الله عند تجدد النعمة من حصول ما كان الإنسان يتوقع حصوله واندفاع ما كان يخاف وقوعه ثم لما كان الباعث هنا هو الطعام ذكره أولا لزيادة الاهتمام به وكان السقي من تتمته لكونه مقارنا له في التحقيق غالبا ثم استطرد من ذكر
[ 236 ]
النعمة الظاهرة إلى النعم الباطنة فذكر ما هو أشرفها وختم به لأن المدار على حسن الخاتمة مع ما فيه من اشارة إلى كمال الانقياد في الأكل والشرب وغيرهما قدرا ووصفا ووقتا احتياجا واستغناء بحسب ما قدره وقضاه كذا قال القاري في المرقاة قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وذكره البخاري في تاريخه الكبير وساق اختلاف الرواة فيه (عن أبي عبد الرحمن الحبل) بضم المهملة والموحدة اسمه عبد الله بن يزيد وثقه ابن معين (إذا أكل وشرب) قال القاري في شرح المشكاة الظاهر أن أو بمعنى الواو كما نسخه أي إذا جمع بينهما (قال الحمدالله الذي أطعم وسقى) لعل حذف المفعول لإفادة العموم (وسوغه) بتشديد الواو أي سهل دخول كل من الطعام والشراب في الحلق (وجعل له) أي لكل منهما (مخرجا) أي من السبيلين فتخرج منهما الفضلة فإنه تعالى جعل للطعام مقاما في المعدة زمانا كي تنقسم مضاره ومنافعه فيبقى ما يتعلق باللحم والدم والشحم ويندفع باقيه وذلك من عجائب مصنوعاته ومن كمال فضله ولطفه بمخلوقاته فتبارك الله أحسن الخالقين وقال الطيبي رحمه الله ذكر ها هنا نعما أربعا الطعام والسقي والتسويغ وهو تسهيل الدخول في الحلق فإنه خلق الأسنان للمضغ والريق للبلع وجعل المعدة مقسما للطعام لها مخارج فالصالح منه ينبعث إلى الكبد وغيره يندفع من طريق الأمعاء كل ذلك فضل من الله الكريم ونعمة يجب القيام بمواجبها من الشكر بالجنان والبث باللسان والعمل بالأركان قال المنذري وأخرجه النسائي 54 في غسل اليد من الطعام (وفي يده غمر) بفتحتين أي دسم ووسخ وزهومة من اللحم (ولم يغسله) أي ذلك الغمر
[ 237 ]
(فأصابه شئ) أي وصله شئ من إيذاء الهوام وقيل أو من الجان لأن الهوام وذوات السموم ربما تقصده في المنام لرائحة الطعام في يده فتؤذيه وقيل من البرص ونحوه لأن اليد حينئذ إذا وصلت إلى شئ من بدنه بعد عرقه فربما أورث ذلك (فلا يلومن إلا نفسه) لأنه مقصر في حقه قال المنذري وأخرجه ابن ماجه وأخرجه الترمذي معلقا وأخرجه أيضا من حديث سعيد المقبرى عن أبي هريرة وقال غريب وأخرجه أيضا من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وقال حسن غريب 55 في الدعاء لرب الطعام إذا أكل عنده (فلما فرغوا) أي من أكل الطعام (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (أثيبوا أخاكم) من أثاب يثيب إثابة والاسم الثواب ويكون في الخير والشر والأول أكثر أي جازوه على صنيعه وكافئوه لأن (إن الرجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه) بالبناء للمفعول في الأفعال الثلاثة (فدعواله وقد) أي دعا له الآكلون (فذلك) أي الدعاء له (إثابتة علي) أي ثوابه وجزاؤه والحديث يدل على أنه يستحب للمدعو أن يدعو للداعي بعد الفراغ من الطعام قال المنذري وفيه رجل مجهول وفيه يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد المعروف بالدلاني وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه بعضهم
[ 238 ]
(فجاء) أي سعد بن عبادة (فأكل) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأكل طعامكم الأبرار) أي الأتقياء الصالحون (وصلت عليكم) أي دعت لكم والحديث سكت عنه المنذري وهذا آخر كتاب الأطعمة
[ 239 ]
35 اول الطب بتثليث الطاء المهملة قاله القسطلاني وهو علم يعرف به أحوال بدن الإنسان من الصحة والمرض قال في الفتح ونقل أهل اللغة أن الطب بالكسر يقال بالاشتراك للمداوي حتى وللتداوي وللداء أيضا فهو من الأضداد ويقال أيضا للرفق والسحر ويقال للشهوة ولطرائق ترى في شعاع الشمس وللحذق بالشئ والطبيب الحاذق في كل شئ وخص به المعالج عرفا والجمع في القلة أطبة وفي الكثرة أطباء والطب نوعان طب جسد وهو المراد هنا وطب قلب ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه سبحانه وتعالى وأما طب الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم ومنه ما جاء عن غيره وغالبه راجع إلى التجربة الرجل يتداوى (وأصحابه) الواو للحال (كأنما على رؤوسهم الطير) قال في النهاية وصفهم بالسكون والوقار وأنهم لم يكن فيهم طيش ولا خفة لأن الطير لا تكاد تقع إلا على شئ ساكن (أنتداوى) أي أنترك ترك المعالجة فنطلب الدواء إذا عرض الداء ونتوكل على خالق الأرض والسماء والاستفهام للتقرير قاله القاري (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (تداووا) قال في فتح الودود الظاهر أن الأمر للاباحة والرخصة وهو الذي يقتضيه المقام فإن السؤال كان عن الإباحة قطعا فالمتبادر في جوابه أنه بيان للاباحة ويفهم من كلام بعضهم أن
[ 240 ]
الأمر للندب وهو بعيد فقد ورد مدح من ترك الدواء والاسترقاء توكلا على الله نعم قد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانا للجواز فمن نوى موافقته صلى الله عليه وسلم يؤجر على ذلك (لم يضع) ألم يخلق (داء) أي مرضا وجمعه أدواء (إلا وضع له) أي خلق له (الهرم) بفتح الهاء والراء وهو بالجر على أنه بدل من داء وقيل خبر مبتدأ محذوف أي هو الهرم أو منصوب بتقدير أعني والمراد به الكبر قاله القاري وقال الخطابي في هذا الحديث إثبات الطب والعلاج وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس وفيه أنه جعل الهرم داء وإنما هو ضعف الكبر وليس هو من الأدواء التي هي أسقام عارضة للأبدان من قبل اختلاف الطبائع وتغير الأمزجة وإنما شبهه بالداء لأنه جالب التلف كالأدواء فإن التي قد يتعقبها الموت والهلاك انتهى قال العيني فيه إباحة التداوي وجواز الطب وهو رد على الصوفية أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء ولا يجوز له مداواته وهو خلاف ما أباحه الشارع انتهى وقال المنذري والحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح 2 في الحمية قال أصحاب اللغة هي بكسر الحاء وسكون الميم يقال حمى الشئ من الناس من باب ضرب يحميه حميا وحمية وحماية منعه عنهم وحمى المريض ما يضره أي منعه إياه متعديا إلى مفعولين والأشهر تعديه إلى الثاني بالحرف وبالفارسية رهيز عمر نمودن (أخبرنا أبو داود) أي الطيالسي (عن أم المنذر) قال الطبراني يقال إن اسمها سلمى قاله السيوطي (ومعه) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (وعلي ناقه) بالقاف المكسورة يقال نقه المريض ينقه فهو ناقه إذا برأ وأفاق فكان قريب العهد من المرض لم يرجع إليه كمال صحته وقوته (دوالي) جمع دالية وهي العذق من
[ 241 ]
البسر يعلق فإذا أرطب أكل (يأكل منها) أي من دوالي (فطفق) أي أخد وشرع (مه) اسم فعل بمعنى كف وانته وهو مبني على السكون (قالت) أي أم المنذر (وصنعت شعيرا) أي نفسه أو ماءه أو دقيقه (وسلقا) بكسر فسكون نبت يطبخ ويؤكل ويسمى بالفارسية جغندر النبي والمعنى وطبخت (فجئت به) أي المطبوخ والمصنوع (أصب) أمر من الإصابة أي أدرك من هذا قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فليح بن سليمان هذا آخر كلامه وفي قوله لا نعرفه إلا من حديث فليح بن سليمان نظر فقد رواه غير فليح ذكره الحافظ أبو القاسم الدمشقي 3 الحجامة (فالحجامة) أي فيها خير في المصباح حجمه الحاجم حجما من باب قتل شرطه واسم الصناعة حجامة بالكسر انتهى قال السندي في حاشية ابن ماجه التعليق بهذا الشرط ليس للشك بل للتحقيق والتحقيق أن وجود الخير في شئ من الأدوية فمن المحقق الذي لا يمكن فيه الشك فالتعليق به يوجب تحقق المعلق به بلا ريب انتهى قال المنذري والحديث أخرجه ابن ماجه وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن كان في شئ من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار وما أحب أن
[ 242 ]
أكتوى (خادم) يطلق على الذكر والأنثى (وجعا في رأسه) أي ناشئا من كثرة الدم (إلا قال) أي له (ولا وجعا في رجليه) أي ناشئا من الحرارة (أخضبهما) زاد البخاري في تاريخه بالحناء قاله في فتح الودود وقال القاري والحديث بإطلاقه يشمل الرجال والنساء لكن ينبغي للرجل أن يكتفي باختضاب كفوف الرجل ويجتنب صبغ الأظفار احترازا من التشبه بالنساء ما أمكن انتهى قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه مختصرا في الحناء وقال الترمذي حديث غريب إنما نعرفه من حديث فائد هذا آخر كلامه وفائد هذا مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع وقد وثقه يحي بن معين وقال الإمام أحمد وأبو حاتم الرازي لا بأس به وفي إسناده عبيد الله بن علي بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن معين لا بأس به وقال أبو يحيى الرازي لا يحتج بحديثه هذا آخر كلامه وقد أخرجه الترمذي من حديث علي بن عبيد الله عن جدته وقال وعبيد الله بن علي أصح وقال غيره علي بن عبيد الله بن أبي رافع لا يعرف بحال ولم يذكره أحد من الأئمة في كتاب وذكر بعده حديث عبيد الله بن علي بن أبي رافع هذا الذي ذكرناه وقال فانظر في اختلاف إسناده بغير لفظة هل يجوز لمن يدعي السنة أو ينسب إلى العلم أنه يحتج بهذا الحديث على هذا الحال ويتخذه سنة وحجة في خضاب اليد والرجل 4 في موضع الحجامة (قال كثير إنه) أي ابن ثوبان (حدثه) الضمير المنصوب إلى الوليد أي حدث ابن ثوبان وليدا ويوضحه رواية ابن ماجه حيث قال حدثنا محمد بن المصفى الحمصي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن أبي كبشة الأنماري (على هامته) أي رأسه وقيل وسط رأسه
[ 243 ]
أي للسم (وبين كتفيه) يحتمل أن يكون فعله هذا مرة وذاك مرة ويحتمل أن يكون جمعها (وهو يقول جملة حالية مؤيدة للجملة الفعلية (من أهراق) أي أراق وصب (من هذه الدماء) أي بعض هذه الدماء المجتمعة في البدن المحسوس آثارها على البشرة وهو المقدار الفاسد المعروف بعلامة يعلمها أهلها (أن لا يتداوى بشئ) أي آخر (لشئ) أي من الأمراض قال المنذري والحديث أخرجه ابن ماجه وفي إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وكان رجلا صالحا أثنى عليه غير واحد وتكلم فيه غير واحد وأبو كبشة الأنمارى اسمه عمر بن سعد وقيل سعد بن عمرو وقيل غير ذلك وهو بفتح الكاف وسكون الباء الموحدة وبعدها شين معجمة وتاء تأنيث (في الأخدعين) هما عرقان في جانبي العنق كذا في النهاية وفي النيل قال أهل اللغة الأخدعان عرقان في جانبي العنق يحجم منه والكاهل ما بين الكتفين وهو مقدم الظهر قال ابن القيم في زاد المعاد الحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه والأسنان والأذنين والعينين والأنف إذا كان حدوث ذلك من كثرة الدم أو فساده أو منهما جميعا قال والحجامة لأهل الحجاز والبلاد الحارة لأن دماءهم رقيقة وهي أميل إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة إلى سطح الجسد واجتماعها في نواحي الجلد ولأن مسام أبدانهم واسعة ففي الفصد لهم خطر انتهى (والكاهل) هو ما بين الكتفين (حتى كنت القن) بصيغة المجهول من التلقين يقال لقنه الكلام فهمه إياه وقال له من فيه مشافهة (وكان) أي معمر (احتجم على هامته) وكأنه أخطأ الموضع أو المرض قاله السندي وقال القاري الحجامة للسم وفعله معمر بغير سم وقد أضره انتهى قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب
[ 244 ]
5 متى تستحب الحجامة (من احتجم بسبع عشرة) قالوا الحكمة في ذلك أن الدم يغلب في أوائل الشهر ويقل في آخره فالأوسط يكون أولى وأوفق قاله في فتح الودود (وإحدى وعشرين) أي من هذه الأيام من الشهر (من كل داء) هذا من العام المراد به الخصوص والمراد كان شفاء من كل داء سببه غلبة الدم وهذا الحديث موافق لما أجمعت عليه الأطباء أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر أنفع مما قبله وفي الربع الرابع أنفع مما قبله كذا في النيل والحديث سكت عنه المنذري (كيسه) بمثناة تحتية مشددة وسين مهملة وهي الصواب قاله في فتح الودود (ويزعم) أي يقول ويروي (يوم الدم) أي يوم يكثر فيه الدم في الجسم وقيل معناه يوم كان فيه الدم أي قتل ابن آدم أخاه (وفيه) أي يوم الثلاثاء (ساعة لا يرقأ) بفتح الياء والقاف فهمزه أي لا يسكن الدم فيه والمعنى أنه لو احتجم أو اقتصد فيه لربما يؤدي إلى هلاكه لعدم انقطاع الدم والله أعلم هذا الحديث في أكثر النسخ تحت هذا الباب وهكذا أورده المنذري في تخريجه قال المنذري في إسناده أبو بكرة بن عبد العزيز بن أبي بكرة قال يحي بن معين ليس حديثه بشئ وقال ابن عدى ارجو أنه لا بأس به وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم انتهى وقال السيوطي وهذا الحديث أورده ابن الجوزى في الموضوعات وقد تعقبته فيما تعقبة عليه وبكار بن عبد العزيز استشهد له البخاري في صحيحه وروى له في الأدب وقال ابن معين صالح
[ 245 ]
6 في قطع العرق وإن العرق بكسر العين وسكون الراء من الحيوان الأجوف الذي يكون فيه الدم والعصب غير الأجوف كذا في النهاية (وموضع الحجم) عطف على قطع أي باب في موضع الحجم بفتح الحاء وسكون مصدر والحجامة بالفتح الاسم من الحجم والحجامة بالكسر حرفة الحجام والمعنى أي باب موضع الحجامة من البدن (إلى أبي) ابن كعب (فقطع) الطبيب (منه) أي من أبي (عرقا) استدل بذلك على أن الطبيب يداوي بما ترجح عنده قال ابن رسلان وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالأخف لا ينتقل إلى ما فوقه فمتى أمكن التداوي بالغذاء لا ينتقل إلى الدواء ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب ومتى أمكن بالدواء لا يعدل إلى الحجامة ومتى أمكن بالحجامة لا يعدل إلى قطع العرق قال المنذري والحديث أخرجه مسلم وابن ماجه بنحو وقالا فيه أبي بن كعب (على وركه) بفتح الواو وكسر الراء وفي القاموس الورك بالفتح والكسر ككتف ما فوق الفخد (من وثئ) قال في المرقاة هو بفتح الواو وسكون المثلثة فهمز أي من أجل وجع يصيب العضو من غير كسر وقيل هو ما يعرض للعضو من جدر وقيل هو أن يصيب العظم وهن ومن الرواة من يكتبها بالياء وبترك الهمزة وليس بسديد وحاصله أنه ينبغي أن يجمع بين كتابة الياء والهمزة ولا يقرأ إلا بالهمزة أو يكتفي بالهمزة من غير كتابة الياء وهو أبعد من الاشتباه (كان) أي الوثء (به) صفة للوثء والباء للالصاق وفي القاموس الوثء وجع يصيب اللحم لا يبلغ العظم أو وجع في العظم بلا كسر أو هو الفك وبه وثء ولا تقل وثى أي بالياء قال المنذري والحديث أخرجه النسائي
[ 246 ]
7 في الكي كما (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكي) قال ابن رسلان هذه الرواية فيها إشارة إلى أنه يباح الكي عند الضرورة بالابتلاء بالأمراض المزمنة التي لا ينجع فيها إلا الكي ويخاف الهلاك عند تركه ألا تراه كوى سعدا لما لم ينقطع الدم من جرحه وخاف عليه الهلاك من كثرة خروجه كما يكوى من تقطع يده أو رجله ونهى عمران بن حصين عن الكي لأنه كان به باسور وكان موضعه خطر فنهاه عن كيه فتعين أن يكون النهي خاصا بمن به مرض مخوف ولأن العرب كانوا يرون أن الشافي لما لا شفاء له بالدواء هو الكي ويعتقدون أن من لم يفعل بالكي هلك فنهاهم عنه لأجل هذه النية فان الله تعالى هو الشافي قال ابن قتيبة الكي جنسان كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه لم يتوكل من اكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه والثاني كي الجرح إذا لم ينقطع دمه بإحراق ولا غيره والعضو إذا قطع ففي هذا الشفاء بتقدير الله تعالى وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجح ويجوز أن لا ينجح فإنه إلى الكراهة
[ 247 ]
أقرب وقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع كذا في النيل (فما أفلحن ولا انجحن) هكذا الرواية الصحيحة بدون الإناث فيهما يعني تلك الكيات التي اكتوينا بهن وخالفنا صلى الله عليه وآله وسلم في فعلهن وكيف يفلح أو ينجح شئ خولف فيه صاحب الشريعة وعلى هذا فالتقدير فاكتوينا كيات لأوجاع فما أفلحن ولا انجحن قاله الشوكاني قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث الحسن البصري عن عمران ولفظ الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي قال فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا ولفظ ابن ماجه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتويت فما أفلحت ولا أنجحت وقال الترمذي حسن صحيح وفيما قاله نظر فقد ذكر غير واحد من الأئمة أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين (كوى سعد بن معاذ) قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في الجمع بينهما إن الكي تارة كون عند قيام أسبابه والداعي إليه فهذا يترجح فعله على تركه لما فيه من نفي الضرر عن المكوي وتارة يكون مع عدم تحقق أسبابه كما يحكى عن الترك أنهم يفعلون ذلك ليزعجوا هو الطبيعة فلا يصل الداء إلى الجسد فهذا يترجح تركه على فعله لما فيه من الضرر العظيم العاجل مع إمكان الاكتفاء بغيره فهذا هو المنهي عنه كذا في مرقاة الصعود وقال الخطابي إنما كوى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ ليرقى الدم عن جرحه وخاف عليه أن ينزف فيهلك والكي يستعمل في هذا الباب وهو من العلاج الذي تعرفه الخاصة وأكثر العامة والعرب تستعمل الكي كثيرا فيما يعرض لها من الأدواء ويقال في أمثالها آخر الدواء الكي والكي داخل في جملة العلاج والتداوي المأذون فيه المذكور في حديث أسامة بن شريك الذي روينا في الباب الأول فأما حديث عمران بن حصين في النهي عن الكي فقد يحتمل وجوها أحدها أن يكون ذلك من أجل أنهم يعظمون أمره يقولون آخر الدواء الكي ويرون أنه يحسم الداء ويبرئه فإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهكذا فنهاهم عن ذلك إذا كان العلاج على هذا الوجه وأباح لهم استعماله على معنى التوكل على الله سبحانه وطلب الشفاء والترجي للبرء بما يحدث الله عز
[ 248 ]
وجل من صنعه فيه ويجلبه من الشفاء على أثره فيكون الكي والدواء سببا لا علة وهو أمر قد يكثر شكوك الناس وتخطى فيه ظنونهم وأوهامهم فما أكثر ما سمعهم يقولون لو أقام فلان بأرضه وبداره لم يهلك ولو شرب الدواء لم يسقم ونحو ذلك من تحرير إضافة الأمور إلى الأسباب وتعليق الحوادث بها دون تسليط القضاء عليها وتغليب المقادير فيها فتكون تلك الأسباب إمارات وسلم لتلك الكواين عنه لا موجبات لها وقد بين الله سبحانه ذلك في كتابة فقال أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وقال تعالى حكاية عن الكفار وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم وفيه وجه آخر وهو أن يكون نهيه عن الكي هو أن يفعله احترازا من الداء قبل وقوع الضرورة ونزول البلية وذلك مكروه وإنما أبيح العلاج والتداوي عند وقوع الحاجة ودعاء الضرورة إليه ألا ترى أنه إنما كوى سعدا حين خاف عليه الهلاك من النزف وقد يحتمل أن يكون إنما نهى عمران خاصة عن الكي في علة بعينها لعلمه أنه لا ينجع ألا تراه يقول فما أفلحنا ولا أنجحنا وقد كان به الناصور ولعله أن ما نهاه عن استعمال الكي في موضعه من البدن لأن العلاج إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظورا والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره وليس كذلك في بعض الأعضاء فيشبه أن يكون النهي منصرفا إلى النوع المخوف منه والله أعلم (من رميته) بفتح الراء وكسر الميم وتشديد الياء قال ابن الأثير الرمية الصيد الذي ترميه فتقصده وينفذ فيها سهمك وقيل هي كل دابة مرمية وقال الجوهري الرمية الصيد يرمي انتهى والمعنى أن الجراحة التي أصابت لسعد بن معاذ من أجل العدو الرامي في أكحله كواها النبي صلى الله عليه وسلم قال المنذري والحديث أخرجه مسلم ولفظه رمي سعد بن معاذ في أكحله قال فحسمه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بمشقص ثم ورمت فحسمه الثانية وأخرجه ابن ماجه ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله مرتين 8 في السعوط إن قال في النهاية السعوط بالفتح وهو ما يجعل من الدواء في الأنف
[ 249 ]
(استعط) أي استعمل السعوط وهو أن يستلقي على ظهره ويجعل بين كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه ويقطر في أنفه ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب ليتمكن بذلك من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس قاله في الفتح وقال المنذري والحديث أخرجه البخاري ومسلم أتم منه 9 في النشرة هي نوع من الرقية (عن النشرة) قال في النهاية النشرة بالضم ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي يكشف ويزال وقال الحسن النشرة من السحر وقد نشرت عنه تنشيرا انتهى وفي فتح الودود لعله كان مشتملا على أسماء الشياطين أو كان بلسان غير معلوم فلذلك جاء أنه سحر سمي نشرة لانتشار الداء وانكشاف البلاء به (هو من عمل الشيطان) أي من النوع الذي كان أهل الجاهلية يعالجون به ويعتقدون فيه وأما ما كان من الآيات القرآنية والأسماء والصفات الربانية والدعوات المأثورة النبوية فلا بأس به وفي النهاية ومنه الحديث فلعل طبا أصابه ثم نشره بقل أعوذ برب الناس أي رقاه والحديث سكت عنه المنذري باب في الترياق (ما أبالي ما أتيت) أي ما فعلت ما الأولى نافية والثانية موصولة والراجع محذوف
[ 250 ]
والموصول مع الصلة مفعول أبالي وقوله (إن أنا شربت ترياقا) إلى آخره شرط جزاؤه محذوف يدل عليه ما تقدم والمعنى إن صدر منى أحد الأشياء الثلاثة كنت ممن لا يبالي بما يفعل ولا ينزجر عما لا يجوز فعله شرعا كذا في المرقاة وقال في اللمعات ومعنى الحديث إني إن فعلت هذه الأشياء كنت ممن لا ببالي بما فعله من الأفعال مشروعة أو غيرها لا يميز بين المشروع وغيره انتهى ثم الترياق بكسر أوله وجوز ضمه وفتحه لكن المشهور الأول وهو ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والمعاجين وهو معرب ويقال بالدال أيضا كذا في المرقاة قال ابن الأثير إنما كرهه من أجل ما يقع فيه من لحوم الأفاعي والخمر وهي حرام نجسة والترياق أنواع فإذا لم يكن فيه شئ من ذلك فلا بأس به وقيل الحديث مطلق فالأولى اجتنابه كله انتهى (أو تعلقت تميمة) أي أخذتها علاقة والمراد من التميمة ما كان من تمائم الجاهلية ورقاها فإن القسم الذي يختص بأسماء الله تعالى وكلماته غير داخل في جملته قال في النهاية هي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم فأبطلها الإسلام وفي الحديث التمائم والرقي من الشرك وفي حديث آخر من علق تميمة فلا أتم الله له كأنهم كانوا يعتقدون أنها تمام الدواء والشفاء وإنما جعلها شركا لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه انتهى قال السندي المراد تمائم الجاهلية مثل الخرزات وأظفار السباع وعظامها وأما ما يكون بالقرآن والأسماء الإلهية فهو خارج عن هذا الحكم بل هو جائز وقال القاضي أبو بكر العربي في شرح الترمذي تعليق القرآن ليس من طريق السنة وإنما السنة فيه الذكر دون التعليق انتهى (أو قلت الشعر من قبل نفسي) أي قصدته وتقولته صلى لقوله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له وأما قوله صلى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فذلك صدر لا عن قصد ولا التفات منه إليه وقال الخطابي ليس شرب الترياق مكروها من أجل التداوي وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوي وقال والعلاج في عدة أحاديث ولكن من أجل ما يقع فيه من لحوم الأفاعي وهي محرمة والترياق أنواع فإذا لم يكن فيه من لحوم الأفاعي فلا بأس بتناوله والتميمة يقال إنها خرزة
[ 251 ]
كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات واعتقاد هذا الرأي جهل وضلال إذ لا مانع ولا دافع غير الله سبحانه ولا يدخل في هذا التعوذ بالقرآن والتبرك والاستشفاء به لأنه كلام الله سبحانه والاستعاذة به ترجع إلى الاستعاذة بالله إذ هو صفة من صفات ذاته ويقال بل التميمة قلادة يعلق فيها العوذ وقد قيل إن المكروه من العوذ هو ما كان بغير لسان العرب فلا يفهم معناه ولعله قد يكون فيه سحر أو نحوه من المحظور انتهى كلامه (هذا) أي النهي عن شرب الترياق قال المنذري في إسناده عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي أفريقية قال البخاري في بعض حديثه بعض المناكير حديثه في المصريين وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه نحو هذا 11 في الأدوية المكروهة (إن الله أنزل الداء والدواء) أي أحدثهما وأوجدهما أنه (لكل داء دواء) أي حلالا (فتداووا) أي بحلال (ولا تتداووا بحرام) قال البيهقي هذا الحديث وحديث النهي عن الدواء الخبيث إن صحا محمولان على النهي عن التداوي بالمسكر والتداوي بالحرام من غير ضرورة ليجمع بينهما وبين حديث العرنيين انتهى وقال ابن رسلان في شرح السنن والصحيح من مذهب
[ 252 ]
الشافعي جواز التداوي بجميع النجاسات سوى المسكر لحديث العرنيين في الصحيحين حيث أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرب من أبوال الإبل للتداوي قال وحديث الباب محمول على عدم الحاجة بأن يكون هناك دواء غيره يغني عنه ويقوم مقامه من الطاهرات انتهى قال الشوكاني ولا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف فإن أبوال الإبل الخصم يمنع انصافها بكونها حراما أو نجسا وعلى فرض التسليم فالواجب الجمع بين العام وهو تحريم التداوي بالحرام وبين الخاص وهو إذن بالتداوي بأبوال الإبل بأن يقال يحرم التداوي بكل حرام إلا أبوال الإبل هذا هو القانون الأصولي قال المنذري في إسناده إسماعيل ابن عياش وفيه مقال (عن ضفدع) بكسر فسكون فكسر وروي بفتح الدال أيضا قاله القاري (يجعلها) أي هو وغيره (في دواء) بأن يجعلها مركبة مع غيرها من الأدوية والمعنى يستعملها لأجل دواء وشفاء داء (عن قتلها) أي وجعلها في الدواء لأن التداوي بها يتوقف على القتل فإذا حرم القتل حرم التداوي بها أيضا وذلك إما لأنه نجس وإما لأنه مستقذر قال الخطابي في هذا دليل على أن الضفدع محرم الأكل وأنه غير داخل فيما أبيح من دواب الماء وكل منهي عن قتله من الحيوان فإنما هو لأحد أمرين إما لحرمة في نفسه كالآدمي وهو وإما لتحريم لحمه كالصرد والهدهد ونحوهما وإذا كان الضفدع ليس بمحرم كالآدمي كان النهي فيه منصرفا إلى الوجه الآخر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلا لمأكله انتهى قال المنذري والحديث أخرجه النسائي (عن الدواء الخبيث) قيل هو النجس أو الحرام أو ما يتنفر عنه الطبع وقد جاء تفسيره في رواية الترمذي بالسم قال الخطابي الدواء الخبيث قد يكون خبثه من وجهين أحدها خبث النجاسة وهو أن يدخله المحرم كالخمر ونحوها من لحوم الحيوان غير المأكولة اللحم وقد يصف الأطباء بعض
[ 253 ]
الأبوال وعذرة بعض الحيوان لبعض العلل وهي كلها خبيثة نجسة وتناولها محرم إلا ما خصته السنة من أبوال الإبل وقد رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر عرينة وعكل وسبيل السنن أن يقر كل شئ منها في موضعه وأن لا يضرب بعضها ببعض وقد يكون خبث الدواء أيضا من جهة الطعم والمذاق ولا ينكر أن يكون كره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع ولتكره النفس إياه والغالب أن طعوم الأدوية كريهة ولكن بعضها أيسر احتمالا وأقل كراهة انتهى قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وفي حديث الترمذي وابن ماجه يعنى السم (من حسا) أي شرب وتجرع (سما) مثلثة القاتل من الأدوية والحديث فيه دليل على حرمة استعمال السم القاتل (يتحساه) أي يشربه (خالدا مخلدا فيها) أي في نار جهنم اسم لنار الآخرة غير منصرف إما للعجمة والعلمية وإما للتأنيث والعلمية والمراد بذلك إما في حق المستحل أو المراد المكث الطويل لأن المؤمن لا يبقى في النار خالدا مؤبدا قاله العيني قال المنذري والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه أتم منه (ذكر) أي وائل (سأل) أي طارق (قال النبي صلى الله عليه وسلم لا ولكنها داء) فيه التصريح بأن الخمر ليست بدواء فيحرم التداوي بها كما يحرم شربها قال الخطابي قوله لكنها داء إنما سماها داء لما في شربها من الإثم وقد يستعمل لفظ الداء في الآفات والعيوب ومساوئ الأخلاق وإذا تبايعوا الحيوان قالوا برئت من كل داء يريدون العيب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني ساعدة من سيدكم قالوا جد بن قيس وإنا لنزنه بشئ من البخل (أي نتهمه بالبخل) فقال وأي داء أدوى من البخل والبخل إنما هو طبع أو خلق وقد سماه داء وقال دب اليكم داء الأمم قبلكم البغي
[ 254 ]
والحسد فنرى أن قوله في الخمر إنها داء أي لما فيها من الإثم فنقلها صلى الله عليه وسلم عن أمر الدنيا إلى أمر الآخرة وحولها عن باب الطبيعة إلى باب الشريعة ومعلوم أنها من جهة الطب دواء في بعض الأسقام وفيها مصحة البدن وهذا كقوله حين سئل عن الرقوب فقال هو الذي لم يمت له ولد ومعلوم أن الرقوب في كلام العرب هو الذي لا يعيش له ولد وكقوله ما تعدون الصرعة فيكم قالوا هو الذي يغلب الرجال فقال بل هو الذي يملك نفسه عند الغضب وكقوله من تعدون المفلس فيكم فقالوا هو الذي لا مال له فقال بل المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيؤخذ من حسناته لهم ويؤخذ من سيأتهم صلى الله عليه وسلم فيلقى عليه فيطرح في النار وكل هذا إنما هو على معنى ضرب المثل وتحويله عن أمر الدنيا إلى معنى أمر الآخرة فكذلك سميت الخمر داء إنما هو في حق الدين وحرمة الشريعة لما يلحق شاربها من الإثم وإن لم يكن داء في البدن ولا سقما في الجسد وفي الحديث بيان أنه لا يجوز التداوي بالخمر وهو قول أكثر الفقهاء وقد أباح التداوي بها عند الضرورة بعضهم واحتج في ذلك بإباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرينة إذا التداوي بأبوال الإبل وهي محرمة إلا أنها لما كانت مما يستشفى بها في بعض العلل رخص لهم في تناولها قال الخطابي قد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأمرين اللذين جمعهما هذا القائل فنص على أحدهما بالحظر وعلى الآخر بالإباحة وهو بول الإبل والجمع بين ما فرقه النص غير جائز وأيضا فإن الناس كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها ويشفون بها ويتبعون لذاتها فلما حرمت عليهم صعب عليهم تركها والنزوع عنها فغلظ الأمر فيها بإيجاب العقوبة على متناولها ليرتدعوا وليكفوا عن شربها وحسم الباب في تحريمها على الوجوه كلها شربا وتداويا لئلا يستبيحوها بعلة التساقم والتمارض وهذا المعنى مأمون في أبوال الإبل لانحسام الدواعي ولما على الطباع من المؤنة في تناولها ولما في النفوس من استقذارها والنكرة لها فقياس أحدهما على الآخر لا يصح ولا يستقيم والله أعلم انتهى قال المنذري والحديث أخرجه ابن ماجه عن طارق ابن سويد من غير شك ولم يذكر أباه قال عن علقمة بن وائل الحضرمي عن طارق بن سويد الحضرمي وأخرجه مسلم والترمذي من حديث وائل بن حجر أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم
[ 255 ]
12 في تمرة العجوة فقال بفتح العين وسكون الجيم نوع من التمر الجياد في المدينة (عن مجاهد) وهو ابن جبر قاله المنذري (عن سعد) وهو ابن أبي وقاص قاله المنذري (مرضت مرضا) أي شديدا وكان بمكة عام الفتح (يعودني) حال أو استئناف بيان (فوضع) النبي صلى الله عليه وسلم (بردها) أي برد يده (في فؤادي) أي قلبي والظاهر أن محله كان مكشوفا (مفؤد) اسم مفعول مأخوذ من الفؤاد وهو الذي أصابه داء في فؤاده وأهل اللغة يقولون الفؤاد هو القلب وقيل هو غشاء القلب أو كان مصدورا أي فكنى بالفؤاد عن الصدر لأنه محله قاله القاري (ائت) أمر من أتى يأتي ومفعوله (الحارث بن كلدة) بفتح الكاف واللام والدال المهملة (أخا ثقيف) أي أحدا من بني ثقيف ونصبه على أنه بدل أو عطف بيان (فإنه رجل يتطبب) أي يعرف الطب مطلقا أو هذا النوع من المرض فيكون مخصوصا بالمهارة والحذاقة (فليأخذ) أي الحارث (سبع تمرات) بفتحات (من عجوة المدينة) قال القاضي هو ضرب من أجود التمر بالمدينة ونخلها يسمى لينة قال تعالى ما قطعتم من لينة وتخصيص المدينة إما لما فيها من البركة التي جعلت فيها بدعائه أو لأن ثمرها أوفق لمزاجه من أجل تعوده قاله القاري (فليجأهن) بفتح الجيم وسكون الهمزة أي فليكسرهن وليدقهن ثنا قاله القاري وقال في النهاية فليجأهن أي فليدقهن به وبه سميت الوجيئة وهو تمر يبل بلبن أو سمن ثم
[ 256 ]
يدق حتى يلتئم انتهى وقال الخطابي الوجيئة حساء يتخذ من التمر والدقيق فيتحساه هذا المريض (بنواهن) أي معها وبالفارسية خسته خرما (ثم ليلدك بهن) من اللدود وهو صب الدواء في الفم أي ليجعله في الماء ويسقيك قال الخطابي فإنه من اللدود وهو ما يسقاه الإنسان في أحد جانبي الفم وأخذ من اللديدين وهو جانبي الوادي انتهى قال القاري قوله ثم ليلدك بكسر اللام ويسكن وبفتح الياء وضم اللام وتشديد الدال المفتوحة أي ليسقيك ثم من لدة الدواء إذا صبه في فمه واللدود بفتح أوله ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم وإنما قال ذلك لأنه وجده على حالة من المرض لم يكن يسهل له تناول الدواء إلا على تلك الهيئة أو علم أن تناوله على تلك الهيئة أنجح وأنفع وأيسر وأليق وإنما أمر الطبيب بذلك لأنه يكون أعلم باتخاذ الدواء وكيفية استعماله انتهى قال المنذري قال أبو حاتم الرازي مجاهد لم يدرك سعدا إنما يروي عن مصعب بن سعد عن سعد وقال أبو زرعة الرازي مجاهد عن سعد مرسل (من تصبح) بتشديد الموحدة (سبع تمرات عجوة) أي يأكلها في الصباح قبل أن يطعم شيئا قال الحافظ في الفتح ويجوز في تمرات عجوة الإضافة فتخفض كمتقول ثياب خزو رسول ويجوز التنوين على أنه عطف بيان أو صفة لسبع أو تمرات ويجوز النصب منونا على تقدير فعل أو على التمييز وأما خصوصية السبع فالظاهر أنه لسر فيها وإلا فيستحب أن يكون ذلك وترا وقال النووي أما خصوص كون ذلك سبعا فلا يعقل معناه كما في أعداد الصلوات ونصب الزكوات انتهى والعجوة ضرب من أجود تمر المدينة وألينه وقال الداودي هو من
[ 257 ]
وسط التمر وقال ابن الأثير العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بالمدينة وذكر هذا الأخير القزاز انتهى (سم ولا سحر) قال الحافظ قال الخطابي كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة لا الخاصية في التمر انتهى قال المنذري والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي 13 في العلاق بضم أوله وقيل بفتحها وقيل بكسرها والكل بمعنى العصر قاله القاري (قد أعلقت عليه) من اعلاق بالعين المهملة وهو معالجة عذرة الصبي ورفعها بالأصبع أي قد عالجته برفع الحنك بأصبعها قاله العيني وفي النهاية اعلاق معالجة عذرة الصبي وهو وجع في حلقه وورم تدفعه أمه بأصبعها أو غيرها وحقيقة أعلقت عنه زلت العلوق عنه وهي الداهية انتهى قال الخطابي هكذا يقولون المحدثون أعلقت عليه وإنما هو أعلقت عنه والإعلاق أن يرفع العذرة باليد والعذرة وجع يهيج في الحلق ومعنى أعلقت عنه دفعت عنه العذرة بالأصبع ونحوها (من العذرة) أي من أجلها قال العيني العذرة بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة وبالراء وهو وجع الحلق وهو الذي يسمى سقوط اللهاة بفتح اللام وهي اللحمة التي تكون في أقصى الحلق وذلك الموضع أيضا يسمى عذرة يقال أعلقت عنه أمه إذا فعلت ذلك به وغمرت ذلك المكان بأصبعها وفي النهاية العذرة بالضم وجع في الحلق يهيج من الدم وقيل هي قرحة تخرج في الخرم الذي بين الأنف والحلق تعرض للصبيان عند طلوع العذرة فتعمد المرأة إلى خرقة فتفتلها فتلا شديدا وتدخلها في أنفه فتطعن ذلك الموضع فيتفجر منه الدم أسود وربما أقرحه لم وذلك الطعن يسمى الدغر يقال عذرت المرأة الصبي إذا غمرت حلقة من العذرة أو فعلت به ذلك وكانوا بعد ذلك يعلقون عليه علاقا كالعوذة وقوله عند طلوع العذرة هي خمسة كواكب
[ 258 ]
وتطلع في وسط الحر انتهى (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (علام) بحذف الألف (تدغرن) بفتح الغين المعجمة بخطاب جمع المؤنث من الدغر بالدال المهملة والغين المعجمة والراء وتقدم معناه آنفا وقال العيني في عمدة القاري وهو غمز الحلق بالأصبع وذلك أن الصبي تأخذه العذرة وهي وجع يهيج في الحلق من الدم فتدخل المرأة أصبعها فتدفع بها ذلك الموضع وتكبسه وأصل الدغر الدفع انتهى قال القاري والمعنى على أي شئ تعالجن أولادكن وتغمزن حدثنا حلوقهم (بهذا العلاق) أي بهذا العصر والغمز قال الطيبي وتوجيهه أن في الكلام معنى الإنكار أي على أي شئ تعالجن بهذا الداء الداهية والمداواة الشنيعة (عليكن بهذا العود الهندي) أي بل الزمن في هذا الزمان باستعمال العود الهندي في عذرة أولادكن والإشارة بهذا إلى الجنس للمستحضر ابن في الذهن والعود القسط قال العيني القسط نوعان هندي وهو أسود قوله وبحري وهو أبيض والهندي أشدهما حرارة (فإن فيه) أي في هذا العود (سبعة أشفية) جمع شفاء (منها ذات الجنب) أي من تلك الأشفية له شفاء ذات الجنب أو التقدير فيه سبعة أشفية أدواء منها ذات الجنب قال العيني ذكر صلى الله عليه وسلم سبعة أشفية في القسط فسمى منها اثنين ووكل باقيها إلى طلب المعرفة أو الشهرة فيها (يسعط) بصيغة المجهول مخففا وروى مشددا وهو مأخوذ من السعوط وهو ما يصب في الأنف بيان كيفية التداوي به أن يدق العود ناعما ويدخل في الأنف وقيل يبل ويقطر فيه قاله القاري (ويلد) بصيغة المجهول وتشديد الدال المهملة من لد الرجل إذا صب الدواء في أحد شقى الفم (من ذات الجنب) أي من أجلها وسكت صلى الله عليه وسلم عن الخمسة منها لعدم الاحتياج إلى تفصيلها في ذلك الوقت فاقتصر على المهم والمناسب للمقام قال المنذري والحديث أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه
[ 259 ]
14 في الكحل ذلك (أكحالكم) جمع كحل (الإثمد) بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة وحكي فيه ضم الهمزة حجر معروف أسود يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتى من أصبهان قاله في الفتح (يجلو) من الجلاء أي يزيده نورا (وينبت) من انبات (الشعر) بفتح الشين شعر أهداب العين قاله السندي قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه مختصرا ليس فيه ذكر الكحل ولفظ ابن ماجه خير ثيابكم وقال الترمذي حسن صحيح 15 ما جاء في العين (والعين) أي أثرها (حق) وتحقيقه أن الشئ لا يعان إلا بعد كماله وكل كامل يعقبه النقص ولما كان ظهور القضاء بعد العين أضيف ذلك إليها قاله القاري وفي فتح الودود والعين حق لا بمعنى أن لها تأثيرا بل بمعنى أنها سبب عادي كسائر الأسباب العادية بخلق الله تعالى عند نظر العائن إلى شئ وإعجابه ما شاء من ألم أو هلكة انتهى قال المنذري والحديث أخرجه البخاري ومسلم وفي حديث البخاري ونهى عن الوشم وأخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أتم منه
[ 260 ]
(ثم يغتسل منه المعين) هو الذي أصابه العين قال في فتح الودود هو أن يغسل العائن داخل إزاره ووجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه في قدح ثم يصب على من أصابه العين وهو المراد بالمعين اسم مفعول كمبيع واختلفوا في داخلة الإزار فقيل الفرج وقال القاضي والظاهر الأقوى أنه ما يلي البدن من الإزار انتهى قال الحافظ في الفتح وقد وقعت صفة الاغتسال في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء حتى كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط أي صرع وزنا ومعنى سهل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل تتهمون به من أحد قالوا عامر بن ربيعة فدعا عامرا فتغيظ عليه فقال علام يقتل أحدكم أخاه هلا إذ رأيت ما يعجبك بركت ثم قال اغتسل له فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح ففعل به ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس انتهى والحديث سكت عنه المنذري 16 في الغيل محمد قال في النهاية الغيلة بالكسر الاسم من الغيل بالفتح وهو أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع وكذلك إذا حملت وهى مرضع (فان الغيل) قال الخطابي أصل الغيل أن يجامع الرجل إمراته وهي مرضع يقال منه أغال الرجل وأغيل الولد فهو مغال أو مغيل (الفارس) أي الراكب
[ 261 ]
(فيدعثره عن فرسه) ولفظ ابن ماجة لا تقتلوا أولادكم سرا فو الذي نفسي بيده إن الغيل ليدرك الفارس على ظهر فرسه حتى يصرعه انتهى قال الخطابي معناه ويصرعه ويسقطه وأصله في الكلام الهدم ويقال في البناء قد تدعثر إذا تهدم وسقط يقول صلى الله عليه وسلم إن المرضع إذا جومعت فحملت فسد لبنها ونهك الولد (أي هزل الولد) إذا اغتذى بذلك اللبن فيبقى ضاويا فإذا صار رجلا وركب الخيل فركضها أدركه ضعف الغيل فزال وسقط عن متونها فكان ذلك كالقتل له إلا أنه سر لا يرى ولا يشعر به انتهى قال في النهاية فيدعثره أي يصرعه ويهلكه والمراد النهي عن الغيلة وهو أن يجامع الرجل امرأته وهي مرضعة وربما حملت واسم ذلك اللبن الغيل بالفتح فإذا حملت فسد لبنها يريد أن من سوء أثره في بدن الطفل وإفساد مزاجه وإرخاء قواه أن ذلك لا يزال ماثلا فيه إلى أن يشتد ويبلغ مبلغ الرجال فإذا أراد منازلة قرن في الحرب وهن عنه وانكسر وسبب وهنه وانكساره الغيل انتهى قال السندي نهى عن الغيل بأنه مضر بالولد الرضيع وإن لم يظهر أثره في الحال حتى ربما يظهر أثره بعد أن يصير الولد رجلا فارسا فيسقطه ذلك الأثر عن فرسه فيموت انتهى قال المنذري والحديث أخرجه ابن ماجه (عن جدامة) بضم الجيم وفتح الدال المهملة قال الدارقطني من قال بالمعجمة فقد صحف (لقد هممت أن أنهي عن الغيلة) بفتح الغين المعجمة أن يجامع الرجل زوجته وهي ترضع ولفظ ابن ماجه قد أردت أن أنهي عن الغيال (حتى ذكرت) بصيغة المجهول (يفعلون ذلك) ولفظ ابن ماجه فإذا فارس والروم يغيلون فلا يقتلون أولادهم قال السندي وأراد النهي عن ذلك لما اشتهر عند العرب أنه يضر بالولد ثم رجع عن ذلك حين تحقق عنده عدم الضرر في بعض الناس كفارس والروم وهذا يقتضي أنه فوض إليه في بعض الأمور ضوابط فكان ينظر في الجزئيات واندراجها في الضوابط قال وحديث أسماء يحتمل أنه قال على زعم العرب قبل
[ 262 ]
حديث جدامة ثم علم أنه لا يضر فأذن به كما في رواية جدامة انتهى قلت وكذا يفهم من صنيع المؤلف فإنه ذكر أولا حديث أسماء في الامتناع ثم ذكر حديث الجواز أي حديث جدامة واعترض عليه السندي فقال هذا بعيد لأن مفاد حديث جدامة أنه أراد النهي ولم ينه وحديث أسماء فيه نهي فكيف يكون حديث أسماء قبل حديث جدامة وأيضا لو كان زعم العرب لما استحسن القسم بالله كما عند ابن ماجه فالأقرب أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه بعد حديث جدامة حيث حقق أنه يضر إلا أن الضرر قد يخفى إلى الكبر انتهى قلت وهذا صنيع الإمام ابن ماجه فإنه ذكر أولا حديث جدامة ثم ذكر حديث أسماء والله أعلم قال المنذري والحديث أخرحه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه في تعليق التمائم (إن الرقى) بضم الراء وفتح القاف مقصور جمع رقية قال الخطابي وأما الرقى فالمنهي عنه هو ما كان منها بغير لسان العرب فلا يدرى ما هو ولعله قد يدخله سحرا أو كفرا وأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله سبحانه فإنه مستحب متبرك به والله أعلم (والتمائم) جمع التميمة وهي التعويذة التي لا يكون فيها أسماء الله تعالى وآياته المتلوة والدعوات المأثورة تعلق على الصبي قال في النهاية التمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم فأبطلها الإسلام (والتولة) قال الخطابي يقال إنه ضرب من السحر قال الأصمعي وهو الذي يحبب المرأة إلى زوجها انتهى قال القاري والتوله بكسر التاء وبضم وفتح الواو نوع من السحر أو خيط يقرأ فيه من السحر أو قرطاس يكتب فيه شئ من السحر للمحبة أو غيرها (شرك) أي كل واحد منهما قد يفضي إلى الشرك إما جليا وإما خفيا قال القاضي وأطلق الشرك عليها إما لأن المتعارف منها في عهده ما كان معهودا في الجاهلية وكان مشتملا على ما يتضمن إلى الشرك أو لأن اتخاذها يدل
[ 263 ]
على اعتقاد تأثيرها وهو يفضي إلى الشرك (قالت) زينب (لم تقول هذا) أي وتأمرني بالتوكل وعدم الاسترقاء فإني وجدت في الاسترقاء فائدة (لقد كانت عيني تقذف) على بناء المجهول أي ترمي بما يهيج الوجع وبصيغة الفاعل أي ترمي بالرمص كان أو الدمع وهو ماء العين من الوجع والرمص بالصاد المهملة ما جمد من الوسخ في مؤخر العين قاله القاري (فكنت أختلف) أي أتردد بالرواح والمجئ (سكنت) أي العين يعني وجعها (إنما ذلك) بكسر الكاف (عمل الشيطان) أي من فعله وتسويله والمعنى أن الوجع الذي كان في عينيك لم يكن وجعا في الحقيقة بل ضرب من ضربات الشيطان ونزعاته (كان) أي الشيطان (ينخسها) بفتح الخاء المعجمة أي يطعنها قاله القاري وفي فتح الودود من باب نصر أن يحركها ويؤذيها (فإذا رقاها) أي إذا رقى اليهودي العين (كف) الشيطان (عنها) أي عن نخسها وترك طعنها (أن تقولي) أي عند وجع العين ونحوها (أذهب) أمر من الإذهاب أي أزل (البأس) أي الشدة (رب الناس) أي خالقهم ومربيهم (أنت الشافي) يؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين أحدهما أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصا والثاني أن يكون له أصل في القرآن وهذا من ذاك فإن في القرآن وإذا مرضت فهو يشفين قاله في الفتح (لا شفاء) بالمد مبني على الفتح وخبره محذوف أي لا شفاء حاصل لنا أوله إلا بشفائك قاله العيني (إلا شفاؤك) بالرفع بدل من موضع شفاء قاله العيني (شفاء) بالنصب على أنه مصدر لقوله اشف (لا يغادر سقما) هذه الجملة صفة لقوله شفاء ومعنى لا يغادر لا يترك وسقما بفتحتين مفعوله ويجوز فيه ضم السين وتسكين القاف أي مرضا قال المنذري والحديث أخرجه ابن ماجه عن ابن أخت زينب عنها وفي نسخة عن أخت زينب عنها وفيه قصة والراوي عن زينب مجهول (عن حصين) هو ابن عبد الرحمن السلمى روى عنه شعبة والثوري وغيرهما (من عين أو
[ 264 ]
حمة) بضم الحاء وتخفيف الميم وأصلها حمو والهاء فيه عوض من الواو المحذوفة قاله السيوطي وقال الخطابي الحمة سم ذوات السموم وقد تسمى إبرة العقرب والزنبور حمة وذلك لأنها مجرى السم وليس في هذا نفي جواز الرقية في غيرهما من الأمراض والأوجاع لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رقى بعض أصحابه من وجع كان به وقال للشفاء وعلمي حفصة رقية النملة وإنما معناه أنه لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والسم وهذا كما قيل لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار انتهى قال المنذري والحديث أخرجه الترمذي 18 في الرقى قال في الصباح رقيته أرقيه من باب رمي رقيا عوذته بالله وا سم الرقيا على وزن فعلى والمرة رقية والجمع رقى مثل مدية ومدى انتهى قال الشيخ عبد الحق الدهلوي الرقى جمع رقية وهي العوذة وبالفارسية افسون وقيل ما يقرأ من الدعاء لطلب الشفاء وهي جائزة بالقرآن والأسماء الإلهية وما في معناها بالاتفاق وبما عداها حرام لا سيما بما لا يفهم معناه انتهى (قال أحمد) بن صالح في روايته (وهو) أي ثابت بن قيس بن شماس (ثم أخذ) النبي (من بطحان) بفتح الباء وسكون الطاء اسم وادي المدينة والبطحانيون منسوبون إليه وأكثرهم يضمون الباء ولعله الأصح كذا في النهاية (فجعله) أي التراب (في قدح) بفتحتين آنية معروفة والجمع أقداح مثل سبب وأسباب (ثم نفث عليه) أي على التراب (بماء) قال في المصباح نفثه من فيه نفثا من باب ضرب رمى به ونفث إذا بزق ومنه من يقول إذا بزق ولا ريق معه ونفث في العقدة عند الرقي وهو البصاق اليسير انتهى وفي لسان العرب النفث أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا معه شئ من الريق والنفث
[ 265 ]
شبيه بالنفخ وقيل هو التفل بعينه نفث الراقي (وصبه) أي وصب ذلك التراب المخلوط بالماء (عليه) أي ثابت بن قيس والمعنى أي جعل الماء في فيه ثم رمى بالماء على التراب ثم صب ذلك التراب الخلوط بالماء على ثابت بن قيس وإنما جعل الماء أولا في فيه ليخالط الماء بريق رسول الله ويحتمل أن الماء نفث أي رمي على التراب من غير إدخاله في فيه فيكون المعنى أي رش الماء على التراب ثم صب ذلك الطين المخلوط بالماء على ثابت بن قيس ويؤيد المعنى الأول ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة قال بأصبعه هكذا ووضع سفيان أي أحد رواته سبابته بالأرض ثم رفعها وقال بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى سقيمنا بإذن ربنا قال الحافظ ابن القيم هذا من العلاج السهل الميسر النافع المركب وهي معالجة لطيفة يعالج بها القروح والجراحات الطرية لا سيما عند عدم غيرها من الأدوية إذ كانت موجودة بكل أرض وقد علم أن طبيعة التراب الخالص باردة يابسة مجففة لرطوبات الجروح والجراحات التي تمنع الطبيعة من جودة فعلها وسرعة اندمالها لا سيما في البلاد الحارة وأصحاب الأمزجة الحارة فإن القروح والجراحات يتبعها في أكثر الأمر سوء مزاج حار فيجتمع حرارة البلد والمزاج والجراح وطبيعة التراب الخالص باردة يابسة أشد من برودة جميع الأدوية المفردة الباردة فيقابل برودة التراب حرارة المرض لا سيما إن كان التراب قد غسل وجفف ويتبعها أيضا كثرة الرطوبات الردية والسيلان والتراب مجفف لها مزيل لشدة يبسه وتجفيفه للرطوبة الردية المانعة من بردها ويحصل به مع ذلك تعديل مزاج العضو العليل ومتى اعتدل مزاج العضو قويت قواه المدبرة ودفعت عنه الألم بإذن الله ومعنى حديث عائشة أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شئ فيمسح به على الجرح ويقول هذا الكلام لما فيه من بركة ذكر اسم الله وتفويض الأمر إليه والتوكل عليه فينضم أحد العلاجين إلى الآخر فيقوى التأثير وهل المراد بقوله تربة أرضنا جميع الأرض أو أرض المدينة خاصة فيه قولان ولا ريب أن من التربة ما يكون فيه خاصية ينفع بها من أدواء كثيرة ويشق بها أسقاما ردية قال جالينوس رأيت بالاسكندرية مطحولين ومستسقين كثيرا يستعملون طين مصر ويطلون به على سوقهم وأفخاذهم وسواعدهم وظهورهم وأضلاعهم فينتفعون به منفعة بينة قال وعلى هذا النحو قد يقع هذا الطلاء للأورام العفنة والمترهلة الرخوة قال وإني لأعرف قوما ترهلت أبدانهم كلها من كثرة استفراغ الدم من أسفل انتفعوا بهذا الطين نفعا بينا
[ 266 ]
وقوما آخرين شفوا به أوجاعا مزمنة كانت متمكنة في بعض الأعضاء تمكنا شديدا فبرأت وذهبت أصلا وقال صاحب الكتاب المسيحي قوة الطين المحلوب من كبوس وهي حريرة المصطكي قوة يجلو ويغسل وينبت اللحم في القروح انتهى وإذا كان هذا في هذه التربات فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها وقد خالطت ريق رسول الله وقاربت رقيته باسم ربه وتفويض الأمر إليه انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي مسندا ومرسلا والصواب يوسف بن محمد انتهى (رقاكم) بضم الراء جمع رقية (ما لم تسكن شركا) وهذا هو وجه التوفيق بين النهي عن الرقية والإذن فيها والحديث فيه دليل على جواز الرقي والتطبب بما لا ضرر فيه ولا منع من جهة الشرع وإن كان بغير أسماء الله وكلامه لكن إذا كان مفهوما لأن ما لا يفهم لا يؤمن أن يكون فيه شئ من الشرك قال المنذري وأخرجه مسلم (عن الشفاء) بكسر الشين المعجمة وبالفاء والمد أسلمت قبل الهجرة وكانت من فضلاء النساء ولها منقبة (ألا تعلمين) بضم أوله وتشديد اللام المكسورة (هذه) أي حفصة (رقية النملة) بفتح النون وكسر الميم وهي قروح تخرج من الجنب أو الجنين ورقية النملة كلام كانت نساء العرب تستعمله يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال للعروس تحتفل وتختضب وتكتحل وكل شئ يفتعل غير أن لا تعصي الرجل فأراد بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضا لأنه ألقى إليها سرا فأفشته على ما شهد به التنزيل في قوله تعالى وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا قاله الشوكاني
[ 267 ]
وفي النهاية النملة قروح تخرج في الجنب قيل إن هذا من لغز الكلام ومزاجه كقوله للعجوز لا تدخل العجز الجنة وذلك أن رقية النملة شئ كانت تستعمله النساء يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال العروس تحتفل وتختضب وتكتحل وكل شئ تفتعل غير أن لا تعصى الرجل ويروي عوض تحتفل تنتعل وعوض تختضب تقتال فأراد بهذا المقال تأنيب حفصة لأنه ألقى إليها سرا فأفشته انتهى (كما علمتيها) بالياء من إشباع الكسرة (الكتابة) مفعول ثان والحديث فيه دليل على جواز تعليم النساء الكتابة وهذا الحديث سكت عنه المنذري ثم ابن القيم في تعليقات السنن ورجال إسناده رجال الصحيح إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي المصيصي وهو ثقة وأخرجه أحمد في مسنده والحاكم وصححه وأخرجه النسائي في الطب من السنن الكبرى عن إبراهيم بن يعقوب عن علي بن عبد الله المديني عن محمد بن بشر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن صالح بن كيسان عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن الشفاء ذكره المزي في الأطراف وفي الإصابة وأخرجه أبو نعيم عن الطبراني من طريق صالح بن كيسان عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن الشفاء بنت عبد الله قالوا قالت دخل علي رسول الله وأنا قاعدة عند حفصة فقال ما عليك أن تعلمي هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة وأخرج ابن منده حديث رقية النملة من طريق الثوري عن ابن المنكدر عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن حفصة أن امرأة من قريش يقال لها الشفاء كانت ترقي من النملة فقال النبي علميها حفصة وأخرج ابن منده وأبو نعيم مطولا من طريق عثمان بن عمرو بن عثمان بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه عمرو عن أبيه عثمان عن الشفاء أنها كانت ترقي في الجاهلية وأنها لما هاجرت إلى النبي وكانت قد بايعته بمكة قبل أن يخرج فقدمت عليه فقالت يارسول الله إني قد كنت أرقي برقى في الجاهلية فقد أردت أن أعرضها عليك قال فاعرضيها قالت فعرضتها عليه وكانت ترقي من النملة فقال ارقي بها وعلميها حفصة انتهى وقال الشيخ ابن تيمية في المنتقى تحت حديث شفاء وهو دليل على جواز تعلم النساء الكتابة انتهى
[ 268 ]
وقال الخطابي فيه دلالة على أن تعلم النساء الكتابة غير مكروه انتهى وفي زاد المعاد وفي الحديث دليل على جواز تعليم النساء الكتابة انتهى ومثله في الأزهار شرح المصابيح للعلامة الأردبيلي وما قال علي القاري في المرقاة يحتمل أن يكون جائزا للسلف دون الخلف لفساد النسوان في هذا الزمان انتهى فكلام غير صحيح وقد فصلت الكلام في هذه المسألة في رسالتي عقود الجمان في جواز الكتابة للنسوان وأجبت عن كلام القاري وغيره من المانعين جوابا شافيا ومن مؤيدات الجواز ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد في باب الكتابة إلى النساء وجوابهن حدثنا أبو رافع حدثنا أبو أسامة حدثني موسى بن عبد الله حدثتنا عائشة بنت طلحة قالت قلت لعائشة وأنا في حجرها وكان الناس يأتونها من كل مصر فكان الشيوخ ينتابوني لمكاني منها وكان الشباب يتآخوني فيهدون إلى ويكتبون إلي من الأمصار فأقول لعائشة يا خالة هذا كتاب فلان وهديته فتقول لي عائشة أي بنية فأجيبيه وأثيبيه فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك فقالت تعطيني انتهى وفي وفيات الأعيان لابن خلكان في ترجمة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر الكاتبة كانت من العلماء وكتبت الخط الجيد وسمع عليها خلق كثير وكان لها السماع العالي ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر واشتهر ذكرها وبعد صيتها وكانت وفاتها في المحرم سنة أربع وسبعين وخمس مائة انتهى مختصرا وقال العلامة المقريزي في نفح الطيب في ترجمة عائشة بنت أحمد القرطيبة قال ابن حبان في المقتبس لم يكن في زمانها من (حرائر الأندلس من يعدلها علما وفهما وأدبا وشعرا وفصاحة وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف وماتت سنة أربعمائة انتهى مختصرا) وقد استدل بعضهم على عدم جواز الكتابة للنساء بروايات ضعيفة واهية فمنها ما أخرجه ابن حبان في الضعفاء أنبأنا محمد بن عمرو أنبأنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا يحيى بن زكريا بن يزيد الدقاق حدثنا محمد بن إبراهيم أبو عبد الله الشامي حدثنا شعيب بن إسحاق الدمشقي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة الحديث وفي سنده محمد بن إبراهيم الشامي منكر الحديث ومن الوضاعين قال الذهبي قال الدارقطني كذاب وقال ابن عدي عامة أحاديثه غير محفوظة قال ابن حبان لا يحل الرواية عنه إلا عند الاعتبار كان يضع الحديث وروي عن شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا ولا تعلموهن الكتابة انتهى وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية هذا الحديث لا يصح محمد بن إبراهيم الشامي كان
[ 269 ]
يضع الحديث ومنها ما أخرجه الحاكم في المستدرك أنبأنا أبو علي الحافظ حدثنا محمد بن محمد بن سليمان حدثنا عبد الوهاب بن الضحاك حدثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فذكره وقال صحيح الإسناد وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن الحاكم من هذا الطريق وفيه عبد الوهاب بن الضحاك قال الذهبي في الميزان كذبه أبو حاتم وقال النسائي وغيره متروك وقال الدارقطني منكر الحديث انتهى وقال السيوطي في اللآلي قال الحافظ ابن حجر في الأطراف بعد ذكر قول الحاكم صحيح الإسناد بل عبد الوهاب متروك وقد تابعه محمد بن أبراهيم الشامي عن شعيب بن إسحاق وإبراهيم رماه ابن حبان بالوضع انتهى كلام الحافظ وأخرج البيهقي أنبأنا أبو نصر بن قتادة أنبأنا أبو الحسن محمد بن السراج حدثنا مطين حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي حدثنا شعيب بن إسحاق الدمشقي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فذكر الحديث وقال هذا بهذا الإسناد منكر انتهى وفيه محمد بن إبراهيم الشامي المذكور وهو ضعيف جدا وأخرجه ابن حبان في الضعفاء حدثنا جعفر بن سهل حدثنا جعفر بن نصر حدثنا حفص بن غياث عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا لا تعلموا نساءكم الكتابة الحديث وفيه جعفر بن نصر قال الذهبي هو متهم بالكذب قال صاحب الكامل حدث عن الثقات بالبواطيل ثم أورد الذهبي من رواياته ثلاثة أحاديث منها هذا الحديث لابن عباس ثم قال هذه أباطيل انتهى وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية هذا لا يصح جعفر بن نصر حدث عن الثقات بالبواطيل انتهى فهذه الروايات كلها ضعيفة جدا بل باطلة لا يصح الاحتجاج بها بحال والله أعلم قال المنذري والشفاء هذه قرشية عدوية أسلمت قبل الهجرة وبايعت رسول الله وكان رسول الله يأتيها ويقيل في بيتها وكان عمر رضي الله عنه يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها وربما ولاها شيئا من أموال الشرق قال أحمد بن صالح اسمها ليلى وغلب عليها الشفاء انتهى (سهل بن حنيف) بضم الحاء مصغرا وكنيته سهل أبو ثابت شهد بدرا والمشاهد كلها مع
[ 270 ]
رسول الله وثبت يوم أحد معه لما انهزم الناس (فخرجت محموما) أي أخذتني الحمى من الاغتسال بعد خروجي من السيل (فنمي) بصيغة المجهول قال في النهاية يقال نميت الحديث أنمية إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميته بالتشديد هكذا قال أبو عبيد وابن قتيبة وغيرهما من العلماء انتهى (ذلك) الأمر الذي كان من شأني (فقال) (مروا أبا ثابت) هو كنية سهل (يتعوذ) بالله من هذا العين الذي أصابه ولفظ مالك في الموطأ عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول اغتسل أبي بالخرار فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر قال وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء قال فوعك سهل مكانه واشتد وعكه فأتى رسول الله فأخبر أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله فأتاه رسول الله فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر بن ربيعة فقال رسول الله علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حتوضأ له فتوضأ له عامر فراح سهل مع رسول الله ليس به بأس مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه قال رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط بسهل فأتى رسول الله فقيل له يارسول الله هل لك في سهل بن حنيف والله ما يرفع رأسه فقال هل تتهمون له أحدا قالوا نتهم عامر بن ربيعة قال فدعا رسول الله عامر بن ربيعة فتغيظ عليه وقال علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت اغتسل له فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ليس به بأس وهذا الحديث ظاهره الإرسال وأخرج ابن ماجه أيضا نحوه لكنه سمع ذلك من والده ففي رواية ابن أبي شيبة عن شبابة عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي أمامة عن أبيه أن عامر أمر به وهو يغتسل الحديث ولأحمد والنسائي وصححه ابن حبان من وجه آخر عن الزهري عن أبي أمامة أن أباه حدثه أن النبي خرج وساروا معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة الحديث (قالت فقلت) والحديث أخرجه أحمد أيضا هكذا والظاهر أن الرباب قالت إن سهل بن حنيف قال فقلت يا سيدي فجملة فقلت يا سيدي هي مقولة سهل بن حنيف لرسول الله ولا هي مقولة الرباب لسهل بن حنيف ويؤيد هذا المعنى قول الحافظ بن القيم كما سيجئ وقال الخطابي
[ 271 ]
فيه جواز أن يقول الرجل لرئيسه يا سيدي (والرقى صالحة) أي أو في الرقى منفعة تنفع عن العين وغيرها ويجوز العلاج بالرقية (فقال) (لا رقية إلا في نفس) أي في عين قاله الخطابي (أو حمة) أي ذوات السموم كلها قاله ابن القيم (أو لدغة) من العقرب وقال ابن القيم هدية في العلاج العام لكل شكوى بالرقية الإلهية كما رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء مرفوعا من اشتكى منكم شيئا واشتكاه أخ له فليقل ربنا الله الذي في السماء الحديث وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن جبرئيل عليه السلام أتى النبي فقال يا محمد اشتكيت قال نعم قال بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك الحديث فإن قيل فما تقولون في الحديث الذي رواه أبو داود ولا رقية إلا من عين أو حمة فالجواب أنه لم يرد به جواز الرقية في غيرها بل المراد به لا رقية أولى وأنفع منها في العين والحمة ويدل عليه سياق الحديث فإن سهل بن حنيف قال له لما أصابته العين أو في الرقى خير فقال لا رقية إلا في نفس أو حمة ويدل عليه سائر أحاديث الرقى العامة والخاصة وقد روى أبو داود من حديث أنس مرفوعا لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم يرقأ وفي صحيح مسلم عنه أيضا رخص رسول الله في الرقية من العين والحمة والنملة انتهى وقال أيضا في زاد المعاد وهدية في علاج لدغة العقرب بالرقية روى ابن أبي شيبة في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود قال بينا رسول الله يصلي إذ سجد فلدغته عقرب في أصبعه فانصرف رسول الله وقال لعن الله العقرب ما تدع نبيا ولا غيره قال ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ويقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حتى سكنت انتهى ورواه البيهقي والطبراني في الصغير بإسناد حسن كما قاله الزرقاني في شرح المواهب عن علي بنحوه لكنه قال ثم دعا بماء ومسح عليها وقرأ قل يا أيها الكافرون والمعوذتين ولذا قال ابن عبد البر رقى نفسه لما لدغ من العقرب بالمعوذتين وكان يمسح الموضع الذي لدغ بماء فيه ملح كما في حديث على وفي حديث عائشة عند ابن ماجه لعن الله العقرب ما تدع المصلي وغير المصلي اقتلوها في الحل والحرم وروى أبو يعلى عنها كان لا يرى بقتلها في الصلاة بأسا وفي السنن عن
[ 272 ]
أبي هريرة جاء رجل فقال يارسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك إن شاء الله وفي التمهيد لابن عبد البر عن سعيد بن المسيب قال بلغني أن من قال حين يمسي سلام على نوح في العالمين لم يلدغه عقرب انتهى (قال أبو داود الحمة من الحيات وما يلسع) قال في تاج العروس لسعت الحية والعقرب تلسع لسعا كما في الصحاح أي لدغت وقال الليث اللسع للعقرب تلسع بالحمة ويقال إن الحية أيضا تلسع وزعم أعرابي أن من الحيات ما يلسع بلسانه كلسع العقرب بالحمة وليست له أسنان أو اللسع لذوات الإبرة من العقارب والزنابير وأما الحيات فإنها تنهش وتعض وتجذب وقال الليث ويقال اللسع لكل ما ضرب بمؤخرة واللدغ بالفم انتهى مختصرا قال المنذري وأخرجه النسائي وفي بعض طرقه أن الذي رآه فأصابه بعينه هو عامر بن ربيعة العنزي بفتح العين وسكون النون وبعدها زاي (عن العباس بن ذريح) بفتح المعجمة وكسر الراء وآخره مهملة الكلبي الكوفي ثقة (قال العباس) العنبري في إسناده عن الشعبي عن أنس أي جعله من مسندات أنس ولم يجعل سليمان بن داود من مسنداته قال المزي في الأطراف وروي عن الشعبي عن بريدة وعن الشعبي عن عمران بن حصين وهو المحفوظ (أو دم) أي رعاف قيل إنما خص بهذه الثلاثة لأن رقيتها أشفى وأفشى بين الناس كذا في المرقاة (يرقأ) كذا في بعض النسخ يقال رقا الدم والدمع رقأ مهموز من باب نفع ورقوءا على فعول انقطع بعد جريانه كذا في المصباح قال السندي جواب سؤال مقدر كأنه قيل ماذا يحصل بعد الرقية فأجيب بأنه يرقأ الدم انتهى وفي بعض النسخ لا يرقأ وليس هذا اللفظ أصلا في بعض النسخ قال المنذري وأخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة أن رسول الله رخص في
[ 273 ]
الرقية من كل حمة وأخرج مسلم والترمذي وابن ماجه من حديث أنس بن مالك قال رخص رسول الله في الرقية من العين والحمة والنملة كيف الرقي (ألا أرقيك) أي ألا أعوذك (اللهم رب الناس) أي يا رب الناس (مذهب) بضم الميم وكسر الهاء من الإذهاب (الباس) بغير الهمزة للمواخاة لقوله الناس وأصله الهمزة بمعنى الشدة (اشف) بكسر الهمزة (أنت الشافي) فيه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن ما لم يوهم نقصا وكان له أصل في القرآن كهذا ففي القرآن وإذا مرضت فهو يشفين (لا شافي إلا أنت) إذ لا ينفع الدواء إلا بتقديرك (اشفه) بكسر الها أي العليل أو هي هاء السكت (لا يغادر) بالغين المعجمة أي لا يترك سقما إلا أذهبه (سقما) بفتحتين وبضم ثم سكون قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي (عن يزيد بن) عبد الله بن (خصيفة) بضم المعجمة وفتح المهملة مصغرا (أن عمرو) بفتح العين بن عبد الله بن كعب بن مالك (السلمى) بفتحتين الأنصاري المدنى الثقة كذا في شرح الموطأ وفي لب اللباب السلمي بفتحتين إلى سلمة بكسر اللام بطن من الإنصار وكسرها المحدثون أيضا في النسبة انتهى (قد كاد) أي قارب (يهلكني) ولمسلم وغيره من رواية الزهري عن نافع عن عثمان أنه اشتكى إلى رسول الله وجعا يجده في جسده منذ أسلم (امسحه) أي موضع الوجع (بيمينك سبع مرات) وفي رواية مسلم فقال ضع يدك على الذي يألم من جسدك وللطبراني والحاكم ضع يمينك على المكان الذي تشتكى فامسح بها سبع
[ 274 ]
مرات (وقل) زاد مسلم بسم الله ثلاثا قبل قوله (أعوذ) أعتصم (ما أجد) زاد في رواية مسلم وأحاذر وللطبراني والحاكم عن عثمان أنه يقول ذلك في كل مسحة من السبع والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن محمد بن سالم قال قال لي ثابت البناني يا محمد إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي ثم قل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد من وجعي هذا ثم ارفع يدك ثم أعد ذلك وترا قال فإن أنس بن مالك حدثني أن رسول الله حدثه بذلك (ما كان بي) من الوجع (وغيرهم) لأنه من الأدوية الالهية والطب النبوي لما فيه من ذكر الله والتفويض إليه والاستعاذة بعزته وقدرته وتكراره يكون أنجح وأبلغ كتكرار الدواء الطبيعي لاستقصاء إخراج المادة وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه انتهى (من اشتكى منكم شيئا) من الوجع (أو اشتكاه أخ له) الظاهر أنه تنويع من النبي (فليقل ربنا) بالنصب على النداء فقوله (الله) إما منصوب على أنه عطف بيان له أو مرفوع على المدح أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي أنت الله والأصح أن قوله ربنا الله مرفوعان على الابتداء والخبر وقوله الذي في السماء صفته (تقدس اسمك) خبر بعد خبر أو استئناف وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب على رواية رفع ربنا (أمرك في السماء والأرض) أي نافذ وماض وجار (كما رحمتك) بالرفع على أن ما كافة (فاجعل رحمتك في الأرض) أي كما جعلت رحمتك الكاملة في أهل السماء من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء فاجعل رحمتك في أهل الأرض (حوبنا) بضم الحاء والمراد ها هنا الذنب الكبير كما يدل عليه قوله تعالى إنه كان حوبا كبيرا وهو الحوبة أيضا مفتوحة الحاء مع إدخال الهاء (وخطايانا) يراد بها الذنوب الصغار والمراد بالحوب الذنب المتعمد وبالخطأ ضده (أنت رب الطيبين) أي أنت رب الذين اجتنبوا عن الأفعال الرديئة والأقوال الدنيئة كالشرك والفسق أي رب الطيبين من الأنبياء والملائكة وهذا
[ 275 ]
إضافة التشريف كرب هذا البيت ورب محمد (على هذا الوجع) بفتح الجيم أي المرض أو بكسر الجيم أي المريض (فيبرأ) بفتح الراء من البرء أي فيتعافى قاله علي القاري في شرح الحصن قال المنذري وأخرجه النسائي وأخرجه من حديث محمد بن كعب القرظى عن أبي الدرداء ولم يذكر فضالة بن عبيد وفي إسناده زياد بن محمد الأنصار قال أبو حاتم الرازي هو منكر الحديث وقال ابن حبان منكر الحديث جدا يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك وقال ابن عدي لا أعرف له إلا مقدار حديثين أو ثلاثة وروى عنه الليث وابن لهيعة ومقدار ماله لا يتابع عليه وقال أيضا أظنه مدنيا انتهى (من الفزع) بفتح الفاء والزاي أي الخوف (التامة) بصيغة الإفراد والمراد به الجماعة (من غضبه) أي إرادة انتقامه وزاد في رواية الترمذي وعقابه (وشر عباده) وهو أخص من شر خلقه (ومن همزات الشياطين) أي وساوسهم وأصل الهمز الطعن قال الجزري أي خطراتها التي يخطرها بقلب الإنسان (وأن يحضرون) بحذف ياء المتكلم اكتفاء بكسر نون الوقاية وضمير الجمع المذكر فيه للشياطين وهو مقتبس من قوله تعالى وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون (عبد الله بن عمرو) بن العاص (يعلمهن) أي الكلمات السابقة (من عقل) أي من تميز بالتكلم (كتبه) أي هذا الدعاء وفي رواية الترمذي ومن لم يبلغ منهم كتبها في صك ثم علقها في عنقه (فأعلقه عليه) أعلقت بالألف وعلقت بالتشديد كلاهما لغتان قال الجزري الصك الكتاب وفيه دليل على جواز تعليق التعوذ على الصغار قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن غريب وفي إسناده محمد بن إسحاق تقدم الكلام عليه وعلى عمرو بن شعيب انتهى وقال القاري في الحرز الثمين رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم ورواه أحمد عن محمد بن يحي بن حبان عن الوليد أخي خالد بن الوليد إنه قال يارسول الله إني أجد وحشة قال إذا أخذت مضجعك فقل فذكر مثله وفي كتاب ابن السنى أن خالد بن الوليد أصابه أرق فشكى ذلك إلى النبي فأمره أن يتعوذ عند منامه بكلمات الله التامات انتهى
[ 276 ]
(قال رأيت أثر ضربة في ساق سلمة) بن الأكوع (فقلت) له (ما هذه) وفي رواية البخاري فقلت يا أبا مسلم ما هذه الضربة (فقال) هذه ضربة (أصابتني) وفي بعض روايات البخاري أصابتها أي رجله (فأتي) بصيغة المجهول (بي) بفتح الياء (النبي) مفعول ما لم يسم فاعله وفي رواية البخاري فأتيت النبي (فنفث في) بتشديد الياء وفي رواية البخاري فيه أي في موضع الضربة (ثلاث نفثات) جمع نفثة وهي فوق النفخ ودون التفل بريق خفيف وغيره (فما اشتكيتها حتى الساعة) بالجر على أن حتى جارة قاله القسطلاني وقال الكرماني رحمه الله بالنصب لأن حتى للعطف فالمعطو ف داخل في المعطوف عليه وتقديره فما اشتكيتها زمانا حتى الساعة نحو أكلت السمكة حتى رأسها بالنصب انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري (يقول للإنسان إذا اشتكى) ولفظ مسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشئ منه أو كانت به قرحة أو جرح (يقول) يشير (بريقه ثم قال) أي أشار (به) أي بالريق وعند مسلم قال النبي بأصبعه هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها
[ 277 ]
قال النووي ومعنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شئ فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح (تربة أرضنا) هو خبر مبتدأ محذوف أي هذه تربة أرضنا (بريقة بعضنا) أي ممزوجة بريقه ولفظ البخاري بسم الله تربة أرضنا وريقة بعضنا وهذا يدل على أنه كان يتفل عند الرقية قال النووي المراد بأرضنا ها هنا جملة الأرض وقيل أرض المدينة خاصة لبركتها والريقة أقل من الريق (يشفى) بصيغة المجهول علة للممزوج قاله السندي (بإذن ربنا) متعلق يشفى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (إنا حدثنا) بصيغة المجهول المتكلم (أن صاحبكم هذا) يعنون النبي (هل إلا هذا) أي هل قلت إلا فاتحة الكتاب (قال خذها) قال صاحب التوضيح فيه حجة على أبي حنيفة في منعه أخذ الأجرة على تعليم القرآن (لمن أكل برقية باطل) جزاءه محذوف أي فعليه وزره وإثمه (لقد أكلت برقية حق) فلا وزر عليك قال المنذري وأخرجه النسائي وعم خارجة بن الصلت هو علاقة بن صحار التميمي
[ 278 ]
السليطي وله صحبة ورواية عن رسول الله أي في كتاب البيوع في باب كسب الأطباء فليرجع إليه وقد تقدم الكلام في الجزء الثاني والعشرين انتهى مختصرا (ابن جعفر) هو محمد ولقبه غندر فابن جعفر ومعاذ العنبري كلاهما يرويان عن شعبة (أنشط) بصيغة المجهول أي حل يقال أنشطت العقدة إذا حللتها (من عقال) بكسر العين هو الحبل الذي يعقل به البعير قاله ابن الأثير وقال العيني الذي يشد به ذراع البهيمة والمعنى
[ 279 ]
كأنما أخرج من قيد قال المزي في الأطراف في مسند علاقة بن صحار التميمي عم خارجة بن الصلت حديث أنه مر بقوم فقالوا إنك جئت من عند هذا الرجل بخير فارق لنا هذا الرجل الحديث أخرجه أبو داود في البيوع عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن عبد الله ابن أبي السفر عن الشعبي عن خارجة بن الصلت عن عمه به وفي الطب عن مسدد عن يحيى عن زكريا عن عامر الشعبي بمعناه وعن ابن بشار عن غندر عن شعبة به وأخرجه النسائي في الطب وعمل اليوم والليلة عن عمرو بن علي عن غندر به انتهى (لدغت) بصيغة المجهول (ماذا) أي ما لدغك (التامات) قال في النهاية إنما وصفها بالتمام لأنه لا يجوز أن يكون في شئ من كلامه نقص أو عيب كما يكون في كلام الناس قال المنذري وأخرجه النسائي كذلك وأخرجه أيضا مرسلا وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث القعقاع بن حكيم ويعقوب بن عبد الله بن الأشج عن أبي صالح عن أبي هريرة انتهى (يعنى ابن مخاشن) بضم الميم وبعدها خاء معجمة مفتوحة وبعد الألف شين معجمة ونون قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال وأخرجه النسائي بإسناد حسن ليس فيه بقية بن الوليد وأخرجه من حديث الزهري قال بلغنا أبا هريرة ولم يذكر فيه طارقا (عن أبي بشر) بكسر الموحدة هو جعفر بن أبي وحشية (عن أبي المتوكل) على بن داود
[ 280 ]
(أن رهطا من أصحاب النبي) كانوا في سرية وكانوا ثلاثين رجلا كما في رواية الترمذي وابن ماجه (بحي من أحياء العرب) فاستضافوهم فلم يضيفوهم فبينما هم كذلك (فقال بعضهم) أي من ذلك الحي (إن سيدنا لدغ) بصيغة المجهول أي ضربته العقرب بذنبها (فقال رجل من القوم) هو أبو سعيد الخدري أبهم نفسه في هذه الرواية (استضفناكم) أي طلبنا منكم الضيافة (فأبيتم) أي امتنعتم (أن تضيفونا) من التفعيل (تجعلوا لي جعلا) بضم الجيم وسكون العين المهملة أجرا على ذلك قاله القسطلاني وفي الكرماني الجعل بضم الجيم ما يجعل للإنسان من المال على فعل (قطيعا) أي طائفة (من الشاء) جمع شاة وكانت ثلاثين رأسا (ويتفل) وفي رواية للبخاري ويجمع بزاقه أي في فيه ويتفل (حتى برأ) سيد أولئك (كأنما أنشط من عقال) أي أخرج من قيد (فأوفاهم) أي أوفى ذلك الحي للصحابة (جعلهم) بضم الجيم هو المفعول الثاني لأوفى (الذي صالحوهم عليه) وهو ثلاثون رأسا من الشاء (فقالوا) أي بعض الصحابة لبعضهم (اقتسموا) الشاء (فقال الذي رقى) هو أبو سعيد (من أين علمتم) وفي رواية البخاري وما أدراك (أنها) أي فاتحة الكتاب (أحسنتم) وعند البخاري خذوها (معكم بسهم) كأنه أراد المبالغة في تصويبه إياهم وفيه جواز الرقية وبه قالت الأئمة الأربعة وفيه جواز أخذ الأجرة قاله العيني قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه
[ 281 ]
(معتوها) أي مجنونا (فكأنما نشط) بضم النون وكسر المعجمة قال الخطابي وهو لغة والمشهور نشط إذا عقد وأنشط إذا حل وعند الهروي أنشط من عقال وقيل معناه أقيم بسرعة ومنه يقال رجل نشيط قاله العيني وهذه القصة التي في حديث عم خارجة هي غير القصة التي في حديث أبي سعيد لأن الذي في السابقة أنه مجنون والراقي له عم خارجة وفي الثانية أنه لدغ والراقي له أبو سعيد والله أعلم وتقدم حديث عم خارجة (وينفث) بضم الفاء وكسرها بعدها مثلثة أي ينفخ نفخا لطيفا أقل من التفل (رجاء بركتها) أي بركة يده أو بركة القراءة وفي صحيح البخاري قال معمر فسألت الزهري كيف ينفث قال كان ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه قال القسطلاني وفيه جواز الرقية لكن بشروط أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره وأن يعتقد أن الرقية غير مؤثرة بنفسها بل بتقدير الله عز وجل وقال الشافعي لا بأس أن يرقى بكتاب الله وبما يعرف من ذكر الله قال الربيع قلت للشافعي أيرقي أهل الكتاب المسلمين قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وذكر الله وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة ارقيها بكتاب الله وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال لم يكن ذلك من أمر الناس القديم . قال المنذرى واخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة
[ 282 ]
20 في السمنة هي بالضم ثم السكون في لسان العرب والسمنة دواء يتخذ للسمن وفي التهذيب السمنة دواء تسمن به المرأة انتهى وفي النهاية دواء يتسمن به النساء وقد سمنت فهي مسمنة انتهى وفي بعض النسخ باب في المسمنة أي على وزن معظمه قال في لسان العرب امرأة مسمنة سمينة ومسمنة بالأدوية انتهى (قالت) بصيغة المضارع المعلوم من أقبل ضد أدبر أي لم أتوجه (عليها) أي على أمي (بشئ مما تريد) أن تسمننى به من الأدوية بل أدبرت عنها في كل ذلك أي ما استعملت شيئا من الأدوية التي أرادت أمي أن تسمنني به بل استنكفت عن ذلك كله ولفظ ابن ماجه كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة (حتى أطعمتني القثاء) كسر القاف أكثر من ضمها وهواسم لما يسميه الناس الخيار وبعض الناس يطلق القثاء على نوع يشبه الخيار كذا في المصباح (بالرطب) ثمر النخل إذا أدرك ونضج قبل أن يتتمر والرطب نوعان أحدهما لا يتتمر وإذا تأخر أكله يسارع إليه الفساد والثاني يتتمر ويصير عجوة وتمرا يابسا أي فطعمته به ولم أدبر عن أمي فيه ولم أستنكف عنه (فسمنت) من باب علم (عليه) أي به فإن على هذه بنائية (كأحسن السمن) بكسر ثم فتح قال الدميري كذا من باب الاستصلاح وتنمية الجسد وأما ما نهى عنه فذاك هو الذي يكون بالإكثار من الأطعمة قال المنذري وأخرجه النسائي من حديث محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة كما أخرجه أبو داود وأخرجه ابن ماجه من حديث يونس بن بكير عن هشام بن عروة ويونس بن بكير احتج به مسلم واستشهد به البخاري
[ 283 ]
كتاب الكهانة بفتح الكاف مصدر يقال كهن كهانة إذا صار كاهنا والكاهن من يقضي بالغيب (والتطير) أي التشاؤم بالشئ 20 باب في الكهانة بضم الكاف وتشديد الهاء جمع كاهن (من أتى كاهنا) في اللسان الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار وقد كان في العرب كهنة كشق وسطيح وغيرهما فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن يلقى إليه الأخبار ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله وهذا يحضونه باسم العراف كالذي يدعي معرفة الشئ المسروق ومكان الضالة ونحوهما قال الأزهري وكانت الكهانة في العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث نبيا وحرست السماء بالشهب ومنعت الجن والشياطين من استراق السمع وإلقائه إلى الكهنة بطل علم الكهانة وأزهق الله أباطيل الكهانة بالفرقان الذي فرق الله عزوجل به بين الحق والباطل وأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالوحي على ما شاء من علم الغيوب التي عجز الكهنة عن الإحاطة به فلا كهانة اليوم بحمد الله ومنه إغنائه وبالتنزيل عليه عنها
[ 284 ]
قال ابن الأثير وقوله من أتى كاهنا يشتمل على إتيان الكاهن والعراف والمنجم (أو أتى امرأة) أي بالوطأ (في دبرها) أي حائضا أو طاهرة (فقد برئ) أي كفر وهو محمول على الاستحلال أو على التهديد والوعيد وفي رواية لأحمد والحاكم عن أبي هريرة بلفظ من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم وقال أيضا وضعف محمد بن إسماعيل يعني البخاري هذا الحديث من قبل إسناده هذا آخر كلامه وأخرجه البخاري في تاريخه الكبير عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن أبي تميمة وقال هذا حديث لم يتابع عليه ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة وقال الدارقطني تفرد به حكيم الأثرم عن أبي تميمة وتفرد به حماد بن سلمة عنه يعني عن حكيم وقال محمد بن يحيى النيسابوري قلت لعلي بن المديني حكيم الأثرم من هو قال أعيانا هذا انتهى 21 باب في النجوم (من اقتبس) أي أخذ وحصل وتعلم (علما من النجوم) أي علما من علومها أو مسألة من علمها (اقتبس شعبة) أي قطعة (من السحر زاد) أي المقتبس من السحر (ما زاد) أي مدة زيادته من النجوم فما بمعنى ما دام أي زاد اقتباس شعبة السحر ما زاد اقتباس علم النجوم قاله القاري
[ 285 ]
وقال السندي أي زاد من السحر ما زاد من النجوم وقيل يحتمل أنه من كلام الراوي أي زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في التقبيح ما زاد انتهى قال الخطابي علم النجوم المنهي عنه هو ما يدل عليه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع كمجئ الأمطار وتغير الأسعار وأما ما يعلم به أوقات الصلاة وجهة القبلة فغير داخل فيما نهي عنه انتهى وفي شرح السنة المنهي من علوم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث التي لم تقع وربما تقع في مستقبل الزمان مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح ومجئ ماء المطر ووقوع الثلج وظهور الحر والبرد وتغيير الأسعار ونحوها ويزعمون أنهم يستدركون معرفتها بسير الكواكب واجتماعها وافتراقها وهذا علم استأثر الله به لا يعلمه أحد غيره كما قال تعالى إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث فأما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهى عنه قال الله تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وقال تعالى وبالنجم هم يهتدون فأخبر الله تعالى أن النجوم طرق لمعرفة الأوقا ت والمسالك ولولاها لم يهتد الناس إلى استقبال الكعبة روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق ثم أمسكوا كذا في المرقاة قال المنذري وأخرجه ابن ماجه انتهى وأيضا رواه أحمد (في إثر سماء) أي عقب مطر قال النووي هو بكسر الهمزة وإسكان الثاء وفتحهما جميعا لغتان مشهورتان والسماء المطر قال الخطابي والعرب تسمي المطر سماء لأنه من السماء ينزل والنوء واحد الأنواء وهي الكواكب الثمانية والعشرون التي هي منازل القمر كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل ببعض تلك الكواكب فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم وجعل المطر من فعل الله سبحانه دون فعل غيره انتهى (كانت) أي كان المطر وتأنيثه باعتبار معنى الرحمة أو لفظ السماء والجملة صفة سماء وقوله (من الليل) ظرف لها أي في بعض أجزائه وأوقاته (ماذا) أي أي شئ (قال)
[ 286 ]
النبي صلى الله عليه وسلم (قال) الله تعالى (مطرنا) بصيغة المجهول (بنوء كذا وكذا) أي بسقوط نجم وطلوع نظيره على ما سبق قال في القاموس النوء النجم مال للغروب وقال ابن الأثير إنما سمي نوء لأنه سقط الساقط منها بالغرب ناء الطالع بالشرق ينوء نوءا أي نهض وطلع وقيل أراد بالنوء الغروب وهو من الأضداد قال أبو عبيد لم نسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع وإنما غلظ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الأنواء لأن العرب كانت تنسب المطر إليها فأما من جعل المطر من فعل الله تعالى أراد بقوله مطرنا بنوء كذا أي في وقت كذا وهو هذا النوء الفلاني فإن ذلك جائز أي أن الله قد أجرى العادة أن يأتي المطر في هذه الأوقات انتهى قال النووي واختلفوا في كفر من قال مطرنا بنوء كذا على قولين أحدهما هو كفر بالله سبحانه سالب لأصل الإيمان وفيه وجهان أحدهما أنه من قاله معتقدا بأن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كزعم أهل الجاهلية فلا شك في كفره وهو قول الشافعي والجماهير وثانيها أنه من قال معتقدا بأنه من الله تعالى بفضله وأن النوء علامة له ومظنة بنزول الغيث فهذا لا يكفر كأنه قال مطرنا في وقت كذا والأظهر أنه مكروه لأنه كلمة موهمة مترددة بين الكفروا لإيمان فيساء الظن بصاحبها ولأنها شعار أهل الجاهلية والقول الثاني كفران لنعمة الله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخرى أصبح من الناس شاكرا وكافرا وفي أخرى ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق بها كافرين قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي من حديث عبد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة بنحوه في الخط وزجر الطير (العيافة) بكسر العين وهي زجر الطير والتفاؤل والاعتبار في ذلك بأسمائها كما يتفاؤل
[ 287 ]
بالعقاب على العقاب وبالغراب على الغربة وبالهدهد على الهدى والفرق بينهما وبين الطيرة أن الطيرة هي التشاؤم بها وقد تستعمل في التشاؤم بغير الطير من حيوان وغيره كذا في المرقاة وقال ابن الأثير العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها وهو من عادة العرب كثيرا وهو كثير في أشعارهم يقال عاف يعيف عيفا إذا زجر وحدس وظن وبنو أسد يذكرون بالعيافة ويوصفون بها انتهى (والطيرة) بكسر الطاء وفتح الياء التحتانية وقد تسكن هي التشاؤم بالشئ وهو مصدر تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجئ من المصادر هكذا غيرهما وأصله فيما يقال التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع أو دفع ضرر كذا في النهاية (والطرق) بفتح الطاء وسكون الراء وهو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء وقيل هو الخط في الرمل كذا في النهاية واقتصر الزمخشري في الفائق على الأول (من الجبت) وهو السحر والكهانة على ما في الفائق وقال الجوهري في الصحاح هو كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك قال وليس من محض العربية قال المنذري وأخرجه النسائي (قال عوف) وهو الأعرابي (زجر الطير) في النهاية الزجر للطير هو التيمن والتشؤم (بها والتفاؤل بطيرانها كالسانح ما والبارح وهو نوع من الكهانة وسيجئ تفسير الخط (يخطون) بضم الخاء والطاء المشددة (قال كان نبي من الأنبياء) قيل دانيال وقيل إدريس عليهما السلام (يخط) أي بأمر إلهي أو علم لدني (فمن وافق) أي خطه (خطه) بالنصب على أنه مفعول (فذاك) أي مصيب وإلا فلا وهو جواب الشرط وحاصله أنه في هذا الزمان حرام لأن الموافقة معدومة أو موهومة قاله القاري
[ 288 ]
قال السندي فذاك أي يباح له أو هو مصيب لكن لا يدري الموافق فلا يباح أو فلا يعرف المصيب فلا ينبغي الاشتغال بمثله الحاصل أنه منع عن ذلك انتهى قال الإمام ابن الأثير قال ابن عباس الخط هو الذي يخطه الحازي وهو علم قد تركه الناس يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوانا فيقول له أقعد حتى أخط لك وبين يدي الحازي غلام له معه ميل ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة بالعجلة لئلا يلحقها العدد ثم يرجع فيمحو منها على مهل خطين خطين وغلامه يقول للتفاؤل ابني عيان أسرعا البيان فإن بقي خطان فهما علامة النجح وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة قال الحربي الخط هو أن يخط ثلاثة خطوط ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى ويقول يكون كذا وكذا وهو ضرب من الكهانة قلت الخط المشار إليه علم معروف وللناس فيه تصانيف كثيرة وهو معمول به إلى الآن ولهم فيه أوضاع واصطلاح وعمل كثير ويستخرجون به الضمير وغيره وكثيرا ما يصيبون فيه انتهى كلامه قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي مطولا 23 باب في الطيرة وتقدم آنفا تفسيره (الطيرة شرك) أي لاعتقادهم أن الطيرة تجلب لهم نفعا أو تدفع عنهم ضرا فإذا عملوا بموجبها فكأنهم أشركوا بالله في ذلك ويسمى شركا خفيا ومن اعتقد أن شيئا سوى الله ينفع أو يضر بالاستقلال فقد أشرك شركا جليا قال القاضي إنما سماها شركا لأنهم كانوا يرون ما يتشاءمون به سببا مؤثرا في حصول المكروه وملاحظة الأسباب في الجملة شرك خفي فكيف إذا انضم إليها جهالة وسوء الإعتقاد (ثلاثا) مبالغة في الزجر عنها (وما منا) أي أحد (إلا) أي إلا من يخطر له من جهة الطيرة شئ ما لتعود النفوس بها فحذف المستثنى كراهة أن يتلفظ به قال التوربشتي أي إلا من يعرض له الوهم من قبل الطيرة وكره أن يتم كلامه ذلك لما يتضمنه من الحالة المكروهة وهذا نوع من أدب الكلام يكتفي دون المكروه منه بالإشارة فلا يضرب لنفسه مثل السوء
[ 289 ]
قال الخطابي معناه إلا من قد يعتريه الطيرة ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه فحذف اختصارا للكلام واعتمادا على فهم السامع انتهى قال السيوطي وذلك الحذف يسمى في البديع بالاكتفاء وهذه الجملة أي من قوله وما منا إلى آخره ليست من قول النبي وإنما هو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو الصواب قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام الفرق بين الطيرة والتطير أن التطير هو الظن السئ الذي في القلب والطيرة هو الفعل المرتب على الظن السئ (ولكن الله يذهبه) من الإذهاب (بالتوكل) أي بسبب الاعتماد عليه والاستناد إليه سبحانه وحاصله أن الخطرة ليس بها عبرة فإن وقعت غفلة لا بد من رجعه والله أعلم قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل وقال الخطابي وقال بن إسماعيل كان سليمان بن حرب ينكر هذا ويقول هذا الحرف ليس قول رسول الله وكأنه قول ابن مسعود هذا آخر كلامه وحكى الترمذي عن البخاري عن سليمان بن حرب نحو هذا وأن الذي أنكره وما منا إلا انتهى (لا عدوى) نفي لما كانوا يعتقدونه من سراية المرض من صاحبه إلى غيره (ولا صفر) نفي لما يعتقدونه من أنه داء بالباطن يعدي أو حية في البطن تصيب الماشية والناس وهي تعدى أعدى من الجرب أو المراد الشهر المعروف كانوا يتشاءمون بدخوله أو هو داء في البطن من
[ 290 ]
الجوع أو من اجتماع الماء الذي يكون منه الاستسقاء (ولا هامة) بتخفيف الميم طائر وقيل هو البومة قالوا إذا سقطت على دار أحدهم وقعت فيها مصيبة وقيل غير ذلك (ما بال الإبل) أي ما شأن جماعة منها (تكون في الرمل) هو خبر تكون (كأنها الظباء) في النشاط والقوة والسلامة من الداء والظباء بكسر الظاء المعجمة مهموز ممدود وفي الرمل خبر وكأنها الظباء حال من الضمير المستتر في الخبر وهو تتميم لمعنى النقاوة وذلك لأنها إذا كانت في التراب ربما يلصق بها شئ منه (البعير الأجرب) أي الذي فيه جرب وحكة (فيجربها) من الإجراب لا أي يجعلها جربة بإعدائها أن وهذا الجواب في غاية البلاغة أي من أين جاء الجرب للذي أعدى بزعمهم فإن أجابوا من بعير آخر لزم التسلسل أو بسبب آخر فليفصحوا على به فإن أجابوا بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدعي وهو الذي فعل جميع ذلك هو القادر الخالق لا إله غيره ولا مؤثر سواه (لا يوردن) بكسر الراء ونون التأكيد الثقيلة (ممرض) بضم الميم الأولى وسكون الثانية وكسر الراء بعدها ضاد معجمة الذي له إبل مرضى على مصح) بضم الميم وكسر الصاد المهملة بعدها حاء مهملة أيضا من له إبل صحاح لا يوردن إبله المريضة على إبل غيره الصحيحة وجمع ابن بطال بين هذا وبين لا عدوى فقال لا عدوى إعلام بأنها لا حقيقة لها وأما النهي فلئلا يتوهم المصح أن مرضها حدث من أجل ورود المريض عليها فيكون داخلا بتوهمه
[ 291 ]
ذلك في تصحيح ما أبطله النبي وقيل غير ذلك ذكره القسطلاني (قال) الزهري (فراجعه الرجل) هذه الرواية مختصرة وتوضحها رواية مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثه أن رسول الله قال لا عدوى ويحدث أن رسول الله قال لا يورد ممرض على مصح قال أبو سلمة كان أبو هريرة يحدثهما كلتيهما عن رسول الله ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى وأقام على أن لا يورد ممرض على مصح قال فقال الحارث بن أبي ذباب وهو ابن عم أبي هريرة قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديثا آخر قد سكت عنه كنت تقول قال رسول الله لا عدوى فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك وقال لا يورد ممرض على مصح فما رآه (من المماراة) الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطن بالحبشة فقال للحارث أتدري ما قلت قال لا قال أبو هريرة إني قلت أبيت قال أبو سلمة ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله قال لا عدوى فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر انتهى (حديثا قط غيره) وهذا يدل على كمال حفظه وضبطه وإتقانه فإنه لم ينس في العمر إلا حديثا واحدا وقال النووي ولا يؤثر نسيان أبي هريرة لحديث لا عدوى بوجهين أحدهما أن نسيان الراوي للحديث الذي رواه لا يقدح في صحته عند جماهير العلماء بل يجب العمل به والثاني أن هذا اللفظ ثابت من رواية غير أبي هريرة فقد ذكر مسلم هذا من رواية السائب بن يزيد وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وابن عمر عن النبي انتهى ونقل القسطلاني عن بعض العلماء لعل هذا من الأحاديث التي سمعها قبل بسط ردائه ثم ضمه إليه عند فراغ النبي من مقالته في الحديث المشهور
[ 292 ]
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم مطولا ومختصرا (ولا نوء) بفتح النون وسكون الواو أي طلوع نجم وغروب ما يقابله أحدهما في المشرق والآخر بالمغرب وكانوا يعتقدون أنه لا بد عنده من مطر أو ريح ينسبونه إلى الطالع أو الغارب فنفى صحة ذلك قال بعض الشراح النوء سقوط نجم من منازل القمر مع طلوع الصبح وهي ثمانية وعشرون نجما يسقط في كل ثلاث عشرة ليلة نجم منها في المغرب مع طلوع الفجر ويطلع آخر مقابله في المشرق من ساعته قال المنذري وأخرجه مسلم (لا غول) بضم الغين وسكون الواو قال في النهاية الغول أحد الغيلان وهي جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاء تترأى الله للناس فتتغول تغولا أي تتلون تلونا في صور شتى وتغولهم أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم فنفاه النبي وأبطله وقيل قوله لا غول ليس نفيا لعين الغول ووجوده وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله فيكون المعنى بقوله لا غول أنها لا تستطيع أن تضل أحدا ويشهد له الحديث الآخر لا غول ولكن السعالي والسعالي قال سحرة الجن أي ولكن في الجن سحرة تلبيس وتخييل ومنه الحديث إذا تغولت فبادروا بالأذان أي ادفعوا شرها بذكر الله وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها ومنه حديث أبي أيوب كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجئ فتأخذ انتهى كلامه قال المنذري وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله لا عدوى ولا طيرة ولا غول انتهى
[ 293 ]
(كانوا يحلون صفر) الشهر المعروف أي أن العرب تستحل صفر مرة وكانت تحرمه مرة وتستحل المحرم وهو النسئ فجاء الإسلام برد ذلك كما قال الله تعالى إنما النسئ زيادة في الكفر أي هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر وذلك لأنه جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا بدله شهرا من أشهر الحل حتى رفضوا خصوص الأشهر الحرم واعتبروا مجرد العدد فإن تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه كفر ضموه إلى كفرهم وقال تعالى فيحلوا ما حرم الله أي فإنه لم يحرموا الشهر الحرام بل وافقوا في العدد وحده كذا في جامع البيان قال ابن الأثير وقيل أراد به النسئ الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية وهو تأخير المحرم إلى صفر ويجعلون صفر هو الشهر الحرام فأبطله انتهى قال النووي لا صفر فيه تأويلان أحدهما المراد تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر وهو النسئ الذي كانوا يفعلونه وبهذا قال مالك وأبو عبيدة والثاني أن الصفر دواب في البطن وهي دود وهذا التفسير هو الصحيح وبه قال مطرف وابن وهب وابن حبيب وأبو عبيد وخلائق من العلماء وقد ذكر مسلم عن جابر بن عبد الله راوي الحديث فتعين اعتماده (ويعجبني الفأل الصالح) لأنه حسن ظن بالله تعالى (الكلمة الحسنة) قال الكرماني وقد جعل الله تعالى في الفطرة محبة ذلك كما جعل فيها الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن لم يشرب منه ويستعمله وعند الشيخين واللفظ للبخاري عن أبى هريرة قال قال النبي لا طيرة وخيرها الفأل قال وما الفأل يارسول الله قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم وفي حديث أنس عند الترمذي وصححه أن النبي كان إذا خرج لحاجة يعجبه أن يسمع يا نجيح عن يا راشد
[ 294 ]
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه انتهى أي أخرج الترمذي في السير (تقول ليس أحد يموت) قال في النهاية الهامة الرأس واسم طائر وهو المراد في الحديث وذلك أنهم كانوا يتشاءمون بها وهي من طير الليل وقيل هي البومة وقيل كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتقول اسقوني فإذا أدرك بثأره طارت وقيل كانوا يزعمون أن عظام الميت وقيل روحه تصير هامة فتطير ويسمونه الصدى فنفاه الإسلام ونهاهم عنه وذكره الهروي في الهاء والواو وذكره الجوهري في الهاء والياء انتهى (يستشئمون بصفر) أي بشهر صفر ويعتقدون شأمته من (هو يعدي) من الإعداء أي يتجاوز عن المريض إلى غيره (فأعجبته) الضمير المرفوع إلى الكلمة الحسنة (فتلك) بالهمز الساكن بعد الفاء قال في القاموس الفأل ضد الطيرة ويستعمل في الخير والشر (من فيك) أي من فمك قال المنذري فيه رجل مجهول انتهى قال السيوطي ورواه أبو نعيم في الطب عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده أن النبي سمع رجلا وفيه فقال رسول الله يا لبيك نحن فألك من فيك (فما الهامة) أي ما تفسيرها (قال) عطاء بن أبى رباح في جوابه (يقول فاس) من الذين فيهم آثار الجاهلية واعتقادها (الهامة) أي البومة أو غيرها من طير الليل (التي تصرخ) بالخاء
[ 295 ]
المعجمة من باب قتل أي تصح وهذه الجملة صفة لهامة (هامة الناس) أي هي هامة الناس أي روح الإنسان الميت ثم رد عليه عطاء بقوله (وليست) هذه الهامة التي تصبح وتصرخ في الليل من البومة أو غيرها (بهامة الإنسان) أي بروح الإنسان الميت بل (إنما هي دابة) من دواب الأرض (عروة بن عامر) قرشي تابعي سمع ابن عباس وغيره روى عنه عمرو بن دينار وحبيب بن أبى ثابت ذكره ابن حبان في ثقات التابعين (قال) عروة (ذكرت الطيرة) بصيغة المجهول (أحسنها الفأل) قال في النهاية الفأل مهموز فيما يسر والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء وربما استعملت فيما يسر يقال تفألت في بكذا وتفاءلت على التخفيف والقلب وقد أولع الناس بترك همزه تخفيفا وإنما أحب الفأل لأن الناس إذا أملوا فائدة الله تعالى ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير ولو غلطوا في جهة الرجاء فإن الرجاء لهم خير وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء ومعنى التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض فيتفاءل بما يسمع من كلام فيسمع آخر يقول يا سالم أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول يا واجد فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته انتهى (ولا ترد) أي الطيرة (مسلما) والجملة عاطفة أو حالية والمعنى أن أحسن الطيرة ما يشابه الفأل المندوب إليه ومع ذلك لا تمنع الطيرة مسلما عن المضي في حاجته فإن ذلك ليس من شأن المسلم بل شأنه أن يتوكل على الله تعالى في جميع أموره ويمضي في سبيله (فإذا رأى أحدكم ما يكره) أي إذا رأى من الطيرة شيئا يكرهه (بالحسنات) أي بالأمور الحسنة الشاملة للنعمة والطاعة (السيئات) أي الأمور المكروهة الكافلة للنقمة والمعصية (ولا حول) أي على دفع السيئات (ولا قوة) أي على تحصيل الحسنات قال المنذري وعروة هذا قيل فيه القرشي كما تقدم وقيل فيه الجهني حكاهما البخاري وقال أبو القاسم الدمشقي ولا صحبة له تصح وذكر البخاري وغيره أنه سمع من ابن عباس فعلى هذا يكون الحديث مرسلا انتهى
[ 296 ]
(كأن لا يتطير من شئ) أي من جهة شئ من الأشياء إذا أراد فعله ويمكن أن تكون من مرادفة للباء فالمعنى ما كان يتطير بشئ مما يتطير به الناس (فإذا بعث عاملا) أي أراد إرسال عامل (ورؤي) أي أبصر وظهر (بشر ذلك) بكسر الموحدة أي أثر بشاشته وانبساطه كذا في المرقاة وفي المصباح البشر بالكسر طلاقة الوجه (كراهية ذلك) أي ذلك الاسم المكروه (في وجهه) لا تشاؤما وتطيرا باسمه بل لانتفاء التفاؤل وقد غير ذلك الاسم إلى اسم حسن ففي رواية البزار والطبراني في الأوسط عن أبى هريرة رضي الله عنه إذا بعثتم إلي رجلا فابعثوا حسن الوجه حسن الاسم قال ابن الملك فالسنة أن يختار الإنسان لولده وخادمه من الأسماء الحسنة فإن الأسماء المكروهة قد توافق القدر كما لو سمي أحد ابنه بخسارة فربما جرى قضاء الله بأن يلحق بذلك الرجل أو ابنه خسار فيعتقد بعض الناس أن ذلك بسبب اسمه فيتشاءمون بن ويحترزون عن مجالسته ومواصلته وفي شرح السنة ينبغي للإنسان أن يختار لولده وخدمه الأسماء الحسنة فإن الأسماء المكروهة قد توافق القدر روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل ما اسمك قال جمرة قال ابن من قال ابن شهاب قال ممن قال من الحراقة قال أين مسكنك قال بحرة النار قال بأيها قال بذات لظى فقال عمر أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال عمر رضي الله عنه انتهى قال القاري فالحديث في الجملة يرد على ما في الجاهلية من تسمية أولادهم بأسماء فبيحة ككلب وأسد وذئب وعبيدهم براشد ونجيح ونحوهما معللين بأن أبناءنا لأعدائنا وخدمنا لأنفسنا قال المنذري وأخرجه النسائي (عن سعد بن مالك) هو ابن أبي وقاص قاله المنذري في مختصره والحافظ في الفتح لكن قال الأردبيلي في الأزهار شرح المصابيح هو سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن
[ 297 ]
حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري والد سهل بن سعد الساعدي والله أعلم بالصواب (وإن تكن الطيرة) أي صحيحة أو إن تقع وتوجد (في شئ) من الأشياء (ففي الفرس) أي الجموح (والمرأة) أي السليطة (والدار) أي فهي الدار الضيقة والمعنى إن فرض وجودها تكون في هذه الثلاثة وتؤيده الرواية التالية والمقصود منه نفي صحة الطيرة على وجه المبالغة فهو من قبيل قوله لو كان شئ سابق القدر لسبقته العين فلا ينافيه حينئذ عموم نفي الطيرة في هذا الحديث وغيره وقيل إن تكن بمنزلة الاستثناء أي لا تكون الطيرة إلا في هذه الثلاثة فيكون إخبارا عن غالب وقوعها وهو لا ينافي ما وقع من النهي عنها كذا في المرقاة والحديث سكت عنه المنذري (الشؤم في الدار والمرأة والفرس) هذه رواية مالك وكذا رواية سفيان وسائر الرواة بحذف أداة الحصر نعم في رواية عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة وسالم عن ابن عمر مرفوعا عند الشيخين بلفظ لا عدوى ولا طيرة وإنما الشؤم في ثلاثة المرأة والفرس والدار وعند البخاري من طريق عثمان بن عمر حدثنا يونس عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله قال لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة قال في النهاية أي إن كان ما يكره ويخاف عاقبته ففي هذه الثلاثة وتخصيصه لها لأنه لما أبطل مذهب العرب في التطير بالسوائح والبوارح من الطير والظياء هذه ونحوهما قال فإن كانت لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس يكره ارتباطها فليفارقها بأن ينتفل عن الدار ويطلق المرأة ويبيع الفرس وقيل إن شؤم الدار ضيقها وسوء جارها وشؤم المرأة أن لا تلد وشؤم الفرس ألا يغزى عليها انتهى قال النووي واختلف العلماء في هذا الحديث فقال مالك وطائفة هو على ظاهره وأن الدار قد يجعل الله تعالى سكناها سببا للضرر أو الهلاك وكذا اتخا المرأة المعينة أو الفرس أو
[ 298 ]
الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى ومعناه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاثة كما صرح به في رواية قال الخطابي وكثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة انتهى وقال الحافظ بن حجر قال عبد الرزاق في مصنفه عن معمر سمعت من فسر هذا الحديث بقول شؤم المرأة إذا كانت غير ولود وشؤم الفرس إذا لم يغز عليها وشؤم الدار جار السوء وروى الحافظ أبو الطاهر أحمد السلفي من الحديث ابن عمر أن رسول الله قال إذا كان الفرس حرونا فهو مشئوم وإذا كانت المرأة قد عرفت زوجا قبل زوجها فحنت إلى الزوج الأول فهي مشئومة وإذا كانت الدار بعيدة عن المسجد لا يسمع فيها الأذان والإقامة فهي مشئومة وإذا كن بغير هذا الوصف فهن مباركات وأخرجه الدمياطي في كتاب الخيل وإسناده ضعيف وفي حديث حكيم بن معاوية عند الترمذي قال سمعت رسول الله يقول لا شؤم وقد يكون اليمن في المرأة والدار والفرس وهذا كما قال في الفتح في إسناده ضعف مع مخالفته للأحاديث الصحيحة قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (سكنها قوم فهلكوا) أي لأجل كثافتها وعدم نظافتها ورداءة محلها أو لمساكن الأجنة فيها كما يشاهد في كثير من المواضع (قال عمر) ليست هذه العبارة في رواية اللؤلؤي ولذا لم يذكرها المنذري بل لم يذكرها المزي أيضا في الأطراف وإنما وجدت في بعض نسخ الكتاب والله أعلم
[ 299 ]
(فروة) بفتح الفاء وسكون الراء (ابن مسيك) تصغير مسك بالسين المهملة مرادي غطيفي من أهل اليمن قدم على رسول الله سنة تسع فأسلم روى عنه الشعبي وغيره (أبين) بهمزة مفتوحة ثم سكون الباء الموحدة فتحتية فنون بلفظ اسم التفصيل من البيان وهو في الأصل اسم رجل ينسب إليه عدن ويقال عدن أبين قال في النهاية هو بوزن أحمر قرية إلى جانب البحر من ناحية اليمن وقيل هو اسم مدينة عدن انتهى (هي أرض ريفنا) بإضافة أرض إلى ريفنا وهو بكسر الراء وسكون الياء التحتانية بعدها فاء وهو الأرض ذات الزرع والخصب قال ابن الأثير هو كل أرض فيها زرع ونخل انتهى (وميرتنا) بكسر الميم وهي معطوفة على ريفنا أي طعامنا المجلوب أو المنقول من بلد إلى بلد (وإنها وبئة) على وزن فعلة بكسر العين أي كثير الوباء وفي بعض النسخ وبيئة على وزن فعيلة قال في المصباح وبأمثل سنة فلس كثر مرضها فهي وبئة ووبيئة عمرو على فعلة وفعيلة انتهى وفي النهاية الوبا بالقصر والمد والهمز الطاعون والمرض العام وقد أوبأت الأرض فهي موبئة ووبئت فهي وبيئة انتهى (وباءها) أي عن كثافة هوائها (شديد) قوي كثير (دعها عنك) أي اتركها عن دخولك فيها والتردد إليها لأنه بمنزلة بلد الطاعون (فإن من القرف) بفتحتين قال في النهاية القرف ملابسة الداء ومداناة المرض (التلف) بفتحتين أي الهلاك والمعنى أن من ملابسة الداء ومداناة الوباء تحصل بها هلاكة قبل النفس فالدخول في أرض بها وباء ومرض لا يليق قال الخطابي وابن الأثير ليس هذا من باب الطيرة والعدوى وإنما هذا من باب الطب لأن استصلاح الهواء من أعوان الأشياء على صحة الأبدان وفساد الهواء من أضرها وأسرعها إلى أسقام البدن عند الأطباء وكل ذلك بإذن الله تعالى ومشيئته ولا حول ولا قوة إلا بالله قال المنذري في إسناده رجل مجهول ورواه عبد الله بن معاذ الصنعاني عن معمر بن راشد عن يحيى بن عبد الله بن بحير عن فروة وأسقط مجهولا وعبد الله بن معاذ وثقه يحيى بن معين وغيره وكان عبد الرزاق يكذبه انتهى
[ 300 ]
(فيها عددنا) أي أهلونا (فتحولنا إلى دار الخ) والمعنى أنتركها يحيى ونتحول إلى غيرها أو هذا من باب الطيرة المنهي عنها (ذروها ذميمة) أي اتركوها مذمومة فعيلة بمعنى مفعولة قاله ابن الأثير والمعنى اتركوها بالتحول عنها حال كونها مذمومة لأن هواءها غير موافق لكم قال الأردبيلي في الأزهار أي ذروها وتحولوا عنها لتخلصوا عن سوء الظن ورؤية البلاء من نزول تلك الدار انتهى قال الخطابي وابن الأثير إنما أمرهم بالتحول عنها إبطالا لما وقع في نفوسهم من أن المكروه إنما أصابهم بسبب السكنى فإذا تحولوا عنها انقطعت مادة ذلك الوهم وزال عنهم ما خامرهم من الشبهة انتهى والحديث سكت عنه المنذري (أخذ بيد مجذوم) قال الأردبيلي المجذوم الذي وضع رسول الله أو عمر رضي الله عنه يده في القصعة وأكل معه هو معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي (في القصعة) بفتح القاف وفيه غاية التوكل من جهتين إحداهما الأخذ بيده وثانيتهما الأكل معه وأخرج الطحاوي عن أبي ذر كل مع صاحب البلاء تواضعا لربك وإيمانا (كل ثقة بالله) بكسر المثلثة مصدر بمعنى الوثوق كالعدة والوعد وهو مفعول مطلق أي كل معي أثق ثقة بالله أي اعتمادا به وتفويضا للأمر إليه (وتوكلا) أي وأتوكل توكلا (عليه) والجملتان حالان ثانيتهما مؤكدة للأولى كذا في المرقاة قال الأردبيلي قال البيهقي أخذه بيد المجذوم ووضعها في القصعة وأكل معه في حق من يكون حاله الصبر على المكروه وترك الاختيار في موارد القضاء وقوله وفر من المجذوم كما تفر من الأسد وأمره في مجذوم بني ثقيف
[ 301 ]
بالرجوع في حق من يخاف على نفسه العجز عن احتمال المكروه والصبر عليه فيحرز بما هو جائز في الشرع من أنواع الاحترازات انتهى قال النووي واختلف الآثار عن النبي في قصة المجذوم فثبت عنه الحديثان المذكوران أي حديث فر من المجذوم وحديث المجذوم في وفد ثقيف وروي عن جابر أن النبي أكل مع المجذوم وقال له كل ثقة بالله وتوكلا عليه وعن عائشة قالت لنا مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي قال وقد ذهب عمر وغيره من السلف إلى الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ والصحيح الذي قاله الأكثرون ويتعين المصير إليه أنه لا نسخ بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط لا الوجوب وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد عن المفضل بن فضالة هذشيخ بصري والمفضل ابن فضالة شيخ مصري أوثق من هذا وأشهر وروى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة أن عمر أخذ بيد مجزوم وحديث شعبة أشبه عندي وأصح وقال الدارقطني تفرد به مفضل بن فضالة البصري أخو مبارك عن حبيب ابن الشهيد عنه يعني عن ابن المنكدر وقال ابن عدي الجرجاني لا أعلم يرويه عن حبيب غير مفضل بن فضالة وقال أيضا وقالوا تفرد بالرواية عنه يونس بن محمد هذا آخر كلامه والمفضل ابن فضالة هذا بصري كنيته أبو مالك قال يحيى بن معين ليس هو بذاك وقال النسائي ليس بالقوي وقد أخرج مسلم في صحيحه والنسائي وابن ماجه في سننهما من حديث الشريد ابن سويد الثقفي قال كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي أنا قد بايعناك فارجع وأخرج البخاري تعليقا من حديث سعيد بن ميناء قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول
[ 302 ]
الله يقول لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد انتهى كلام المنذري قلت قوله تعليقا ينظر في كونه تعليقا فلفظ البخاري في كتاب الطب باب الجذام وقال عفان حدثنا سليم بن حيان حدثنا سعيد بن ميناء فذكره وعفان هو ابن مسلم بن عبد الله الباهلي الصفار البصري من مشائخ البخاري روى عنه في صحيحه بغير واسطة في مواضع وروى عنه بواسطة أيضا كثيرا فقوله قال عفان يحكم عليه بالاتصال كما ذكره أهل الإصطلاح الحديث عن الجمهور وذكره السيد محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه تنقيح الأنظار ورد على ابن حزم قوله إنه منقطع ثم لو فرض أنه تعليق فقد ذكر أهل اصطلاح أن ما جزم به البخاري فحكمه أنه صحيح وهنا قد جزم به البخاري كما ترى وروى أبو نعيم من طريق أبي داود الطيالسي وأبى قتيبة مسلم بن قتيبة كلاهما عن سليم بن حيان شيخ عفان عن سعيد بن ميناء فذكره والله أعلم
[ 303 ]
36 اول كتاب العتق بكسر المهملة إزالة الملك يقال عتق يعتق عتقا بكسر أوله وتفتح وعتاقا وعتاقة قال الأزهري مستق من قولهم عتق الفرس إذا سبق وعتق الفرخ إذا طار لأن الرقيق يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء ذكره الزرقاني باب في المكاتب بالفتح من تقع عليه الكتابة وبالكسر من تقع منه وكاف الكتابة تفتح وتكسر قال الراغب اشتقاقها من كتب بمعنى أوجب ومنه قوله تعالى كتب عليكم الصيام إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أو بمعنى جمع وضم ومنه كتب على الخط فعلى الأول تكون مأخوذة من معنى الالتزام وعلى الثاني مأخوذة من الخط لوجوده عند عقدها غالبا قال ابن التين كانت الكتابة متعارفة قبل الإسلام فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم (يؤدي) من الأداء (بعض كتابته فيعجز) أي عن أداء بعضها (أو يموت) قبل أداء البعض (عبد) أي تجري عليه الرق (ما بقي) ما دائمة (من كتابته درهم) وأخرجه ابن حبان من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو بن العاصي في أثناء حديث وأخرج مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شئ مالك أنه بلغه أن عروة بن الزبير وسليمان بن يسار كانا يقولان المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شئ وقد روى ابن
[ 304 ]
أبي شيبة وابن سعد عن سليمان بن يسار قال استأذنت على عائشة فعرفت صوتي فقالت سليمان فقلت سليمان فقالت أديت ما بقي عليك من كتابتك قلت نعم إلا شيئا يسيرا قالت أدخل فإنك عبد ما بقي عليك شئ وروى الشافعي وسعيد بن منصور عن زيد بن ثابت المكاتب عبد ما بقي عليه درهم قال مالك بن أنس وهو رأيي قلت وبه قال أكثر الأئمة وكان فيه خلاف عن السلف فعن علي إذا أدى الشطر فهو غريم وعنه يعتق منه بقدر ما أدى
[ 305 ]
وعن ابن مسعود لو كاتبه على مائتين وقيمته مائة فأدى المائة عتق وعن عطاء إذا أدى المكاتب ثلاثة أرباع كتابته عتق وروى النسائي عن ابن عباس مرفوعا المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ورجال إسناده ثقات لكن اختلف في إرساله ووصله وحجة الجمهور حديث عائشة الآتي وهو أقوى ووجه الدلالة منه أن بريرة بيعت بعد أن كوتبت ولولا أن المكاتب يصير بنفس الكتابة حرا لمنع بيعها وقد ناظر زيد بن ثابت عليا رضي الله عنه
[ 306 ]
فقال أترجمه لوزني أو تجيز شهادته إن شهد فقال علي لا فقال زيد فهو عبد ما بقي عليه شئ ذكره الزرقاني وقال الخطابي هذا حجة لمن رأى أن بيع المكاتب جائز لأنه إذا كان عبدا فهو مملوك وإذا كان باقيا على أصل ملكه ولم يحدث لغيره فيه ملك كان غير ممنوع من بيعه وفيه دليل على أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي نجومه بكمالها لم يكن محكوما بعتقه وإن ترك وفاء لأنه إذا مات وهو عبد لم يصر حرا بعد الموت ويأخذ المال سيده ويكون أولاده رقيقا له وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل انتهى وقال الأردبيلي في الأزهار قال الأكثرون إذا مات المكاتب قبل أداء النجوم أو بعضها مات رقيقا قل الباقي أو كثر ترك وفاء أو لم يترك خلف ولدا أو لم يخلف لهذا الحديث وقال أبو حنيفة إن ترك وفاء عتق أو لم يترك فلا وقال مالك إن خلف ولدا عتق وإلا فلا وفيه دليل على أن المكاتب لا يعتق إلا بأداء جميع النجوم وبه قال الأكثرون من الصحابة والتابعين وغيرهم انتهى قال المنذري وقد تقدم الكلام على عمرو بن شعيب وفيه أيضا إسماعيل ابن عياش وفيه مقال انتهى (على مائة أوقية) بضم الهمزة وبتشديد الياء أربعون درهما وجمعها أواقي بفتح الهمزة
[ 307 ]
وتشديد الياء ويجوز تخفيفها وروي بمد الألف بلا ياء أي أواق وهو لحن كذا في الأزهار (أواق) قال في النهاية هي الأواقي جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد الياء والجمع يشدد ويخفف وكانت الأوقية قديما عبارة عن أربعين درهما انتهى وقال في مادة وقا اوقية بضم الهمزة وتشديد الياء اسم لأربعين درهما وزنه أفعولة والألف زائدة وفي بعض الروايات وقية بغير ألف وهي لغة عامية والجمع الأواقي مشددا وقد يخفف انتهى (فهو عبد) وفي بعض روايات السنن فهو رقيق وفيه أيضا دليل على جواز بيع المكاتب لأنه رق مملوك وكل مملوك يجوز بيعه وهبته والوصية به كما قال به الأكثرون خلافا لعلي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما وآخرين قاله الأردبيلي قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي غريب هذا آخر كلامه وقال الشافعي رضي الله عنه ولم أجد أحدا روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمرو وعلى هذا فتيا المفتين (قال أبو داود ليس هو عباس الجريري قالوا هو وهم ولكنه هو شيخ آخر) وجدت هذه العبارة في نسخة واحدة وجميع النسخ عنها خال ولم يذكر هذا القول عن
[ 308 ]
أبي داود الحافظ بن حجر في الفتح والتلخيص ولا العلامة الزيلعي في تخريجه ولا غيرهما من العلماء
[ 309 ]
وأخرج الدارقطني في سننه حديث عمرو بن شعيب من طريق عبد الصمد ابن عبد الوارث أخبرنا همام أخبرنا عباس الجريري فذكره ثم قال وقال المقري وعمرو بن عاصم عن همام عن عباس الجريري انتهى وإني لم أر هذه العبارة محفوظة والله أعلم (عن نبهان) بتقديم النون على الموحدة (إذا كان لإحداكن) وعند الترمذي إذا كان عند مكاتب إحداكن وفاء (فلتحتجب) أي إحداكن وهي سيدته (منه) أي من المكاتب فإن ملكه قريب الزوال وما قارب الشئ يعطي حكمه والمعنى أنه لا يدخل عليها
[ 310 ]
قال في السبل وهو دليل على مسألتين الأولى أن المكاتب إذا صار معه جميع مال المكاتبة فقد صار له ما للأحرار فتحتجب منه سيدته إذا كان مملوكا لامرأة وإن لم يكن قد سلم ذلك وهو معارض بحديث عمرو بن شعيب وقد جمع بينهما الشافعي فقال هذا خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو احتجابهن عن المكاتب وإن لم يكن قد سلم مال الكتابة إذا كان واجدا له منع من ذلك كما منع سودة من نظر ابن زمعة إليها مع أنه قد قال الولد للفراش قلت ولك أن تجمع بين الحديثين أن المراد أنه قن إذا لم يجد ما بقي عليه ولو كان درهما وحديث أم سلمة في مكاتب واجد لجميع مال الكتابة ولكنه لم يكن قد سلمه وأما حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها إذا كاتبت إحداكن عبدها فليرها ما بقي عليه شئ من كتابته فإذا قضاها فلا تكلمه إلا من وراء حجاب فأخرجه البيهقي وقال كذا رواه عبد الله بن زياد بن سمعان وهو ضعيف ورواية الثقات عن الزهري بخلافه انتهى فهذه الرواية لا تقاوم حديث الكتاب المسألة الثانية دل بمفهومه أنه يجوز لمملوك المرأة النظر إليها ما لم يكاتبها ويجد مال الكتابة وهو الذي دل له منطوق قوله تعالى أو ما ملكت أيمانهن ويدل له أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها لما تقنعت بثوب وكانت إذا قنعت رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك أخرجه أبو داود وإلى هذا ذهب أكثر العلماء من السلف وهو قول الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أن المملوك كالأجنبي قالوا يدل له صحة تزويجها إياة بعد العتق وأجابوا عن الحديث بأنه مفهوم لا يعمل به ولا يخفى ضعف هذا والحق بالاتباع أولى انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح انتهى قال البيهقي في السنن الكبرى قال الشافعي في القديم لم أحفظ عن سفيان أن الزهري سمعه من نبهان ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبت هذا الحديث قال البيهقي ورواه معمر عن الزهري حدثني نبهان فذكر سماع الزهري من نبهان إلا أن البخاري ومسلما لم يخرجا حديثه في الصحيح وكأنه لم يثبت عدالته عندهما أو لم يخرج
[ 311 ]
عن حد الجهالة برواية عدل عنه وقد رواه غير الزهري عنه إن كان محفوظا وهو فيما رواه قبيصة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن مكاتب مولى أم سلمة يقال له نبهان فذكر هذا الحديث هكذا قاله ابن خزيمة عن قبيصة وذكر محمد بن يحيى الذهلي أن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة روى عن الزهري قال كان لأم سلمة مكاتب يقال له نبهان 2 باب في بيع المكاتب بفتح التاء (إذا فسخت) بصيغة المجهول (المكاتبة) وبوب البخاري باب بيع المكاتب إذا رضي (في كتابتها) أي في مال كتابتها (إلى أهلك) أي ساداتك (ويكون) بالنصب عطف على المنصوب السابق (ولاؤك) أي ولاء العتق لي وهو إذا مات المعتق بفتح التاء ورثه معتقه بكسر التاء أو ورثه معتقه والولاء كالنسب فلا يزول بالإزالة كذا في النهاية قال مالك إذا كاتب المكاتب فعتق فإنما يرثه أولى الناس ممن كاتبه من الرجال يوم توفي المكاتب من ولد أو عصبة انتهى (فعلت) وهذا جواب الشرط وظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا أدت جميع مال الكتابة وليس ذلك مرادا وكيف تطلب ولاء من أعتقه غيرها وقد أزال هذا الإشكال ما وقع في الحديث الآتي من طريق هشام حيث قال أن أعدها عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت فتبين أن غرضها أن تشتريها شراء صحيحا ثم تعتقها إذ العتق فرع ثبوت الملك (فذكرت ذلك) الذي قالته عائشة (فأبوا) أي امتنعوا أي يكون الولاء لعائشة (إن شاءت) عائشة (أن تحتسب) الأجر (عليك) عند الله (ويكون) بالنصب عطف على أن تحتسب (لنا ولاؤك) لا لها (فذكرت) عائشة (ابتاعي) أي ابتاعيها (فأعتقي) أي فأعتقيها بهمزة قطع قاله القسطلاني قال السندي أي اشترى مع ذلك الشرط قالوا إنما كان خصوصيته ليظهر لهم إبطال
[ 312 ]
الشروط الفاسدة وأنها لا تنفع أصلا انتهى (ما بال) أي ما حال (ليست في كتاب الله) أي في حكم الله الذي كتبه على عباده وشرعه لهم قال أبو خزيمة أي ليس في حكم الله جوازها أو وجوبها لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب باطل لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن شروط من أوصافه أو نجومه ونحو ذلك فلا يبطل فالشروط المشروعة صحيحة وغيرها باطل (أحق وأوثق) ليس أفعل التفضيل فيهما على بابه فالمراد أن شرط الله هو الحق والقوي وما سواه باطل قال القسطلاني وظاهر هذا الحديث جواز بيع رقبة المكاتب إذا رضي بذلك ولو لم يعجز نفسه واختاره البخاري وهو مذهب الإمام أحمد ومنعه أبو حنيفة والشافعي في الأصح وبعض المالكية وأجابوا عن قصة بريرة بأنها عجزت نفسها لأنها استعانت بعائشة في ذلك وعورض بأنه ليس في استعانتها ما يستلزم العجز ولا سيما مع القول بجواز كتابة من لا مال عنده ولا حرفة له قال ابن عبد البر ليس في شئ من طرق حديث بريرة أنها عجزت عن أداء النجوم ولا أخبرت بأنها قد حل عليها شئ ولم يرد في شئ من طرقه استفصال النبي صلى الله عليه وسلم لها عن شئ من ذلك انتهى لكن قال البيهقي في المعرفة قال الشافعي إذا رضي أهلها بالبيع ورضيت المكاتبة بالبيع فإن ذلك ترك للكتابة انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (أوقية) بضم الهمزة المضمومة وهي أربعون درهما (فأعينيني) بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة هكذا في النسخ وكذا في رواية للبخاري رحمه الله (أن أعدها) أي الأواقي (وأعتقك) بالنصب عطف على أعدها (وساق) أي هشام (الحديث نحو الزهري) ولفظ البخاري من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها فقالت إني قد عرضت
[ 313 ]
ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته فقال خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق قالت عائشة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست كتاب الله فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق ما بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق يا فلان ولي الولاء إنما الولاء لمن أعتق انتهى (إنما الولاء لمن أعتق) ويستفاد من التعبير بإنما إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه فلا ولاء لمن أسلم على يديه رجل وفيه جواز سعي المكاتب وسؤاله واكتسابه وتمكين السيد له من ذلك لكن محل الجواز إذا عرفت جهة حل كسبه وأن للمكاتب أن يسأل من حين الكتابة ولا يشترط في ذلك عجزه خلافا لمن شرطه وأنه لا بأس بتعجيل مال الكتابة قال الخطابي في خبر بريرة دليل على أن بيع المكاتب جائز لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لعائشة في ابتياعها بعد أن جاءتها تستعين بها في ذلك ولا دلالة في الحديث على أنها قد عجزت عن أداء نجومها وتأول الخبر من منع من بيع المكاتب وفيه دليل على أنه لا ولاء لغير المعتق وأن من أسلم على يد رجل لم يكن له ولاؤه لأنه غير معتق وكلمة إنما تعمل في الإيجاب والسلب جميعا انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (عن ابن إسحاق) هو محمد بن إسحاق بن يسار وروايته عند المؤلف بالعنعنة وروى يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن جعفر كذا في أسد الغابة وهكذا في الإصابة عن المغاري بن إسحاق (وقعت جويرية) بضم الجيم مصغرا وكانت تحت مسافع بن صفوان (بنت الحارث بن المصطلق) بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء وكسر اللام وكان الحارث سيد قومه (شماس) بمعجمة مفتوحة وميم مشددة فألف فمهملة وكان ثابت
[ 314 ]
خطيب الأنصار من كبار الصحابة بشره صلى الله عليه وسلم بالجنة وعند ابن إسحاق في المغازي لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية في سهم ثابت بن قيس (أو ابن عم له) أي لثابت هكذا بأو التي للشك عند المؤلف وكذا في المغازي وذكره الواقدي بالواو للشركة وأنه خلصها من ابن عمه بنخلات له بالمدينة وسيجئ لفظه (على نفسها) بتسع أواق من ذهب كما ذكره الواقدي (وكانت امرأة ملاحة) أي مليحة قال الخطابي فعال يجئ في النعوت بمعنى التوكيد فإذا شددوا كان أبلغ في التوكيد انتهى وفي شرح المواهب ملاحة بفتح الميم مصدر ملح بضم اللام أي ذات بهجة وحسن ومنظر انتهى وقال الإمام ابن الأثير في النهاية امرأة ملاحة أي شديدة الملاحة وهو من أبنية المبالغة وفي كتاب الزمخشري وكانت امرأة ملاحة أي ذات ملاحة وفعال مبالغة في فعيل نحو كريم وكرام وكبير وكبار وفعال مشدد أبلغ منه انتهى (تأخذها العين) وعند ابن إسحاق وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه (في كتابتها) أي تستعينه في كتابتها (كرهت مكانها) خوفا أن يرغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فينكحها لحسنها وجمالها وكانت ابنة عشرين سنة (الذي رأيت) من حسنها وملاحتها (يارسول الله) زاد الواقدي إني امرأة مسلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله (بنت الحارث) سيد قومه (مالا يخفى عليك) وعند ابن إسحاق وقد أصابني من البلايا ما لم يخف عليك (وإني كاتبت على نفسي) وللواقدي ووقعت في سهم ثابت وابن عم له فخلصني منه بنخلات له بالمدينة فكاتبني على مالا طاقة لي به ولا يدان لي ولا قدرة عليه وهو تسع أواق من الذهب وما أكرهني على ذلك إلا أني رجوتك (فهل لك) ميل (خير منه) أي مما تسألين (وأتزوجك) قال الشامي نظرها صلى الله عليه وسلم حتى عرف حسنها لأنها كانت أمة ولو كانت حرة ما ملأ عينه منها لأنه لا يكره النظر إلى الإماء أو لأن مراده نكاحها (قالت) نعم يارسول الله (قد فعلت) زاد الواقدي فأرسل إلى ثابت بن قيس فطلبها منه فقال ثابت هي لك يا
[ 315 ]
رسول الله بأبي وأمي فأدى صلى الله عليه وسلم ما كان من كتابتها وأعتقها وتزوجها (فتسامع تعني الناس) هذا تفسير من بعض الرواة قال في تاج العروس تسامع به الناس أي عندهم (ما في أيديهم من السبي) الباقي بأيديهم بلا فداء على ما ذكره الواقدي أنهم ورجعوا بهم إلى بلادهم فيكون معناه فدوا جملة منهم وأعتق المسلمون الباقي لما تزوج جويرية كذا في شرح المواهب (وقالوا) هم (أصهار) أو بالنصب بتقدير أرسلوا أو أعتقوا أصهار (في سبيها) وفي بعض النسخ بسبيها (مائة أهل بيت) بالاضافة أي مائة طائفة كل واحدة منهن أهل بيت ولم تقل مائة هم أهل بيت لإيهام أنهم مائة نفس كلهم أهل بيت وليس مرادا وقد روي أنهم كانوا أكثر من سبعمائة قاله الزرقاني وفي أسد الغابة ولما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجبها وقسم لها وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية رواه شعبة ومسعر وابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس انتهى قال المنذري وفيه محمد بن إسحاق بن يسار انتهى قلت وقد صرح بالتحديث في رواية يونس بن بكير عنه وأخرجه أيضا أحمد في مسنده (قال داود هذا) الحديث (حجة في أن الولي هو يزوج) ولو (نفسه) المرأة التي هو وليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان سلطانا ولا ولي لها والسلطان ولي من لاولي له أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه أبو عوانة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وأيضا كان صلى الله عليه وسلم مولى العتاقة لها ومولى العتاقة ولي لمعتقه لكونه عصبة له فلما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان وليا لها وقد زوجها نفسه الكريمة فقد ثبت أن الولي يزوج نفسه وموضع الاستدلال هو قوله صلى الله عليه وسلم وأتزوجك فإن قلت قد روى ابن سعد في مرسل أبي قلابة قال سبى صلى الله عليه وسلم جويرية يعني وتزوجها فجاء أبوها فقال إن ابنتي لا يسبى مثلها فخل سبيلها فقال أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت قال بلى فأتاها أبوها فقال إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا قالت فإني أختار
[ 316 ]
الله ورسوله وسنده صحيح كذا في الإصابة وشرح المواهب ففيه أن أباها كان حاضرا وقت التزويج قلت أبوها وإن أسلم لكن لم يثبت إسلامه قبل هذا التزويج فكانت كمن لا ولي لها بل يعلم مما ذكره الحافظ في الاصابة في ترجمة الحارث بن أبي ضرار أبي جويرية رضي الله عنه إن إسلامه بعد هذا التزويج والله أعلم وقال ابن هشام ويقال اشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثابت بن قيس وأعتقها وأصدقها أربعمائة درهم انتهى 3 باب في العتق على شرط وفي نسخة على الشرط وبوب ابن تيمية في المنتقى من أعتق عبدا وشرط عليه خدمة (أعتقك) أي أريد أن أعتقك (أن تخدم) تضم الدال المهملة (ما عشت) أي ما دمت تعيش في الدنيا (ما فارقت) أي لم أفارق (ما عشت) أي مدة حياتي (واشترطت) أم سلمة (على) ولفظ أحمد وابن ماجه عن سفينة أبي عبد الرحمن قال أعتقتني أم سلمة وشرطت علي أن أخدم النبي صلى الله عليه وسلم قال الخطابي هذا وعد عبر عنه باسم الشرط ولا يلزم الوفاء به وأكثر الفقهاء لا يصححون إيقاع الشرط بعد العتق لأنه شرط لا يلاقي ملكا ومنافع الحر لا يملكها غيره إلا في الإجارة أو في معناها انتهى وفي شرح السنة لو قال رجل لعبده أعتقك على أن تخدمني شهرا فقبل عتق في الحال وعليه خدمة شهر ولو قال على أن تخدمن أبدا أو مطلقا فقبل عتق في الحال وعليه قيمة رقبته للمولى وهذا الشرط إن كان مقرونا بالعتق فعلى العبد القيمة ولا خدمة وإن كان بعد العتق فلا يلزم الشرط ولا شئ على العبد عند أكثر الفقهاء انتهى
[ 317 ]
وفي النيل وقد استدل بهذا الحديث على صحة العتق المعلق على شرط قال ابن رشد ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمته قال ابن رسلان في شرح السنن وقد اختلفوا في هذا فكان ابن سيرين يثبت الشرط في مثل هذا وسئل عنه أحمد فقال يشتري هذه الخدمة من صاحبه الذي اشترط له قيل له يشتري بالدرهم قال نعم انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه وقال النسائي لا يأس بأسناده هذا آخر كلامه وسعيد بن جمهان أبو حفص الأسلمي البصري وثقه يحيى بن معين وأبو داود السجستاني وقال أبو حاتم الرازي شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به انتهى 4 باب فيمن أعتق نصيبا له عن مملوك (أبو الوليد) الطيالسي في إسناده (عن أبيه) وروى محمد بن كثير مرسلا (شقصا) بكسر أوله أي سهما ونصيبا مبهما أو معينا قال السيوطي شقصا أو شقيصا كلاهما بمعنى وهو النصيب في العين المشتركة من كل شئ (فذكر) بصيغة المجهول (ذلك) أي ما ذكر من إعتاق شقص (ليس لله شريك) أي العتق لله فينبغي أن يعتق كله ولا يجعل نفسه شريكا لله تعالى (فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه) أي حكم بعتقه كله قال الطيبي إن السيد والمملوك في كونهما مخلوقين سواء إلا أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض في الرزق وجعله تحت تصرفه تمتيعا فإذا رجع بعضه إلى الأصل سرى بالغلبة في البعض الآخر إذ ليس لله شريك ما في شئ من الأشياء انتهى وقال بعضهم ينبغي أن يعتق جميع عبده فإن العتق لله سبحانه فإن أعتق بعضه فيكون أمر سيده نافذا فيه بعد فهو كشريك له تعالى صورة كذا في المرقاة ولفظ أحمد في مسنده عن أبي المليح عن أبيه أن رجلا من قومنا أعتق شقصا له من مملوكه فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خلاصه عليه في ماله وقال ليس لله عزوجل شريك وفي لفظ له هو حر كله ليس لله شريك انتهى
[ 318 ]
قال الخطابي والحديث فيه دليل على أن المملوك يعتق كله إذا أعتق الشقص منه ولا يتوقف على عتق الشريك الآخر وأداء القيمة ولا على الاستسعاء ألا تراه يقول وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه وقال ليس لله شريك فنفى أن يقارن الملك العتق وأن يجتمعا في شخص واحد وهذا إذا كان المعتق موسرا فإذا كان معسرا كان الحكم بخلاف على ما ورد بيانه في السنة انتهى وسيأتي بيانه مفصلا قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه وقال النسائي أرسله سعيد بن أبي عروبة وهشام بن أبي عبد الله وساقه عنهما مرسلا وقال هشام وسعيد أثبت من همام في قتادة وحديثهما أولى بالصواب هذا آخر كلامه وأبو المليح اسمه عامر ويقال عمرو يقال زيد وهو ثقة محتج بحديثه في الصحيحين وأبوه أسامة بن عمير هذلي بصري له صحبة ولا يعلم أن أحدا روى عنه غير ابنه أبي المليح انتهى وقال في الفتح حديث أبي المليح عند أبي داود والنسائي بإسناد قوي وأخرجه أحمد بإسناد حسن من حديث سمرة أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو كله فليس لله شريك انتهى (شقيصا) بفتح الشين وكسر القاف فالشقص والشقيص مثل النصف والنصف وهو القليل من كل شئ وقيل هو النصيب قليلا كان أو كثيرا وقال الداودي الشقص والسهم والنصيب والحظ كله واحد قاله العيني وقد تقدم بعض بيانه (غرمه) من باب التفعيل والغرامة ما يلزم أداؤه والضمير المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمنصوب إلى الرجل المعتق بكسر التاء (بقية ثمنه) أي ثمن العبد لشريكه غير المعتق أي جعل النبي صلى الله عليه وسلم غرامة الشريك لبقية ثمن العبد على المعتق (فعليه خلاصه) أي فعلى المعتق خلاص العبد كله من الرق (عتق) أي العبد
[ 319 ]
(من ماله) أي المعتق بأن يؤدي قيمة الباقي من حصة العبد من ماله (إن كان له مال) أي يبلغ قيمة باقية وأما وجه الجمع بين خبر أبي المليح عن أبيه وبين خبر أبي هريرة هذا فقد تقدم من كلام الخطابي وقال في الفتح ويمكن حمل حديث أبي هريرة على ما إذا كان المعتق غنيا أو ما إذا كان جميعه له فأعتق بعضه وسيجئ بيانه بأتم وجه مع ذكر المذاهب قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه 5 باب من ذكر السعاية الرحمن في هذا الحديث ولما اختلف على قتادة بذكر السعاية في حديث أبي هريرة فمنهم من روى ذكر السعاية عن قتادة بإسناده إلى أبي هريرة من قول النبي ومنهم من رواه عن قتادة من قوله فلذا عقد المؤلف هذا الباب
[ 320 ]
(في مملوكه) بينه وبين غيره (فعليه) أي على المعتق (أن يعتقه) أي مملوكا (إن كان له) أي للمعتق (مال) يبلغ قيمة بقية العبد (وإلا) بأن لم يكن للذي أعتق مال (استسعى) بضم تاء الاستفعال مبنيا للمفعول أي ألزم ومعنى الاستسعاء أن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل قيمة نصيب الشريك الآخر فإذا دفعها إليه عتق هكذا فسره الجمهور قاله النووي (العبد) السعي في تحصيل القدر الذي يخلص به باقيه من الرق حال كونه (غير مشقوق عليه) في الاكتساب إذا عجز قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه
[ 321 ]
(فخلاصه) كله من الرق (في ماله) بأن يؤدي قيمة باقية من ماله (قوم) بضم القاف مبنيا للمفعول (قيمة عدل) بأن لا يزاد قيمته ولا ينقص (ثم استسعى) أي ألزم العبد (لصاحبه) أي لسيد العبد الذي هو غير معتق لحصته (في قمته) العبد (غير مشقوق) في الاكتساب إذا عجز (عليه) أي على العبد قال العيني أي غير مكلف عليه في الا كتساب وكان بل يكلف العبد بالإستسعاء قدر نصيب الشريك الآخر بلا تشديد فإذا دفعه إليه عتق انتهى والحديث أخرجه الأئمة الستة وفي الحديث دليل على الأخذ بالإستسعاء إذا كان المعتق معسرا
[ 322 ]
قال في الفتح وقد ذهب إلى الأخذ با ستسعاء روى إذا كان المعتق معسرا أبو حنيفة وصاحباه والأوزاعي والثوري وإسحاق وأحمد في رواية وآخرون ثم اختلفوا فقال الأكثر يعتق جميعه في الحال ويستسعى العبد في تحصيل قيمة نصيب الشريك وزاد ابن أبي ليلى فقال ثم يرجع العبد على المعتق الأول بما أداه للشريك وقال أبو حنيفة وحده يتخير الشريك بين الإستسعاء وبين عتق نصيبه وهذا يدل على أنه لا يعتق عنده ابتداء إلا النصيب الأول فقط وهو موافق لما جنح إليه البخاري من أنه يصير كالمكاتب انتهى وقال العيني في شرح البخاري وعند أبي حنيفة إذا كان المعتق موسرا فالشريك بالخيار إن شاء أعتق والولاء بينهما نصفان وإن شاء استسعى العبد في نصف القيمة فإذا أداها عتق والولاء بينهما نصفان وإن شاء ضمن المعتق نصف القيمة فإذا أداها عتق ورجع بها المضمن على العبد فالإستسعاء ولم فيها وكان الولاء للمعتق وإن كان المعتق معسرا فالشريك بالخيار إن شاء أعتق وإن شاء استسعى العبد في نصف قيمته فأيهما فعل فالولاء بينهما نصفان وحاصل مذهب أبي حنيفة أنه يرى بتجزئ العتق وأن يسار المعتق لا يمنع السعاية انتهى (قال أبو داود في حديثهما جميعا) أي في حديث يزيد بني زريع ومحمد بن بشر كليهما عن سعيد بن أبي عروبة ذكر الاستسعاء (أخبرنا يحيى) هو ابن سعيد ذكره المزي وفي رواية الطحاوي حدثنا يزيد بن سنان حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن
[ 323 ]
بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي قال من أعتق نصيبا أو شركا له في مملوك فعليه خلاصه كله في ماله فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه (وابن أبي عدي) زريع ومحمد بن بشر العبدي ويحيى بن سعيد القطان وابن أبي عدي فهؤلاء كلهم رووه عن سعيد بن أبي عروبة بذكر الاستسعاء بل روى بذكره عبد الله بن المبارك وحديثه عند البخاري وإسماعيل بن إبراهيم وعلي بن مسهر وحديثهما عند مسلم وعيسى بن يونس وحديثه عند مسلم وعبدة بن سليمان وحديثه عند النسائي وروح بن عبادة وحديثه عند الطحاوي كلهم عن ابن أبي عروبة وقال صاحب الاستذكار وممن رواه عن سعيد بن أبي عروبة بذكر السعاية محمد بن بكر وذكر جماعة (رواه روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة لم يذكر السعاية) هكذا ذكره المؤلف وعند الطحاوي من رواية روح عن ابن أبي عروبة بذكر السعاية وكذا ذكره ابن عبد البر والله أعلم
[ 324 ]
(ورواه جرير بن حازم) وحديثه عند البخاري في باب الشركة في الرقيق من كتاب الشركة بلفظ حدثنا أبو النعمان حدثنا جرير بن حازم عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي قال من أعتق شقصا في عبد أعتق كله إن كان له مال وإلا استسعى غير مشقوق عليه وأخرجه أيضا في كتاب العتق وأخرجه أيضا مسلم بنحوه وأخرجه الإسماعيلي من طريق بشر بن السري ويحيى بن بكير جميعا عن جرير بن حاز بلفظ من أعتق شقصا من غلام وكان للذي أعتقه من المال ما يبلغ قيمة العبد أعتق في ماله وإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه كذا في الفتح (وموسى بن خلف) بالخاء واللام المفتوحتين العمى قاله العين
[ 325 ]
قال الحافظ وأما رواية موسى بن خلف فوصلها الخطيب في كتاب الفصل والوصل من طريق أبي ظفر عبد السلام بن مطهر عنه عن قتادة عن النضر ولفظه من أعتق شقصا له في مملوك فعليه خلاصة إن كان له مال فإن لم يكن له مال استسعى غير مشقوق عليه انتهى قال المنذري قال أبو داود ورواه روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة لم يذكر السعاية وقال أبو داود يحيى بن سعيد وابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة لم يذكر فيه السعاية ورواه يزيد بن زريع عن سعيد فذكر فيه السعاية وقال البخاري رواه سعيد عن قتادة فلم يذكر السعاية . وقال الخطابي اضطرب سعيد بن أبي عروبة في السعاية مرة يذكرها ومرة لا يذكرها فدل على أنها ليست من متن الحديث عنده وإنما هو من كلام قتادة وتفسيره على ما ذكره همام وبينه ويدل على صحة ذلك حديث ابن عمر وقد ذكره أبو داود في الباب الذي يليه وقال الترمذي روى شعبة هذا الحديث عن قتادة ولم يذكر فيه السعاية وقال أبو عبد الرحمن النسائي أثبت أصحاب قتادة شعبة وهشام على خلاف سعيد بن أبي عروبة وروايتهما والله أعلم أشبه
[ 326 ]
بالصواب عندنا وقد بلغني أن هماما روى هذا الحديث عن قتادة فجعل الكلام الأخير قوله وإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه قول قتادة والله أعلم وقال عبد الرحمن بن مهدي أحاديث همام عن قتادة أصح من حديث غيره لأنه كتبها إملاء وقال الدارقطني روى هذا الحديث شعبة وهشام عن قتادة وهما أثبت فلم يذكرا فيه الإستسعاء ووافقها هما وفصل الإستسعاء من الحديث فجعله من رأى قتادة وسمعت أبا بكر النيسابوري يقول ما أحسن ما رواه همام وضبطه وفصل بين قول النبي وبين قول قتادة وقال أبو عمر يوسف ابن عبد البر والذين لم يذكرو السعاية أثبت ممن ذكرها وقال أبو محمد الأصيلي وأبو الحسن بن القصار وغيرهما من أسقط السعاية أولى ممن ذكرها وقال البيهقي فقد اجتمع هاهنا شعبة مع فضل حفظه وعلمه بما سمع قتادة وما لم يسمع وهشام مع فضل حفيظه وهمام مع صحة كتابة وزيادة معرفته بما ليس من الحديث على خلاف ابن أبي عروبة ومن تابعه في إدراج السعاية في الحديث وفي هذا ما يضعف ثبوت الإستسعاء بالحديث
[ 327 ]
وذكر أبو بكر بن الخطيب أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقري قال رواه همام وزاد فيه ذكر الإستسعاء وجعله من قول قتادة وميزه من كلام النبي انتهى كلام المنذري وفي فتح الباري قال ابن العربي اتفقوا على أن ذكر الإستسعاء ليس من قول النبي وإنما هو من قول قتادة ونقل الخلال في العلل عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد في الإستسعاء وضعفها أيضا الأثرم عن سليمان بن حرب انتهى وقال الإسماعيلي قوله ثم استسعى العبد ليس في الخبر مسندا وإنما هو قول قتادة مدرج في الخبر على ما رواه همام وقال ابن المنذر والخطابي هذا الكلام الأخير من فتيا قتادة ليس في المتن انتهى وفي عمدة القاري قال أبو عمر بن عبد البر روى أبو هريرة هذا الحديث على خلاف ما
[ 328 ]
رواه ابن عمر واختلف في حديثه وهو حديث يدور على قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة واختلف أصحاب قتادة عليه في الاستسعاء وهو الموضع المخالف لحديث ابن عمر من رواية مالك وغيره واتفق شعبة وهمام على ترك ذكر السعاية في هذا الحديث والقول قولهم في قتادة عند جميع أهل العلم بالحديث إذا خالفهم في قتادة غيرهم وأصحاب قتادة الذين هم حجة فيه هؤلاء الثلاثة فإن اتفق هؤلاء الثلاثة لم يعرج على من خالفهم في قتادة وإن اختلفوا نظر فإن اتفق منهم إثنان وانفرد واحد فالقول قول الاثنين لا سيما إذا كان أحدهما شعبة وليس أحد بالجملة في قتادة مثل شعبة لأنه كان يوقفه على الإسناد والسماع وقد اتفق شعبة وهشام في هذا الحديث على سقوط ذكر الاستسعاء فيه وتابعهما همام وفي هذا تقوية لحديث ابن عمر وهو حديث مدني صحيح لا يقاس به غيره وهو أولى ما قيل في هذا الباب انتهى وقال البيهقي ضعف الشافعي السعاية بوجوه ثم ذكر مثل ما تقدم وقال الخطابي لا يثبته أهل النقل مسندا عن النبي ويزعمون أنه من قول قتادة انتهى قلت كما نقل المنذري قول أبي داود هكذا قال الخطابي في المعالم وهذا لفظه قال أبو داود ورواه يحيى بن سعيد وابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة ولم يذكرا فيه السعاية لكن هذه العبارة التي نقلها الخطابي والمنذري عن المؤلف أبي داود لم توجد في نسخة واحدة من نسخ السنن وكذا لم يذكرها المزي في الأطراف والذي أظنه أن الخطابي فهم هذا المعنى الذي ذكره من قول أبي داود عن سعيد بإسناده ومعناه والمنذري قد تبع الخطابي في هذا فإن كان كذلك فهذا وهم من الإمامين الخطابي والمنذري لأن أبا داود روى حديث يحيى بن سعيد وابن أبي عدي جميعا عن سعيد ولم يسق لفظه بل أحال على ما قبله وفيه ذكر الإستسعاء وساق الطحاوي لفظ يحيى القطان عن سعيد وفيه ذكر الإستسعاء وأورد الحافظ المزي في الأطراف إسناد حديث أبان بن يزيد عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك وإسناد حديث محمد بن بشار عن يحيى بن سعيد وابن أبي عدي كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر ثم قال المزي وفي حديث أبان وابن أبي عروبة ذكر الاستسعاء انتهى ويحتمل أن مراد المؤلف أبي داود بقوله بإسناده ومعناه يعني بغير ذكر الاستسعاء فحينئذ
[ 329 ]
القول ما قال الخطابي والمنذري رحمهما الله لكن هذا المعنى غير ظاهر من اللفظ والله أعلم قال الفقير عفا عنه هكذا جزم هؤلاء الأئمة بأن ذكر الإستسعاء مدرج من قول قتادة رحمه الله وأبى ذلك آخرون من الأئمة منهم صاحبا الصحيح محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج فصححا كون الجميع مرفوعا أي رواية سعيد بن أبي عروبة للسعاية ورفعها وأخرجاه في صحيحهما وهو الذي رجحه الطحاوي وابن حزم وابن المواق وابن دقيق العيد وابن حجر العسقلاني وجماعة لأن سعيد بن أبي عروبة أعرف بحديث قتادة لكثرة ملازمته له وكثرة أخذه عنه من همام وغيره وهشام وشعبة وإن كان أحفظ من سعيد لكنهما لم ينافيا ما رواه وإنما اقتصر من الحديث على بعضه وليس المجلس متحدا حتى يتوقف في زيادة سعيد فإن ملازمة سعيد لقتادة كانت أكثر منهما فسمع منه ما لم يسمعه غيره وهذا كله لو انفرد وسعيد لم ينفرد وقد قال النسائي هشام وسعيد أثبت في قتادة من همام وما أعل به حديث سعيد من كونه اختلط أو تفرد به مردود لأنه في الصحيحين وغيرهما من رواية من سمع منه قبل الاختلاط كيزيد بن زريع ووافق سعيدا على ذلك جماعة منهم جرير بن حازم وهم عند البخاري وأبان بن يزيد العطار وهو عند أبي داود والنسائي وحجاج بن حجاج وهو عند أحمد بن حفص أحد شيوخ البخاري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن حجاج بن حجاج عن قتادة وفيها ذكر السعاية وحجاج بن أرطاة عن قتادة وهو عند الطحاوي وموسى بن خلف وهو عند الخطيب ويحيى بن صبيح وهو عند الطحاوي من طريق سفيان بن عيينة عن سعيد بن أبي عروبة ويحيى بن صبيح كلاهما عن قتادة فهؤلاء ستة أنفس كلهم تابعوا سعيد بن أبي عروبة ووافقوه على روايتهم عن قتادة بذكر الإستسعاء مرفوعا إلى النبي وقد رواه هكذا عن سعيد بن أبي عروبة جماعة كيزيد بن زريع وعبد الله بن المبارك وعيسى بن يونس وإسماعيل بن إبراهيم وعلي بن مسهر ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن بشر العبدي وابن أبي عدي وعبدة بن سليمان وروح بن عبادة ومحمد بن بكر البرساني وهم ثقات حفاظ وعبدة بن سليمان فيهم هو أثبت الناس سماعا من ابن أبي عروبة ولذا قال ابن حزم هذا خبر في غاية الصحة فلا يجوز الخروج عن الزيادة التي فيه وعلى ثبوت الاستسعاء ثلاثون صحابيا انتهى كلامه فإذا سكت شعبة عن الاستسعاء وكذا هشام سكت عنه مرة وجعله مرة من قول قتادة لم
[ 330 ]
يكن ذلك حجة على سعيد بن أبي عروبة لأنه ثقة حافظ قد زاد عليهما شيئا فالقول قوله كيف وقد وافقه على ذلك جماعة من الحفاظ المتقين قال في الفتح وهمام هو الذي انفرد بالتفصيل وهو الذي خالف الجميع في القدر المتفق على رفعه فدل على أن هماما لم يضبطه كما ينبغي والعجب ممن طعن في رفع الإستسعاء بكون همام جعله من قول قتادة ولم يطعن فيما يدل على ترك الإستسعاء وهو قوله في حديث ابن عمر الآتي وإلا فقد عتق منه ما عتق بكون أيوب جعله من قول نافع ففصل قول نافع من الحديث وميزه كما صنع همام سواء فلم يجعلوه مدرجا كما جعلوا حديث همام مدرجا مع كون يحيى بن سعيد وافق أيوب في ذلك وهمام لم يوافقه أحد وقد جزم بكون حديث نافع مدرجا محمد بن وضاح وآخرون والذي يظهر أن الحديثين صحيحان مرفوعان وفاقا لعمل صاحبي الصحيح وقال ابن المواق والإنصاف أن لا نوهم الجماعة بقول واحد مع احتمال أن يكون سمع قتادة يفتي فليس بين تحديثه به مرة وفتياه به أخرى منافاة قال الحافظ ويؤيد ذلك أن البيهقي أخرج من طريق الأوزاعي عن قتادة أنه أفتى بذلك والجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة ممكن بخلاف ما جزم به الإسماعيلي قال ابن دقيق العيد حسبك بما اتفق عليه الشيخان فإنه أعلى درجات الصحيح والذين لم يقولوا بالإستسعاء تعللوفي تضعيفه بتعليلات لا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الإستدلال فيها بأحاديث يرد عليها مثل تلك التعليلات وكأن البخاري إمام الصنعة خشي من الطعن في رواية سعيد بن أبي عروبة فأشار إلى ثبوتها بإشارات خفية كعادته وأراد الرد على من زعم أن الإستسعاء في هذا الحديث غير محفوظ وأن سعيدا تفرد به فإن البخاري أخرجه أولا من رواية يزيد بن زريع عن سعيد وهو من أثبت الناس فيه وسمع من قبل الاختلاط ثم استظهر له برواية جرير بن حازم بمتابعته وموافقته لينفي عنه التفرد ثم ذكر ثلاثة تابعوهما على ذكرها وهو حجاج بن حجاج وأبان وموسى بن خلف جميعا عن قتادة ثم قال البخاري واختصره شعبة وكأنه جواب عن سؤال مقدر وهو أن شعبة أحفظ الناس لحديث قتادة فكيف لم يذكر الاستسعاء فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفا لأنه أورده مختصرا وغيره ساقه بتمامه والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد قال الحافظ وقد وقع ذكر الاستسعاء في غير حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني من
[ 331 ]
حديث جابر وأخرجه البيهقي من طريق خالد بن أبي قلابة عن رجل من بني عذرة والله أعلم 6 باب فيمن روى بصيغة المعروف (أنه) أي العبد (لا يستسعى) كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد وغيرهم فإنهم قالوا ينفذ العتق في نصيب المعتق فقط ولا يطالب المعتق بشئ ولا يستسعى العبد بل يبقى نصيب الشريك رقيقا كما كان وهذا إذا كان المعتق معسرا حال الإعتاق وهذا الباب هكذا في جميع النسخ الصحيحة وهو الصحيح وفي نسخة واحدة باب فيمن روى إن لم يكن له مال يستسعى (أقيم عليه) ولفظ الموطأ قوم عليه وهكذا عند الشيخين (قيمة العدل) بأن لا يزاد على قيمته ولا ينقص عنها (فأعطى) بصيغة المعروف (شركاءه) بالنصب هكذا رواه الأكثر ولبعضهم فأعطى على البناء للمفعول ورفع شركاءه قاله الحافظ (حصصهم) أي قيمة حصصهم فإن كان الشريك واحدا أعطاء جميع الباقي اتفاقا فلو كان مشتركا بين ثلاثة فأعتق أحدهم حصته وهي الثلث والثاني حصته وهي السدس فهل يقوم عليهما نصيب صاحب النصف بالسوية أو على قدر الحصص الجمهور على الثاني وعند المالكية والحنابلة خلاف كالخلاف في الشفعة إذا كانت لاثنين هل يأخذان بالسوية أو على قدر الملك (وأعتق) بضم الهمزة (عليه العبد) بعد إعطاء القيمة على ظاهره فلو أعتق الشريك قبل أخذ القيمة نفذ عتقه (وإلا) أي وإن لم يكن له مال (فقد أعتق منه ما أعتق) بضم الهمزتين في الموضعين أي وإن لم يكن المعتق موسرا فقد أعتق منه حصته وهي ما أعتق قال العيني في شرح البخاري احتج مالك والشافعي بهذا الحديث أنه إذا كان عبد بين إثنين فأعتق أحدهما نصيبه فإن كان له مال غرم نصيب صاحبه وعتق العبد من ماله وإن لم يكن له مال عتق من العبد ما عتق ولا يستسعى قال الترمذي وهذا قول أهل المدينة وعند أبي حنيفة أن شريكه مخير إما أنه يعتق
[ 332 ]
نصيبه أو يستسعى العبد والولاء في الوجهين لهما أو يضمن المعتق قيمة نصيبه لو كان موسرا أو يرجع بالذي ضمن على العبد ويكون الولاء للمعتق وعند أبي يوسف ومحمد ليس له إلا الضمان مع اليسار أو السعاية مع الإعسار ولا يرجع المعتق على العبد بشئ والولاء للمعتق في الوجهين ثم قال العيني ومذهب مالك أن المعتق إذا كان موسرا قوم عليه حصص شركائه وأغرمها لهم وأعتق كله بعد التقويم لا قبله وإن شاء الشريك أن يعتق حصته فله ذلك وليس له أن يمسكه قيقا ولا أن يكاتبه ولا أن يدبره ولا أن يبيعه وان كان معسرا فقد عتق ما أعتق والباقي رقيق يبيعه الذي هو له إن شاء أو يمسكه رقيقا أو يكاتبه أو يهبه أو يدبره وسواء أيسر المعتق بعد عتقه أو لم يوسر ومذهب الشافعي في قول وأحمد وإسحاق أن الذي أعتق إن كان موسرا قوم عليه حصة من شركه وهو حر كله حين أعتق الذي أعتق نصيبه وليس لمن يشركه أن يعتقه ولا أن يمسكه وإن كان معسرا فقد عتق ما عتق وبقي سائره مملوكا يتصرف فيه مالكه كيف شاء واحتج به أيضا مالك والثوري والشافعي وغيرهم على أن وجوب الضمان على الموسر خاصة دون المعسر يدل عليه قوله وإلا فقد أعتق منه ما أعتق قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه (بمعناه) أي بمعنى حديث مالك (عتق منه ما عتق) بفتح العين في الموضعين قال في المغرب وقد يقام العتق مقام الإعتاق وقال ابن الأثير يقال أعتق العبد أعتقه عتقا وعتاقه فهو معتق وأنا معتق وعتق فهو عتيق أي حررته وصار حرا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي
[ 333 ]
(قال أيوب فلا أدري) قال في الفتح هذا شك من أيوب في هذه الزيادة المتعلقة بحكم المعسر هل هي موصولة مرفوعة أو منقطعة مقطوعة وقد رواه عبد الوهاب عن أيوب فقال في آخره وربما قال وإن لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق وربما لم يقله وأكثر ظني أنه شئ يقوله نافع من قبله أخرجه النسائي وقد وافق أيوب على الشك في رفع هذه الزيادة يحيى بن سعيد عن نافع أخرجه مسلم والنسائي ولفظ النسائي وكان نافع يقول قال يحيى لا أدري أشئ كان من قبله يقوله أم شئ في الحديث فإن لم يكن عنده فقد جاز ما صنع ورواها من وجه آخر عن يحيى فجزم بأنها عن نافع وأدرجها في المرفوع من وجه آخر وجزم مسلم بأن أيوب ويحيى قالا لا ندري أهو في الحديث أو شئ قاله نافع من قبله ولم يختلف عن مالك في وصلها ولا عن عبيد الله بن عمر لكن اختلف في إثباتها وحذفها قال الإسماعيلي عامة الكوفيين رووا عن عبيد الله بن عمر في هذا الحديث حكم الموسر والمعسر معا والبصريون لم يذكروا إلا حكم الموسر فقط قال الحافظ فمن الكوفيين أبو أسامة عند البخاري وابن تمير عند مسلم وزهير عند النسائي وعيسى بن يونس عند أبي داود ومحمد بن عبيد عند أبي عوانة وأحمد ومن البصريين بشر بن المفضل عند البخاري وخالد بن الحارث ويحيى القطان عند النسائي وعبد الأعلى فيما ذكر الإسماعيلي لكن رواه النسائي من طريق زائدة عن عبيد الله وقال في آخره فإن لم يكن له مال عتق معه ما عتق وزائدة كوفي لكنه وافق البصريين والذين أثبتوها حفاظ فإثباتها عن عبيد الله مقدم وأثبتها أيضا جرير بن حازم كما عند البخاري وإسماعيل بن أمية عند الدارقطني وقد رجح الأئمة رواية من أثبت هذه الزيادة مرفوعة قال الشافعي لا أحسب عالما بالحديث يشك في أن مالكا أحفظ لحديث نافع من أيوب لأنه كان ألزم له منه حتى ولو أستويا فشك أحدهما في شئ لم يشك فيه صاحبه كانت الحجة مع ملم يشك ويؤيد ذلك قول عثمان الدارمي قلت لابن معين مالك في نافع أحب إليك أو أيوب قال مالك انتهى (شركا) بكسر المعجمة وسكون الراء وفي رواية أيوب عن نافع شقصا وفي أخرى
[ 334 ]
عن أيوب أيضا وكلاهما في البخاري عن نافع نصيبا والكل بمعنى والشرك في الأصل مصدر أطلق على متعلقة وهو العبد المشترك قاله الزرقاني (فعليه) أي من أعتق نصيبا له (عتقه) أي عتق المملوك (كله) بالجر لأنه تأكيد لقوله في مملوك قاله العيني (إن كان له ما) بلا لام أي شئ وفي بعض النسخ مال هو ما يتمول والمراد به هنا ما يسع نصيب الشريك ويباع عليه في ذلك ما يباع على المفلس قاله عياض (يبلغ ثمنه) أي ثمن العبد أي ثمن بقيته لأنه موسر بحصته والمراد قيمته لأن الثمن ما اشترى به واللازم ها هنا القيمة لا الثمن وقد بين المراد في رواية النسائي عن عبيد الله بن عمر وعمر نافع ومحمد ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر بلفظ وله مال يبلغ قيمة أنصباء شركائه فإنه يضمن لشركائه أنصباءهم ويعتق العبد قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (بمعنى) حديث (إبراهيم بن موسى) الرازي قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي وذكره البخاري تعليقا وفي حديث النسائي قال يحيى لا أدري شيئا كان من قبله يقوله أم شيئا في الحديث وذكره مسلم أيضا عن يحيى نحوه (جويرية) هو ابن أسماء (بمعنى) حديث (مالك) عن نافع (ولم يذكر) أي جويرية هذه الجملة (وإلا فقد عتق منه ما عتق) كما ذكره مالك (انتهى حديثه) أي جويرية (إلى) قوله (وأعتق عليه العبد) قال البخاري في صحيحه ورواه الليث وابن ذئب وابن إسحاق وجويرية ويحيى بن سعيد وإسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر عن النبي مختصرا انتهى يعني لم يذكروا الجملة الأخيرة في حق المعسر وهي قوله فقد عتق منه ما عتق والحديث أخرجه البخاري قال الإمام الشافعي لا أحسب عالما بالحديث ورواته يشك في أن مالكا أحفظ
[ 335 ]
لحديث نافع ولمالك فضل لحديث أصحابه وقال البيهقي وقد تابع مالكا على روايته عن نافع أثبت ابني عمر في زمانه وأحفظهم عبيد الله بن عمر ابن حفص (عن سالم عن ابن عمر) قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وفي رواية النسائي أقيم ما بقي في ماله قال الزهري إن كان له مال يبلغ ثمنه وذكر أبو بكر الخطيب أن الإمام أحمد رضي الله عنه رواه عن عبد الرزاق ثم قال لا أدري قوله إذا كان له ما يبلغ ثمن العبد في حديث النبي أو شئ قاله الزهري وكان موسى بن عقبة يقول للزهري أفضل كلامك من كلام النبي لما كان يحدث من حديث رسول الله فيخلطه بكلامه انتهى (يقوم) بصيغة المجهول (لا وكس) بفتح الواو وسكون الكاف بعدها مهملة بمعنى النقص أي لا نقص (ولا شطط) بمعجمة ثم مهملة مكررة والفتح أي لا جور ولا ظلم (ثم يعتق) بصيغة المجهول ولفظ مسلم ثم أعتق عليه من ماله إن كان موسرا قال الحافظ واتفق من قال من العلماء على أنه يباع عليه في حصة شريكة جميع ما يباع عليه في الدين على اختلاف عندهم في ذلك ولو كان عليه دين بقدر ما يملكه كان في حكم الموسر على أصح قولي العلماء وهو كالخلاف في أن الدين هل يمنع الزكاة أم لا انتهى وأخرج البخاري من حديث موسى بن عقبة أخبرني نافع عن ابن عمر أنه كان يفتي في العبد أو الأمة يكون بين الشركاء فيعتق أحدهم نصيبه منه يقول قد وجب عليه عتقه كله إذا كان الذي أعتق من المال ما يبلغ يقوم من ماله قيمة العدل ويدفع إلى الشركاء أنصباؤهم ويخلي سبيل المعتق يخبر ذلك ابن عمر عن النبي وفي هذا دليل على أن الموسر إذا أعتق نصيبه من مملوك عتق كله قال الحافظ ابن عبد البر لا خلاف في أن التقويم لا يكون إلا على الموسر ثم اختلفوا في وقت العتق فقال الجمهور والشافعي في الأصح وبعض المالكية أنه يعتق في الحال
[ 336 ]
وقال بعض الشافعية لو أعتق الشريك نصيبه بالتقويم كان لغوا ويغرم المعتق حصة نصيبه بالتقويم وحجتهم رواية أيوب عند البخاري حيث قال من أعتق نصيبا وكان له من المال ما يبلغ قيمته فهو عتيق وأوضح من ذلك رواية النسائي وابن حبان وغيرهما من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر بلفظ من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته وللطحاوي من طريق ابن أبي ذئب عن نافع فكان للذي يعتق نصيبه ما يبلغ ثمنه فهو كله حتى لو أعسر الموسر المعتق بعد ذلك استمر العتق وبقي ذلك دينا في ذمته ولو مات أخذ من تركته فإن لم يخلف شيئا لم يكن للشريك شئ واستمر العتق والمشهور عند المالكية أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة فلو أعتق الشريك قبل أخذ القيمة نفذ عتقه وهو أحد أقوال الشافعي وحجتهم رواية سالم عند البخاري حيث قال فإن كان موسرا قوم عليه ثم يعتق والجواب أنه لا يلزم من ترتيب العتق على التقويم ترتيبه على أداء القيمة فإن التقويم يفيد معرفة القيمة وأما الدفع فقدر زائد على ذلك وأما رواية مالك التي فيها فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد فلا تقتضي ترتيبا لسياقها بالواو انتهى وقال النووي إن من أعتق نصيبه من عبد مشترك قوم عليه باقيه إذا كان موسرا بقيمة عدل سواء كان العبد مسلما أو كافرا وسواء كان الشريك مسلما أو كافرا وسواء كان العتيق عبدا أو أمة ولا خيار للشريك في هذا ولا للعبد ولا للمعتق بل ينفذ هذا الحكم وإن كرهه كلهم مراعاة لحق الله تعالى في الحرية وأجمع العلماء على أن نصيب المعتق بنفس الإعتاق إلا ما حكاه القاضي عن ربيعة أنه قال لا يعتق نصيب المعتق موسرا كان أو معسرا وهذا مذهب باطل مخالف للأحاديث الصحيحة كلها والإجماع وأما نصيب الشريك فاختلفوا في حكمه إذا كان المعتق موسرا على مذاهب أحدها وهو الصحيح في مذهب الشافعي وبه قال ابن شبرمة والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق وبعض المالكية أنه عتق بنفس الإعتاق ويقوم عليه نصيب شريكه بقيمة يوم الإعتاق ويكون ولاء جميعه للمعتق وحكمه من حين الإعتاق حكم الأحرار في الميراث وغيره وليس للشريك إلا المطالبة بقيمة نصيبه كما لو قتله قال هؤلاء ولو أعسر المعتق بعد ذلك استمر نفوذ العتق وكانت القيمة دينا في ذمته ولو مات أخذت من تركته فإن لم تكن له تركة ضاعت القيمة واستمر عتق جميعه قالوا ولو أعتق الشريك نصيبه بعد إعتاق الأول نصيبه كان إعتاقه لغوا لأنه قد صار كله حرا
[ 337 ]
والمذهب الثاني أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة وهو المشهور من مذهب مالك وبه قال أهل الظاهر وهو قول للشافعي والثالث مذهب أبي حنيفة للشريك الخيار إن شاء استسعى العبد في نصف قيمته وإن شاء أعتق نصيبه والولاء بينهما وإن شاء قوم نصيبه على شريكة المعتق ثم يرجع المعتق بما دفع إلى شريكه على العبد يستسعيه في ذلك والولاء كله للمعتق قال والعبد في مدة السعاية بمنزلة المكاتب في كل أحكامه هذا كله فيما إذا كان المعتق لنصيبه موسرا فأما إذا كان معسرا حال الإعتاق ففيه مذاهب أيضا أحدها مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد وموافقيهم ينفذ العتق في نصيب المعتق فقط ولا يطالب المعتق بشئ ولا يستسعى العبد بل يبقى نصيب الشريك رقيقا كما كان وبهذا قال جمهور علماء الحجاز لحديث ابن عمر المذهب الثاني مذهب ابن شبرمة والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وسائر الكوفيين وإسحاق يستسعى العبد في حصة الشريك واختلف هؤلاء في رجوع العبد بما أدى في سعايته على معتقه فقال ابن أبي ليلى يرجع عليه وقال أبو حنيفة وصاحباه لا يرجع ثم هو عند أبي حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتب وعند الآخرين هو حربا لسراية ثم ذكر النووي باقي المذاهب ثم قال أما إذا ملك انسان عبدا بكماله فأعتق بعضه فيعتق كله في الحال بغير استسعاء هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والعلماء كافة وانفرد أبو حنيفة فقال يستسعى في بقيته لمولاه وخالفه أصحابه في ذلك فقالوا بقول الجمهور وحكى القاضي أنه روى عن طاوس وربيعة وحماد ورواية عن الحسن كقول أبي حنيفة وقاله أهل الظاهر عن الشعبي وعبيد الله بن الحسن العنبري أن للرجل أن يعتق من عبده ما شاء انتهى فإن قلت حديث أبي هريرة المذكور يدل على ثبوت استسعاء وحديث عبد الله بن عمر يدل على تركه فكيف التوفيق بينهما قلت إن الحديثين صحيحان لا يشك في صحتهما واتفق على إخراجهما الشيخان البخاري ومسلم وقد جمع بين الحديثين الأئمة الحذاق منهما البخاري والطحاوي والبيهقي وغيرهم قال البخاري في صحيحه بعد إخراج حديث عبد الله بن عمر من طرق شتى باب إذا أعتق نصيبا في عبد وليس له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة انتهى
[ 338 ]
فأشار البخاري بهذه الترجمة إلى أن المراد بقوله في حديث ابن عمر وإلا فقد عتق منه ما عتق أي وإلا فإن كان المعتق لا مال له يبلغ قيمة بقية العبد فقد تنجز عتق الجزء الذي كان يملكه وبقي الجزء الذي لشريكه على ما كان عليه أولا إلى أن يستسعى العبد في تحصيل القدر الذي يخلص به باقية من الرق إن قوي على ذلك فإن عجز نفسه استمرت حصة الشريك موقوفة وهو مصير من البخاري إلى القول بصحة الحديثين جميعا والحكم برفع الزيادتين معا وهما قوله في حديث ابن عمر وإلا فقد عتق منه ما عتق وقوله في حديث أبي هريرة فاستسعى به غير مشقوق عليه قاله الحافظ في الفتح وأما الطحاوي فإنه أخرج أولا حديث ابن عمر ثم قال فثبت أن ما رواه ابن عمر عن النبي من ذلك إنما هو في الموسر خاصة فأردنا أن ننظر في حكم عتاق المعسر كيف هو فقال قائلون قول رسول الله وإلا فقد عتق منه ما عتق دليل أن ما بقي من العبد لم يدخله عتاق فهو رقيق للذي لم يعتق على حاله وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا بل يسعى العبد في نصف قيمته للذي لم يعتقه وكان من الحجة لهم في ذلك أن أبا هريرة رضي الله عنه قد روى ذلك عن النبي كما رواه ابن عمر وزاد عليه شيئا بين به كيف حكم ما بقي من العبد بعد نصيب المعتق ثم ساق حديث أبي هريرة وقال بعد ذلك فكان هذا الحديث فيه ما في حديث ابن عمر وفيه وجوب السعاية على العبد إذا كان معتقه معسرا ثم روى حديث أبي المليح عن أبيه وقال بعد ذلك فدل قول النبي ليس لله شريك على أن العتاق إذا وجب ببعض العبد لله انتفي أن يكون لغيره على بقيته ملك فثبت بذلك أن إعتاق الموسر والمعسر جميعا يبرئان العبد من الرق فقد وافق حديث أبي المليح أيضا حديث أبي هريرة وزاد حديث أبي هريرة على حديث أبي المليح وعلى حديث ابن عمر وجوب السعاية للشريك الذي لم يعتق إذا كان المعتق معسرا فتصحيح هذه الآثار يوجب العمل بذلك ويوجب الضمان على المعتق الموسر لشريكه الذي لم يعتق ولا يوجب الضمان على المعتق المعسر ولكن العبد يسعى في ذلك للشريك الذي لم يعتق وهذا قول أبي يوسف ومحمد وبه نأخذ انتهى وفي فتح الباري وعمدة من ضعف حديث استسعاء في حديث ابن عمر قوله وإلا فقد عتق منه ما عتق وقد تقدم أنه في حق المعسر وأن المفهوم من ذلك أن الجزء الذي لشريك المعتق باق على حكمه الأول وليس فيه التصريح بأن يستمر رقيقا ولا فيه التصريح بأنه يعتق كله فللذي صحح رفع الإستسعاء أن يقول معنى الحديثين أن المعسر إذا أعتق حصته لم يسر
[ 339 ]
العتق في حصة شريكه بل تبقى حصة شريكه على حالها وهي الرق ثم يستسعى في عتق بقيته فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده ويدفعه إليه ويعتق وجعلوه في ذلك كالمكاتب وهو الذي جزم به البخاري والذي يظهر أنه في ذلك باختياره لقوله غير مشقوق عليه فلو كان ذلك على سبيل اللزوم بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتي يحصل ذلك لحصل له بذلك غاية المشقة وهو لا يلزم في الكتابة بذلك عند الجمهور لأنها غير واجهة فهذه مثلها وإلى هذا الجمع مال البيهقي وقال لا يبقى بين الحديثين معارضة أصلا وهو كما قال إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق في حصة الشريك إذا لم يختر العبد الإستسعاء فيعارضه حديث أبي المليح عن أبيه أخرجه أبو داود والنسائي وحديث سمرة عند أحمد بلفظ أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك فقال النبي هو كله فليس لله شريك ويمكن حمله على ما إذا كان المعتق غنيا أو على ما إذا كان جميعه له فأعتق بعضه فقد روى أبو داود من طريق ملقام بن التلب عن أبيه أن رجلا أعتق نصيبه مملوك فلم يضمنه النبي وهو محمول على المعسر وإلا لتعارضا انتهى قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي (عن ابن التلب) اسمه ملقام قال في التقريب ملقام بكسر أوله وسكون اللام ثم قاف ويقال بالهاء بدل الميم ابن الميم ابن التلب بفتح المثناة وكسر اللام وتشديد الموحدة التميمي العنبري مستور من الخامسة انتهى قال المنذري وابن التلب اسمه ملقام ويقال فيه هلقام وأبوه يكني أبل الملقام قال النسائي ينبغي أن يكون ملقام بن التلب ليس بالمشهور وقال البيهقي إسناده غير قوي انتهى وفي الإصابة التلب بن ثعلبة له صحبة وأحاديث روى له أبو داود والنسائي وقد استغفر له رسول الله ثلاثا وهو بفتح المثناة وكسر اللام بعدها موحدة حفيفة وقيل ثقيلة انتهى وحسن إسناده في الفتح (عن أبيه) التلب بن ثعلبة بن ربيعة (فلم يضمنه) قال الخطابي هذا غير مخالف للأحاديث المتقدمة وذلك أنه إذا كان معسرا لم يضمن وبقي الشقص مملوكا انتهى وتقدم من قول الحافظ أيضا أنه محمول على المعسر
[ 340 ]
وما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي قال في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما قال يضمن انتهى فهو محمول على على الموسر والله أعلم (قال أحمد) بن حنبل (إنما هو) التلب (بالتاء) المثناة الفوقانية (وكان شعبة) بن الحجاج (ألثغ) هو من لا يقدر على أداء بعض الحروف كالراء والسين والغين ونحوها قال في المصباح اللثغة على وزن غرفة حبسة في اللسان حتى تصير الراء لاما أو غينا أو السين ثاء ونحو ذلك قال الأزهري اللثغة أن يعدل بحرف إلى حرف ولثغ لثغا من باب تعب فهو ألثغ انتهى (لم يبين) شعبة للثغته (التاء) المثناة الفوقانية (من الثاء) المثلثة قال المنذري وأخرجه النسائي وقال أبو القاسم البغوي وبلغني أن شعبة كان ألثغ وكان يقول الثلب وإنما هو التلب 7 باب فيمن ملك ذا رحم محرم (من ملك ذا رحم) بفتح الراء وكسر الحاء وأصله موضع تكوين الولثم استعمل للقرابة فيقع على كل من بينك وبينه نسب يوجب تحريم النكاح (محرم) احترزا عن غيره وهو بالجمر وكان القياس أن يكون بالنصب لأنه صفة ذا رحم لا نعت رحم ولعله من باب جر الجوار كقوله
[ 341 ]
بيت ضب خرب وماء شن بارد ولو روى مرفوعا لكان له وجه كذا في المرقاة بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الراء المخففة ويقال محرم بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الراء المفتوحة قال في النهاية ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء يقال ذو رحم محرم ومحرم وهم من لا يحل نكاحه كالأم والبنت والأخت والعمة والخالة (فهو حر) يعني يعتق عليه بدخوله في ملكه قال ابن الأثير والذي ذهب إليه أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ذكرا كان أو أنثى وذهب الشافعي وغيره من الأئمة والصحابة والتابعين إلى أنه يعتق عليه الأولاد والآباء
[ 342 ]
والأمهات ولا يعتق عليه غيرهم من ذوي قرابته وذهب مالك إلى أنه يعتق عليه الولد والولدان والأخوة ولا يعتق غيرهم انتهى قال النووي اختلفوا في عتق الأقارب إذا ملكوا فقال أهل الظاهر لا يعتق أحد منهم بمجرد الملك سواء الوالد والولد وغيرهما بل لا بد من إنشاء عتق واحتجوا بحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه رواه مسلم وأصحاب السنن وقال الجمهور يحصل العتق في الأصول وإن علوا وفي الفروع وإن سفلوا بمجرد الملك واختلفوا فيما وراءهما فقال الشافعي وأصحابه لا يعتق غيرهما بالملك وقال مالك يعتق الأخوة أيضا وقال أبو حنيفة يعتق جميع ذوي الأرحام المحرمة انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقد تقدم اختلاف الأئمة في سماع الحسن من سمرة وقال أبو داود لم يحدث هذا الحديث إلا حماد بن سلمة وقد شك فيه وقال أبو داود من هذا أن الحديث ليس بمرفوع أو ليس بمتصل إنما هو عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي هذا الحديث لا نعرفه مسندا إلا من حديث حماد بن سلمة وقال البيهقي والحديث إذا تفرد حماد بن سلمة لم يشك فيه ثم يخالفه فيه من هو أحفظ منه وجب التوقف فيه وقد أشار البخاري إلى تضعيف هذا الحديث وقال على بن المديني هذا عندي منكر انتهى (روى محمد بن بكر) هذه العبارة أي من قوله روى محمد بن بكر البرساني إلى قوله وقد شك فيه ليست من رواية اللؤلؤي ولذا لم يذكرها المنذري قال المزي في الأطراف حديث أبي بكر البرساني في رواية أبي بكر بن داسة ولم يذكره أبو القاسم انتهى (عن قتادة أن
[ 343 ]
عمر بن الخطاب) قال المنذري وأخرجه النسائي وهو موقوف وقتادة لم يسمع من عمر فإن مولده بعد وفاة عمر بنيف وثلاثين سنة (قتادة عن الحسن) قال المنذري وأخرجه النسائي وهو مرسل (عن قتادة عن جابر بن زيد والحسن) قال المنذري وأخرجه النسائي وهو أيضا مرسل وقد أخرج النسائي وابن ماجه في سننهما من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم عتق ولفظ ابن ماجه من ملك ذا رحم محرم فهو حر وقال النسائي هذا حديث منكر ولا نعلم أحدا رواه عن سفيان غير ضمرة وقال الترمذي ولم يتابع ضمرة بن ربيعة على هذا الحديث وهو حديث خطأ عند أهل الحديث وذكر البيهقي أنه وهم فاحش والمحفوظ بهذا الإسناد حديث النهي عن بيع الولاء وعن هبته وضمرة بن ربيعة لم يحتج به صاحبا الصحيح هذا آخر كلامه وضمرة بن ربيعة هو أبو عبد الله الفلسطيني وثقه يحيى بن معين وغيره ولم يخرج البخاري ومسلم من حديثه شيئا كما ذكر والوهم حصل له في هذا الحديث كما ذكر الأئمة انتهى (سعيد أحفظ من حماد) لم توجد هذه العبارة في بعض النسخ والله أعلم 8 في عتق أمهات الأولاد هل هي معتقة بعد موت سيدها أو يجوز بيعها لوارثه ولم يذكر الحكم ما هو فكأنه تركه
[ 344 ]
للخلاف فيه قال الحافظ أبو عمر اختلف السلف والخلف من العلماء في عتق أم الولد وفي جواز بيعها فالثابت عن عمر رضي الله عنه عدم جواز بيعها وروي مثل ذلك عن عثمان وعمر بن عبدالعزير وهو قول أكثر التابعين منهم الحسن وعطاء ومجاهد وسالم وابن شهاب وإبراهيم وإلى ذلك ذهب مالك والثوري والأوزاعي والليث وأبو حنيفة والشافعي في أكثر كتبه وقد أجاز بيعها في بعض كتبه وقال المزني قطع في أربعة عشر موضعا من كتبه بأن لاتباع وهو الصحيح من مذهبه وعليه جمهور أصحابه وهو قول أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وكان أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير وجابر وأبو سعيد الخدري يجيزون بيع أم الولد وبه قال داود قاله العيني في شرح البخاري وقال ابن الهمام في شرح الهداية أم الولد هي الأمة التي يثبت نسب ولدها من مالك كلها أو بعضها ولا يجوز بيعها ولا تمليكها ولا هبتها بل إذا مات سيدها ولم ينجز عتقها تعتق بموته من جميع المال ولا تسعى لغريم وإن كان السيد مديونا مستغرقا وهذا مذهب جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء إلا من لا يعتد به كبشر المريسي وبعض الظاهرية فقالوا يجوز بيعها واحتجوا بحديث جابر الآتي ونقل هذا المذهب عن الصديق وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وابن الزبير لكن عن ابن مسعود بسند صحيح وابن عباس يعتق من نصيب ولدها ذكره ابن قدامة فهذا يصرح برجوعهما على تقدير صحة الرواية الأولى عنهما انتهى (عن خطاب بن صالح) هو المدني معدود في الثقات وثقه البخاري (عن أمه) قال في التقريب أم خطاب لا تعرف (عن سلامة) بفتح السين وتخفيف اللام (بنت معقل) قال في الاصابة وفي تاريخ البخاري نقل الخلاف في ضبطه هل هو بالعين المهملة والقاف أو المعجمة والفاء الثقيلة ذكره يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق بالغين المعجمة وعن
[ 345 ]
محمد بن سلمة ويونس ابن بكير بالعين المهملة انتهى (امرأة من خارجة قيس عيلان) بالعين المهملة قال في القاموس وشرحه أم خارجة هي امرأة من بجيلة ولدت كثيرا من القبائل وخارجة ابنها ولا يعلم ممن هو أو خارجة بن بكر بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان ويقال خارجة بن عيلان انتهى (من الحباب) بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة (أبي اليسر) بفتح التحتية والسين المهملة اسمه كعب يعد في أهل المدينة وهو صحابي أنصاري بدري (ثم هلك) أي الحباب بن عمرو (فقالت امرأته) أي الحباب (والله تباعين في دينه) أي لأجل قضاء دينه الذي كان عليه (من ولي الحباب) ولفظ أحمد في مسنده فقال من صاحب تركة الحباب بن عمرو قالوا أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو فدعاه فقال لا تبيعوها أهل وأعتقوها فإذا سمعتم برقيق قد جاءني فائتوني أعوضكم ففعلوا فاختلفوا فيما بينهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي كان الاختلاف انتهى (أعتقوها) ظاهره أن أم الولد لا تعتق بمجرد موت سيدها حتى يعتق ورثته لكن قال البيهقي إن المراد بأعتقوها خلوا سبيلها قلت ويدل على هذا المعنى روايات أخرى وستأتي وهي صريحة في أنها تعتق بمجرد موت سيدها ولا تتوقف على عتق ورثته والله أعلم (قالت فأعتقوني) والحديث فيه دلالة على عدم جواز بيع أم الولد لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن البيع وأمرهم بالإعتاق وتعويضهم عنها ليس فيه دليل على أنه كان يجوز بيعها لاحتمال أنه عوضهم لما رأى من احتياجهم أو أن العوض من باب الفضل منه صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه رواه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي وله طرق
[ 346 ]
وفي لفظ أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه أو قال من بعده رواه أحمد والدارمي وعن ابن عباس قال ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أعتقها ولدها رواه ابن ماجه والدارقطني وفي حديثي ابن عباس الحسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف وروى القاسم بن أصبغ في كتابه بسند ليس فيه الحسين عن ابن عباس قال لما ولدت مارية إبراهيم قال صلى الله عليه وسلم أعتقها ولدها قال ابن القطان سنده جيد وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد وقال لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها السيد ما دام حيا وإذا مات فهي حرة رواه الدارقطني والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال الصحيح وقفه على عمر وكذا قال عبد الحق وقال صاحب الإلمام المعروف فيه الوقف والذي رفعه ثقة ورواه مالك في الموطأ والدارقطني من طريق آخر عن ابن عمر عن عمر من قوله قال في المنتقى وهو أصح قال ابن القطان وعندي أن الذي أسنده خير ممن وقفه وقد حكى ابن قدامة إجماع الصحابة على عدم الجواز ولا يقدح في صحة هذه الحكاية ما روي عن علي وابن عباس وابن الزبير من الجواز لأنه قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة كما حكى ذلك ابن رسلان في شرح السنن وأخرج عبد الرزاق عن علي بإسناد صحيح أنه رجع عن رأيه الآخر إلى قول جمهور الصحابة وأخرج أيضا عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا يقول اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم رأيت بعد أن يبعن قال عبيدة فقلت له فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة وهذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد قاله الشوكاني قال المنذري والحديث في إسناده محمد بن إسحاق وقد تقدم الكلام عليه وقال الخطابي ليس إسناده بذاك وذكر البيهقي أنه أحسن شئ روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا بعد أن ذكر أحاديث في أسانيدها مقال انتهى (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (فلما كان عمر) أي صار خليفة (نهانا) عن بيع أمهات
[ 347 ]
الأولاد (فانتهينا) وأخرج أحمد وابن ماجه عن أبي الزبير عن جابر أنه سمعه يقول كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا والنبي صلى الله عليه وسلم فينا حي لا نرى بذلك بأسا قال البيهقي وليس في شئ من الطرق أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك يعني بيع أمهات الأولاد وأقرهم عليه انتهى وأيضا قول جابر لا نرى بذلك بأسا الرواية فيه بالنون التي للجماعة ولو كانت بالياء التحتية لكان دلالة على التقرير لكن قال الحافظ في الفتح أنه روى ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق أبي سلمة عن جابر ما يدل على ذلك يعني الإطلاع والتقرير كذا في النيل قلت ستجئ الرواية بالياء التحتية أيضا في كلام المنذري وأما قول الصحابي كنا نفعل فمحمول على الرفع على الصحيح وعليه جرى عمل الشيخين
[ 348 ]
وأخرج عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج أنبأنا عبد الرحمن بن الوليد أن أبا إسحاق الهمداني أخبره أن أبا بكر الصديق كان يبيع أمهات الأولاد في إمارته وعمر في نصف إمارته قال المنذري وأخرج النسائي وابن ماجه من حديث أبي الزبير عن جابر قال كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حي ما يرى بأسا وهو حديث حسن وأخرج النسائي من حديث زيد العمي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد في أمهات الأولاد وقال كنا نبيعهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن زيد العمي لا يحتج بحديثه قال بعض أهل العلم يحتمل أن يكون هذا الفعل منهم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يشعر بذلك أنه أمر يقع نادرا أو ليست أمهات الأولاد كسائر الرقيق التي يتداولها الأملاك فيكثر بيعهن فلا يخفى الأمر على الخاصة والعامة وقد يحتمل أن يكون ذلك مباحا في العصر الأول ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولم يعلم
[ 349 ]
به أبو بكر لأن ذلك لم يحدث في أيامه لقصر مدتها أو لاشتغاله بأمور الدين ومحاربة أهل الردة ثم نهى عنه عمر رضي الله عنه حين بلغه ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهوا عنه انتهى وقال في المنتقى إنما وجه هذا أن يكون ذلك مباحا ثم نهي عنه ولم يظهر النهي لمن باعها ولا علم أبو بكر بمن باع في زمانه لقصر مدته واشتغاله بأهم أمور الدين ثم ظهر ذلك زمن عمر فأظهر النهي والمنع وهذا مثل حديث جابر أيضا في المتعة قال كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى نهانا عنه عمر في شأن عمرو بن حريث رواه مسلم وإنما وجهه ما سبق لامتناع النسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى وقال التوربشتي يحتمل أن النسخ لم يبلغ العموم في عهد الرسالة ويحتمل أن بيعهم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل النسخ وهذا أولى التأويلين وأما بيعهم في خلافة أبي بكر فلعل ذلك
[ 350 ]
كان في فرد قضية فلم يعلم به أبو بكر رضي الله عنه ولا من كان عنده علم بذلك فحسب جابر أن الناس كانوا على تجويزه فحدث ما تقرر عنده في أول الأمر فلما اشتهر نسخه في زمان عمر رضي الله عنه عاد إلى قول الجماعة يدل عليه قوله فلما كان عمر نهانا عنه فانتهينا انتهى 9 باب في بيع المدبر بصيغة المجهول من باب التغليل حديث وهو الذي علق سيده عتقه على موته سمي به لأن الموت دبر الحياة ودبر كل شئ ما وراءه وقيل لأن السيد دبر أمر دنياه باستخدامه واسترقاقه وأمر آخرته بإعتاقه أي هذا باب في جواز بيع المدبر (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (وإسماعيل بن أبي خالد) معطوف على عبد الملك بن أبي سليمان فهشيم يروي من طريقين الأولى عن عبد الملك عن عطاء
[ 351 ]
والثانية عن إسماعيل بن أبي خالد عن سلمة بن كهيل عن عطاء بن أبي رباح عن جابر وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق إسماعيل وسلمة وعطاء فإسماعيل وسلمة قرينان من صغار التابعين وعطاء من أوساطهم قاله الحافظ (عن دبر منه) بضم الدال المهملة والموحدة وسكونها أيضا أي بعد موته يقال دبرت العبد إذا علقت عتقه بموتك وهو التدبير كما مر أي أنه يعتق بعد ما يدبر سيده ويموت (ولم يكن له مال غيره) استدل به على جواز البيع إذا احتاج صاحبه إليه (فأمر به) أي بالغلام (فبيع بسبعمائة أو بتسع مائة) قال في الفتح اتفقت الطرق على أن ثمنه ثمان مائة درهم إلا ما أخرجه أبو داود من طريق هشيم عن إسماعيل قال سبعمائة أو تسعمائة انتهى وأخرج البخاري في الأحكام ولفظه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فباعه بثمان مائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه ولفظ الإسماعيلي رجل أعتق غلاما له عن دبر وعليه دين فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمان مائة درهم قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه مختصرا ومطولا (أنت أحق بثمنه) أي بثمن العبد لأجل احتياجك وفقرك عند أو الدين الذي عليك (والله أغنى) أي عن عتق هذا العبد مع احتياجك (أبو مذكور) وفي رواية لمسلم أعتق رجل من بني عذرة يقال له أبو مذكور وكذا وقع بكنية عند مسلم والمؤلف والنسائي وقال الذهبي في تجريد أسماء الصحابة أبو مذكور الصحابي أعتق غلاما له عن دبر (يعقوب) القبطي مولى أبي مذكور من الأنصار (عن دبر) بأن قال أنت حر بعد موتي (ولم يكن له مال غيره فدعا به) وعند البخاري في باب بيع المزايدة أعتق
[ 352 ]
غلاما له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم (من يشتريه) أي هذا الغلام مني (نعيم) بضم النون مصغرا (عبد الله بن النحام) بفتح النون وتشديد الحاء المهملة (فدفعها إليه) أي دفع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الدراهم إلى أبي مذكور الأنصاري وفي رواية البخاري المذكور بيان سبب بيعه وهو الاحتياج إلى ثمنه وعند النسائي من طريق الأعمش عن سلمة بن كهيل بلفظ أن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر وكان محتاجا وكان عليه دين فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمان مائة درهم فأعطاه وقال اقض دينك فاتفقت هذه الروايات على أن بيع المدبر كان في حياة الذي دبره إلا ما رواه شريك عن سلمة بن كهيل بهذا الإسناد أن رجلا مات وترك مدبرا ودينا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فباعه في دينه أخرجه الدارقطني ونقل عن شيخه أبي بكر النيسابوري أن شريكا أخطأ فيه والصحيح ما رواه الأعمش وغيره عن سلمة وفيه ودفع ثمنه إليه قاله الحافظ قال صاحب التلويح اختلف العلماء هل المدبر يباع أم لا فذهب أبو حنيفة ومالك وجماعة من أهل الكوفة إلى أنه ليس للسيد أن يبيع مدبره وأجازه الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وأهل الظاهر وهو قول عائشة ومجاهد والحسن وطاووس وكرهه ابن عمر وزيد بن ثابت ومحمد بن سيرين وابن المسيب والزهري والشعبي والنخعي وابن أبي ليلى والليث بن سعد وعن الأوزاعي لا يباع إلا من رجل يريد عتقه وجوز أحمد بيعه بشرط أن يكون على السيد دين وعن مالك يجوز بيعه عند الموت ولا يجوز في حال الحياة وكذا ذكره ابن الجوزي عنه وحكى مالك إجماع أهل المدينة على بيع المدبر أو هبته انتهى قال العيني وعند الحنيفة المدبر على نوعين مدبر مطلق نحو ما إذا قال لعبده إذا مت فأنت حر أو أنت حر يوم أموت أو أنت حر عن دبر مني أو أنت مدبر أو دبرتك فحكم هذا أنه لا يباع ولا يوهب ويستخدم ويؤجر وتوطأ المدبرة وتنكح وبموت المولى يعتق المدبر من ثلث ماله ويسعى في ثلثيه أي ثلثي قيمته إن كان المولى فقيرا ولم يكن له مال غيره ويسعى في كل قيمته لو كان مديونا بدين مستغرق جميع ماله النوع الثاني مدبر مقيد نحو قوله إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا فأنت حر أو قال إن مت إلى عشر سنين أو بعد موت فلان ويعتق إن وجد الشرط وإلا فيجوز بيعه انتهى قال النووي في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يجوز بيع المدبر قبل موت سيده لهذا الحديث وقياسا على الموصي يعتقه فإنه يجوز بيعه بالإجماع وممن جوزه
[ 353 ]
عائشة وطاووس وعطاء والحسن ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود رحمه الله وقال أبو حنيفة ومالك رحمه الله وجمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين رحمهم الله تعالى لا يجوز بيع المدبر قالوا وإنما باعه النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على سيده وقد جاء في رواية للنسائي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له اقض به دينك قالوا وإنما دفع إليه ثمنه ليقضي به دينه وتأوله بعض المالكية على أنه لم يكن له مال غيره فرد تصرفه قال هذا القائل وكذلك يرد تصرف من تصدق بكل ماله وهذا ضعيف باطل والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله وقال القاضي عياض الأشبه عندي أنه فعل ذلك نظرا له إذ لم يترك لنفسه مالا والصحيح ما قدمناه أن الحديث على ظاهره وأنه يجوز بيع المدبر بكل حال ما لم يمت السيد وأجمع المسلمون على صحة التدبير ثم مذهب الشافعي ومالك والجمهور أنه يحسب عتقه من الثلث وقال الليث وزفر رحمهما الله تعالى هو من رأس المال وفي هذا الحديث نظر الإمام في مصالح رعيته وأمره إياهم بما فيه الرفق بهم وبإبطالهم لأنه ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها والله أعلم انتهى وقال القسطلاني واختلف في بيع المدبر على مذاهب أحدها الجواز مطلقا وهو مذهب الشافعي والمشهور من مذهب أحمد وحكاه الشافعي عن التابعين وأكثر الفقهاء كما نقله عنه البيهقي في معرفة الإثار أخبرنا لهذا الحديث لأن الأصل عدم الاختصاص بهذا الرجل الثاني المنع مطلقا وهو مذهب الحنفية وحكاه النووي عن جمهور العلماء وتأولوا الحديث بأنه لم يبع رقبته وإنما باع خدمته وهذا خلاف ظاهر اللفظ وتمسكوا بما روي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين قال إنما باع رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمة المدبر وهذا مرسل لا حجة فيه وروي عنه موصولا ولا يصح وأما ما عند الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث فهو حديث ضعيف لا يحتج بمثله الثالث المنع من بيعه إلا أن يكون على السيد دين مستغرق فيباع في حياته وبعد مماته وهذا مذهب المالكية لزيادة في الحديث عند النسائي وهي وكان عليه دين وفيه فأعطاه وقال اقض دينك وعورض بما عند مسلم ابدأ بنفسك فتصدق عليها إذ ظاهره أنه أعطاه الثمن لإنفاقه لا لوفاء دين به
[ 354 ]
الرابع تخصيصه بالمدبر فلا يجوز في المدبرة وهو رواية عن أحمد وجزم به ابن حزم عنه وقال هذا تفريق لا برهان على صحته والقياس الجلي يقتضي عدم الفرق الخامس بيعه إذا احتاج صاحبه إليه وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد من منع بيعه مطلقا فالحديث حجة عليه لأن المنع الكلي يناقضه الجواز الجزئي ومن أجاز بيعه في بعض الصور يقول أنا أقول بالحديث في صورة كذا فالواقعة واقعة حال لا عموم لها فلا تقوم علي الحجة في المنع من بيعه في غيرها كما يقول مالك في بيع الدين انتهى وملخص الكلام أن أصحاب أبي حنيفة حملوا الحديث على المدبر المقيد وهو عندهم يجوز بيعه وأصحاب مالك على أنه كان مديونا حين دبر ومثله يجوز إبطال تدبيره عندهم وأما الشافعي ومن وافقه فأخذوا بظاهر الحديث وجوزوا بيع المدبر مطلقا (ثم قال) النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الأنصاري المدبر بكسر الباء (أحدكم فقيرا) أي لا مال له ولا كسب يقع موقعا من كفايته (فليبدأ بنفسه) أي فيالاموال بعد الانفاق عليها مما أته الله تعالى قبل التصدق على الفقراء (فان كان فيها) أي في الأموال بعد الإنفاق على نفسه (فضل) بسكون الضاد أي زيادة والمعنى فإن فضل بعد كفاية مؤنة نفسه فضل (فعلى عياله) أي الذين يعولهم وتلزمه نفقتهم (فههنا وههنا) أي فيرده على من عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه من الفقراء يقدم الأحوج فالأحوج ويعتق ويدبر يفعل ما يشاء قال المنذري وأخرجه مسلم والنسائي باب فيمن أعتق عبيدا له العبد خلاف الحر واستعمل له جموع كثيرة والأشهر منها أعبد وعبيد وعباد كذا في المصباح (لم يبلغهم الثلث) فاعل يبلغ أي لم يتناولهم الثلث ولم يشملهم بل زادوا على الثلث فماذا حكمه (ستة أعبد) وعند مسلم ستة مملوكين له عند موته (فقال له) في شأنه (قولا شديدا) أي
[ 355 ]
كراهية لفعله وتغليظا عليه وبيان هذا القول الشديد سيأتي في متن الحديث (فجزأهم) بتشديد الزاي قال النووي بتشديد الزاي وتخفيفها لغتان مشهورتان ذكرهما ابن السكيت وغيره أي فقسمهم (وأرق أربعة) أي أبقى حكم الرق على الأربعة قال في شرح السنة فيه دليل على أن العتق المنجز في مرض الموت كالمعلق بالموت في الاعتبار من الثلث وكذلك التبرع المنجز في مرض الموت انتهى قال النووي في هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وابن جرير والجمهور في إثبات القرعة في العتق ونحوه وأنه إذا أعتق عبيدا في مرض موته أو أوصى بعتقهم ولا يخرجون من الثلث أقرع بينهم فيعتق ثلثهم بالقرعة وقال أبو حنيفة القرعة باطلة لا مدخل لها في ذلك بل يعتق من كل واحد قسطه ويستسعى في الباقي لأنها خطر وهذا مردود بهذا الحديث الصحيح وأحاديث كثيرة وقوله في الحديث فأعتق اثنين وأرق أربعة صريح بالرد على أبي حنيفة وقد قال بقول أبي حنيفة الشعبي والنخعي وشريح والحسن وحكي أيضا عن ابن المسيب انتهى قلت واحتج من أبطل الاستسعاء بحديث عمران بن حصين هذا ووجه الدلالة منه أن الاستسعاء لو كان مشروعا لنجز من كل واحد منهم عتق ثلثه وأمره بالاستسعاء في بقية قيمته لورثة الميت وأجاب من أثبت الاستسعاء بأنها واقعة عين فيحتمل أن يكون قبل مشروعية الاستسعاء ويحتمل أن يكون الاستسعاء مشروعا إلا في هذه الصورة وهي ما إذا أعتق جميع ما ليس له أن يعتقه كذا في الفتح قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه (عن خالد) وهو الحذاء (لو شهدته) أي ذلك الرجل المعتق (لم يدفن) بصيغة المجهول (في مقابر المسلمين) وعند النسائي ولقد هممت أن لا أصلي عليه قال النووي وهذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم وحده كان يترك الصلاة عليه تغليظا وزجرا لغيره على مثل فعله وأما أصل الصلاة عليه فلا بد من وجودها من بعض الصحابة انتهى
[ 356 ]
قال المنذري وأخرجه النسائي وقال هذا خطأ والصواب رواية أيوب يعني السختياني وأيوب أثبت من خالد يعني الحذاء يريد أن الصواب حديث أبي المهلب الذي قبل هذا (عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم فقال لم يسمعه ابن سيرين من عمران فيما يقال وإنما سمعه عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران قاله ابن المديني قال النووي وليس في هذا تصريح بأن ابن سيرين لم يسمع من عمران ولو ثبت عدم سماعه منه لم يقدح ذلك في صحة هذا الحديث ولم يتوجه على الإمام مسلم فيه عتب لأنه إنما ذكره متابعة بعد ذكره الطرق الصحيحة الواضحة قال المنذري وأخرجه النسائي 11 من أعتق عبدا وله مال (وله مال) أي في يد العبد أو حصل بكسبه مال (فمال العبد) قال القاضي إضافته إلى العبد إضافة الاختصاص دون التمليك انتهى
[ 357 ]
وفي اللمعات إضافة المال إلى العبد ليست باعتبار الملك بل باعتبار اليد أي ما في يده وحصل بكسبه (له) أي لمن أعتق واختلف في مرجع هذا الضمير فبعضهم أرجع إلى العبد وأكثرهم إلى السيد المعتق والله أعلم (إلا أن يشترطه السيد) أي للعبد والمعنى أي يعطيه العبد فيكون منحة وتصدقا ولفظ ابن ماجه من طريق الليث إلا أن يشترط السيد ماله فيكون له وقال ابن لهيعة إلا أن يستثنيه السيد قال السندي إلا أن يشترط السيد أي للعبد فيكون منحة من السيد للعبد وأنت خبير ببعد هذا المعنى عن لفظ الإشتراط جدا بل اللائق حينئذ أن يقال إلا أن يترك له السيد أو يعطيه انتهى قال الأردبيلي في الأزهار احتج مالك وداود بهذا الحديث على أن العبد يملك بتمليك السيد وبه قال الشافعي في القديم
[ 358 ]
وقال الأكثرون لا يملك بتمليك السيد وبه قال الشافعي في الجديد وهو الأصح للحديث من ابتاع عبدا وله مال فماله للبايع إلا أن يشترط المبتاع وقال الخطابي في المعالم حكى حمدان بن سهل عن إبراهيم النخعي أنه كان يرى المال للعبد إذا أعتقه السيد لهذا الحديث وإليه يذهب حمدان قولا بظاهر هذا الحديث وأجيب بجوابين أحدهما أن الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم فمال العبد له يرجع إلى من وهو السيد إلا أن يشترط السيد للعبد فيكون منحة منه إلى العبد والثاني لا خلاف بين العلماء أن العبد لا يرث من غير والميراث أصح وجوه الملك وأقواها وهو لا يرثه ولا يملكه فما عدى ذلك أولى بأن لا يملكه ويحمل ذلك على المنحة والمواساة وقد جرت العادة من السادة بالإحسان إلى المماليك عند إعتاقهم ويكون مال العبد له مواساة ومسامحة إلا أن يشترط السيد لنفسه فيكون له كما كان ولا مواساة انتهى كلام الأردبيلي وقال صاحب الهداية لا ملك للمملوك قال ابن الهمام وعلى هذا فمال العبد لمولاه بعد العتق وهو مذهب الجمهور وعند الظاهرية للعبد وبه قال الحسن وعطاء والنخعي ومالك لما عن ابن عمر أنه عليه السلام قال من أعتق عبدا وله مال فالمال للعبد رواه أحمد وكان عمر إذا أعتق عبدا له لم يتعرض لماله قيل الحديث خطأ وفعل عمر رضي الله عنه من باب الفضل وللجمهور ما عن ابن مسعود أنه قال لعبده يا عمير إني أريد أن أعتقك عتقا هنيئا فأخبرني
[ 359 ]
بمالك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيما رجل أعتق عبده أو غلامه فلم يجزه بماله فهو لسيده رواه الأثرم انتهى وفي سنن ابن ماجه ما لفظه يقول أيما رجل أعتق غلاما ولم يسم ماله فالمال له انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه وقد تقدم في كتاب البيوع 12 باب في عتق ولد الزنا (ولد الزنا شر الثلاثة) أي الزانيان وولدهما قال الخطابي اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أن ذلك إنما جاء في رجل بعينه كان معروفا (موسوما) بالشر وقال بعضهم إنما صار ولد الزنا شرا من والديه لأن الحد قد يقام عليهما فيكون العقوبة مختصة بهما وهذا من علم الله لا يدري ما يصنع به وما يفعل في ذنوبه وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الكريم قال كان أبو ولد الزنا يكثر أن يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقولون هو رجل سوء يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول صلى الله عليه وسلم هو شر الثلاثة يعني الأب قال فحول الناس الولد شر الثلاثة وكان ابن عمر إذا قيل ولد الزنا شر الثلاثة قال بل هو خير الثلاثة قال الخطابي هذا الذي تأوله عبد الكريم أمر مظنون لا يدري صحته والذي جاء في الحديث إنما هو ولد الزنا شر الثلاثة فهو على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال بعض أهل العلم إنه شر الثلاثة أصلا وعنصرا ونسبا ومولدا وذلك أنه خلق من ماء الزاني والزانية وهو ماء خبيث وقد روي العرق دساس فلا يؤمن أن يؤثر ذلك الخبث فيه ويدب في عروقه فيحمله على الشر ويدعوه إلى الخبث وقد قال الله تعالى في قصة مريم ما كان أبوك أمرأ سوء وما كانت أمك بغيا فقضوا بفساد الأصل على فساد الفرع
[ 360 ]
وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص في قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس قال ولد الزنا مما ذرئ لجهنم وكذا عن سعيد بن جبير وعن أبي حنيفة أن من ابتاع غلاما فوجده ولد زنا فإن له أن يرده بالعيب فأما قول ابن عمر أنه خير الثلاثة فإنما وجهه أن لا إثم له في الذنب باشره والداه فهو خير منهما لبراءته من ذنوبهما وفي المستدرك من طريق عروة قال بلغ عائشة أن أبا هريرة يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ولد الزنا شر الثلاثة قالت كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من يعذرني من فلان فقيل يارسول الله إنه مع ما به ولد زنا فقال هو شر الثلاثة والله تعالى يقول ولا تزر وازرة وزر أخرى وفي سنن البيهقي من طريق زيد بن معاوية بن صالح قال حدثني السفر بن بشير الأسدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال ولد الزنا شر الثلاثة أن أبويه أسلما ولم يسلم هو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو شر الثلاثة قال البيهقي وهذا مرسل وفي مسند أحمد من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد الزنا شر الثلاثة إذا عمل عمل أبويه وفي معجم الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا مثله وفي سننن البيهقي عن الحسن قال إنما سمى ولد الزنا شر الثلاثة أن امرأة قالت له لست لأبيك الذي تدعي له فقتلها فسمي شر الثلاثة قاله السيوطي في مرقاة الصعود (لأن أمتع) صيغة المتكلم المعروف من التفعيل يقال متعته بالتثقيل أي أعطيته ومنه في الحديث أن عبد الرحمن طلق امرأته فمتع بوليدة أي أعطاها أمة والمعنى أي لأن أعطى بسوط (أن أعتق ولد زنية) بكسر الزاي وسكون النون وفتح الزاي أيضا لغة قال في المصباح زنية بالكسر والفتح لغة وهو خلاف قولهم هو ولد رشدة أي بكسر الراء قال ابن السكيت زنية وغية يا بالكسر والفتح والزنا بالقصر انتهى قال في النهاية ويقال للولد إذا كان من زنا هو لزنية وعند ابن ماجه مرفوعا بسند فيه ضعف عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ولد الزنا فقال نعلان أجاهد فيهما خير من أعتق ولد الزنا انتهى وكأن المراد أن أجر إعتاقه قليل ولعل ذلك لأن الغالب عليه الشر عادة فالإحسان إليه قليل الأجر كالإحسان إلى غير أهله وهذا هو مراد أبي هريرة رضي الله عنه
[ 361 ]
قال المنذري وأخرجه النسائي 13 في ثواب العتق (إبراهيم بن أبي عبلة) بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة ثقة شامي (عن الغريف) بفتح الغين المعجمة وكسر الراء (ابن الديلمي) بفتح الدال قال الحاكم في المستدرك الغريف هذا لقب لعبد الله بن الديلمي ذكره السيوطي وفي التقريب الغريف بفتح أوله ابن عياش بتحتانية ومعجمة ابن فيروز الديلمي انتهى (واثلة بن الأسقع) كان من أهل الصفة وخدم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين (ليقرأ) أي القرآن (ومصحفه معلق في بيته) جملة حالية تفيد أنه يقدر على مراجعته إليه عند وقوع التردد عليه وقال الطيبي هي مؤكدة المضمون ما سبق (فيزيد) أي ومع هذا فقد يزيد (وينقص) أي في قراءته سهوا وغلطا قال الطيبي فيه مبالغة لا أنه تجوز الزيادة والنقصان في المقروء وفيه جواز رواية الحديث بالمعنى ونقصان الألفاظ وزيادتها مع رعاية المعنى والمقصد منه (إنما أردنا حديثا سمعته) أي ما أردنا بقولنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان ما عنيت به من اتقاء الزيادة والنقصان في الألفاظ وإنما أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (في صاحب لنا) أي في شأن صاحب لنا مات وأوجب على نفسه النار وعند ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك عن واثلة قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فإذا نفر من بني سليم فقالوا إن صاحبنا قد أوجب الحديث (أوجب) أي من وصفه أنه استحق لولا الغفران (يعني) هذا كلام الغريف يريد أن واثلة يريد بالمفعول المحذوف في أوجب (النار) وقوله (بالقتل) متعلق بأوجب من تتمة كلام واثلة فجملة يعني النار معترضة للبيان (أعتقوا عنه) أي عن قتله وعوضه (بكل عضوا
[ 362 ]
منه) أي من العبد المعتق بفتح التاء (عضوا منه) أي من القاتل (من النار) متعلق بيعتق ولعل المقتول كان من المعاهدين وقد قتله خطأ وظنوا أن الخطأ موجب للنار لما فيه من نوع تقصير حيث لم يذهب طريق الحزم والاحتياط كذا في المرقاة قال الخطابي كان بعض أهل العلم يستجب أن يكون العبد المعتق غير خصي لئلا يكون ناقص العضو ليكون المعتق قد نال الموعود في عتق أعضائه كلها من النار قال الحاكم والحديث صحيح على شرط الشيخين قال المنذري وأخرجه النسائي 14 باب أي الرقاب جمع رقبة وهي في الأصل العنق فجعلت كناية عن جميع ذات الإنسان تسميللشئ ببعضه فإذا قال أعتق رقبة فكأنه قال أعتق عبدا أو أمة كذا في النهاية (أفضل) في العتق (عن أبي نجيح) بفتح النون وكسر الجيم قال المنذري في الترغيب هو عمرو بن عبسة (السلمي) بضم السين وفتح اللام (قال حاصرنا) من المحاصرة أي الإحاطة والمنع من المضي للأمر (قال معاذ) الراوي (سمعت أبي) هشاما (يقول بقصر الطائف بحصن الطائف) أي مرة قال كذا ومرة كذا وكل ذلك بمعنى (من بلغ بسهم) أي في جسد الكافر (في سبيل الله فله درجة) وتمام الحديث عند النسائي ولفظه من بلغ بسهم فهو له درجة في الجنة فبلغت يومئذ ستة عشر سهما (أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما) وفي تقييد الرقبة المعتقة بالإسلام دليل على أن هذه الفضيلة لا تنال إلا بعتق المسلمة وإن كان في عتق الرقبة الكافرة فضل لكن لا يبلغ ما وعد به هنا من الأجر
[ 363 ]
(وقاء كل عظم) بإضافة الوقاء إلى كل عظم والوقاء بكسر الواو وتخفيف القاف ممدودا ما يتقى به وما يستر الشئ عما يؤذيه وفي الحديث أن الأفضل للرجل أن يعتق رجلا وللمرأة امرأة كما في جزاء الصيد قاله العلقمي (من عظامه) أي المعتق بكسر التاء (عظما من عظام محرره) بضم الميم وفتح الراء المشددة أي من عظام القن الذي حرره قاله المناري والعلقمي والعزيزي (من النار) جزاء وفاقا قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وحديثهم مختصر في ذكر الرمي وفي طريق النسائي ذكر السبب وقال الترمذي حسن صحيح وأبو نجيح هو عمرو بن عبسة السلمي (سليم بن عامر) بضم السين مصغرا (ابن السمط) بكسر السين المهملة وسكون الميم (لعمرو بن عبسة) بالعين المهملة والباء الموحدة المفتوحتين (من أعتق رقبة مؤمنة) هو موضع ترجمة الباب (كانت) تلك الرقبة (فداءه) أي المعتق بكسر التاء قال المنذري وأخرجه النسائي وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال وقد أخرجه النسائي بطرق أخرى وفيها ما إسناده حسن (لكعب بن مرة أو مرة بن كعب) قال المزي كعب بن مرة ويقال مرة بن كعب البهزي وهو بهز بن الحارث بن سليم بن منصور سكن البصرة ثم سكن الأردن من الشام انتهى (فذكر معنى) حديث (معاذ) بن هشام (وزاد) الراوي في هذا الحديث على حديث معاذ (وأيما رجل أعتق امرأتين مسلمتين إلا كانتا فكاكه) بفتح الفاء وكسرها لغة أي كانتا خلاص المعتق بكسر
[ 364 ]
التاء (من النار) فعتقهما سبب لخلاصه من نار جهنم (يجزى) بضم الياء التحتانية وفتح الزاي غير مهموز أي يقضي وينوب ومنه قوله تعالى يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا قال العلقمي والمناوي وغيرهما (منهما) أي من امرأتين مسلمتين (من عظامه) أي المعتق بكسر التاء وللترمذي وصححه عن أبي أمامة وأيما امرئ مسلم اعتق امرأتين كانتا فكاكه من النار انتهى فعتق المرأة أجره على النصف من عتق الذكر فالرجل إذا أعتق امرأة كانت فكاك نصفه من النار والمرأة إذا أعتقت الأمة كانت فكاكها من النار وقد استدل به من قال عتق الذكر أفضل قال المناوي فعتق الذكر يعدل عتق الأنثيين ولهذا كان أكثر عتقاء النبي صلى الله عليه وسلم ذكورا وقال العلقمي اختلف العلماء هل الأفضل عتق الإناث أم الذكور فقال بعضهم الإناث لأنها إذا أعتقت كان ولدها حرا سواء تزوجها حر أو عبد قلت ومجرد هذه المناسبة لا يصلح لمعارضة ما وقع التصريح به في الأحاديث من فكاك المعتق إما رجل أو امرأتين وأيضا عتق الأنثى ربما أفضى في الغالب إلى ضياعها لعدم قدرتها على التكسب بخلاف الذكر ذكره الشوكاني قال العلقمي وقال آخرون عتق الذكور أفضل لما في الذكر من المعاني العامة التي لا توجد في الإناث كالقضاء والجهاد ولأن من الإناث من إذا أعتقت تضيع بخلاف العبيد وهذا القول هو الصحيح انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه (قال أبو داود سالم لم يسمع من شرحبيل مات شرحبيل بصفين) هذه العبارة لم توجد إلا في نسخة واحدة ولم يذكرها المنذري في مختصره ولا الحافظ المزي في الأطراف
[ 365 ]
15 في فضل العتق في الصحة (مثل الذي يعتق) وزاد في رواية البيهقي ويتصدق (عند الموت) أي عند احتضاره (يهدي) من الإهداء (إذا شبع) لأن أفضل الصدقة إنما هي عند الطمع في الدنيا والحرص على المال فيكون مؤثرا لآخرته على دنياه صادرا فعله عن قلب سليم ونية مخلصة فإذا أخر فعل ذلك حتى حضره الموت كان استيثارا لو دون الورثة وتقديما لنفسه في وقت لا ينتفع به في دنياه فينقص حظه قال المناوي في فتح القدير والحديث صححه الحاكم وأقره الذهبي وقال ابن حجر إسناده حسن وصححه ابن حبان ورواه البيهقي بزيادة الصدقة فقال مثل الذي يتصدق عند موته أو يعتق كالذي يهدي إذا شبع انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن صحيح تم بحمدالله الجزء العاشر قال العلقمي وقال آخرون عتق الذكور أفضل لما في الذكر من المعاني العامة التي لا توجد في الإناث كالقضاء والجهاد ولأن من الإناث من إذا أعتقت تضيع بخلاف العبيد وهذا القول هو الصحيح انتهى قال المنذري وأخرجه النسائي وابن ماجه (قال أبو داود سالم لم يسمع من شرحبيل مات شرحبيل بصفين) هذه العبارة لم توجد إلا في نسخة واحدة ولم يذكرها المنذري في مختصره ولا الحافظ المزي في الأطراف
[ 365 ]
15 في فضل العتق في الصحة (مثل الذي يعتق) وزاد في رواية البيهقي ويتصدق (عند الموت) أي عند احتضاره (يهدي) من الإهداء (إذا شبع) لأن أفضل الصدقة إنما هي عند الطمع في الدنيا والحرص على المال فيكون مؤثرا لآخرته على دنياه صادرا فعله عن قلب سليم ونية مخلصة فإذا أخر فعل ذلك حتى حضره الموت كان استيثارا لو دون الورثة وتقديما لنفسه في وقت لا ينتفع به في دنياه فينقص حظه قال المناوي في فتح القدير والحديث صححه الحاكم وأقره الذهبي وقال ابن حجر إسناده حسن وصححه ابن حبان ورواه البيهقي بزيادة الصدقة فقال مثل الذي يتصدق عند موته أو يعتق كالذي يهدي إذا شبع انتهى قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن صحيح تم بحمدالله الجزء العاشر ويليه الجزء الحادى عشر وأوله (كتاب الحروف والقرءات)