غريب الحديث
ابن سلام ج 2
[ 1 ]
(السلسلة الجديدة من مطبوعات دائرة المعارف العثمانية 92 / 2) غريب الحديث لابي عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفى سنة 224 ه = 838 م (الجزء الثاني) طبع باعانة وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية تحت مراقبة الدكتور محمد عبدالمعيد خان أستاذ آداب اللغة العربية بالجامعة العثمانية الطبعة الاولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند سنة 1384 ه / 1965 م
[ 2 ]
حل الرموز المستعملة في تعاليق المجلد الثاني من غريب الحديث الاصل = مخطوطة غريب الحديث للمكتبة السعيدية ت = جامع الترمذي جه = سنن ابن ماجه حم = مسند الامام أحمد بن حنبل رحمه الله خ = صحيح البخاري د = سنن أبى داود دى = مسند الدارمي ر = مخطوطة غريب الحديث للمكتبة الرامفورية ش = شمس العلوم لنشوان بن سعيد الحميري (مخطوطة المكتبة الاصفية) ط = الموطء للامام مالك رحمه الله ل = مخطوطة غريب الحديث المحفوظة في ليدن م = صحيح مسلم ن = سنن النسائي
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: قلدوا الخيل و لا تقلدوها الأوتار. [ قال: و ] بلغني عن النضر بن شميل أنه قال: عرضت الخيل على عبيدالله بن زياد فمرت به خيل بني مازن، فقال عبيدالله: إن هذه لخيل، قال: والأحنف بن قيس جالس فقال: إنها لخيل لو كانوا يضربونها و على الأوتار، فقال فلان بن مشجعة المازني قال: لا أعلمه إلا قال خيثمة، وقال بعض الناس: يقول هذا الذي رد على الأحنف فلان بن الهلقم أما يوم قتلوا إياك فقد ضربوها على الأوتار فلم يسمع للأحنف سقطة غيرها.
[ 2 ]
فمعنى الأوتار ههنا: الذحول، يقول: لا يطلبون عليها الذحول التي وتروا بها في الجاهلية. قال أبو عبيد: هذا معنى يذهب إليه بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد لا تطلبوا عليها الذحول، وغير هذا الوجه أشبه عندي بالصواب، قال: سمعت محمد بن الحسن يقول: إنما معناها أوتار القسى، وكانوا يقلدونها تلك فتختنق، يقال: لا تقلدوها بها ومما يصدق ذلك حديث هشيم عن أبي بشر عن سلمان اليشكري عن جابر أن النبي عليه السلام أمر أن تقطع الأوتار من أعناق الخيل. قال [ أبو عبيد ] وبلغني عن مالك بن أنس [ أنه ] قال: إنما كان يفعل ذلك [ بها ] مخافة العين عليها. [ قال ]: حدثنيه عنه أبو المنذر الواسطي: يعني أن الناس كانوا يقلدونها لئلا تصيبها العين فأمره النبي عليه السلام بقطعها يعلمهم أن الأوتار لا ترد من أمر الله شيئا، وهذا أشبه بما كره من التمائم.
[ 3 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يبيع على بيعه. قال: أحسبه قال: إلا بإذنه. قال: كان أبو عبيدة وأبو زيد وغيرهما من أهل العلم يقولون: إنما النهي في قوله: لا يبيع على بيع أخيه، إنما هو لا يشتر على شراء أخيه، فإنما وقع النهي على المشتري لا على البائع، لأن العرب تقول: بعت الشئ بمعنى اشتريته قال أبو عبيد: وليس للحديث عندي وجه إلا هذا لأن البائع لا يكاد يدخل على البائع، وهذا في معاملة الناس قليل، وإنما
[ 4 ]
المعروف أن يعطى الرجل بسلعته شيئا فيجئ آخر فيزيد عليه ومما يبين ذلك ما تكلم الناس فيه من بيع من يزيد حتى خافوا كراهته، فقال: كانوا يتبايعون به في مغازيهم فقد علم أنه في بيع من يزيد، / إنما يدخل المشترون بعضهم على بعض، فهذا يبين لك أنهم طلبوا الرخصة فيه لأن الأصل إنما هو على المشترين. قال: وحدثني علي بن عاصم عن أخضر بن عجلان عن أبي بكر الحنفي عن أنس أن النبي عليه السلام باع قدح رجل وحلسه فيمن يزيد. فقال أبو عبيد: فإنما المعنى ههنا أيضا المشترين. ومثله أنه نهى عن الخطبة كما نهى عن البيع فقد علمنا
[ 5 ]
أن الخاطب إنما هو طالب بمنزلة المشتري، فإنما وقع النهي على الطالبين دون المطلوب إليهم وقد جاء في أشعار العرب أن قالوا للمشتري: بائع [ قال ]: أخبرني الأصمعي أن جرير بن الخطفي كان ينشد لطرفة بن العبد: [ الطويل ] غد ما غد ما أقرب اليوم من غد سيأتيك بالأنباء من لم تزود سيأتيك بالأنباء من لم تبع له بتاتا ولم تضرب له وقت موعد قوله: لم تبع له بتاتا أي لم يشتر له وقال الحطيئة: [ الطويل ] وباع بنيه بعضهم بخسارة وبعت لذبيان العلاء بمالكا فقوله: باع بنيه بعضهم بخسارة، وهو من البيع فهو يذمه [ به ]
[ 6 ]
وقوله: بعت لذبيان العلاء بمالكا. معناه اشتريت لقومك العلاء أي الشرف بمالك. قال: وبلغني عن مالك بن أنس أنه قال: إنه نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه إذا كان كل واحد من الفريقين قد رضي من صاحبه وركن إليه، ويقال: ركن يركن فأما قبل الرضى فلا بأس أن يخطبها من شاء. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: تخيروا لنطفكم. قوله: تخيروا لنطفكم يقول: لا تجعلوا نطفكم إلا في طهارة إلا أن تكون الأم يعني أم الولد لغير رشدة وأن تكون في نفسها كذلك. ومنه الحديث الآخر أنه نهى أن يسترضع بلبن الفاجرة ومما يحقق ذلك حديث عمر بن الخطاب أن اللبن تشبه عليه وقد روي ذلك عن عمر أبن عبد العزيز أيضا، فإذا كان ذلك يتقى في الرضاع من غير قرابة ولا نسب فهو في القرابة أشد وأوكد.
[ 7 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا تعضية في ميراث إلا إذا حمل القسم. قوله: لا تعضية في ميراث يعني أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته إذا أراد بعضهم القسمة كان في ذلك ضرر عليه يقول: فلا يقسم ذلك والتعضية: التفريق، وهو مأخوذ من الأعضاء، يقول: عضيت اللحم إذا فرقته. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " الذين جعلوا القرآن عضين ": رجال آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وهذا من التعضية أيضا أنهم فرقوا، والشئ الذي لا يحتمل القسمة مثل الحبة من الجوهر، وأنها إذا فرقت لم ينتفع بها، وكذلك الحمام يقسم وكذلك الطيلسان من الثياب وما أشبه ذلك وهذا باب جسيم من الحكم، ويدخل فيه الحديث الآخر: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. فإن أراد بعض الورثة قسم ذلك دون بعض لم يجب إليه ولكنه يباع ويقسم ثمنه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين سأله أبو رزين العقيلي: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض فقال: كان في
[ 8 ]
عماء تحته هواء وفوقه هواء. قوله: في عماء، في كلام العرب السحاب الأبيض قال الأصمعي وغيره: هو ممدود وقال الحارث بن حلزة اليشكري: [ الخفيف ] وكأن المنون تردي بنا أعصم ينجاب عنه العماء يقول: هو في ارتفاعه قد بلغ السحاب ينشق عنه، يقول: نحن في عزنا مثل الأعصم / فالمنون إذا أرادتنا فكأنما تريد أعصم، قال زهير يذكر ظباء وبقرا: [ الوافر ] يشمن بروقه ويرش أري الجنوب على حواجبها العماء
[ 9 ]
وإنما تأولنا هذا الحديث عل كلام العرب المعقول عنهم ولا ندري كيف كان ذلك العماء وما مبلغه والله أعلم وأما العمى في البصر فإنه مقصور وليس هو من معنى هذا الحديث في شئ. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إن العرش على منكب إسرافيل وإنه ليتواضع لله حتى يصير مثل الوصع. يقال في الوصع: إنه الصغير من أولاد العصافير، ويقال: هو طائر صغير يشبه بالعصفور الصغير في صغر جسمه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن رجلا حلب عنده ناقة فقال له النبي عليه السلام: دع داعي اللبن.
[ 10 ]
قوله: دع داعي اللبن، يقول: أبق في الضرع قليلا، لا تستوعبه كله في الحلب، فإن الذي تبقيه فيه يدعو ما فوقه من اللبن فينزله، وإذا استنفض كل ما في الضرع أبطأ عليه الدر بعد ذلك. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا تناجشوا ولا تدابروا. قوله: لا تناجشوا، هو في البيع أن يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها ولكن ليسمعه غيره فيزيد على زيادته. وهو الذي يروى فيه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: الناجش آكل ربا خائن. وأما التدابر فالمصارمة والهجران، مأخوذ من أن يولي الرجل صاحبه دبره ويعرض عنه بوجهه وهو القاطع وقال حمرة بن مالك الصدائي يعاتب قوله: [ الطويل ] أأوصى أبو قيس بأن تتواصلوا وأوصى أبوكم ويحكم أن تدابروا
[ 11 ]
وقال أبو عبيد: في [ حديث ] النبي عليه السلام أنه قال: لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر. وجه الحديث عندنا ليس على الاختلاف في التأويل ولكنه عندنا على الاختلاف في اللفظ على أن يقرأ الرجل القراءة على حرف فيقول له الآخر: ليس هكذا ولكنه كذا على خلافه، وقد أنزلهما الله جميعا، يعلم ذلك في حديث النبي عليه السلام أنه قال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف كل حرف منها كاف شاف ومنه حديث عبد الله بن مسعود: إياكم والاختلاف والتنطع فإنما هو كقول أحدكم هلم وتعال. فإذا جحد هذان الرجلان كل واحد منهما ما قرأ صاحبه لم يؤمن أو قال: يقمن أن يكون ذلك قد أخرجه إلى الكفر لهذا المعنى. ومنه حديث عمر فاه عمر معاذ بن معاذ عن ابن عون عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت
[ 12 ]
عن عمر قال: أقرؤا القرآن ما اتفقتم فإذا اختلفتم فقوموا عنه. وفاه حجاج عن حماد بن زيد عن أبي عمران عن جندب بن عبد الله أنه قال مثل ذلك، ومنه حديث أبي العالية فاه حدثنا ابن علية عن شعيب بن الحبحاب عن أبي العالية الرياحي: أنه كان إذا قرأ عنده إنسان لم يقل: ليسه هكذا، ولكن يقول: أما أنا فأقرأ هكذا، قال شعيب: فذكرت ذلك لإبراهيم، [ فقال ]: أرى صاحبك قد سمع أنه من كفر بحرف فقد كفر به كله. وقال أبو عبيد في حديث النبي عليه السلام إنه قال: ما نزل من القرآن آية إلا لها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع. فقلت: يا أبا سعيد ! ما المطلع قال: يطلع قوم يعملون به ظهر، قال أبو عبيد: فأحسب قول الحسن هذا إنما ذهب به إلى قول عبد الله بن مسعود فيه، حدثني حجاج عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله قال: ما من حرف أو قال آية إلا وقد عمل بها قوم أو لها قوم سيعملون بها، فإن كان الحسن ذهب إلى هذا فهو وجه، وإلا كان المطلع في كلام العرب على غير هذا الوجه / وقد فسرناه في موضع آخر، وهو المأتي الذي يؤتى منه حتى يعلم علم القرآن من كل ذلك المأتي والمصعد.
[ 13 ]
وأما قوله: لها ظهر وبطن، فإن الناس قد اختلفوا في تأويله، يروى عن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال: إن العرب يقول: قد قلبت أمري ظهرا لبطن. وقال غيره: الظهر لفظ القرآن والبطن تأويله. وفيه قول ثالث وهو عندي أشبه الأقاويل بالصواب وذلك أن الله عز وجل قد قص عليك من نبأ عاد وثمود وغيرهما من القرون الظالمة لأنفسها، فأخبر بذنوبهم وما عاقبهم بها، فهذا هو الظهر، إنما هو حديث حدثك به عن قوم فهو في الظاهر خبر، وأما الباطن منه فكأنه صير ذلك الخبر عظة لك وتنبيها وتحذيرا أن تفعل فعلهم فيحل بك ما حل بهم من عقوبته، ألا ترى أنه لما أخبرك عن قوم لوط وفعلهم وما أنزل بهم أن ذلك مما يبين ذلك أن من صنع ذلك عوقب بمثل عقوبتهم وهذا كرجل قال لك: إن السلطان أتى بقوم قتلوا فقتلهم، وآخرين سرقوا فقطعهم، وشربوا الخمر فجلدهم فهذا الظاهر إنما هو حديث حدثك به، والباطن أنه قد وعظك بذلك وأخبرك أنه يفعل ذلك بمن أذنب تلك الذنوب، فهذا هو البطن على
[ 14 ]
ما يقال والله أعلم. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إذا تمنى أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه. قال أبو عبيد: فقد جاءت في هذا الحديث الرخصة في التمني عن النبي عليه السلام، وهي في التنزيل نهي، قال الله تعالى " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " ولكل وجه غير وجه صاحبه، فأما التمني المنهي عنه فأن يتمنى الرجل مال غيره أن يكون ذلك له ويكون صاحبه خارجا منه على وجه الحسد من هذا والبغي عليه وقد روي في بعض الحديث ما يبين ذلك حدثني كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: مكتوب في الحكمة أو في ما أنزل على موسى عليه السلام: لا تتمن مال جارك ولا امرأة جارك. فهذا المكروه الذي فسرنا وأما المباح فأن يسأل الرجل ربه، فهذا أمنيته من أمر دنياه وآخرته. قال أبو عبيد: فجعل التمني ههنا المسألة وهي الأمنية التي أذن فيها، لأن القائل إذا قال: ليت الله يرزقني كذا وكذا، فهو تمنى ذلك الشئ أن يكون له، ألا تراه
[ 15 ]
يقول " واسئلوا الله من فضله ". وهذا تأويل الحديث الذي فيه الرخصة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إن عم الرجل صنو أبيه يعني أن أصلهما واحد، فأصل الصنو إنما هو النخل في قوله تعالى " صنوان وغير صنوان " الصنوان: المجتمع، وغير الصنوان: المفترق. وفي غير هذا الحديث: هما النخلتان يخرجان من أصل واحد فشبه الأخوان بهما والعرب تجمع الصنو صنوان والقنو قنوان على لفظ اثنين بالرفع، وإنما يفترقان بالإعراب لأن نون الاثنين مخفوضة ونون الجمع يلزمها الإعراب على كل وجه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي. يقال: إن أصل هذا والله أعلم إنما هو من الحورايين أصحاب عيسى بن مريم صلوات الله عليه وعلى نبينا، وإنما سموا حواريين لأنهم كانوا يغسلون الثياب [ أي ] يحورونها، وهو التبييض. يقال: حورت الشئ
[ 16 ]
إذا بيضته، ومنه قيل: امرأة حوارية إذا كانت بيضاء قال الشاعر: [ الطويل ] فقل للحواريات يببكين غيرنا ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح كان أبو عبيدة يذهب بالحواريات إلى نساء الأمصار دون أهل البوادي، وهذا عندي يرجع إلى ذلك المعنى لأن عند هؤلاء من البياض ما ليس عند أولئك من البياض، فسماهن حواريات لهذا، فلما كان عيسى عليه السلام نصره هؤلاء الحواريون فكانوا شيعته وأنصاره دون الناس، فقيل: فعل الحواريون كذا / ونصره الحواريون بكذا، جرى هذا على ألسنة الناس حتى صار مثلا لكل ناصر، فقيل: حواري إذا كان مبالغا في نصرته تشبيها بأولئك هذا كما بلغنا والله أعلم، وهذا كما قلت لك: إنهم يحولون اسم الشئ إلى غيره إذا كان من شبيه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا يموت لمؤمن ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم.
[ 17 ]
قوله: تحل القسم يعني قول الله تعالى " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " فلا يردها إلا بقدر ما يبر الله به قسمه فيه وفي هذا الحديث من العلم أصل للرجل يحلف: ليفعلن كذا وكذا، فيفعل منه جزءا دون جزء ليبر في يمينه، كالرجل يحلف: ليضربن مملوكه، فيضربه ضربا دون ضرب، فيكون قد بر في القليل كما يبر في الكثير ومنه ما قص الله تعالى من نبأ أيوب عليه السلام حين حلف: ليضربن امرأته مائة، فأمره الله تعالى بالضغث، ولم يكن أيوب عليه السلام نواه حين حلف. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام إن أنخع الأسماء عند الله أن يتسمى الرجل باسم ملك الأملاك وبعضهم يرويه: إن أخنع الأسماء عند الله. فمن رواه: أنخع، أراد أقتل الأسماء وأهلكها له، والنخع هو القتل
[ 18 ]
الشديد، ومنه النخع في الذبيحة أن يجوز بالذبح إلى النخاع. ومن روى: أخنع، أراد أشد الأسماء ذلا وأوضعها عند الله إذ يسمى بملك الأملاك فوضعه ذلك عند الله. وكان سفيان بن عيينة يفسر قوله: ملك الأملاك، وقال غير سفيان: بل هو أن يتسمى الرجل بأسماء الله كقوله: الرحمن والجبار والعزيز، قال: فالله هو ملك الأملاك لا يجوز أن تسمى بهذا الاسم غيره وكلا القولين له وجه والله أعلم. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي. قوله: الطربال، كان أبو عبيدة يقول: هذا شبيه بالمنظر من مناظر العجم كهيئة الصومعة والبناء المرتفع قال جرير: [ الكامل ] ألوى بها شذب العروق مشذب فكأنما وكنت على طربال
[ 19 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه كان يقول في مرضه: الصلاة وما ملكت أيمانكم، فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه. قوله: وما يفيص بها لسانه، يقول: وما يبين بها كلامه يقال: ما يفيص فلان بكلمة، إذا لم يقدر على أن يتكلم بها ببيان، قالها الأصمعي وغيره. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: تمسحوا بالأرض فإنها بكم برة. قوله: تمسحوا يعني للصلاة عليها والسجود يعني أن تباشرها بنفسك في الصلاة من غير أن يكون بينك وبينه شئ يصلى عليه. وإنما هذا عندنا على وجه البر ليس على أن من ترك ذلك كان تاركا للسنة، وقد روي عن النبي عليه السلام وغيره من أصحابه أنه كان يسجد على الخمرة فهذا هو الرخصة، وذلك على وجه الفضل.
[ 20 ]
وأما قوله فإنها بكم برة يعني أنه منها خلقهم وفيها معاشهم وهي بعد الموت كفاتهم، فهذا وأشباه له كثير من بر الأرض بالناس. وقد تأول بعضهم قوله: تمسحوا بالأرض على التيمم، وهو وجه حسن. وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كره أن يسجد الرجل على شئ دون الأرض، ولكن الرخصة في هذا أكثر من الكراهة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه كان يدعو في دعائه يقول: رب تقبل توبتي واغسل حوبتي. قوله: حوبتي يعني المأثم، وهو من قول الله عز وجل " إنه كان حوبا كبيرا " / وكل مأثم حوب وحوبة ومنه الحديث الآخر أن رجلا أتى إلى النبي عليه السلام فقال: إني أتيتك لأجاهد معك، فقال: ألك حوبة فقال: نعم، قال: ففيها فجاهد. يروى عن أشعث بن عبد الرحمن عن الحسن يرفعه قوله: حوبة يعني ما تأثم فيه إن ضيعته من حرمة، وبعض أهل العلم يتأوله على الأم خاصة، وهي عندي كل حرمة
[ 21 ]
تضيع إن تركتها من أم أو أخت أو بنت أو غير ذلك. قال الأصمعي: بات بحيبة سوء إذا بات بسوء حال وشدة قال ويقال: فلان يتحوب من كذا وكذا إذا كان يتغيظ منه ويتوجع قال الطفيل بن عوف الغنوي: [ الطويل ] فذوقوا كما ذقنا غذاة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب وقد يكون التحوب التعبد والتجنب للمأثم، ومنه الحديث الذي يروى عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يخرج إلى هنالك للتحوب، وبعضهم يرويه: التحيب. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه. قال أبو عبيد: فسألت عن هذا الحديث فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض وقبل أن يؤمر المسلمون بالجهاد. قال أبو عبيد: كأنه يذهب إلى أنه لو كان يولد على الفطرة ثم مات قبل أن يهوده أبواه أو ينصراه ما ورثهما ولا ورثاه لأنه مسلم وهما كافران،
[ 22 ]
وكذلك ما كان يجوز أن يسبى، يقول: فلما نزلت الفرائض وجرت السنن بخلاف ذلك علم أنه يولد على دينهما هذا قول محمد بن الحسن فأما عبد الله ابن المبارك فإنه سئل عن تأويل هذا الحديث فقال: تأويله الحديث الآخر أن النبي عليه السلام سئل عن أطفال المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين يذهب إلى أنهم يولدون على ما يصيرون إليه من إسلام أو كفر، فمن كان في علم الله أن يصير مسلما فإنه يولد على الفطرة، ومن كان في علمه أنه يموت كافرا ولد على ذلك قال: ومما يشبه هذا الحديث حديثه الآخر أنه قال: يقول الله تعالى: خلقت عبادي جميعا حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وجعلت ما نحلت لهم من رزق فهو لهم حلال فحرم عليهم الشيطان ما أحللت. كأنه يريد قول الله تعالى " قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون " ويروى في التفسير عن مجاهد في قوله " فجعلتم منه حراما وحلالا " أنها البحائر والسيب فقال أبو عبيد: يعني ما كانوا يحرمون من
[ 23 ]
ظهروها وألبانها والانتفاع بها. وفيها نزلت هذه الآية: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ".
[ 24 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانطلقت معهما فأتينا على رجل مضطجع وإذا رجل قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة فيثلغ بها رأسه فتدهدى الصخرة، قال: ثم انطلقنا فأتينا على رجل مستلق وإذا رجل قائم عليه بكلوب وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ثم انطلقنا فأتينا على مثل بناء التنور فيه رجال ونساء يأتيهم لهب من أسفل فإذا أتاهم ذلك ضوضوا، فانطلقنا فانتهينا إلى دوحة عظيمة فقالا لي: ارق [ فيها ] فارتقينا فإذا نحن بمدينة
[ 25 ]
مبنية بلبن من ذهب وفضة، فسما بصري صعدا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء. قال أبو عبيد: أما قوله: رجل مضطجع ورجل يهوي بصخرة فيثلغ بها رأسه يعني يشدخه، يقال: ثلغت رأسه فأنا أثلغه ثلغا إذا شدخته. وقوله: فيتدهدى الحجر، يقال: يعني يتدحرج، يقال منه: / تدهدا الحجر وغيره تدهديا إذا تدحرج، ودهديته أنا أدهديه دهداة ودهداء إذا دحرجته قاله الكسائي. [ و ] قوله: كلوب من حديد، هو الكلاب، وهما لغتان: كلاب وكلوب، شرشر ضوا دوح ربب قال أبو عبيد: والفتح أجود في كلوب، والجمع منها كلاليب.
[ 26 ]
وقوله: يشرشر شدقه إلى قفاه يعني يشققه ويقطعه وقال أبو زبيد الطائي يصف الأسد: [ الطويل ] يظل مغبا عنده من فرائس رفات عظام أو غريض مشرشر وقوله: فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا يعني ضجوا وصاحوا، والمصدر منه الضوضاة غير مهموز. وأما الدوحة فالشجرة العظيمة من أي شجر كان. و [ أما ] قوله: مثل الربابة البيضاء، فإنها السحابة التي قد ركب بعضها بعضا، وجمعها رباب، وبه سميت المرأة الرباب قال الشاعر: [ الطويل ] سقى دار هند حيث حلت بها النوى مسف الذرى داني الرباب ثخين وأما الربابة بكسر الراء، فإنها شبيهة بالكنانة، يكون فيها السهام، قال: وبعض الناس يقول: الربابة خرقة أو جلدة تجعل فيها
[ 27 ]
القداح شبه الوعاء لها قال أبو ذؤيب يصف الحمار والأتن: [ الكامل ] وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إن [ هذا ] الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. قال أبو عبيد: قال الأصمعي وغيره: قوله: فأوغل فيه برفق، الإيغال: السير الشديد والإمعان فيه، يقال منه: أوغلت أوغل إيغالا بتت قال أبو عبيد: قال الأعشى يذكر الناقة: [ الخفيف ]
[ 28 ]
تقطع الأمعز المكوكب وخدا بنواج سريعة الإيغال فأما الوغول فإنه الدخول في الشئ وإن لم يبعد فيه، وكل داخل فهو واغل، يقال منه: وغلت أغل وغولا ووغلا، ولهذا قيل للداخل على الشراب من غير أن يدعى: واغل ووغل. وأما قوله: فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، فإنه الذي يغذ السير ويتعب بلا فتور حتى تعطب دابته فيبقى منبتا منقطعا به لم يقض سفره وقد أعطب ظهره، فشبهه بالمجتهد في العبادة حتى يحسر ومن هذا حديث سلمان رحمه الله: وشر السير الحقحقة، وقد قاله مطرف بن الشخير لابنه قال فاه ابن علية عن إسحاق بن سويد قال: تعبد عبد الله بن مطرف فقال له مطرف: يا عبد الله ! العلم أفضل من العمل، والحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة. وأما قوله: الحسنة بين السيئتين، فأراد
[ 29 ]
أن الغلو في العلم سيئة، والتقصير عنه سيئة، والحسنة بينهما وهو القصد كما [ جاء ] في الحديث الآخر في فضل قارئ القرآن: غير الغالي فيه ولا الجافي عنه فالغلو فيه التعمق، والجفا عنه التقصير، وكلاهما سيئة ومما يبين ذلك قول الله عز وجل " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ". وكذلك قوله " لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ". ومما يشبه هذا الحديث قول تميم الداري قال: فاه عبد الله بن المبارك عن الجريري عن أبي العلاء قال قال تميم الداري: خذ من دينك لنفسك ومن نفسك لدينك حتى يستقيم بك الأمر على عبادة تطيقها وكان ابن علية يحدثه عن الجريري عن رجل عن تميم ولا يذكر أبا العلاء. ومثل ذلك حديث يروى عن بريدة الأسلمي عن النبي عليه السلام أنه قال: من يشاد هذا الدين يغلبه، قال: فاه يزيد وإسماعيل جميعا
[ 30 ]
عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن بريدة قال: بينما أنا ماش في طريق إذ أنا برجل خلفي فالتفت / فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأخذ بيدي فانطلقنا فإذا نحن برجل يصلي يكثر الركوع والسجود، قال فقال لي: يا بريدة ! أتراه يرائي ثم أرسل يده من يدي ثم جمع يديه جميعا وجعل يقول: عليكم هديا قاصدا، عليكم هديا قاصدا، إنه من يشاد هذا الدين يغلبه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيقال: مالك فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه. قال أبو عبيد قال الأصمعي وغيره: الأقتاب الأمعاء، قال
[ 31 ]
الكسائي: واحدها قتب، [ و ] قال الأصمعي: واحدها قتبة، وبها سمي الرجل قتيبة، وهو تصغيرها. [ و ] قال أبو عبيدة: القتب ما تحوى من البطن يعني استدار، وهي الحوايا قال: وأما الأمعاء فإنها الأقصاب واحدها قصب. قال أبو عبيد: [ أما ] قوله: فتندلق أقتاب بطنه، فإن الاندلاق خروج الشئ من مكانه وكل شئ ندر خارجا فقد اندلق، ومنه قيل للسيف: قد اندلق من جفنه إذا شقه حتى يخرج منه، ويقال للخيل: قد اندلقت إذ اخرجت فأسرعت [ السير ] قال طرفة: [ الرمل ] دلق في غارة مسفوحة كرعال الطير أسرابا تمر
[ 32 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إنه ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم. قال أبو عبيد: قوله: غير مقتت يعني غير مطيب، والمقتت هو المطيب الذي فيه الرياحين، يطبخ بها الزيت حتى تطيب ويتعالج منه للريح. فمعنى الحديث أنه ادهن بالزيت بحتا، لا يخالطه شئ وفي الحديث من الفقه أنه كره الريحان [ أن ] يشمه المحرم. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: ألا ! إن التبين من الله والعجلة من الشيطان فتبينوا.
[ 33 ]
قال الكسائي وغيره: التبين مثل التثبت في الأمور والتأني فيها وقد روي عن عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ " إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " وبعضهم " فتثبتوا " والمعنى قريب بعضه من بعض. وأما البيان فإنه من الفهم وذكاء القلب مع اللسان اللسن ومنه الحديث المرفوع: إن من البيان سحرا، وذلك أن قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم قدموا على النبي عليه السلام فسأل النبي عليه السلام عمرا عن الزبرقان فأثنى عليه خيرا، فلم يرض الزبرقان بذلك فقال: والله ! يا رسول الله ! إنه ليعلم أني أفضل مما قال ولكنه حسدني مكاني منك، فأثنى عليه عمرو شرا ثم قال: والله يا رسول الله ! ما كذبت عليه في الأولى ولا في الآخرة، ولكنه أرضاني فقلت بالرضا وأسخطني فقلت بالسخط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحرا. قال أبو عبيد: هو من حديث عباد بن عباد المهلبي عن محمد
[ 34 ]
ابن الزبير الحنظلي، قال وحدثني أبو عبد الله الفزاري عن مالك بن دينار قال: ما رأيت أحدا أبين من الحجاج إن كان ليرقى المنبر فيذكر إحسانه إلى أهل العراق وصفحه عنهم وإساءتهم إليه حتى أقول في نفسي: والله إني لأحسبه صادقا [ و ] إني لأظنهم ظالمين [ له ] فكان المعنى والله أعلم أنه يبلغ من بيانه أنه يمدح الإنسان فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله، ثم يذمه فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنه قد سحر السامعين بذلك، فهذا وجه قوله: إن من البيان سحرا. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن رجلا أتاه فشكى إليه الجوع فأتى النبي صلى الله عليه [ وسلم ] بشاة مصلية فأطعمه منها، وقيل: بقصعة من ثريد.
[ 35 ]
قال الكسائي وغير واحد: قوله: مصلية يعني المشوية يقال [ منه ]: صليت اللحم وغيره إذا شويته فأنا أصليه صليا، مثال رميته [ أرميه ] رميا إذا فعلت كذا وأنت تريد أن تشويه، فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته إصلاء بالألف، وكذلك صليته أصليه تصلية قال الله عز وجل / " ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا " وروي عن علي رحمه الله أنه كان يقرأ " ويصلى سعيرا " وكان الكسائي يقرأ به فهذا ليس من الشئ إنما هو من إلقائك إياه فيها وقال أبو زبيد: [ المنسرح ] فقد تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس يعني البرد ويقال: قد صليت بالأمر فأنا أصلى به إذا قاسى حره وشدته ويقال في غير هذا المعنى: صليت لفلان بالتخفيف، وذاك إذا عملت له في أمر تريد أن تمحل به فيه وتوقعه في هلكة
[ 36 ]
والأصل في هذا: المصالي، وهي شبيهة بالشرك تنصب للطير وغيرها.. وقد روي في حديث من حديث أهل الشام: إن للشيطان مصالي وفخوخا يعني ما يصيد به الناس، وهو من هذا وليس من الأول. وقال [ أبو عبيد ]: في حديث النبي عليه السلام في السنة في الرأس والجسد قال: قص الشارب والسواك والاستنشاق والمضمضة وتقليم الأظفار ونتف الإبط والختان والاستنجاء بالأحجار والاستحداد [ و ] في بعض الحديث: وانتقاص الماء. فأما الاستحداد فإنه حلق العانة، ومن ذلك قول النبي عليه السلام حين قدم من سفر فأراد الناس أن يطرقوا النساء ليلا فقال:
[ 37 ]
أمهلوا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة. وقال أبو عبيد: في [ آخر ] هذا الحديث حرف لا أحفظه زاد فيه: فإذا قدمتم فالكيس الكيس. نقص قال أبو عبيد: كأنه ذهب إلى طلب الولد والنكاح ونرى أن أصل الاستحداد والله أعلم إنما هو الاستفعال من الحديدة يعني الاستحلاق بها، وذلك أن القوم لم يكونوا يعرفون النورة. وأما إحداد المرأة على زوجها فمن غير هذا، إنما هو ترك الزينة والخضاب ونراه مأخوذا من المنع لأنها قد منعت من ذلك، ومنه قيل للرجل المحارف: محدود، لأنه ممنوع من الرزق، ولهذا قيل للبواب:
[ 38 ]
حداد، لأنه يمنع الناس من الدخول قال الأعشى: [ المتقارب ] فقمنا حداد، لأنه يمنع الناس من الدخول قال الأعشى: [ المتقارب ] فقمنا ولما يصح ديكنا إلى جونة عند حدادها [ و ] الجونة خابية يعني صاحبها الذي يمنعها ويحفظها وفي إحداد المرأة لغتان: يقال: حدت زوجها تحد وتحد حدادا، وأحدت تحد إحدادا. وأما قوله: [ و ] انتقاص الماء، فإنا نراه غسل الذكر بالماء، وذلك أنه إذا غسل الذكر ارتد البول ولم ينزل، وإن لم يغسل نزل منه الشئ حتى يستبرأ. قال أبو عبيد: ليس معنى الحديث أنه سمى البول ماء ولكنه أراد أنتقاص البول بالماء إذا اغتسل به.
[ 39 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن قوما مروا بشجرة فأكلوا منها فكأنما مرت بهم ريح فأخمدتهم فقال النبي عليه السلام: قرسوا الماء في الشنان وصبوه عليهم فيما بين الأذانين. قرس قال أبو عبيد: قوله: قرسوا يعني بردوا، وفيه لغتان: القرس بفتح الراء، والقرس بجزمها وقول الناس: قد قرس البرد، إنما هو من هذا بالسين ليس بالصاد. وأما حديثه الآخر أن امرأة سألته عن دم المحيض في الثوب فقال النبي عليه السلام: قرصيه بالماء، فإن هذا بالصاد، يقول: قطعيه به، فكل مقطع فهو مقرص، ويقال
[ 40 ]
للمرأة: قد قرصت العجين إذا قطعته ليبسطه. وأما قوله: [ في ] الشنان فإنها الأسقية والقرب الخلقان، يقال للسقاء: شن، وللقربة: شنة، وإنما ذكر الشنان دون الجدد لأنها أشد تبريدا. وقوله: بين الأذانين يعني بين أذان الفجر والإقامة، فسمى الإقامة أذانا، وقد فسرنا هذا في غير هذا الموضع. وفي هذا الحديث من الفقه أن هذا الفعل شبيه بالنشرة فجاءت فيه الرخصة عن النبي عليه السلام في غير / إصابة العين فقال أبو عبيد: وإنما كتبناه من أجل الحديث الآخر لأن فيه من عين أو حمة، والحمة: حمة العقرب والحية والزنبور فهذا رخصة في غير ذلك. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: ماذا في الأمرين من الشفاء الصبر والثفاء ممدود.
[ 41 ]
يقال: إن الثفاء هو الحرف، والتفسير هو في هذا الحديث ولم أسمعه في غير هذا الموضع وقد رويت أشياء في مثل هذا لم نسمعها في أشعارهم ولا في كلامهم إلا أن التفسير في الحديث، منه قوله: إنه نهى عن كسب الزمارة، وتفسير الحديث الزانية.
[ 42 ]
ومنه حديث سالم بن عبد الله أنه مر به رجل معه صير فذاق منه ثم سأله: كيف يبيعه، تفسيره في الحديث [ أنه ] الصحناة وكذلك حديثه الآخر: من اطلع من صير باب ففقئت عينه فهي هدر، فتفسيره في الحديث أن الصير هو الشق في الباب. ومن ذلك حديث عمر رضي الله عنه حين سأل المفقود الذي كان الجن استهوته ما كان شرابهم فقال: الجدف، وتفسيره في الحديث أنه مالا يغطى، ويقال: إنه نبات يكون باليمن، لا يحتاج الذي يأكله [ إلى ] أن يشرب
[ 43 ]
عليه الماء وفي هذا أحاديث كثيرة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه احتجم على رأسه بقرن حين طب. القرن ليس هو بالمنزل الذي يذكر، إنما هو شبيه المحجمة قال أبو عبيد: قوله: طب يعني سحر، يقال منه: رجل مطبوب، قال أبو عبيد: ونرى أنه إنما قيل له: مطبوب، لأنه كنى بالطب عن السحر، كما كنوا عن اللديغ [ فقالوا ] سليم تطيرا إلى السلامة من اللدغ، وكما كنوا عن الفلاة وهي المهلكة التي لا ماء فيها
[ 44 ]
فقالوا: مفازة، تطيرا من الهلاك إلى الفوز وأصل الطب: الحذق فقالوا: مفازة، تطيرا من الهلاك إلى الفوز وأصل الطب: الحذق بالأشياء والمهارة بها، يقال: رجل طب وطبيب إذا كان كذلك، وإن كان في غير علاج المرض قال عنترة: [ الكامل ] إن تغد دوني القناع فإنني طب بأخذ الفارس المستلئم وقال علقمة بن عبدة: [ الطويل ] فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب قوله: تسألوني بالنساء، يريد عن النساء ومنه قوله " فسئل به خبيرا " وكذلك قول الناس: أتينا فلانا نسأل به، هو من هذا. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: الطيرة والعيافة
[ 45 ]
والطرق من الجبت. قال أبو عبيد: قوله: العيافة يعني زجر الطير، يقال منه: عفت
[ 46 ]
الطير أعيفها عيافة ويقال في غير هذا: عافت الطير تعيف عيفا إذا كانت تحوم على الماء، وعاف الطعام يعافه عيافا، وذلك إذا كرهه. وأما قوله في الطرق فإنه الضرب بالحصى ومنه قول لبيد: [ الطويل ] لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع وقال: بعضهم يرويه: الضوارب بالحصى، ومعناهما واحد وأصل الطرق الضرب، ومنه سميت مطرقة الصائغ والحداد مطرقة لأنه يطرق بها [ أي ] يضرب [ بها ]، وكذلك عصا النجاد التي يضرب بها الصوف. والطرق [ أيضا ] في غير هذا: الماء الذي قد
[ 47 ]
خوضته الإبل وبولت فيه، فهو طرق ومطروق ومنه حديث إبراهيم [ أنه قال ]: الوضوء بالطرق أحب إلي من التيمم. وأما الطروق فإنه من الطارق الذي يطرق ليلا. وأما الإطراق فإنه يكون من السكوت، ويكون أيضا استرخاء في جفون العين، يقال منه: رجل مطرق وقال الشاعر في عمر بن الخطاب يرثيه: [ الطويل ] وما كنت أخشى أن تكون وفاته بكفي سبنتى أزرق العين مطرق وأما التطارق فهو اتباع القوم بعضهم بعضا، يقال منه: قد تطارق
[ 48 ]
القوم إذا فعلوا ذلك، / ومنه قيل للترسة: المجان المطرقة يعني قد أطرقت بالجلود والعصب [ أي ] ألبسته، وكذلك النعل المطرقة هي التي أضيفت إليها أخرى واحد المجان مجن وجمعه مجان. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه نهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، ونهى عن عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات. قال أبو عبيد: يقال: إن قوله: إضاعة المال، [ أن ] يكون في وجهين: [ أما ] أحدهما وهو الأصل: فما أنفق في معاصي الله، وهو السرف الذي عابه الله [ تبارك وتعالى ] ونهى عنه فيما أخبرني به ابن مهدي: إن كل ما أنفق في غير طاعة الله من قليل
[ 49 ]
أو كثير فهو السرف، والوجه الآخر: دفع المال إلى ربه وليس هو بموضع، ألا تراه قد خص أموال اليتامى فقال [ تبارك وتعالى ] " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان انستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " قال أبو عبيد: قوله: " فإن آنستم منهم رشدا "، قال: العقل، وقال: صلاحا في دينه وحفظا لماله، قال أبو عبيد: وهذا هو الأصل في الحجر على المفسد لماله، ألا تراه قد أمر بمنع اليتيم فهل يكون الحجر إلا هكذا، ومنه قوله: " ولا تؤتوا السفهآء أموالكم التي جعل الله لكم قياما " وكذلك قوله ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام " فهذا كله وأشباهه فيما نهى الله ورسوله عنه من إضاعة المال. وقوله: وكثرة السؤال، فإنها مسألة الناس أموالهم، وقد يكون
[ 50 ]
[ أيضا ] من السؤال عن الأمور وكثرة البحث عنها، كما قال " لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " وكما قال " ولا تجسسوا ". وأما قوله: ووأد البنات، فهو من الموؤودة، وذلك أن رجال الجاهلية كانوا يفعلون ذلك ببناتهم في الجاهلية وكان أحدهم ربما ولدت له الابنة فيدفنها وهي حية حين تولد، ولهذا كانوا يسمون القبر صهرا أي [ إني ] قد زوجتها منه قال الشاعر: [ الرجز ] سميتها إذ ولدت تموت والقبر صهر ضامن زميت يا ابنة شيخ ما له سبروت يقال: أرض سباريت، والواحد سبروت، وهي التي لا شئ فيها، فهذا ما في الحديث من الفقه. و [ في ] قوله: نهى عن قيل وقال نحو وعربية، وذلك
[ 51 ]
أنه جعل القال مصدرا، ألا تراه يقول: عن قيل وقال فكأنه قال: عن قيل وقول يقال على هذا: قلت قولا وقيلا وقالا، قال أبو عبيد: وسمعت الكسائي يقول في قراءة عبد الله " ذلك عيسى ابن مريم قال الحق [ الذي فيه يمترون ] " فهو من هذا كأنه قال قول الحق الذي فيه يمترون. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه نهى عن التبقر في الأهل والمال.
[ 52 ]
قال أبو عبيدة: تفسيره في الحديث أن ابن مسعود رواه عن النبي عليه السلام ثم قال: فكيف بمال براذان ومال بكذا ومال بكذا يريد الكثرة والسعة قال الأصمعي: وهو من هذا، [ و ] أصل التبقر التوسع والتفتح، ومنه قيل: بقرت بطنه إنما هو شققته وفتحته. قال أبو عبيد: ومن هذا حديث أبي موسى حين أقبلت الفتنة بعد مقتل عثمان رحمه الله، فقال: إن هذه الفتنة باقرة كداء البطن لا يدرى أنى يؤتى له إنما أراد أنها مفسدة للدين ومفرقة بين الناس ومشتتة أمورهم. وكذلك معنى الحديث الأول [ أنه ] إنما أراد النهي عن تفريق الأموال في البلاد / فيتفرق القلب لذلك. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إن أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر.
[ 53 ]
قال أبو عبيد: قوله: يوم القر يعني الغد من يوم النحر، وإنما سمي يوم القر لأن أهل الموسم يوم التروية وعرفة والنحر في تعب من الحج، فإذا كان الغد من يوم النحر قروا بمنى فلهذا سمي يوم القر، وهو معروف من [ أهل ] كلام الحجاز، قال أبو عبيد: وسألت عنه أبا عبيدة وأبا عمرو فلم يعرفاه ولا الأصمعي فيما أعلم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أتي ببدنات خمس أو ست فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت لجنوبها قال عبد الله بن قرط: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة خفية لم أفهمها أو قال: لم أفقهها، فسألت الذي يليه فقال: [ قال ]: من شاء فليقتطع. قال أبو عبيد: أما قوله: يزدلفن إليه، فإنه من التقدم، [ و ] قال الله
[ 54 ]
عز وجل " وأزلفنا ثم الآخرين ". وفي هذا الحديث من الفقه أنه رخص في النهبة إذا كانت بإذن صاحبها وطيب نفسه، ألا تسمع إلى قوله: من شاء فليقتطع وفي هذا الحديث مابيبن لك أنه لا بأس بنهبة السكر في الأعراس، وقد كرهه عدة من الفقهاء، وفي هذا الحديث رخصة بينة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه سئل عن بعير شرد فرماه بعضهم بسهم حبسه الله به عليه فقال النبي عليه السلام: إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا. قال أبو عبيد وأبو عمرو وغيرهما دخل كلام بعضهم في بعض،
[ 55 ]
[ قالوا ] قوله: أوابد كأوابد الوحش يعني بالأوابد التي قد توحشت ونفرت من الإنس يقال منه: أبدت وتأبد وتأبد أبودا وتأبدت تأبدا، ومنه قيل للدار إذا خلا منها أهلها وخلفتهم الوحش بها: تأبدت قال لبيد: [ الكامل ] عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها وفي الحديث أنه قيل: يا رسول الله ! إنا نلقى العدو غدا وليست لنا مدى فبأي شئ نذبح فقال: أنهروا الدم بما شئتم إلا الظفر والسن، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبش. فقال بعض الناس في هذا: يعني السن المركبة في فم الإنسان، والظفر المركب في أصبعه وليس بمنزوع، لأنه إذا ذبح بذلك فقد خنق واحتج فيه بقول ابن عباس
[ 56 ]
في الذي يذبح بظفره فقال: إنما قتلها خنقا قال: ومع هذا إنه ليس يمكن الذبح بالظفر والسن المنزوعين لصغرهما، وقال بعض الناس: لا بل المعنى في النهي واقع على كل ذابح بسن أو ظفر منزوع منه أو غير منزوع، لأن الحديث مبهم والله أعلم. وفي حديث آخر أن عدي ابن حاتم سأل النبي عليه السلام فقال: إنا نصيد الصيد فلا نجد ما نذكي به إلا الظرار وشقة العصا، فقال: أمر الدم بما شئت. قال الأصمعي: الظرار واحدها ظرر، وهو حجر محدد صلب، وجمعه ظرار وظران قال لبيد يصف الناقة إنها ناقة تنفي الحصى بخفها فقال: [ البسيط ]
[ 57 ]
بجسرة تنجل الظران ناجية إذا توقد في الديمومة الظرر وقوله: أمر الدم بما شئت، يقول: سيله واستخرجه، ومنه قيل: مريت الناقة فأنا أمريها مريا إذا مسحت ضرعها لينزل اللبن. ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الذبيحة بالعود، فقال: كل ما أفرى الأوداج غير مثرد. قوله: أفرى الأوداج يعني شققها وأسال / منها الدم، يقال: أفريت الثوب بالألف وأفريت الجلة إذا شققتها وأخرجت ما فيها، فإذا قلت: فريت بغير ألف، فإن معناه أن تقدر الشئ وتعالجه وتصلحه مثل النعل تحذوها أو النطع أو القربة ونحو ذلك يقال: فريت أفري فريا ومنه قول زهير: [ الكامل ] ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري وكذلك: فريت الأرض إذا سرتها وقطعتها وأما الأول: أفريت
[ 58 ]
بالألف إفراء فإنه من التشقيق على وجه الفساد. وقوله: غير مثرد، قال أبو زياد الكلابي: المثرد الذي يقتل بغير ذكاة يقال: قد ثردت ذبيحتك إذا قتلتها من غير أن تفرى الأوداج وتسيل الدم وأما الحديث المرفوع في الذبيحة بالمروة فإن المروة حجارة بيض، وهي التي تقدح منها النار، قالها الأصمعي وغيره. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه سمع عمر رضي الله يحلف بأبيه فنهاه عن ذلك قال: فما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا. قال أبو عبيد: أما قوله: ذاكرا، فليس من الذكر بعد النسيان، إنما أراد متكلما به كقولك: ذكرت لفلان حديث كذا وكذا.
[ 59 ]
وقوله: ولا آثرا يريد ولا مخبرا عن غيري أنه حلف به يقول: لا أقول: إن فلانا قال وأبي لا أفعل كذا وكذا، ومن هذا [ قيل ]: حديث مأثور أي يخبر به الناس بعضهم بعضا يقال منه: اثرت مقصورا الحديث آثره أثرا فهو مأثور وأنا آثر على مثال فاعل قال الأعشى: [ السريع ] إن الذي فيه تماريتما بين للسامع والآثر ومنه حديث ابن عمر حين سأل سلمة بن الأزرق في الرخصة في البكاء على الميت فقال له ابن عمر: أنت سمعت هذا من أبي هريرة قال: نعم، قال ويأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، قال: الله ورسوله أعلم. قال أبو عبيد: ويقال: إن المأثرة مفعلة من هذا، وهي المكرمة من أثرت، وإنما أخذت من هذا أي إنها بأثرها قرن عن قرن يتحدثون بها.
[ 60 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن رجلا قال له: يا رسول الله ! إنا قوم نتساءل أموالنا، فقال: يسأل الرجل في الجائحة والفتق فإذا استغنى أو كرب استعف. قال أبو عبيد: أما قوله: استغنى أو كرب يقول: أو دنا من ذلك وقرب منه، وكل دان فهو كارب قالالشاعر وهو لعبد قيس بن خفاف البرجمي: [ الكامل ] أبني إن أباك كارب يومه فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل وأما قوله: في الجائحة، فإنها المصيبة تحل بالرجل في ماله فتجتاحه كله.
[ 61 ]
وأما الفتق فالحرب تكون بين الفريقين فيقع بينهم الدماء والجراحات فيتحملها رجل ليصلح بذلك بيينهم ويحقن دماءهم فيسأل فيها حتى يؤديها إليهم ومما يبين ذلك حديثه الآخر: سدد قال أبو عبيد قال: إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة من قوم، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يشهد له ثلاثة من ذوي الحجى لا من قومه أن قد أصابته فاقة وأن قد حلت له المسألة وما سوى ذلك من المسائل سحت. وأما قوله: رجل تحمل بحمالة، ورجل أصابته جائحة، فعلى ما فسرت لك وأما الفاقة: / فالفقر. وقوله: سدادا من عيش، فهو بكسر السين، وكل شئ سددت به خللا فهو سداد، ولهذا سمى سداد القارورة، وهو صمامها لأنه يسد رأسها، ومنه سداد الثغر إذا سد بالخيل والرجال قال الشاعر: [ الوافر ]
[ 62 ]
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر وأما السداد بالفتح فإنما معناه الإصابة في المنطق، أن يكون الرجل مسددا، يقال منه: إنه لذو سداد في منطقه وتدبيره، وكذلك الرمي، فهذا ما [ جاء ] في الحديث من العربية وأما ما فيه من الفقه فإنه أخبرك لمن تحل له المسألة فخص هؤلاء الأصناف الثلاثة ثم حظر المسألة على سائر الخلق وأما حديث ابن عمر أن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع أو غرم مفظع أو دم موجع فان هذه الخلال الثلاث هي تلك التي في حديث أيوب عن هارون بن رئاب عن النبي عليه السلام بأعيانها إلا أن الألفاظ اختلفت فيهما فلا أرى المسألة
[ 63 ]
تحل في هذا الحديث أيضا إلا لأولئك الثلاثة بأعيانهم. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا. قال أبو عبيد قال الكسائي وبعضه عن الأصمعي وغيرهما: قال: الهجر الإفحاش في المنطق والخنا ونحوه، يقال منه: أهجر الرجل يهجر إهجارا قال الشماخ بن ضرار الثعلبي: [ الطويل ] كما جدة الأعراق قال ابن ضرة عليها كلاما جار فيه وأهجرا يروى: الأعراق والأعراض، ومنه حديث أبي سعيد الخدري أنه
[ 64 ]
كان يقول لبنيه: إذا طفتم بالبيت فلا تلغوا ولا تهجروا ولا تقاصوا أحدا ولا تكلموه. هكذا قال هشيم: تهجروا، [ قال أبو عبيد ]: ووجه الكلام عندي: تهجروا في هذا الموضع لأن الإهجار كما أعلمتك من سوء المنطق وهو الهجر، وأما الهجر في الكلام فإنه الهذيان مثل كلام المحموم والمبرسم، يقال منه: هجرت فأنا أهجر هجرا وهجرانا فأنا هاجر، والكلام مهجور شعر قال أبو عبيد عن إبراهيم النخعي ما يثبت هذا القول في قوله تعالى " إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " قال: قالوا فيه غير الحق، ألم تر إلى المريض إذا هجر قال غير الحق [ قال: وحدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد نحوه ]. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في إشعار الهدى. قال الأصمعي: هو أن يطعن في أسنمتها في أحد الجانبين
[ 65 ]
بمبضع أو نحوه بقدر ما يسيل الدم، وهو الذي كان أبو حنيفة زعم يكرهه، وسنة النبي عليه السلام في ذلك أحق أن يتبع قال الأصمعي: أضل الإشعار العلامة، يقول: كان ذلك إنما يفعل بالهدى ليعلم أنه قد جعل هديا وقال أبو عبيد عن عائشة رضي الله عنها: إنما تشعر البدنة ليعلم أنها بدنة. قال الأصمعي: ولا أرى مشاعر الحج إلا من هذا لأنها علامات له قال: وجاءت أم معبد الجهنى إلى الحسن فقالت [ له ]: إنك قد أشعرت ابني في الناس أي إنك تركته كالعلامة فيهم. قال أبو عبيد: ومنه حديث النبي عليه السلام: إن جبريل عليه السلام قال: مر أمتك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من
[ 66 ]
شعار الحج ومنه شعار العساكر إنما يسمون بتلك الأسماء علامة لهم ليعرف الرجل بها رفقته. ومنه حديث عمر حين رمى رجل الجمرة فأصاب صلعته فاضباب الدم [ ونادى رجل رجلا: يا خليفة ] فقال رجل من خثعم: أشعر أمير المؤمنين دما، ونادى رجل يا خليفة ليقتلن أمير المؤمنين. فتفاءل عليه بالقتل فرجع عمر أمير المؤمنين فقتل. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام / أنه أمر بإخراج
[ 67 ]
اليهود والنصارى من جزيرة العرب. قال [ قال ] أبو عبيدة: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وأما العرض فما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة [ و ] قال الأصمعي: جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطوار الشام. قال أبو عبيد: فأمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بإخراجهم من هذا كله فيرون أن عمر إنما استجاز [ إخراج ] أهل نجران من اليمن وكانوا نصارى إلى سواد العراق لهذا الحديث، وكذلك إجلاؤه أهل خيبر إلى الشام وكانوا يهودا. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام فيمن خرج مجاهدا
[ 68 ]
في سبيل الله قال: فإن لسعته دابة أو أصابه كذا وكذا فهو شهيد، ومن مات حتف أنفه قال الذي سمع هذا الحديث من النبي عليه السلام: إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قط قبل رسول الله عليه السلام فقد وقع أجره على الله، ومن قتل قعصا فقد استوجب المآب. قال أبو عبيد: أما قوله: حتف أنفه، فإنه أن يموت موتا على فراشه من غير قتل ولا غرق ولا سبع ولا غيره وقال: كان يقول في السمك: ما مات حتف أنفه فلا تأكله يعني الذي يموت منه في الماء، كأنه كره الطافي [ قال ] وقد رواه بعض أصحابنا عن ابن عيينة: ما مات حتفا فيه يعني في الماء، ولا أراه حفظ هذا عن ابن عيينة، وكلام العرب هو الأول.
[ 69 ]
والقعص أن يضرب الرجل بالسلاح أو بغيره فيموت في مكانه قبل أن يريم، فذلك القعص يقال: أقعصته إقعاصا، وكذلك الصيد وكل شئ. وأما المآب فالمرجع، قال الله [ تبارك و ] تعالى " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ". وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الركب أسنتها. قال أبو عبيد: أما قوله: الركب فإنها جمع الركاب، والركاب هي الإبل التي يسار عليها، ثم تجمع الركاب فيقال: ركب. وأما قوله: أسنتها، فإنه أراد الأسنان، يقال: أمكنوها من الرعي قال: وهذا كحديثه الآخر: إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها
[ 70 ]
من الكلأ، وإذا سافرتم في الجدوبة فاستنجوا. قال أبو عبيد: وقوله: الأسنة، ولم يقل: الأسنان، وهكذا الحديث ولا نعرف الأسنة في الكلام إلا أسنة الرماح، فإن كان هذا محفوظا فهو أراد جمع السن، فقال: أسنان، ثم جمع الأسنان فقال: أسنة، فصار جمع الجمع هذا وجه في العربية. وقوله: فاستنجوا يريد: فانجوا، إنما هو استفعلوا من النجاء. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في قتلى أحد: زملوهم في دمائهم وثيابهم. وهو من حديث غير واحد.
[ 71 ]
قال أبو عبيدة: أما قوله: زملوهم، فإنه يقول: لفوهم في ثيابهم التي فيها دماؤهم، وكذلك كل ملفوف في ثياب فهو مزمل ومنه حديث النبي عليه السلام في المغاري في أول يوم ما رأى جبريل عليه السلام قال: فجثثت منه فرقا. [ وبعضهم ] يقول: جئثت قال الكسائي: هما جميعا من الرعب، يقال: رجل مجؤوث ومجثوث فقال: فأتى خديجة رضي الله عنها فقا: زملوني. فإذا فعل الرجل ذلك بنفسه قيل: قد تزمل و [ قد ] تدثر، وهو متزمل ومتدثر، فأدغم التاء وقال: مزمل ومدثر، وبهذا نزل القرآن بالإدغام وكذلك مدكر إنما هو مذتكر فأدغمت التاء وحولت الذال
[ 72 ]
دالا. قال أبو عبيد: وفي هذا الحديث من الفقه أن الشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل / ولم تنزع عنه ثيابه، ألا تسمع إلى قوله: زملوهم بثيابهم ودمائهم قال: إلا أني سمعت محمد بن الحسن يقول: ينزع عنه الجلد والفرو، قال: وأحسبه قال: والسلاح، قال: ويترك سائر ثيابه عليه، هذا إذا مات في المعركة، فإن رفع وبه رمق غسل وصلي عليه قال: وأهل الحجاز لا يرون الصلاة على الشهيد إذا حمل من المعركة ميتا ولا الغسل، وأهل العراق يقولون: لا يغسل ولكن يصلى عليه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه أراد أن يصلي على جنازة فجاءت امرأة معها مجمر (مجمر) فما زال يصيح بها حتى توارت بآجام المدينة. قال أبو عبيد: [ أما ] قوله: بآجام المدينة يعني الحصون، وهذا
[ 73 ]
كلام أهل الحجاز، واحدها: أجم قال امرؤ القيس يصف شدة المطر: [ الطويل ] وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ولا أجما إلا مشيدا بجندل وزعم أبو عبيد أن المشيد المعمول بالشيد وهو الجص، وأما المشيد فهو المطول. وأهل الحجاز يسمون الآجام [ أيضا ] الآطام، وهو مثلها واحدها: أطم. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: عليكم بالباءة ممدود فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يقدر فعليه بالصوم فإنه له وجاء. قال أبو عبيد: قال أبو زيد وغيره في الوجاء: يقال للفحل إذا رضت أنثياه: قد وجئ وجاء ممدود فهو موجوء وقد وجأته
[ 74 ]
فإن نزعت الأنثيان نزعا فهو خصي وقد خصيته خصاء فإن شدت الأنثيان حتى تندرا قيل: قد عصبته [ عصبا ] فهو معصوب. قال أبو عبيد: قوله: فإنه له وجاء يعني أنه يقطع النكاح لأن الموجوء لا يضرب. و [ قد ] قال بعض أهل العلم: وجأ بفتح الواو مقصور يريد الحفا، والأول أجود في المعنى لأن الحفا لا يكون إلا بعد طول مشي أو عمل، والوجاء الانقطاع من الوصل. قال: ويروى في حديث آخر ما يشبهه، وقال أبو عبيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموا ووفروا أشعاركم فإنها مجفرة يقول: مقطعة للنكاح ونقص الماء، تقول للبعير إذا أكثر الضراب حتى
[ 75 ]
ينقطع: قد جفر يجفر جفورا فهو جافر وقال ذو الرمة يصف النجوم: [ الطويل ] وقد عاوض الشعرى سهيل كأنه قريع هجان عارض الشول جافر ويروى: يتبع الشول. وفي هذا الحديث من العربية قوله: فعليه بالصوم، فأغرى غائبا، ولا تكاد العرب تغري إلا الشاهد، يقولون: عليك زيدا ودونك عمرا وعندك، ولا يقولون: عليه زيدا، إلا في هذا الحديث، فهذا حجة لكل من أغرى غائبا. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال لسراقة ابن جعشم: ألا أدلك على أفضل الصدقة ابنتك مردودة عليك ليس لها كاسب غيرك.
[ 76 ]
قال الأصمعي: المردودة المطلقة قال أبو عبيد: وإما هذا كناية عن الطلاق وكذلك حديث الزبير رضي الله عنه، قال أبو عبيد: إن الزبير جعل دوره صدقة، قال: وللمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها، فإن استغنت بزوج فلا شئ لها. وأما المرأة الراجع فإنها التي مات عنها زوجها فرجعت إلى أهلها وفي حديث الزبير من الفقه أن الرجل يجعل الدار والأرض وقفا على قوم ويشترط أن يزيد فيهم من شاء وينقص منهم من شاء فيجوز له ذلك، وإنما جاز هذا في الوقف خاصة دون الصدقة الماضية لأن حكمهما مختلف، ألا ترى أن الوقف قد يجوز أن لا يخرجه صاحبه من يده، وأن الصدقة لا تكون / ماضية حتى تخرج من يد صاحبها في قول بعضهم.
[ 77 ]
وقال أبو عبيد في حديث النبي عليه السلام: في العمرى والرقبى إنها لمن أعمرها ولمن أرقبها ولورثتهما من بعدهما. عمر [ قال أبو عبيد ]: وتأويل العمري أن يقول الرجل للرجل: هذه الدار لك عمرك أو يقول: هذه الدار لك عمري رقب وقال أبو عبيد عن عطاء في تفسير العمرى بمثل ذلك أو نحوه. وأما الرقبى فهو أن يقول الرجل للرجل: إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك. وقال أبو عبيد عن قتادة: الرقبى أن يقول الرجل للرجل كذا وكذا لفلان فإن مات فهو لفلان. قال أبو عبيد: وأصل العمرى عندنا إنما هو مأخوذ من العمر، ألا تراه يقول: هو لك عمري أو عمرك وأصل الرقبى من المراقبة فكان كل واحد منهما [ إنما ] يرقب موت صاحبه، ألا تراه يقول: إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك فهذا ينبئك عن المراقبة، والذي كانوا يريدون بهذا أن يكون الرجل يريد أن يتفضل على صاحبه بالشئ
[ 78 ]
فيستمتع منه ما دام حيا، فإذا مات الموهوب له لم يصل إلى ورثته منه شئ، فجاءت سنة النبي عليه السلام بنقض ذلك إنه من ملك شيئا حياته فهو لورثته من بعد موته. وفيه أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى للوارث. وقال صلى الله عليه وسلم: العمرى جائزة لأهلها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو لورثة المرقب. قال أبو عبيد: وهذه الآثار أصل لكل
[ 79 ]
من وهب هبة واشترط فيها شرطا باطلا كالرجل يهب للرجل جارية على أن لا تباع ولا توهب أو على أن يتخذها سرية أو على أنه إن أراد بيعها فالواهب أحق بها هذا وما أشبهه من الشروط فقبضها الموهوب له على ذلك وعوض الواهب منها فالهبة جائزة ماضية والشرط في ذلك كله باطل. قال أبو عبيد: وكان مالك يقول: إذا أعمر الرجل الرجل دارا فقال: هي لك عمرك، فإنها على شرطها، فإذا مات الموهوب له رجعت إلى الواهب إلا أن يقول: هي لك ولعقبك من بعدك. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه سأل رجلا: هل صمت من سرار هذا الشهر شيئا قال: لا، قال: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين. قال أبو عبيد قال الكسائي وغيره: السرار آخر الشهر ليلة يستسر الهلال. قال أبو عبيد: وربما استسر ليلة وربما استسر ليلتين إذا تم الشهر وأنشدني الكسائي: [ الرجز ]
[ 80 ]
نحن صبحنا عامرا في دارها جردا تعادى طرفي نهارها عشية الهلال أو سرارها وقال أبو عبيد: وفيه لغة أخرى: سرر الشهر. وفي هذا الحديث من الفقه أنه [ إنما ] سأله عن سرار شعبان فلما أخبره أنه لم يصمه أمره أن يقضي بعد الفطر يومين. قال أبو عبيد: فوجه الحديث عندي والله أعلم أن هذا كان من نذر على ذلك الرجل في ذلك الوقت أو تطوع قد كان ألزمه نفسه، فلما فاته أمره بقضائه، لا أعرف للحديث وجها غيره، وقال أيضا أنه لم ير بأسا أن يصل رمضان بشعبان إذا كان لا يراد به رمضان، إنما يراد به التطوع أو النذر يكون في ذلك الوقت ومما يشبه هذا الحديث حديثه الآخر: لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم. فهذا معناه التطوع أيضا، فأما إذا كان يراد به رمضان فلا لأنه خلاف الإمام والناس.
[ 81 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه مر بامرأة مجح فسأل عنها فقالوا: هذه امرأة لفلان، فقال: أيلم بها فقالوا: نعم، فقال: لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه في قبره، كيف يستخدمه وهو لا يحل له أم كيف يورثه وهو لا يحل له. قال أبو عبيد: أما قوله: مجح. فإنها الحامل المقرب وأما قوله: كيف يستخدمه أم كيف يورثه، فإن وجه الحديث أن يكون / الحمل قد ظهر بها قبل أن تسبى، فيقول: إن جاءت بولد وقد وطئها بعد ظهور الحمل لم يحل له أن يجعله مملوكا، لأنه لا يدرى لعل الذي ظهر لم يكن حملا وأنه حدث الحمل من وطئه، فإن المرأة ربما ظهر
[ 82 ]
بها الحمل ثم لا يكن شيئا حتى يحدث بعد ذلك، فيقول: لا يدرى لعله ولده، وقوله: أم كيف يورثه يقول: لا يدرى [ لعل ] الحمل [ قد ] كان بالصحة قبل السبي [ فكيف يورثه ] وإنما نرى من هذا الحديث أنه نهى عن وطء الحوامل من السبي حتى يضعن. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه سأل عاصم ابن عدي الأنصاري عن ثابت بن الدحداح وتوفي: هل تعلمون له نسبا فيكم فقال: لا، إنما هو أتي فينا، فقضى رسول الله عليه السلام بميراثه لابن أخته. قال أبو عبيد: قال الأصمعي: [ أما ] قوله: آتي فينا، فإن الأتي الرجل يكون في القوم ليس منهم، ولهذا قيل للسيل الذي يأتي من بلد
[ 83 ]
قد مطر فيه إلى بلد لم يمطر فيه: فذلك أتي قال العجاج: [ الرجز ] سيل أتي مدة أتي يقال منه: قد أتيت السيل فأنا أؤتيه إذا سهلت سبيله ليخرج من موضع إلى موضع، وأصل هذا من الغربة، ولهذا قيل: رجل أتاوي إذا كان غريبا في غير بلاده ومنه حديث عثمان رضي الله عنه حين بعث إلى عبد الله بن سلام رجلين فقال لهما: قولا: إنا رجلان أتاويان. وقد قال بعض أصحاب الحديث في حديث ثابت بن الدحداح: إن عاصم ابن عدي قال: إنما هو آت فينا ممدود، فجعله من الإتيان، وليس هذا بشئ، والمحفوظ ما قلت لك: أتي بتشديد الياء. وفي هذا الحديث من الفقه أنه أعطى الميراث ابن الأخت لما لم يجد له وارثا فورث
[ 84 ]
ابن أخته لأنه من ذوي الأرحام، وفيه اكتفاء بمسألة رجل واحد عن نسبه لم يسأل غيره. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام وذكر فتنة تكون في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر. [ قوله: صياصي بقر ] يعني قرونها، وإنما سميت صياصي لأنها حصونها التي تحصن بها من عدوها. وكذلك كل من يحصن بحصن فهو له صيصية قال الله عز وجل " وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ". يقال في التفسير: إنها حصونهم، وكذلك يقال لأصبع الظائر الزائدة في باطن رجله: صيصية، والصيصية في غير هذا: شوكة الحائك.
[ 85 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي [ عليه ] السلام حين قال لعوف بن مالك: أمسك ستا تكون قبل الساعة: أولهن موت نبيكم عليه السلام وكذا وكذا، وموتان تكون في الناس كقعاص الغنم، وهدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون بكم فيسيرون إليهم في ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا وبعضهم يقول: غابة.
[ 86 ]
قال أبو عبيد: أما قوله: موتان تكون في الناس فإن الموتان هو الموت، يقال: وقع في المال موتان إذا وقع الموت في الماشية قالها الكسائي وقال الفراء: وأما الموتان من الأرض فإنه الذي لم يحيى بعد ومنه الحديث بموتان الأرض لله ولرسوله فمن أحيى منها شيئا فهو له. وأما القعاص فإنه داء يأخذ الغنم لا يلبثها أن تموت، ومنه
[ 87 ]
أخذ الإقعاص في القتل، يقال: رميت الصيد فأقعصته إذا مات مكانه. وأما الهدنة فالسكون والصلح. و [ أما ] قوله: في ثمانين غابة من قالها بالباء فإنه يريد الأجمة، شبه كثرة الرماح بها، ومن قال: غاية، فإنه يريد الراية قال لبيد وذكر ليلة سمرها: [ الكامل ] قد بت سامرها وغاية تاجر وافيت إذ رفعت وعز مدامها وقوله: غاية تاجر، يقال: إن صاحب الخمر كانت له راية يرفعها ليعرف أنه بائع خمر، / ويقال: بل أراد بقوله: غاية تاجر، أنها غاية متاعه في الجودة. وبعضهم يروي في الحديث: في ثمانين غياية، وليس هذا بمحفوظ ولا موضع للغياية ههنا.
[ 88 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال: أنا برئ من كل مسلم مع مشرك، قيل: لم يا رسول الله قال: لا تراءى ناراهما. قال أبو عبيد: أما قوله: لا تراءى ناراهما ففيه قولان: أما أحدهما فيقول: لا يحل لمسلم أن يسكن بلاد المشركين فيكون منهم بقدر ما يرى كل واحد منهم نار صاحبه، فيجعل الرؤية في هذا الحديث في النار ولا رؤية للنار، وإنما معناه أن تدنو هذه من هذه وكان الكسائي يقول: العرب تقول: داري تنظر إلى دار فلان ودورنا تناظر ويقول: إذا أخذت في طريق كذا وكذا فنظر إليك الجبل فخذ عن يمينه أو [ عن ] يساره، هكذا كلام العرب، [ و ] قال
[ 89 ]
قال الله عز وجل وذكر الأصنام فقال " والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون " فهذا وجه. وأما الوجه الآخر فيقال: [ إنه ] أراد بقوله: لا تراءى ناراهما يريد نار الحرب قال الله [ تبارك و ] تعالى: " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " فيقول: ناراهما مختلفتان، هذه تدعو إلى الله [ تبارك وتعالى ] وهذه تدعو إلى الشيطان، فكيف تتفقان وكيف يساكن المسلم المشركين في بلادهم وهذه حال هؤلاء وهؤلاء ويقال: إن أول هذا أن قوما من أهل مكة أسلموا وكانوا مقيمين بها على إسلامهم قبل فتح مكة فقال النبي عليه السلام هذه المقالة فيهم ثم صارت للعامة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه بعث مصدقا
[ 90 ]
فقال: لا تأخذ من حزرات أنفس الناس شيئا، خذ الشارف والبكر وذا العيب. قال أبو عبيد:: أما قوله: من حزرات أنفس الناس، فإن الحزرة خيار المال قال الشاعر: [ الرجز ] الحزرات حزرات النفس فيقول: لا تأخذ خيار أموالهم خذ الشارف، وهي المسنة الهرمة والبكر [ و ] هو الصغير من ذكور الإبل، فقال: الشارف والبكر وإنما السنة القائمة في الناس أن لا يؤخذ في الصدقة إلا ابنة مخاض أو ابنة لبون أو حقة أو جذعة، ليس فيها سن فوق هذه الأربع ولا دونها وإنما وجه هذا الحديث عندي والله أعلم أنه كان في أول الإسلام قبل أن يؤخذ الناس بالشرائع، فلما قوي الإسلام واستحكم جرت الصدقة على مجاريها ووجوهها. وأما حديث عمر رضي الله عنه: دع الربا والماخض والأكولة
[ 91 ]
فإن الربا هي القريبة العهد بالولادة، يقال: هي في ربابها ما بينها وبين خمس عشرة ليلة قال وأنشدني الأصمعي لبعض الأعراب: [ الرجز ] حنين أم البو في ربابها وأما الماخض فهي التي قد أخذها المخاض لتضع. والأكولة التي تسمن للأكل ليست بسائمة والذي يروى في الحديث الأكيلة، وإنما الأكيلة المأكولة يقال: هذه أكيلة الأسد والذئب، فأما هذه فإنها الأكولة. وأما قول عمر: احتسب عليهم بالغذاء، فإنها السخال الصغار، واحدها غذى وأنشدني الأصمعي قال أنشدني أبو عمرو بن العلاء: [ البسيط ] لو أنني كنت من عاد ومن إرم غذي بهم ولقمانا وذا جدن
[ 92 ]
قال الأصمعي: [ و ] أخبرني خلف الأحمر أنه سمع العرب تنشده: غذي بهم بالتصغير قال أبو عبيد: وأما الحديث الآخر: إن النبي عليه السلام بعث مصدقا فأتى بشاة شافع فلم يأخذها وقال: ائتني بمعتاط. / فإن الشافع التي معها ولدها، [ سميت شافعا لأن ولدها ] شفعها وشفعته [ هي ] يقال: هي تشفعه وهو يشفعها والشفع: الزوج، والوتر: الفرد. وأما المعتاط فالتي ضربها الفحل فلم تحمل، ويقال منه: هي معتاط وعائط وحائل، وجمع العائط عوط وجمع الحائل حول وحولل قال أبو عبيد: [ و ] سمعت الكسائي يقول: جمع العائط عوط وعوطط، و [ جمع ] الحائل حولل وحول، و [ كان ] بعضهم يجعل حوللا مصدرا ولا يجعله جمعا، وكذلك عوطط.
[ 93 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: تنكح المرأة لميسمها ولمالها ولحسبها عليك بذات الدين تربت يداك. قال أبو عبيد: أما قوله: لميسمها، فإنه الحسن وهو الوسامة، ومنه يقال: رجل وسيم وامرأة وسيمة. وأما قوله: تربت يداك، فإن أصله أنه يقال للرجل إذا قل ماله: [ قد ] ترب أي افتقر حتى لصق بالتراب. [ و ] قال الله عز وجل " أو مسكينا ذا متربة " فيرون والله أعلم أن النبي [ صلى الله ] عليه وسلم لم يتعمد الدعاء عليه بالفقر، ولكن هذه كلمة جارية على ألسنة
[ 94 ]
العرب يقولونها وهم لا يريدون وقوع الأمر وهذا كقوله لصفية ابنة حيي حين قيل له يوم النفر: إنها حائض، فقال: عقرا حلقا ما أراها إلا حابستنا. فأصل هذا معناه: عقرها الله وحلقها، [ و ] قوله: عقرها الله بمعنى عقر جسدها، وحلقها بمعنى أصابها وجع في حلقها هذا كما يقال: قد رأس فلان فلانا إذا ضرب رأسه، وصدره إذا أصاب صدره وكذلك حلقه إذا أصاب حلقه. قال أبو عبيد: إنما هو عندي عقرا وحلقا وأصحاب الحديث يقولون: عقرى حلقى. قال بعض الناس: بل أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: تربت يداك نزول الأمر به
[ 95 ]
عقوبة لتعديه ذوات الدين إلى ذوات الجمال والمال، واحتج بقوله عليه السلام: اللهم [ إني ] أنا بشر فمن دعوت عليه بدعوة فاجعل دعوتي عليه رحمة له. والقول الأول أعجب إلي وأشبه بكلام العرب، ألا تراهم يقولون: لا أرض لك ولا أم لك وهم يعلمون أن له أرضا وأما وزعم بعض العلماء أن قولهم: لا أب لك مدح، ولا أم لك ذم. قال أبو عبيد: وقد وجدنا قولهم: لا أم لك قد وضع موضع المدح قال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه: [ الطويل ] هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يؤدي الليل حين يؤوب وقال بعض الناس: إن قوله: تربت يداك يريد به استغنت يداك
[ 96 ]
من الغنى، وهذا خطأ لا يجوز في الكلام، إنما ذهب إلى المترب وهو الغنى فغلط، ولو أراد هذا التأويل لقال: أتربت يداك، لأنه يقال: أترب الرجل إذا كثر ماله فهو مترب، وإذا أرادوا الفقر قالوا: ترب يترب. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن امرأة توفي عنها زوجها فاشتكت عينها فأرادوا أن يداووها فسئل النبي عليه السلام عن ذلك فقال: قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها في بيتها إلى الحول، فإذا كان الحول فمر كلب رمته ببعرة ثم خرجت، أفلا أربعة أشهر وعشرا قال أبو عبيد: أما قوله: فمر كلب رمته ببعرة يعني أنها كانت في الجاهلية تعتد سنة على زوجها لا تخرج من بيتها ثم تفعل ذلك في رأس الحول لتري الناس أن إقامتها حولا بعد زوجها أهون عليها من بعرة يرمى بها كلب وقد ذكروا هذه الإقامة حولا في أشعارهم،
[ 97 ]
قال لبيد يمدح قومه: [ الكامل ] وهم ربيع للمجاور فيهم والمرملات إذا تطاول عامها ونزل بذلك القرآن في أول الإسلام قوله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل / " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " فقال النبي عليه السلام: كيف لا تصبر إحداكن قدر هذا وقد كانت تصبر حولا صهب وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في الملاعنة: إن جاءت به أصيهب أثيبج حمش الساقين فهو لزوجها، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الإليتين فهو للذي رميت به.
[ 98 ]
جمل أبو عبيد: أما قوله: أصيهب، فهو تصغير أصهب. والأثيبج تصغير أثبج وهو الناتئ الثبج، والثبج: ما بين الكاهل ووسط الظهر، وهو من كل شئ وسطه وأعلاه. والحمش الدقيق الساقين. والأورق: الذي لونه بين السواد والغبرة، ومنه قيل للرماد: أورق وللحمامة ورقاء، وإنما وصفه بالأدمة. وأما الخدلج فالعظيم الساقين. وأما قوله: الجمالى، فإنه يروونها هكذا بفتح الجيم يذهبون إلى الجمال. وليس هذا من الجمال في شئ، ولو أراد ذلك لقال: جميل، ولكنه جمالي بضم الجيم يعني أنه عظيم الخلق، شبه خلقه بخلق الجمل، ولهذا قيل للناقة: جمالية، لأنها تشبه بالفحل من الإبل في عظم الخلق قال الأعشى يصف ناقة: [ المتقارب ]
[ 99 ]
جمالية تغتلي بالرداف إذا كذب الآثمات الهجيرا يقول: لا يصدقن في الهجير في سيرها في الهاجرة. وفي هذا الحديث من الفقه أنه لاعن بين المرأة وزوجها وهي حامل، وقد كان بعض الفقهاء لا يرى اللعان بالحمل حتى تضع فإن انتفى عنه حينئذ لاعن يذهب إلى أنه لا يدرى لعل ذلك ليس سجل، يقول: لعله من ريح، وهذا رأي أبي حنيفة، وأما حديث النبي عليه السلام فإنما لاعن بينهما لأنه قذفها قذفا بالزنا ولم يذكر حملا، فلهذا وقع اللعان. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ثم ذكرت أن فارس والروم يفعلونه فلا يضرهم.
[ 100 ]
قال أبو عبيد: بلغني قال أبو عبيدة واليزيدي وأظن الأصمعي وغيرهم: قوله: الغيلة هو الغيل وذلك أن يجامع الرجل المرأة وهي مرضع، يقال منه: قد أغال الرجل وأغيل ولولد مغال ومغيل وأنشدني الأصمعي بيت امرئ القيس: [ الطويل ] فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول ومنه الحديث الآخر: لا تقتلوا أولادكم سرا إنه ليدرك الفارس فيدعثره. يقول: يهدمه ويطحطحه بعدما صار رجلا قد ركب الخيل
[ 101 ]
وقال ذو الرمة يصف المنازل أنها قد تهدمت وتغيرت فقال: [ الرجز ] آريها والمنتأى المدعثر يعني بالمنتأى النؤى، وهو الحفير يحفر حول الخباء للمطر، والمدعثر: المهدوم. والعرب تقول في الرجل تمدحه: ما حملته أمه وضعا ولا أرضعته غيلا، ولا وضعته يتنا ولا أباتته مئقا، قولهم: ما حملته وضعا يريد ما حملته على حيض، وبعضهم يقول: تضعا وقولهم: ولا أرضعته غيلا يعني أن توطأ وهي مرضع وقولهم ولا وضعته يتنا يعني أن يخرج رجلاه قبل يديه في الولادة، يقال منه: قد أيتنت المرأة فهي موتن
[ 102 ]
والولد موتن، وقولهم: ولا أباتته مئقا، وبعضهم يقول: ولا أباتته على مأقة، فإنه شدة البكاء. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده. قال أبو عبيد أما قوله: تتكافأ دماؤهم، فإنه يريد: تتساوى في القصاص والديات، فليس لشريف على رضيع فضل [ في ذلك ] ومن هذا قيل في العقيقة عن الغلام: شاتان / مكافئتان، يقول: متساويتان
[ 103 ]
وأصحاب الحديث يقولون: مكافأتان، والصواب: مكافئتان وكل شئ ساوى شيئا حتى يكون مثله فهو مكافئ له والمكافأة بين الناس من هذا يقال: كافأت الرجل أي فعلت به مثل ما فعل بي. ومنه الكفؤ من الرجال للمرأة، تقول: إنه مثلها في حسبها. قال الله [ تبارك و ] وتعالى " ولم يكن له كفوا أحد " يقول: هو كفؤ لها وكفئ بمعنى واحد. وأما قوله: يسعى بذمتهم أدناهم، فإن الذمة الأمان، يقول: إذا أعطى الرجل منهم العدو أمانا جاز ذلك على جميع المسلمين، ليس لهم أن يخفروه كما أجاز عمر [ رضي الله عنه ] أمان عبد على جميع [ أهل ] العسكر وكان أبو حنيفة لا يجيز أمان العبد إلا بإذن مولاه،
[ 104 ]
وأما حديث عمر فليس فيه ذكر مولى ومنه قول سلمان الفارسي رحمه الله تعالى: ذمة المسلمين واحدة فالذمة هي الأمان، ولهذا سمي المعاهد ذميا لأنه قد أعطي الأمان على ماله وذمته للجزية التي تؤخذ منه. قصى يدى وقال أبو عبيد: لم يكن لأهل السواد عهد فلما أخذت منهم الجزية صار لهم عهد أو قال: ذمة شك أبو عبيد. وأما قوله: يرد عليهم أقصاهم، فإن هذا في الغزو إذا دخل العسكر أرض الحرب فوجه الإمام منه السرايا، فما غنمت من شئ جعل لها ما سمي لها ورد ما بقي على أهل العسكر، لأنهم وإن لم يشهدوا الغنيمة ردء للسرايا. وأما قوله: وهم يد على من سواهم، فإنه يقول: إن المسلمين جميعا كلمتهم ونصرتهم واحدة على جميع الملل المحاربة لهم يتعاونون على ذلك ويتناصرون ولا يخذل بعضهم بعضا. وأما قوله: ولا يقتل مؤمن بكافر، فقد تكلم الناس في معنى هذا قديما، قال بعضهم: لا يقتل مؤمن بكافر كان قتله في الجاهلية
[ 105 ]
، قال: وقد قال فيه غير هذا أيضا. قال أبو عبيد: [ و ] أما أنا فليس [ له ] عندي وجه ولا معنى إلا أنه لا يقاد مؤمن بذمي وإن قتله عمدا، ولكن يكون عليه الدية كاملة في ماله وأما رأي أبي حنيفة وجميع أصحابه فإنهم يرون أن يقاد لحديث يروى عن عبد الرحمن ابن البيلماني أن النبي عليه السلام أقاد معاهدا بمسلم وقال: أنا أحق من وفى بذمته وهذا حديث ليس بمسند ولا يجعل مثله إماما يسفك به دماء المسلمين. وقال أبو عبيد: قلت لزفر: إنكم تقولون: إنا ندرأ الحدود بالشبهات وإنكم جئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها، قال: وما هو قلت: المسلم يقتل بالكافر، قال: فاشهد أنت على رجوعي عن هذا عهد قال
[ 106 ]
أبو عبيد: وكذلك قول أهل الحجاز: لا يقتل مسلم بكافر ولا يقودونه به. [ وأما ] قوله: ولا ذو عهد في عهده، فإن ذا العهد الرجل من أهل الحرب يدخل إلينا بأمان فقتله محرم على المسلمين حتى يرجع إلى مأمنه وأصل هذا من قول الله تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " فذلك قوله في عهده يعني حتى يبلغ المأمن أو الوقت الذي توقته له ثم لا عهد له وقال أبو عبيد: إن رجلا من [ أهل ] الهند قدم عدن بأمان فقتله رجل بأخيه فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز فكتب أن يؤخذ منه خمسمائة دينار ويبعث بها إلى ورثة المقتول وأمر بالقاتل أن يحبس، قال أبو عبيد: وهكذا كان رأي عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يرى دية المعاهد نصف دية المسلم فأنزل [ ذلك ] الذي دخل بأمان منزلة الذمي المقيم مع المسلمين، ولم ير على قاتله قودا ولكن عقوبة
[ 107 ]
لقول النبي عليه السلام: لا يقتل مسلم بكافر. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه نهى عن الإرفاه.
[ 108 ]
/ قال أبو عبيد: وأصل هذا من ورد الإبل، وذلك أنها إذا وردت كل يوم متى شاءت قيل: وردت رفها، قال ذلك الأصمعي: ويقال: [ قد ] أرفه القوم إذا فعلت إبلهم ذلك، فهم مرفهون، فشبه كثرة التدهن وإدامته به وقال لبيد يذكر نخلا نابتة على الماء: [ البسيط ] يشربن رفها عراكا غير صادرة فكلها كارع في الماء مغتمر وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه كان جالسا القرفصاء. قال أبو عبيدة: قوله: القرفصاء يعني أن يقعد الرجل قعدة المحتبي ثم يحتبي بيديه يضعهما على ساقيه. وأما الإقعاء [ فهو ] الذي جاء فيه النهي عن النبي عليه السلام أن يفعل في الصلاة، فقد اختلف الناس فيه، فقال أبو عبيدة: وهو أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب
[ 109 ]
ساقيه ويضع يديه بالأرض. وأما تفسير الفقهاء فهو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين شبيه بما يروى عن العبادلة: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم قال أبو عبيد: [ و ] قول أبي عبيدة أشبه بكلام العرب وهو معروف عند العرب، وذلك بين في بعض الحديث أنه نهى أن يقعى الرجل كما يقعي السبع، ويقال: كما يقعي الكلب، فليس الإقعاء في السباع إلا كما قال أبو عبيدة قال أبو عبيد: وقد روي عن النبي عليه السلام أنه أكل مرة مقعيا، فكيف يمكن [ أن يكون ] فعل هذا وهو واضع أليتيه على عقبيه وأما الحديث الآخر أنه نهى عن عقب الشيطان في الصلاة، فإنه أن يضع الرجل أليتيه على عقبيه في الصلاة بين السجدتين، وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء وأما حديث عبد الله بن مسعود أنه كره أن يسجد الرجل
[ 110 ]
متوركا أو مضطجعا. قال أبو عبيد: قوله: متوركا يعني أن يرفع وركيه إذا سجد حتى يفحش في ذلك، وقوله: مضطجعا يعني أن يتضام ويلصق صدره بالأرض ويدع التجافي في سجوده ولكن يقول بين ذلك، ويقال: التورك أن يلصق أليتيه بعقبيه في السجود واما حديث ابن عمر رحمه الله أنه كان لا يفرشح رجليه في الصلاة ولا يلصقهما. قال أبو عبيد: قوله: يفرشح رجليه، فالفرشحة أن يفرج بين رجليه في الصلاة ويباعد إحداهما من الأخرى، فيقول: لا يفعل ذلك ولا يلصق إحداهما بالأخرى ولكن بين ذلك، وأما افتراش السبع الذي جاء فيه النهي فهو أن يلصق الرجل ذراعيه بالأرض في السجود، وكذلك يفعل السباع. وأما التفاج فإنه تفريج ما بين الرجلين. [ ومنه حديث
[ 111 ]
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بال تفاج ] وفي بعض الحديث قال بعض الصحابة: حتى نأوي له. وأما الفشج فهو دون التفاج. ومنه حديث الأعرابي الذي دخل المسجد في عهد النبي عليه السلام فلما كان في ناحية منه فشج فبال. وبعضهم يرويه: فشج بالتثقيل مشددة الشين. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين أمر عامر بن ربيعة وكان رأى سهل بن حنيف يغتسل فعانه، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط به حتى ما يعقل من شدة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتتهمون به أحدا قالوا: نعم عامر بن ربيعة، وأخبروه
[ 112 ]
بقوله فأمره رسول الله عليه السلام أن يغسل له ففعل، قال: فراح مع الركب. قال قال الزهري: يؤتى الرجل العائن بقدح فيدخل كفه فيه فيتمضمض / ثم يمجه في القدح، ثم يغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على كفه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على كفه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على قدمه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح بالأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي أصيب بالعين من خلفه صبة واحدة. قال أبو عبيدة: قوله: فلبط به، يقول: صرع، يقول: لبط بالرجل يلبط لبطا إذا سقط. ومنه حديث النبي عليه السلام أنه خرج
[ 113 ]
وقريش ملبوط بهم يعني أنهم سقوط بين يديه قال: وفي هذا لغة أخرى ليس بالحديث يقال: لبج بمعنى لبط سواء وقوله: فأمره رسول الله عليه السلام أن يغسل له، فقد كان بعض الناس يغلط فيه أن الذي أصابته العين هو الذي يغسل. وإنما هو كما فسره الزهري يغسل العائن هذه المواضع من جسده ثم يصبه المعين على نفسه أو يصب عليه. قال أبو عبيد: ومما يبين ذلك حديث ابن أبي وقاص أنه ركب يوما فنظرت إليه امرأة فقالت: إن أميركم هذا ليعلم أنه أهضم الكشحين، فرجع إلى منزله فسقط فبلغه ما قالت المرأة فأرسل إليها فغسلت له. قال أبو عبيد: وأما قوله: فيغسل داخلة إزاره، فقد اختلف الناس في معناه فكان بعضهم يذهب وهمه إلى المذاكير، وبعضهم إلى الأفخاذ والورك، قال أبو عبيد: وليس هو عندي من هذا في شئ، إنما أراد بداخلة إزاره طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده وهو يلي الجانب الأيمن من الرجل، لأن المؤتزر إنما يبدأ إذا ائتزر بالجانب الأيمن،
[ 114 ]
فذلك الطرف يباشر جسده، فهو الذي يغسل قال: ولا أعلمه إلا جاء مفسرا في بعض الحديث هكذا. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا يغلق الرهن. قال أبو عبيد: قوله: لا يغلق الرهن، قد جاء تفسيره عن غير واحد من الفقهاء في رجل دفع إلى رجل رهنا وأخذ منه دراهم، فقال: إن جئتك بحقك إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك بحقك، فقال: لا يغلق الرهن. قال أبو عبيد: فجعله جوابا لمسألته، وقد روي عن طاؤوس نحو هذا. وقد ذهب بمعنى هذا الحديث بعض الناس إلى تضييع الرهن،
[ 115 ]
يقول: إذا ضاع الرهن عند المرتهن فإنه يرجع على صاحبه فيأخذ منه الدين، وليس يضره تضييع الرهن، وهذا مذهب ليس عليه أهل العلم ولا يجوز في كلام العرب أن يقال للرهن إذا ضاع: قد غلق، إنما يقال: قد غلق إذا استحقه المرتهن، وكان هذا من فعل أهل الجاهلية فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطله بقوله: لا يغلق الرهن وقد ذكر بعض الشعراء ذلك في شعره، فقال زهير يذكر امرأة: [ البسيط ] وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا يعني أنها ارتهنت قلبه فذهبت به، فأي تضييع ههنا. وأما الحديث الآخر في الرهن: له غنمه، وعليه غرمه. قال أبو عبيد: وهذا أيضا
[ 116 ]
معناه معنى الأول لا يفترقان، يقول: يرجع الرهن إلى ربه فيكون غنمه له ويرجع رب الحق عليه بحقه فيكون غرمه عليه ويكون شرطهما الذي اشترطا باطلا، هذا كله معناه إذا كان الرهن قائما بعينه ولم يضع، فأما إذا ضاع فحكمه غير هذا. / وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال: استحيوا من الله ثم قال: الاستحياء من الله أن لا تنسوا المقابر والبلى، وأن لا تنسوا الجوف وما وعى، وأن لا تنسوا الرأس وما احتوى. قال أبو عبيد: قوله: لا تنسوا الجوف وما وعى والرأس وما احتوى، فيه قولان: يقال: أراد بالجوف البطن والفرج، كما قال في الحديث الآخر: إن أخوف ما أخاف عليكم الأجوفان، وكالحديث الذي يروى
[ 117 ]
عن جندب: من استطاع منكم ألا يجعل في بطنه إلا حلالا فإن أول ما ينتن من الإنسان بطنه وقوله: الرأس وما احتوى، يريد ما فيه من السمع والبصر واللسان أن لا يستعمل ذلك إلا في حله. وأما القول الاخر: يقول: لا تنسوا الجوف وما وعى يعني القلب وما وعى من معرفة الله تعالى والعلم بحلاله وحرامه ولا يضيع ذلك ويريد بالرأس وما احتوى الدماغ، وإنما خص القلب والدماغ لأنهما مجمع العقل ومسكنه ومن ذلك حديث النبي عليه السلام: إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد وهي القلب. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه نهى عن لبستين: اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل بثوب ليس بين السماء وبين فرجه شئ. قال أبو عبيد قال الأصمعي: اشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل
[ 118 ]
الرجل بثوبه فيجلل به جسده [ كله ] ولا يرفع منه جانبا فيخرج منه يده. وقال أبو عبيد: وربما اضطجع فيه على هذه الحال، قال أبو عبيد: كأنه يذهب إلى أنه لا يدرى لعله يصيبه شئ يريد الاحتراس منه وأن يقيه بيديه فلا يقدر على ذلك لإدخاله إياهما في ثيابه فهذا كلام العرب وأما تفسير الفقهاء فإنهم يقولون: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيبدو منه فرجه، والفقهاء أعلم بالتأويل في هذا، وذاك أصح معنى الكلام والله أعلم. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال: من الاختيال
[ 119 ]
ما يحب الله تعالى ومنه ما يبغض الله، فأما الاختيال الذي يبغض الله فالاختيال في الفخر والرياء، والاختيال الذي يحب الله في قتال العدو والصدقة لا أعلمه إلا من حديث ابن علية. قال أبو عبيد: وأما قوله: الاختيال فإن أصله التجبر والتكبر والاحتقار بالناس، يقول: فالله يبغض ذلك في الفخر والرياء ويحبه في الحرب والصدقة، والخيلاء في الحرب أن يكون هذه الحال من التجبر [ والكبر ] على العدو فيستهين بقتالهم وتقل هيبته لهم ويكون أجرأ له عليهم، ومما يبين ذلك حديث أبي دجانة أن النبي
[ 120 ]
عليه السلام رآه في بعض المغازي وهو يختال في مشيته فقال: إن هذه المشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع وأما الخيلاء في الصدقة فأن تعلو نفسه وتشرف فلا يستكثر كثيرها ولا يعطي منها شيئا إلا وهو مستقل له، وهو مثل الحديث المرفوع: إن الله يحب معالي الأمور أو قال: معالي الأخلاق، شك أبو عبيد ويبغض سفسافها. فهذا تأويل الخيلاء في الصدقة والحرب وإنما هو فيما يراد الله به من العمل دون الرياء والسمعة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إن أبيض بن حمال المأربي
[ 121 ]
استقطعه / الملح الذي بمأرب اليمن فأقطعه إياه، فلما ولى قال رجل: يا رسول الله ! أتدري ما أقطعته إنما أقطعت له الماء العد، قال: فرجعه منه. وقال أبو عبيد: وسأله أيضا ماذا يحمى من الأراك، قال: ما لم تنله أخفاف الإبل. قال الأصمعي وغيره: أما قوله: الماء العد، فإنه الدائم الذي لا انقطاع له، قال: وهو مثل ماء العين وماء البئر، وجمع العد أعداد قال ذو الرمة يذكر امرأة تنجعت ماء عدا وذلك في الصيف إذا نشت مياه الغدر فقال: [ الطويل ]
[ 122 ]
دعت مية الأعداد واستبدلت بها خناطيل آجال من العين خذل يعني منازلها التي تركتها فصارت بها العين. وفي هذا الحديث من الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع القطائع وقل ما يوجد هذا في حديث مسند وفيه أنه لما قيل له: إنه ما ترك إقطاعه، كأنه يذهب به عليه السلام إلى أن الماء إذا لم يكن في ملك أحد لأنه لابن السبيل وأن الناس فيه جميعا شركاء، وفيه أنه حكم بشئ ثم رجع عنه، وهذا حجة للحاكم إذا حكم حكما ثم تبين له أن الحق في غيره أن ينقض حكمه ذلك ويرجع عنه وفيه أيضا أنه نهى أين يحمى ما نالته أخفاف الإبل من الأراك. وذلك أنه مرعى لها فرآه مباحا لابن السبيل وذلك لأنه كلأ مهموز مقصور والناس شركاء في الماء والكلأ،
[ 123 ]
وما لم تنله أخفاف الإبل كان لمن شاء أن يحميه حماه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين أمر بماعز ابن مالك أن يرجم فلما ذهب به قال عليه السلام: يعمد أحدهم إلى المرأة المغيبة فيخدعها بالكثبة والشئ لا أوتى بأحد منهم فعل ذلك إلا جعلته نكالا. قال أبو عبيد: وهو كذلك في غير اللبن أيضا، وكل ما جمعته من طعام أو غيره بعد أن يكون قليلا فهو كثبة وجمعه كثب قال ذو الرمة يذكر أرطاة عند أبعار الصيران: [ البسيط ] ميلاء من معدن الصيران قاصية أبعارهن على أهدافها كثب
[ 124 ]
ويقال منه: كثبت الشئ أكثبه كثبا إذا جمعته، فأنا كاثب وقال أوس بن حجر: [ المتقارب ] لأصبح رتما دقاق الحصى مكان النبي من الكاثب ويقال: إن النبي والكاثب موضعان، ويريد بالنبي ما نبا من الحصى إذا دق فندر، والكاثب: الجامع لما ندر منه. وقال أبو عبيد في حديث النبي عليه السلام إياكم والقعود بالصعدات إلا من أدى حقها.
[ 125 ]
قال أبو عبيد: قوله: الصعدات يعني الطرق، وهي مأخوذة من الصعيد والصعيد: التراب، وجمع الصعيد صعد ثم الصعدات جمع الجمع، كما تقول: طريق وطرق ثم طرقات. قال الله [ تبارك و ] تعالى " فتيمموا صعيدا طيبا " فالتيمم في التفسير والكلام: التعمد للشئ، ويقال منه: أممت الشئ أؤمه أما وتأممته وتيممته، ومعناه كله تعمدته وقصدت له قال الأعشى: [ المتقارب ] تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن
[ 126 ]
وقوله تعالى " فتيمموا صعيدا طيبا " هذا في المعنى والله أعلم تعمدوا الصعيد، ألا ترى بعد ذلك يقول " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " فكثر هذا في الكلام حتى صار التيمم عند الناس هو التمسح نفسه، وهذا كثير جائز في الكلام أن يكون الشئ إذا طالت صحبته للشئ يسمى به، كقولهم: ذهب إلى الغائط، وإنما الغائط أصله المطمئن من الأرض، وكالحديث الذي يروى أنه نهى عن عسب الفحل، وأصل العسب الكرى / فصار الضراب عند الناس عسبا ومثله في الكلام كثير. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال: توضؤوا مما غيرت النار ولو من ثور أقط.
[ 127 ]
قال أبو عبيد: قوله: ثور أقط، فالثور: القطعة من الأقط، وجمعه أثوار ويروى أن عمرو بن معديكرب قال: تضيفت بني فلان فأتوني بثور وقوس وكعب، فأما قوله: ثور، فهو الذي ذكرنا، فأما القوس فالشئ من التمر يبقى في أسفل الجلة، وأما الكعب فالشئ المجموع من السمن. قال أبو عبيد: وأما حديث عبد الله بن عمر حين ذكر مواقيت الصلاة فقال: صلاة العشاء إذا سقط ثور الشفق، فليس من هذا، ولكنه انتشار الشفق وثورانه، يقال منه: قد ثار يثور ثورا وثورانا إذا انتشر في الأفق، فإذا غاب ذلك حلت صلاة
[ 128 ]
العشاء وقد اختلف الناس في الشفق فيروى عن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس وعبد الله بن عباس وابن عمر أنهم قالوا: هو الحمرة، وكان مالك بن أنس وأبو يوسف يأخذان بهذا وقال عمر بن عبد العزيز: هو البياض، وهو بقية من النهار، وكان أبو حنيفة يأخذ به. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا غرار في صلاة ولا تسليم. قال: الغرار هو النقصان، يقال للناقة إذا يبس لبنها: هي مغار قال الكسائي: وفي لبنها غرار. وقال أبو عبيد عن الأوزاعي عن الزهري
[ 129 ]
قال: كانوا لا يرون بغرار النوم بأسا يعني أنه لا ينقض الوضوء قال الفرزدق في مرثية للحجاج: [ الكامل ] إن الرزية من ثقيف هالك ترك العيون ونومهن غرار أي قليل فكأن معنى الحديث لا نقصان في صلاة يعني في ركوعها وسجودها وطهورها كقول سلمان [ الفارسي ]: الصلاة مكيال فمن وفى وفي [ له ]، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في المطففين، والحديث في مثل هذا كثير، فهذا الغرار في الصلاة. وأما الغرار في التسليم فنراه أن يقول: السلام عليك، أو يرد. فيقول: وعليك، ولا يقول: وعليكم والغرار أيضا في أشياء من الكلام أيضا سوى هذا. يقال لحد الشفرة والسيف وكل شئ له حد: فحده عرار والغرار أيضا: المثال الذي يطبع عليه نصال السهم قالها الأصمعي والغرار أيضا أن يغر الطائر الفرخ غرارا يعني أن يزقه. وقد
[ 130 ]
روي [ عن ] بعض المحدثين هذا الحديث: لا إغرار في صلاة بألف، ولا أعرف هذا في الكلام وليس له عندي وجه، ويقال: لا غرار في صلاة ولا تسليم أي لا نقصان فيها ولا تسليم فيها، فمن قال هذا ذهب إلى أنه لا قليل من النوم في الصلاة ولا تسليم في الصلاة أي إن المصلي لا يسلم ولا يسلم عليه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن حكيم بن حزام قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أخر إلا قائما. قال أبو عبيد: وقد أكثر الناس في معنى هذا الحديث وماله عندي وجه إلا أنه أراد بقوله: لا أخر، لا أموت لأنه إذا مات فقد خر وسقط. [ وقوله: ] إلا قائما، إلا ثابتا على الإسلام وكل من ثبت على
[ 131 ]
شئ وتمسك به فهو قائم عليه، قال الله تعالى / " ليسوا سوآء من أهل الكتب أمة قائمة يتلون آيت الله آنآء الليل وهم يسجدون " وإنما هذا من المواظبة على الدين والقيام به، وقال " ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار لا يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما " قال أبو عبيد: قوله: إلا ما دمت عليه قائما، قال: هو مواكظا، ومنه قيل في الكلام للخليفة: هو القائم بالأمر، وكذلك فلان قائم بكذا وكذا إذا كان حافظا له متمسكا به وفي بعض هذا الحديث أنه لما قال النبي عليه السلام: أبايعك على
[ 132 ]
أن لا أخر إلا قائما، فقال: أما من قبلنا فلن تخر إلا قائما أي لسنا ندعوك ولا نبايعك إلا قائما أي على الحق. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين ذكر مكة فقال: لا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. قال أبو عبيد: أما قوله: لا تحل لقطتها إلا لمنشد، فقال: إنما معناه لا تحل لقطتها كأنه يريد ألبتة فقيل له: إلا لمنشد، فقال: [ إلا ] لمنشد وهو يريد المعنى الأول نشد قال أبو عبيد: ومذهب عبد الرحمن في هذا التفسير كالرجل يقول: والله لا فعلت كذا وكذا، ثم يقول: إن شاء الله، وهو لا يريد الرجوع عن يمينه، ولكنه
[ 133 ]
لقن شيئا فلقنه فمعناه أنه ليس يحل للملتقط منها [ إلا إنشادها، فأما الانتفاع بها فلا. وقال غيره: لا يجعل لقطتها ] إلا لمنشد يعني طالبها الذي يطلبها وهو ربها فيقول: ليست تحل إلا لربها. فقال أبو عبيد: هذا حسن في المعنى، ولكنه لا يجوز في العربية [ أن ] يقال للطالب: منشد، إنما المنشد هو المعرف، والطالب هو الناشد، يقال [ منه ]: نشدت الضالة أنشدها [ نشدانا ] إذا طلبتها فأنا ناشد، ومن التعريف أنشدها إنشادا فأنا منشد ومما يبين ذلك أن الناشد هو الطالب، حديث النبي عليه السلام أنه سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال: أيها الناشد ! غيرك الواجد معناه لا وجدت كأنه دعا عليه وأما قول أبي دؤاد الأيادي وهو يصف الثور فقال: [ الكامل ]
[ 134 ]
ويصيخ أحيانا كما استمع المضل لصوت ناشد قال أبو عبيد: قال الأصمعي أخبرني عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يعجب من هذا، وأحسبه قال هو أو غيره: إنه لما أراد بالناشد [ أيضا ] رجلا أرمل قد ضلت دابته فهو ينشدها [ أي ] يطلبها ليتعزى بذلك وفي هذا الحديث قول ثالث: إنه أراد بقوله: إلا لمنشد أراد به إن لم ينشدها فلا يحل له الانتفاع بها، فإذا أنشدها فلم يجد طالبها حلت له قال أبو عبيد: ولو كان هذا هكذا لما كانت مكة مخصوصة بشئ دون البلاد، لأن الأرض كلها لا تحل لقطتها إلا بعد الإنشاد إن حلت أيضا وفي الناس من لا يستحلها، وليس للحديث عندي وجه إلا ما قال عبد الرحمن أنه ليس للواجد منها [ شئ ] إلا الإنشاد أبدا وإلا فلا يحل له أن يمسها.
[ 135 ]
وقال أبو عبيد في حديث النبي عليه السلام: أقروا الطير على وكناتها، وبعضهم يقول: مكناتها. قال أبو زياد الكلابي وأبو طيبة الأعرابي وغيرهما من الأعراب
[ 136 ]
ومن قال منهم: لا نعرف للطير مكنات، وإنما هو الوكنات قال امرؤ القيس:: [ الطويل ] وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل وواحد الوكنات وسنة، وهي موضع عش الطائر، ويقال له أيضا: وكر بالراء فأما الوكن بالنون، فإنه العود الذي / يبيت عليه الطائر. قالوا: فأما المكنات فإنما هو بيض الضباب، وواحدتها مكنة يقال منه: [ قد ] مكنت الضبة وأمكنت، فهي ضبة مكون إذا جمعت البيض ومنه حديث ابي وائل: ضبة مكون أحب إلي من دجاجة سمينة
[ 137 ]
وأما المحدث فقال: سمين، قال: أما ما كان من نفسها في النعت فلا يكون إلا بالهاء، وما كان من غير نعتها مثل خضيب ودهين ونحو ذلك فيكون بغير هاء، وجمع المكنة مكن قال أبو عبيد: وهكذا روى الحديث وهو جائز في كلام العرب وإن كان المكن للضباب أي يجعل للطير تشبيها بذلك الكلمة تستعار فتوضع في غير موضعها، ومثله كثير في كلام العرب كقولهم: مشافر الحبش، وإنما المشافر للإبل وكقول زهير يصف الأسد: [ الطويل ] له لبد أظفاره لم تقلم
[ 138 ]
وإنما هي المخالب وكقول الأخطل: [ الطويل ] وفروة ثفر الثورة المتضاجم وإنما الثفر للسباع. وقد يفسر هذا الحديث على غير هذا التفسير يقال: أقروا الطير على مكناتها، يراد على أمكنتها قال أبو عبيد: إلا أنا لم أسمع في الكلام أن يقال للأمكنة مكنة، ومعناه الطير التي يزجر بها، يقول: لا تزجروا الطير ولا تلتفتوا إليها، أقروها على مواضعها التي جعلها الله تعالى بها أي أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تعدوا ذلك إلى غيره وكلاهما له وجه ومعنى والله أعلم إلا إنا لم نسمع في الكلام الأمكنة مكنة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام ما أذن الله لشئ
[ 139 ]
كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن أن يجهر به. قال أبو عبيد: أما قوله: كأذنه يعني ما استمع الله لشئ كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن وعن مجاهد في قوله تعالى " وأذنت لربها وحقت ". قال: سمعت أو قال: استمعت شك أبو عبيد، يقال: أذنت للشئ آذن [ له ] أذنا إذا استمعته [ و ] قال عدي بن زيد: [ الرمل ] أيها القلب تعلل بددن إن همي في سماع وأذن
[ 140 ]
وقال ايضا: [ الرمل ] في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ماذي مشار يريد بقوله [ يأذن ] يستمع ومنه قوله تعالى " أذنت لربها وحقت " أي سمعت. وبعضهم يرويه: كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن بكسر الألف، يذهب به إلى الإذن من الاستئذان، وليس لهذا وجه عندي وكيف يكون إذنه له في هذا أكثر من إذنه له في غيره والذي أذن له فيه من توحيده وطاعته والإبلاغ عنه أكثر وأعظم من الإذن في قراءة يجهر بها. وقوله: يتغنى بالقرآن، إنما مذهبه عندنا تحزين القراءة ومن ذلك حديثه الآخر عن عبد الله بن مغفل أنه رأى النبي عليه السلام
[ 141 ]
يقرأ سورة الفتح، فقال: لولا أن يجتمع الناس علينا لحكيت تلك القراءة، وقد رجع ومما يبين ذلك حديث يروى عن النبي عليه السلام أنه ذكر أشراط الساعة فقال: بيع الحكم، وقطيعة الرحم، والاستخفاف بالدم، وكثرة الشرط، وأن يتخذ القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء. وعن طاؤوس أنه قال: أقرأ الناس للقرآن أخشاهم لله تعالى فهذا تأويل حديث النبي عليه السلام: [ ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي ] يتغنى بالقرآن [ أن ] يجهر به. وهو تأويل قوله: زينوا القرآن بأصواتكم، وعن / شعبة قال: نهاني أيوب أن أتحدث بهذا الحرف: زينوا القرآن بأصواتكم قال أبو عبيد: وإنما كره أيوب ذلك مخافة أن يتأول على غير وجهه، وأما حديث
[ 142 ]
النبي عليه السلام: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، فليس [ هو ] عندي من هذا، إنما هو [ من ] الاستغناء، وقد فسرناه في موضع آخر. عفر وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه كان إذا سجد جافى عضديه حتى يرى من خلفه عفرة إبطيه. قال أبو زيد والأصمعي وأبو زياد أو من قال منهم: العفرة البياض، وليس بالبياض الناصع الشديد، ولكنه لون الأرض، ومنه قيل للظباء: عفر إذا كانت ألوانها كذلك، وإنما سميت بعفر الأرض وهو وجهها، قال الأحمر: يقال: ما على عفر الأرض مثله أي على وجهها، وكذلك الشاة العفراء. يروى عن أبي هريرة أنه قال: لدم عفراء في الأضحية أحب إلي من دم سوداوين، وبعضهم يرويه عنه: لدم بيضاء أحب إلي من دم سوداوين، فهذا تفسير ذلك ويقال: عفرت الرجل وغيره في
[ 143 ]
التراب إذا مرغته فيه تعفيرا والتعفير في غير هذا أيضا يقال للوحشية: هي تعفر ولدها وذلك إذا أرادت فطامه قطعت عنه الرضاع يوما أو يومين، فإن خافت أن يضره ذلك ردته إلى الرضاع أياما ثم أعادته إلى الفطام، تفعل ذلك مرات حتى يستمر عليه، فذلك التعفير، وهو معفر قال لبيد يذكره: [ الكامل ] لمعفرقهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها أي لا ينقص. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: من أدخل فرسا بين فرسين فإن كان يؤمن أن يسبق فلا خير فيه، وإن كان لا يؤمن أن يسبق فلا بأس به. قال أبو عبيد: سمعت محمد بن الحسن وغير واحد دخل تفسير
[ 144 ]
بعضهم في بعض قالوا: هذا في رهان الخيل والأصل فيه أن يسبق الرجل صاحبه بشئ مسمى على أنه إن سبق لم يكن له شئ، وإن سبقه صاحبه أخذ الرهن، فهذا هو الحلال، لأن الرهن إنما هو من أحدهما دون الآخر، فإن جعل كل واحد منهما لصاحبه رهنا أيهما سبق أخذه، فهذا القمار المنهي عنه فإن أرادا أن يدخلا بينهما شيئا ليحل لكل واحد منهما رهن صاحبه جعلا بينهما فرسا ثالثا لرجل سواهما، وهو الذي ذكرنا في أول الحديث: من أدخل فرسا بين فرسين، وهو الذي يسمى المحلل ويسمى الدخيل فيضع الرجلان الأولان رهنين منهما ولا يضع الثالث شيئا، ثم يرسلون الأفراس الثلاثة، فإن سبق أحد الأولين أخذ رهنه ورهن صاحبه وكان طيبا له، وإن سبق الدخيل [ ولم يسبق واحد من هذين أخذ ] الرهنين جميعا، وإن سبق هو لم يكن عليه شئ، فمعنى قوله: إن كان لا يؤمن [ أن يسبق فلا بأس به، يقول: إذا كان رابعا ] جوادا لا يأمنان أن يسبقهما فيذهب بالرهنين [ فهذا طيب لا بأس به، وإن كان بليدا بطيا قد أمنا ] أن يسبقهما فهذا قمار لأنها كأنهما لم يدخلا [ بينهما شيئا أو كأنهما إنما أدخلا حمارا أو ما اشبه ذلك ] مما لا يسبق. فهذا وجه الحديث، وهو تفسير قول [ جابر بن زيد حدثنا
[ 145 ]
سفيان بن عيينة عن عمرو قال قيل لجابر بن زيد: إن أصحاب محمد ] كانوا لا يرون بالدخيل بأسا، فقال: كانوا أعف من ذلك. وقال أبو عبيد في حديث النبي عليه السلام: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر. قوله: / فإن الله هو الدهر وهذا لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه. وذلك أن أهل التعطيل يحتجون به على المسلمين [ قال أبو عبيد: وقد رأيت بعض من يتهم بالزندقة والدهرية يحتج
[ 146 ]
بهذا الحديث ويقول: ألا تراه يقول: فإن الله هو الدهر ! فقلت: وهل كان أحد يسب الله في آباد الدهر وقد قال الأعشى في الجاهلية الجهلاء: [ المنسرح ] استأثر الله بالوفاء وبالحمد وولي الملامة الرجلا وإنما تأويله عندي والله أعلم أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وأتى عليهم الدهر فيجعلونه الذي يفعل ذلك فيذمونه عليه وقد ذكروه في أشعارهم قال الشاعر يذكر قوما هلكوا: [ الكامل ] فاستأثر الدهر الغداة بهم والدهر يرميني ولا أرمى يا دهر قد أكثرت فجعتنا بسراتنا ووقرت في العظم وسلبتنا ما لست تعقبنا يا دهر ما أنصفت في الحكم وقال عمرو بن قميئة: [ الطويل ] رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى فكيف بمن يرمى وليس برام
[ 147 ]
فلو أنها نبل إذا لاتقيتها ولكنما أرمى بغير سهام على الراحتين مرة وعلى العصا أنوء ثلاثا بعدهن قيامي فأخبر أن الدهر فعل به ذلك نصف الهرم. وقد أخبر الله تعالى بذلك عنهم في كتابه [ الكريم ] ثم كذبهم بقولهم فقال " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " قال الله عز وجل " ومالهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " فقال النبي عليه السلام: لا تسبوا الدهر على تأويل لا تسبوا الذي يفعل بكم هذه الأشياء ويصيبكم بهذه المصائب، فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله تعالى لأنه عز وجل هو الفاعل لها لا الدهر، فهذا وجه الحديث إن شاء الله
[ 148 ]
لا أعرف له وجها غيره.
[ 149 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه دخل على عائشة رضي الله عنها وعندها رجل فقالت: إنه أخي من الرضاعة، فقال: أنظرن ما إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة. قوله: فإنما الرضاعة من المجاعة، يقول: إن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن إنما هو الصبي الرضيع، فأما الذي يشبعه من جوعه الطعام فإن أرضعتموه فليس ذلك برضاع، فمعنى الحديث: إنما الرضاع ما كان بالحولين قبل الفطام، وهذا مثل حديث أبي هريرة وأم سلمة رضي الله عنها: إنما الرضاع ما كان في الثدي قبل الفطام،
[ 150 ]
ومثله حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما الرضاعة رضاعة الصغر، وكذلك حديث عبد الله فيه وعامة الآثار على هذا أن الرضاعة بعد الحولين لا تحرم شيئا. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه رأى رجلا يمشي بين القبور في نعلين فقال: يا صاحب السبتين ! اخلع سبتيك. قوله في النعال: السبتية، قال أبو عمرو: هي المدبوغة بالقرظ، [ و ] قال الأصمعي: في المدبوغة قال أبو عبيد: وإنما ذكرت السبتية لأن أكثرهم في الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة إلا أهل السعة منهم والشرف لأنهم كانوا لا يحسنون ولا يلبسها إلا أهل الجدة منهم كانوا يشترونها من اليمن والطائف ونحو هذا قال عنترة [ يمدح رجلا ]:
[ 151 ]
[ الكامل ] بطل كأن ثيابه في سرحة يحذى نعال السبت ليس بتوأم [ وقد زعم بعض ] الناس / أن النعال السبتية هي محلوقة الشعر، والأمر عندي كما قال الأصمعي وأبو عمرو. وأما أمر النبي عليه السلام إياه أن يخلعهما فإن بعض الناس يتأوله على الكراهة للمشي بين القبور في النعلين، وهذا معنى يضيق على الناس، ولو كان [ لبس ] النعل مكروها هناك لكان الخف مثله قال أبو عبيد: وأما أنا فأراه أمره بذلك لقذر رآه في نعليه فكره أن يطأ بهما القبور كما كره أن يحدث الرجل بين القبور، فهذا وجهه عندي والله أعلم. ويقال: إنما كره ذلك لأن أهل القبور يؤذيهم صوت النعال فإن كان
[ 152 ]
هذا وجه الحديث فالأمر في خلعهما كان فيهما قذر أو لم يكن. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: نعم الإدام الخل. إنما سماه إداما لأنه يصطبغ به وكل شئ يصطبغ به لزمه اسم الإدام يعني مثل الخل والزيت والمزى واللبن وما أشبهه، قال: فإن حلف حالف أن لا يأكل إداما فأكل بعض ما يصطبغ به فهو حانث وفي حديث آخر أنه قال: ما أقفر بيت أو قال: طعام فيه خل [ و ] قال أبو زيد [ وغيره ]: هو مأخوذ من القفار، وهو كل طعام يؤكل بلا أدم يقال: أكلت اليوم طعاما قفارا إذا أكله غير مأدوم، ولا أرى أصله مأخوذا إلا من القفر من البلاد، وهي التي لا شئ فيها.
[ 153 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع من أهل البيت لهم. قوله: خائن ولا خائنة، فالخيانة تدخل في أشياء كثيرة سوى الخيانة في المال، منها أن يؤتمن على فرج فلا يؤدي فيه الأمانة، وكذلك إن استودع سرا يكون إن أفشاه فيه عطب المستودع أو يشينه ومما يبين ذلك أن السر أمانة حديث يروى عن النبي عليه السلام: إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهو أمانة، فقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانة ولم يستكتمه فكيف إذا استكتمه، ومنه قوله: إنما تتجالسون بالأمانة، ومنه الحديث الآخر: من أشاع فاحشة فهو كمن أبدأها، فصار ههنا كفاعلها لإشاعته إياها [ هو ] ولم يستكتمها، وكذلك إن اؤتمن
[ 154 ]
على حكم بين اثنين أو فوقهما فلم يعدل، وكذلك إن غل من المغنم، فالغال في التفسير هو الخائن لأنه يقال في قوله " ما كان لنبي أن يغل " قال: يخان، فهذه الخصال كلها وما ضاهاها لا ينبغي أن يكون أصحابها عدولا في الشهادة على تأويل هذا الحديث. وأما قوله: ولا ذي غمر على أخيه، فإن الغمر الشحناء والعداوة، وكذلك الإحنة ومما يبين ذلك حديث عمر رضي الله عنه: إنما قوم شهدوا على رجل بحد ولم يكن ذلك بحضرة صاحب الحد فإنما شهدوا عن ضعن وتأويل هذا الحديث [ على ] الحدود التي فيما بين الناس وبين الله تعالى كالزنا وشرب الخمر [ والسرقة. ظنن قال أبو عبيد ] وسمعت محمد بن الحسن يجعل في [ ذلك وقتالا ] أحفظه يقول: فإن أقاموا الشهادة بعد ذلك بطلت شهادتهم، فأما حقوق الناس [ فالشهادة ] فيها جائزة أبدا لا ترد وإن تقادمت.
[ 155 ]
فأما، الظنين في الولاء والقرابة، فالذي يتهم / بالدعاوة إلى غير أبيه والمتولي غير مواليه قال أبو عبيد: وقد يكون أن يتهم في شهادته لقريبه كالوالد للولد [ والولد للوالد ] ومن وراء ذلك ومثله حديثه الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا حتى انتهى إلى البينة أنه لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين واليمين على المدعى عليه، فمعنى الظنين ههنا المتهم في دينه. و [ أما ] قوله: لا القانع مع أهل البيت لهم، فإنه الرجل يكون مع القوم في حاشيتهم كالخادم لهم والتابع والأجير ونحوه وأصل
[ 156 ]
القنوع: الرجل يكون مع الرجل يطلب فضله ويسأل معروفه، فيقول: هذا إنما يطلب معاشة من هؤلاء فلا يجوز شهادته لهم، قال الله عز وجل " فكدوا منها وأطعموا القانع والمعتر " فالقانع في التفسير: الذي يسأل، والمعتر: الذي يتعرض ولا يسأل ومنه قول الشماخ: [ الطويل ] لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع يعني مسألة الناس. وقال عدي بن زيد: [ الطويل ] وما خنت ذا عهد وأبت بعهده ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا يعني سائلا. ويقال من هذا: قد قنع يقنع قنوعا وأما القانع الراضي بما أعطاه الله [ عز وجل ] فليس من ذلك، يقال [ منه ]: قنعت أقنع قناعة، فهذا بكسر النون وذلك بفتحها وذلك من القنوع وهذا من القناعة.
[ 157 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في خطبته: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق [ الله ] السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. قوله: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق [ الله ] السماوات والأرض، يقال: إن بدء ذلك [ كان ] والله أعلم إن العرب كانت تحرم هذه الأشهر الأربعة وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام وعلى نبينا فربما احتاجوا إلى تحليل
[ 158 ]
المحرم للحرب تكون بينهم فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم. وهذا هو النسئ الذي قال الله تعالى " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما " إلى آخر الآية وكان ذلك في كنانة هم الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب، والنسئ هو التأخير ومنه قيل: بعت الشئ نسيئة، فكانوا يمكثون بذلك زمانا يحرمون صفر وهم يريدون به المحرم ويقولون: هذا أحد الصفرين، [ قال أبو عبيد ] وقد تأول بعض الناس قول النبي عليه السلام: لا صفر، على هذا ثم يحتاجون أيضا إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك [ فكذلك حتى ] يتدافع شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله [ تبارك وتعالى ] به، وذلك بعد دهر طويل
[ 159 ]
فذلك قوله عليه السلام: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق [ الله ] السماوات والأرض يقول: رجعت الأشهر الحرم إلى مواضعها وبطل النسئ وقد زعم بعض الناس أنهم كانوا يستحلون المحرم عاما فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه والتفسير الأول أحب إلي لقول النبي عليه السلام إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق [ الله ] السماوات والأرض، وليس في التفسير الآخر استدارة، وعلى هذا التفسير [ الذي فسرناه ] قد / يكون قوله " يحلونه عاما ويحرمونه عاما " مصدقا لأنهم إذا حرموا العام المحرم وفي قابل صفر ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر [ أيضا ] أحلوه وحرموا الذي بعده. فهذا تأويل قوله في هذا التفسير " يحلونه عاوا ويحرمونه عاما ". قال أبو عبيد: وفي هذا تفسير آخر يقال: إنه في الحج عن مجاهد في قوله تعالى " ولا جدال في الحج " قال: قد استقر الحج في ذي الحجة لا جدال فيه، وعن مجاهد قال: كانت العرب في الجاهلية يحجون عامين في [ ذي
[ 160 ]
القعدة وعامين في ذي الحجة فلما كانت السنة التي حج أبو بكر فيها قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم كان الحج في السنة الثانية في ذي القعدة، فلما كانت السنة التي حج فيها النبي عليه السلام في العام المقبل عاد الحج إلى ذي الحجة، فذلك قوله: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق [ الله ] السماوات والأرض يقول: قد ثبت الحج في ذي الحجة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام لأهل القتيل أن ينحجزوا الأدنى فالأدنى وإن كانت امرأة. وذلك أن يقتل القتيل وله ورثة رجال ونساء يقول: فأيهم عفى
[ 161 ]
عن دمه من الأقرب فالأقرب، من رجل أو امرأة فعفوه جائز لأن قوله [ أن ] ينحجزوا يعني يكفوا عن القود، وكذلك كل من ترك شيئا وكف عنه فقد انحجز عنه وفي هذا الحديث تقوية لقول أهل العراق، إنهم يقولون: لكل وارث أن يعفو عن الدم من رجل أو امرأة، فإذا عفى بعضهم سقط القود عن القاتل وأخذ سائر الورثة حصصهم من الدية. وأما أهل الحجاز فيقولون: إنما العفو والقود إلى الأولياء خاصة، وليس للورثة الذين ليسوا بأولياء من ذلك شئ، يتأولون قول الله تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " وقال أبو عبيد: وقول أهل العراق في هذا أعجب إلي في القتيل. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: الإيمان يمان والحكمة يمانية. قوله: الإيمان يمان، وإنما بدأ الإيمان من مكة، لأنها مولد النبي عليه السلام ومبعثه، ثم هاجر إلى المدينة، ففي ذلك قولان: [ أما ] أحدهما فإنه يقال: إن مكة من أرض تهامة، ويقال: إن تهامة من أرض
[ 162 ]
اليمن، ولهذا سمي ما والى مكة من أرض اليمن واتصل بها التهائم، فكان مكة على هذا التفسير يمانية، فقال: الإيمان يمان [ على هذا ] والوجه الآخر أنه يروى في الحديث أن النبي عليه السلام قال هذا الكلام وهو يومئذ بتبوك ناحية الشام، ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن، فأشار إلى ناحية اليمن وهو يريد مكة والمدينة فقال: الإيمان يمان أي هو من هذه الناحية، فهما وإن لم يكونا من اليمن فقد يجوز أن ينسبا إليها إذا كانتا من ناحيتها وهذا كثير في كلامهم فاش، ألا تراهم قالوا: الركن اليماني فنسب إلى اليمن وهو بمكة لأنه مما يليها وأنشدني الأصمعي للنابغة يذم يزيد بن الصعق وهو رجل من قيس فقال: [ الوافر ] وكنت أمينه لو لم تخنه ولكن لا أمانة لليماني وذلك أنه كان مما يلي اليمن وقال ابن مقبل وهو رجل من بني العجلان من بني عامر بن صعصة: [ البسيط ] طاف الخيال بنا ركبا يمانينا فنسب نفسه إلى اليمن لأن الخيال طرقه وهو يسير ناحيتها، ولهذا قال:
[ 163 ]
سهيل اليماني، لأنه يرى من ناحية اليمن. قال أبو عبيد وأخبرني هشام ابن الكلبي أن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف تزوج الثرياء / بنت فلان من بني أمية من العبلات وهي أمية الصغرى، فقال عمر بن أبي ربيعة أنشدنيه عنه الأصمعي: [ الخفيف ] أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان قال أبو عبيد: فجعل لهما النجوم مثالا لاتفاق أسمائهما للنجوم، قال ثم قال: هي شامية فعنى الثريا التي في السماء وسهيل يمان، وذلك أن الثريا إذا ارتفعت اعترضت ناحية الشام مع الجوزاء حتى تغيب تلك الناحية، قال: وسهيل إذا استقل يماني لأنه يعلو من ناحية اليمن. فسمى تلك شامية وهذا يمانيا، وليس منهما شأم ولا يمان، وإنما هما نجوم السماء ولكن نسب كل واحد منهما إلى ناحيته، فعلى هذا تأويل قول
[ 164 ]
النبي عليه السلام: الإيمان يمان. ويذهب كثير من الناس في هذا إلى الأنصار، يقول: هم نصروا الإيمان وهم يمانية، فنسب الإيمان إليهم على هذا المعنى. وهو أحسن الوجوه عندي [ قال أبو عبيد ]: ومما يبين ذلك أن النبي عليه السلام لما قدم [ أهل ] اليمن قال: أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا وأرق أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية وهم أنصار النبي عليه السلام ومنه أيضا قول النبي عليه السلام: لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق ما في الأرض ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه. قوله: مد أحدهم ولا نصيفه يقول: لو أنفق أحدكم ما في الأرض ما بلغ مثل مد يتصدق به أحدهم أو ينفقه ولا مثل نصفه، والعرب تسمي النصف النصيف، كما قالوا في العشر عشير وفي الخمس خميس وفي
[ 165 ]
السبع سبيع وفي الثمن ثمين قالها أبو زيد والأصمعي وأنشدنا أبو الجراح: [ الطويل ] وألقيت سهمي بينهم حين أوخشوا فما صار لي في القسم إلا ثمينها واختلفوا في السبع والسدس والربع، فمنهم من يقول: سبيع وسديس وربيع، ومنهم من لا يقول ذلك، ولم أسمع أحدا منهم يقول في الثلث شيئا [ من ذلك ]. وقال الشاعر في النصيف يذكر امرأة:
[ 166 ]
[ الرجز ] لم يغذها مد ولا نصيف ولا تميرات ولا تعجيف لكن غذاها اللبن الخريف المحض والقارص والصريف أراد أنها منعمة في سعة لم تغذ بمد تمر ولا نصيفه، ولكن بألبان اللقاح، وقوله: تعجيف يعني أن تدع طعامها وهي تشتهيه لغيرها، وهذا لا يكون إلا من العوز والقلة. قال أبو عبيد: والنصيف في غير هذا الخمار. ومنه حديث النبي عليه السلام وذكر حور العين قال: ولنصيف إحداهن على رأسها خير من الدنيا وما فيها قال النابغة: [ الكامل ] سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
[ 167 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في الرجل الذي عض يد رجل فانتزع يده من فيه فسقطت ثناياه فخاصمه إلى النبي عليه السلام فطلها. قوله: طلها يعني أهدرها وأبطلها قال الكسائي وأبو زيد قوله: طلها يعني أهدرها وأبطلها قال أبو زيد: يقال: [ قد ] طل دمه وقد طله الحاكم وهو دم مطلول قال: ولا يقال: طل دمه، لا يكون الفعل للدم، وأجاز الكسائي: طل دمه أي هدره، وكان أبو عبيدة يقول: فيه ثلاث لغات: طل دمه، وطل دمه، وأطل دمه قال أبو عبيد: وفي هذا / الحديث من الفقه أنه من ابتدأ رجلا يضرب فأنفاه الآخر بشئ يريد [ به ] دفعه عن نفسه فعاد الضرب على البادي أنه هدر، لأن الثاني إنما أراد دفعه [ عن نفسه ] ولم يرد غيره وهذا أصل لهذا الحكم.
[ 168 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه رخص للمحرم في قتل العقرب والفأرة والغراب والحدأ والكلب العقور. قوله: والكلب العقور، بلغني عن سفيان بن عيينة أراه قال: كل سبع يعقر، ولم يخص به الكلب قال أبو عبيد: وليس عندي مذهب إلا ما قال سفيان لما رخص الفقهاء فيه من قتل المحرم السبع العادي عليه، ومثل قول الشعبي وإبراهيم: من حل بك فاحلل به، يقول: إن المحرم لا يقتل فمن عرض لك فحل بك فكن أنت أيضا به حلالا، فكأنهم إنما اتبعوا هذا الحديث في الكلب العقور، ومع هذا أنه قد يجوز في
[ 169 ]
الكلام أن يقال للسبع: كلب، ألا ترى أنهم يروون في المغازي أن عتبة ابن أبي لهب كان شديد الأذى للنبي عليه السلام، فقال النبي عليه السلام: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ! فخرج عتبة إلى الشام مع أصحاب [ له ] فنزل منزلا فطرقهم الأسد فتخطى إلى عتبة بن أبي لهب من بين أصحابه حتى قتله، فصار الأسد ههنا قد لزمه اسم الكلب، وهذا مما يثبت ذلك التأويل، ومن ذلك قوله تعالى " وما علمتم من الجوارح مكلبين " فهذا اسم مشتق من الكلب، ثم دخل فيه صيد الفهد والصقر والبازي، فصارت كلها داخلة في هذا الاسم، فلهذا قيل لكل جارح أو عاقر من السباع: كلب عقور. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. كان سفيان بن عيينة يقول: معناه من لم يستغن به ولا يذهب به إلى الصوت وليس للحديث عندي وجه غير هذا، لأنه في حديث
[ 170 ]
آخر كأنه مفسر عن [ عبد الله ] بن نهيك أو ابن أبي نهيك أنه دخل على سعد وعنده متاع رث ومثال رث، فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. قال أبو عبيد: فذكره رثاثة المتاع والمثال عند هذا الحديث يبينك أنه إنما أراد الاستغناء بالمال القليل، وليس الصوت من هذا في شئ ويبين ذلك حديث عبد الله
[ 171 ]
من قرأ سورة آل عمران فهو غني. وعنه قال: نعم، كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها من آخر الليل. مثل قال أبو عبيد: فأرى الأحاديث كلها إنما دلت على الاستغناء، ومنه حديثه الآخر: من قرأ القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم صغيرا وصغر عظيما. ومعنى الحديث: لا ينبغي لحامل القرآن أن يرى أحدا من أهل الأرض أغنى منه ولو ملك الدنيا برحبها. ولو كان وجهه كما يتأوله بعض الناس أنه الترجيع بالقراءة وحسن الصوت لكانت العقوبة قد عظمت في ترك ذلك أن يكون: من لم يرجع صوته بالقرآن فليس من النبي عليه السلام حين قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، وهذا لا وجه له، ومع هذا أنه كلام جائز فاش في كلام العرب وأشعارهم أن
[ 172 ]
يقولوا: تغنيت تغنيا وتغانيت تغانيا يعني استغنيت قال الأعشى: [ المتقارب ] وكنت امرأ زمنا [ بالعراق عفيف المناخ ] طويل التغن يريد الاستغناء أو الغنى وقال المغيرة بن حبناء التميمي يعاتب أخا له: [ الطويل ] كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا يريد أشد استغناء، / هذا وجه الحديث والله أعلم. وأما قوله: ومثال رث، فإنه الفراش قال الكميت: [ الطويل ]
[ 173 ]
بكل طوال الساعدين كأنما يرى بسرى الليل المثال الممهدا وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين. قوله: الكمأة من المن، يقال والله أعلم إنه إنما شبهها بالمن الذي كان يسقط على بني إسرائيل، لأن ذلك كان ينزل عليهم عفوا بلا علاج منهم، إنما كانوا يصبحون وهو بأفنيتهم فيتناولونه، وكذلك الكمأة ليس على أحد منها مؤنة في بذر ولا سقي ولا غيره، وإنما هو شئ ينبته الله في الأرض حتى يصل إلى من يجتنيه. وقوله: وماؤها شفاء للعين، يقال: إنه ليس معناه أن يؤخذ ماؤها بحتافيقطر في العين، ولكنه يخلط ماؤها بالأدوية التي تعالج بها العين، فعلى هذا يوجه الحديث. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لي الواجد يحل
[ 174 ]
عقوبته وعرضه. قوله: لي، هو المطل، يقال: لويت دينه ألويه ليا وليانا قال الأعشى: [ الكامل ] يلوينني ديني النهار وأقتضي ديني إذا وقذ النعاس الرقدا وقال ذو الرمة: [ الطويل ] تطيلين لياني وأنت ملية وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا وقوله: الواجد يعني الغني الذي يجد ما يقضي [ به ] دينه ومما يصدقه حديث النبي عليه السلام مطل الغني ظلم. وقوله: يحل عقوبته وعرضه، فإن أهل العلم يتأولون بالعقوبة: الحبس في السجن، وبالعرض: أن يشد لسانه. وقوله فيه نفسه، ولا يذهبون في هذا إلى أن يقول في حسبه شيئا، وكذلك وجه الحديث
[ 175 ]
عندي ومما يحقق ذلك حديث النبي عليه السلام: لصاحب الحق اليد واللسان، قال: وسمعت محمد بن الحسن يفسر اليد باللزوم واللسان بالتقاضي قال أبو عبيد: وفي [ هذا ] الحديث باب من الحكم عظيم، قوله: لي الواجد، فقال: الواجد فاشترط الوجد، ولم يقل: لي الغريم، وذلك أنه قد [ يجوز أن ] يكون غريما وليس بواجد، وإنما جعل العقوبة على الواجد خاصة، فهذا يبين لك أنه من لم يكن واجدا فلا سبيل للطالب عليه بحبس ولا غيره حتى يجد ما يقضي، وهذا مثل قوله الآخر في الذي اشترى أثمارا فأصيبت فقال عليه السلام للغرماء: خذوا ما قدرتم عليه وليس لكم إلا ذلك. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه سئل عن البتع فقال: كل شراب أسكر فهو حرام.
[ 176 ]
قال أبو عبيد: قد جاءت في الأشربة آثار كثيرة بأسماء مختلفة عن النبي عليه السلام وأصحابه، وكل له تفسير، فأولها الخمر وهي ما غلي من عصير العنب، فهذا مما لا اختلاف في تحريمه بين المسلمين، إنما الاختلاف في غيره ومنها السكر وهو نقيع التمر الذي لم تمسه النار، وفيه يروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: السكر خمر ومنا البتع وهو الذي جاء فيه الحديث عن النبي عليه السلام وهو نبيذ العسل ومنها الجعة وهو نبيذ الشعير ومنها المزر وهو من الذرة، وعن ابن عمر أنه فسر هذه الأشربة الأربعة وزاد: والخمر من العنب، والسكر من التمر قال أبو عبيد: ومنها السكركة، وقد روي فيه عن الأشعري التفسير فقال: إنه من الذرة. فضخ قال أبو عبيد: ومن الأشربة أيضا الفضيخ،
[ 177 ]
وهو ما افتضخ من البسر من غير أن تمسه النار، وفيه يروى عن ابن عمر: ليس بالفضيخ ولكنه الفضوخ. خلط نصف طلى بذق [ قال أبو عبيد ]: وفيه يروى عن أنس / أنه قال: نزل تحريم الخمر وما كانت غير فضيخكم، هذا الذي تسمونه الفضيخ. قال: فإن كان مع البسر تمر فهو الذي يسمى الخليطين، وكذلك إن كان زبيبا وتمرا فهو مثله ومن الأشربة المنصف، وهو أن يطبخ عصير العنب قبل أن يغلى حتى يذهب نصفه، وقد بلغني أنه كان يسكر فإن كان يسكر فهو حرام وإن طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث فهو الطلاء، وإنما سمي بذلك لأنه شبه بطلاء الإبل في ثخنه وسواده، وبعض العرب يجعل الطلاء الخمر بعينها، يروى أن عبيد بن الأبرص قال في مثل له: [ المتقارب ] ولكنها الخمر تكنى الطلا كما الذئب يكنى أبا جعدة
[ 178 ]
وكذلك الباذق وقد يسمى به الخمر المطبوخ، وهو الذي يروى فيه الحديث عن ابن عباس أنه سئل عن الباذق فقال: سبق محمد صلى الله عليه وسلم الباذق وما أسكر فهو حرام، وإنما قال ابن عباس ذلك لأن الباذق كلمة فارسية عربت فلم نعرفها وكذلك البختج أيضا إنما هو اسم بالفارسية عرب، وهو الذي يروى فيه الرخصة عن إبراهيم أنه أهدي له بختج، فكان نبيذه ويلقى فيه العكر، جمهر نقع قال أبو عبيد: وهو الذي يسميه الناس [ اليوم ] الجمهوري، وهو إذا غلي وقد جعل فيه الماء فقد عاد إلى مثل حاله الأولى، ولو كان غلي وهو عصير لم يخالطه الماء لأن السكر الذي كان زائله [ أراه ] قد عاد إليه وإن الماء الذي خالطه لا يحل حراما ألا ترى أن عمر رضي الله عنه إنما أحل
[ 179 ]
الطلاء حين ذهب سكره وشره وحظ شيطانه، وهكذا يروى عنه، فإذا عاوده ما كان فارقه فما أغنت عنه النار والماء، وهل كان دخولهما ههنا إلا فضلا. ومن الأشربة نقيع الزبيب، وهو الذي يروى فيه عن سعيد بن جبير وغيره: هي الخمر اجتنبها قذى مزز صعف قال أبو عبيد: وهذا الجمهوري عندي شر منه، ولكنه مما أحدث الناس بعد، وليس مما كان في دهر أولئك فيقولون فيه. ومن الأشربة المقذي وهو شراب من أشربة أهل الشام، وزعم الهيثم بن عدي أن عبد الملك بن مروان كان يشربه، ولست أدري من أي شئ يعمل، غير أنه يسكر. ومنها شراب يقال له: المزاء ممدود، وقد جاء في بعض الحديث ذكره، وقالت فيه الشعراء قال الأخطل يعيب قوما: [ البسيط ] بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر وقد أخبرني محمد بن كثير أن لأهل اليمن شرابا يقال له: الصعف، وهو
[ 180 ]
أن يشدخ العنب ثم يلقى في الأوعية حتى يغلى فجهالهم لا يرونها خمرا لمكان اسمها، قال أبو عبيد: وهذه الأشربة المسماة كلها عندي كناية عن أسماء الخمر، ولا أحسبها إلا داخلة في حديث النبي عليه السلام: إن ناسا من أمتي يشربون الخمر باسم يسمونها به، قال أبو عبيد: وقد بقيت أشربة سوى هذه المسماة ليست لها اسماء، منها نبيذ الزبيب بالعسل، ونبيذ الحنطة، ونبيذ التين وطبيخ الدبس وهو عصير التمر فهذه كلها عندي لاحقة بتلك المسماة في الكراهة وإن لم تكن سميت، لأنها كلها تعمل عملا واحدا في السكر والله أعلم بذلك قال أبو عبيد: ومما يبينه قول عمر بن الخطاب: الخمر ما خامر العقل. وقيل في رجل صلى وفي ثوبه من [ النبيذ ] المسكر قدر الدرهم أو أكثر: إنه يعيد الصلاة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام / في الأوعية التي
[ 181 ]
نهى [ عنها ] النبي عليه السلام من الدباء والحنتم والنقير والمزفت. وقد جاء تفسيرها كلها أو أكثيرها في الحديث عن أبي بكرة قال: أما الدباء فانا معاشر ثقيف كنا بالطائف نأخذ الدباء فخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها حتى تهدر ثم تموت. وأما النقير فان أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم يشدخون فيه الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت. وأما الحنتم فجرار خضر كانت تحمل إلينا فيها الخمر، حنتم قال أبو عبيد:
[ 182 ]
أما الحديث فجرار حمر. وأما في كلام العرب فهي الخضر، وقد يجوز أن يكون جمعا.، زفت وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت. قال أبو عبيد: فهذه الأوعية التي جاء فيها النهي عن النبي عليه السلام، وهي عند العرب على ما فسرها أبو بكرة، وإنما نهى عنها كلها لمعنى واحد أن النبيذ يشتد فيها حتى يصير مسكرا، ثم رخص فيها فقال: اجتنبوا كل مسكر، فاستوت الظروف كلها ورجع المعنى إلى المسكر، فكل ما كان فيها وفي غيرها من الأوعية بلغ ذلك فهو المنهى عنه، وما لم يكن فيه منها و [ لا ] من غيرها مسكر فلا بأس به ومما يبين ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: كل
[ 183 ]
حلال في كل ظرف حلال، وكل حرام في كل ظرف حرام وقول غيره: ما أحل ظرف شيئا ولا حرمه ومن ذلك قول أبي بكرة: إن أخذت عسلا فجعلته في وعاء خمر أ إن ذلك ليحرمه أو أخذت خمرا فجعلتها في سقاء أ إن ذلك ليحلها وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه عطس عنده رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقيل له: يا رسول الله ! عطس عندك رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال: إن هذا حمد الله وإن هذا لم يحمد الله. قوله: شمت يعني دعا له، كقولك: يرحمكم الله أو يهديكم الله ويصلح بالكم والتشميت: هو الدعاء، وكل داع لأحد بخير فهو مشمت له ومنه حديثه الآخر أنه لما أدخل فاطمة عليها السلام على علي
[ 184 ]
عليه السلام قال لهما: لا تحدثا شيئا حتى آتيكما، فأتاهما فدعا لهما وشمت عليهما ثم خرج. وفي هذا الحرف لغتان: سمت وشمت، والشين أعلى في كلامهم وأكثر. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة. قال الكسائي وغيره قوله: الغنيمة الباردة، إنما وصفها بالبرد لأن الغنيمة إنما أصلها من أرض العدو ولا تنال ذلك إلا بمباشرة الحرب والاصطلاء بحرها، يقول: فهذه غنيمة ليس فيها لقاء حرب ولا قتال، وقد يكون [ أن ] يسمى باردة لأن صوم الشتاء ليس كصوم الصيف الذي يقاسى فيه العطش والجهد وقد قيل في مثل " ول حارها من تولى قارها " يضرب للرجل يكون في سعة وخصب [ و ] لا ينيلك منه شيئا ثم يصير منه إلى أذى ومكروه فيقال: دعه حتى يلقى شره
[ 185 ]
كما لقى خيره فالقار هو المحمود، وهو مثل الغنيمة الباردة، والحار هو المذموم المكروه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه خرج في مرضه الذي مات فيه يهادى بين اثنين حتى أدخل المسجد. يعني أنه كان يعتمد عليهما من ضعفه وتمايله، وكذلك كل من فعل ذلك بأحد فهو يهاديه / قال ذو الرمة يصف امرأة تمشي بين نساء يماشينها: [ الطويل ] يهادين جماء المرافق وعثة كليلة حجم الكعب ريا المخلخل فإذا فعلت المرأة ذلك فتمايلت في مشيتها من غير أن يماشيها أحد قيل: هي تهادى، قاله الأصمعي وغيره ومن ذلك قول الأعشى: [ المتقارب ] إذا ما تأتى تريد القيام تهادى كما قد رأيت البهيرا
[ 186 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان. قوله: عوان، واحدتها عانية، وهي الأسيرة يقول: إنما هن عندكم بمنزلة الأسرى، ويقال للرجل من ذلك: هو عان، وجمعه عناة. ومنه حديث النبي عليه السلام: عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني. يعني الأسير، ولا أظن هذا مأخوذا إلا من الذل والخضوع، لأنه يقال لكل من ذل واستكان: قد عنا يعنو. [ و ] قال الله [ تبارك و ] تعالى " وعنت الوجوه للحي القيوم " والاسم من ذلك العنوة قال القطامي يذكر امرأة: [ الكامل ] ونأت بحاجتنا وربت عنوة لك من مواعدها التي لم تصدق يقول: استكانة لك وخضوعا لمواعدها ثم لا تصدق. ومنه قيل: أخذت
[ 187 ]
البلاد عنوة أي هو بالقهر والإذلال: وقد يقال للأسير: الهدي، قال المتلمس يذكر طرفة ومقتل عمرو بن هند إياه بعد أن كان سجنة: [ الكامل ] كطريفة بن العبد كان هديهم ضربوا صميم قذاله بمهند وأظن المرأة إنما سميت هديا لهذا المعنى لأنها كالأسيرة عند زوجها قال عنترة: [ الوافر ] ألا يا دار عبلة بالطوي كرجع الوشم في كف الهدي وقد يكون أن يكون سميت هديا لأنها تهدى إلى زوجها، فهي هدى فعيل في موضع مفعول، فقال: هدى يريد مهدية يقال منه: هديت المرأة إلى زوجها أهديها هداء بغير ألف قال زهير: [ الوافر ] فإن تكن النساء مخبآت فحق لكل محصنة هداء بمعنى أن تهدى إلى زوجها. وليس هذا من الهدية [ في شئ، لا يقال
[ 188 ]
من الهدية ] إلا أهديت بالألف إهداء، ومن المرأة: هديت وقد زعم بعض الناس أن في المرأة لغة أخرى أيضا: أهديت والأولى أفشى في كلامهم وأكثر. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه مر هو وأصحابه وهم محرمون بظبي حاقف في ظل شجرة، فقال، يا فلان ! قف ههنا حتى يمر الناس لا يريبه أحد بشئ. قوله: حاقف يعني الذي قد انحنى وتثنى في نومه، ولهذا قيل للرمل إذا كان منحنيا: حقف، وجمعه: أحقاف ويقال في قوله تعالى " إذ أنذر قومه بالأحقاف " إنما سميت منازلهم بهذا لأنها كانت بالرمال. وأما في بعض التفسير في قوله: بالأحقاف قال: بالأرض وأما المعروف في كلام العرب فما أخبرتك قال امرؤ القيس: [ الطويل ] فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
[ 189 ]
واحد الأحقاف حقف، ومنه قيل للشئ إذا انحنى: قد احقوقف قال العجاج: [ الرجز ] مر الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا وقى نوى مهيم وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه لم يصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش. الأوقية أربعون، والنش عشرون، والنواة خمسة.
[ 190 ]
ومن النواة حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي عليه السلام رأى عليه وضرا من صفرة فقال: مهيم قال: تزوجت / امرأة من الأنصار على نواة من ذهب، قال: أولم ولو بشاة. قوله: نواة يعني خمسة دراهم، وقد كان بعض الناس يحمل معنى هذا أنه أراد قدر نواة من ذهب كانت قيمتها [ خمسة ] دراهم، ولم يكن ثم ذهب، إنما هي خمسة دراهم تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية وكما تسمى العشرون نشا وفي [ هذا ] الحديث من الفقه أنه يرد قول من قال: لا يكون الصداق أقل من عشرة دراهم، ألا ترى أن النبي عليه السلام لم ينكر عليه
[ 191 ]
ما صنع. وفيه من الفقه أيضا: أنه لم ينكر عليه الصفرة لما ذكر التزويج، وهذا مثل الحديث الآخر أنهم كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه. وقوله: مهيم، كأنها كلة يمانية معناها: ما أمرك أو ما هذا الذي أرى بك ونحو هذا من الكلام. يقال: صداق وصداق وصدقة وصدقة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان ا لرجيم. قوله: الرجس النجس زعم الفراء أنهم إذا بدأوا بالنجس ولم يذكروا الرجس فتحوا النون والجيم، وإذا بدأوا بالرجس ثم أتبعوه
[ 192 ]
النجس كسروا النون. وقوله: الخبيث المخبث، فالخبيث هو ذو الخبث في نفسه والمخبث هو الذي أصحابه وأعوانه خبثاء، وهو مثل قولهم: فلان قوي مقو، فالقوي في بدنه، والمقوى أن يكون دابته قوية قال ذلك الأحمر وكذلك قولهم: هو ضعيف مضعف، فالضعيف في بدنه، والمضعف في دابته وعلى هذا كلام العرب. وقد يكون أيضا المخبث أن يخبث غيره أي يعلمه الخبث ويفسده. وأما الحديث الآخر أنه كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. قوله: الخبث يعني الشر وأما الخبائث فإنها الشياطين. وأما الخبث بفتح الخاء والباء فما تنفى النار من ردئ الفضة والحديد ومنه الحديث المرفوع: إن الحمى تنفى الذنوب كما ينفي الكبر الخبث.
[ 193 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه بينما هو يمشي في طريق إذ مال [ إلى ] دمث فبال [ فيه ]، وقال إذا بال أحدكم فليرتد لبوله. قوله: دمث يعني المكان اللين والسهل. وقوله: فليرتد لبوله يعني أن يرتاد مكانا لينا منحدرا ليس بصلب فينتضخ عليه أو مرتفعا فيرجع إليه. وفي البول حديث آخر يقال: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح. يعني: ينظر من أين مجراها فلا يستقبلها ولكن يستدبرها كي لا ترد عليه البول وأما المخر فهو الجري يقال: مخرت السفينة تمخر مخرا إذا جرت كان الكسائي يقول ذلك، ومنه قوله تعالى " وترى الفلك
[ 194 ]
مواخر فيه " يعني جواري. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه لما رأى الشمس قد وقبت قال: هذا حين حلها. [ قوله: حين حلها ] يعني صلاة المغرب. وقوله: وقبت يعني غابت ودخلت موضعها، وأصل الوقب الدخول يقال: وقب الشئ وقوبا وقبا [ إذا دخل ] ومنه قول الله [ تبارك و ] تعالى: " ومن شر غاسق إذا وقب " وهو في التفسير: الليل إذا دخل. وفي حديث آخر أنه القمر عن عائشة قالت: أخذ النبي صلى الله
[ 195 ]
عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال: تعوذي بالله من هذا، فان هذا هو الغاسق إذا وقب. وقد يجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه يغيب، كما قال في الشمس حين وقبت يعني غابت. لظظ وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام / ألظوابيا ذا الجلال والإكرام. قوله: ألظوا [ يعني ] الزموا ذلك. والألفاظ: لزوم الشئ والمثابرة عليه يقال: ألظظت به ألظ إلظاظا، وفلان ملظ بفلان إذا كان ملازما له لا يفارقه فهذا بالظاء وبالألف في أوله وأما لططت الشئ ألطه لطا، فمعناه: سترته وأخفيته قال الأعشى [ الخفيف ]
[ 196 ]
ولقد ساءها البياض فلطت بحجاب من دوننا مصدوف ويروى: مصروف [ قال أبو عبيد ]: وقد يكون اللط في الخبر أيضا أن تكتمه وتظهر غيره، وهو من الستر أيضا ومنه قول عباد بن عمرو الذهلي: [ الكامل ] وإذا أتاني سائل لم أعتلل لألط من دون السوام حجابي
[ 197 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا الله فيه، وأما السجود فأكثروا فيه [ من ] الدعاء، فإنه قمن أن يستجاب لكم. قوله: قمن، كقولك: جدير وحري أن يستجاب لكم يقال: فلان قمن أن يفعل ذلك، وقمن أن يفعل ذلك، فمن قال: قمن أراد المصدر فلم يثن ولم يجمع ولم يؤنث، يقال: هما قمن أن يفعلا ذلك، وهم قمن أن يفعلوا ذلك وهن قمن أن يفعلن ذلك. ومن قال: قمن، أراد النعت فثنى وجمع فقال: هما قمينان وهم قمنون، ويؤنث على هذا ويجمع، وفيه لغتان يقال: هو قمن أن يفعل وقمين أن يفعل ذلك قال قيس بن الخطيم الأنصاري: [ الطويل ] إذا جاوز الإثنين سر فإنه بنث وتكثير الوشاة قمين
[ 198 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في المغازي وذكر قوما من أصحابه كانوا غزاة فقتلوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ليتني غودرت مع أصحاب نحص الجبل. والنحص: أصل الجبل وسفحه. وقوله: غودرت يعني ليتني تركت معهم شهيدا مثلهم. وكل متروك في مكان فقد غودر فيه، ومنه قوله تعالى " مال هذا الكتب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " أي لا يترك شيئا وكذلك أغدرت الشئ تركته، إنما هو أفعلت من ذلك قال الراجز: [ الرجز ] هل لك والعارض منك عائض في هجمة يغدر منها القابض
[ 199 ]
قال الأصمعي: القابض [ هو ] السائق السريع السوق، يقال: قبض يقبض قبضا إذا فعل ذلك وقوله: يغدر منها يقول: لا يقدر على ضبطها كلها من كثرتها ونشاطها حتى يغدر بعضها بتركه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في المبعث حين رأى جبريل عليه السلام قال: فجئثت منه فرقا ويقال: جثثت. قال الكسائي: المجثوث والمجؤوث جميعا المرعوب الفزع، [ قال: ] وكذلك المزؤود، وقد جئث وجث وزئد [ قال ] فأتى خديجة رحمها الله فقال: زملوني، قال: فأتت خديجة ابن عمها ورقة بن نوفل وكان نصرانيا وقد قرأ الكتب، فحدثته بذلك وقالت: إني أخاف أن يكون قد عرض له، فقال: لئن كان ما تقولين حقا إنه ليأتيه الناموس الذي كان يأتي موسى [ عليه السلام ]. قال أبو عبيد: والناموس هو صاحب سر الرجل الذي يطلعه على باطن أمره ويخصه بما يسرته عن غيره. يقال منه: نمس الرجل ينمس ن مسا، وقد نامسته منامسة إذا ساررته قال الكميت: [ الطويل ]
[ 200 ]
فأبلغ يزيد إن عرضت ومنذرا وعميهما والمستسر المنامسا فهذا من الناموس. وفي حديث آخر / في غير هذا المعنى: القاموس، وذلك قاموس البحر وهو وسطه، وذلك لأنه ليس موضع أبعد غورا في البحر منه ولا الماء [ فيه ] أشد انقماسا منه في وسطه وأصل القمس الغوص وقال ذو الرمة يذكر [ مطرا عند ] سقوط الثريا: [ الوافر ] أصاب الأرض منقمس الثريا بساحية وأتبعها طلالا أراد أن المطر كان عند سقوط الثريا وهو منقمسها، وإنما خص الثريا لأن العرب تقول: ليس شئ من الأنواء أغزر من الثريا، فأبطل الإسلام جميع ذلك وقوله: بساحية يعني أن المطر يسحو الأرض يقشرها، ومنه قيل: سحوت القرطاس، إنما هو قشرك إياه والطلال جمع طل
[ 201 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه سئل عن اللقطة فقال: احفظ عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه. قيل: فضالة الغنم قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. قيل: فضالة الإبل قال: مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها. أما قوله: احفظ عفاصها ووكاءها، فإن العفاص هو الوعاء الذي يكون فيه النفقة، إن كان من جلد أو خرقة أو غير ذلك، ولهذا سمي الجلد الذي تلبسه رأس القارورة: العفاص، لأنه كالوعاء [ لها ]، وليس هذا بالصمام، إنما الصمام الذي يدخل في فم القارورة فيكون سدادا لها. وقوله: ووكاءها يعني الخيط الذي تشد به، يقال: [ منه ] أوكيتها إيكاء وعفصتها عفصا إذا شددت العفاص عليها، وإن أردت أنك فعلت لها عفاصا قلت: أعفصتها إعفاصا.
[ 202 ]
وإنما أمر الواجد لها أن يحفظ عفاصها ووكاءها ليكون ذلك علامة للقطة، فإن جاء من يتعرفها بتلك الصفة دفعت إليه، فهذه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللقطة خاصة، لا يشبهها شئ من الأحكام أن صاحبها يستحقها بلا بينة ولا يمين ليس إلا بالمعرفة بصفتها. وأما قوله في ضالة الغنم: هي لك أو لأخيك أو للذئب، فإن هذه رخصة منه في لقطة الغنم، يقول: إن لم تأخذها أنت أخذها إنسان غيرك أو أكلها الذئب، فخذها. حذا سقى ميت أتى قال أبو عبيد: ليس هذا عندنا فيما يوجد منها عند قرب الأمصار ولا القرى، إنما هذا إن توجد في البراري والمفاوز التي ليس قربها أنيس، لأن تلك التي توجد قرب القرى والأمصار لعلها تكون لأهلها قال: فهذا عندي أصل لكل شئ يخاف عليه الفساد مثل الطعام والفاكهة مما إن ترك في الأرض ولم يلتقط فسد أنه لا بأس بأخذه. وأما قوله في ضالة الإبل: مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، فإنه لم يغلظ في شئ من الضوال تغليظه فيها. وبذلك أفتى عمر بن الخطاب ثابت بن الضحاك وكان يقال: وجد
[ 203 ]
بعيرا فسأل عمر فقال: اذهب إلى الموضع الذي وجدته فيها فأرسله. [ و ] قوله: معها حذاؤها وسقاؤها يعني بالحذاء أخفافها، يقول: إنها تقوى على السير وقطع البلاد. وقوله: سقاؤها يعني أنها تقوى على ورود المياه تشرب، والغنم لا يقوى على ذلك. وهذا الذي جاء في الإبل من التغليظ هو تأويل قوله في حديث آخر: ضالة المسلم حرق النار، لما قال له رجل: يا رسول الله ! إنا نصيب هوامي الإبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضالة المؤمن حرق النار. وهذا مثل حديثه / الآخر: لا يأوي الضالة إلا ضال. وبعض الناس يحمل معنى هذين الحديثين على اللقطة ويقول: وإن عرفها فلا تحل له أيضا. وأما أنا فلا أرى اللقطة من الضالة في شئ لأن الضالة لا يقع معناها إلا على الحيوان خاصة التي هي تضل. وأما اللقطة فإنه يقال فيها: سقطت أو ضاعت، ولا يقال: ضلت ومما
[ 204 ]
يبين ذلك أنه عليه السلام رخص في أخذ اللقطة على أن يعرفها في الإبل على حال. وكذلك البقر والخيل والبغال والحمير وكل ما كان منها يستقل بنفسه فيذهب فهو داخل في حديث النبي عليه السلام: ضالة المسلم حرق النار، وفي قوله: لا يأوي الضالة إلا ضال. وأما حديثه في اللقطة ما كان من طريق ميتاء فإنه يعرفها سنة. فالميتاء الطريق العامر المسلوك. ومنه حديثه عليه السلام حين توفي ابنه إبراهيم فبكى عليه وقال: لولا أنه وعد حق وقول صديق وطريق ميتاء لحزنا عليك يا إبراهيم أشد من حزننا. فقوله: طريق ميتاء، هو الطريق ويعني بالطريق ههنا الموت أي أنه طريق يسلكه الناس كلهم.
[ 205 ]
وبعضهم يقول: طريق مأتي. فمن قال ذلك أراد [ أنه ] يأتي عليه الناس فيجعله من الإتيان وكلاهما معناه جائز. وأما قوله في الحديث الآخر: أشهد ذا عدل أو ذوي عدل ثم لا يكتم ولا يغيب فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء. فهذا في اللقطة خاصة دون الضوال من الحيوان. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد. قوله: بحبوحة الجنة يعني وسط الجنة، وبحبوحة كل شئ وسطه وخياره وقال جرير بن الخطفي: [ البسيط ]
[ 206 ]
قومي تميم هم القوم الذين هم ينفون تغلب عن بحبوحة الدار ومنه يقال: قد تبحبحت في الدار إذا توسطتها وتمكنت منها. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه ضحى بكبشين أملحين. قال الكسائي وأبو زيد وغيرهما: قوله: أملحين، الأملح الذي فيه بياض وسواد ويكون البياض أكثر. ومنه الحديث الآخر: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتي بالموت كأنه كبش أملح فيذبح على الصراط ويقال: خلود لا موت وكذلك كل شعر وصوف ونحوه كان فيه بياض وسواد فهو أملح قال الراجز: [ الرجز ] لكل دهر قد لبست أثوبا حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا
[ 207 ]
أملح لا لذا ولا محببا وحديثه الآخر في الأضاحي أنه نهى أن يضحى بالأعضب القرن والأذن. قوله: الأعضب، هو المكسور القرن ويروى عن سعيد بن المسيب أنه قال: هو النصف فما فوقه، وبهذا كان يأخذ أبو يوسف في الأضاحي. وقال أبو زيد: فإن انكسر القرن الخارج فهو أقصم، والأنثى: قصماء فإذا انكسر الداخل فهو أعضب. قصا نقى قال أبو عبيد: وقد يكون العضب في الأذن أيضا، فأما المعروف ففي القرن قال الأخطل: [ الكامل ] إن السيوف غدوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب والأنثى عضباء وأما ناقة النبي عليه السلام التي كانت تسمى: العضباء، فليس من هذا، إنما ذلك اسم [ لها ] سميت به. وأما
[ 208 ]
القصواء ممدود، فإنها المشقوقة الأذن وقال أبو زيد: هي المقطوعة طرف الأذن والذكر منها مقصى ومقصو وهذا على غير قياس قاله الأحمر، وكان القياس أن يقال: أقصى مثل عشوى وأعشى.
[ 209 ]
وأما / حديثه الآخر الذي [ نهى عن ] العجفاء التي لا تنقى في الأضاحي، فإنه يقول: ليس بها نقي من هزالها، وهو المخ. يقال منه: ناقة منقية إذا كانت ذات نقي قال الأعشى: [ الكامل ] حاموا على أضيافهم فشووا لهم من لحم منقية ومن أكباد و [ قال أبو ] عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه لما أتاه ماعز بن مالك فأقر عنده بالزنا رده مرتين ثم أمر برجمه فلما ذهبوا به قال: يعمد أحدهم إذا غزا الناس فينب كما ينب التيس يخدع إحداهن بالكثبة لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا نكلت به. وقيل: رده أربع
[ 210 ]
مرات. والكثبة: القليل من اللبن، قال أبو عبيد: والكثبة عندنا كل شئ مجتمع وهو مع اجتماعه قليل من لبن كان أو طعام أو غيره، وجمع الكثبة: كثب [ و ] قال ذو الرمة يذكر أرطاة عندها بعر الصيران فقال: [ البسيط ] ميلاء من معدن الصيران قاصية أبعارهن على أهدافها كثب فالصيران جمع جماعات البقر، واحدها صوار وصوار أيضا. والأهداف جوانبها، واحدها هدف وهو المشرف من الرمل، والكثب جمع كثبة يقول: على كل هدف كثبة من أبعارها. وفي هذا الحديث من الفقه أنه رده أربع مرات كما روي عن سعيد بن جبير وهو المحفوظ عندنا عن النبي عليه السلام والمعمول به أنه لا يصدق على إقراره حتى يقر أربع مرات ثم يقام عليه الحد.
[ 211 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قيل له: إن صاحبا لنا أوجب، فقال: مروه فليعتق رقبة. قوله: أوجب يعني أنه ركب كبيرة أو خطيئة موجبة يستوجب بها النار، يقال في ذلك للرجل: قد أوجب وكذلك الحسنة يعملها توجب له الجنة فيقال لتلك الحسنة وتلك السيئة: موجبة. ومنه حديثه في الدعاء: اللهم إني أسألك موجبات رحمتك. ومنه حديث إبراهيم: كانوا يرون المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة ذات الريح والمطر أنها موجبة. قال أبو عبيد: وهذا من أعجب ما يجئ في الكلام أن يقال للرجل: قد أوجب، وللحسنة والسيئة: قد أوجبت وهذا مثل قولهم: قد تهيبني
[ 212 ]
الشئ، وقد تهيبت الشئ بمعنى واحد وقال الشاعر وهو ابن مقبل: [ البسيط ] وما تهيبني الموماة أركبها إذا تجاوبت الأصداء بالسحر أراد: وما أتهيبها. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن امرأة أتته فقالت: إن ابني هذا هذا به جنون يصيبه عند الغداة والعشاء، قال: فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، فثع ثعة فخرج من جوفه جرو أسود فسعى. قوله: فثع ثغة - يعني قاء قيئة، يقال للرجل: قد ثع ثعا، وقد
[ 213 ]
ثععت يا رجل إذا قاء. ويقال أيضا للقئ: قد أتاع الرجل بالتاء غير مهموز إتاعة إذا قاء، فهو متيع، والقئ متاع قال القطامي وذكر الجراحات فقال: [ الوافر ] تمج عروقها علقا متاعا وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين قدم عليه وفد هوازن يكلمونه في سبي أوطاس أو حنين، فقار رجل من بني سعد بن بكر: يا محمد ! إنا لو كنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منزلك هذا منا لحفظ ذلك لنا، وأنت خير المكفولين، فاحفظ ذلك. / قال الأصمعي: قوله: ملحنا يعني أرضعنا، وإنما قال السعدي هذه المقالة لأن رسول الله عليه السلام كان مسترضعا فيهم. قال الأصمعي: والملح هو الرضاع، وأنشدنا لأبي الطمحان وكانت له إبل
[ 214 ]
يسقي قوما من ألبانها ثم أنهم أغاروا عليها فأخذوها، فقال: [ الطويل ] وإني لأرجو ملحها في بطونكم وما بسطت من جلد أشعث أغبرا يقول: أرجو أن تحفظوا ما شربتم من ألبانها وما بسطت من جلودكم بعد أن كنتم مهازيل فسمنتم وانبسطت له جلودكم بعد تقبض وأنشدنا لغيره: [ المتقارب ] جزى الله ربك رب العبا د والملح ما ولدت خالده يعني بالملح الرضاع والرضاعة في كلام العرب بالفتح لا اختلاف فيها، وإذا لم يكن فيها الهاء قيل: الرضاع والرضاع بالفتح والكسر. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إذا وقع الذباب
[ 215 ]
في الطعام وفي غير هذا الحديث: في الشراب فامقلوه فإن في أحد جناحيه سما (سما) وفي الآخر شفاء، وإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء. قوله: امقلوه يقول: اغمسوه في الطعام أو الشراب ليخرج الشفاء كما أخرج الداء، [ و ] المقل: هو الغمس. يقال للرجلين: هما يتماقلان إذا تغاطا في الماء. والمقل في غير هذا النظر، يقال: ما مقلته عيني منذ اليوم. والمقلة [ أيضا ] الحصاة التي يقدر بها الماء، وذلك إذا قل الماء فيشربونه بالحصص، كأنه قال: تلقى الحصاة في الإناء ثم
[ 216 ]
يصب عليها الماء حتى يغمرها فيشربونه، فيكون [ ذلك ] حصة لكل إنسان، وذلك في المفاوز. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه كان إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر وتغير، قالت عائشة رضي الله عنها: فذكرت ذلك له، فقال: [ و ] ما يدرينا فعله كقوم ذكرهم الله تعالى " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم " إلى قوله " عذاب أليم ". قوله: مخيلة، المخيلة: السحابة، [ و ] جمعها مخايل، و [ قد ] يقال للسحاب أيضا: الخال، فإذا أرادوا أن السماء [ قد ] تغيمت قالوا: قد أخالت، فهي مخيلة بضم الميم، فإذا أرادوا السحابة نفسها
[ 217 ]
قالوا: هذه مخيلة _ بالفتح. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام إن رجلا قال: يا رسول الله: إني أعمل العمل أسره فإذا أطلع عليه سرني، فقال: لك أجران: أجر السر وأجر العلانية. قال ابن مهدي: وجهه أنه إنما يسر به إذا اطلع عليه ليستن به من بعده. قال أبو عبيد: يعني أنه ليس يسر به ليزكى ويثنى عليه خير، وليس للحديث عندي وجه إلا ما قال عبد الرحمن لأن الآثار كلها تصدقه. ومن ذلك الحديث المرفوع: من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها. أفلست ترى أن الأجر الثاني إنما لحقه بأن عمل بسنته ومما يوضح ذلك حديث آخر أن رجلا قام من الليل يصلي فرآه جار له فقام يصلي فغفر للأول يعني لأن هذا استن به. وقد حمل
[ 218 ]
بعض الناس هذا الحديث على أنه إنما يوجر الأجر الثاني لأنه يفرح بالتزكية، والمدح وهذا من شر ما حمل عليه الحديث، ألا ترى أن الأحاديث كلها إنما جاءت بالكراهة لأن يزكي الرجل في وجهه ومن ذلك حديث النبي عليه السلام أنه سمع رجلا يثني على آخر فقال: قطعت ظهره لو سمعها ما أفلح. ومن ذلك قوله: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب. ومنه حديث عمر حين كم (كم) وهو يثني عليه وهو جريح، فقال: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما في الأرض جميعا لافتديت به من هول المطلع. وفي هذا من الحديث ما لا يحصى / وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال: استعيذوا
[ 219 ]
بالله من طمع يهدي إلى طبع. قوله: إلى طبع، الطبع الدنس والعيب، وكل شين في دين أو دنيا فهو طبع يقال منه: رجل طبع. ومنه حديث عمر بن عبد العزيز: لا يتزوج من الموالي في العرب إلا الأشر البطر، ولا يتزوج من العرب في الموالي إلا الطمع الطبع وقال الأعشى يمدح هوذة بن علي الحنفي: [ البسيط ] له أكاليل بالياقوت فصلها صواغها لا ترى عيبا ولا طبعا بذعر وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه مر على أصحاب
[ 220 ]
الدركلة فقال: خذوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة، قال: فبيناهم كذلك إذ جاء عمر فلما رأوه ابذعروا. قوله: ابذعروا يعني تفرقوا وفروا، ويقال: ابذعر القوم ابذعرارا، [ و ] قال الأخطل: [ الطويل ] فطارت شلالا وابذعرت كأنها عصابة سبي خاف أن تتقسما والذي يراد من هذا الحديث الرخصة في النظر إلى اللهو، وليس
[ 221 ]
في هذا حجة للنظر إلى [ الملاهي المنهي ] عنها من المزاهر والمزامير إنما هذه لعبة للعجم. قال أبو عبيد: اللعبة الشئ الذي يلعب به الصبيان، واللعبة: اللون من اللعب. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه نهى عن ذبائح الجن. قال: وذبائح الجن أن يشترى الدار أو يستخرج العين وما أشبه ذلك فيذبح لها ذبيحة للطيرة. قال أبو عبيد: وهذا التفسير في الحديث، ومعناه أنهم يتطيرون إلى هذا الفعل مخافة أنهم إن لم يذبحوا ويطعموا أن يصيبهم فيها شئ من الجن يؤذيهم، فأبطل النبي عليه السلام ذلك ونهى عنه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا يوردن ذو عاهة على مصح.
[ 222 ]
قوله: ذو عاهة يعني الرجل [ يصيب ] إبله الحرب أو الداء، فقال: لا يوردنها على مصح، وهو الذي إبله وماشيته صحاح [ بريئة من العاهة ]. وقد كان بعض الناس يحمل هذا الحديث على أن النهي فيه للمخافة على الصحيحة من ذوات العاهة أن تعديها، وهذا شر ما حمل الحديث عليه لأنه رخصة في التطير وكيف ينهى النبي عليه السلام عن هذا التطير وهو يقول: الطيرة شرك ويقول: لا عدوى ولا هامة، في آثار عنه كثيرة. [ قال ] ولكن وجهه عندي والله أعلم أنه خاف أن ينزل بهذه الصحاح من أمر الله ما نزل بتلك فيظن المصح أن تلك أعدتها فيأثم في ذلك ألا تراه يقول في حديث آخر وقال له
[ 223 ]
أعرابي: النقبة تكون بمشفر البعير فتجرب له الإبل كلها، قال: فما أعدى الاول فهذا مفسر لذلك الحديث. قال: وقد بلغني عن مالك في حديث له رواه في هذا فقالوا: وما ذاك يا رسول الله قال: إنه أذى. قال أبو عبيد: ومعنى الأذى عندي المأثم أيضا لما ظن من العدوى. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: يأتي على الناس زمان يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع [ و ] خير الناس يومئذ مؤمن بين كريمين. وقوله: بين كريمين، قد أكثر الناس فيه، فمن قائل يقول: بين الحج والجهاد، وقائل يقول: بين فرسين يغزو عليهما، وآخر يقول: بين بعيرين يستقي عليهما ويعتزل أمر الناس وكل هذا له وجه حسن. قال [ أبو عبيد ]: ولكني لم أجد أول الحديث يدل على هذا، ألا تراه يقول: [ يكون ] أسعد الناس / بالدنيا لكع بن لكع وهو عند العرب العبد أو اللئيم. ربب قال أبو عبيد: ولكني أرى وجهه:
[ 224 ]
بين أبوين مؤمنين كريمين، فيكون قد اجتمع له الإيمان والكرم فيه وفي أبويه. ومما يصدق هذا الحديث الآخر أنه قال: من أشراط الساعة أن يرى رعاء الغنم رؤوس الناس، وأن يرى العراة الجوع يتبارون في البنيان، وأن تلد المرأة ربها أو ربتها. قوله: ربها أو ربتها يعني الإماء اللواتي يلدن لمواليهن وهم ذوو أحساب فيكون ولدها كأبيه في الحسب وهو ابن أمة.
[ 225 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: من سمع الناس بعلمه سمع الله به سامع خلقه وحقره وصغره. قال أبو زيد [ الأنصاري ]: يقال: سمعت بالرجل تسميعا إذا نددت به وشهرته وفضحته. ورواه بعضهم: سمع الله به أسامع خلقه. فإن كان هذا محفوظا فإنه أراد جمع السمع أسمع، ثم جمع الأسمع أسامع يريد أن الله تعالى يسمع أسامع الناس بهذا الرجل يوم القيامة. قال أبو عبيد: ومن قال: سامع [ خلقه ] جعله من نعت الله تبارك وتعالى. وقال [ أبو عبيد ]: أسامع [ خلقه ] أجود وأحسن في المعنى. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين استأذن عليه أبو سفيان فحجبه ثم أذن له، فقال: ما كدت تأذن لي حتى تأذن لحجارة الجلهمتين، فقال رسول الله عليه السلام: يا با سفيان ! أنت كما قال القائل:
[ 226 ]
كل الصيد في بطن الفرا أو قال: في جوف الفرا شك أبو عبيد. قال الأصمعي: الفرأ مقصور مهموز، قال: وهو حمار الوحش، قال: وجمع الفرأ فراء مهموز ممدود وأنشدنا في نعت الحرب: [ الطويل ] بضرب كآذان الفراء فضوله وطعن كإيزاغ المخاض تبورها أراد أن الضرب بالسيف يقع في الأجساد فيكشط عنها اللحم فيبقى متدليا كآذان الحمر، يقال: كشط يكشط ويكشط لغتان. وقوله: كإيزاغ المخاض يعني قذف الإبل بأبوالها فهي توزغ به، [ و ] ذلك إذا كانت حوامل، شبه الطعن به. وقوله: تبورها، تختبرها أنت. وإنما مذهب هذا الحديث [ أنه أراد ] عليه السلام [ أن ] يتألفه بهذا الكلام وكان من المؤلفة قلوبهم، فقال: أنت في الناس كحمار الوحش في الصيد يعني أنها كلها دونه.
[ 227 ]
وقول أبي سفيان: حجارة الجلهمتين أراد جانبي الوادي، والمعروف في كلام العرب الجلهتان قال الأصمعي: والجلهة ما استقبلك من حروف الوادي، وجمعها: جلاه قال لبيد: [ الكامل ] فعلا فروع الأيهقان وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها وقال الشماخ: [ الزجر ] كأنها وقد بدا عوارض والليل بين قنوين رابض بجلهة الوادي قطا نواهض [ قال: ] ولم أسمع بالجلهمة إلا في هذا الحديث وما جاءت إلا ولها
[ 228 ]
أصل، والمعروف في هذا جلهة والجمع جلاه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن رجلا تفوت على أبيه في ماله، فأتى النبي عليه السلام أو أبا بكر أو عمر فذكر ذلك له، فقال: اردد على ابنك [ ماله ]، فإنما هو سهم من كنانتك. قوله: تفوت، مأخوذ من الفوت، إنما هو تفعل منه كقولك من القول: تقول ومن الحول: تحول ومعناه أن الابن فات أباه بمال نفسه فوهبه وبذره ومن ذلك قال: اردد على ابنك فإنما هو سهم
[ 229 ]
من كنانتك، يقول: ارتجعه من موضعه فرده إلى ابنك فإنه ليس له أن يفتات عليك بماله. ومنه حديث عبد الرحمن بن أبي بكر حين زوجت عائشة ابنته من المنذر بن الزبير وهو غائب فأنكر ذلك وقال: أمثلي يفتات عليه في بناته أي يفات بهن وهو غير مهموز، وكذلك كل من أحدث دونك شيئا فقد فاتك به قال معن بن أوس يعاتب امرأته: [ الوافر ] فإن الصبح منتظر قريب وإنك بالملامة لن تفاتي وفي [ هذا ] الحديث من الفقه أن الولد وماله من كسب الوالد. ومما يصدقه الحديث الآخر عن النبي عليه السلام أن أفضل ما أكل لرجل من كسبه وأن ولده من كسبه. وكان سفيان بن عيينة يحتج في ذلك بآيات من القرآن: قوله تعالى " ليس على الأعمى حرج
[ 230 ]
ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم " حتى ذكر القرابات كلها إلا الولد فقال: ألا تراه إنما ترك ذكر الولد لأنه لما قال " أن تأكلوا من بيوتكم " فقد دخل فيه مال الولد. قال سفيان: ومنه قوله تعالى " إني نذرت لك ما في بطني محررا " قال: فهل يكون النذر إلا فيما يملك العبد. قال أبو عبيد: فهذا التأويل حجة لمن قال: مال الولد لأبيه، مع الحديث الذي ذكرنا عن النبي عليه السلام. وأما حجة من قال: كل أحد أحق بماله، فإنه يحتج بالفرائض، يقول: ألا ترى لو أن رجلا مات وله أب وورثة لم يكن لأبيه إلا السدس كما سماه الله ويكون سائر المال لورثته، فلو كان أبوه يملك مال ابنه لحازه كله ولم يكن لورثة الابن شئ من ولد ولا غيره، ومع هذا حديث يروى عن النبي عليه السلام: كل أحد أحق بماله من والده وولده والناس أجمعين. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن رجلا أتاه
[ 231 ]
فقال: يا رسول الله ! [ إن أمي افتلتت ] نفسها فماتت، ولم توص أفأتصدق عنها قال: نعم. قوله: افتلتت نفسها يعني ماتت فجأة لم تمرض فتوصي ولكنها أخذت فلتة وكذلك كل أمر فعل على غير تمكث وتلبث فقد افتلت، والاسم منه الفلتة. ومنه قول عمر في بيعة أبي بكر: إنها كانت فتلة، فوقى الله شرها. إنما معناه: البغتة، وإنما عوجل بها مبادرة لانتشار الأمر والشقاق، حتى [ لا ] يطمع فيها من ليس لها بموضع، وكانت تلك الفلتة هي التي
[ 232 ]
وقى الله بها الشر المخوف وقد كتبناه في غير هذا الموضع. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن رجلين اختصما إليه في مواريث وأشياء قد درست فقال النبي عليه السلام: لعل بعضكم أن يكون [ ألحن بحجته من بعض، فمن ] قضيت له بشئ من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار، فقال كل واحد من الرجلين: يا رسول الله ! حقي هذا لصاحبي، فقال: لا، ولكن اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه. قوله: لعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض يعني أفطن لها وأجدل، واللحن: الفطنة بفتح الحاء. ومنه قول عمر بن عبد العزيز: عجبت لمن لاحن الناس، كيف لا يعرف جوامع الكلم. يقال منه: رجل لحن إذا كان فطنا قال لبيد يذكر رجلا كاتبا: [ الكامل ]
[ 233 ]
متعود لحن يعيد بكفه قلما على عسب ذبلن وبان واللحن في أشياء سوى هذا، منه: الخطأ في الكلام وهو بجزم الحاء، يقال: قد لحن الرجل لحنا ومنه قول عمر بن الخطاب قال: تعلموا اللحن والفرائض والسنن كما تعلمون القرآن. ومن اللحن الترجع في القراءة بالألحان ومنه حديث أبي العالية: كنت أطوف مع ابن عباس وهو يعلمني لحن الكلام، وإنما سماه لحنا لأنه إذا بصره الصواب فقد بصره اللحن. ومن اللحن أيضا قوله تعالى " ولتعرفنهم في لحن القول " فكان تأويله والله أعلم في فحواه وفي معناه.
[ 234 ]
ومذهبه في هذا الحديث من الفقه قوله: اذهبا فتوخيا يقول : توخيا الحق، فكأنه قد أمر الخصمين الآن بالصلح. وقوله: استهما أي اقترعا فهذا حجة لمن قال بالقرعة في الأحكام، قال الله عز وجل في قصة يونس عليه السلام / " فساهم فكان من المدحضين " و [ قال ] في قصة مريم عليها السلام " إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " وكل هذا حجة في القرعة. وفي الحديث من الفقه أيضا أنه لا يحل للمقضي له حرام بأن قضى له القاضي بذلك، ألا تراه يقول: من قضيت له بشئ من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار ومما يبين ذلك حكمه في ابن أمة زمعة حين قضى به للفراش فجعله أخا سودة ابنة زمعة في القضاء ثم أمرها أن تحتجب منه.
[ 235 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: المرء أحق بصقبه. [ قوله: أحق بصقبه ] يعني القرب. ومنه حديث علي رحمه الله كأنه إذا أتي بالقتيل وقد وجد بين القريتين حمله على أصقب القريتين إليه. قال ابن قيس الرقيات: [ المنسرح ] كوفية نازح محلتها لا أمم دارها ولا صقب قوله: الأمم الموضع القاصد القريب، [ ومنه قيل للشئ إذا كان مقاربا: هو أمر مؤام ]: والصقب أقرب منه. و [ إنما ] معنى الحديث في قوله: المرء أحق بصقبه، أن الجار أحق بالشفعة إذا كان جارا ولم يسمع في الآثار بحديث أثبت في الشفعة للجار من هذا، وحديث آخر عن النبي عليه السلام أنه قضى بالجوار.
[ 236 ]
وسائر الأحاديث أن الشفعة للشريك وهذان الحديثان حجة لمن قضى للشريك بالشفعة. وقد يجوز أن يقال ذلك للشريك في الدار أيضا: جار، وهو أصقب الجيران إليك. ففيه حجة لمن قال: الشفعة للشريك دون الجار، وحجة أيضا لمن قال: الشفعة للجار، لأن المعنى يحتملهما. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجسا. قوله: قلتين يعني من هذه الحباب العظام، واحدتها قلة، وهي معروفة بالحجاز، قال: وبعضهم يقول: القلة العظيمة، وقد تكون بالشام،
[ 237 ]
وجمعها قلال. وقال بعضهم: إنها الجرار، وهو شبيه ببيت الأخطل لأن الحمار لا يحمل حبين، فهذا تأويل قلتين وقال حسان بن ثابت يرثي رجلا: [ الطويل ] وأقفر من حضاره ورد أهله وقد كان يسقى في قلال وحنتم وقال الأخطل: [ الكامل ] يمشون حول [ مكدم قد كدحت ] متنيه حمل حناتم وقلال [ قال أبو عبيد: ] فهذا تأويل القلتين، وهو يرد قول من قال في الماء: إذا بلغ كرا لم يحمل نجسا، وهو يروى عن ابن سيرين. كرر قال أبو عبيد: وسمعت أبا يوسف يفسر الكر ما ينجس من الماء مما لا ينجس قال: هو
[ 238 ]
أن يكون الماء في حوض عظيم أو غدير أو ما أشبه ذلك فيبلغ من كثرته [ أنه ] إذا حرك منه جانب لم يضطرب الجانب الآخر، فهذا عنده لا يحمل نجسا، فإذا بلغ اضطرابه إلى الجانب الآخر، فهذا قد ينجس ولا أعلمني إلا قد سمعت محمد بن الحسن [ يقول ] مثله أو نحوه، فحسبتهما يذهبان من الكر إلى أن الماء يكر بعضه على بعض فحدثت به الأصمعي فأنكر أن يكون هذا من كلام العرب أن يقال: قد بلغ الماء كرا إذا كان يكر عليك، وذهب الأصمعي بالكر إلى المكيال الذي يكال به، كأنه يقول: إذا كان فيما يحزره ويقدره مثل ذلك، وهذا عندي وجه الحديث والله أعلم. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: من كانت له إبل أو بقر أو غنم لم يؤد زكاتها بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها. قوله: قال الأصمعي: القاع [ المكان ] المستوي ليس
[ 239 ]
فيه ارتفاع ولا انخفاض، قال أبو عبيد: وهي القيعة [ والقيعة: الجماع ] أيضا. قال الله [ تبارك و ] تعالى: " كسراب بقيعة " و [ يقال: ] القيعة / جمع قاع. والقرقر: المستوي أيضا، يقال: قاع قرقر وقرق وقرقوس _
[ 240 ]
أي مستو قال عبيد بن الأبرص يصف الإبل: [ البسيط ] هدلا مشافرها بحا حناجرها تزجي مرابيعها في قرقر ضاحي [ المرابيع ما ولدت في أول النتاج في الربيع ] [ والقرقر: المكان المستوي. والضاحي: الظاهر البارز للشمس ]. وقد روي في بعض الحديث: بقاع قرق، وهو مثل القرقر [ في المعنى ]. وأنشدنا الأحمر في سير الإبل: [ الرجز ] كأن أيديهن بالقاع القرق أيدي جواز يتعاطين الورق شبه [ بياض أيدي ] الإبل ببياض أيدي الجواري. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا تصروا الإبل
[ 241 ]
والغنم فمن اشترى مصراة فهو بأحد النظرين، إن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر. قوله: مصراة يعني الناقة أو البقرة أو الشاة التي قد صرى بها اللبن في ضرعها يعني حقن فيه وجمع أياما فلم تحلب أياما وأصل التصرية حبس الماء وجمعه، يقال منه: صريت الماء وصريته، قال الأغلب: [ الرجز ] رأت غلاما قد صرى في فقرته ماء الشباب عنفوان شرته ويقال: هذا ماء صرى مقصور قال عبيد [ بن الأبرص ]: [ البسيط ]
[ 242 ]
يا رب ماء صرى وردته سبيله خائف جديب ويقال منه: سميت المصراة كأنها مياه اجتمعت وكأن بعض الناس يتأول من المصراة أنه من صرار الإبل، وليس هذا من ذلك في شئ، لو كان من ذاك لقال: مصرورة، وما جاز أن يقال ذلك في البقر والغنم، لأن الصرار لا يكون إلا للإبل. وفي حديث آخر أنه نهى عن بيع المحفلة وقال: إنها خلابة. فالمحفلة هي المصراة بعينها. وعن ابن مسعود قال: من اشترى محفلة فردها فليرد معها صاعا. خلب وقال أبو عبيد: وإنما سميت محفلة لأن اللبن قد حفل في ضرعها واجتمع، وكل شئ كثرته فقد حفلته، ومنه قيل: قد احتفل القوم إذا اجتمعوا كثروا، ولهذا سمي محفل القوم، وجمع المحفل محافل.
[ 243 ]
وقوله: [ لا ] خلابة يعني الخداع، يقال منه: خلبته أخلبه خلابة إذا خدعته. ومنه حديث النبي عليه السلام أن رجلا كان يخدع في البيع فقال له [ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بايعت فقل: لا خلابة. وفي حديث [ المصراة والمحفلة ] أصل لكل من باع سلعة وقد زينها بالباطل أن البيع مردود إذا علم به المشتري، [ لأنه غش وخداع ]. وقوله: ويرد معها صاعا، كأنه إنما جعله قيمة لما نال المشتري من اللبن، وكان أبو يوسف [ يقول: إنما ] عليه القيمة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال: مالي أراكم تدخلون علي قلحا
[ 244 ]
قوله: قلحا، الواحد منهم: أقلح، والمرأة قلحاء، وجمعها قلح والاسم منه: القلح قال الأعشى يذم قوما [ و ] يصفهم بالدرن وقلة التنظف: [ الرمل ]. قد بنى اللؤم عليهم بيته وفشا فيهم مع اللؤم القلح وهي صفرة تكون في الأسنان ووسخ يركبها من طول ترك السواك. ومعنى هذا الحديث أنه حثهم على السواك وقال: تدخلون علي غير مستاكين
[ 245 ]
حتى صار ذلك كالقلح في أسنانكم. [ قال أبو عبيد ]: ومنه حديثه الآخر أن الناس استبطأوا الوحي فقال رسول الله عليه السلام: وكيف لا يبطئ وأنتم لا تسوكون أفواهكم ولا تقلمون أظفاركم ولا تنقون براجمكم كيل وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن رجلا أتاه وهو يقاتل العدو فسأله سيفا يقاتل به فقال له: فلعلك إن أعطيتك أن تقوم في الكيول، فقال: لا، فأعطاه سيفا فجعل يقاتل به و [ هو ] يرتجز ويقول: [ الرجز ]
[ 246 ]
إني امرؤ عاهدني خليلي أن لا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول فلم يزل يقاتل، حتى قتل. قوله الكيول يعني مؤخر الصفوف، وسمعته من عدة من أهل العلم، ولم أسمع هذا الحرف إلا في هذا الحديث. / وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال للنساء: إنكن أكثر أهل النار، وذلك لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير.
[ 247 ]
قوله: تكفرن العشير يعني الزوج، سمي عشيرا لأنه يعاشرها وتعاشره. [ و ] قال الله [ تبارك و ] تعالى " لبئس المولى ولبئس العشير " وكذلك حليلة الرجل هي امرأته، وهو حليلها، سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحال صاحبه يعني أنهما يحلان في منزل واحد، وكذلك كل من نازلك أو جاورك فهو حليلك، وقال الشاعر: [ الوافر ] ولست بأطلس الثوبين يصبي حليلته إذا هدأ النيام فهو ههنا لم يرد بالحليلة امرأته، لأنه ليس عليه بأس أن يصبي أمرأته، وإنما أراد جارته لأنها تحاله في المنزل. ويقال أيضا: إنما سميت الزوجة حليلة لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. وكذلك الخليل سمي خليلا لأنه يخال صاحبه من الخلة وهي الصداقة، يقال منه: خاللت الرجل خلالا ومخالة ومنه قول امرئ القيس:
[ 248 ]
ولست بمقلي الخلال ولا قالي يريد بالخلال المخالة. ومنه الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال: إنما المرء بخليله أو [ قال ]: على دين خليله شك أبو عبيد فلينظر امرؤ من يخال. [ قال ]: وكذلك القعيد من المقاعدة، والشريب والأكيل من المشاربة والمواكلة، وعلى هذا كل هذا الباب. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين خرج هو وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة من مكة فمرا بسراقة بن مالك بن جعشم فقال: هذان فر قريش، ألا أرد على قريش فرها قوله: فر قريش يريد الفارين من قريش، يقال منه: رجل فر ورجلان فر ورجال فر لا يثنى ولا يجمع. قال أبو ذؤيب يصف
[ 249 ]
صائدا أرسل كلابا على ثور فحمل عليها الثور ففرت منه فرماه الصائد ليشغله عن الكلاب فقال: [ الكامل ] فرمى لينقذ فرها فهوى له سهم فأنفذ طرتيه المنزع يعني السهم أنقذ طرتيه، وهما جانباه. وفي حديث سراقة أنه طلبهما فرسخت قوائم دابته في الأرض فسألهما أن يخليا عنه فخرجت قوائمها ولها عثان. قوله عثان أصله الدخان وجمع العثان عواثن، وجمع الدخان دواخن، فهذا جمع على غير قياس ولا نعلم [ في الكلام شيئا يشبههما ]. وإنما أراد بقوله: ولها عثان الغبار، شبه الغبار غبار
[ 250 ]
قوائمها بالدخان. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في قوله تعالى: " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " [ قال ]: كان بين حيين من العرب قتال وكان لأحد الحيين طول على الآخرين، وقالوا: لا نرضى إلا أن يقتل بالعبد [ منا ] الحر منهم وبالمرأة الرجل، قال: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتباءوا. مثل يتباعوا، وقيل: يتباوأوا. قال أبو عبيد: هو عندي يتباوأوا مثل يتقاولوا. وفي
[ 251 ]
حديث [ آخر ] أن النبي عليه السلام قال: الجراحات بواء يعني [ أنها ] متساوية في القصاص، وأنه لا يقتص للمجروح إلا من جارحه الجاني عليه [ بعينه ]، وأنه مع هذا لا يؤخذ إلا مثل جراحته سواء فذلك البواء قالت ليلى الأخيلية في مقتل توبة بن الحمير: [ الطويل ] فإن تكن القتلى بواء فإنكم فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر ويقال منه: قد باء فلان بفلان إذا قتل به وهو يبوء به وأنشدنا الأحمر لرجل قتل قاتل أخيه فقال: [ الطويل ] فقلت له بؤ بامرئ لست مثله وإن كنت قنعانا لمن يطلب الدما قال: يقول: أنت وإن كنت في حسبك مقنعا لكل من طلبك بثأره
[ 252 ]
فلست مثل أخي. وإذا أقص السلطان أو غيره رجلا من رجل فقال: أبأت فلانا بفلان قال طفيل الغنوي: [ الطويل ] أبأنا بقتلانا من القوم ضعفهم وما لا يعد من أسير مكلب وزعم الأصمعي أن المكلب هو المكبل من المقلوب وقال غيره: مكلب مشدد بالكلب، وهو القد. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام [ أنه قال ] المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور.
[ 253 ]
قوله: المتشبع / بما لا يملك يعني المتزين بأكثر مما عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون للرجل ولها ضرة فتشبع بما تدعي من الحظوة والحظوة لغتان عند زوجها بأكثر مما عنده لها تريد بذلك غيظ صاحبتها وإدخال الأذى عليها، وكذلك هذا في الرجال أيضا. وأما قوله: كلابس ثوبي زور، فإنه عندنا الرجل يلبس الثياب تشبه ثياب أهل الزهد في الدنيا يريد بذلك الناس ويظهر من التخشع والتقشف أكثر مما في قلبه منه، فهذه ثياب الزور والرياء وفيه وجه آخر إن شئت أن يكون أراد بالثياب الأنفس والعرب تفعل ذلك كثيرا. يقال [ منه ]: فلان نقي الثياب إذا كان بريا من الدنس والآثام، وفلان دنس الثياب إذا كان مغموصا عليه في دينه قال امرؤ القيس يمدح قوما: [ الطويل ]
[ 254 ]
ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم بيض المسافر غران يريد بثيابهم أنفسهم لأنها مبرأة من العيوب وكذلك قول النابغة: [ الطويل ] رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب يريد بالحجزات الفروج أنها عفيفة. ونرى والله أعلم أن قول الله [ تبارك و ] تعالى " وثيابك فطهر " من هذا قال الشاعر يذم رجلا: [ الرجز ] لا هم إن عامر بن جهم أوذم حجا في ثياب دسم يعني أنه حج وهو متدنس بالذنوب.
[ 255 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه كان يشرب في بيت سودة
[ 256 ]
رضي الله عنها شرابا فيه عسل كانت تعده له فتواصت اثنتان من أزواجه: عائشة وحفصة وفي حديث: فتواصت ثنتان من أزواجه ولم يسمهما إذا دخل عليهما أن تقولا: ما ريح المغافير أكلت مغافير قال: فلما قالتا ذلك له ترك الشراب الذي كان يشربه. قال الكسائي وأبو عمرو: قوله: المغافير، شئ شبيه بالصمغ يكون في الرمث وشجر فيه حلاوة. قال أبو عمرو: يقال منه: قد أغفر الرمث إذا ظهر ذلك فيه. وقال الكسائي: يقال: خرج الناس يتمغفرون إذا خرجوا يجتنونه من شجره، وواحد المغافير مغفور. وقال الفراء: فيه لغة أخرى: المغاثير بالثاء، [ قال: ] وهذا مثل قولهم: جدث وجدف وكقولهم: ثوم وفوم، وما أشبهه في الكلام مما ندخل فيه الفاء على الثاء والثاء على الفاء.
[ 257 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه كوى سعد ابن معاذ أو أسعد بن زرارة في [ أكحله بمشقص ] ثم حسمه. قوله: بمشقص، هو نصل السهم إذا كان طويلا وليس بالعريض، [ قال أبو عبيد ]: فإذا كان عريضا وليس بالطويل فهو معبلة، وجمعه معابل. ومنه حديثه الآخر أنه قصر من شعره عند المروة بمشقص. ومنه حديث عثمان رحمه الله حين دخل عليه فلان وهو محصور وفي يده مشقص فكان من أمره الذي كان. وأما قوله: ثم حسمه، فالحسم أصله القطع، ومنه قيل: حسمت هذا الأمر عن فلان أي قطعته وإنما أراد بالحسم
[ 258 ]
[ ههنا ] أنه قطع الدم عنه. ومنه حديث النبي عليه السلام في اللص حين قطعه فقال: [ اقطعوه ثم ] احسموه قال: يعني اكووه لينقطع الدم. قال أبو عبيد: ولم أسمع بالحسم في قطع السارق عن النبي عليه السلام إلا في هذا الحديث. وكذلك حديثه: عليكم بالصوم فإنه محسمة للعرق ومذهبة للأشر. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في المخنث الذي كان يدخل على أزواجه فقال لعبدالله بن أبي أمية أخي أم سلمة: إن فتح الله
[ 259 ]
علينا الطائف غدا دللتك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال رسول الله عليه السلام: لا يدخل هذا عليكن. فقوله: تقبل بأربع يعني أربع عكن في بطنها فهي تقبل بهن، وقوله: تدبر بثمان يعني أطراف هذه العكن الأربع، وذلك لأنها محيطة بالجنبين حتى لحقت بالمتنين من مؤخرها من هذا الجانب أربعة أطراف ومن الجانب الآخر مثلها فهذه ثمان وإنما أنث فقال: بثمان، ولم يقل: بثمانية، وهي الأطراف، واحد الأطراف طرف وهو ذكر، لأنه لم يقل: ثمانية / أطراف، ولو جاء بلفظ الأطراف لم يجد بدا من التذكير، وهو كقولهم: هذا الثوب سبع في ثمان، والثمان يريد بها الأشبار فلم يذكرها
[ 260 ]
لما لم يأت بلفظ الأشبار، والسبع إنما تقع على الأذرع فلذلك أنث والذراع أنثى وكذلك قولهم: صمنا من الشهر خمسا، سمعت الكسائي وأبا الجراح يقولانه وقد علمنا أنه إنما يراد بالصوم الأيام دون الليالي، فلو ذكر الأيام لم يجد بدا من التذكير، فيقول: صمنا خمسة أيام كقوله تعالى " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " فهذا ما في الحديث من العربية. وفيه من الفقه دخوله كان على أزواج النبي عليه السلام فإنه وإن كان مخنثا فهو رجل يجب عليهن الاستتار منه، وإنما وجهه عندنا أنه كان عند النبي عليه السلام من غير أولي الإربة من الرجال فلهذا كان ترك النبي عليه السلام إياه أن يدخل على أزواجه، فلما وصف [ الذي وصف ] من المرأة علم أنه ليس من أولئك فإنه أمر
[ 261 ]
بإخراجه، ألا تراه يقول [ له ]: ألا أراك تعقل ما ههنا فعند ذلك نهى عن دخوله [ عليهن ] وكذلك يروى عن الشعبي أو سعيد بن جبير أنه قال في غير أولي الإربة من الرجال [ قال ]: هو المعتوه، وهذا عندي أولى من قول مجاهد في قوله: غير أولي الإربة من الرجال، قال: الذي لا إرب له في النساء، قال مجاهد مثل فلان، قال أبو عبيد: وحديث النبي عليه السلام خلاف هذا، ألا ترى أنه قد يكون لا إرب له في النساء وهو مع هذا يعقل أمرهن ويعرف مساويهن من محاسنهن والذي في حديث النبي عليه السلام أنه كان عنده لا يعقل [ هذا ]، فلما رآه قد عقله أمر بإخراجه. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين ذكر الفتن فقال له حذيفة: أبعد هذا الشر خير فقال: وهدنة على دخن وجماعة على أقذاء.
[ 262 ]
قوله: هدنة على دخن، تفسيره في الحديث: لا ترجع قلوب قوم على ما كانت عليه والهدنة: السكون [ بعد الهيج ]، ومذهب الحديث على هذا. وأصل الدخن أن يكون في لون الدابة أو الثوب أو غير ذلك كدورة [ إلى سواد ] قال المعطل الهذلي يصف السيف: [ الكامل ] لين حسام لا يليق ضريبة في متنه دخن وأثر أخلس [ قوله: دخن يعني الكدورة وهو السواد ] ولا أحسب الدخن أخذ إلا من الدخان، وهو شبيه بلون الحديد، فوجهه أنه يقول: تكون القلوب
[ 263 ]
هكذا لا يصفو بعضها لبعض ولا ينصع حبها كما كانت، وإن لم تكن فيهم فتنة وأما قوله: جماعة على أقذاء، قال: فإن هذا مثل، يقول: اجتماعهم على فساد من القلوب، وهذا مشبه بأقذاء العين. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق وبعضهم يقول: المذال باللام ولا أرى المحفوظ إلا الأول. وتفسيره عند الفقهاء أن يدخل الرجل الرجال على أهله، وهذا [ هو ]
[ 264 ]
الذي يروى في حديث آخر أنه [ الذي ] يقال له: القنذع، وهو الديوث،، والقنذع (القنذع) بالفتح والضم _ وهو الديوث، ولا أحسب هاتين الكلمتين إلا بالسريانية فإن كان المذاء هو المحفوظ فإنه أخذ من المذي يعني أن يجمع بين الرجال وبين النساء ثم يخليهم بماذي بعضهم بعضا مذاء، لا أعرف للحديث وجها غيره، وقد حكي عن بعض أهل العلم أنه قال [ يقال ]: أمذيت فرسي إذا أرسلته يرعى، ويقال: مذيته، فإن كان من هذا فإنه يذهب به إلى أنه يرسل الرجال على النساء وهو وجه. وأما المذال باللام، فإن أصله أن يمذل الرجل بسره، و [ قد ] يقال: يمذل أيضا يعني يقلق به حتى يظهره، وكذلك يقلق بمضجعه حتى يتحول عنه إلى غيره وبماله حتى ينفقه قال الأسود بن يعفر: [ الكامل ] ولقد أروح على التجار مرجلا مذلا بمالي لينا أجيادي
[ 265 ]
[ يعني عنقه أنه لين لشبابه ]. [ يقول: أجود بمالي لا أقدر على إمساكه ] وقال الراعي: [ الكامل ] ما بال دفك بالفراش مذيلا أقذى بعينك أم أردت رحيلا وقال سابق البربري: [ الوافر ] فلا تمذل بسرك كل سر إذا ما جاوز الاثنين فاشي فأراد بالحديث أنه اطلع الرجال على سره فيما بينه وبين أهله، وأنه زال لهم عن فراشه عن قلقة به. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام حين سحر أنه جعل
[ 266 ]
سحره في جف طلعة ودفن تحت راعوفة البئر. قوله: جف طلعة يعني طلع النخل، وجفه وعاؤه الذي يكون فيه [ و ] الجف [ أيضا ] في غير هذا، يقال: هو شئ من جلود [ كالإناء ] يؤخذ فيه ماء السماء إذا جاء المطر [ يسع نصف قربة أو نحوه ] ومنه قول الراجز: [ الرجز ] كل عجوز رأسها كالكفه تحمل جفا معها هرشفه. [ فالجف ههنا ما أعلمتك، و ] الهرشفة: خرقة أو غيرها تحمل بها الماء ماء السماء إذا كان قليلا ثم تصب في الإناء، وقال غيره.
[ 267 ]
الهرشفة خرقة أو قطعة كساء أو نحوه ينشف بها الماء من الأرض ثم تعصر في الجفة وذلك في قلة الماء وبعضهم يقول: الهرشفة من نعت العجوز وهي الكبيرة والجف أيضا في غير هذين: جماعة الناس ومن ذلك قول النابغة: [ الكامل ] في جف تغلب واردي الأمرار يريد [ بجف تغلب ] جماعتهم، وكان أبو عبيدة يرويه: في جف ثعلب يريد ثعلبة بن سعد والجفة مثل الجف الجماعة. ومنه حديث عن ابن عباس قال: لا نفل في غنيمة حتى تقسم جفة أي كلها.
[ 268 ]
وأما [ قوله ]: راعوفة البئر، فإنها صخرة تترك في أسفل البئر إذا احتفرت تكون ثابتة هناك، فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقي عليها ويقال: بل هو حجر ناتئ في بعض البئر يكون صلبا لا يمكنهم حفره فيترك على حاله ويقال: هو حجر يكون على رأس البئر يقوم عليه المستقي. وقد روى بعض المحدثين هذا الحديث أنه جعل سحره في جب طلعة، ولا أعرف الجب إلا البئر التي ليست بمطوية، وكذلك قال أبو عبيدة وهو قول الله [ تبارك و ] تعالى [ في كتابه ] " في غيابة الجب " ولا أرى المحفوظ في الحديث إلا الجف بالفاء قال أبو عبيد [ يقال ]: أرعوفة البئر وراعوفه.
[ 269 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: عجب ربكم من إلكم بكسر الألف وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم ورواه بعض المحدثين: من أزلكم. وأصل الأزل: الشدة، [ قال ]: وأراه المحفوظ فكأنه أراد من شدة يأسكم وقنوطكم. فإن كان المحفوظ قوله: من إلكم بكسر الألف فإني أحسبها: من ألكم بالفتح وهو أشبه بالمصادر، يقال منه: أل يؤل ألا وأللا وأليلا، وهو أن يرفع الرجل صوته بالدعاء ويجأر فيه قال الكميت يمدح رجلا: [ البسيط ] فأنت ما أنت في غبراء مظلمة إذا دعت ألليها الكاعب الفضل
[ 270 ]
فقد يكون ألليها أنه أراد الألل ثم ثناه كأنه يريد صوتا بعد صوت، وقد يكون ألليها أن يريد حكاية أصوات النساء بالنبطية إذا صرخن وقد يقال لكل شئ محدد: هو مؤلل وقال طرفة يذكر أذني الناقة ويصف حدتهما وانتصابهما: [ الطويل ] مؤللتان يعرف العتق فيهما كسامعتي شاة بحومل مفرد والإل [ أيضا ] في غير هذا الموضع، قال الأصمعي: [ يقال ]: قد أل الرجل في السير يؤل ألا إذا أسرع في السير وكذلك قد أل لونه يؤل ألا إذا صفا وبرق، وأظن قول أبي دواد [ الإيادي ] من أحد هذين، وذلك أنه ذكر فرسا أنثى صاد عليها الوحش، فقال: [ الكامل ] فلهزتهن بها يؤل فريصها من لمع رايتنا وهن غوادي يقول لما لمع المرائي إلينا بالوحش ركبت الفرس في آثارهن. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أن المهاجرين قالوا:
[ 271 ]
يا رسول الله ! / إن الأنصار قد فضلونا آوونا وأنهم فعلوا بنا وفعلوا، / الف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألستم تعرفون ذلك لهم قالوا: نعم، قال: فإن ذلك. قال أبو عبيد: ليس في الحديث غير هذا. قوله: فإن ذلك، معناه والله أعلم فإن معرفتكم بصنيعهم وإحسانهم مكافأة منكم لهم. كحديثه الآخر: من أزلت عليه نعمة فليكافئ بها فإن لم يجد فليظهر ثناء حسنا، فقال النبي عليه السلام: فإن ذاك يريد هذا المعنى وهذا اختصار من كلام العرب وهو من أفصح كلامهم أكتفي منه بالضمير [ لأنه قد علم معناه، وما أراد به القائل ] وقد بلغنا عن سفيان الثوري قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز من قريش يكلمه في حاجة [ له ] فجعل يمت بقرابته، فقال [ عمر ]: فإن ذاك، ثم ذكر له حاجته، فقال: لعل ذاك.
[ 272 ]
لم يزد على أن قال: فإن ذاك ولعل ذاك أي إن ذاك كما قلت، ولعل حاجتك أن تقضى وقال ابن قيس الرقيات: [ الكامل ] بكرت علي عواذلي يلحينني وألومهنه ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه أي إنه [ قد كان ] كما تقلن. والاختصار في كلام العرب كثير لا يحصى، وهو عندنا أعرب الكلام وأفصحه وأكثر ما وجدناه في القرآن من ذلك قوله: " فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق " إنما معناه والله أعلم فضربه فانفلق، ولم يقل: فضربه، لأنه حين قال: أن اضرب بعصاك، علم أنه قد ضربه ومنه قوله: " ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله، فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام " ولم يقل: فحلق ففدية من صيام، اختصر واكتفي منه بقوله: ولا تحلقوا
[ 273 ]
[ رءوسكم ] وكذلك قوله: " قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون " ولم يخبر عنهم في هذا الموضع أنهم قالوا: إنه سحر، [ و ] لكن لما قال [ تبارك وتعالى ]: أسحر هذا، علم أنهم قد قالوا: إنه سحر وكذلك قوله: " وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار أم من هو قانت " يقال في التفسير: [ معناه ] أهذا أفضل أم من هو قانت فاكتفى بالمعرفة بالمعنى وهذا أكثر من أن يحاط به وأنشد للأخطل: [ الرجز ] لما رأونا والصليب طالعا ومار سرجيس وموتا ناقعا خلوا لنا راذان والمزارعا كأنما كانوا غرابا واقعا
[ 274 ]
أراد فطار فترك الحرف الذي فيه المعنى لأنه قد علم ما أراد. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه نهى أن يدبح الرجل في الصلاة كما يدبح الحمار. قوله: أن يدبح، هو أن يطأطئ رأسه في الركوع حتى يكون أخفض من ظهره وهذا كحديثه الآخر أنه كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه وبعضهم يرويه: لم يصوب رأسه ولم يقنعه، يقول: لم يرفعه حتى يكون أعلى من جسده، ولكن يكون بين ذلك. ومنه حديث إبراهيم أنه كره أن يقنع الرجل رأسه في الركوع أو يصوبه. والإقناع: رفع الرأس وإشخاصه قال الله [ تبارك و ] تعالى: " مهطعين مقنعي رؤوسهم " والذي يستحب من هذا أن يستوي
[ 275 ]
ظهر الرجل ورأسه في الركوع، كحديث النبي عليه السلام أنه كان إذا ركع لو صب على ظهره ماء لاستقر وقال العجاج: [ الرجز ] ولو رآني الشعراء دبحوا وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في لحوم الحمر الأهلية أنه نهى عنها ونادى مناديه بذلك، قال: فأجفأوا القدور.
[ 276 ]
هكذا يروى الحديث بالألف، وهو في الكلام فجفأوا بغير ألف، ومعناه أنهم أكفأوها أي قلبوها، يقال منه: جفأت الرجل وغيره إذا احتملته ثم ضربت به الأرض. وكذلك الحديث الآخر: فأمر بالقدور فكفئت، وبعضهم / يرويه: فأكفئت. واللغة المعروفة بغير ألف، يقال: كفأت القدر أكفأها كفأة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: لا حمى إلا في ثلاث: ثلة البئر وطول الفرس وحلقة القوم. قوله: ثلة البئر يعني أن يحتفر الرجل بئرا في موضع ليس بملك لأحد، فيكون له من حوالي البئر من الأرض ما يكون ملقى لثلة البئر. وهو ما يخرج من ترابها، لا يدخل فيه أحد عليه حريما للبئر والثلة في غير هذا [ أيضا ] جماعة الغنم وأصوافها، وكذلك الوبر أيضا: ثلة.
[ 277 ]
ومنه حديث الحسن في اليتيم: إذا كانت له ماشية أن للوصي أن يصيب من ثلتها ورسلها. [ قال ] فالثلة: الصوف. والرسل: اللبن. والثلة في غير هذا: الجماعة من الناس، قال الله [ تبارك و ] تعالى " ثلة من الأولين من الآخرين ". وأما قوله: في طول الفرس، فإنه أن يكون الرجل في العسكر فيربط فرسه، فله من ذلك المكان مستدار لفرسه في طوله، لا يمنع من ذلك، وله أن يحميه من الناس. وقوله: حلقة القوم يعني أن يجلس الرجل في وسط الحلقة فلهم أن يحموها [ أن ] لا يجلس في وسطها أحد. ومنه حديث حذيفة: الجالس في وسط الحلقة ملعون. قال ويقال: هو تخطي الحلقة.
[ 278 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه أتي بأبي قحافة وكأن رأسه ثغامة فأمرهم أن يغيروه. [ قال أبو عبيد ]: ثغامة يعني نبتا أو شجرا يقال له: الثغام وهو أبيض الثمر والزهر، فشبه بياض الشيب به وقال حسان بن ثابت: [ الكامل ] إما ترى رأسي تغير لونه شمطا فأصبح كالثغام الممحل الممحل [ يعني ] الذي قد أصابه المحل، وهو الجدوبة. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في الشبرم ورآه عند
[ 279 ]
أسماء ابنة عميس وهي تريد أن تشربه فقال: إنه حار جار وأمرها بالسنا وبعض الناس يرويه: حار يار، وأكثر كلامهم بالياء. قال الكسائي وغيره: حار من الحرارة، ويار إتباع، كقولهم: عطشان نطشان، وجائع نائع، وحسن بسن، ومثله كثير في الكلام وإنما سمي اتباعا لأن الكلمة الثانية إنما هي تابعة للأولى على وجه التوكيد لها، وليس يتكلم بها منفردة، فلهذا قيل: إتباع. وأما حديث آدم عليه السلام حين قتل ابنه فمكث مائة سنة لا يضحك ثم قيل له: حياك الله وبياك ! فقال: وما بياك قيل: أضحكك.
[ 280 ]
وقال بعض الناس في بياك: إنما هو إتباع، وهو عندي [ على ] ما جاء تفسيره في الحديث أنه ليس باتباع، وذلك أن الإتباع لا [ يكاد ] يكون بالواو، وهذا بالواو. ومن ذلك قول العباس [ بن عبد المطلب ] في زمزم: [ إني ] لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل. ويقال أيضا: إنه إتباع وليس هو عندي كذلك لمكان الواو قال: وأخبرني الأصمعي عن المعتمر بن سليمان أنه قال: بل هو مباح بلغة حمير، قال أبو عبيد: ويقال: بل، شفاء من قولهم: قد بل الرجل من مرضه إذا برأ وأبل. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام: إن الدنيا حلوة
[ 281 ]
خضرة فمن أخذها بحقها بورك له فيها قال: ويروى أن هذا المال حلو خضر فمن أخذه. [ أبو عبيد ] قوله: خضرة يعني غضة حسنة، وكل شئ غض طري فهو خضر، وأصله من خضرة الشجر ومنه قيل للرجل إذا مات شابا غضا: قد اختضر. عمد نجد رمد ندى سرح [ أبو عبيد ] وحدثني بعض أهل العلم أن شيخا كبيرا من العرب كان قد أولع به شاب من شبانهم فكلما / رآه قال: أجززت يا أبا فلان ! عبره، فيقول: قد آن
[ 282 ]
لك أن تجز يا أبا فلان [ يعني الموت ]. فقال له الشيخ: أي بني وتختضرون أي تموتون شبابا. ومنه قيل: خذ هذا الشئ خضرا مضرا، فالخضر: الغض الحسن، والمضر إتباع له. وقال الله عز وجل " فاخرجنا منه خضرا يقال: إنه الأخضر، وهو من هذا ويقال: إنما سمي الخضر لأنه كان إذا جلس في موضع اخضر ما حوله. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه نهى عن اختناث الأسقية. قال الأصمعي وغيره: الاختناث أن يثني أفواهها ثم يشرب منها
[ 283 ]
وأصل الاختناث التكسر والتثني. ومنه حديث عائشة [ رضي الله عنها ] حين ذكرت وفاة النبي عليه السلام أنها قالت: فانخنث في حجري وما شعرت به، [ يعني ] حين قبض فانثنت عنقه أو غيرها من جسده. ويقال: من هذا سمي المخنث لتكسره، وبه سميت المرأة خنث. [ يقول: إنها لينة تتثنى ]. ومعنى الحديث في النهي عن اختناث الأسقية يفسر على وجهين: أحدهما أنه يخاف أن يكون فيه دابة وشرب رجل من في سقاء فخرجت منه حية. والوجه الآخر: قال: ينتنه ذلك، وعن النبي عليه السلام أنه نهى عن اختناث الأسقية، وقال: إنه ينتنه. والذي دار عليه معنى الحديث
[ 284 ]
أنه نهى أن يشرب من أفواهها. وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام في العقيقة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة. قوله: العقيقة، أصله الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه في تلك الحال عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح، ولهذا قيل في الحديث: أميطوا عنه الأذى يعني بالأذى ذلك الشعر الذي يحلق عنه [ و ] هذا مما قلت لك: إنهم ربما سموا الشئ باسم غيره إذا كان معه أو من سببه، فسميت الشاة عقيقة لعقيقة الشعر. وكذلك كل مولود من البهائم فإن الشعر الذي يكون عليه حين يولد عقيقة وعقة. [ و ] قال زهير يذكر
[ 285 ]
حمار الوحش: [ الوافر ] أذلك أم أقب البطن جأب عليه من عقيقته عفاء ويروى: فراء. أو لست ترى أن العقيقة ههنا إنما هي الشعر لا الشاة وقال: العقة في الناس والحمر، ولم أسمعه في غيرهما عقة وقال ابن الرقاع العاملي في العقة يصف الحمار أيضا: [ البسيط ] تحسرت عقة عنه فأنسلها واجتاب أخرى جديدا بعدما ابتقلا يريد أنه لما فطم من الرضاع وأكل البقل ألقى عقيقته واجتاب أخرى أي لبسها وهكذا زعموا يكون.
[ 286 ]
وقال أبو عبيد: في حديث النبي عليه السلام أنه قال: اجتمعت إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا. فقالت الأولى: زوجي لحم جمل غث على جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى. ويروى: فينتقل. وقالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره. قالت الثالثة: زوجي العشنق إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق. قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة. قالت الخامسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، ولا يولج الكف ليعلم البث. قالت السادسة: زوجي عياياء أو غياياء هكذا يروى الحديث بالشك
[ 287 ]
طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك، أو جمع كلالك. قالت السابعة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد. قالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب. قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد. قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك له إبل قليلات المسارح / وكثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك. قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت، وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل وأطيط، ودائس ومنق، وعنده أقول فلا أقبح، وأشرب فأتقمح [ ويروى: فأتقنح ]، وأرقد
[ 288 ]
فأتصبح أم أبي زرع وما أم أبي زرع عكومها رداح، وبيتها فياح ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع كمسل شطبة [ وتشبعه ذراع الجفرة بنت أبي زرع وما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ ] جارتها جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا، ولا تنقل ميرتنا تنقيثا، ولا تملأ بيتنا تغشيشا ويروى: تعشيشا خرج أبو زرع والأوطاب تمخض فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان [ من ] تحت خصرها برمانتين، فطلقني
[ 289 ]
ونكحها فنكحت بعده رجلا سريا، ركب شريا، وأخذ خطيا، وأراح علي نعمة ثريا وقال: كلي أم زرع وميري أهلك فلو جمعت كل شئ أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع. قالت عائشة رضي الله عنها: فقال [ لي ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كأبي زرع لأم زرع. قال أبو عبيد: سمعت عدة من أهل العلم [ لا أحفظ عددهم ] يخبر كل واحد منهم بتفسير هذا الحديث، ويزيد بعضهم على بعض قالوا: [ أما ] قول الأولى: لحم جمل غث تعني المهزول على رأس جبل وعر، تصف قلة خيره، وبعده مع القلة كالشئ في قلة الجبل الصعب لا ينال إلا بالمشقة لقولها: لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى تقول: ليس له نقي وهو المخ وقال الكسائي: فيه لغتان، يقال: نقوت العظم ونقيته
[ 290 ]
إذا استخرجت النقي منه قال الكسائي: وكلهم يقول: انتقيته إذا استخرجت النقي منه، ومنه قيل للناقة السمينة: منقية [ و ] قال الأعشى يمدح قوما: [ الكامل ] حاموا على أضيافهم فشووا لهم من لحم منقية ومن أكباد ومن رواه: فينتقل، فإنه أراد ليس بسمين فينتقله الناس إلى بيوتهم [ فيأكلونه ] ولكنهم يزهدون فيه. و [ أما ] قول الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أذره إن أذكره أذكر عجره وبجره، فالعجر أن يتعقد العصب أو العروق حتى تراها ناتئة من الجسد. والبجر نحوها إلا أنها في البطن خاصة، واحدتها بجرة
[ 291 ]
ومنه قيل: رجل أبجر إذا كان أعظم البطن، وامرأة بجراء، وجمعها بجر ويقال: لفلان بجرة، ويقال: رجل أبجر إذا كان ناتئ السرة عظيمها. و [ أما ] قول الثالثة: زوجي العشنق إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق، فالعشنق: الطويل قاله الأصمعي. تقول: ليس عنده أكثر من طوله بلا نفع، فإن ذكرت ما فيه من العيوب طلقني وإن سكت تركني معلقة لا أيما ولا ذات بعل. ومنه قول الله تعالى " ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ".
[ 292 ]
وقول الرابعة: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة تقول: ليس عنده أذى ولا مكروه، وإنما هذا مثل لأن الحر والبرد كلاهما فيه أذى إذا اشتدا. ولا مخافة تقول: ليست عنده غائلة ولا شر أخافه. ولا سآمة تقول: لا يسأمني فيمل صحبتي. وقول الخامسة: زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف، فإن اللف في المطعم الإكثار [ منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منه شيئا. والاشتفاف في الشرب أن يستقصي ماء في الإناء ولا يسئر فيه سؤرا، وإنما أخذ من الشفافة، وهي البقية تبقى في الإناء من الشراب، فإذا شربها صاحبها / قيل: اشتفها وتشافها تشافا قال ذلك الأصمعي، قال: ويقال في مثل من الأمثال " ليس الري عن التشاف " يقول: ليس من لا يشتف لا يروى، وقد يكون الري دون ذلك قال: ويروى عن جرير بن عبد الله
[ 293 ]
[ البجلي ] أنه قال لبنيه: يا بني، إذا شربتم فأسئروا ! هذا في الحديث و [ قال ] في حديث آخر: فإنه أجمل. غيا عيا طبق دوأ فهد أبو عبيد [ و ] قولها: لا يولج الكف ليعلم البث، قال: فأحسبه كان بجسدها عيب أو داء تكتئب له، لأن البث هو الحزن، فكان لا يدخل يده في ثوبها ليمس ذلك العيب فيشق عليها، تصفه بالكرم.
[ 294 ]
و [ أما ] قول السادسة: زوجي غياياء أو عياياء طباقاء، فأما غياياء طباقاء، فأما غياياء بالغين معجمة، فلا أعرفها وليست بشئ، وإنما هو [ عياياء ] بالعين. والعياياء من الإبل الذي لا يضرب ولا يلقح، وكذلك هو من الرجال، قال أبو نصر: يقال: بعير عياياء إذا لم يحسن
[ 295 ]
أن يضرب الناقة، وعياياء في الناس الذي لا يتجه لشئ ولا يتصرف في الأمور، فإذا كان حاذقا بالضراب قيل: بعير معيد، والطباقاء: العي الأحمق الفدم ومنه قول جميل بن معمر يذكر رجلا: [ الطويل ] طباقاء لم يشهد خصوما ولم يقد قلاصا إلى أكوارها حين تعكف وقولها: كل داء له داء، [ أي داء ] كل شئ من أدواء الناس فهو فيه ومن أدوائه. وقول السابعة: زوجي إن دخل فهد وأن خرج أسد، فإنها تصفه بكثرة النوم والغفلة في منزله على وجه المدح له، وذلك أن الفهد كثير النوم،
[ 296 ]
يقال: أنوم من فهد، والذي أرادت [ به ] أنه ليس يتفقد ما ذهب من من ماله، ولا يلتفت إلى معائب البيت وما فيه فهو كأنه ساه عن ذلك، ومما يبينه قولها: ولا يسأل عن عما تريد عما كان عندي قبل ذلك [ و ] قولها [ و ] إن خرج أسد، تصفه بالشجاعة تقول: إذ اخرج إلى الناس ومباشرة الحرب ولقاء العدو أسد فيها، يقال: قد أسد الرجل واستأسد بمعنى واحد. و [ أما ] قول الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، [ فإنها تصفه بحسن الخلق ولين الجانب كمس الأرنب ] إذا وضعت يدك على ظهرها. وقولها: [ و ] الريح ريح زرنب، فإن فيه معنيين: قد يكون أن تريد طيب ريح جسده، ويكون أن تريد طيب الثناء في الناس والثناء والثنا واحد، إلا أن الثناء ممدود والثنا مقصور، وانتشاره فيهم كريح الزرنب، وهو نوع من أنواع الطيب معروف.
[ 297 ]
و [ أما ] قول التاسعة: زوجي رفيع العماد، فإنها تصفه بالشرف وسنا الذكر، السناء في الشرف ممدود، والسنا مقصور مثل سنا البرق وأصل العماد: عماد البيت، وجمعه: عمد وأعماد، وهي [ العيدان ] التي تعمد في البيوت وإنما هذا مثل تعني أن بيته رفيع في قومه وحسبه. وأما قولها: طويل النجاد، فإنها تصفه بامتداد القامة، والنجاد حمائل السيف، فهو يحتاج إلى قدر ذلك من طوله، وهذا [ مما ] يمدح به الشعراء قال مروان ابن أبي حفصة: [ الكامل ] قصرت حمائله عليه فقلصت ولقد تحفظ قينها فأطالها وأما قولها: عظيم الرماد، فإنها تصفه بالجود وكثرة الضيافة من لحم الإبل وغيره من اللحوم، فإذا فعل ذلك عظمت ناره وكثر وقودها، فيكون الرماد في الكثرة على قدر ذلك، وهذا كثير في أشعارهم
[ 298 ]
. وقولها: قريب البيت من الناد يعني أنه ينزل بين ظهراني الناس ليعلموا مكانه فينزل به الأضياف ولا يستبعد منهم [ ويتوارى ] فرارا من نزول النوائب به والأضياف، وهذا المعنى أراد زهير بقوله لرجل يمدحه: [ الكامل ] يسط البيوت لكي يكون مظنة من حيث توضع جفنة المسترفد قوله: يسط البيوت يريد بتوسط البيوت لكي يكون مظنة يعني معلما، يقال: فلان مظنة لهذا الأمر أي معلم له ومنه قول النابغة: [ الوافر ] فإن مظنة الجهل الشباب ويروى السباب.
[ 299 ]
/ وقول العاشرة: زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك تقول: إنه لا يوجههن ليسرحن نهارا إلا قليلا ولكنهن يبركن بفنائه فإن نزل به ضيف لم تكن الإبل غائبة عنه ولكنها بحضرته فيقريه من ألبانها ولحومها. وقولها: إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك، فالمزهر العود الذي يضرب به قال الأعشى يمدح رجلا: [ الخفيف ] جالس حوله الندامى فما ينفك يؤتى بمزهر مندوف فأرادت المرأة أن زوجها قد عود إبله [ أنه ] إذا نزل به الضيفان أن ينحر لهم ويسقيهم الشراب ويأتيهم بالمعازف، فإذا سمعت الإبل
[ 300 ]
ذلك الصوت علمن أنهن منحورات، فذلك قولها: أيقن أنهن هوالك. وقول الحادية عشرة: زوجي أبو زرع وما أبو زرع أناس من حلي أذني تريد حلاني قرطة وشنوفا تنوس بأذني والنوس: الحركة من كل شئ متدلي، يقال منه: قد ناس ينوس نوسا وأناسه غيره إناسة. [ قال ] وأخبرني ابن الكلبي أن ذا نواس ملك اليمن، [ إنما ] سمي بهذا لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقيه. وقولها: ملأ من شحم عضدي لم ترد العضد خاصة، إنما أرادت الجسد كله، تقول: إنه أسمنني بإحسانه إلي، فإذا سمنت العضد سمن سائر الجسد. وقولها: بجحني فبجحت أي فرحني ففرحت، وقد بجح الرجل يبجح إذا فرح [ و ] قال الراعي: [ الطويل ]
[ 301 ]
وما الفقر من أرض العشيرة ساقنا إليك ولكنا بقربك نبجح وفي هذا لغتان: بجحت وبجحت، ويروى: بقرباك وبقربك، وهما القرابة. وقولها: وجدني في أهل غنيمة بشق، والمحدثون يقولون: بشق، وشق: موضع تعني أن أهلها كانوا أصحاب غنم، ليسوا بأصحاب خيل ولا إبل. قالت: فجعلني في أهل صهيل وأطيط تعني أنه ذهب بي إلى أهله وهم أهل خيل وإبل، لأن الصهيل أصوات الخيل
[ 302 ]
والأطيط: أصوات الإبل [ و ] قال الأعشى في الأطيط: [ البسيط ] ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ولست ضائرها ما أطت الإبل دوس وطب رمن قال أبو عبيد: الأطيط ههنا الحنين، وقد يكون الأطيط في غير الإبل أيضا، ومنه حديث عتبة بن غزوان حين ذكر باب الجنة [ فقال ]: ليأتين عليه زمان وله أطيط يعني الصوت بالزحام. [ قولها ]: دائس ومنق، فإن بعض الناس يتأوله دئاس الطعام، وأهل الشام يسمونه الدراس يقولون: قد درس الناس الطعام يدرسونه، وأهل العراق يقولون: [ قد ] داسوا يدوسون. نقى قبح قمح بثث نقث أبو عبيد: ولا أظن واحدة من هاتين الكلمتين من كلام العرب ولا أدري ما هو، فإن كان
[ 303 ]
كما قيل فإنها أرادت أنهم أصحاب زرع وهذا أشبه بكلام العرب إن كان محفوظا. وأما قول المحدثين: منق، فلا أدري ما معناه ولكني أحسبه: منق، فإن كان هذا بالفتح فإنها أرادته من تنقية الطعام أي دائس للطعام ومنق له. وقولها: عنده أقول فلا أقبح وأشرب فأتقمح، تقول: لا يقبح علي قولي بل يقبل مني. وأما التقمح في الشراب فإنه مأخوذ من الناقة المقامح. قال الأصمعي: وهي التي ترد الحوض فلا تشرب. قال أبو عبيد: فأحسب قولها: فأتقمح أي أروي حتى أدع الشرب من [ شدة ] الري، ولا أراها قالت هذا إلا من عزة الماء عندهم وكل رافع رأسه عندهم: فهو مقامح وقامح ومقمح، وجمعه:
[ 304 ]
قماح ومقمحون قال بشر بن أبي خازم / يذكر سفينة كان فيها: [ الوافر ] ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح فإن فعل ذلك بإنسان فهو مقمح. وهو في التنزيل " إلى الأذقان فهم مقمحون ". وبعض الناس يروي هذا الحرف: وأشرب فأتقنح بالنون، ولا أعرف هذا الحرف ولا أرى المحفوظ إلا بالميم. [ فإن كان هذا محفوظا فإنه يقال: إن التقنح الامتلاء من الشرب والري منه، وهو في التنزيل ]. وقولها: أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح، فالعكوم الأحمال والأعدال التي فيها الأوعية من صنوف الأطعمة
[ 305 ]
والمتاع، واحدها عكم، وقولها: رداح، تقول: هي عظام كثيرة الحشو، ومنه قيل للكتيبة إذا عظمت: رداح قال لبيد: [ الرجز ] وأبنا ملاعب الرماح ومدره الكتيبة الرداح أمر ابنته بالبكاء على أبي براء عمه، والتأبين مدح الميت ولا يكون للحي تأبين ومن هذا قيل للمرأة: رداح إذا كانت عظيمة الأكفال. وقولها: ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع كمسل شطبة،
[ 306 ]
فإن الشطبة أصلها ما شطب من جريد النخل، وهو سعفه، وذلك أنه إذا يشقق منه قضبان دقاق تنسج منه الحصر، يقال [ منه ] للمرأة التي تفعل ذلك: شاطبة، وجمعها: شواطب قال قيس بن الخطيم الأنصاري: [ الطويل ] ترى قصد المران تلقى كأنها تذرع خرصان بأيدي الشواطب فأخبرت [ المرأة ] أنه مهفهف ضرب اللحم، شبهته بتلك الشطبة، وهذا مما يمدح به الرجل. قضبان وقضبان والضم أكثر. وقولها: يكفيه ذراع الجفرة، فإن الجفرة الأنثى من أولاد المعز والذكر
[ 307 ]
جفر. ومنه قول عمر [ رضي الله عنه ] في اليربوع يصيبه المحرم جفرة والعرب تمدح الرجل بقلة الطعم والشرب، ألا تسمع قول أعشى باهلة: [ البسيط ] تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر ويروى: تكفيه فلذة كبد. وقولها: جارية أبي زرع [ فما جارية أبي زرع ] لا تنث تنثيثا، وبعضهم يرويه: لا تبث حديثنا تبثيثا، وأحدهما قريب المعنى من الآخر أي لا تظهر سرنا. و [ قولها ] لا تنقل ميرتنا تنقيثا يعني الطعام لا تأخذه فتذهب به، تصفها بالأمانة والتنقيث الإسراع في السير، قال الفراء: يقال: خرج فلان ينتقث إذا أسرع
[ 308 ]
في سيره. وقولها: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فالأوطاب أسقية اللبن، واحدها وطب. قالت: فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين تعني أنها [ ذات ] كفل عظيم، فإذا استلقت نبأ بها الكفل من الأرض حتى تصير تحتها فجوة تجري فيها الرمان شرى خطط ثرى [ قال أبو عبيد ]: وبعض الناس يذهب بالرمانتين إلى أنهما الثديان، وليس هذا موضعه. قالت: فطلقني ونكحها ونكحت بعده رجلا سريا ركب شريا يعني الفرس أنه يستشري في عدوه [ يعني أنه يلج ] ويمضي فيه بلا فتور ولا انكسار، ومن
[ 309 ]
هذا قيل للرجل إذا لج في الأمر: قد شرى فيه واستشرى فيه. وقولها: أخذ خطيا تعني الرمح، سمي خطيا لأنه يأتي من بلاد، وهي ناحية البحرين، يقال لها: الخط، فتنسب الرماح إليها، وإنما في سيره. وقولها: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فالأوطاب أسقية اللبن، واحدها وطب. قالت: فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين تعني أنها [ ذات ] كفل عظيم، فإذا استلقت نبأ بها الكفل من الأرض حتى تصير تحتها فجوة تجري فيها الرمان شرى خطط ثرى [ قال أبو عبيد ]: وبعض الناس يذهب بالرمانتين إلى أنهما الثديان، وليس هذا موضعه. قالت: فطلقني ونكحها ونكحت بعده رجلا سريا ركب شريا يعني الفرس أنه يستشري في عدوه [ يعني أنه يلج ] ويمضي فيه بلا فتور ولا انكسار، ومن
[ 309 ]
هذا قيل للرجل إذا لج في الأمر: قد شرى فيه واستشرى فيه. وقولها: أخذ خطيا تعني الرمح، سمي خطيا لأنه يأتي من بلاد، وهي ناحية البحرين، يقال لها: الخط، فتنسب الرماح إليها، وإنما أصل الرماح من الهند، ولكنها تحمل إلى الخط في البحر، ثم تفرق منها في البلاد. وقولها: نعما ثريا تعني الإبل، والثري: الكثير من المال وغيره [ و ] قال الكسائي: يقال: قد ثرى بنو فلان بني فلان إذا كثروهم فكانوا أكثر منهم. (تم بحمد الله وعونه طبع الجزء الثاني من غريب الحديث لابي عبيد القاسم ابن سلام الهروي وكان تمام الطبع يوم الاربعاء ثالث محرم الحرام سنة 1385 ه = خامس مايو سنة 1965 م. اعتنى بتصحيحه والتعليق عليه السيد محمد عظيم الدين مصحح دائرة المعارف بتعارف المدير. (ويليه الجزء الثالث أوله: " وقال أبو عبيد في حديث النبي عليه السلام أنه قال: من أحب لقاء الله، الحديث ").