شرح مسلم
النووي ج 17

[ 1 ]
صحيح مسلم بشرح النووي الجزء السابع عشر الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان 1407 ه‍ - 1987 م
[ 2 ]
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب الحث على ذكر الله تعالى قوله عز وجل (أنا عند ظن عبدي بي) قال القاضي قيل معناه بالغفران له إذا استغفر والقبول إذا تاب والاجابة إذا دعا والكفاية إذا طلب الكفاية وقيل المراد به الرجاء وتأميل العفو وهذا اصح قوله تعالى وانا معه حين يذكرني أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية وأما قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم فمعناه بالعلم والاحاطة قوله تعالى إن ذ كرني في نفسي ذكرته في نفسي قال المازري النفس تطلق في اللغة على معان منها الدم ومنها نفس الحيوان وهما مستحيلان في حق الله تعالى ومنها الذات والله تعالى له ذات حقيقة وهو المراد بقوله تعالى في نفسي ومنها الغيب وهو أحد الأقوال في قوله تعالى تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك أي ما في غيبي فيجوز أن يكون أيضا مراد الحديث أي إذا ذكرني خاليا اثابه الله وجازاه عما عمل
[ 3 ]
بما لا يطلع عليه أحد قوله تعالى وان ذكرني في ملأ وإذا ذكرتهم في ملأ هم خير منهم هذا مما استدلت به المعتزلة ومن وافقهم على تفضيل الملائكة على الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين واحتجوا أيضا بقوله تعالى " كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " فالتقيد بالكثير احتراز من الملائكة ومذهب اصحابنا وغيرهم ان الأنبياء افضل من الملائكة لقوله تعالى في بني إسرائيل وفضلناهم على العالمين والملائكة من العالمين ويتأول هذا الحديث على ان الذاكرين غالبا يكونون طائفة لانبى فيهم فإذا ذكره الله تعالى في خلائق من الملائكة كانوا خيرا من تلك الطائفة قوله تعالى وان تقرب منى شبرا تقربت إليه ذراعا وان تقرب الى ذراعا تقربت منه باعا وان أتاني يمشى أتيته هرولة هذا الحديث من أحاديث الصفات ويستحيل إرادة ظاهرة وقد سبق الكلام في احاديث الصفات مرات ومعناه من تقرب الى بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والاعانه وان زاد زدت فإن أتانى يمشي وأسرع في‌طاعتي اتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها ولم احوجه الى المشى الكثير في الوصول الي المقصود والمراد ان جزاءه يكون تضعيفه
[ 4 ]
على حسب تقربه قوله تعالى في رواية محمد بن جعفر وإذا تلقاني بباع جئته أتيته هكذا هو في اكثر النسخ جئته اتيته وفي بعضها جئته بأسرع فقط وفي بعضها اتيته وهاتان ظاهرتا والأول صحيح ايضا والجمع بينهما للتوكيد وهو حسن لا سيما عند اختلاف اللفظ والله أعلم قوله جبل يقال له جمدان هو بضم الجيم واسكان الميم قوله صلى الله عليه وسلم سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات هكذا الرواية فيه المفردون بفتح الفاء وكسر الراء المشددة وهكذا نقله القاضي عن متقنى شيوخهم وذكر غيره أنه روى بتخفيفها واسكان الفاء يقال فرد الرجل‌وفرد بالتخفيف والتشديد وأفرد وقد فسرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذاكرين الله كثيرا والذاكرات تقديره والذاكراته فحذفت الهاء هنا كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤس الآى ولأنه مفعول يجوز حذفه وهذا التفسير هو مراد الحديث قال ابن قتيبه وغيره وأصل المفردين الذين هلك أقرانهم وانفردوا عنهم فبقوا يذكرون الله تعالى وجاء في رواية هم الذين اهتزوا في ذكر الله أي لهجوابه وقال ابن الأعرابي يقال فرد الرجل إذا تفقه واعترل وخلا بمراعاة الأمر والنهى
[ 5 ]
باب في اسماء الله تعالى وفضل من أحصاها قوله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما مائة الا واحدا من أحصاها دخل الجنه أنه وتر يجب الوتر وفى رواية من‌حفظها دخل الجنة قال الامام أبو القاسم القشيرى فيه دليل على أن الاسم هو المسمىإذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره لقوله تعالى ولله الأسماء الحسنى قال الخطابى وغيره وفيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى الله لاضافة هذه الأسماء إليه وقد روى أن الله هو اسمه الاعظم قال أبو القاسم الطبري واليه ينسب كل اسم له فيقال الرؤف والكريم من أسماء الله تعالى ولا يقال من أسماء الرؤف أو الكريم الله واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وانما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة فالمراد الاخبار عن دخول الجنة باحصائها لا الاخبار بحصر الأسماء ولهذا جاء في الحديث الآخر أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكى عن بعضهم أنه قال لله تعالى ألف اسم قال ابن العربي وهذا قليل فيها والله أعلم وأما تعيين هذه الأسماء فقد جاء في الترمذي وغيره في بعض أسمائه خلاف وقيل انها مخفة التعيين كالاسم الأعظم وليلة القدر ونطائرها واما قوله صلى الله عليه وسلم من أحصاها دخل الجنة فاختلفوا في المراد باحصائها فقال البخاري وغيره من المحققين معناه حفظها وهذا هو الأظهر لأنه جاء مفسرا في الرواية الأخرى من حفظها وقيل أحصاها عدها
[ 6 ]
في الدعاء بها وقيل أطاقها أي أحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تفتضيه وصدق بمعانيها وقيل معناه العمل به والطاعة بكل اسمها والايمان بها لا يقتضى عملا وقال بعضهم المراد حفظ القرآن وتلاوته كله لأنه مستوف لها وهو ضعيف والصحيح الأول قوله صلى الله عليه وسلم إن الله وتر يحب الوتر الوتر الفرد ومعناه في حق الله تعالى الواحد الذى لا شريك له ولا نظير ومعنى يحب الوتر تفضيل الوتر في الاعمال وكثير من الطاعات فجعل الصلاة خمسا والطهارة ثلاثا والطواف سبعا والسعى سبعا ورمى الجمار سبعا وأيام التشريق ثلاثا والاستنجاء ثلاثا وكذا الأكفان وفى الزكاة خمسة أوسق وخمس أواق من الورق ونصا ب‌الابل وغير ذلك وجعل كثيرا من عظيم مخلوقاته وترا منها السموات والأرضون والبحار وأيام الاسبوع وغير ذلك وقيل ان معناه منصرف الى صفة من يعبد الله بالوحدانية والتفرد مخلصا له والله أعلم باب العزم في الدعاء ولا يقل إن شئت قوله صلى الله عليه وسلم إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء ولا يقل اللهم إن شئت فأعطني فإن الله لا مستكره له وفى رواية فإن الله صانع ما شاء لا مكره له وفى رواية ليعزم الرغب
[ 7 ]
فان الله لا يتعاظمه شئ أعطاه قال العلماء عزم المسألة الشدة في طلبها والحزم من عير ضعف في الطلب ولا تعليق على مشيئة ونحوها وقيل هو حسن الظن بالله تعتالى في الاجابة ومعنى الحديث استحباب الجزم في الطلب وكراهة التعليق على المشيئة قال العلماء سبب كراهته أنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في‌حق من يتوجه عليه الاكراه والله تعالى منزه عن ذلك وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فانه لا مستكره له وقيل سبب الكراهة أن في هذا اللفظ صور الاسغفار على المطلوب والمطلوب منه قوله عن عطاء بن مثنى هو بالمد والقصر باب كراهة تمنى الموت لضر نزل به قوله صلى الله عليه وسلم لايتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فان كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحينى ما كانت الحياة خيرا لى وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لى فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من مرض أو فانة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا فأما إذا خاف ضررا في دينه
[ 8 ]
أو فتنة فيه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث وغيره وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم وفيه أنه إن خالف ولم يصبر على حاله في بلواه بالمرض ونحوه فيلقل اللهم أحينى إن كانت الحياة خيرا لى الخ والأفضل الصبر والسكون للقضاء قوله حدثنا عاصم عن النضر بن أنس وانس يومئذ حمعناه أن النضر حدث به في حياة أبيه قوله صلي الله عليه وسلم إذا مات أحدكم انقطع عمله هكذا هو في بعض النسخ عمله وفى كثير منها أمله وكلاهما صحيح لكن الأول أجود وهو المتكرر في الأحاديث والله أعلم
[ 9 ]
باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قوله حدثنا هداب هذا الاسناد والذى بعده كلهم بصريون الا عبادة بن الصامت فشامى قوله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قالت عائشة فقلت يا نبى الله أكراهية الموت فكلنا يكره الموت قال ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقائه هذا الحديث يفسر آخره أوله ويبين المراد بباقى الأحاديث المطلقة من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله ومعنى الحديث أن الكراهة المعتبرة
[ 10 ]
هي التى تكون عند النزع في حالة لا تتقبل توبته ولا غيرها فحينئذ يبشر كل انسان بما هو صائر إليه وما أعدله ويكشف له عن ذلك فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا الى ما أعدلهم ويحب الله لقاءهم أي فيجزل لهم العطاء والكرامة وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم أي يبعدهم عن رحمته وكرامته ولا يريد ذلك بهم وهذا معنى كراهته سبحانه لقائهم وليس معنى الحديث أن‌سبب كراهة الله تعالى لقاءهم كراهتهم ذلك ولا
[ 11 ]
أن حبه لقاء الآخرين حبهم ذلك بل هو صفة لهم قولها إذا شخص البصر وحشرج الصدر واقشعر الجلد وتشنجت الأصابع أما شخص فبفتح الشين والخاء ومعناه ارتفاع الأجفان الى فوق وتحديد النظر وأما الحشرجة فهى تردد النفس في الصدور وأما اقشعرار الجلد فهو قيام شعره وتشنج الأصابع تقبضها باب فضل الذكر والدعاء والتقرب الى الله تعالى وحسن الظن به قوله تعالى وإذا تقرب منى ذراعا تقربت إليه باعا أو بوعا الباع والبوع بضم الباء والبوع بفتحها
[ 12 ]
كله بمعنى وهو طول ذراعي الانسان وعضديه وعرض صدره قال الباجي وهو قدر أربع أذرع وهذا حقيقة اللفظ والمراد بها في هذا الحديث المجاز كما سبق في أول كتاب الذكر في شرح هذا الحديث مع الحديثين بعده قوله تعالى فله عشر أمثالها أو أزيد معناه أن التضعيف بعشرة أمثالها لابد بفضل الله ورحمته ووعده الذى لا يخلف والزيادة بعد بكثرة التضعيف الى سبعمائة ضعف والى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئة سبحانه وتعالى قوله تعالى ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة هو بضم القاف على المشهور وهو ما يقارب ملاها وحكى كسر القاف نقله القاضي وغيره والله أعلم
[ 13 ]
باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا قوله عاد رجلا من المسلمين قد خفت مثل الفرخ أي ضعف وفى هذا الحديث النهى عن الدعاء بتعجيل العقوبة وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وفيه جوار التعجب بقول سبحان الله وقد سبقت نظائره وفيه استحباب عيادة المريض والدعاء له وفيه كراهةتمني البلاء لئلا ينضجر منه ويسخطه وربما شكا وأظهر الأقوال في تفسير
[ 14 ]
الحسنة في الدنيا أنها العبادة والعافية وفى الآخرة الجنة والمغفرة وقيل الحسنة تعم الدنيا والآخرة باب فضل مجالس الذكر قوله صلى الله عليه وسلم ان الله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجلس الذكر أما السيارة فمعناه سياحون في الأرض وأما فضلا فضبطوه على أوجه أحدها وهو أرجحها واشهرها في بلادنا فضلا بضم الفاء والضاد والثانية بضم الفاء واسكان الضاد ورجحها بعضهم وادعى أنها أكثر وأصو ب والثالثة بفتح الفاء واسكان الضاد قال القاض هكذا الرواية عند جمهور شيوخنا في البخاري ومسلم والرابعة فصل بضم الفاء والضاد ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف والخامسة فضلاء بالمد جمع فاضل قال العلماء معناه على جميع الروايات أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم وانما مقصودهم حلق الذكر وأما قوله صلى الله عليه وسلم يبتغون فصبطوه على وجهين أحدهما بالعين المهملة من التتبع وهو البحث عن الشئ والتفتيش والثانى يبتعون بالعين المعجمة من الا بتغاء وهو الطلب وكلاهما صحيح قوله صلى الله . قوله صلى الله عليه وسلم فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم بعضا هكذا هو في كثير من نسخ بلادنا حف بالفاء وفى بعضها حض بالضاد المعجمة أي حث على الحضور والاستماع وحكى القاضى عن بعض رواتهم وحط بالطاء المهملة واختاره القاضى قال ومعناه أشار بعضهم الى بعض بالنزول ويؤيد هذه الرواية قوله بعده في البخاري هلموا الى
[ 15 ]
حاجتكم ويؤيد الرواية الأولى وهى حف قوله في البخاري يحفونهم بأجنحتهم ويحدقون بهم ويستديرون حولهم ويحوف بعضهم بعضا قوله ويستجيرونك من نارك أي يطلبون الامان منها قوله عبد خطاء أي كثير الخطايا وفى هذا الحديث فضيلة الذكر وفضيلة مجالسه والجلوس مع أهله وان لم يشاركهم وفضل مجالسة الصالحين وبركتهم والله أعلم قال القاضى عياض رحمه الله وذكر الله تعالى ضربان ذكر بالقلب وذكر باللسان وذكر بالقلب نوعان أحدهما وهو أرفع الأذكار وأجلها الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سمواته وأرضه ومنه الحديث خير لذكر الخفى والمراد به هذا والثانى ذكره بالقلب عند الأمر والنهى فيمتثل ما أمر به ويترك ما نهى عنه ويقف عما أشكل عليه وأما ذكر اللسان مجردا فهو أضعف الأ ذكار ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث قال وذكر ابن جرير الطبري وغيره اختلاف السلف في ذكر القلب واللسان أيهما أفضل قال القاضى والخلاف عندي انما يتصور في مجرد ذكرو القلب تسبيحا وتهليلا وشبههما وعليه يدل كلامهم لا أنهم مختلفون في الذكر الخفى الذى ذكرناه والا فذلك
[ 16 ]
لا يقاربه ذكر اللسان فكيف يفاضله وانما الخلاف في ذكر القلب بالتسبيح المجرد ونحوه والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب فان كان لاهيا فلا واحتج من رجح ذكر القلب بأن عمل السر أفضل ومن رجح ذكر اللسان قال لأن العمل فيه أكثر فإن زاد باستعمال اللسان اقتضى زيادة أجر قال القاضى واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب فقيل تكتبه ويجعل الله تعالى لهم علامة يعرفونه بها وقيل لا يكتبونه لأنه لا يطلع عليه غير الله قلت الصحيح أنهم يكتبونه وأن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده والله أعلم باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ذكر في الحديث أنها كانت أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لما جمعته من خيرات الآخرة والدنيا وقد سبق شرحه قريبا والله أعلم
[ 17 ]
باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء قوله صلى الله عليه وسلم فيمن قال في يوم لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ فقدمر مائة مرة لم يأت أحد بأفضل مما جاء الا أحد عمل أكثر من ذلك هذا فيه دليل على أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة ويكون له ثواب آخر على الزيادة وليس هذا من الحدود التى نهى عن اعتدائها ومجاوزة اعدادها وان زيادتها لا فضل فيها أو تبطلها كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة ويحتمل أن يكون المراد الزيادة من أعمال الخير لا من نفس التهليل ويحتمل أن يكون المراد مطلق الزيادة سواء كانت من التهليل أو من ومن غيره وهذا الاحتمال أظهر والله اعلم وظاهر اطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في هذا الحديث من قال هذا التهليل مائة مرة في يومه سواء قاله متوالية أو متفرقة في جالس أو بعضها اول النهار وبعضها آخره لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزا له في جميع نهاره قوله صلى الله عليه وسلم في حديث التهليل ومحيت عنه مائة سيئة وفى حديث التسبيح حطت خطاياه وان
[ 18 ]
كانت مثل زبد البحر ظاهره أن التسبيح أفضل وقد قال في حديث التهليل ولم يأت أحد أفضل مما جاء به قال القاضى في الجواب عن هذا أن التهليل المذكور أفضل ويكون ما فيه من زيادة الحسنات ومحو السيئات وما فيه من فضل عتق الرقاب وكونه حرزا من الشيطان زائدا على فضل التسبيح وتكفير الخطايا لانه قد ثبت أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار فقد حصل بعتق رقبة واحدة تكفير جميع الخطايا مع ما يبقى له من زيادة عتق الرقاب الزائدة على الواحدة ومع ما فيه من زيادة مائة درجة وكونه حرزا من الشيطان ويؤيده ما جاء في الحديث بعد هذا أن أفضل الذكر التهليل مع الحديث الآخر أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلى لا اله إلا الله وحده لا شريك له الحديث وقيل انه اسم الله الأعظم وهى كلمة الاخلاص والله أعلم وقد سبق أن معنى التسبيح التنزيه عما لا يليق به سبحانه وتعالى من الشريك والولد والصاحبة والنقائص مطلقا وسمات الحدوث مطلقا قوله في حديث التهليل عشر مرات حدثنا عبد الله بن
[ 19 ]
أبى السفر عن الشعبى عن ربيع بن خثيم عن عمرو بن ميمون عن ابن أبى ليلى عن أبى أيوب الأنصاري رضى الله عنهم هذا الحديث فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض وهم الشعبى وربيع وعمرو وابن أبى ليلى واسم ابن أبى ليلى هذا عبد الرحمن وأما ابن أبى السفر فبفتح الفاء وسكنها بعض المغاربة والصواب الفتح قوله الله أكبر كبيرا منصوب بفعل محذوف أي
[ 20 ]
كبرت كبيرا أو ذكرت كبيرا قوله صلى الله عليه وسلم يسبح مائة تسبيحة فيكتب له الف حسنة أو يحط عنه الف خطيئة هكذا هو في عامة نسخ صحيح مسلم أو يحط بأو في بعضها ويحط بالواو وقال الحميدى في الجمع بين الصحيحين كذا هو في كتاب مسلم أو يحبأو وقال البرقانى ورواه شعبه وأبو عوانة ويحيى القطان عن يحيى الذى رواه مسلم من جهته فقالوا ويحط بالواو والله أعلم
[ 21 ]
باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر فيه حديث أبى هريرة من نفس عن مؤمن كربة الى آخره وهو حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب وسبق شرح افراد فصوله ومعنى نفس الكربة ازالها وفيه فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو اشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك وفضل الستر على المسلمين وقد سبق تفصيله وفضل انظار المعسر وفضل المشى في طلب العلم ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى وان كان هذا شرطا في كل عبادة لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة به لكونه قد يتساهل فيه بعض الناس ويغفل عنه بعض البتدئين ونحوهم قوله صلى الله عليه وسلم وما اجتمع فقوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم الا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة قيل المراد بالسكينة هنا الرحمة وهو الذي اختاره القاضى عياض وهو ضعيف لعطف الرحمة عليه وقيل الطمأنية والوقار هو أحسن وفى هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد
[ 22 ]
وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال مالك يكره وتأوله بعض اصحابه ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما ان شاء الله تعالى ويدل عليه الحديث الذى بعده فإنه مطلق يتناول جميع المواضع ويكون التقييد في الحديث الأول خرج على الغالب لا سيما في ذلك الزمان فلا يكون له مفهوم يعمل به قوله صلى الله عليه وسلم ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه معناه من كان عمله ناقصا لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال فينبغي أن
[ 23 ]
لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء ويقصر في العمل قوله لم أستحلفكم تهمة لكم هي بفتح الهاء واسكانها وهى فعلة وفعلة من الوهم والتاء بدل من الواو واتهمته به إذا ظننت به ذلك قوله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يباهى بكم الملائكة معناه يظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثنى عليكم عندهم وأصل البهاء الحسن والجمال وفلان يباهى بماله أي يفخر ويتجمل بهم على غيرهم ويظهر حسنهم باب استحباب الإستغفار والإستكثار منه قوله صلى الله عليه وسلم أنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة قال أهل اللغة الغين بالغين المعجمة والغين والغيم بمعنى والمراد هنا ما يتغشى القلب قال القاضى قيل المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذى كان شأنه الدوام عليه فإذا فتر عنه أو غفل عد ذلك ذنبا واستغفر منه قال وقيل هو همه بسبب أمته وما اطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم وقيل سببه
[ 24 ]
اشتغاله بالنطر في مصالح أمته وأمورهم ومحاربة العدو ومداراته وتأليف المؤلفة ونحو ذلك فيشتغل بذلك من عظيم مقامه فيراه ذنبا بالنسبة الى عظيم منزلته وان كانت هذه الامور من أعظم الطاعات وأفضل الاعمال فهى نزول عن عالى درجته ورفيع مقامه من حضوره مع الله تعالى ومشاهدته ومراقبته وفراغه مما سواه فيستغفر لذلك وقيل يحتمل أن هذا الغين هو السكينة التي تغشى قلبه لقوله تعالى " السكينة عليهم " ويكون استغفاره اظهار العبودية والإفتقار وملازمة الخشوع وشكرا لما أولاه وقد قال المحاشى خوف الأنبياء والملائكة خوف اعظام وإن كانوا آمنين عذاب الله تعالى وقيل يحتمل أن هذا الغين حال خشية واعظام يغشى القلب ويكون استغفاره شكرا كما سبق وقيل هو شئ يعترى القلوب الصافية مما تتحدث به النفس فهوشها والله أعلم باب التوبة قوله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس توبوا الى الله فانى أتوب في اليوم مائة مرة هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى " الى الله جميعا أيها المؤمنون " وقوله تعالى " أيها الذين آمنوا توبوا الى الله
[ 25 ]
توبة نصوحا " وقد سبق في الباب قبله بيان سبب استغفاره وتوبته صلى الله عليه وسلم ونحن الى الاستغفار والتوبة أحوج قال أصحابنا وغيرهم من العلماء للتوبة ثلاثة شروط أن يقلع عن المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزما جازما أن لا يعود الى مثلها أبدا فان كانت المعصية تتعلق بآدمى فلها شرط رابع وهو رد الظلامة الى صاحبها أو يحصل البراءة منه والتوبة أهم قواعد الاسلام وهى أول مقامات سالكي طريق الآخرة قوله صلى الله عليه وسلم من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه قال العلماء هذا حد لقبول التوبة وقد جاء في الحديث الصحيح أن للتوبة بابا مفتوحا فلا تزال مقبولة حتى يغلق فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق وامتنعت التوبة على من لم يكن تاب قبل ذلك وهو معنى قوله تعالى " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل آو كسبت في إيمانها خير " ومعنى تاب الله عليه قبل توبته ورضى بها وللتوبة شرط آخر وهو أن يتوب قبل الغرغرة كما جاء في الحديث الصحيح وأما في حالة الغرغرة وهى حالة النزع فلا تقيل توبته ولا غيرها ولا تنفذ وصيته ولا غيرها باب إستحباب خفض الصوت بالذكر إلا في المواضع التى ورد الشرع برفعه فيها كالتلبية وغيرها وإستحباب الاكثار من قول لا حول ولا قوة إلا بالله قوله صلى الله عليه وسلم للناس حين جهروا بالتكبير أيها الناس اربعوا على أنفسكم انكم ليس
[ 26 ]
تدعون أصم ولا غائبا أنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم اربعوا بهمزة وصل وبفتح الباء الموحدة معناه اوفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم فان رفع الصوت انما يفعله الانسان لبعد من يخاطبه ليسمعه وأنتم تدعون الله تعالى وليس هو بأصم ولا غائب بل هو سميع قريب وهو معكم بالعلم والاحاطه ففيه الندب الى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة الى رفعه فانه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه فان دعت حاجة الى الرفع رفع كما جاءت به أحاديث وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى الذى تدعونه أقرب الى أحدكم من عنق راحلة أحدكم هو بمعنى ما سبق وحاصله أنه مجاز كقوله تعالى ونحن أقرب إليه من حيل الوريد والمراد تحقيق سماع الدعاء قوله صلى الله عليه وسلم لاحول ولاقوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة قال العلماء سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض الى الله تعالى واعتراف بالاذعان له وأنه لا صانع غير ولاراد لأمره وأن العبد لا يملك شيئا من الأمر ومعنى الكنز هنا أنه ثواب مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم قال أهل اللغة الحول الحركة والحيلة أي لاحركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى وقيل معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا باالله وقيل لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولاقوة على طاعته
[ 27 ]
إلا بمعونة وحكى هذا عن ابن مسعود رضى الله عنه وكله متقارب قال أهل اللغة ويعبر عن هذه الكلمة بالحوقلة وبالأول جزم الأزهري والجمهور وبالثاني جزم الجوهرى ويقال أيضا لا حيل ولا قوة في لغة غريبة حكاها الجوهرى وغيره
[ 28 ]
باب الدعوات والتعوذ قد سبق في كتاب الصلاة وغيره بيان تعوذه صلى الله عليه وسلم من فتنة القبر وعذاب القبر وفتنة المسيح الدجال وغسل الخطايا بالماء والثلج وأما استعاذته صلى الله عليه وسلم من فتنة الغنى وفتنة الفقر فلأنهما حالتان تخشى الفتنة فيهما بالتسخط وقلة الصبر والوقوع في حرام أو شبهة للحاجة ويخاف في الغنى من الأشر والبطر والبخل بحقوق المال أو إنفاقه في إسراف وفى باطل أو في مفاخر وأما الكسل فهو عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه وأما العجز فعدم القدرة عليه وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وكلاهما تستحب الاعاذة منه قال الخطابى انما استعاذ صلى الله عليه وسلم من الفقر الذى هو فقر النفس لا قلة المال قال القاضى وقد تكون استعاذته من فقر المال والمراد الفتنة في عدم احتماله وقلة الرضا به ولهذا قال فتنة القبر ولم يقل الفقر وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيح بفضل الفقر وأما استعاذته صلى الله عليه وسلم من الهرم فالمراد به الاستعاذة من الرد الى أرذل العمر
[ 29 ]
كما جاء في الرواية التى بعدها وسبب ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم وتشويه بعض المنظر والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل في بعضها وأما استعاذته صلى الله عليه وسلم من المغرم وهو الدين فقد فسره صلي الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة في كتاب الصلاة أن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فاخلف ولأنه قد يمطل المدين صاحب الدين ولأنه قد يشتغل به قلبه وربما مات قبل‌وفاته فبقيت ذمته مرتهنة به وأما استعاذته صلى الله
[ 30 ]
عليه وسلم من الجبن والبخل فلما فيهما من التقصير عن اداء الواجبات والقيام بحقوق الله تعالى وازالة المنكر والاغلاظ على العصاة ولانه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات ويقوم بنصر المظلوم والجهاد والسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للانفاق والجود ولمكارم الاخلاق ويمتنع من الطمع فيما ليس له قال العلماء واستعاذته صلى الله عليه وسلم من هذه الأشياء لتكمل صفاته في كل أحواله وشرعه أيضا تعليما وفى هذه الأحاديث دليل لاستحباب الدعاء والاستعاذة من كل الأشياء المذكورة وما في معناها وهذا هو الصحيح الذى أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف الى أن ترك الدعاء أفضل استسلاما للقضاء وقال آخرون منهم ان دعا للمسلمين فحسن وان دعا لنفسه فالأولى تركه وقال آخرون منهم أن وجد في نفسه باعث للدعاء استحب والافلا ودليل الفقهاء ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله والأخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله وفى هذه الأحايث ذكر المأثم وهو الاثم وفيها فتنة المحيا والممات أي فتنة الحياة والموت قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من‌سوء القضاء ومن درك الشقاء ومن شماتة الاعداء ومن جهد البلاء أما درك الشقاء فالمشهور فيه فتح الراء وحكى القاضى
[ 31 ]
وغيره أن بعض رواة مسلم رواه ساكنها وهى لغة وجهد البلاء بفتح الجيم وضمها للفتح أشهر وأفصح فاما الاستعاذة من سوء القضاء فيدخل فيها سوء القضاء في الدين والدنيا والبدن والمال والاهل وقد يكون ذلك في الخاتمة وأما درك الشقاء فيكون أيضا في أمور الآخرة والدنيا ومعناه أعوذ بك أن يدركنى شقاء وشماتة الاعداء هي فرح العدو ببلية تنزل تنزل بعدوه يقال منه شمت بكسر الميم وشمت بفتحها فهو شامت واشمته غيره وأما جهد البلاء فروى عن ابن عمرانه فسره بقلة المال وكثرة العيال وقال غيره هي الحال الشاقة قوله صلى الله عليه وسلم أعوذ بكلمات الله التامات قيل معناه الكاملات التى لا يدخل فيها نقص ولاعيب وقيل النافعة الشافية وقيل المراد بالكلمات هنا القرآن والله أعلم
[ 32 ]
باب الدعا عند النوم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع عل شقك الايمن ثم قل‌اللهم انى أسلت وجهى اليك الى آخره فقوله صلى الله عليه وسلم إذا أخذت مضجعك معناه إذا أردت النوم في مضجعك فتوضأ والمضجع بفتح الميم وفى هذا الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست بواجبة احداها الوضوء عند ارادة النوم فان كان‌متوضئا كفاه ذلك الوضوء لان المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته وليكون أصدق لرؤياه وابعد من تلعب الشيطان
[ 33 ]
به في منامه وترويعه الثانية النوم على الشق الأيمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن ولأنه أسرع الى الانتباه الثالثة ذكر الله تعالى ليكون خاتمة عمله قوله صلى الله عليه وسلم اللهم إنى أسلمت وجهى اليك وفى الرواية الأخرى أسلمت نفسي اليك أي استسلمت وجعلت نفسي منقادة لك طائعة لحكمك قال العلماء الوجه والنفس هنا بمعنى الذات كلها يقال سلم وأسلم واستسلم بمعنى ومعنى ألجأت ظهرى اليك أي توكلت عليك واعتمدتك في أمرى كله كما يعتمد الانسان بظهره الى ما يسنده قوله رغبة ورهبة أي طمعا في ثوابك وخوفا من عذابك قوله صلى الله عليه وسلم مت على الفطرة أي الاسلام وأن أصبحت أصبت خيرا أي حصل لك ثواب هذه السنن واهتمامك بالخير ومتابعتك أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قوله فرددتهن لأستذكرهن فقلت آمنت برسولك الذى أرسلت قال قل آمنت بنبيك الذى رسلت اختلف العلماء في سبب إنكاره صلى الله عليه وسلم ورده اللفظ فقيل إنما رده لأن قوله آمنت برسولك يحتمل غير النبي صلى الله عليه وسلم من حيث اللفظ واختار المازرى وغيره أن سبب الانكار أن هذا ذكر ودعاء فينبغي فيه الاقتصار على اللفظ الوارد بحروفه وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف ولعله أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها وهذا القول حسن وقيل لأن قوله ونبيك الذى أرسلت فيه جزالة من حيث صنعة الكلام وفيه جمع النبوة والرسالة فإذا قال رسولك الذى أرسلت فان هذان الأمران مع ما فيه من تكرير لفظ رسول وأرسلت وأهل البلاغة يعيبو وقد قدمنا في أول شرح خطبة هذا الكتاب أنه لا يلزم من الرسالة النبوة ولاعكسه واحتج بعض العلماء بهذا الحديث لمنع الرواية
[ 34 ]
بالمعنى وجمهورهم على جوازها من العارف ويجيبون عن هذا الحديث بأن المعنى هنا مختلف ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى قوله صلى الله عليه وسلم إذا أويت الى فراشك أي انضممت إليه ودخلت فيه كما قال في الرواية الأخرى بعد إذا أخذ مضجعه وقال في الحديث الآخر بعد هذا كان إذا أوى الى فراشه قال الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وكفانا وأوان فأما أويت وأوى الى فراشك فمقصور وأما قوله وآوانا فممدود وهذا هو الصحيح الفصيح المشهور وحكى بالقصر فيهما وسبق بيانه مرات وقيل معنى آوانا هنا رحمنا قوله فكم ممن لا مؤوى له أي لا راخم ولاعاطف عليه وقيل معناه لا وطن له ولا سكن يأوى إليه قوله صلى الله عليه
[ 35 ]
وسلم اللهم باسمك أموت وباسمك أحيا قيل معناه بذكر اسمك أحيا ما حييت وعليه أموت وقيل معناه بك أحيا أي أنت تحبيني وأنت تميتنى والاسم هنا والمسمى قوله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا واليه النشور المراد بأماتنا النوم وأما النشور الاحياء للبعث يوم القيامة فنبه صلى الله عليه وسلم باعادة اليقظة بعد النوم الذى هو كالموت على إثبات البعث بعد الموت قال العلماء وحكمة الدعاء عند إرادة النوم أن تكون خاتمة أعماله كما سبق وحكمته إذا أصبح أن يكون أول عمله بذكر التوحيد والكلم الطيب قوله صلى الله عليه وسلم اللهم خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها أي حياتها وموتها وجميع أمورها لك
[ 36 ]
وبقدرتك وفى سلطانك قوله أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته أي من شر كل شئ من المخلوقات لأنها كلها في سلطانه وهو آخذ بنواصيها قوله صلى الله عليه وسلم اللهم أنت الأول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ اقض عنا الدين يحتمل أن المراد بالدين هنا حقوق الله تعالى وحقوق العباد كلها من جميع الأنواع وإما معنى الظاهر من أسماء الله فقيل هو من الظهور بمعنى القهر والغلبة وكمال القدرة ومنه ظهر فلان‌على فلان وقيل الظاهر بالدلائل القطعية والباطن نجب عن خلقه وقيل العالم بالخفيات وأما تسميته سبحانه وتعالى بالآخر فقال الامام أبو بكر ابن الباقلانى معناه الباقي بصفاته من العلم والقدرة وغيرهما التى كان عليها في الأزل ويكون كذلك بعد موت الخلائق وذهاب علومهم وقدرهم وحواسهم وتفرق أجسامهم فقال وتعلقت المتزلة بهذا الاسم فاحتجوا به لمذهبهم في فناء الأجسام وذهابها بالكلية قالوا ومعناه الباقي بعد فناء خلقه
[ 37 ]
ومذهب أهل الحق خلاف ذلك وأن المراد الآخر بصفاته بعد ذهاب صفاتهم ولهذا يقال آخر من بقى من بني فلان فلان يراد حياته ولا يراد فناء أجسام موتاهم وعدمها هذا كلام ابن الباقلانى قوله صلى الله علنه وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليسم الله تعالى فانه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه داخلة الازار طرفه ومعناه أنه يستحب
[ 38 ]
أن ينفض فراشه قبل أن يدخل فيه لئلا يكون فيه حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره لئلا يحصل في يده مكروه ان كان هناك باب في الأدعية قوله صلى الله عليه وسلم اللهم إنى أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل قالوا معناه من شر ما اكتسبته مما قد يقتضى عقوبة في الدنيا أو يقتضى في الآخرة وإن لم أكن
[ 39 ]
قصدته ويحتمل أن المراد تعليم الأمة الدعاء قوله صلى الله عليه وسلم اللهم لك أسلمت وبك آمنت معناه لك انقدت وبك صدقت وفيه اشارة إلى الفرق بين الايمان والاسلام وقد سبق إيضاحه في أول كتاب الايمان وقوله صلى الله عليه وسلم وعليك توكلت أي فوضت أمرى اليك واليك أنبت أي أقبلت بهمتي وطاعتي وأعرضت عما سواك وبك خاصمت أي بك أحتج وأدفع وأقاتل قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول سمع سامع بحمدالله وحسن بلائه ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار أما أسحر فمعناه قام في السحر أو انتهى في سيره إلى السحر وهو آخر الليل واما سمع سامع فروى بوجهين أحدهما فتح الميم من سمع وتشديدها والثاهى كسرها مع تخفيفها واختار القاضى هنا وفى المشارق وصاحب المطالع التشديد واشار الى أنه رواية أكثر رواة مسلم قالاومعناه بلغ سامع قولى هذا لغيره وقال مثله تنبيها على الذكر في السحر والدعاء في ذلك ووضبطه الخطابى وآخرون بالكسر والتخفيف قال الخطابى معناه شهد شاهد على حمدنا الله تعالى على نعمه وحسن بلائه وقوله ربنا صاحبنا وأفضل علينا أي احفظنا وحطنا واكلانا وأفضل علينا بجزيل نعمك واصرف عنا كل مكروه وقوله عائذا بالله من النار
[ 40 ]
منصوب على الحال أي أقول هذا في حال استعاذتي واستجارتى بالله من النار قوله صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لى خطيئتي وجهلي وإسرافي إلى قوله وكل ذلك عندي أي أنا متصف بهذه الأشياء اغفرها الى قيل قاله تواضعا وعد على نفسه فوات الكمال ذنوبا وقيل أراد ما كان عن سهو وقيل ما كان قبل النبوة وعلى كل حال فهو صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فدعا بهذا وغيره تواضعا لأن الدعاء عبادة قال أهل اللغة الاسراف مجاوزة الحد قوله صلى الله عليه وسلم (أنت المقدم وأنت المؤخر) يقدم من يشاء من خلقه الى رحمته بتوفقه
[ 41 ]
ويوخر من يشاء ذلك لخذلانه قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم انى أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) أما العفاف والعفة فهو التنزه عما لا يباح والكف عنه والغنى هنا غنى النفس والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم قوله صلى الله علنه وسلم (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم انى أعوذ من علم‌ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع) هذا الحديث وغيره من الأدعية المسجوعة دليل لما قاله العلماء أن السجع المذموم في الدعاء هو المتكلف فانه يذهب الخشوع والخضوع والاخلاص ويلهى عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب فأما ما حصل بلا تكلف ولا إعمال فكر لكمال الفصاحة ونحو ذلك أو كان محفوظا فلا بأس به بل هو حسن ومعنى نفس لا تشبع استعاذة من الحرص والطمع والشره وتعلق النفس بالآمال البعيدة ومعنى زكها طهرها ولفظة خير ليست للتفضيل بل معناه لا مزكى لها الا
[ 42 ]
أنت كما قال وليها قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم انى أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر) قال القاضي رويناه الكبر باسكان الباء وفتحها فالاسكان بمعنى التعاظم على الناس والفتح بمعنى الهرم والخرف والرد الى أرذل العمر كما في الحديث الآخر قال القاضى وهذا أظهر وأشهر بما قبله قال وبالفتح ذكره الهروي وبالوجهين ذكره الخطابى وصوب الفتح وتعضده رواية النسائي
[ 43 ]
وسوء العمر قوله صلى الله عليه وسلم (وغلب الأحزاب وحده) أي قبائل الكفار المتحزبين عليهم وحده أي من غير قتال الآدميين بل أرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها قوله صلى الله عليه وسلم (فلاشئ بعده) أي سواه قوله صلى الله عليه وسلم (قل اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم) أما السداد هنا بفتح السين وسداد السهم تقويمه ومعنى سددني وفقني واجعلني منتصبا في جميع أمورى مستقيما وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور وأما الهدى هنا فهو الرشاد ويذكر ويؤنث ومعنى اذكر بالهدى هدايتك الطريق
[ 44 ]
والسداد سداد السهم أي تذكر ذلك في حال دعائك بهذين اللفظين لأن هادى الطريق لا يزيغ عنه ومسدد السهم يحرص على تقويمه ولا يستقيم رميه حتى يقومه وكا الداعي ينبغي أن يحرص على تسديد علمه وتقويمه ولزومه السنة وقيل ليتذكر بهذا لفظ السداد والهدى لئلا ينساه باب التسبيح أول النهار وعند النوم قوله (وهى في مسجدها) أي موضع صلاتها قوله (سبحان الله وبحمده مداد كلماته) هو بكسر الميم قيل معناه مثلها في العدد وقيل مثلها في أنها لا تنفد وقيل في الثواب والمداد هنا مصدر بمعنى المدد وهو ما كثرت به الشئ قال العلماء واستعماله هنا مجاز لأن كلمات الله تعالى لا تحصر بعد ولا غيره والمراد المبالغة به في الكثرة لأنه ذكر أولا ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق ثم زنة العرش ثم ارتقى الى ما هو اعظم من ذلك وعبر عنه بهذا أي ما لا يحصيه عد كما لا تحصى
[ 45 ]
كلمات الله تعالى قوله (عن أبى رشدين) هو بكسر الراء وهو كريب المذكور في الرواية الأولى قوله في حديث على وفاطمة رضى الله عنهما (حتى وجدت برد قدمه على صدري) كذا هو في نسخ مسلم قدمه مفردة وفى البخاري قدميه بالتثنية وهى زيادة ثقة لا تخالف الأولى قوله
[ 46 ]
(وقيل لعلى رضى الله عنه ما تركتهن ليلة صفين قال ولا ليلة صفين) معناه لم يمنعنى منهن ذلك الأمر والشغل الذى كنت فيه وليلة صفين هي ليلة الحرب المعروفة بصفين وهى موضع بقرب الفرات كانت فيه حرب عظيمة بينه وبين أهل الشام باب استحباب الدعاء عند صياح الديك قوله صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله فانها رأت ملكا)
[ 47 ]
قال القاضى سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء واستغفارهم وشهادتهم بالتضرع والاخلاص وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم باب دعاء الكرب فيه حيث ابن عباس وهو حديث جليل ينبغى الاعتناء به والاكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة قال الطبري كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب فان قيل هذا ذكر وليس فيه دعاء فجوابه من وجهين مشهورين أحدهما أن هذا الذكر يستفتح به الدعاء
[ 48 ]
ثم يدعو بما شاء والثانى جواب سفيان بن عيينة فقال أما علمت قوله تعالى من شغله ذكرى عن مسئلتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين وقال الشاعر إذا أثنى عليك المرء يوما * كفاه من تعرضه الثناء قوله (كان إذا حزبه أمر) هو بحاء مهملة ثم زاى مفتوحتين ثم موحدة أي نابه وألم به أمر شديد قال القاضى قال بعض العلماء وهذه الفضائل المذكورة في هذه الأذكار إنما هي لأهل الشرف في الدين والطهارة من الكبائر دون المصرين وغيرهم قال القاضى وهذا فيه نظر والأحاديث عامة قلت الصحيح أنها لا تختص والله أعلم باب فضل سبحان الله وبحمده قوله (عن أبى عبد الله الجسرى) بفتح الجيم وكسرنا وبالسين المهملة اسمه حمير بكسر الحاء وبالراء هذا هو الاصح الأشهر وقيل حميد بن بشير يقال الغنزى الجسرى منسوب إلى بنى جسر وهم بطن من بنى عنزة وهو جسر بن تيم بن القدم بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن ضرار
[ 49 ]
ابن معد بن عدنان كذا ذكره السمعاني وآخرون قوله صلى الله عليه وسلم (أحب الكلام الى الله سبحانه الله وبحمده) وفى رواية أفضل هذا محمول على كلام الآدمى والإ فالقرآن أفضل وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق فأما المأثور في وقت أو حال ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل والله أعلم باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب قوله (عن طلحة بن عبيد بن كريز) هو بفتح الكاف قوله صلى الله عليه وسلم (مامن عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل) وفى رواية قال الملك الموكل به امين ولك بمثل وفى رواية دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل أما قوله صلى الله عليه وسلم بظهر الغيب فمعناه في غيبة المدعو له وفى سره لأنه أبلغ في الاخلاص قوله (بمثل) هو بكسر الميم واسكان الثاء هذه الرواية المشهورة قال القاضى ورويناه بفتحها أيضا يقال هو مثله ومثيله بزيادة الياء أي عديله سواء وفى هذا فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة في ولو دعا لجملة المسلمين فالظاهر حصولها أيضا وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة لأنها تستجاب ويحصل له مثلها قوله (حدثنا موسى ابن سروان المعلم) هكذا رواه عامة الرواة وجميع نسخ بلادنا سروان بسين مهملة مفتوحة
[ 50 ]
وكذا نقله القاضى عن عامة شيوخهم وقال وعن ابن ماهان أنه بالثاء المثلثة قال البخاري والحاكم يقالان جميعا فيه وهما صحيحان وقال بعضهم فردان بالفاء وهو أنصاري عجلى قوله (حدثتني أم الدرداء قالت حدثنى سيدى) تعنى زوجها أبا الدرداء ففيه جواز تسمية المرأة زوجها سيدها وتوقيره وأم الدرداء هذه هي الصغرى التابعية واسمها جهيمة
[ 51 ]
باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها) الأكلة هنا بفتح الهمزة وهى المرة الواحدة من الأكل كالغداء والعشاء وفيه استحباب حمد الله تعالى عقب الأكل والشرب وقد جاء في البخاري صفة التحميد الحمد لله حمدا كثيرا طبيا مباركا فيه غير مكفى ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا وجاء غير ذلك ولو اقتصر على الحمد لله حصل أصل السنة باب بيان أنه يستجاب للداعى ما لم يعجل (فيقول دعوت فلم يستجب لى) قوله صلى الله عليه وسلم (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول دعوت فلا أو فلم يستجب لى) وفى رواية لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع باثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل يا رسول الله
[ 52 ]
ما الا ستعجال قال يقول دعوت فلم أر يستجيب لى فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء قال أهل اللغة يقال حسر واستحسر إذا أعيا وانقطع عن الشئ والمراد هنا أنه ينقطع عن الدعاء ومنه قوله تعالى لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون أي لا ينقطعون عنها ففيه أنه ينبغى إدامة الدعاء ولا يستبطئ الاجابة كتاب الرقاق باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء (وبيان الفتنة بالنساء) قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا أصحاب الجد محبوسون) هو بفتح الجيم قيل المراد به أصحاب البخت والحظ في الدنيا والغنى والوجاهة بها وقيل المراد أصحاب الولايات ومعناه محبوسون للحساب
[ 53 ]
ويسبقهم الفقراء بخمسمائة عام كما جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (إلا أصحاب النار فقد أمر بهم الى النار) معناه من استحق من أهل الغنى النار بكفره أو معاصيه وفى هذا
[ 54 ]
الحديث تفضيل الفقر على الغنى وفيه فضيلة الفقراء والضعفاء قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم انى أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك) الفجأة بفتح الفاء واسكان الجيم مقصورة على وزن ضربة والفجاءة بضم الفاء وفتح الجيم والمد لغتان وهى البغتة وهذا الحديث أدخله مسلم بين أحاديث النساء وكان ينبغى أن يقدمه عليها كلها وهذا الحديث رواه مسلم عن أبى زرعة الرازي أحد حفاظ الاسلام وأكثرهم حفظا ولم يرو مسلم في صحيحه عنه غير هذا الحديث وهو من أقران مسلم توفى بعد مسلم بثلاث سنين سنة أربع وستين ومائتين قوله
[ 55 ]
صلى الله عليه وسلم (ان الدنيا خضرة حلوة وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا واتقوا الدنيا واتقوا النساء) هكذا هو في جميع النسخ فاتقوا الدنيا ومعناه تجنبوا الافتتان بها وبالنساء وتدخل في النساء الزوجات وغيرهن وأكثرهن فتنة الزوجات ودوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن ومعنى الدنيا خضرة حلوة يحتمل أن المراد به شيئان أحدهما حسنها للنفوس ونضارتها ولذتها كالفاكهة الخضراء الحلوة فان النفوس تطلبها طلبا حثيثا فهكذا الدنيا والثانى سرعة فنائها كالشئ الأخضر في هذين الوصفين ومعنى مستخلفكم فيها جاعلكم خلفاء من القرون الذين قبلكم فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيته وشهواتكم باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال قوله صلى الله عليه وسلم (فأووا الى غار فجبل) الغار النقب في الجبل وأووا بقصر الهمزة
[ 56 ]
ويجوز فتحها في لغة قليلة سبق بيانها قريبا قوله (انظروا أعمالا عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها) استدل أصحابنا بهذا على أنه يستحب للانسان أن يدعو في حال كربه وفى دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله ويتوسل الى الله تعالى به لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم وفى هذا الحديث فضل بر الوالدين وفضل خدمتها وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة وغيرهم وفيه فضل العفاف والانكفاف عن المحرمات لاسيما بعد القدرة عليها والهم بفعلها ويترك لله تعالى خالصا وفيه جواز الاجازة وفضل حسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة وفيه اثبات كرامات الأولياء وهو مذهب أهل الحق قوله (فإذا أرحت عليهم حلبت) معناه إذا رددت الماشية من المرعى إليهم والى موضع مبيتها وهو مراحها بضم الميم يقال أرحت الماشية وروحتها بمعنى قوله (نأى بى ذات يوم الشجر) وفى بعض ناء بى فالأول يجعل الهمزة قبل الألف وبه قرأ أكثر القراء السبعة والثانى عكسه وهما لغتان وقراءتان ومعناه بعد والثانى البعد قوله (فجئت بالحلاب) هو بكسر الحاء وهو الاناء الذى يحلب فيه يسع حلبة ناقة ويقال له المحلب بكسر الميم قال القاضى وقد يريد بالحلاب هنا اللبن المحلوب قوله (والصبية يتضاغون) أي يصيحون ويستغشون من الجوع قوله (فلم يزل ذلك دأبي) أي
[ 57 ]
حالى اللازمة والفرجة بضم الفاء وفتحها ويقال لها أيضا فرج سبق بيانها مرات قوله (وقعت بين رجليها) أي جلست مجلس الرجل للوقاع قولها (لا تفتح الخاتم الا بحقه) الخاتم كناية عن بكارتها وقوله بحقه أي بنكاح لا بزنا قوله (بفرق أرز) الفرق بفتح الراء واسكانها لغتان الفتح أجوه وأشهر وهو اناء يسع ثلاثة آصع وسبق شرحه في كتاب الطهارة قوله (فرغب عنه) أي كره
[ 58 ]
وسخطه وتركه وقوله (لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا) فقوله لا أغبق بفتح الهمزة وضم الباء أي ما كنت أقدم عليهما أحدا في شرب نصيبهما غشاء من اللبن والغبوق شرب العشاء والصبوح شرب أول النهار يقال منه غبقت الرجل بفتح الباء أغبقه بضمها مع فتح الهمزة غبقا فاغتبق أي سقيته عشاء فشرب وهذا الذى ذكرته من ضبطه متفق عليه في كتب اللغة كتب غريب الحديث والشروح وقد يصحفه بعض من لا أنس له فيقول أغبق بضم الهمزة وكسر الباء وهذا غلط قوله (ألمت بها سنة) أي وقعت في سنة قحط قوله (فثمرت أجره) أي ثمنه قوله (حتى كثرت منه الأموال فارتجعت) هو بالعين المهملة ثم الجيم أي كثرت حتى ظهرت حركتها واضطرابها وموج بعضها في بعض لكثرتها والارتعاج والإضطراب والحركة واحتج بهذا الحديث أصحاب أبى حنيفة وغيرهم ممن يجيز بيع الانسان مال غيره والتصرف فيه بغير اذن
[ 59 ]
مالكه إذا أجاز المالك بعد ذلك وموضع الدلالة قوله فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاءها وفي رواية البخاري فثمرت أجره حتى كثرت منه الاموال فقلت كل ما ترى من أجرك من الابل والبقر والغنم والرقيق وأجاب أصحابنا وغيرهم ممن لا يجيز التصرف المذكور بأن هذا إخبار عن شرع من قبلنا وفي كونه شرعا لنا خلاف مشهور للاصوليين فان قلنا ليس بشرع لنا فلا حجة وإلا فهو محمول على أنه استأجره بارز في الذمة ولم يسلم إليه بل عرضه عليه فلم يقبله لرداءته فلم يتعين من غير قبض صحيح فبقي على ملك المستأجر لان ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح ثم أن المستأجر تصرف فيه وهو ملكه فصح تصرفه سواء اعتقده لنفسه أم للاجير ثم تبرع بما اجتمع منه من الابل والبقر والغنم والرقيق على الاجير بتراضيهما والله أعلم كتاب التوبة أصل التوبة في اللغة الرجوع يقال تاب وثاب بالمثلثة وآب بمعنى رجع والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الذنب وقد سبق في كتاب الايمان أن لها ثلاثة أركان الاقلاع والندم على فعل تلك المعصية والعزم على أن لا يعود إليها أبدا فان كانت المعصية لحق آدمى فلها ركن رابع وهو التحلل من صاحب ذلك الحق وأصلها الندم وهو ركنها الاعظم واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة وأنها واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة والتوبة من مهمات الاسلام وقواعده المتأكدة ووجوبها عند أهل السنة بالشرع وعند المعتزلة بالعقل ولا يجب على الله قبولها إذا وجدت بشروطها عقلا عند أهل السنة لكنه سبحانه وتعالى يقبلها كرما وفضلا وعرفنا قبولها بالشرع والاجماع خلافا لهم وإذا تاب من ذنب ثم ذكره هل يجب تجديد الندم فيه خلاف لأصحابنا وغيرهم من أهل السنة قال ابن الانباري يجب وقال امام الحرمين لا يجب وتصح التوبة من ذنب وان كان مصرا على ذنب آخر وإذا تاب توبة
[ 60 ]
صحيحة بشروطها ثم عاود ذلك الذنب كتب عليه ذلك الذنب الثاني ولم تبطل توبته هذا مذهب أهل السنة في المسئلتين وخالفت المعتزلة فيهما قال أصحابنا ولو تكررت التوبة ومعاودة الذنب صحت ثم توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها وما سواها من أنواع التوبة هل قبولها مقطوع به أم مظنون فيه خلاف لاهل السنة واختار امام الحرمين أنه مظنون وهو الأصح والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى أنا تعالى عند ظن عبدى بى وأنا معه حيث يذكرنى ومن تقرب الى شبرا) الخ هذا القدر من الحديث سبق شرحه واضحا في أول كتاب الذكر ووقع في النسخ هنا حيث يذكرنى بالثاء المثلثة ووقع في الأحاديث السابقة هناك حين بالنون وكلاهما من رواية أبى هريرة وبالنون هو المشهور وكلاهما صحيح ظاهر المعنى قوله صلى الله عليه وسلم (لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة) قال العلماء فرح الله تعالى هو رضاه وقال المازرى الفرح ينقسم على وجوه منها السرور والسرور يقاربه الرضا بالمسرور به قال
[ 61 ]
فالمراد هنا أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة فعبر عن الرضا بالفرح تأكيد المعنى في نفس السامع ومبالغة في تقريره قوله صلى الله عليه وسلم (في أرض دوية مهلكة) أما دوية فاتفق العلماء على أنها بفتح الدال وبشديد الواو والياء جميعا وذكر مسلم في الرواية التى بعد هذه رواية أبى بكر بن أبى شيبة أرض داوية بزيادة الف وهى بتشديد الياء أيضا وكلاهما صحيح قال أهل اللغة الدوية الأرض القفر والفلاة والخالية قال الخليل هي المفازة قالوا ويقال دوية وداوية فأما الدوية فمنسوب الى الدو بتشديد الواو وهى البرية التى لانبات بها وأما الداوية فهى على ابدال احدى الواوين الفا كما قيل في النسب الى طى طائى وأما المهلكة فغهى بفتح الميم وبفتح اللام وكسرها وهى موضع خوف الهلاك ويقال لها مفازة قيل أنه من قولهم فوز الرجل إذا هلك وقيل على سبيل التفاؤل بفوزه ونجاته منها كما يقال للديغ سليم قوله (دخلت على عبد الله أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين حديثا عن نفسه وحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر حديث عبد الله عن نفسه وقد ذكر البخاري في صحيحه والترمذي وغيرهما وهو قوله المؤمن يرى ذنوبه كالقاعد تحت جبل يخاف أن يقع والفاجر يزى
[ 62 ]
ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا قوله في رواية أبى بكر بن أبى شيبة (من رجل يداوية) هكذا هو في النسخ من رجل بالنون وهو الصواب قال القاضى ووقع في بعضها مر رجل بالراء وهو تصحيف لأن مقصود مسلم أن يبين الخلاف في دوية وداوية وأما لفظة من فمتفق عليها في الروايتين ولا معنى للراء هنا قوله (حمل زاده ومزاده) هو بفتح الميم قال القاضى كأنه اسم جنس للمزادة وهى القربة العظيمة سميت ذلك لأنه يزاد فيها من جلدآخر قوله (وانسل بعيره) أي ذهب في خفية قوله (فسعى شرفا فلم ير شيئا) قال القاضى يحتمل أنه أراد بالشرف هنا الطلق والغلوة كما في الحديث الآخر فاستنت شرفا أو شرفين قال ويحتمل أن المراد هنا الشرف من الأرض لينظر منه هل يراها قال وهذا أظهر قوله صلى الله عليه وسلم
[ 63 ]
(مر بجذل شجرة) هو بكسر الجيم وفتحها وبالذال المعجمة وهو أصل الشجرة القائم قوله (قلنا شديدا) أي نراه فرحا شديدا أو يفرح فرحا شديدا قوله (حدثنا يحيى بن يحيى وجعفر ابن حميد) هكذا صوابه ابن حميد وقد صحف في بعض النسخ قال الحافظ وليس لمسلم في صحيحه عن جعفر هذا غير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس من رواية هداب ابن خالد (لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره قد أضله بأرض فلاة هكذا هو في جميع النسخ إذا استيقظ على بعيره وكذا قال القاضى عياض أنه اتفقت عليه رواة صحيح مسلم قال قال بعضهم وهو وهم وصوابه إذا سقط على بعيره أي وقع عليه وصادفه من غير
[ 64 ]
قصد قال القاضى وقد جاء الحديث الاخر عن ابن مسعود قال فأرجع الى المكان الذى كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وفى كتاب البخاري فنام نومة فرفع رأسه فإذا راحلته عنده قال القاضى وهذا يصحح رواية استيقظ قال ولكن وجه الكلام وسياقه يدل على سقط كما رواه البخاري قوله (أضله بأرض فلاة) أي فقده باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة قوله (عن محمد بن قيس قاص عمر بن عبد العزيز) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا قاص بالصاد المهملة المشددة من القصص قال القاضى عياض ورواه بعضهم قاضى بالضاد المعجمة والياء والوجهان مذكوران فيه ممن ذكرهما البخاري في التاريخ وروى عنه قال كنت قاصا لعمر بن عبد العزيز وهو أمير بالمدينة قوله (عن أبى أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة كنت كتمت عنكم شيئا) انما كتمه أولا مخافة اتكالهم على سعة رحمة الله تعالى وانهما كهم في المعاصي وانما
[ 65 ]
حدث به عند وفاته لئلا يكون كاتما للعلم وربما لم يكن أحد يحفظه غيره فتعين عليه أداؤه وهو نحو قوله في الحديث الآ خر فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أي خشية الأثم بكتمان العلم وقد سبق شرحه في كتاب الايمان والله أعلم فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا قوله (قطن بن نسير) بضم النون وفتح السين قوله (عن حنظلة الأسيدى) ضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما ضم الهمزة وفتح السين وكسر الباء المشددة والثانى كذلك الا أنه باسكان الياء ولم يذكر القاضى الا هذا الثاني وهو منسوب الى بنى أسيد بطن من بنى تميم قوله (وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وذكره القاضى
[ 66 ]
عن بعض شيوخهم كذلك وعن أكثرهم وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما صحيح لكن الأول شهر في الرواية وأظهر في المعنى وقد قال في الرواية التى بعد هذه عن حنظلة الكاتب قوله (يذكرنا بالنار والجنة كانارأى عين) قال القاضى ضبطناه رأى عين بالرفع أي كأنا بحال من يراها بعينه قال ويصح النصب على المصدر أي نراها رأى عين قوله (عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات) هو بالفاء والسين المهملة قال الهروي وغيره معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا والضيعات جمع ضيعة بالضد المعجمة وهى معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة وروى الخطابى هذا الحرف عانسنا بالنون قال ومعناه لاعبنا ورواه ابن قتيبة بالشين المعجمة قال ومعناه عانقنا والأول هو المعروف وهو أعم قوله (نافق حنظلة) معناه أنه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والاقبال على الآخرة فإذا خرج اشتغل
[ 67 ]
بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر فخاف أن يكون ذلك نفاقا فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس منفاق وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك وساعة وساعة أي ساعة كذا وساعة كذا قوله (فقلت يا وسول الله نافق حنظلة فقال مه) قال القاضى معناه الاستفهام أي ما تقول والهاء هنا هي هاء السكت قال ويحتمل أنها للكف والزجر والتعظيم لذلك
[ 68 ]
باب سعة رحمة الله تعالى وأنها تغلب غضبه قوله تعالى (ان رحمتى تغلب غضبى) وفى رواية سبقت رحمتى غضبى قال العلماء غضب الله تعالى ورضاه يرجعان تالى معنى الارادة فارادته الاثابة للمطيع ومنفعة العبد تسمى رضا ورحمة وارادته عقاب العاصى وخذلانه تسمى غضبا وارادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها جميع المرادات قالوا والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه قوله صلى الله علنه وسلم (جعل الله الرحمة مائة جزء الى آخره) هذه الأحاديث من أحاديث الرجاء والبشارة للمسلمين قال العلماء لأنه إذا حصل للانسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار الاسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به فكيف الظن بمائة
[ 69 ]
رحمة في الدار الآخرة وهى دار القرار ودار الجزاء والله أعلم هكذا وقع في نسخ بلادنا جميعا جعل الله الرحمة مائة جزء وذكر القاضى جعل الله الرحم بحذف الهاء وبضم الراء قال ورويناه بضم الراء
[ 70 ]
ويجوز فتحها ومعناه الرحمة قوله (فإذا امرأة من السبى تبتغى) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم تبتغى من الابتغاء وهو الطلب قال القاضى عياض وهذا وهم والصواب ما في رواية البخاري تسعى بالسين من السعي قلت كلاهما صواب لاوهم فيه فهى ساعية وطالبة مبتغية لابنها والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (في الرجل الذى لم يعمل حسنة أوصى بنيه أن يحرقوه ويذروه في البحر والبر وقال فوالله لئن قدر على ربى ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا ثم قال في آخره لم فعلت هذا قال
[ 71 ]
من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له) اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقالت طائفة لا يصح حمل هذا على أنه أراد نفى قدرة الله فان الشاك في قدرة الله تعالى كافر وقد قال في آخر الحديث أنه أنما فعل هذا من خشية الله تعالى والكافر لا يخشى الله تعالى ولا يغفر له قال هؤلاء فيكون له تأويلان أحدهما أن معناه لئن قدر على العذاب أي قضاه يقال منه قدر بالتخفيف وقدر بالتشديد بمعنى واحد والثانى أن قدر هنا بمعنى ضيق على قال الله تعالى فقدر عليه رزقه وهو أحد الاقوال في قوله تعالى فظن أن لن نقدر عليه وقالت طائفة اللفظ على ظاهره ولكن قاله هذا الرجل وهو غير ضابط لكلامه ولاقاصد لحقيقة معناه ومعتقد لها بل قاله في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع بحيث ذهب تيقظه وتدبر ما يقوله فصار في معنى الغفل والناسى وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل الآخر الذى غلب عليه الفرح حين وجد راحلته أنت عبدى وأنا ربك فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو وقد جاء في هذا الحديث في غير مسلم فلعلي أضل الله أي أغيب عنه وهذا يدل على أن قوله لئن قدر الله على ظاهره وقالت طائفة هذا من مجاز كلام العرب وبديع استعمالها يسمونه مزج الشك باليقين كقوله تعالى وانا أواياكم لعلى هدى فصورته صورة شك والمراد به اليقين وقالت طائفة هذا الرجل جهل صفة من صفات الله تعالى وقد اختلف العلماء في تكفير جاهل الصفة قال القاضى وممن كفره بذلك ابن جرير الطبري وقاله أبو الحسن الأشعري أولا وقال آخرون لا يكفر بجهل الصفنة ولا يخرج به عن اسم الايمان بخلاف حجدها واليه رجع أبو الحسن الأشعري وعليه استقر قوله لانه لم يعتقد ذلك اعتقادا يقطع بصوابه ويراه دينا وشرعا وانما يكفر من اعتقد أن
[ 72 ]
مقالته حق قال هؤلاء ولو سئل الناس عن الصفات لوجد العالم بها قليلا وقالت طائفة كان هذا الرجل في زمن فترة حين ينفع مجرد التوحيد ولا تكليف فيل ورود الشرع على المذهب الصحيح لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقالت طائفة يجوز أنه كان في زمن شرعهم فيه جواز العفو عن الكافر بخلاف شرعنا وذلك من مجوزات العقول عند أهل السنة وانما منعناه في شرعنا بالشرع وهو قوله تعالى (ان الله لا يغفر أن يشرك به) وغير ذلك من الأدلة والله أعلم وقيل انما وصى بذلك تحقيرا لنفسه وعقوبة لها لعصيانها وإسرافها رجاء أن يرحمه الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (أسرف رجل على نفسه) أي بالغ وعلا في المعاصي والسرف مجاوزة الحد قوله ان ابن شهاب ذكر هذا الحديث ثم ذكر حديث المرأة التى دخلت النار وعذبت بسبب هرة حبستها حتى ماتت جوعا ثم قال ابن شهاب لئلا يتكل ورجل ولا ييأس رجل معناه أن
[ 73 ]
ابن شهاب لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه من سعة الرحمة وعظم الرجاء فضم إليه حديث الهرة الذى فيه من التخويف ضد ذلك ليجتمع الخوف والرجاء وهذا معنى قوله لئلا يتكل ولا ييأس وهكذا معظم آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء وكذا قال العلماء يستحب للواعظ أن يجمع في موعظته بين الخوف والرجاء لئلا يقنط أحد ولا يتكل قالوا وليكن التخويف أكثر لأن النفوس إليه أحوج لميلها الى الرجاء والراحة والاتكال وإهمال بعض الأعمال وأما حديث الهرة فسبق شرحه في موضعه قوله صلى الله عليه وسلم (أن رجلا فيمن كان قبكم راشه الله مالا وولدا) هذه اللفظة رويت بوجهين في صحيح مسلم أحدهما راشه بألف ساكنة غير مهموزة وبشين معجمة والثانى رأسه بهمزة وسين مهملة قال القاضى والأول هو الصواب وهو رواية الجمهور ومعناه أعطاه الله مالا وولدا قال ولا وجه للمهملة هنا وكذا قال غيره ولا وجه له هنا قوله (فانى لم أبتهر عند الله خيرا) هكذا هو في بعض النسخ ولبعض الرواة أبتئر بهمزة بعد التاء وفى أكثرها لم أبتهر بالهاء وكلاهما صحيح والهاء مبدلة من الهمزة ومعناهما لم أقدر خيرا ولم أدخره وقد فسرها قتادة في الكتاب وفى رواية لم يبتئر هكذا هو في جميع النسخ وفى رواية ما امتأر بالميم مهموز أيضا والميم مبدلة من الباء الموحدة قوله (وان الله يقدر على أن يعذبنى) هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا ونقل اتفاق الرواة
[ 74 ]
والنسخ عليه هكذا بتكرير ان وسقطت لفظة ان الثانية في بعض النسخ المعتمدة فعلى هذا تكون ان الأولى شرطية وتقديره ان قدر الله على عذبني وهو موافق للرواية السابقة وأما على رواية الجمهور وهى اثبات ان الثانية مع الأولى فاختلف في تقديره فقال القاضى هذا الكلام فيه تلفيق قال فان أخذ على ظاهره ونصب اسم الله وجعل تقدير في موضع خبر ان استقام اللفظ وصح المعنى لكنه يصير مخالف لما سبق من كلامه الذى ظاهره الشك في القدرة قال وقال بعضهم صوابه حذف ان الثانية وتخفيف الأولى ورفع اسم الله تعالى قال وكذا ضبطناه عن بعضهم هذا كلام القاضى وقيل هو على ظاهره باثبات ان في الموضعين والأولى مشددة ومعناه ان الله قادر على أن يعذبنى ويكون هذا على قول من تأول الرواية الأولى على أنه أراد بقدر ضيق أو غيره مما ليس فيه نفى حقيقة القدره ويجوز ان يكون على ظاهره كما ذكر هذا القائل لكن يكون قوله هنا معناه أن الله قادر على أن يعذبنى أن دفنتموني بهيئتى فأما أن سحقتموني وذريتمونى في البر والبحر فلا يقدر على ويكون جوابه كما سبق وبهذا تجتمع الروايات والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فأخذ منهم ميثاقا ففعلوا ذلك وربى) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم وربى على القسم ونقل القاضى عياض الاتفاق عليه أيضا في كتاب مسلم قال وهو على القسم من المخبر بذلك عنهم لتصحيح خبره وفى صحيح البخاري فأخذ منهم ميثاقا وربى ففعلوا ذلك به قال بعضهم وهو الصواب قال القاضى بل هما متقاربان في المعنى والقسم قال وجدته في بعض نسخ صحيح مسلم من غير رواية لأحد من شيوخنا الا للتميمي من طريق ابن الحذاء ففعلوا ذلك وذرى قال فإن صحت هذه الرواية فهي وجه الكلام لأنه أمرهم أن يذروه ولعل الذال سقطت لبعض النساخ وتابعه الباقون هذا كلام القاضى والروايات الثلاث المذكورات صحيحات المعنى ظاهرات فلا وجه لتغليط شئ منها والله أعلم قوله (فما تلافاه غيرها) أي ما تداركه
[ 75 ]
والتاء فيه زائدة قوله (ان رجلا من الناس رغسه الله مالا وولدا) هو بالغين المعجمة المخففة والسين المهملة أي أعطاه ما لا وبارك له فيه باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة هذه المسألة تقدمت في أول كتاب التوبة وهذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته قوله عز وجل للي تكرر ذنبه اعمل ما شئت فقد غفرت لك معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك وهذا جار على القاعدة التي ذكرناها قوله صلى الله
[ 76 ]
عليه وسلم إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ولا يختص قبولها بوقت وقد سبقت المسألة فبسط اليد استعارة في قبول التوبة قال المازرى المراد به قبول التوبة وانما ورد لفظ بسط اليد لان العرب إذا رضى أحدهم الشئ بسط يده لقبوله وإذا كرهه قبضها عنه فخوطبوا بأمر جسى يفهمونه وهو مجاز فان يد الجارحة مستحيلة قى حق الله تعالى باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش قد سبق تفسير غيرة الله تعالى فى حديث سعد بن عبادة وفى غيره وسبق بيان لا شئ أغير من الله
[ 77 ]
والغيرة بفتح الغين وهى في حقنا الانفة وأما في حق الله تعالى فقد فسرها هنا في حديث عمر والناقد بقوله صلى الله عليه وسلم وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه أي غيرته منعه وتحريمه قوله صلى الله عليه وسلم (ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى) حقيقة هذا مصلحة للعباد لانهم يثنون عليه سبحانه وتعالى فيثيبهم فينتفعون وهو سبحانه غنى عن العالمين لا ينفعه مدحهم ولا يضره تركهم ذلك وفيه تنبيه على فضل الثناء سبحانه وتعالى وتسبيحه وتهليله وتحميده وتكبيره وسائر
[ 78 ]
الاذكار قوله صلى الله عليه وسلم (وليس أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل) قال القاضى يحتمل أن المراد الاعتذار أي اعتذار العباد إليه من تقصيرهم وتوبتهم من معاصيهم فيغفر لهم كما قال تعالى وهو الذى يقبل التوبة عن عباده قوله صلى الله عليه وسلم
[ 79 ]
(والله أشد غيرا) هكذا هو في النسخ غيرا بفتح الغين واسكان الياء منصوب بالالف هو الغيرة قال أهل اللغة الغيرة والغير والغار بمعنى والله أعلم باب قوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات قوله في الذى أصاب من امرأة قبلة فأنزل الله فيه (إن الحسنات يذهبن السيئات) الى آخر الحديث هذا تصريح بأن الحسنات تكفر السيئات واختلفوا في المراد بالحسنات هنا فنقل الثعلبي أن أكثر المفسرين على أنها الصلوات الخمس واختاره ابن جرير وغيره من الأئمة وقال مجاهد هي قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ويحتمل أن المراد الحسنات مطلقا وقد سبق في كتاب الطهارة والصلاة ما يكفر من المعاصي بالصلاة وسبق في مواضع قوله تعالى وزلفا من الليل هي ساعته ويدخل في صلاة طرفي النهار الصبح والظهر والعصر وفى زلفا من
[ 80 ]
الليل المغرب والعشاء قوله (أصاب منها دون الفاحشة) أي دون الزنا في الفرج قوله (عالجت امرأة وانى أصبت منها ما دون أن أمسها) معنى عالجها أي تناولها واستمتع بها والمراد بالمس الجماع ومعناه استمتعت بها بالقبلة والمعانقة وغيرهما من جميع أنواع الاستمتاع إلا الجماع قوله صلى الله عليه وسلم (بل للناس كافة) هكذا تستعمل كافة حالاأى كلهم
[ 81 ]
ولا يضاف فيقال كافة الناس ولا الكافة بالألف واللام وهو معدود في تصحيف العوام ومن أشبههم قوله (أصبت حدا فأقمه على وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له هل حضرت الصلاة معنا قال نعم قال قد غفر لك) هذا الحد معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعزير وهى هنا من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لم تسقط بالصلاة فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الموجبة للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة هذا هو الصحيح في تفسير هذا الحديث وحكى القاضى عن بعضهم أن المراد بالحد المعروف قال وانما لم يحده لأنه لم يفسر موجب الحد ولم يستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عنه إيثارا للستر بل استحب تلقين الرجوع عن الاقرار بموجب الحد صريحا
[ 82 ]
باب قبول توبة القاتل وان كثر قتله قوله صلى الله عليه وسلم (إن رجلا قتل تسعا وتسعين نفسا ثم قتل تمام المائة ثم أفتاه العالم بأن له توبة) هذا مذهب أهل العلم وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمدا ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس وأما ما نفل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر عن سبب التوبة لاأنه يعتقد بطلان توبته وهذا الحديث ظاهر فيه وهو وان كان شرعا لمن قبلنا وفى الاحتجاج به خلاف فليس موضع الخلاف وانما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره فان ورد كان شرعا لنا
[ 83 ]
بلاشك وهذا قد ورد شرعنا به وهو قوله تعالى " يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون الى قوله إلا من تاب " الآية وأما قوله تعالى " يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها " فالصواب في معناها أن جزاءه جهنم وقد يجازى به وقد يجازى بغيره وقد لايجازى بل يعفى عنه فان قتل عمدا مستحلا له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد به في جهنم بالاجماع وأن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاؤه جهنم خالدا فيها لكن بفضل الله تعالى ثم أخبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها فلا يخلد هذا ولكن قد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلا وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين ثم يخرج معهم الى الجنة ولا يدخل في النار فهذا هو الصواب في معنى الآية ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم وانما فيها أنها جزاؤه أي يستحق أن يجازى بذلك وقيل ان المراد من قتل مستحلا وقيل وردت الآية في رجل بعينه وقيل المراد بالخلود طول المدة لا الدوام وقيل معناه هذا جزاؤه أن جازاه وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة لمخالفتها حقيقة لفظ الآية وأما هذا القول فهو شائع على ألسنة كثير من الناس وهو فاسد لأنه يقتضى أنه إذا عفى عنه خرج عن كونها كانت جزاء وهى جزاء له لكن ترك الله مجازاته عفوا عنه وكرما فالصواب ما قدمناه والله أعلم قوله (انطلق الى أرض كذا وكذا فان فيها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع الى أرضك فأنها أرض سوء) قال العلماء في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التى أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين ومن يقتدى بهم وينتفع بصحبتهم وتتأكد بذلك توبته قوله (وانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت) هو
[ 84 ]
بتخفيف الصاد أي بلغ نصفها قوله (نأى بصدره) أي نهض ويجوز تقديم الألف على الهمزة وعكسه وسبق في حديث أصحاب الغار وأما قياس الملائكة ما بين القريتين وحكم الملك الذى جعلوه بينهم بذلك فهذا محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه أمره عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا رجلا ممن يمر بهم فمر الملك في صورة رجل فحكم بذلك
[ 85 ]
باب سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين وفداء كل مسلم بكافر من النار قوله صلى الله عليه وسلم (إذا كان يوم القيامة دفع الله تعالى إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فكاكك من النار) وفى رواية لا يموت رجل مسلم الا أدخل الله مكانه النار يهوديا أو نصرانيا وفي رواية يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى الفكاك بفتح الفاء وكسرها الفتح أفصح وأشهر وهو الخلاص والفداء ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبى هريرة لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار لاستحقاقه ذلك بكفره ومعنى فكاكك من النار أنك كنت معرضا لدخول النار وهذا فكاكك لأن الله تعالى قدر لها عددا يملؤها فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين وأما رواية يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب فمعناه أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ويضع على اليهود والنصارى مثلها يكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين ولا بد من هذا التأويل لقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وقوله ويضعها مجاز والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرناه لكن لما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم حملوا الاثم الباقي وهو إثمهم ويحتمل أن يكون المراد آثاما كان للكفار سبب فيها بأن سنوها فتسقط عن المسلمين بعفوا الله تعالى ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها
[ 86 ]
والله أعلم قوله (فاستحلفه عمر بن عبد العزيز أن أباه حدثه) إنما أستحلفه لزيادة الاستيشاق والطمأنينة ولما حصل له من السرور بهذه البشارة العظيمة للمسلمين أجمعين ولأنه ان كان عنده فيه شك وخوف غلط أو نسيان أو اشتباه أو نحو ذلك أمسك عن اليمين فإذا حلف تحقق انتفاء هذه الأمور وعرف صحة الحديث وقد جاء عن عمر بن عبد العزيز والشافعي رحمهما الله أنهما قالا هذا الحديث أرجى حديث للمسلمين وهو كما قالا لما فيه من التصريح بفداء كل مسلم وتعميم الفداء ولله الحمد قوله صلى الله عليه وسلم (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كتفه
[ 87 ]
فيقرره بذنوبه) الى آخره أما كنفه فبنون مفتوحة وهو ستره وعفوه والمراد بالدنو هنا دنو كرامة واحسان لادنو مسافة والله تعالى منزه عن المسافة وقربها باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه قوله (ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام) أي تبايعنا عليه وتعاهدنا وليلة العقبة هي الليلة التى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار
[ 88 ]
فيها على الاسلام وأن يودوه وينصروه وهى العقبة التى في طرف منى التى يضاف إليها جمرة العقبة وكانت بيعة العقبة مرتين في سنتين في السنة الأولى وكانوا اثنى عشر وفى الثانية سبعين كلهم من الأنصار رضى الله عنهم قوله (وان كانت بدر أذكر) أي أشهر عند الناس بالفضيلة قوله (واستقبل سفرا بعيدا ومفازا) أي برية طويلة قليلة الماء يخاف فيها الهلاك وشبق قريبا بيان الخلاف في تسميتها مفازة ومفازا قوله (فجلا للمسلمين أمرهم) هو بتخفيف اللام أي كشفه وبينه وأوضحه وعرفهم ذلك على وجهه من غير تورية يقال جلوت الشئ كشفته قوله (ليتأهبوا أهبة غزوهم) الأهبة بضم الهمزة وإسكان الهاء أي ليستعدوا بما يحتاجون إليه في سفرهم ذلك قوله فأخبرهم بوجههم أي بمقصدهم قوله يريد بذلك الديوان) هو بكسر الدال على المشهور وحكى فتحها وهو فارسي معرب وقيل عربي قوله (فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وخى من الله تعالى) قال القاضى هكذا هو في جميع نسخ مسلم وصوابه ألا يظن أن ذلك سيخفى له بزيادة الا وكذا رواه البخاري
[ 89 ]
(فأنا إليها أصعر) أي أميل قوله (حتى استمر بالناس الجد) بكسر الجيم قوله (ولم أقض من جهازي شيئا) بفتح الجيم وكسرها أي أهبة سفري قوله (تفارة الغزو) أي تقدم الغزاته سبقوا وفاتوا قوله (رجلا مغموصا عليه في النفاق) أي متهما به وهو بالغين المعجمة والصاد المهملة قوله (ولم يذكرنى حتى بلغ تبوكا) هكذا هو في أكثر النسخ تبوكا بالنصب وكذا هو في نسخ البخاري وكأنه صرفها لارادة الموضع دون البقعة قوله والنظر في عطفيه أي جانبيه وهو اشارة الى إعجابه بنفسه ولباسه قوله (فقال له معاذ بن جبل بئس ما قلت) هذا دليل لردغيبة المسلم الذى ليس بمتهتك في الباطل وهو من مهمات الآداب وحقوق الاسلام قوله (راى وجلا مبيضا يزول به السراب) المبيض
[ 90 ]
بكسر الباء هو لابس البياض ويقال هم المبيضة والمسودة بالكسر فيهما أي لا بسوا البياض والسواد ويزول به السراب أي يتحرك وينهض والسراب هو ما يظهر للانسان في الهواجر في البراري كأنه ماء قوله صلى الله عليه وسلم (كن أبا خيثمة) قيل معناه أنت أبو خيثمة قال ثعلب العرب تقول كن زيدا أي أنت زيد قال القاضى عياض والأشبه عندي أن كن هنا للتحقق والوجود أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة وهذا الذى قاله القاضى هو الصواب وهو معنى قول صاحب التحرير تقديره اللهم اجعله أبا خيثمة وأبو خيثمة هذا اسمه عبد الله بن خيثمة وقيل مالك بن قيس قال بعض الحفاظ وليس في الصحابة من يكنى أبا خيثمة ألا أثنان أحدهما هذا والثانى عبد الرحمن بن أبى سبرة الجعفي قوله (لمزه المنافقون) أي عابوه واحتقروة قوله (توجه قافلا) أي راجعا قوله (حضرني بثى) أي أشد الحزن قوله (قد أظل قادما زاح عنى الباطل) فقوله أظل بالظاء المعجمة أي أقبل ودنا قدومه كأنه ألقى على ظله وزاح أي زال قوله (فأجمعت صدقه) أي عزمت عليه يقال
[ 91 ]
أجمع أمره وعلى أمره وعزم عليه بمعنى قوله (لقد أعطيت جدلا) أي فصاحة وقوة في الكلام وبراعة بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب الى إذا أردت قوله (تبسم تبسم المغضب) هو بفتح الضاد أي الغضبان قوله (ليوشكن) هو بكسر الشين أي ليسر عن قوله (تجد على فيه) هو بكسر الجيم وتخفيف الدال أي تغضب قوله (انى لأرجو فيه عقبى الله) أي أن بعقبنى خيرا وأن يثبتني عليه قوله (فوالله ما زالوا يؤنبوننى) هو بهمز بعد الياء ثم نون ثم موحدة
[ 92 ]
أي يلومونني أشد اللوم قوله (في الرجلين صاحبي كعب هما مرارة بن ربيعة العامري) هكذا هو في جميع نسخ مسلم العامري وأنكره العلماء وقالوا هو غلط انما صوابه العمرى بفتح العين وسكان الميم من بنى عمرو بن عوف وكذا ذكره البخاري وكذا نسبه محمد بن إسحاق وابن عبد البر وغيرهما من الأئمة قال القاضى هو الصواب وان كان القابسى قد قال لاأعرفه إلا العامري فالذي غيره الجمهور أصح وأما قوله مرارة بن ربيعة فكذا وقع في نسخ مسلم وكذا نقله القاضى عن نسخ مسلم ووقع في البخاري ابن الربيع قال ابن عبد البر يقال بالوجهين ومرارة بضم الميم وتخفيف الراء المكررة قوله (وهلال بن أمية الواقفى) هو بقاف ثم فاء منسوب الى واقف بطن من الأنصار وهو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلى بن عامر بن كعب ابن واقف واسم واقف مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس والأنصارى قوله (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة) قال القاضى هو بالرفع وموضعه نصب على الاختصاص قال سيبويه نقلا عن العرب اللهم اغفر لنا أيتها العصابة وهذا مثله وفى هذا هجران أهل البدع والمعاصي قوله (حتى تنكرت لى في نفسي الأرض فما هي بالأرض التى أعرف) معناه تغير على كل شئ حتى الأرض فانها توحشت على وصارت كأنها أرض لم أعرفها لتوحشها على قوله (فأما صاحباى فاستكانا) أي خضعا قوله (أشب القوم وأجلدهم)
[ 93 ]
أي أصغرهم سنا وأقواهم قوله (تسورت جدار حائطا أبى قتادة) معنى تسورته علوته وصعدت سوره وهو أعلاه وفيه دليل لجواز دخول الانسان بستان صديقه وقريبه الذى يدل عليه ويعرف أنه لا يكره له ذلك بغير إذنه بشرط أن يعلم أنه ليس له هناك زوجة مكشوفة ونحو ذلك قوله (فسلمت عليه فوالله ما رد على السلام) لعموم النهى عن كلامهم وفيه أنه لا يسلم على المبتدعة ونحوهم وفيه أن السلام كلام وأن من حلف لا يكلم إنسانا فسلم عليه أورد عليه السلام حنث قوله (أنشدك بالله هو بفتح الهمزة وضم الشين أي أسألك الله وأصله من النشيد وهو الصوت قوله (الله ورسوله أعلم) قال القاضى لعل أبا قتادة لم يقصد بهذا تكليمه لأنه منهى عن كلامه وانما قال ذلك لنفسه لما ناشده الله فقال أبو قتادة مظهرا لاعتقاده لا ليسمعه ولو حلف رجل لا يكلم رجلا فسأله عن شئ فقال الله أعلم يريد إسماعه وجوابه حنث قوله (نبطى من نبط أهل الشام) يقال النبط والأنباط والنبيط وهم فلاحو العجم قوله (ولم يجعلك الله
[ 94 ]
بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك) المضيعة فيها لغتان إحداهما كسر الضاد وإسكان الياء والثانية باسكان الضاد وفتح الياء أي في موضع رحال يضاع فيه حقك وقوله نواسك وفى بعض النسخ نواسيك بزيادة وهو صحيح أي ونحن نواسيك وقطعه عن جواب الأمر ومعناه نشاركك فيما عندنا قوله (فتياممت بها التنور فسجرتها) هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا وهى لغة في تيممت ومعناهما قصدت ومعنى سجرتها أي أحرقتها وأنت الضمير لأنه أراد معنى الكتاب وهو الصحيفة قوله (واستلبث الوحى) أي أبطأ قوله (فقلت لامرأتي الحقى بأهلك فكوني عندهم حتى يقضى الله في هذا الأمر) هذا دليل على أن هذا اللفظ ليس صريحا في الطلاق وانما هو كناية ولم ينو به
[ 95 ]
الطلاق فلم يقع قوله (وأنا رجل شاب) يعنى أنى قادر على خدمة نفسي وأخاف أيضا على نفسي من حدة الشباب ان أصبت امرأتي وقد نهيت عنها قوله (فكمل لنا خمسون) هو بفتح الميم وضمها كسرها قوله (وضاقت على الأرض بما رحبت) أي بما اتسعت ومعناه ضاقت على الأرض مع أنها متسعة والرحب السعة قوله (سمعت صارخا أوفى على سلع) أي صعده وارتفع عليه وسلع بفتح السين المهملة واسكان اللام وهو جبل بالمدينة معروف قوله (يا كعب بن مالك أبشر) وقوله (فذهب الناس يبشروننا) فيه دليل لا ستحباب التبشير والتهنئة لمن تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه كربة شديدة ونحو ذلك هذا الاستحباب عام في كل نعمة حصلت وكربة انكشفت سواء كانت من أمور الدين أو الدنيا قوله (فخررت ساجدا) دليل للشافعي وموافقيه في استحباب سجود الشكر بكل نعمة ظاهرة حصلت أو نعمة ظاهرة اندفعت قوله (فآذن الناس) أي أعملهم قوله فنزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته) فيه استحباب
[ 96 ]
إجازة البشير بخلعة وإلا فبغيرها والخلعة أحسن وهى المعتادة قوله (واستعرت ثوبين فلبستهما) فيه جواز العارية وجواز إعارة الثوب للبس قوله (فانطلفقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا) أتأمم أفصد والفوج الجماعة قوله (فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأنى) فيه استحباب مصافحة القادم والقيام له إكراما والهرولة الى لقائه بشاشة وفرحا قوله صلى الله عليه وسلم (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) معناه سوى يوم إسلامك انما لم يستثنه لأنه معلوم لابد منه قوله (أن من توبتي أن أنخلع من مالى صدقة الى الله والى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك بعض مالك فهو خير لك) معنى أنخلع منه أخرج منه وأتصدق به وفيه استحباب الصدقة شكرا للنعم المتجددة
[ 97 ]
لا سيما ما عظم منها وانما أمره صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الصدقة ببعضه خوفا من تضرره بالفقر وخوفا أن لا يصبر على الاضاقة ولا يخالف هذا صدقة أبى بكر رضى الله عنه بجميع ماله فانه كان صابرا راضيا فان قيل كيف قال أنخلع من مالى فأثبت له مالا مع قوله أولا نزعت ثوبي والله ما أملك غيرهما فالجواب أن المراد بقوله أن أنخلع من مالى الأرض والعقار ولهذا قال فاني أمسك سهمي الذى بخيبر وأما قوله ما أملك غيرهما فالمراد به من الثياب ونحوهما مما يخلع ويليق بالبشير وفيه دليل على تخصيص اليمين بالنية وهو مذهبنا فإذا حلف لا مال له ونوى نوعا لم يحنث بنوع آخر من المال أولا يأكل ونوى تمرا لم يحنث بالخبر قوله فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث أحسن مما أبلاني) أي أنعم عليه والبلاء والابلاء يكون في الخير والشر لكن إذا أطلق كان للشر غالب فإذا أريد الخير قيد كما قيده هنا فقال أحسن مما أبلاني قوله (والله ما تعمدت كذبة) هي باسكان الذال وكسرها قوله (ما أنعم الله على من نعمة قط بعد
[ 98 ]
إذ هداني للاسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك) هكذا هو في جميع نسخ مسلم وكثير من روايات البخاري قال العلماء لفضة لافى قوله أن لا أكون زائدة ومعناه أن أكون كذبته كقوله تعالى ما منعك أن لا تسجد إذا أمرتك وقوله فأهلك بكسر اللام على الفصيح المشهور وحكى فتحها وهو شاذ ضعيف قوله (وارجاؤه أمرنا) أي تأخيره قوله (في رواية ابن أخى الزهري عن عمه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن
[ 99 ]
كعب عن عبيد الله بن كعب) كذا قاله في الرواية عبيد الله بضم العين مصغر وكذا قاله في الرواية التى بعدها رواية معقل بن عبيد الله عن الزهري عن عبد الرحمن عن عبيد الله بن كعب مصغر وقال قبلهما في رواية يونس المذكور أول الحديث عن الزهري عن عبد الله بن كعب بفتح العين مكبر وكذا قال في رواية عقيل عن الزهري عن عبد الله ابن كعب مكبر قال الدارقطني الصواب رواية من قال عبد الله بفتح العين مكبر ولم يذكر البخاري في الصحيح إلا رواية عبد الله مكبر مع تكراره الحديث قوله (قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها) أي أوهم غيرها وأصله من وراء كأنه جعل البيان وراء ظهره قوله (وكان أوعاهم لأحاديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أحفظهم قوله (لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين) المراد بهما غزوة بدر وغزوة تبوك كما صرح به
[ 100 ]
في الرواية الأولى قوله (وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بناس كثير يزيدون على عشرة آلاف) هكذا وقع هنا زيادة على عشرة آلاف ولم يبين قدرها وقد قال أبو زرعة الرازي كانوا سبعين ألفا وقال ابن إسحق كانوا ثلاثين ألفا وهذا أشهر وجمع بينهما بعض الأئمة بأن أبا زرعة عد التابع والمتبوع وابن إسحق عد المتبوع فقط والله أعلم واعلم أن في حديث كعب هذا رضى الله عنه فوائد كثيرة إحداها إباحة الغنيمة لهذا الأمة لقوله خرجوا يريدون عير قريش الثانية فضيلة أهل بدر وأهل العقبة الثالثة جواز الحلف من غير استحلاف في غير الدعوى عند القاضى الرابعة أنه ينبغى لأمير الجيش إذا أراد غزوة أن يورى بغيرها لئلا يسبقه الجواسيس ونحوهم بالتحذير الا إذا كانت سفرة بعيدة فيستحب أن يعرفهم البعد ليتأهبوا الخامسة التأسف على ما فات من الخير وتمنى المتأسف أنه كان فعله لقوله فياليتني فعلت السادسة رد غيبة المسلم لقول معاذ بئس ما قلت السابعة فضيلة الصدق وملازمته وان كان فيه مشقة فان عاقبته خير وان الصدق يهدى الى البر والبر يهدى الى الجنة كما ثبت في الصحيح الثامنة استحباب صلاة القادم من سفر ركعتين في مسجد محلته أول قدومه قبل كل شئ التاسعة أنه يستحب للقادم من سفر إذا كان مشهورا يقصده الناس لسلام عليه أن يقعد لهم في مجلس بارزهين الوصول الله العاشرة الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر وقبول معاذير المنافقين ونحوهم ما لم يترتب على ذلك مفسدة الحادية عشر استحباب هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة وترك السلام عليهم ومقاطعتهم تحقيرا لهم وزجرا الثانية عشر استحباب بكائه على نفسه إذا وقعت منه معصية الثالثة عشر أن مسارقة النظر في الصلاة والالتفات لا يبطلها الرابعة عشر أن السلام يسمى كلاما وكذلك رد السلام وأن من حلف لا يكلم إنسانا فسلم عليه أو رد عليه السلام يحنث الخامسة عشر وجوب إيثار طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على مودة الصديق والقريب وغيرهما كما فعل أبو قتادة حين سلم عليه كعب فلم يرد عليه حين نهى عن كلامه السادسة عشر
[ 101 ]
أنه إذا حلف لا يكلم إنسانا فتكلم ولم يقصد كلامه بل قصد غيره فسمع المحلوف عليه لم يحنث الحالف لقوله الله أعلم فانه محمول على أنه لم يقصد كلامه كما سبق السابعة عشر جواز إحراق ورقة فيها ذكر الله تعالى لمصلحة كما فعل عثمان والصحابة رضى الله عنهم بالمصاحف التى هي غير مصحفة الذى أجمعت الصحابة عليه وكان ذلك صيانة فهى حاجة وموضع الدلالة من حديث كعب أنه أحرق الورقة وفيها لم يجعلك الله بدار هون الثامنة عشر إخفاء ما يخاف من إظهاره مفسدة وإتلاف التاسعة عشر أن قوله لامرأته الحقى بأهلك ليس بصريح طلاق ولا يقع به شئ إذا لم ينو العشرون جواز خدمة المرأة زوجها برضاها وذلك حائر له بالاجماع فأما الزامها بذلك فلا الحادية والعشرون استحباب الكنايات في ألفاظ الاستمتاع بالنساء ونحوها الثانية والعشرون الورع والاحتياط بمجانية ما يخاف منه الوقوع في منهى عنه لانه لم يستأذن في خدمة امرأته له وعلل بأنه شاب أي لا يأمن مواقعتها وقد نهى عنها الثالثة والعشرون استحباب سجود الشكر عند تجدد نعمة ظاهرة أو اندفاع بلية ظاهرة وهو مذهب الشافعي وطائفة وقال أبو حنيفة وطائفة لا يشرع الرابعة والعشرون استحباب التبشير بالخير الخامسة والعشرون استحباب تهنئة من رزقه الله خيرا ظاهرا أو صرف عنه شرا ظاهرا السادسة والعشرون استحباب اكرام المبشر بخلعه أو نحوها السابعة والعشرون أنه يجوز تخصيص اليمين بالنية فإذا حلف لامال له ونوى نوعا لم يحنث بنوع من المال غيره وإذا حلف لا يأكل ونوى خبزا لم يحنث باللحم والتمر وسائر المأكول ولا يحنث الا بذلك النوع وكذلك لو حلف لا يكلم زيدا ونوى كلاما مخصوصا لم يحنث بتكلميه ايا غير ذلك الكلام المخصوص وهذا كله متفق عليه عند أصحابنا ودليله من هذا الحديث قوله في الثوبين والله ما أملك غيرهما ثم قال بعده في ساعة ان من توبتي أن أنخلع من مالى صدقة ثم قال فابى أمسك سهمي الذى بخيبر الثامنة والعشرون جواز العارية التاسعة والعاشرون جواز استعارة الثياب للبس الثلاثون استحباب اجتماع الناس عند امامهم وكبيرهم في الأمور المهمة من بشارة ومشورة وغيرهما الحادية والثلاثون واستحباب القيام للوارد إكراما له إذا كان من أهل الفضل بأى نوع كان وقد جاءت به أحاديث جمعتها في جزء مستقل بالترخيص فيه والجواب عما يظن به مخالفا لذلك الثانية والثلاثون استحباب المصافحة عند التلاقي وهى سنة بلا خلاف الثالثة والثلاثون اسحباب سرور الامام وكبير القوم بما يسر أصحابه وأتباعه
[ 102 ]
الرابعة والثلاثون أنه يستحب لمن حصلت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه كربة ظاهرة أن يتصدق بشئ صالح من ماله شكرا لله تعالى على إحسانه وقد ذكر أصحابنا أنه يستحب له سجود الشكر والصدقة جميعا وقد اجتمعا في هذا الحديث الخامسة والثلاثون أنه يستحب لمن خاف أن لا يصبر على الاضاقة أن لا يتصدق بجميع ماله بل ذلك مكروه له السادسة والثلاثون أنه يستحب لمن رأى من يريد أن يتصدق بكل ماله ويخاف عليه أن لا يصير على الاضافة أن ينهاه عن ذلك ويشير عليه ببعضه السابعة والثلاثون أنه يستحب لمن تاب بسبب من الخير أن يحافظ على ذلك السبب فهو أبلغ في تعظيم حرمات الله كما فعل كعب في الصدق والله أعلم باب في حديث الافك وقبول توبة القاذف قوله (حدثنا حبان بن موسى) هو بكسر الحاء وليس له في صحيح مسلم ذكر الا في هذا الموضع وقد أكثر عنه البخاري في صحيحه قوله (عن الزهري قال حدثنى سعيد بن المسيب وعروة ابن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيدالله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة الى قوله وكلهم حدثنى طائفة من الحديث وبعضهم أوعى لحديثها من بعض الى قوله وبعض حديثهم يصدق بعضا) هذا الذى ذكره الزهري من جمعه الحديث عنهم جائز لامنع منه ولا كراهة فيه لأنه قد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم وهؤلاء الاربعة أئمة حفاظ ثقات من أجل التابعين فإذا
[ 103 ]
ترددت اللفظة من هذا الحديث بين كونها عن هذا أو ذاك لم بضر وجاز الاحتجاج بها لأنهما ثقتان وقد اتفق العلماء على أنه لو قال حدثنى زيدا أو عمرو وهما ثقتان معروفان بالثقة عند المخاطب جاز الاحتجاج به قوله (وبعضهم أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا) أي أحفظ وأحسن إيرادا وسردا للحديث قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه) هذا دليل لمالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء في العمل بالقرعة في القسم بين الزوجات وفى العتق والوصايا والقسمة ونحو ذلك وقد جاءت فيها أحاديث كثيرة في الصحيح مشهورة قال أبو عبيد عمل بها ثلاثة من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يونس وزكريا ومحمد صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر استعمالها كالاجماع قال ومعنى لقول من ردها والمشهور عن أبى حنيفة إبطالها وحكى عنه إجازتها قال ابن المنذر وغيره القياس تركها لكن عملنا بها للآثار وفيه القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن بغير قرعة هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة وآخرون وهو رواية عن مالك وعنه رواية أن له السفر بمن شاء منهن بلا قرعة لأنها قد تكون أنفع له في طريقه والأخرى أنفع له في بيته وماله
[ 104 ]
قولها (آذن ليلة بالرحيل) روى بالمد وتخفيف الذال وبالقصر وتشديدها أي أعلم قولها (وعقدي من جزع ظفار قد انقطع) أما العقد فمعروف نحو القلادة والجزع بفتح الجيم واسكان الزاى وهو خرز يمانى وأما ظفار فبفتح الظاء المعجمة وكسر الراء وهى مبنية على الكسر تقول هذه ظفار ودخلت ظفار والى ظفار بكسر الراء بلا تنوين في الأحوال كلها وهى قرية في اليمن قولها (وأقبل الرهط الذى كانوا يرحلون لى فحملوا هو دجى فرحلوه على بعيرى) هكذا وقع في أكثر النسخ لى باللام وفى بعض النسخ بى بالباء واللام أجود ويرحلون بفتح الياء واسكان الراء وفتح الحاء المخففة أي يجعلون الرحل على البعير وهو معنى قولها فرحلوه بتخفيف الحاء والرهط هم جماعة دون عشرة والهودج بفتح الهاء مركب من مراكب النساء قولها (وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم انما يأكلن العلقة من الطعام) فقولها يهبلن ضبطوه على أوجه أشهرها ضم الياء وفتح الهاء والباء المشددة أي يثقلن باللحم والشحم والثانى يهبلن بفتح الياء والباء وإسكان الهاء بينهما والثالث بفتح الياء وضم الباء الموحدة ويجوز بضم أوله وإسكان الهاء وكسر الموحدة قال أهل اللغة يقال هبله اللحم وأهبله إذا أثقله وكثر لحمه وشحمه وفي رواية البخاري لم يثقلن وهو بمعناه وهو أيضا المراد بقولها ولم يغشهن اللحم ويأكلن العلقة بضم العين أي القليل ويقال لها أيضا البلغة
[ 105 ]
قولها (فتيممت منزلي) أي قصدته قولها (وكان صفوان بن المعطل) هو بفتح الطاء بلا خلاف كذا ضبطه أبو هلال العسكري والقاضى في المشارق وآخرون قولها عرس من وراء الجيش فادلج) التعريس النزول آخر الليل في السفر لنوم أو استراحة وقال أبو زيد هو النزول أي وقت كان والمشهور الأول قولها (ادلج) بتشديد الدال وهو سير آخر الليل قولها (فرأى سواد إنسان) أي شخصه قولها (فاستيقظت باسترجاعه) أي انتبهت من نومى بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون قولها (خمرت وجهى) أي غطيته قولها (نزلوا موغرين في نحر الظهيرة) الموغر بالغين المعجمة النازل في وقت الوغر بفتح الواو واسكان الغين وهى شدة الحر كما فسرها في الكتاب في آخر الحديث وذكر هناك أن منهم من رواه موعرين بالعين المهملة وهو ضعيف ونحر الظهيرة وقت القائلة وشدة الحر قولها (وكان الذى تولى كبره) أي معظمه وهو بكسر الكاف على القراءة المشهورة وقرئ في الشواذ بضمها وهى لغة قولها (وكان الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول) هكذا صوابه ابن سلول برفع ابن وكتابته بالألف
[ 106 ]
صفة لعبد الله وقد سبق بيانه مرات وتقدم إيضاحه في كتاب الايمان في حديث المقداد مع نظائره قولها (والناس يفيضون قول أهل الافك) أي يخوضون فيه ولافك بكسر الهمزة واسكان الفاء هذا هو المشهور وحكى القاضى فتحهما جميعا قال هما لغتان كنجس ونجس وهو الكذب قولها (وهو يريبنى أنى لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذى كنت أرى منه) يريبنى بفتح أوله وضمه يقال رابه وأرابه إذا أوهمه وشككه واللطف بضم اللام واسكان الطاء ويقال بفتحهما معا لغتان وهو البر والرفق قولها (ثم يقول كيف تبكم) هي اشارة الى المؤنثة كذلكم في المذكر قولها (خرجت بعد ما تفهمت) هو بفتح القاف وكسرها لغتان حكاهما الجوهرى في الصحاح وغيره والفتح أشهر واقتصر عليه جماعة يقال نقه ينقه نقوها فهو ناقه ككلح يكلح كلوحا فهو كالح ونقه ينقه نقها فهو ناقه كفرح يفرح فرحا والجمع نقه بضم النون وبشديد القاف والناقه هو الذى أفاق من المرض ويبرأ منه وهو قريب عهد به لم يتراجع إليه كمال صحته قولها (وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع) أما مسطح فبكسر الميم وأما المناصع فبفتحها وهى مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها قولها (قبل أن نتخذ الكنف) هي جمع كنيف قال أهل اللغة الكنيف الساتر مطلقا قولها (وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه) ضبطوا الأول بوجهين أحدهما ضم الهمزة وتخفيف الواو والثانى الأول بفتح الهمزة وبشديد الواو وكلاهما
[ 107 ]
صحيح والتنزه طلب النزاهة بالخروج الى الصحراء قولها (وهى بنت أبى رهم وابنها مسطح بن أثاثه) أما رهم فبضم الراء واسكان الهاء وأثاثه بهمزة مضمومة وثاء مثلثة مكررة ومسطح لقب واسمه عامر وقيل عوف كنيته أبو عباد وقيل أبو عبد الله توفى سنة سبع وثلاثون وقيل أربع وثلاثون واسم أم مسطح سلمى قولها (فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح) أما عثرت فبفتح الثاء وأما تعس فبفتح العين وكسرها لغتان مشهوران واقتصر الجوهرى على الفتح والقاضى على الكسر ورجح بعضهم الكسر وبعضهم الفتح ومعناه عثر وقيل هلك وقيل لزمه الشر وقيل بعد وقيل سقط بوجهه خاضة وأما المرط فبكسر الميم وهو كساء من صوف وقد يكون من غيره قولها (أي هنتاه) هي باسكان النون وفتحها الاسكان أشهر قال صاحب نهاية الغريب وتضم الهاء الأخيرة وتسكن ويقال في التثنية هنتان وفى الجمع منات وهنوات وفى المذكر هن وهنان وهنون ولك أن تلحقها الهاء لبينن الحركة فتقول ياهنه وأن تشبع حوكة النون فتصير ألفا فتقول يا هناه ولك ضم الهاء فتقول يا هناه أقبل قالوا وهذه اللفظة تختص بالنداء ومعناه يا هذه وقيل يا امرأة وقيل يا بلهاء كأنها نسبت الى قلة المعرفة بمكايد الناس وشرورهم ومن المذكور حديث الصبى بن معبد قلت يا هناه أنى حريص على الجهاد
[ 108 ]
والله أعلم قولها (قلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها) الوضئية مهموزة ممدودة هي الجميلة الحسنة والوضاءة الحسن ووقع في رواية ابن ماهان حظية من الحظوة وهى الوجاهة وارتفاع المنزلة والضراير جمع ضرة وزوجات الرجل ضراير لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى بالغيرة والقسم وغيره والاسم منه الضر بكسر الضاد وحكى ضمها وقولها ألا كثرن عليها هو بالثاء المثلثة المشددة أي أكثون القول في عيبها ونقصها قولها (لا يرقأ لى دمع) هو بالهمزة أي لا ينقطع قولها (ولا أكتحل بنوم) أي لا أنام قولها استلبث الوحي أي أبطأ ولبث ولم ينزل قولها (وأما على بن أبى طالب فقال لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير) هذا الذى قاله على رضى الله عنه هو الصواب في حقه لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبى صلى الله عليه وسلم في اعتقاده ولم يكن ذلك في نفس الأمر لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وتقلقه فأراد راحة خاطره وكان ذلك أهم من غيره قولها
[ 109 ]
(والذى بعثك بالحق إن رأت عليها أمر اقط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتى الداجن فتأكله) فقولها أغمصه بفتح الهمزة وكسر الميم وبالصاد المهملة أي أعيبها والداجن الشاة التى تألف البيت ولا تخرج للمرعى ومعنى هذا الكلام أنه ليس فيها شئ مما تسألون عنه أصلا ولا فيها شئ من غيره الا نومها عن العجين قولها (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبى سلول) أما أبى منون وابن سلول بالالف وسبق بيانه وأما استعذر معناه أنه قال من يعذرني فيمن آذانى في أهلى كما بينه في هذا الحديث ومعنى من يعذرني من يقوم بعذري ان كافأته على قبيح فعاله ولا يلومني وقيل معناه من ينصرني والعذير الناصر قولها (فقام سعد بن معاذ فقال أنا أعذرك منه) قال القاضى عياض هذا مشكل لم يتكلم فيه أحد وهو قولها فقام سعد بن معاذ فقال أنا أعذرك منه وكانت هذه القصة في غزوة المريسيع وهى غروة بنى المصطلق سنة ست فيما ذكره ابن اسحاق ومعلوم أن سعد بن معاذ مات في اثر غزاة الخندق من الرمية التى أصابته وذلك سنة أربع باجماع أصحب السير الاشيئا قاله الواقدي
[ 110 ]
وحده قال القاضى قال بعض شيوخنا ذكر سعد بن معاذ في هذا وهم والأشبه أنه غيره ولهذا لم يذكر ابن اسحاق في السير وانما قال ان المتكلم أولا وآخرا أسيد بن حضير قال القاضى وقد ذكر موسى بن عقبة أن غزوة المريسيع كانت سنة أربع وهى سنة الخندق وقد ذكر البخاري اختلاف ابن اسحاق وابن عقبة قال القاضى فيحتمل أن غزاة المريسيع وحديث الافك كانا في سنة أربع قبل قصة الخندق قال القاضى وقد ذكر الطبري عن الواقدي أن المريسيع كانت سنة خمس قال وكانت الخندق وقريظة بعدها وذكر القاضى اسماعيل الخلاف في ذلك وقال الأولى أن يكون المريسيع قبل الخندق قال القاضى وهذا لذكر سعد في هذا لذكر سعد في قصة الافك وكانت في المريسيع فعلى هذا يستقيم فيه ذكر سعد بن معاذ وهو الذى في الصحيحين وقول غير ابن اسحق في غير وقت المريسيع أصح هذا كلام القاضى وهو صحيح قولها (ولكن اجتهلته الحمية) هكذا هو هنا لمعظم رواة صحيح مسلم اجتهلته بالجيم والهاء أي استخفته وأغضبته وحملته على الجهل وفى رواية ابن ماهان هنا احتملته بالحاء والميم وكذا رواه مسلم بعد هذا من رواية يونس وصالح وكذا رواه البخاري ومعناه أغضبته فالروايتان صحيحتان قولها (فثار الحيان الأوس والخزرج) أي تناهضوا للنزاع والعضبية كما قالت حتى هموا أن يقتلوا قوله صلى الله عليه
[ 111 ]
وسلم (وان كنت ألممت بذنب فاستغفري الله) معناه ان كنت فعلت ذنبا وليس ذلك لك بعادة وهذا أصل اللمم قولها (قلص دمعى) هو بفتح القاف واللام ارتفع لاستعظام ما يعيينى من الكلام قولها لابويها (أجيبا عنى) فيه تفويض الكلام الى الكبار لأنهم أعرف بمقاصده واللائق بالمواطن منه وأبواها يعرفان حالها وأما قول أبويها لا ندري ما نقول فمعناه أن الأمر الذى
[ 112 ]
سألها عنه لا يقفان منه على زائد ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحى من حسن الظن بها والسرائر الى الله تعالى قولها (ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه) أي ما فارقه قولها (فأخذه ما كان يأخذه من البر حاء) هي بضم الموحدة وفتح الراء بالحاء المهملة والمد وهى الشدة قولها (حتى انه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق) معنى ليتحدر لينصب والجمان بضم الجيم وتخفيف الميم وهو الدر شبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بحبات اللؤلؤ في الصفاء والحسن قولها (فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي كشف وأزيل قولها (فقالت لى أمي قومي فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد الا الله هو الذى أنزل برأتي) معناه قالت لها أمها قومي فاحمديه وقبلي رأسه واشكريه لنعمة الله تعالى التى بشرك فقالت عائشة ما قالت ادلالا عليه وعتبا لكونهم شكوا في حالها مع علمهم بحسن طرائقها وحميل أحوالها وارتفاعها عن
[ 113 ]
هذا الباطل الذى افتراه قوم ظالمون ولا حجة له ولا شبهة فيه قالت وانما أحمد ربى سبحانه وتعالى الذى أنزل برأتي وأنعم على بما لم أكن أتوقعه كما قالت ولشأنى كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى قوله عز وجل (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) أي لا يحلفوا والالية اليمين وسسبق بيانها قولها (أحمى سمعي وبصرى) أي أصون سمعي وبصرى من أن أقول سمعت ولم أسمع وأبصرت ولم أبصر قولها وهي التي كانت تساميني أي تفاخرني وتضاهيني بجمالها ومكانها عند النبي صلى الله عليه وسلم وهى مفاعلة من السمو وهو الارتفاع قولها (وطفقت أختها حمنة تحارب لها) أي جعلت تتعصب لها فتحكى ما يقوله أهل الافك وطفق الرجل بكسر الفاء على المشهور وحكى فتحها وسبق بيانه
[ 114 ]
قوله (ما كشفت من كنف أنثى قط) الكنف هنا بفتح الكاف والنون أي ثوبها الذى يسترها وهو كناية عن عدم جماع النساء جميعهن ومخالطتهن قوله (وفى حديث يعقوب موعرين) يعنى بالعين المهملة وسبق بيانه وقوله في تفسير عبد الرزاق الوغرة شدة الحر هي باسكان الغين وسبق بيانه قوله صلى الله عليه وسلم (أشيروا على في أناس أبنوا أهلى) هو بباء موحدة
[ 115 ]
مفتوحة مخففة ومشددة رووه هنا بالوجهين التخفيف أشهر ومعناه اتهموها والأبن بفتح الهمزة يقال أبنه يأبنه ويأبنه بضم الباء وكسرها إذا اتهمه ورماه بخلة سوء فهو مأبون قالوا وهو مشتق من الأبن بضم الهمزة وفتح الباء هي العقد في القسى تفسدها وتعاب بها قوله (حتى أسقطوا لهابه فقالت سبحان الله) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا أسقطوا لهابه بالباء التى هي حرف الجر وبهاء ضمير المذكر وكذا نقله القاضى عن رواية الجلودى قال وفى رواية ابن ماهان لهاتها بالتاء المثناة فوق قال الجمهور هذا غلط وتصحيف والصواب الأول ومعناه صرحوا لها بالأمر ولهذا قالت سبحان الله استعظاما لذلك وقيل أتوا بسقط من القول في سؤالها وانتهارها يقال أسقط وسقط في كلامه إذا أتى فيه بساقط وقيل إذا أخطأ فيه وعلى رواية ابن ماهان إن صحت معناها أسكتوها وهذا ضعيف لأنها لم تسكت بل قالت سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على ثبر الذهب وهى القطعة الخالصة قولها (وأما المنافق عبد الله بن أبى فهو
[ 116 ]
الذى كان يستوشيه) أي يستخرجه بالبحث والمسألة ثم بفشيه ويشيعه ويحركه ولا ندعه بحمد والله أعلم واعلم أن في حديث الافك فوائد كثيرة إحداها جواز رواية الحديث الواحد عن جماعة عن كل واحد قطعة مبهمة منه وهذا وأن كان فعل الزهري وحده فقد أجمع المسلمون علي قبوله منه والاحتجاج به الثانية صحة القرعة بين النساء وفى العتق وغيره ما ذكرناه في أول الحديث مع خلاف العلماء الثالثة وجوب الاقراع بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن الرابعة أنه لا يجب قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات وهذا مجمع عليه إذا كان السفر طويلا وحكم القصير حكم الطويل على المذهب الصحيح وخالف فيه بعض أصحابنا الخامسة جواز سفر الرجل بزوجته السادسة جواز غزوهن السابعة جواز ركوب النساء في الهوادج الثامنة جواز خدمة الرجال لهن في تلك الأسفار التاسعة أن ارتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير العاشرة جواز خروج المرأة لحاجة الانسان بغير إذن الزوج وهذا من الأمور المستثناة الحادية عشر جواز لبس النساء القلائد في السفر كالحضر الثانية عشر أن من يركب المرأة على البعير وغيره لا يكلمها إذا لم يكن محرما إلا لحاجة لأنهم حملوا الهودج ولم يكملوا من يظنونها فيه الثالثة عشر فضيلة الاقتصار في الأكل للنساء وغيرهن وأن لا يكثر منه بحيث يهبله اللحم لأن هذا كان حالهن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم فهو الكامل الفاضل المختار الرابعة عشر جواز تأخر بعض الجيش ساعة ونحوها لحاجة تعرض له عن الجيش إذا لم يكن ضرورة الى الاجتماع الخامسة عشر إعانة الملهوف وعون المنقطع وإنقاذ الضائع وإكرام ذوى الأقدار كما فعل صفوان رضى الله عنه في هذا كله السادسة عشر حسن الأدب مع الأجنبيات لاسيما في الخلوة بهن عند الضرورة في برية أو غيرها كما فعل صفوان من إبراكه الجمل من غير كلام ولا سؤال وانه ينبغى أن يمشى قدامها لا يجنبها ولا وراءها السابعة عشرا استحباب الإيثار بالركوب ونحوه كما فعل صفوان الثامنة عشرة استحباب الإسترجاع عند المصائب سواء كانت في الدين أو الدنيا وسواء كانت في نفسه أو من يعز عليه التاسعة عشر تغطية المرأة وجهها عن نظر
[ 117 ]
الأجنبي سواء كان صالحا أو غيره العشرون جواز الحلف من غير استحلاف الحادية والعشرون أنه يستحب أن يستر عن الانسان ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا عن عائشة رضى الله عنها هذا الأمر شهرا ولم تسمع بعد ذلك إلا بعارض عرض وهو قول أم مسطح تعس مسطح الثانية والعشرون استحباب ملاطفة الرجل زوجته وحسن المعاشرة الثالثة والعشرون أنه إذا عرض عارض بأن سمع عنها شيئا أو نحو ذلك يقلل من اللطف ونحوه لتفطن هي أن ذلك لعارض فتسأل عن سببه فتزيله الرابعة والعشرون استحباب السؤال عن المريض الخامسة والعشرون أنه يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة أن تكون معها رفيقة تستأنس بها ولا يتعرض لها أحد السادسة والعشرون كراهة الانسان صاحبه وقريبه إذا أذى أهل الفضل أو فعل غير ذلك من القبائح كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه السابعة والعشرون فضيلة أهل بدر والذب عنهم كما فعلت عائشة في ذبها عن مسطح الثامنة والعشرون أن الزوجة لا تذهب الى بيت أبويها ألا باذن زوجها التاسعة والعشرون جواز التعجب بلفظ التسبيح وقد تكرر في هذا الحديث وغيره الثلاثون استحباب مشاورة الرجل بطانته وأهله وأصدقاءه فيما ينويه من الأمور الحادية والثلاثون جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة عمن له به تعلق أما غيره فهو منهى عنه وهو تجسس وفضول الثانية والثلاثون خطبة الامام الناس عند نزول أمر مهم الثالثة والثلاثون اشتكاءولى الأمر الى المسلمين من تعرض له بأذى في نفسه أو أهله أو غيره واعتذاره فيما يريد أن يؤذيه به الرابعة والثلاثون فضائل ظاهرة لصفوان بن المعطل رضى الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بما شهد وبفعله الجميل في إركاب عائشة رضى الله عنها وحسن أدبه في جملة القضية الخامسة والثلاثون فضيلة لسعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضى الله عنهما والسادسة والثلاثون المبادرة الى قطع الفتن والخصومات والمنازعات وتسكين الغضب السابعة والثلاثون قبول التوبة والحث عليها الثامنة والثلاثون تفويض الكلام الى الكبار دون الصغار لأنهم أعرف التاسعة والثلاثون جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز ولا خلاف أنه جائز الأربعون استحباب المبادرة بتبشير من تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه بلية ظاهرة الحادية والأربعون براءة عائشة رضى الله عنها من الافك وهى براءة قطعية بنص القرآن العزيز فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافرا مرتدا باجماع المسلمين قال ابن عباس وغيره لم تزن امرأة نبى من الأنبياء صلوات الله وسلامه
[ 118 ]
عليهم أجمعين وهذا إكرام من الله تعالى لهم الثانية والأربعون تجديد شكر الله تعالى عند تجدد النعم الثالثة والأربعون فضائل لأبى بكر رضى الله عنه في قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم الآية الرابعة والأربعون استحباب صلة الأرحام وان كانوا مسيئين الخامسة والأربعون العفو والصفح عن المسئ السادسة والأربعون استحباب الصدقة والانفاق في سبيل الخيرات السابعة والأربعون أنه يستحب لمن حلف على يمين ورأى خيرا منها أن يأتي الذى هو خير ويكفر عن يمينه الثامنة والأربعون فضيلة زينب أم المؤمنين رضى الله عنها التاسعة والأربعون التثبيت في الشهادة الخمسون إكرام المحبوب بمراعاة أصحابه ومن خدمة أو أطاعة كما فعلت عائشة رضى الله عنها بمراعاة حسان واكرامه إكراما للنبى صلى الله عليه وسلم الحادية والخمسون أن الخطبة تبتدأ بحمد الله تعالى والثناء بما هو أهله الثانية والخمسون أنه يستحب في الخطب أن يقول بعد الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والشهادتين أما بعد وقد كثرت فيه الأحاديث الصحيحة الثالثة والخمسون غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم واهتمامهم بدفع ذلك الرابعة والخمسون جواز سب المتعصب لمبطل كما سب أسيد بن حضير سعد بن عبادة لتعصبه للمنافق وقال انك منافق تجادل عن المنافقين وأراد أنك تفعل فعل المنافقين ولم يرد النفاق الحقيقي باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة ذكر في الباب حديث أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولده صلى الله عليه وسلم فأمر عليا رضى الله عنه أن يذهب يضرب عنقه فذهب فوجده يغتسل في ركى وهو البئر فرآه مجبوبا فتركه قيل لعله
[ 119 ]
كان منافقا ومستحقا للقتل بطريق آخر وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنا وكف عنه على رضى الله عنه اعتمادا على أن القتل بالزنا وقد علم انتفاء الزنا والله أعلم
[ 120 ]
كتاب صفات المنافقين وأحكامهم قوله (حتى ينفضوا) أي ينفردوا قال زهير وهى قراءة من خفض حوله يعنى قراءة من يقرأ من حوله بكسر ميم من وبجر حوله واحترز به عن القراءة الشاذة من حوله بالفتح قوله (لووا رؤسهم) قرئ في السبع بتشديد الواو وتخفيفها كأنهم خشب بضم الشين وباسكانها الضم للأكثرين وفى حديث زيد بن أرقم هذا أنه ينبغى لمن سمع أمرا يتعلق بالامام أو نحوه من كبار ولاة الأمور ويخاف ضرره على المسلمين أن يبلغه إياه ليحترز منه وفيه منقبة لزيد وأما حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبى المنافق وإلباسه قميصه
[ 121 ]
واستغفاره له ونفثه عليه من ريقة فسبق شرحه والمختصر منه أنه صلى الله عليه وسلم فعل هذا كله اكراما لابنه وكان صالحا وقد صرح مسلم في رواياته بأن ابنه سأل ذلك ولأنه أيضا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته لمن انتسب الى صحبته وكانت هذه الصلاة قبل نزول قوله سبحانه وتعالى " على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره "
[ 122 ]
صرح به في هذا الحديث وقيل ألبسه القميص مكافأة بقميص كان ألبسه العباس قوله (قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم) قال القاضى عياض رحمه الله هذا فيه تنبيه على أن الفطنة قلما تكون مع السمن قوله تعالى " في المنافقين فئتين " قال أهل العربية معناه أي شئ لكم في الاختلاف في أمرهم وفئتين معناه فرقتين وهو منصوب عند البصريين على الحال قال سيبويه إذا قلت مالك قائما معناه لم قمت ونصبته على تقدير أي شئ يحصل لك في هذا الحال وقال الفراء
[ 125 ]
هو منصوب على أنه خبر كان محذوفة فقولك مالك قائما تقديره لم كنت قائما قوله صلى الله عليه وسلم (في أصحابي اثنا عشر منافقا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم) أما قوله صلى الله عليه وسلم في أصحابي فمعناه الذين ينسبون الى صحبتي كما قال في الرواية الثانية في أمتى وسم الخياط بفتح السين وضمها وكسرها الفتح أشهر وبه قرأ القراء السبعة وهو ثقب الابرة ومعناه لا يدخلون الجنة أبدا كما لايدخل الجمل في ثقب الابرة أبدا وأما الدبيلة فبدال مهملة ثم باء موحدة وقد فسرها في الحديث بسراج من نار ومعنى ينجم يظهر ويعلو وهو بضم الجيم وروى تكفيهم الدبيلة بحذف الكاف الثانية وروى تكفتهم بتاء مشاة فوق بعد الفاء من الكفت وهو الجمع والستر أي تجمعهم في قبورهم وتسترهم قوله (كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس فقال أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة فقال له القوم أخبره إذا سألك قال كنا نخبر أنهم أربعة عشر فان كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر وأشهد بالله أن اثنى عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا يوم يقوم الأشهاد) وهذه العقبة ليست العقبة المشهورة
[ 126 ]
بمنى التى كانت بها بيعة الأنصار رضى الله عنهم وانما هذه عقبة على طريق تبوك اجتمع المنافقون فيها للغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فعصمه الله منهم قوله صلى الله عليه وسلم (من يصعد الثنية ثنية المرار) هكذا هو في الرواية الأولى المرار بضم الميم وتخفيف الراء وفى الثانية المرار أو المرار ببضم الميم أو فتحها على الشك وفى بعض النسخ بضمها أو كسرها والله أعلم والمرار شجر مر وأصل الثنية الطريق بين جبلين وهذه الثنية عند الحديبية قال الحازمى قال ابن اسحق هي مهبط الحديبية قوله (لأن أجد ضالتي أحب الى من أن يستغفر لى صاحبكم قال وكان الرجل ينشد ضالة له) ينشد بفتح الياء وضم الشين أي يسأل عنها قال القاضى
[ 127 ]
قيل هذا الرجل هو الجد بن قيس المنافق قوله (فنبدته الأرض) أي طرحته على وجهها عبرة للناظرين وقوله (قصم الله عنقه) أي أهلكه قوله (هاجت ريخ تكاد أن تدفن الراكب) هكذا هو في جميع النسخ تدفن بالفاء والنون أي تغيبه عن الناس وتذهب به لشدتها قوله صلى الله عليه وسلم (بعثت هذه الريح لموت منافق) أي عقوبة له وعلامة لموته وراحة البلاد والعباد . قوله صلى الله
[ 128 ]
عليه وسلم (الراكبين المقفيين) أي الموليين أقفيتهما منصرفين قوله (لرجلين حينئذ من أصحابه) سماهما من أصحابه لا ظهارهما الاسلام والصحبة لاأنهما ممن نالته فضيلة الصحبة قوله صلى الله عليه وسلم (مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير الى هذه مرة والى هذه مرة) العائرة المترددة الحائرة لا تدرى لأنهما تتبع ومعنى تعير أي تردد وتذهب وقوله في الرواية الثانية تكر في هذه مرة أي تعطف على هذه وعلى هذه وهو نحوا تعير وهو بكسر الكاف
[ 129 ]
كتاب صفة القيامة والجنة والنار قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزن عند الله جناح بعوضة) أي لا يعدله في القدر والمنزلة أي لا قدر له وفيه ذم السمن والحبر بفتح الحاء وكسرها والفتح أفصح وهو العالم قوله (إن الله يمسك السموات على أصبع والارضين على أصبع الى قوله ثم يهزهن) هذا من أحاديث الصفات وقد سبق فيها المذهبان التأويل والامساك عنه مع الايمان بها مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار أي خلقها مع عظمها بلا تعب ولاملل والناس يذكرون الأصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار فيقول أحدهم بأصبعى أقتل زيدا أي
[ 130 ]
لا كلفة على في قتله وقيل يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته وهذا غير ممتنع والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة قوله (فضحك رسول صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له ثم قرأ وما قدروا الله حق قدروه ولأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الحبر في قوله إن الله تعالى يقبض السموات والأرضين والمخلوقات بالأصابع ثم قرأ الآية التى فيها الاشارة الى نحو ما يقول قال القاضى وقال بعض المتكلمين ليس ضحكه صلى الله عليه وسلم وتعجبه وتلاوته للآية تصديقا للحبر بل هو رد لقوله وانكار وتعجب من سوء اعتقاده فان مذهب اليهود التجسيم ففهم منه ذلك وقوله تصديقا له
[ 131 ]
إنما هو من كلام الراوى على ما فهم والأول أظهر قوله صلى الله عليه وسلم (يطوى الله السموات يوم القيامة ثم يأخذ بيده اليمنى ثم يطوى الأرضين بشماله) وفى رواية أن ابن مقسم نظر الى ابن عمر كيف يحكى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يأخذ الله سمواته وارضيه بيديه ويقول أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت الى المنبر يتحرك من أسفل شئ منه قال
[ 132 ]
العلماء المراد بقوليقبض أصابعه ويبسطها النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال ان ابن مقسم نظر الى ابن عمر كيف يحكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما إطلاق اليدين تعالى فمتأول على القدرة وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس وذكر اليمين والشمال حتى يتم المثال لأنا نتناول باليمين ما نكرمه وبالشمال ما دونه ولأن اليمين في حقنا يقوى لما لا يقوى له الشمال ومعلوم أن السموات أعظم من الأرض فأضافها الى اليمين والأرضين الى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة وان كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئا أخف عليه من شئ ولا أثقل من شئ هذا مختصر كلام المازرى في هذا قال القاضى وفى هذا الحديث ثلاثة ألفاظ يقبض ويطوى ويأخذ كله بمعنى الجمع لأن السموات مبسوطه والأرضين مدحوة وممدودة ثم يرجع ذلك الى معنى الرفع والازالة وتبديل الأرض غير الأرض والسموات فعاد كله الى ضم بعضها الى بعض ورفعها وتبديلها تغيرها قال وقبض النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمبسوط والمقبوض وهو السموات والارضون لا اشارة الى القبض والبسط الذى هو صفة القابض والباسط سبحانه وتعالى ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التى ليست بحارحة وقوله في المنبر (يتحرك من أسفل شئ منه) أي من أسفله الى أعلاه لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى ويحتمل
[ 133 ]
أن تحركه بحركة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الاشارة قال القاضى ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه كما حن الجذع ثم قال والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكل ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئا به ولا نشبهه بشئ ليس كمثله شئ وهو السميع البصير وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه فهو حق وصدق فما أدركنا علمه فبفضل الله تعالى وما خفى علينا آمنا به ووكلنا علمه إليه سبحانه وتعالى وحملنا لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذى خوطبنا به ولم نقطع على أحد معنييه بعد تنزيهه سبحانه عن ظاهره الذى لا يليق به سبحانه وتعالى وبالله التوفيق قوله (والشجر والثرى على اصبع) الثرى هو التراب الندى قوله (بدت نواجذه) بالذال المعجمة أي أنيابه باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام قوله صلى الله عليه وسلم (خلق المكروه يوم الثلاثاء) كذا رواه ثابت بن قاسم قال وهو ما يقوم به المعاش ويصلح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض وكل شئ يقوم به صلاح شئ فهو تقنه ومنه اتقان الشئ وهو احكامه قلت ولا منافاة بين الروايتين فكلاهما خلق يوم
[ 134 ]
الثلاثاء قوله صلى الله عليه وسلم (وما خلق النور يوم الاربعاء) كذا هو في صحيح مسلم النور بالراء وروايات ثابت بن قاسم النون بالنون في آخره قال القاضى وكذا رواه بعض رواة صحيح مسلم وهو الحوت ولا منافاة أيضا فكلاهما خلق يوم الأربعاء بفتح الهمزة وكسر الباء وفتحها وضمها ثلاث لغات حكاهن صاحب المحكم وجمعه أربعاوات وحكى أيضا أرابيع باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة قوله صلى الله عليه وسلم (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقى ليس فيها علم لأحد) العفراء بالعين المهملة والمد بيضاء الى حمرة والنقى بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء هو الدقيق الحورى وهو الدرمك وهو الأرض الجيدة قال القاضى كأن النار غيرت بياض وجه الأرض الى الحمرة قوله صلى الله عليه وسلم (ليس فيها علم لأحد) هو بفتح العين واللام أي ليس بها علامة سكنى أو بناء ولا أثر
[ 135 ]
باب نزل أهل الجنة قوله صلى الله عليه وسلم (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة) أما النزل فبضم النون والزاى ويجوز اسكان الزاى وهو ما يعد للضيف عند نزوله وأما الخبزة فبضم الخاء قال أهل اللغة هي الظلمة التى توضع في الملة ويكفأها بالهمزة وروى في غير مسلم يتكفأها بالهمز أيضا وخبزة المسافر هي التى يجعلها في الملة ويتكفأها بيديه أي يميلها من يد الى حتى تجتمع وتستوي لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها وقد سبق الكلام في اليد في حق الله تعالى وتأويلها قريبا مع القطع باستحالة الجارحة ليس كمثله شئ ومعنى الحديث أن الله تعالى يجعل الأرض كالظلمة والرغيف العظيم ويكون ذلك طعاما نزلا لأهل الجنة والله على كل شئ قدير قوله (ادامهم بالام ونون قالوا وما هذا قال ثور ونون يأكل من زائد كبدهما سبعون ألفا) أما النون فهو الحوت باتفاق العلماء وأما بالام فبباء
[ 136 ]
موحدة مفتوحة وبتخفيف اللام وميم مرفوعة غير منونة وفى معناها أقوال مضطربة الصحيح منها الذى اختاره القاضى وغيره من المحققين أنها لفظة عبرانية معناها بالعبرانية ثور وفسره بهذا ولهذا سألوا اليهودي عن تفسيرها ولو كانت عربية لعرفتها الصحابة ولم يحتاجوا الى سؤاله عنها فهذا هو المختار في بيان هذه اللفظة وقال الخطابى لعل اليهودي أراد التعمية عليهم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين على الآخر وهى لا ألف وياء يريد لأى على وزن لعا وهو الثور الوحشى فصحف الراوى الياء المثناة فجعلها موحدة قال الخطابى هذا أقرب ما يقع فيه والله أعلم وأما زائدة الكبد وهى القطعة المنفردة المتعلقة في الكبد وهى أطيبها وأما قوله يأكل منها سبعون ألفا فقال القاضى يحتمل أنهم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب فخصوا بأطيب النزل ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفا عن العدد الكثير ولم يرد الحصر في ذلك القدر وهذا معروف في كلام العرب والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لو بايعني عشرة من اليهود لم يبق على ظهرها يهودى إلا أسلم) قال صاحب التحرير المراد عشرة من أحبارهم باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وقوله تعالى " يسألونك عن الروح " قوله (كنت أمشى مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب) فقوله في
[ 137 ]
حرث بثاء مثلثة وهو موضع الزرع وهو مراده بقوله في الرواية الأخرى في نخل واتفقت نسخ صحيح مسلم على أنه حرث بالثاء المثلثة وكذا رواه البخاري في مواضع ورواه في أول الكتاب في باب وما أوتيتم من العلم إلا قليلا خرب بالباء الموحدة والخاء المعجبة جمع خراب قال العلماء الأول أصوب وللآخر وجه ويجوز أن يكون الموضع فيه الوصفان وأما العسيب فهو جريدة النخل وقوله (متكئ عليه) أي معتمد قوله (سلوه عن الروح فقالوا ما رابكم إليه لا يستقبلكم بشئ تكرهونه) هكذا في جميع النسخ ما رابكم إليه أي ما دعاكم الى سؤاله أو ما شككم فيه حتى احتجتم الى سؤاله أو ما دعاكم الى سؤال تخشون سوء عقباه قوله (فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم) أي سكت وقيل أطرق وقيل أعرض عنه قوله (فلما نزل الوحى قال يسئلونك عن الروح) وكذا ذكره البخاري في أكثر أبوابه قال القاضى وهو وهم وصوابه ما سبق في رواية ابن ماهان فلما انجلى عنه وكذا رواه البخاري في موضع وفى موضع فلما صعد الوحى وقال وهذا وجه الكلام لأنه قد ذكر قبل ذلك نزول الوحى عليه قلت وكل الروايات صحيحة ومعنى رواية مسلم أنه لما نزل الوحى وتم نزل قوله تعالى " الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " هكذا هو في بعض النسخ أوتيتم على وفق القراءة المشهورة وفى أكثر نسخ البخاري ومسلم وما أوتوا من العلم إلا قليلا قال المازرى الكلام في الروح والنفس مما يغمض ويدق ومع هذا فأكثر الناس فيه الكلام وألفوا
[ 138 ]
فيه التآليف قال أبو الحسن الأشعري هو النفس الداخل والخارج وقال ابن الباقلانى هو متردد بين هذا الذى قاله الأشعري وبين الحياه وقيل هو جسم لطيف مشارك للأجسام الظاهرة والأعضاء الظاهرة وقال بعضهم لا يعلم الروح إلا الله تعالى لقوله تعالى قل الروح من أمر ربى وقال الجمهور هي معلومة واختلفوا فيها على هذه الأقوال وقيل هي الدم وقيل غير ذلك وليس في الآية دليل على أنها لاتعلم ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها وانما أجاب بما في الآية الكريمة
[ 139 ]
لأنه كان عندهم أنه أجاب بتفسير الروح فليس بنبى وفى الروح لغتان التذكير والتانيث والله أعلم قوله (كنت قينا في الجاهلية) أي حدادا باب قوله تعالى إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى قوله (هل يعغر محمد وجهه) أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر وهو التراب قوله (فما
[ 140 ]
فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه) أما فجئهم فبكسر الجين ويقال أيضا فجأهم لغتان وينكص بكسر الكاف رجع على عقيبه يمشى على ورائه قوله (ان بينى وبينه لخندقا من نار وهو لا وأجنحة كأجنحة الملائكة) ولهذا الحديث أمثله كثيرة في عصمته صلى الله عليه وسلم من أبى جهل وغيره ممن أراد به ضررا قال الله تعالى والله يعصمك من الناس وهذه الآية نزلت تعد الهجرة والله أعلم باب الدخان قوله (ان قاصا عند أبواب كنودة) هو باب بالكوفة قوله (فأخذتهم سنة حصت كل شئ)
[ 141 ]
السنة القحط والجدب ومنه قوله تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين وحصت بحاء وصاد مشددة مهملتين أي استأصلته قوله (أفيكشف عذاب الآخرة) هذا استفهام انكار على من يقول ان الدخان يكون يوم القيامة كما صرح به في الرواية الثانية فقال ابن مسعود هذا قول باطل لأن الله تعالى قال " كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون " ومعلوم أن كشف العذاب ثم عودهم لا يكون في الآخرة انما هو
[ 142 ]
في الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم (كسنى يوسف) بتخفيف الياء قوله (فأصابهم قحط وجهد) بفتح الجيم أي مشقة شديدة وحكى ضمها قوله (فقال يا رسول الله استغفر الله لمضر) هكذا وقع في جميع نسخ مسلم استغفر الله لمضر وفى البخاري استسق الله لمضر قال القاضى قال بعضهم استسق هو الصواب اللائق بالحال لأنهم كفار لا يدعى لهم بالمغفرة قلت كلاهما صحيح فمعنى استسق اطلب لهم المطر والسقيا ومعنى استغفر ادع لهم بالهداية التى يترتب عليها الاستغفار قوله
[ 143 ]
(مضت آية الدخان والبطشة واللزام وآية الروم) وفسرها كلها في الكتاب إلا اللزام والمراد به قوله سبحانه وتعالى يكون لزاما أي يكون عذابهم لازما قالوا وهو ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر وهى البطشة الكبرى باب انشقاق القمر قال القاضى انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وقد رواها عدة من الصحابة رضى الله عنهم مع ظاهر الآية الكريمة وسياقها قال الزجاج وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفى الملة وذلك لما أعمى الله قلبه ولا إنكار للعقل وفيها لأن القمر مخلوق لله تعالى يفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكوره في آخر أمره وأما قول بعصر الملاحدة لو وقع هذا لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل أهل مكة فأجاب العلماء بأن هذا
[ 144 ]
الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون والأبواب مغلقة وهم متغطون بثيابهم فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر وغيره من العجائب والأنوار الطوالع والشهب العظام وغير ذلك مما يحدث في السماء في الليل يقع ولا يتحدث بها إلا الآحاد ولا علم عند غيرهم لما ذكرناه وكان هذا الانشقاق آية حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها فلم يتنبه غيرهم لها قالوا وقد يكون القمر كان حينئذ في بعض المجاري والمنازل التى تظهر لبعض الآفاق دون بعض كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عن قوم كما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد والله أعلم . قوله
[ 145 ]
(وحدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبى عدى كلاهما عن شعبة باسناد ابن معاذ) هكذا هو في عامة النسخ باسناد ابن معاذ وفى بعضها باسنادى معاذ قال القاضى وغير هذا أشبه بالصحة لأنه ذكر لمعاذ إسنادين فبل هذا والأول أيضا صحيح لأن الاسنادين من رواية ابن معاذ عن أبيه
[ 146 ]
باب في الكفار قال صلى الله عليه وسلم (لاأحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وحل انه يشرك به ويجعل له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم) قال العلماء معناه أن الله تعالى واسع الحلم حتى على الكافر الذى يكسب إليه الولد والند قال المازرى حقيقة الصبر منع النفس من الانتقام أو غيره فالصبر نتيجة الامتناع فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى لذلك قال القاضى والصبور من أسماء الله تعالى وهو الذى لا يعاجل العصاة بالانتقام وهو بمعنى الحليم في أسمائه سبحانه وتعالى والحليم هو الصفوح مع القدرة على الانتقام
[ 147 ]
باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبا قوله صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتديا بها فيقول نعم فيقول قد أردت منكم أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك الى قوله فأبيت الا الشرك) وفى رواية فيقال قد سئلت أيسر من ذلك وفى رواية فيقال كذبت قد سئلت أيسر من ذلك المراد باردت في الرواية الأولى طلبت منك وأمرتك وقد أوضحه في الروايتين الأخيرتين بقوله قد سئلت أيسر فيتعين تأويل أردت على ذلك جمعا بين الروايات لأنه يستحيل عند أهل الحق أن الله تعالى شيئا فلا يقع ومذهب أهل الحق أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات خيرها وسرها ومنها الايمان والكفر فهو سبحانه وتعالى مريد لايمان المؤمن ومريد لكفر الكافر خلافا للمعتزلة في قولهم انه أراد إيمان الكافر ولم يرد كفره تعالى الله عن قولهم الباطل فانه يلزم من قولهم اثبات العجز في حقه سبحانه وأنه وقع
[ 148 ]
في ملكه ما لم يرده وأما هذا الحديث فقد بينا تأويله وأما قوله فيقال له كذبت فالظاهر أن معناه أن يقال لو رددناك الى الدنيا وكانت لك كلها أكنت تفتدي بها فيقول نعم فيقال له كذبت قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت ويكون هذا من معنى قوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و بد من هذا التأويل ليجمع بينه وبين قوله تعالى " أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة " أي لو كان لهم يوم القيامة ما في الأرض جميعا ومثله معه وأمكنهم الافتداء لافتدوا وفى هذا الحديث دليل على أنه يجوز أن يقول الانسان الله يقول وقد أنكره بعض السلف وقال يكره أن يقول الله وانما يقال قال الله وقد قدمنا فساد هذا المذهب وبينا أن الصواب جوازه وبه قال عامة العلماء من السلف والخلف وبه جاء القرآن العزيز في قوله تعالى والله يقول الحق وفى الصحيحين أحاديث كثيرة مثل هذا والله أعلم
[ 149 ]
قوله صلى الله عليه وسلم (فيصبغ في النار صبغة) الصبغة بفتح الصاد أي يغمس غمسة والبؤس بالهمزة هو الشدة والله أعلم باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة)
[ 150 ]
وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى أفضى الى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها وفى رواية ان الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا وأما المؤمن فان الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته أجمع العلماء على أن الكافر الذى مات على كفره لا ثواب له في الاخرة ولا يجازى فيها بشئ من عمله في الدنيا متقربا الى الله تعالى وصرح في هذا الحديث بأن يطعم في الدنيا بما عمله من الحسنات أي بما فعله متقربا إلى الله تعالى مما لا يفتقر صحته الى النية كصلة الرحم والصدقة والعتق والضيافة وتسهيل الخيرات ونحوها وأما المؤمن فيدخر له حسناته وثواب أعماله الى الآخرة ويجزى بها مع ذلك أيضا في الدنيا ولامانع من جزائه بها في الدنيا والآخرة وقد ورد الشرع به فيجب اعتقاده قوله ان الله تعالى لا يظلم مؤمنا حسنة معناه لا يترك مجازاته بشئ من حسناته والظلم يطلق بمعنى النقص وحقيقة الظلم مستحيلة من الله تعالى كما بيق بيانه ومعنى أفضى الى الآخرة صار إليها وأما إذا فعل الكافر مثل هذه الحسنات ثم أسلم فانه يثاب عليها في الآخرتة على المذهب الصحيح وقد سبقت المسألة في كتاب الايمان
[ 151 ]
باب مثل المؤمن كالزرع والمنافق والكافر كالأرزة قوله صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمن مثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزلا تهتز حتى تستحصد) وفى رواية مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى تهيج ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على أصلها لا يفيئها شئ حتى يكون انجعافها مرة واحدة أما الخامة فبالخاء المعجبة وتخفيف الميم وهى الطاقة والقصبة اللينة من الزرع وألفها منقلبة عن واو وأما تميلها وتفيئها فمعنى واحد ومعناه تقلبها الريح يمينا وشمالا ومعنى تصرعها تخفضها وتعدلها بفتح التاء وكسر الدال أي ترفعها ومعنى تهيج تيبس وقوله صلى الله عليه وسلم تستحصد بفتح أوله وكسر الصاد كذا ضبطناه وكذا نقله القاضى عن رواية الأكثرين وعن بعضهم بضم أوله وفتح الصاد على ما لم يسم فاعله والأول
[ 152 ]
أجود أي لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة كالزرع الذى انتهى يبسه وأما الأرزة فبفتح الهمزة وراء ساكنة ثم زاى هذا هو المشهور في ضبطها وهو المعروف في الروايات وكتب الغريب وذكر الجوهرى وصاحب نهاية الغريب أنها تقال أيضا بفتح الراء قال في النهاية وقال بعضهم هي الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن فاعلة وأنكرها أبو عبيد وقد قال أهل اللغة الآرزة
[ 153 ]
بالمد هي الثابتة وهذا المعنى صحيح هنا فانكار أبى عبيد محمول على انكار روايتها كذلك لا انكار لصحة معناها قال أهل اللغة والغريب شجر معروف يقال له الأرزن يشبه شجر الصنوبر بفتح الصاد يكون بالشام وبلاد الارمن وقيل هو الصنوبر وأما المجذبة فبميم مضمومة ثم جيم ساكنة ثم ذال معجمة مكسورة وهى الثابتة المنتصبة يقال منه جذب يجذب وأجذب يجذب والانجعاف الانقلاع قال العلماء معنى الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته وأما الكافر فقليلها وان وقع به شئ لم يكفر شيئا من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة باب مثل المؤمن مثل النخلة قوله صلى الله عليه وسلم (ان من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وانها مثل المسلم فحدثوني ما هي فوقع الناس في شجرة البوادى قال عبد الله بن عمر ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله فقال هي النخلة قال فذكرت ذلك لعمر قال لان تكون قلت هي النخلة أحب الى من كذا وكذا) أما قوله لأن تكون فهو بفتح اللام ووقع في بعض
[ 154 ]
النسخ البوادى وفي بعضها البواد بحذف الياء وهى لغة وفى هذا الحديث فوائد منها استحباب القاء العالم المسألة على أصحابه ليختبر أفهامهم ويرغبهم في الفكر والاعتناء وفيه ضرب الأمثال والأشباه وفيه توقير الكبار كما فعل ابن عمر لكن إذا لم يعرف الكبار المسألة فينبغي للصغير الذى يعرفها أن يقولها وفيه سرور الانسان بنجابة ولده وحسن فهمه وقول عمر رضى الله عنه لأن تكون قلت هي النخلة أحب إلى أزاد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لابنه ويعلم حسن فهمه ونجابته وفيه فضل النخل قال العلماء وشبه النخلة بالمسلم في كثرة خيرها ودوام ظلها وطيب ثمرها ووجوده على الدوام فانه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس وبعد أن ييبس يتخذ منه منافع كثيرة ومن خشبها وورقها وأغصانها فيستعمل جذوعا وحطبا وعصيا ومخاصر وحصرا وحبالا وأواني وغير ذلك ثم آخر شئ منها نواها وينتفع به علفا للابل ثم جمال نباتها وحسن هيئة ثمرها فهى منافع كلها وخير وجمال كما أن المؤمن خير كله من كثرة طاعاته ومكارم أخلاقه ويواظب على صلاته وصيامه وقراءته وذكره والصدقة والصلة وسائر الطاعات وغير ذلك فهذا هو الصحيح في وجه الشبيه قيل وجه الشبه أنه إذا قطع رأسها ماتت بخلاف باقى الشجر وقيل لأنها لاتحمل حتى تلقح والله أعلم قوله (فوقع الناس في شجر البوادى) أي ذهبت أفكارهم الى أشجار البوادى وكان كل انسان يفسرها بنوع من أنواع شجر البوادى وذهلوا عن النخلة قوله (قال ابن عمر وألقى في نفسي أو روعى أنها النخلة فجعلت أريد أن
[ 155 ]
أقوالها فإذا اسنان القوم فأهاب أن أتكلم) الروع هنا بضم الراء وهو النفس والقلب والخلد وأسنان القوم يعنى كبارهم وشيوخهم قوله (فأتى بحمار) هو بضم الجيم وتشديد الميم وهو الذى يؤكل من قلب النخل يكون لينا قوله (حدثنا سيف قال سمعت مجاهد (هكذا صوابه سيف قال القاضى ووقع في نسخة سفيان وهو غلط بل هو سيف قال البخاري وكيع يقول هو سيف أبو سليمان وابن المبارك يقول سيف بن أبى سليمان ويحيى بن القطان يقول سيف بن سليمان قوله صلى الله عليه وسلم (لا يتحات ورقها) أي لا يتناثر ويتساقط قوله لا يتحات ورقها قال ابراهيم لعل مسلما قال وتؤتى وكذا وجدت عند غيرى أيضا ولا تؤتى أكلها كل حين معنى هذا أنه وقع في رواية ابراهيم بن سفيان صاحب مسلم ورواية غيره أيضا من مسلم لايتحات ورقها ولا تؤتى أكلها كل حين واستشكل ابراهيم بن سفيان هذا لقوله ولا تؤتى أكلها خلاف باقى الروايات فقال لعل مسلما رواه وتؤتى باسقاط لا وأكون أنا وغيري غلطنا في اثبات لاقال القاضى وغيره من الأئمة وليس
[ 156 ]
هو بغلط كما توهمه ابراهيم بل الذى في مسلم صحيح باثبات لاوكذا رواه البخاري باثبات لاووجهه أن لفظة لا ليست متعلقة بؤتى بل متعلقة بمحذوف تقديره لايتحات ورقها ولا مكرر أي لا يصيبها كذا ولا كذا لكن لم يذكر الرواة تلك الاشياء المعطوفة ثم ابتدأ فقال تؤتى أكلها كل حين باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل انسان قرينا قوله صلى الله عليه وسلم (ان الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم) هذا الحديث من معجزات النبوة وقد سبق بيان جزيرة العرب ومعناه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها قوله صلى الله عليه وسلم (ان عرش ابليس على البحر يبعث سراياه
[ 157 ]
يفتنون الناس) العرش هو سرير الملك ومعناه أن مركزه البحر ومنه يبعث سراياه في نواحى الأرض قوله (فيدنية منه ويقول نعم ويقول نعم أنت) هو بكسر النون واسكان العين وهى نعم الموضوعة للمدح فيمدحه لاعجابه بصنعه وبلوغه الغاية التى أرادها قوله (فيلتزمه) أي يضمه الى نفسه ويعانقه قوله صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا واياك قال واياى إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرنى إلا بخير) فأسلم برفع الميم وفتحها وهما روايتان مشهورنان فمن رفع قال معناه أسلم أنا من شره وفتنتة ومن فتح قال ان القرين أسلم من الاسلام وصار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير واختلفوا في الأرجح منهما فقال الخطابى الصحيح المختار الرفع ورجح
[ 158 ]
القاضى عياض الفتح وهو المختار لقوله صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنى الا بخير واختلفوا على رواية الفتح قبل أسلم بمعنى استسلم وانقاد وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم فاستسلم وقيل معناه صار مسلما مؤمنا وهذا هو الظاهر قال القاضى واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه وفى هذا الحديث اشارة الى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الامكان قوله (حدثنا ابن وهب قال أخبرني أبو صخر عن ابن قسيط) هو بضم القاف وفتح السين المهملة واسكان الياء واسمه يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسامة بن عمير الليثى المدنى أبو عبد الثابعى واسم أبى صخر هذا حميد ابن زياد الخراط المدنى سكن مصر والله أعلم
[ 159 ]
باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (لن ينجى أحدا منكم عمله قال رجل ولا اياك يارسول الله قال ولا اياى الا أن يتغمدني الله منه برحمة ولكن سددوا) وفى رواية برحمة منه وفضل وفى رواية بمغفرة ورحمة وفى رواية الا أن يتداركني الله منه برحمة اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولاعقاب ولا أيجاب ولا تحريم ولاغيرها من أنواع التكليف ولا تثبت هذه كلها ولا
[ 160 ]
غيرها الا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضا أن الله تعالى لا يحب عليه شئ تعالى الله بل العالم ملكه والدنيا والآخرة في‌سلطانه يفعل فيهما ما يشاء فلوا عذب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار كان عدلا منه وإذا أكرمهم ونعمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك ولكنه أخبر وخبره صدق أنه لا يفعل هذا بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب المنافقين ويخلدهم في النار عدلا منه وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح ويمنعون خلاف هذا في خبط طويل لهم تعالى الله عن اختراعانهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع وفى ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته وأما قوله تعالى ادخلوا الجنة بما
[ 161 ]
كنتم تعملون وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون ونحوها من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها فلا يعرض هذه الأحاديث بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال ثم التوفيق للاعمال والهداية للاخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضيلة فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهى من الرحمة والله أعلم ومعنى يتغمدني برحمته يلبسنيها ويغمدني بها ومنه أغمدت السيف وغمدته إذا جعلته
[ 162 ]
في غمده وسترته به ومعنى سددوا وقاربوا اطلبوا السداد واعملوا به وان عجزتم عنه فقاربوه اقربوا منه والسداد الصواب وهو بين الافراط والتفريط فلا تغلوا ولا تفصروا باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة قوله (ان صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا) وفى رواية حتى تفطرت رجلاه معنى تفطرت تشققت قالوا ومنه فطر الصائم وأفطره لأنه خرق صومه وشقه قال القاضى الشكر معرفة احسان المحسن والتحدث به وسميت المجازاة على فعل الجميل شكرا لأنها تتضمن الثناء عليه وشكر العبد الله تعالى اعترافه بنعمه وثناؤه عليه وتمام مواظبته على طاعته وأما شكر الله تعالى
[ 163 ]
أفعال عباده فمجازاته إياهم عليها وتضعيف ثوابها وثناؤه بما أنعم به عليهم فهو المعطى والمثنى سبحانه والشكور من أسمائه سبحانه وتعالى بهذا المعنى والله أعلم باب الاقتصاد في الموعظة قوله (ما يمنعنى أن أخرج عليكم الاكراهية أن أملكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا) السآمة بالمد الملل وقوله أملكم بضم الهمزة أي أوقعكم في الملل
[ 164 ]
وهو الضجر وأما الكراهية فبتخفيف الياء ومعنى يتخولنا يتعاهدنا هذا هو المشهور في تفسيرها قال القاضى وقيل يصلحنا وقال ابن الأعرابي معناه يتخذنا خولا وقيل يفاجئنا بها وقال أبو عبيد يدللنا وقيل يحبسنا كما يحبس الانسان خوله وهو يتخولنا بالخاء المعجمة عند جميعهم إلا أبا عمر وفقال هي بالمهملة أي يطلب حالتهم واوقات نشاطهم وفى هذا الحديث الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها
[ 165 ]
كتاب الجنة وصفة نعيمها واهلها قوله صلى الله عليه وسلم (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) هكذا رواه مسلم حفت ووقع في البخاري حفت ووقع فيه أيضا حجبت وكلاهما صحيح قال العلماء هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التى أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن ومعناه لا يوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره والنار بالشهوات وكذلك هما محجوبتان بهما فمن هتك الحجاب وصل الى المحجوب فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها والصبر على مشاقها وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والاحسان الى المسئ والصبر عن الشهوات ونحو ذلك وأما الشهوات التى النار محفوفة بها فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والنظر الى الأجنبية والغيبة واستعمال الملاهي ونحو ذلك وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه لكن يكره الاكثار منها مخافة أن يجر الى المحرمة أو يقسى القلب أو يشغل عن الطاعات أو يحوج الى الاعتناء بتحصيل الدنيا
[ 166 ]
للصرف فيها ونحو ذلك قوله عز وجل (أعددت لعبادي الصالحين ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعكم الله عليه) وفى بعض النسخ أطلعتكم عليه هكذا هو في رواية أبى بكر بن أبى شيبة ذخرا في جميع النسخ وأما رواية هارون ين سعيد الأيلي المذكورة قبلها ففيها ذكر في بعض النسخ وذخرا كالأول في بعضها قال القاضى هذه رواية الأكثرين وهو أبين كالرواية الأخرى قال والأولى رواية الفارسى فأما بله فبفتح الباء الموحدة واسكان اللام ومعناه دع عنك ما أطلعكم عليه فالذي لم يطلعكم عليه أعظم وكانه اضر ب عنه استقلالا له في جنب ما لم يطلع عليه وقيل معناها غير وقيل معناها كيف . قوله صلى الله عليه وسلم
[ 167 ]
(ان في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها) وفى رواية يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها قال العلماء والمراد بظلها كنفها وذراها وهو ما يستر أغصانها والمضمر بفتح الضاد والميم المشددة الذى ضمر ليتشتد جريه وسبق في كتاب الجهاد صفة التضمير قال القاضى ورواه بعضهم المضمر بكسر الميم الثانية صفة للراكب المضمر لفرسه
[ 168 ]
والمعروف هو الأول قوله تعالى (أحل عليكم رضواني) قال القاضى في المشارق أنزله بكم والرضوان بكسر الراء وضمها قرئ بهما في السبع والكوكب الدرى فيه ثلاث لغات قرئ بهن في السبع الأكثرون بضم الدال وتشديد الياء بلا همز والثانية بضم الدال مهموز ممدود والثالثة بكسر الدال مهموز ممدود العظيم قبل سمى دريا لبياضه كالدر وقيل لاضلعته وقيل لشبهه بالدر في كونه أرفع من باقى النجوم كالدر أرفع الجواهر قوله صلى الله عليه وسلم (أن أهل الجنة
[ 169 ]
ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما بتراءون الكوكب الدرى الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم) هكذا هو في عامة النسخ من الأفق قال القاضى لفظة من لابتداء الغاية ووقع في رواية البخاري في الأفق قال بعضهم وهو الصواب قال وذكر بعضهم أن من في رواية مسلم لانتهاء الغاية وقد جاءت كذلك كقولهم رأيت الهلال من خلل السحاب قال القاضى وهذا صحيح ولكن حملهم لفظة من هنا على انتهاء الغاية غير مسلم بل هي على بابها أي كان ابتداء رؤيته أياه رؤيته من خلل السحاب ومن الأفق قال وقد جاء في رواية عن ابن ماهان على الأفق الغربي ومعنى الغابر الذاهب الماشي أي الذى تدلى للغروب وبعد عن العيون وروى في غير صحيح مسلم الغارب بتقديم الراء وهو بمعنى ما ذكرناه وروى العازب بالعين المهملة والزاى ومعناه البعيد في الأفق
[ 170 ]
وكلها راجعة الى معنى واحد قوله صلى الله عليه وسلم (ان في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فنهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا) المراد بالسوق مجمع لهم يجتمعون كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق ومعنى يأتونها كل جمعة أي أسبوع وليس هناك حقيقة أسبوع لفقد الشمس والليل والنهار والسوق يذكر ويؤنث وهو أفصح وريح الشمال بفتح الشين والميم بغير همزة هكذا الرواية قال صاحب العين هي الشمال والشمال باسكان الميم مهموز والشأملة بهمزة قبل الميم والشمل بفتح الميم ألف والشمول بفتح الشين وضم الميم وهى التى تأتى من دبر القبلة قال القاضى وخص ريح الجنة بالشمال لأنها ريح المطر عند العرب كانت
[ 171 ]
تهب من جهة الشام وبها يأتي سحاب المطر وكانوا يرجون السحابة الشامية وجاءت في الحديث تسمية هذه الريح المثيرة أي المحركة لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة وغيره من نعيمها قوله صلى الله عليه وسلم (ان أول زمرة تدخل الجنة هي على صورة القمر ليلة البدر والتى تليها على أضوء كوكب درى في السماء لكل امرى منهم زوجتان ما في الجنة أعزب) الزمرة الجماعة والدرى تقدم ضبطه وبيانه قريبا قوله صلى الله عليه وسلم (زوجتان) هكذا في الروايات بالتاء وهى لغة متكررة في الاحاديث وكلام العرب والأشهر حذفها وبه جاء القرآن وأكثر الأحاديث قوله (وما في الجنة أعزب) هكذا في جميع نسخ بلادنا أعزب بالألف وهى لغة والمشهور في اللغة عزب بغير ألف ونقل القاضى أن جميع رواتهم رووه وما في الجنة عزب بغير ألف الا العذري
[ 172 ]
فرواه بالألف قال القاضى وليس بشئ والعزب من لازوجة له والعزوب البعد وسمى عزبا لبعده عن النساء قال القاضى ظاهر هذا الحديث أن النساء أكثر أهل الجنة وفى الحديث الآخر أنهن أكثر أهل النار قال فيخرج من مجموع هذا أن النساء أكثر ولد آدم قال وهذا كله في الآدميات والافقد جاء للواحد من أهل الجنة من الحور العدد الكثير قوله صلى الله عليه وسلم (ورشحهم المسك) أي عرقهم (ومجامرهم الألوة) بفتح الهمزة وضم اللام أي العود الهندي وسبق بيانه مبسوطا قوله صلى الله عليه وسلم (أخلاقهم على خلق رجل واحد) قد ذكر مسلم في الكتاب اختلاف ابن أبى شيبة وأبى كريب في ضبطه فان ابن أبى شيبة يرويه بضم الحاء واللام وأبو كريب بفتح الحاء واسكان اللام وكلاهما صحيح وقد اختلف فيه رواة صحيح البخاري ويرجح الضم بقوله في الحديث الآخر لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب واحد وقد يرجح الفتح بقوله صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث على صورة أبيهم آدم أو على طوله . قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يمتخطون
[ 173 ]
ولا يتفلون) هو بكسر الفاء وضمها حكاهما الجوهرى وغيره وفى رواية لا يبصقون وفي رواية لا يبزقون وكله بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم (يسبحون الله بكرة وعشيا) أي قدرهما . قوله صلى الله عليه وسلم (ان أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون) مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون يتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعما دائما لا آخر له ولا انقطاع أبدا وان تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا الاما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التى لا يشارك نعيم الدنيا الافى التسمية وأصل الهيئة والا في أنهم لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبصقون وقد دلت دلائل القرآن والسنة في هذه الأحاديث
[ 174 ]
التى ذكرها مسلم وغيره أن نعيم الجنة دائم انقطاع له أبدا قوله صلى الله عليه وسلم (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس) وفى رواية ان لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا أي لا يصبكم بأس وهو شدة الحال والبأس والبؤس والبأساء والبؤساء بمعنى وينعم وتنعم بفتح أوله والعين أي يدوم
[ 175 ]
لكم النعيم . قوله صلى الله عليه وسلم (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل) وفي رواية طولها في السماء ستون ميلا أما الخيمة فبيت مربع من بيوت الأعراب وقوله صلى الله عليه وسلم من لؤلؤة مجوفة هكذا هو في عامة النسخ مجوفة بالفاء قال القاضى وفى رواية السمرقندى مجوبة بالباء الموحدة وهى المثقوبة وهى بمعنى المجوفة والزاوية الجانب والناحية وفى الرواية الأولى عرضها ستون ميلا وفى الثانية طولها في السماء ستون ميلا ولا معارضة بينهما فعرضها في مساحة
[ 176 ]
ارضها وطولها في السماء أي في العلو متساويان قوله صلى الله عليه وسلم (سبحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة) اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون جيحون فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر إذنه وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان فهذا هو الصواب في موضعهما وأما قول الجوهرى في صحاحه جيحان نهر بالشام فغلط أو أنه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الأرمن وهى مجاورة للشام قال الحازمى سيحان نهر نهر عند المصيصة قال وهو غير سيحون وقال صاحب نهاية الغريب سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر وراء خراسان عند بلخ واتفقوا على أنه غير جيحان وكذلك سيحون غير سيحان وأما قول القاضى عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الاسلام
[ 177 ]
فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان ففى كلامه انكار من أوجه أحدهما قوله الفرات بالعراق وليس بالعراق بل هو فاصل بين الشام والجزيرة والثانى قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس كما سبق الثالث أنه ببلاد خراسان وأما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام والله أعلم وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان ذكرهما القاضى عياض أحدهما أن الايمان عم بلادها أو الأجسام المتعذبة بمائها صائرة الى الجنة والثانى وهو الأصح أنها على ظاهرها وأن لها مادة من الجنة والجنة مخلوقة موجودة اليوم عند أهل السنة وقد ذكر مسلم في كتاب الايمان في حديث الاسراء أن الفرات والنيل يخرجان من الجنة وفى البخاري من أصل سدرة المنتهى قوله صلى الله عليه وسلم (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) قيل مثلها في رقتها وضعفها كالحديث الآخر أهل اليمن أرق قلوب وأضعف أفئدة وقيل في الخوف والهيبة والطير أكثر الحيوان خوفا وفزعا كما قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وكان المراد قوم غلب عليهم الخوف كما جاء عن جماعات من السلف في شدة خوفهم وقيل المراد متوكلون والله أعلم قوله (حدثنا حجاج بن الشاعر حدثنا أبو النضر حدثنا ابراهيم بن سعد حدثنا أبى عن أبى سلمة عن أبى هريرة) هكذا وقع هذا الاسناد في عامة النسخ ووقع في بعضها حدثنا أبى عن الزهري عن أبى سلمة فزاد الزهري قال أبو على الغساني والصواب هو الأول قال وكذلك خرجه أبو مسعود في الآطراف قال ولا أعلم لسعد بن إبراهيم رواية عن الزهري وقال الزهري وقال الدارقطني في كتاب العلل لم يتابع أبو النضر على وصله عن أبى هريرة قال والمحفوظ عن ابراهيم عن ابيه عن أبي سلمة مرسلا كذا رواه يعقوب وسعد بن ابراهيم بن سعد قال والمرسل الصواب هذا كلام الدارقطني والصحيح أن هذا الذى ذكره لا يقدح في صحة الحديث فقد سبق في أول هذا الكتاب أن الحديث إذا روى متصلا مرسلا كان محكوما
[ 178 ]
بوصله على المذهب الصحيح لأن مع الواصل زيادة علم حفظها ولم يحفظها من أرسله والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا) هذا الحديث سبق شرحه وبيان تأويله وهذه الرواية ظاهرة في أن الضمير في صورته عائد الى آدم وأن المراد أنه خلق في أول نشأته على صورته التى كان عليها في الأرض وتوفى عليها وهى طوله ستون ذراعا ولم ينتقل أطوارا كذريته وكانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض لم تتغير قوله (قال اذهب فسلم على اولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فانها تحيتك وتحية ذريتك فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله) فيه ان الوارد على جلوس يسلم عليهم وأن الأفضل أن يقول السلام عليكم بالألف واللام ولو قال سلام عليك كفاه وأن رد السلام يستحب أن يكون زيادة على الابتداء وأنه يجوز في الرد أن يقول السلام عليكم ولا يشترط أن يقول وعليكم السلام والله أعلم باب جهنم أعاذنا الله منها قوله (حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبى عن العلاء بن خالد الكاهلى عن شقيق عن عبد الله الحديث) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال رفعه وهم رواه الثوري ومروان وغيرهما عن
[ 179 ]
العلاء ابن خالد مؤقوفا قلت وحفص ثقة حافظ إمام فزيادته الرفع مقبولة كما سبق نقله عن الأكثرين والمحققين قوله (سمع وجبة) هي بفتح الواو واسكان الجيم وهى السقطة قوله (في حديث محمد بن عباد باسناده عن أبى هريرة بهذا الاسناد وقال هذا وقع في أسفلها فسمعتم وجبتها) هكذا هو في النسخ وهو صحيح فيه محذوف دل عليه الكلام أي هذا حجر وقع أو هذا حين
[ 180 ]
ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (يومنهم ثنا من تأخذه يعنى النار الى حجزته) هي بضم الحاء واسكان الجيم وهى معقد الازار والسراويل ومنهم من تأخذه الى ترقوته هي بفتح التاء وضم القاف وهى العظم الذى بين ثغرة النحر والعاتق وفى رواية حقويه بفتح الحاء وكسرها وهما
[ 181 ]
معقد الازار والمراد هنا ما يحاذي ذلك الموضع من جنبيه قوله صلى الله عليه وسلم (تحاجت النار والجنة) الى آخره هذا الحديث على ظاهره وأن الله تعالى جعل في النار والجنة تمييزا تدركان به فتحاجتا ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز فيهما دائما قوله صلى الله عليه وسلم (وقالت الجنة فمالى لا يدخلنى الاضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم) أما سقطهم فبفتح السين والقاف أي ضعفاؤهم والمتحقرون منهم وأما عجزهم فبفتح العين والجيم جمع عاجز أي العاجزون عن طلب الدنيا والتمكن فيها والثروة والشوكة وأما الرواية رواية محمد بن رافع ففيها لا يدخلنى الاضعاف الناس وغرتهم فروى على ثلاثة أوجه حكاها القاضى وهى موجودة في النسخ احداها غرثهم بغين معجمة مفتوحة وثاء مثلثة قال القاضى هذه رواية الأكثرين من شيوخنا ومعناها أهل الحاجة والفاقة والجوع والغرث الجوع والثانى عجزتهم بعين مهملة مفتوحة وجيم وزاى وتاء جمع عاجز كما سبق والثالث غرتهم بغين معجمة مكسورة وراء مشددة وتاء مثناة فوق وهكذا هو الأشهر في نسخ بلادنا أي البلة الغافلون الذين ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر أكثر أهل الجنة البله قال القاضى معناه سواد الناس وعامتهم من أهل الايمان الذين لا يفطنون للسنة فيدخل عليهم الفتنة أو يدخلهم في البدعة أو غيرها فهم ثابتوا الايمان وصحيحوا العقائد وهم أكثر المؤمنين وهم أكثر أهل الجنة وأما العارفون والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات قال وقيل معنى الضعفاء هنا وفى الحديث الآخر أهل الجنة كل ضعيف متضعف انه الخاضع لله تعالى المذل نفسه له سبحانه وتعالى ضد المتجبر المستكبر
[ 182 ]
قوله صلى الله عليه وسلم (فتقول قط قط فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها الى بعض) معنى يزوى يضم بعضها الى بعض فتجتمع وتلتقي على من فيها ومعنى قط حسبى أي يكفيني هذا وفيه ثلاث لغات قط قط باسكان الطاء فيهما وبكسرها منونة وغير منونة قوله صلى الله عليه وسلم فاما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله) وفى الرواية التى بعدها لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول قط قط وفى الرواية الأولى فيضع قدمه عليها هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وقد سبق مرات بيان اختلاف العلماء فيها على مذهبين أحدهما وهو قول جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نؤمن أنها حق على ما أراد الله ولها معنى يليق بها وظاهرها غير مراد والثانى
[ 183 ]
وهو قول جمهور المتمكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا الحديث فقيل المراد بالقدم هنا المتقدم وهو شائع في اللغة ومعناه حتى يضع الله تعالى فيها من قدمه لها من أهل العذاب قال المازرى والقاضى هذا تأويل النضر بن شميل ونحوه عن ابن الأعرابي والثاني أن المراد قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه الى ذلك المخلوق المعلوم الثالث أنه يحتمل أن في المخلوقات ما يسمى بهذه التسمية وأما الرواية التى فيها يضع الله فيها رجله فقد زعم الامام أبو بكر بن فورك أنها غير ثابتة عند أهل النقل ولكن قد رواها مسلم وغيره فهى صحيحة وتأويلها كما سبق في القدم ويجوز أيضا أن يراد بالرجل الجماعة من الناس كما يقال رجل من جراد أي قطعة منه قال القاضى أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها قالوا ولابد من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يظلم الله من خلقه أحدا) قد سبق مرات بيان أن الظلم مستحيل في حق الله تعالى فمن عذبه بذنب أو بلا ذنب فذلك عدل منه سبحانه وتعالى قوله صلى الله عليه وسلم (وأما الجنة فان الله ينشئ لها خلقا) هذا دليل لأهل السنة أن الثواب ليس متوقفا على الأعمال فان هؤلاء يخلقون حينئذ ويعطون في الجنة ما يعطون في الجنة ما يعطون بغير عمل ومثله أمر الأطفال والمجانين الذين لم يعملوا طاعة قط فكلهم في الجنة برحمة الله تعالى وفضله وفى هذا الحديث
[ 184 ]
دليل على عظم سعة الجنة فقد جاء في الصحيح أن للواحد فيها مثل الدنيا وعشرة أمثالها ثم يبقى فيها شئ لخلق ينشئهم الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش فيوقف بين الجنة والنار فيذبح ثم يقال خلود فلاموت) قال المازرى الموت عند أهل السنة عرض يضاد الحياة وقال بعض المعتزلة ليس بعرض بل معناه عدم الحياة وهذا خطأ لقوله تعالى خلق الموت
[ 185 ]
والحياة فأثبت الموت مخلوقا وعلى المذهبين ليس الموت بجسم في صورة كبش أو غيره فيتأول الحديث على أن الله يخلق هذا الجسم ثم يذبح مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الآخرة والكبش الأملح قيل هو الأبيض الخالص قاله ابن الأعرابي وقال الكسائي هو الذى فيه بياض وسواد بياضه أكثر وسبق بيانه في الضحايا . قوله صلى الله عليه وسلم (فيشرئبون) بالهمزة أي يرفعون رؤسهم الى المنادى
[ 186 ]
قوله صلى الله عليه وسلم (ضرس الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث وما بين منكبيه) مسيرة ثلاث هذا كله لكونه أبلغ في إبلامهم وكل هذا مقدور لله تعالى يجب الايمان به لاخبار الصادق به قوله صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة (كل ضعيف متضعف) ضبطوا قوله متضعف
[ 187 ]
بفتح العين وكسرها المشهور الفتح ولم يذكر الأكثرون غيره ومعناه يستضعفه الناس ويحتقرو ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا يقال تضعفه واستضعفه وأما رواية الكسر فمعناها متواضع متذلل خامل واضع من نفسه قال القاضى وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للايمان والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء كما أن معظم أهل النار القسم الآخر وليس المراد الاستيعاب في الطرفين ومعنى الأشعث متلبد الشعر مغبره الذى لا يدهنه ولا يكثر غسله ومعنى مدفوع بالأبواب أنه لا يؤذن له بل يحجب ويطرد لحقارته عند الناس قوله صلى الله عليه وسلم (لو أقسم على الله لأبره) معناه لو حلف يمينا طمعا في كرم الله تعالى بابراره لأبره وقيل لو دعاه لأجابه يقال أبرت قسمه وبررته والأول هو المشهور قوله صلى الله عليه وسلم في أهل النار (كل عتل جواظ مستكبر) وفى رواية كل جواظ زنيم متكبرا أما العتل بضم العين والتاء
[ 188 ]
فهو الحافى الشديد الخصومة بالباطل وقيل الجافي الفظ الغليظ وأما الجواظ بفتح الجيم وتشديد الواو وبالطاء المعجمة فهو الجموع المنوع وقيل كثير اللحم المختال في مشيته وقيل القصير البطين وقيل الفاخر بالخاء وأما الزنيم فهو الدعى في النسب الملصق بالقوم وليس منهم شبه بزنمة الشاة وأما المتكبر والمستكبر فهو صاحب الكبر وهو بطر الحق وغمط الناس قوله صلى الله عليه وسلم في الذى عقر الناقة (عزيز عارم) العارم بالعين المهملة والراء قال أهل اللغة هو الشرير المفسد الخبيث وقيل القوى والشرس وقد عزم بضم الراء وفتحها وكسرها عرامة بفتح العين وعراما بضمها فهو عارم وعرم وفى هذا الحديث النهى عن ضرب النساء لغير ضرورة التأديب وفيه النهى عن الضحك من الضرطة يسمعها من غيره بل ينبغى أن يتغافل عنها ويستمر على حديثه واشتغاله بما كان فيه من غير التفات ولا غيره ويظهر أنه يسمع وفيه حسن الأدب والمعاشرة قوله صلى الله عليه وسلم (رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف أبا بنى كعب هؤلاء بحرقصبه في النار) وفى الرواية الأخرى رأيت عمرو بن عامر الخزاعى يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب
[ 189 ]
أما قمعة ضبطوه على أربعة أوجه أشهرها قمعة بكسر القاف وفتح الميم المشددة والثانى كسر القاف والميم المشددة حكاه القاضى عن رواية الباجي عن ابن ماهان والثالث فتح القاف مع إسكان الميم والرابع فتح القاف والميم جميعا وتخفيف الميم قال القاضى وهذه رواية الأكثرين وأما خندف فبكسر الخاء المعجمة والدال هذا هو الأشهر وحكى القاضى في المشارق فيه وجهين أحدهما هذا والثانى كسر الخاء وفتح الدال وآخرها فاء وهى اسم القبيلة فلا تنصرف واسمها ليلى بنت عمران بن الجاف بن قضاعة وقوله صلى الله عليه وسلم (أبا بنى كعب) كذا ضبطناه أبا بالباء وكذا هو في كثير من نسخ بلادنا وفى بعضها أخا بالخاء ونقل القاضي هذا عن أكثر رواة الجلودي قال والألو رواية ابن ماهان بعض رواة الجلودى قال وهو الصواب قال وكذا ذكر الحديث اين أبى خيثمة ومصعب الزبيري وغيرهما لأن كعبا هو أحد بطون خزاعة وابنه وأما لحى فبضم اللام وفتح الحاء وتشديد الياء وأما قصبة فبضم القاف واسكان الصاد قال الأكثرون يعنى أمعاءه وقال أبو عبيد الأمعاء واحدها قصب أما قوله في الرواية الثانية عمرو بن عامر فقال القاضى المعروف في نسب ابن خزاعة عمرو بن لحى بن قمعة كما قال في الرواية الأولى وهو قمعة بن الياس بن مضر وانما عامر عم أبيه أبي قمعة وهو مدركة بن الياس هذا قول نساب الحجازيين ومن الناس من يقول انهم من اليمن من ولد عمرو بن عامر وانه عمرو بن لحى واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وقد
[ 190 ]
يحتج قائل بهذه الرواية الثانية هذا آخر كلام القاضى والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وان ريحها لتوجد من مسيرة كذاوكذا) هذا الحديث من معجزات النبوة فقد وقع ما أخبره به صلى الله عليه وسلم فأما أصحاب السياط فهم غلمان والى الشرطة أما الكاسيات ففيه أوجه أحدهما معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها والثانى كاسيات من الثياب عاريات من فعل الخير
[ 191 ]
والاهتمام لآخرتهن والاعتناء بالطاعات والثالث تكشف شيئا من بدنها إظهارا لجمالها فهن كاسيات عاريات والرابع يلبس ثيابا رقاقا تصف ما تحتها كاسيات عاريات في المعنى واما مائلات مميلات فقيل زائغات عن طاعة الله تعالى وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها ومميلات يعلمن غيرهن مثل فعلهن وقيل مائلات متبخترات في مشيتهن مميلات أكتافهن وفيل مائلات يتمشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا معروفة لهن مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة وقيل مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها وأما رؤسهن كأسنمة البخت فمعناه يعظمن رؤسهن بالخمر والعمائم وغيرها مما يلف على الرأس حتى تشبه أسنمة الابل البخت هذا هو المشهور في تفسيره قال المازرى ويجوز أن يكون معناه يطمحن الى الرجال ولا يغضضن عنهم ولا ينكسن رؤسهن واختار القاضى أن المائلات تمشطن المشطة الميلاء قال وهى ضفر الغدائر وشدها الى فوق وجمعها في وسط الرأس فتصير كأسنمة البخت قال وهذا يدل على أن المراد بالتشبيه بأسنمة البخت انما هو لارتفاع الغدائر فوق رؤسهن وجمع عقائصها هناك وتكثرها يما يضفرنه حتى تميل الى ناحية من جونب الرأس كما يميل السنام قال ابن دريد يقال ناقة ميلاء إذا كان سنامها يميل الى أحد شقيها والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يدخلن الجنة) يتأول التأويلين السابقين في نظائره أحدهما أنه محمول على من استحلت حراما من ذلك مع علمها بتحريمه فتكون كافرة مخلدة في النار لا تدخل الجنة أبدا والثانى يحمل على أنها لا تدخلها أول الامر مع الفائزون والله تعالى أعلم
[ 192 ]
باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة قوله صلى الله عليه وسلم (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم اصبعه هذه وأشار يحيى بالسبابة فلينظر بم ترجع) وفى رواية واشار اسماعيل بالابهام هكذا هو في نسخ بلادنا بالابهام وهى الأصبع العظمى المعروفة كذا نقله القاضى عن جميع الرواة إلا السمرقندى فرواه البهام قال وهو تصحيف قال القاضى ورواية السبابة أظهر من رواية الابهام وأشبه بالتمثيل لأن العادة الاشارة بها لا بالابهام ويحتمل أنه أشارة بهذه مرة وهده مرة واليم البحر وقوله بم ترجع ضبطوا ترجع بالمثناة فوق والمثناة تحت والأول اشهر ومن رواه بالمثناة تحت أعاد الضمير الى أحدكم والمثناة فوق أعاده على الأصبع وهو الأظهر ومعناه لا يعلق بها كثير شئ من الماء ومعنى الحديث ما الدنيا بالنسبة الى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها ودوام الآخرة ودوام
[ 193 ]
لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذى يعلق بالاصبع الى باقى البحر قوله صلى الله عليه وسلم (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا) الغرل بضم الغين المعجمة واسكان الراء معناه غير مختونين جمع أغرل وهو الذى لم يختن وبقية معه غرلته وهى قلفته وهى الجلدة التى تقطع في الختان قال الأزهري وغيره هو الأغرل والأرغل والأغلف بالغين المعجمة في الثلاثة والأقلف والأعرم بالعين المهملة وجمعه غرل ورغل وغلف وقلف وعرم والحفاة جمع حاف والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا لا شئ معهم ولا يفقد منهم شئ حتى الغرلة تكون معهم . قوله صلى
[ 194 ]
الله عليه وسلم (سيجاء برجال من أمتى الى آخره) هذا الحديث قد سبق شرحه في كتاب الطهارة وهذه الرواية تؤيد قول من قال هناك المراد به الذين ارتدوا عن الاسلام قوله صلى الله عليه وسلم (يحشر الناس على ثلاث طرائق راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث باتوا وتقبل معهم حيث قالوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسى معهم حيث أمسوا) قال العلماء وهذا الحشر في آخر الدنيا قبيل القيامة
[ 195 ]
وقبيل النفخ في الصور بديل قوله صلى الله عليه وسلم بقيتهم النار تبيت معهم وتقيل وتصبح وتمسى وهذا آخر أشراط الساعة كما ذكر مسلم بعد هذا في آيات الساعة قال وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس وفى رواية تطرد الناس الى محشر هم والمراد بثلاث طرائق فرق ومنه قوله تعالى اخبارا عن الجن كنا طرائق قددا أي فرقا مختلفة الأهواء باب في صفة يوم القيامة أعاننا الله على أهواله قوله صلى الله عليه وسلم (يقوم أحدهم في رشحه الى انصاف أذنيه) وفى رواية فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق قال القاضى ويحتمل أن المراد عرق نفسه وغيره ويحتمل عرق نفسه خاصة وسبب كثرة العرق تراكم الأهوال ودنو الشمس من رؤسهم ورحمة بعضهم بعضا
[ 197 ]
باب الصفات التى يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار قوله صلى الله عليه وسلم (ان ربى أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومى هذا كل مال نحلته عبدا حلال) معنى نحلته أعطيته وفى الكلام حذف أي قال الله تعالى كل مال أعطيته عبدا من عبادي فهو له حلال والمراد انكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي وغير ذلك وأنها لم تصرحوا حراما بتحريمهم وكل مال ملكه العبد فهو له حلال حتى يتعلق به حق قوله تعالى (وانى خلقت عبادي حنفاء كلهم) أي مسلمين وقيل طاهرين من المعاصي وقيل مستقيمين منيبين لقبول الهداية وقيل المراد حين أخذ عليهم العهد في الذر وقال ألست بربكم قالوا بلى قوله تعالى (وانهم أتنهم الشياطين فاجتالهم عن دينهم) هكذا هو في نسخ بلادنا فاجتالتهم بالجيم وكذا نقله القاضى عن رواية الاكثرين وعن رواية الحافظ أبى على الغساني فاجتالتهم بالخاء المعجمة قال والأول أصح وأوضح أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل هذا فسره الهروي وآخرون وقال شمر اجتال الرجل الشئ ذهب به واجتال أموالهم ساقها وذهب بها قال القاضى ومعنى فاختالوهم بالخاء على رواية من رواه أي يحبسونهم عن دينهم ويصدونهم عنه . قوله صلى الله عليه وسلم (وان الله تعالى نظر الى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من أهل الكتاب) المقت أشد البغض والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله صلى الله
[ 198 ]
عليه وسلم والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل قوله سبحانه وتعالى (انما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك) معناه لأمتنحك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده والصبر في الله تعالى وغير ذلك وأبتلى بك من أرسلتك إليهم فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعاته ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر ومن ينافق والمراد أن يمتحنه ليصير ذلك واقعا بارزا فان الله تعالى انما يعاقب العباد على ما وقع منهم لاعلى ما يعلمه قبل وقوعه والا فهو سبحانه عالم بجميع الأشياء قبل وقوعها وهذا نحو قوله ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين أي نعلمهم فاعلين ذلك متصفين به قوله تعالى (وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظان) أما قوله تعالى لا يغسله الماء فمعناه محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على ممر الأزمان وأما قوله تعالى تقرأه نائما ويقظان فقال العلماء معناه يكون محفوظا لك في حالتى النوم واليقظة وقيل تقرأه في يسر وسهولة قوله صلى الله عليه وسلم (فقلت رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة) هي بالثاء المثلثة أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أي يكسر قوله تعالى (واغزهم نغزك) بضم النون أي نعينك قوله صلى الله عليه وسلم (وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذى قربى ومسلم وعفيف متعفف) فقوله ومسلم مجرور معطوف على ذى قربى وقوله مقسط أي عادل قوله صلى الله عليه وسلم
[ 199 ]
(الضعيف الذى لازبر له الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا) فقوله زبر بفتح الزاى واسكان الموحدة أي لاعقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغى وقيل هو الذى لامال له وقيل الذى ليس عنده ما يعتمده وقوله لا يتبعون بالعين المهملة مخفف مشدد من الاتباع وفى بعض النسخ يبتغون بالموحدة والغين المعجمة أي لا يطلبون قوله صلى الله عليه وسلم (والخائن الذى لا يخفى له طمع وإن دق الاخانة) معنى لا يخفى لا يظهر قال أهل اللغة يقال خفيت الشئ إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته وكتمته هذا هو المشهور وقيل هما لغتان فيهما جميعا قوله (وذكر البخل والكذب) هي في أكثر النسخ أو الكذب بأو وفى بعضها والكذب بالواو والأول هو المشهور في نسخ بلادنا وقال القاضى روايتنا عن جميع شيوخنا بالواو والا ابن أبى جعفر عن الطبري فبأو وقال بعض الشيوخ ولعله الصواب وبه تكون المذكورات خمسة وأما الشنظير فبكسر الشين والظاء المعجمتين
[ 200 ]
واسكان النون بينهما وفسره في الحديث بأنه الفحاش وهو السئ الخلق قوله (فيكون ذلك يا أبا عبد الله قال نعم والله لقد أدركتهم في الجاهلية الى آخره) أبو عبد الله هو مطرف بن عبد الله والقائل له قتادة وقوله لقد أدركتهم في الجاهلية لعله يريد أواخر أمرهم وآثار الجاهلية والا فمطرف صغير عن ادراك زمن الجاهلية حقيقة وهو يعقل باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه واثبات عذاب القبر والتعوذ منه اعلم أن مذهب أهل السنة اثبات عذاب القبر وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة قال الله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا الآية وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله
[ 201 ]
عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة في مواطن كثيرة ولا يمتنع في العقل أن يعبد الله تعالى الحياة في جزء من الجسد ويعذبه وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به وجب قبوله واعتقاده وقد ذكر مسلم هنا أحاديث كثيرة في اثبات عذاب القبر وسماع النبي صلى الله عليه وسلم صوت من يعذب فيه وسماع الموتى قرع نعال دافنيهم وكلامه صلى الله عليه وسلم لأهل القليب وقوله ما أنتم باسمع منهم وسؤال الملكين الميت واقعادهما إياه وجوابه لهما والفسح له في قبره وعرض مقعده عليه بالغداة والعشي وسبق معظم شرح هذا في كتاب الصلاة وكتاب الجنائز والمقصود أن مذهب أهل السنة اثبات عذاب القبر كما ذكرنا خلافا للخوارج ومعظم المعتزلة وبعض المرجئه نفوا ذلك ثم المعذب عند أهل السنة الجسد بعينه أو بعضه بعد اعادة الروح إليه أو الى جزء منه وخالف فيه محمد بن جرير و عبد الله بن كرام وطائفة فقالوا لا يشترط إعادة الروح قال أصحابنا هذا فاسد لأن الألم والاحساس إنما يكون في الحى قال أصحابنا ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت اجزاؤه كما نشاهد في العادة أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك فكما أن الله تعالى يعيده للحشر وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك فكذا يعيد الحياة الى جزء منه أو أجزاء وان أكلته السباع والحيتان فان قيل فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ولا يظهر له أثر فالجواب أن ذلك غير ممتنع بل له نظر في العادة وهو النائم فانه يجد لذة وآلاما لا نحس نحن شيئا منها وكذا يجد اليقظان لذة وآلما لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه وكذا كان جبرئيل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره بالوحى الكريم ولا يدركه الحاضرون وكل هذا ظاهر جلى قال أصحابنا وأما اقعاده المذكور في الحديث فيحتمل أن يكون مختصا بالمقبور دون المنبوذ ومن أكلته السباع والحيتان وأما ربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب والله أعلم قوله (مقعدك حتى يبعثك الله) هذا تنعيم
[ 202 ]
للمؤمن وتعذيب للكافر قوله (حادث به بغلته) أي مالت عن الطريق ونفرت وقرع النعال
[ 203 ]
وخفقها هو ضربها وصوتها فيها قوله (ما كنت تقول في هذا الرجل) يعنى بالرجل النبي صلى الله عليه وسلم وانما يقوله في هذه العبارة التى ليس فيها تعظيم امتحانا للمسؤول لئلا يتلقن تعظيمه من عبارة السائل ثم يثبت الله الذين آمنوا قوله (يفسح له في قبره ويملأ عليه خضرا الى يوم يبعثون) الخضر ضبطوه بوجهين أصحهما بفتح الخاء وكسر الضاد والثانى بضم
[ 204 ]
الخاء وفتح الضاد والأول أشهر ومعناه يملأ نعما غضة ناعمة واصلة من خضرة الشجر هكذا فسروه قال القاضى يحتمل أن يكون هذا الفسح له على ظاهره وأنه يرفع عن بصره ما يجاوره من الحجب الكثيفة بحيث لا تناله ظلمة القبر ولاضيقة إذا ردت إليه روحه قال ويحتمل أن يكون على ضرب المثل والاستعارة للرحمة والنعيم كما يقال سقى الله قبره والاحتمال الأول أصح والله أعلم
[ 205 ]
قوله في روح المؤمن (ثم يقول انطلقوا به الى آخر الأجل ثم قال في روح الكافر فيقال انطلقوا به الى آخر الأجل) قال القاضي المراد بالأول انطلقوا بروح المؤمن الى سدرة المنتهى والمراد بالثاني انطلقوا بروح الكافر الى سجين فهى منتهى الأجل ويحتمل أن المراد الى انقضاء أجل الدنيا قوله (فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه) الريطة بفتح الراء واسكان الياء وهو ثوب رقيق وقيل هي الملاءة وكان سبب ردها على الأنف بسبب ما ذكر من نتن ريح روح الكافر قوله (حديد البصر) بالحاء أي نافذه ومنه قوله تعالى فبصرك اليوم حديد . قوله
[ 206 ]
صلى الله عليه وسلم (هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله الى آخره) هذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم الظاهرة قوله صلى الله عليه وسلم في قتلى بدر (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال المازرى قال بعض الناس الميت يسمع عملا بظاهر هذا الحديث ثم أنكره المازرى وادعى أن هذا خاص في هؤلاء ورد عليه القاضى عياض وقال يحمل سماعهم على ما يحمل عليه سماع الموتى في أحاديث عذاب القبر وفتنة التى لامدفع لها وذلك باحيائهم أو إحياء جزء منهم يعلقون به ويسمعون في الوقت الذى يريد الله هذا كلام القاضى وهو الظاهر الذى يقتضيه أحاديث
[ 207 ]
السلام على القبور والله أعلم قوله (يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا) هكذا هو في عامة النسخ المعتمدة كيف يسمعوا وأني يجيبوا من غير نون وهى لغة صحيحة وان كانت قليلة الاستعمال وسبق بيانها مرات ومنها الحديث السابق في كتاب الايمان لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا وقوله جيفوا أي أنتنوا وصاروا جيفا يقال جيف الميت وجاف وأجاف وأروح وأنتن بمعنى قوله (فسحبوا فألقوا في قليب بدر) وفى الرواية الأخرى في طوى من أطواء بدر القليب والطوى بمعنى وهى البئر المطوية بالحجارة قال أصحابنا وهذا السحب الى القليب ليس دفنا لهم ولا صيانة وحرمة بل لدفع رائحتهم المؤذية والله أعلم
[ 208 ]
باب اثبات الحساب قوله صلى الله عليه وسلم (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب) معنى نوقش استقصى عليه قال القاضى قوله عذب له معنيان أحدهما أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ والثانى أنه مفض الى العذاب بالنار ويؤيده قوله
[ 209 ]
في الرواية الأخرى هلك مكان عذب هذا كلام القاضى وهذا الثاني هو الصحيح ومعناه أن التقصير غالب في العباد فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك ودخل النار ولكن الله تعالى يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء قوله في اسناد هذا الحديث (عن عبد الله بن أبى مليكة عن عائشة) هذا مما استدركه الدراقطنى على البخاري ومسلم وقال اختلف العلماء عن ابن أبى مليكة فروى عنه عن عائشة وروى عنه عن القاسم عنها وهذا استدراك ضعيف لأنه محمول على أنه سمعة من القاسم عن عائشة وسمعه أيضا منها بلا واسطة فرواه بالوجهين وقد سبقت نظائر هذا باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت قوله صلى الله عليه وسلم (لا يموتن أحدكم الا وهو يحسن بالله الظن) وفى رواية الا وهو يحسن الظن بالله تعالى قال العلماء هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة وقد سبق في الحديث الآخر
[ 210 ]
قوله سبحانه وتعالى أنا عند ظن عبدى بى قال العلماء معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن قوله صلى الله عليه وسلم (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب) معنى نوقش استقصى عليه قال القاضى قوله عذب له معنيان أحدهما أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ والثانى أنه مفض الى العذاب بالنار ويؤيده قوله
[ 209 ]
في الرواية الأخرى هلك مكان عذب هذا كلام القاضى وهذا الثاني هو الصحيح ومعناه أن التقصير غالب في العباد فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك ودخل النار ولكن الله تعالى يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء قوله في اسناد هذا الحديث (عن عبد الله بن أبى مليكة عن عائشة) هذا مما استدركه الدراقطنى على البخاري ومسلم وقال اختلف العلماء عن ابن أبى مليكة فروى عنه عن عائشة وروى عنه عن القاسم عنها وهذا استدراك ضعيف لأنه محمول على أنه سمعة من القاسم عن عائشة وسمعه أيضا منها بلا واسطة فرواه بالوجهين وقد سبقت نظائر هذا باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت قوله صلى الله عليه وسلم (لا يموتن أحدكم الا وهو يحسن بالله الظن) وفى رواية الا وهو يحسن الظن بالله تعالى قال العلماء هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة وقد سبق في الحديث الآخر
[ 210 ]
قوله سبحانه وتعالى أنا عند ظن عبدى بى قال العلماء معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه قالوا وفى حالة الصحة يكون خائفا راجيا ويكونان سواء وقيل يكون الخوف أرجح فإذا دنت أمارات الموت غلب الرجاء أو محضه لأن مقصود الخرف الانكفاف عن المعاصي والقبائح والحرص على الاكثار من الطاعات والأعمال وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار الى الله تعالى والاذعان له ويؤيده الحديث المذكور بعده بعث كل عبد على ما مات عليه ولهذا عقبة مسلم للحديث الأول قال العلماء معناه يبعث على الحالة التى مات عليها ومثله الحديث الآخر بعده ثم بعثوا على نياتهم .