شرح مسلم
النووي ج 15

[ 1 ]
صحيح مسلم بشرح النووي صحيح مسلم بشرح النووي الجزء الخامس عشر الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان 1407 ه‍ - 1987 م‍ دار الكتاب العربي الرملة البيضاء - ملكارت سنتر - الطابق الرابع ، تلفون 800832 - 800811 - 805478 تلكس : 40139 . L . E كتاب . برقيا : الكتاب ص . ب : 5769 - 11 بيروت - لبنان
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[ 2 ]
كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها . باب النهي عن سب الدهر قوله سبحانه وتعالى (يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار) وفي رواية قال الله تعالى عزوجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار وفي رواية يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإنى أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما وفي رواية لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر أما قوله عز وجل يؤذيني ابن آدم فمعناه يعاملني معاملة توجب الأذى في حقكم وأما قوله عز وجل وانا الدهر فانه برفع الراء هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الشافعي وأبو عبيد وجماهير المتقدمين والمتأخرين وقال أبو بكر ومحمد بن داود الاصبهاني الطاهري إنما هو الدهر بالنصب على الظرف أي أنا مدة الدهر أقلب ليله ونهاره وحكى ابن عبد البر هذه
[ 3 ]
الرواية عن بعض أهل العلم وقال النحاس يجوز النصب أي فان الله باق مقيم أبدا لا يزول قال القاضى قال بعضهم هو منصوب على التخصيص قال والظرف أصح وأصوب أما رواية الرفع وهي الصواب فموافقة لقوله فان الله هو الدهر قال العلماء وهو مجاز وسببه ان العرب كان شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك فيقولون يا خيبة الدهر ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر أي لا تسبوا فاعل النوازل فانكم إذا سببتم فاعلها وقع السب على الله تعالى لأنه هو فاعلها ومنزلها وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فعل له بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى ومعنى فإن الله هو الدهر أي فاعل النوازل والحوادث وخالق الكائنات والله أعلم
[ 4 ]
باب كراهة تسمية العنب كرما قوله صلى الله عليه وسلم (لا يقولن أحدكم للعنب الكرم فان الكرم الرجل المسلم) وفي رواية فان الكرم قلب المؤمن وفي رواية لا تسموا العنب الكرم وفي رواية لا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب والحبلة أما الحبلة فبفتح الحاء المهملة وبفتح الباء واسكانها وهي شجر العنب ففي هذه الأحاديث كراهة تسمية العنب كرما بل يقال عنب أو حبلة قال العلماء سبب كراهة ذلك أن لفظة الكرم كانت العرب تطلقها على شجر العنب وعلى العنب وعلى الخمر المتخذة من العنب سموها كرما لكونها متخذة منه ولأنها تحمل على الكرم والسخاء فكره الشرع اطلاق هذه
[ 5 ]
اللفظة على العنب وشجره لأنهم إذا سمعوا اللفظة ربما تذكروا بها الخمر وهيجت نفوسهم إليها فوقعوا فيها أو قاربوا ذلك وقال انما يستحق هذا الاسم الرجل المسلم أو قلب المؤمن لأن الكرم مشتق من الكرم بفتح الراء وقد قال الله تعالى أكرمكم عند الله أتقاكم فسمى قلب المؤمن كرما لما فيه من الايمان والهدي والنور والتقوى والصفات المستحقة لهذا الإسم وكذلك الرجل المسلم قال أهل اللغة يقال رجل كرم باسكان الراء وامرأة كرم ورجلان كرم ورجال كرم وامرأتان كرم ونسوة كرم كله بفتح الراء واسكانها بمعنى كريم وكريمان وكرام وكريمات وصف بالمصدر كضيف وعدل والله أعلم باب حكم اطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد قوله صلى الله عليه وسلم (لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم اماء الله
[ 6 ]
ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي) وفي رواية ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي وفي رواية ولا يقل العبد لسيده مولاي فان مولاكم الله وفي رواية لا يقولن أحدكم اسق ربك أو أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي ومولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي قال العلماء مقصود الأحاديث شيئان أحدهما نهى المملوك أن يقول لسيده ربي لأن الربوبية انما حقيقتها لله تعالى لأن الرب هو المالك أو القائم بالشئ ولا يوجد حقيقة هذا إلا في الله تعالى فان قيل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة أن تلد الامة ربتها أو ربها فالجواب من وجهين أحدهما أن الحديث الثاني لبيان الجواز وأن النهي في الأول للأدب وكرامة التنزيه لا للتحريم والثاني أن المراد النهي عن الاكثار من استعمال هذه اللفظة واتخاذها عادة شائعة ولم ينه عن اطلاقها في نادر من الأحوال واختار القاضي هذا الجواب ولا نهي في قول المملوك سيدي لقوله صلى الله عليه وسلم ليقل سيدي لأن لفظة السيد غير مختصة بالله تعالى اختصاص الرب ولا مستعملة فيه كاستعمالها حتى نقل القاضي عن مالك أنه كره الدعاء بسيدي ولم يأت تسمية الله تعالى بالسيد
[ 7 ]
في القرآن ولا في حديث متواتر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن ابني هذا سيد وقوموا إلى سيدكم يعني سعد بن معاذ وفي الحديث الآخر اسمعوا ما يقول سيدكم يعني سعد بن عبادة فليس في قول العبد سيدي اشكال ولا لبس لأنه يستعمله غير العبد والأمة ولا بأس أيضا بقول العبد لسيده مولاي فان المولى وقع على ستة عشر معنى سبق بيانها منها الناصر والمالك قال القاضي وأما قوله في كتاب مسلم في رواية وكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه ولا يقل العبد لسيده مولاي فقد اختلف الرواة عن الأعمش في ذكر هذه اللفظة فلم يذكرها عنه آخرون وحذفها أصح والله أعلم الثاني يكره للسيد أن يقول لمملوكه عبدي وأمتي بل يقول غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي لأن حقيقة العبودية انما يستحقها الله تعالى ولأن فيها تعظيما بما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في ذلك فقال كلكم عبيد الله فنهى عن التطاول في اللفظ كما نهى عن التطاول في الأفعال وفي اسبال الازار وغيره وأما غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي فليست دالة على الملك كدلالة عبدي مع أنها تطلق على الحر والمملوك وانما هي للاختصاص قال الله تعالى قال موسى لفتاه لفتيانه لفتيته سمعنا فتى يذكرهم وأما استعمال الجارية في الحرة الصغيرة فمشهور معروف في الجاهلية والاسلام والظاهر أن المراد بالنهي من استعمله على جهة التعاظم والارتفاع لا للوصف والتعريف والله أعلم باب كراهة قول الانسان خبثت نفسي قوله صلى الله عليه وسلم (لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي) قال أبو عبيد
[ 8 ]
وجميع أهل اللغة وغريب الحديث وغيرهم لقست وخبثت بمعنى واحد وانما كره لفظ الخبث لبشاعة الاسم وعلمهم الأدب في الألفاظ واستعمال حسنها وهجران خبيثها قالوا ومعنى لقست غثت وقال ابن الاعرابي معناه ضاقت فإن قيل فقد قال صلى الله عليه وسلم في الذي ينام عن الصلاة فأصبح خبيث النفس كسلان قال القاضي وغيره جوابه أن النبي صلى الله عليه وسلم مخبر هناك عن صفة غيره وعن شخص مبهم مذموم الحال لا يمتنع اطلاق هذا اللفظ عليه والله أعلم استعمال المسك وأنه أطيب الطيب (وكراهة رد الريحان والطيب) قوله صلى الله عليه وسلم (والمسك أطيب الطيب) فيه أنه أطيب الطيب وأفضله وأنه طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب ويجور بيعه وهذا كله مجمع عليه ونقل آصحابنا فيه عن الشيعة مذهبا
[ 9 ]
باطلا وهم محجوجون باجماع المسلمين وبالأحاديث الصحيحة في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له واستعمال أصحابه قال أصحابنا وغيرهم هو مستثنى من القاعدة المعروفة أن ما أبين من حي فهو ميت أو يقال أنه في معنى الجنين والبيض واللبن وأما اتخاذ المرأة القصيرة رجلين من خشب حتى مشت بين الطويلتين فلم تعرف فحكمه في شرعنا أنها ان قصدت به مقصودا صحيحا شرعيا بأن قصدت ستر نفسها لئلا تعرف فتقصد بالأذى أو نحو ذلك فلا بأس به وان قصدت به التعاظم أو التشبه بالكاملات تزويرا على الرجال وغيرهم فهو حرام قوله صلى الله عليه وسلم (من عرض عليه ريحان فلا يرده فانه خفيف المحمل طيب الريح) المحمل هنا بفتح الميم الأولى وكسر الثانية كالمجلس والمراد به الحمل بفتح الحاء أي خفيف الحمل ليس بثقيل وقوله صلى الله عليه وسلم فلا يرده برفع الدال على الفصيح المشهور وأكثر ما يستعمله من لا يحقق العربية بفتحها وقد سبق بيان هذه اللفظة وقاعدتها في كتاب الحج في حديث الصعب بن جثامة حين أهدى الحمار الوحشي فقال صلى الله عليه وسلم انا لم نرده عليك إلا أنا حرم وأما الريحان فقال أهل اللغة وغريب الحديث في تفسير هذا الحديث هو كل نبت مشموم طيب الريح قال القاضي عياض بعد حكاية ما ذكرناه ويحتمل عندي أن يكون المراد به في هذا الحديث الطيب كله وقد وقع في رواية أبي داود في هذا الحديث من عرض عليه طيب وفي صحيح البخاري كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد
[ 10 ]
الطيب والله أعلم وفي هذا الحديث كراهة رد الريحان لمن عرض عليه إلا لعذر قوله (كان ابن عمر إذا استجمر استجمر بألوة غير مطراة أو بكافور يطرحه مع الألوة ثم قال هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) الاستجمار هنا استعمال الطيب والتبخر به مأخوذ من المجمر وهو البخور وأما الألوة فقال الأصمعي وأبو عبيد وسائر أهل اللغة والغريب هي العود يتبخر به قال الأصمعي أراها فارسية معربة هي بضم اللام وفتح الهمزة وضمها لغتان مشهورتان وحكى الأزهري كسر اللام قال القاضي وحكى عن الكسائي ألية قال القاضي قال غيره وتشدد وتخفف وتكسر الهمزة وتضم وقيل لوة ولية وقوله غير مطراة أي غير مخلوطة بغيرها من الطيب ففي هذا الحديث استحباب الطيب للرجال كما هو مستحب للنساء لكن يستحب للرجال من الطيب ما ظهر ريحه وخفي لونه وأما المرأة فإذا أرادت الخروج إلى المسجد أو غيره كره لها كل طيب له ريح ويتأكد استحبابه للرجال يوم الجمعة والعيد عند حضور مجامع المسلمين ومجالس الذكر والعلم وعند ارادتة معاشرة زوجته ونحو ذلك والله أعلم
[ 11 ]
كتاب الشعر قوله (عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيئا قلت نعم قال هيه فأنشدته بيتا فقال هيه ثم أنشدته بيتا فقال هيه حتى أنشدته مائة بيت قال ان كاد ليسلم) وفي رواية فلقد كاد يسلم في شعره أما الشريد فبشين معجمة مفتوحة ثم راء مخففة مكسورة وهو الشريد بن سويد الثقفي الصحابي رضي الله عنه وقوله صلى
[ 12 ]
الله عليه وسلم هيه بكسر الهاء واسكان الياء وكسر الهاء الثانية قالوا والهاء الأولى بدل من الهمزة وأصله ايه وهي كلمة للاستزادة من الحديث المعهود قال ابن السكيت هي للاستزادة من حديث أو عمل معهودين قالوا وهي مبنية على الكسر فان وصلتها نونتها فقلت إيه حدثنا أي زدنا من هذا الحديث فان اردت الاستزادة من غير معهود نونت فقلت ايه لأن التنوين للتنكير وأما ايها بالنصب فمعناه الكف والأمر بالسكوت ومقصود الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية واستزاد من انشاده لما فيه من الاقرار بالوحدانية والبعث ففيه جواز انشاد الشعر الذي لا فحش فيه وسماعه سواء شعر الجاهلية وغيرهم وأن المذموم من الشعر الذي لا فحش فيه انما هو الاكثار منه وكونه غالبا على الانسان فأما يسيره فلا بأس بانشاده وسماعه وحفظه وقوله صلى الله عليه وسلم هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيئا فهكذا وقع في معظم النسخ شيئا بالنصب وفي بعضها شئ بالرفع وعلى روايا النصب يقدر فيه محذوف أي هل معك من شئ فتنشدني شيئا قوله صلى الله عليه وسلم (شعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد ألا كل شئ ماخلا الله باطل) وفي رواية أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ألا كل شئ ما خلا الله باطل وفي رواية أصدق بيت قاله الشاعر وفي رواية أصدق بيت قالته الشعراء المراد بالكلمة هنا القطعة من الكلام والمراد بالباطل الفاني المضمحل وفي
[ 13 ]
هذا الحديث منقبة للبيد وهو صحابي وهو لبيد بن ربيعة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم
[ 14 ]
(لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا) وفي رواية بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا قال أهل اللغة والغريب يريه بفتح الياء وكسر الراء من الورى وهو داء يفسد الجوف ومعناه قيحا يأكل جوفه ويفسده قال أبو عبيد قال بعضهم المراد بهذا الشعر شعر هجى به النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد والعلماء كافة هذا تفسير فاسد لأنه يقتضي أن المذموم من الهجاء أن يمتلئ منه دون قليله وقد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من ههجاء النبي صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر قالوا بل الصواب أن المراد أن يكون الشعر غالبا عليه مستوليا عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى وهذا مذموم من أي شعر كان فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا لأن جوفه ليس ممتلئا شعرا والله أعلم واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على كراهة الشعر مطلقا قليله وكثيره وان كان لا فحش فيه وتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم خذوا الشيطان وقال العلماء كافة هو مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه قالوا وهو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وهذا هو الصواب فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر واستنشده وأمر به حسان في هجاء المشركين وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار وغيرها وأنشده الخلفاء وأئمة الصحابة وفضلاء السلف ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه وانما أنكروا المذموم منه وهو الفحش ونحوه وأما تسمية هذا الرجل الذي سمعه ينشد شيطانا فلعله كان كافرا أو كان الشعر هو الغالب عليه
[ 15 ]
أو كان شعره هذا من المذموم وبالجملة فتسميته شيطانا إنما هو في قضية عين تتطرق إليها الاحتمالات المذكورة وغيرها ولا عموم لها فلا يحتج بها والله اعلم قوله (يسير بالعرج) هو بفتح المهملة واسكان الراء وبالجيم وهي قرية جامعة من عمل الفرع على نحو ثمانية وسبعين ميلا من المدينة قوله (عن يحنس) هو بضم الياء وفتح الحاء وتشديد النون مكسورة ومفتوحة والله أعلم باب تحريم اللعب بالنردشير قوله صلى الله عليه وسلم (من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه) قال العلماء النردشير هو النرد فالنرد عجمي معرب وشير معناه حلو وهذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد وقال أبو اسحاق المروزي من أصحابنا يكره ولا يحرم وأما الشطرنج فمذهبنا أنه مكروه ليس بحرام وهو مروي عن جماعة من التابعين وقال مالك وأحمد حرام قال مالك هو شر من النرد وألهى عن الخير وقاسوه على النرد وأصحابنا يمنعون القياس
[ 16 ]
ويقولون هو دونه ومعنى صبغ يده في لحم الخنزير ودمه في حال أكله منهما وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما والله أعلم الرؤيا قوله (كنت أرى الرؤيا أعرى منها غير أني لا أزمل) أما قوله أزمل فمعناه أغطى وألف كالمحموم وأما أعرى فبضم الهمزة وإسكان العين وفتح الراء أي أجم لخوفي من ظاهرها في معرفتي قال أهل اللغة يقال عرى الرجل بضم العين وتخفيف الراء يعرى إذا أصابه عراء بضم العين وبالمد وهو نفض الحمى وقيل رعدة قوله صلى الله عليه وسلم (الرؤيا بين الحلم من الشيطان أما الحلم فبضم الحاء وإسكان اللام والفعل منه حلم بفتح اللام وأما الرؤيا فمقصورة مهموزة
[ 17 ]
ويجوز ترك همزها كنظائرها قال المازري مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علما على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرا على خلاف ما هو فيكون ذلك الاعتقاد علما على غيره كما يكون خلق الله سبحانه وتعالى الغيم علما على المطر والجميع خلق الله تعالى ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علما على ما يسر بغير حضرة الشيطان ويخلق ما هو علم على ما يضر بحضرة الشيطان فينسب الى الشيطان مجازا لحضوره عندها وإن كان لا فعل له حقيقة وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم الرؤيا من الله والحلم من الشيطان لا على أن الشيطان يفعل شيئا فالرؤيا اسم للمحبوب والحلم اسم للمكروه هذا كلام المازرى وقال غيره أضاف الرؤيا المحبوبة الى الله إضافة تشريف بخلاف المكروهة وان كانتا جميعا من خلق الله تعالى وتدبيره وبارادته ولا فعل للشيطان فيهما لكنه يحضر المكروهة ويرتضيها ويسر بها قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شرها فانها لن تضره) أما حلم ففتح اللام كما سبق
[ 18 ]
بيانه والحلم بضم الحاء واسكان اللام وينفث بضم الفاء وكسرها واليسار بفتح الياء وكسرها وأما قوله صلى الله عليه وسلم فلينفث عن يساره ثلاثا وفي رواية فليبصق على يساره حين يهب من نومه ثلاث مرات وفي رواية فليتفل عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها ولا يحدث بها أحدا فإنها لا تضره وفي رواية فليبصق على يساره ثلاثا وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه فحاصله ثلاثة أنه جاء فلينفث وفليبصق وفليتفل وأكثر الروايات فلينفث وقد سبق في كتاب الطب بيان الفرق بين هذه الألفاظ ومن قال أنها بمعنى ولعل المراد بالجميع النفث وهو نفخ لطيف بلا ريق ويكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا وأما قوله صلى الله عليه وسلم فإنها لا تضره معناه أن الله تعالى حعل هذا سببا لسلامته من مكروه يترتب عليها كما جعل الصدقة وقاية للمال وسببا لدفع البلاء فينبغي أن يجمع بين هذه الروايات ويعمل بها كلها فإذا رأى ما يكرهه نفث عن يساره ثلاثا قائلا أعوذ بالله من الشيطان ومن شرها وليتحول الى جنبه الآخر وليصل ركعتين فيكون قد عمل بجميع الروايات وان اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث قال القاضي وأمر بالنفث ثلاثا طردا للشيطان الذي حضر رؤياه المكروهة تحقيرا له واستقذارا وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار والمكروهات ونحوها واليمين ضدها وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا المكروهة ولا يحدث بها أحدا فسببه أنه ربما فسرها تفسيرا مكروها على ظاهر صورتها وكان ذلك محتملا فوقعت كذلك بتقدير الله تعالى فان الرؤيا على رجل طائر ومعناه أنها إذا كانت محتملة وجهين ففسرت بأحدهما وقعت على قرب تلك الصفة قالوا وقد يكون ظاهر الرؤيا مكروها ويفسر بمحبوب وعكسه وهذا معروف لأهله وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا المحبوبة الحسنه لا تخبر بها الا من تحب فسببه أنه إذا أخبر بها من لا يحب ربما حمله البغض أو الحسد على تفسيرها بمكروه فقد يقع على تلك الصفة والا فيحصل له في الحال حزن ونكد من سوء تفسيرها والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (حين يهب من نومه) أي يستيقظ قوله صلى الله عليه وسلم (الرؤيا الصالحة ورؤيا السوء) قال
[ 19 ]
القاضي يحتمل أن يكون معنى الصالحة والحسنة حسن ظاهرها ويحتمل أن المراد صحتها قال ورؤيا السوء يحتمل الوجهين أيضا سوء الظاهر وسوء التأويل قوله صلى الله عليه وسلم (فان رأى رؤيا حسنة فليبشره ولا يخبر بها الا من يحب) هكذا هو في معظم الاصول فليبشر بضم الياء وبعدها باء ساكنة من الابشار والبشرى وفي بعضها بفتح الياء وبالنون من النشر وهو الاشاعة قال القاضي في المشارق وفي الشرح هو تصحيف وفي بعضها فليستر بسين
[ 20 ]
مهملة من الستر والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب) قال الخطابي وغيره قيل المراد إذا قارب الزمان أن يعتدل ليله ونهاره وقيل المراد إذا قارب القيامة والأول أشهر عند أهل غير الرؤيا وجاء في حديث ما يؤيد الثاني والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا) ظاهره أنه على اطلاقه وحكى القاضي عن بعض العلماء أن هذا يكون في آخر الزمان عند انقطاع العلم وموت العلماء والصالحين ومن يستضاء بقوله وعمله فجعله الله تعالى جابرا وعوضا ومنبها لهم والأول أظهر لأن غير الصادق في حديثه يتطرق الخلل الى رؤياه وحكايته اياها قوله صلى الله عليه وسلم (ورؤيا المسلم جزء من خمسة واربعين جزءا من النبوة) وفي رواية رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وفي رواية الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وفي رواية رؤيا الرجل الصالح
[ 21 ]
جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة وفي رواية الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة فحصل ثلاث روايات المشهور ستة وأربعين والثانية خمسة وأربعين والثالثة سبعين جزءا وفي غير مسلم من رواية ابن عباس من أربعين جزءا وفي رواية من تسعة وأربعين وفي رواية العباس من خمسين ومن رواية ابن عمر ستة وعشرين ومن رواية عبادة من أربعة وأربعين قال القاضي أشار الطبري الى أن هذا الاختلاف راجع الى اختلاف حال الرائي فالمؤمن الصالح تكون رؤياه جزءا من ستة وأربعين جزءا والفاسق جزءا من سبعين جزءا وقيل المراد أن الخفي منها جزء من سبعين والجلي جزء من ستة وأربعين قال الخطابي وغيره قال بعض العلماء أقام صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ثلاثا وعشرين سنة منها عشر سنين بالمدينة وثلاث عشرة بمكة وكان قبل ذلك ستة أشهر يرى في المنام الوحي وهي جزء من ستة وأربعين جزءا قال المازرى وقيل المراد أن للمنامات شبها مما حصل له وميز به من النبوة بجزء من ستة وأربعين قال وقد قدح بعضهم في الأول بأنه لم يثبت أن أمد رؤياه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ستة أشهر وبأنه رأى بعد النبوة منامات كثيرة فلتضم الى الأشهر الستة وحينئذ تتغير النسبة قال المازرى هذا الاعتراض الثاني باطل فأن المنامات الموجودة بعد الوحي بإرسال الملك منغمره في الوحي فلم تحسب قال ويحتمل أن يكون المراد أن المنام فيه اخبار الغيب وهو احدى ثمرات النبوة وهو ليس في حد النبوة لأنه يجوز أن يبعث الله تعالى نبيا ليشرع الشرائع ويبين الأحكام ولا يخبر بغيب أبدا ولا يقدح ذلك في نبوته ولا يؤثر في مقصودها وهذا الجزء من النبوة وهو الاخبار بالغيب إذا وقع لا يكون الا صدقا والله أعلم قال الخطابي هذا الحديث توكيد لأمر الرؤيا وتحقيق منزلتها وقال وانما كانت جزءا من أجزاء النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم وكان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يوحي إليهم في منامهم كما يوحي إليهم في اليقظة قال الخطابي وقال بعض العلماء معنى الحديث أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة لأنها جزء
[ 22 ]
باق من النبوة والله أعلم قوله (وأحب القيد وأكره الغل) والقيد ثبات في الدين قال العلماء انما أحب القيد لأنه في الرجلين وهو كف عن المعاصي والشرور وانواع الباطل وأما الغل فموضعه العنق وهو صفة أهل النار قال الله تعالى جعلنا في اعناقهم
[ 23 ]
أغلالا وقال الله تعالى الاغلال في أعناقهم وأما أهل العبارة فنزلوا هاتين اللفظتين منازل فقالوا إذا رأى القيد في رجليه وهو في مسجد أو مشهد خير أو على حالة حسنة فهو دليل لثباته في ذلك وكذا لورآه صاحب ولاية كان دليلا لثباته فيها ولو رآه مريض أو مسجون أو مسافر أو مكروب كان دليلا لثباته فيه قالوا ولو قارنه مكروه بأن يكون مع القيد غل غلب
[ 24 ]
المكروه لأنها صفة المعذبين وأما الغل فهو مذموم إذا كان في العنق وقد يدل للولايات إذا كان معه قرائن كما أن كل وال يحشر مغلولا حتى يطلقه عدله فأما ان كان مغلول اليدين دون العنق فهو حسن ودليل لكفهما عن الشر وقد يدل على بخلهما وقد يدل على منع ما نواه من الأفعال قوله صلى الله عليه وسلم (من رآني في المنام فقد رآني فان الشيطان لا يتمثل بي) وفي رواية من رآني في المنام فقد رآني فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي وفي رواية لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي وفي رواية من رآني فقد رأى الحق وفي رواية من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم فقد رآني فقال ابن الباقلاني معناه أن رؤياه صحيحة ليست بأضغاث ولا من تشبيهات الشيطان ويؤيد قوله رواية فقد رأى الحق أي الروية الصحيحة قال وقد يراه الرائي على خلاف صفته المعروفة كمن رآه أبيض اللحية وقد يراه شخصان في زمن واحد أحدهما في المشرق والآخر في
[ 25 ]
المغرب ويراه كل منهما في مكانه وحكى المازرى هذا عن ابن الباقلاني ثم قال وقال آخرون بل الحديث على ظاهره والمراد أن من رآه فقد أدركه ولا مانع يمنع من ذلك والعقل لا يحيله حتى يضطر إلى صرفه عن ظاهره فأما قوله بأنه قد يرى على خلاف صفته أو في مكانين معا فان ذلك غلط في صفاته وتخيل لها على خلاف ما هي عليه وقد يظن الظان بعض الخيالات مرئيا لكون ما يتخيل مرتبطا بما يرى في العادة فيكون ذاته صلى الله عليه وسلم مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية والادراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار ولا قرب المسافة ولا كون المرئي مدفونا في الأرض ولا ظاهرا عليها وإنما يشترط كونه موجودا ولم يقم دليل على فناء جسمه صلى الله عليه وسلم بل جاء في الأحاديث ما يقتضي بقاءه قال ولو رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصفات المتخيلة لا المرئية هذا كلام المازري قال القاضي ويحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم فقد رآني أو فقد رأى الحق فان الشيطان لا يتمثل في صورتي المراد به إذا رآه على صفته المعروفة له في حياته فان رأى على خلافها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة وهذا الذي قاله القاضي ضعيف بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها لما ذكره المازرى قال القاضي قال بعض العلماء خص الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأن رؤية الناس اياه صحيحة وكلها صدق ومنع الشيطان أن يتصور في خلقته لئلا يكذب على لسانه في النوم كما خرق الله تعالى العادة للأنبياء عليهم السلام بالمعجزة وكما استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة ولو وقع لاشتبه الحق بالباطل ولم يوثق بما جاء به مخافة من هذا التصور فحماها الله تعالى من الشيطان ونزغه ووسوسته وإلقائه وكيده قال وكذا حمى رؤيتهم نفسهم قال القاضي واتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام وصحتها وان رآه الانسان على صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام لأن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى إذ لا يجوز عليه سبحانه وتعالى التجسم ولا اختلاف الأحوال بخلاف رؤية النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن الباقلاني رؤية الله تعالى في المنام خواطر في القلب وهي دلالات للرأي على أمور مما كان أو يكون كسائر المرئيات
[ 26 ]
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة قال العلماء إن كان الواقع في نفس الأمر فكأنما رآني فهو كقوله صلى الله عليه وسلم فقد رآني أو فقد رأى الحق كما سبق تفسيره وان كان سيراني في اليقظة ففيه أقوال أحدها المراد به أهل عصره ومعناه أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يفقه الله تعالى للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عيانا والثاني معناه أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة لأنه يراه في الآخرة جميع أمته من رآه في الدنيا ومن لم يره والثالث يراه في الآخرة رؤية خاصه في القرب منه وحصول شفاعته
[ 27 ]
ونحو ذلك والله أعلم قوله (ان أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني حلمت أن رأسي قطع فأنا أتبعه فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام) قال المازرى يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن منامه هذا من الأضغاث بوحي أو بدلالة من المنام دلته على ذلك أو على أنه من المكروه الذي هو من تحزين الشياطين وأما العابرون فيتكلمون في كتبهم على قطع الرأس ويجعلونه دلالة على مفارقة الرأي ما هو فيه من النعم أو مفارقة من فوقه ويزول سلطانه ويتغير حاله في جميع أموره إلا أن يكون عبدا فيدل على عتقه أو مريضا فعلى شفائه أو مديونا فعلى قضاء دينه أو من لم يحج فعلى أنه يحج أو مغموما فعلى فرحه أو خائفا فعلى أمنه
[ 28 ]
والله أعلم قوله (أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها بأيدهم وأرى سببا واصلا) أما الظلة فهي السحابة وتنطف بضم الطاء وكسرها أي تقطر قليلا قليلا ويتكففون يأخذون بأكفهم والسبب الحبل والواصل بمعنى الموصول وأما الليلة فقال ثعلب وغيره يقال رأيت الليلة من الصباح إلى زوال الشمس ومن الزوال إلى الليل رأيت
[ 29 ]
البارحة قوله صلى الله عليه وسلم (أصبت بعضا وأخطأت بعضا) اختلف العلماء في معناه فقال ابن فتيبة وآخرون معناه أصبت في بيان تفسيرها وصادفت حقيقة تأويلها وأخطأت في مبادرتك بتفسيرها من غير أن آمرك به وقال آخرون هذا الذي قاله ابن قتيبة وموافقوه فاسد لأنه صلى الله عليه وسلم قد أذن له في ذلك وقال أعبرها وانما أخطأ في تركه تفسير بعضها فان الرأي قال رأيت ظلة تنطف السمن والعسل ففسره الصديق رضي الله عنه بالقرآن حلاوته ولينه وهذا انما هو تفسير العسل وترك تفسير السمن وتفسيره السنة فكان حقه أن يقول القرآن والسنة وإلى هذا أشار الطحاوي وقال آخرون الخطأ وقع في خلع عثمان لأنه ذكر في المنام أنه أخذ بالسبب فانقطع به وذلك يدل على انخلاعه بنفسه وفسره الصديق بأنه يأخذ به رجل فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به وعثمان قد خلع قهرا وقتل وولى غيره فالصواب في تفسيره أن يحمل وصله على ولاية غيره من قومه وقال آخرون الخطأ في سؤاله ليعبرها . قوله (فوالله يارسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت قال لا تقسم) هذا الحديث دليل لما قاله العلماء أن إبرار المقسم المأمور به في الأحاديث الصحيحة انما هو إذا لم تكن في الابرار مفسدة ولا مشقة ظاهرة فان كان لم يؤمر بالابرار لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبر قسم أبي بكر لما رأى في إبراره من المفسدة ولعل المفسدة ما علمه من سبب انقطاع السبب مع عثمان وهو قتله وتلك الحروب والفتن المترتبة عليه فكره ذكرها مخافة من شيوعها أو أن المفسدة لو أنكر عليه مبادرته ووبخه بين الناس أو أنه أخطأ في ترك تعيين الرجال الذين يأخذون بالسبب بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان في بيانه صلى الله عليه وسلم أعيانهم مفسدة والله أعلم وفي هذا الحديث جواز عبر الرؤيا وأن
[ 30 ]
عابرها قد يصيب وقد يخطئ وأن الرؤيا ليست لأول عابر على الاطلاق وانما ذلك إذا أصاب وجهها وفيه أنه لا يستحب إبرار المقسم إذا كان فيه مفسدة أو مشقة ظاهرة قال القاضي وفيه أن من قال أقسم لا كفارة عليه لأن أبا بكر لم يزد على قوله أقسم وهذا الذي قاله القاضي عجب فان الذي في جميع نسخ صحيح مسلم أنه قال فوالله يا رسول الله لتحدثني وهذا صريح يمين وليس فيها أقسم والله أعلم قال القاضي قيل لمالك أيعبر الرجل الرؤيا على الخير وهي عنده على الشر فقال معاذ الله أبالنبوة يتلعب هي من أجزاء النبوة قوله (كان مما يقول لأصحابه من رأى منكم رؤيا) قال القاضي معنى هذه اللفظة عندهم كثيرا ما كان فعل كذا كأنه قال من شأنه وفي الحديث الحث على علم الرؤيا والسؤال عنها وتأويلها قال العلماء وسؤالهم محمول على أنه صلى الله عليه
[ 31 ]
وسلم يعلمهم تأويلها وفضيلتها واشتمالها على ما شاء الله تعالى من الاخبار بالغيب قوله (برطب من رطب ابن طاب) هو نوع من الرطب معروف يقال له رطب ابن طاب وتمر ابن طاب وعذق ابن طاب وعرجون ابن طاب وهي مضاف إلى ابن طاب رجل من أهل المدينة قوله صلى الله عليه وسلم (وان ديننا قد طاب) أي كمل واستقرت أحكامه وتمهدت قواعده قوله صلى الله عليه وسلم (رأيت في المنام اني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب) أما الوهل فبفتح الهاء ومعناه وهمى واعتقادي وهجر مدينة معروفة وهي قاعدة البحرين وهي معروفة سبق بيانها في كتاب الايمان وأما يثرب فهو اسمها في الجاهلية فسماها الله تعالى المدينة وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة وقد سبق شرحه مبسوطا في آخر كتاب الحج وقد جاء في حديث النهي عن تسميتها يثرب لكراهة لفظ التثريب ولأنه من تسمية الجاهلية وسماها في هذا الحديث يثرب فقيل يحتمل أن هذا كان قبل النهي وقيل لبيان الجواز وأن النهي للتنزيه لا للتحريم
[ 32 ]
وقيل خوطب به من يعرفها به ولهذا جمع بينه وبين اسمه الشرعي فقال المدينة يثرب قوله صلى الله عليه وسلم (ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المسلمين يوم أحد ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان) أما هززت وهززته فوقع في معظم النسخ بالزائين فيهما وفي بعضها هزت وهزته بزاي واحدة مشددة وإسكان التاء وهي لغة صحيحة قال العلماء وتفسيره صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا بما ذكره لأن سيف الرجل أنصاره الذين يصول بهم كما يصول بسيفه وقد يفسر السيف في غير هذا بالولد والوالد والعم أو الأخ أو الزوجة وقد يدل على الولاية أو الوديعة وعلى لسان الرجل وحجته وقد يدل على سلطان جائر وكل ذلك بحسب قرائن تنضم تشهد لأحد هذه المعاني في الرائي أو في الرؤية قوله صلى الله عليه وسلم (ورأيت فيها أيضا بقرا والله خير فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر) قد جاء في غير مسلم زيادة في هذا الحديث ورأيت بقرا تنحر وبهذه الزيادة يتم تأويل الرؤيا بما ذكر فنحر البقر هو قتل الصحابة رضي الله عنهم الذين قتلوا بأحد قال القاضي عياض ضبطنا هذا الحرف عن جميع الرواة والله خير رفع الهاء والراء على المبتدأ والخبر وبعد يوم بدر بضم دال بعد ونصب يوم قال وروى بنصب الدال قالوا ومعناه ما جاء الله به بعد بدر الثانية من تثبيت قلوب المؤمنين لأن الناس جمعوا لهم وخوفوهم فزادهم ذلك ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء وتفرق العدو عنهم هيبة لهم قال القاضي قال أكثر شراح الحديث معناه ثواب الله خير أي صنع الله بالمقتولين خير لهم من بقائهم في الدنيا قال القاضي والاولي قول من قال
[ 33 ]
والله خير من جملة الرؤيا وكلمة ألقيت إليه وسمعها في الرؤيا عند رؤياه البقر بدليل تأويله لها بقوله صلى الله عليه وسلم وإذا الخير ما جاء الله والله أعلم قوله (ان مسيلمة الكذاب ورد المدينة في عدد كثير فجاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم) قال العلماء إنما جاءه تألفا له ولقومه رجاء إسلامهم وليبلغ ما أنزل إليه قال القاضي ويحتمل أن سبب مجيئه إليه أن مسيلمة قصده من بلده للقائه فجاءه مكافأة له قال وكان مسيلمة إذ ذاك يظهر الاسلام وإنما ظهر كفره وارتداده بعد ذلك قال وقد جاء في حديث آخر أنه هو أتى النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أنهما مرتان قوله صلى الله عليه وسلم لمسيلمة (ولن أتعدى أمر الله فيك) فهكذا وقع في جميع نسخ مسلم ووقع في البخاري ولن تعدو أمر الله فيك قال القاضي هما صحيحان فمعنى الأول لن أعدو أنا أمر الله فيك من أني لا أجيبك إلى ما طلبته مما لا ينبغي لك من الاستخلاف أو المشاركة ومن أني أبلغ ما أنزل إلي وأدفع أمرك بالتي هي أحسن ومعنى الثاني ولن تعدو أنت أمر الله في خيبتك فيما أملته من النبوة وهلاكك دون ذلك أو فيما سبق من قضاء الله تعالى وقدره في شقاوتك والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ولئن أدبرت ليعقرنك الله) أي إن أدبرت عن طاعتي ليقتلنك الله والفقر القتل وعقروا الناقة قتلوها وقتله الله تعالى يوم اليمامة وهذا من معجزات النبوة قوله صلى الله عليه وسلم (وهذا ثابت يجيبك عني) قال العلماء كان ثابت بن قيس خطيب رسول الله
[ 34 ]
صلى الله عليه وسلم يجاوب الوفود عن خطبهم وتشدقهم . قوله صلى الله عليه وسلم (فأولتهما كذابين يخرجان بعدي فكان أحدهما العنسى صاحب صنعاء والآخر مسيلمة صاحب اليمامة) قال العلماء المراد بقوله صلى الله عليه وسلم يخرجان بعدي أي يظهران شوكتهما أو محاربتهما ودعواهما النبوة وإلا فقد كانا في زمنه قوله صلى الله عليه وسلم (رأيت في يدي سوارين) وفي الرواية الأخرى فوضع في يدي أسوارين قال أهل اللغة يقال سوار بكسر السين وضمها وأسوار بضم الهمز ثلاث لغلات ووقع في جميع النسخ في الرواية الثانية أسوارين فيكون وضع بفتح الواو والضاد وفيه ضمير الفاعل أي وضع الآتي بخزائن الأرض في يدي أسوارين فهذا هو الصواب وضبطه بعضهم فوضع بضم الواو وهو ضعيف لنصب اسوارين وإن كان يتخرج على وجه ضعيف وقوله يدي هو بتشديد الياء على التثنية قوله صلى الله عليه سلم (فأوحى إلي أن انفخهما) هو بالخاء المعجمة ونفخه صلى الله عليه وسلم إياهما فطارا دليل لانمحاقهما واضمحلال أمرها وكان كذلك وهو من المعجزات قوله (أوتيت خزائن الأرض) وفي بعض
[ 35 ]
النسخ أتيت بخزائن الأرض وفي بعضها أتيت خزائن الأرض وهذه محمولة على التي قبلها وفي غير مسلم مفاتيح خزائن الأرض قال العلماء هذا محمول على سلطانها وملكها وفتح بلادها وأخذ خزائن أموالها وقد وقع ذلك كله ولله الحمد وهو من المعجزات قوله (كان رسول لله صلى الله عليه ولم (إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا) هكذا هو في جميع نسخ مسلم البارحة فيه دليل لجواز اطلاق البارحة على الليلة الماضية وان كان قبل الزوال وقول ثعلب وغيره انه لا يقال البارحة إلا بعد الزوال يحتمل أنهم أرادوا أن هذا حقيقته ولا يمتنع إطلاقه قبل الزوال مجازا ويحملون الحديث على المجاز وإلا فمذهبهم باطل بهذا الحديث وفيه دليل لاستحباب إقبال الامام المصلي بعد سلامه على أصحابه وفيه استحباب السؤال عن الرؤيا والمبادرة إلى تأويلها وتعجيلها أول النهار لهذا الحديث ولأن الذهن جمع قبل أن يتشعب باشغاله في معايش الدنيا ولأن عهد الرائي قريب لم يطرأ عليه ما يهوش الرؤيا عليه ولأنه قد يكون فيها ما يستحب تعجيله كالحث على خير أو التحذير من معصية ونحو ذلك وفيه إباحة الكلام في العلم وتفسير الرؤيا ونحوهما بعد صلاة الصبح وفيه أن استدبار القبلة في جلوسه للعلم أو غيره مباح والله أعلم
[ 36 ]
كتاب الفضائل فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله اصطفى كنانة) إلى آخره استدل به أصحابنا على أن غير قريش من العرب ليس بكفء لهم ولا غير بني هاشم كفؤ لهم إلا بني المطلب فانهم هم وبنو هاشم شئ واحد كما صرح به في الحديث الصحيح والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن) فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة منها لما يهبط من خشية الله وقوله تعالى من شئ إلا يسبح بحمده وفي هذه الآية خلاف مشهور والصحيح أنه يسبح
[ 37 ]
حقيقة ويجعل الله تعالى فيه تمييزا بحسبه كما ذكرنا ومنه الحجر الذي فر بثوب موسى صلى الله عليه وسلم وكلام الذراع المسمومة ومشى إحدى الشجرتين إلى الأخرى حين دعاهما النبي صلى الله عليه وسلم وأشباه ذلك تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق قوله صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) قال الهروي السيد هو الذي يفوق قومه في الخير وقال غيره هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد فيقوم بأمرهم ويتحمل عنهم مكارههم ويدفعها عنهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد ولا يبقى مناع ولا معاند ونحوه بخلاف الدنيا فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار وزعماء المشركين وهذا التقييد قريب من معنى قوله تعالى الملك اليوم لله الواحد القهار مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك لكن كان في الدنيا من يدعى الملك أو من يضاف إليه مجازا فانقطع كل ذلك في الآخرة قال العلماء وقوله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم لم يقله فخرا بل صرح بنفي الفخر في غير مسلم في الحديث المشهور أنا سيد ولد أدم ولا فخر وانما قاله لوجهين أحدهما امتثال قوله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث والثاني أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه ويوقروه صلى الله عليه وسلم بما تقتضي مرتبته كما أمرهم الله تعالى وهذا الحديث دليل لتفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم لأن مذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين وغيرهم وأما الحديث الآخر لا تفضلوا بين الأنبياء فجوابه من خمسة أوجه أنه صلى الله عليه وسلم
[ 38 ]
قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم فلما علم أخبر به والثاني قاله أدبا وتواضعا والثالث أن النهي انما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول والرابع انما نهي عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة كما هو المشهور في سبب الحديث والخامس أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة فلا تفاضل فيها وانما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى ولابد من اعتقاد التفضيل فقد قال الله تعالي تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض قوله صلى الله عليه وسلم (وأول شافع وأول مشفع) انما ذكر الثاني لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني منهما قبل الأول والله أعلم في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم قوله في هذه الأحاديث في نبع الماء من بين أصابعه وتكثيره وتكثير الطعام هذه كلها معجزات ظاهرات وجدت من رسول الله صلي الله عليه وسلم في مواطن مختلفة وعلى أحوال متغايرة وبلغ مجموعها التواتر وأما تكثير الماء فقد صح من رواية أنس وابن مسعود وجابر وعمران بن الحصين وكذا تكثير الطعام وجد منه صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة وعلى أحوال كثيرة وصفات متنوعة وقد سبق في كتاب الرقى بيان حقيقة المعجزة والفرق بينها وبين الكرامة وسبق قبل ذلك بيان كيفية تكثير الطعام وغيره قوله (فأتى بقدح رحراح) هو بفتح الراء واسكان الحاء المهملة ويقال له رحرح بحذف الألف وهو الواسع القصير الجدار قوله (فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه) هو بضم الباء وفتحها وكسرها ثلاث لغات وفي كيفية هذا النبع قولان حكاهما القاضي وغيره أحدهما ونقله القاضي عن المزتي وأكثر العلماء أن معناه أن الماء كان يخرج من نفس أصابعه صلى الله عليه وسلم وينبع من ذاتها قالوا وهو أعظم في المعجزة من نبعه من حجر ويؤيد هذا أنه جاء في رواية فرأيت الماء ينبع من أصابعه والثاني يحتمل
[ 39 ]
أن الله كثر الماء في ذاته فصار يفور من بين أصابعه لا من نفسها وكلاهما معجزة ظاهرة وآية باهرة قوله (فالتمس الناس الوضوء) هو بفتح الواو على المشهور وهو الماء الذي يتوضأ به وسبق بيان لغاته في كتاب الطهارة قوله (حتى توضؤا من عند آخرهم) هكذا هو في الصحيحين من عند آخرهم وهو صحيح ومن هنا بمعنى إلى وهي لغة قوله (كانوا زهاء الثلاثمائة) أما زهاء فبضم الزاي وبالمد أي قدر ثلاثمائة ويقال أيضا لها باللام وقال في هذه الرواية ثلاثمائة وفي الرواية التي قبلها ما بين الستين إلى الثمانين قال العلماء هما قضيتان جرتا في وقتين ورواهما جميعا أنس وأما قوله الثلاثمائة فهكذا هو في جميع النسخ الثلاثمائة وهو صحيح وسبق شرحه في كتاب الايمان في حديث
[ 40 ]
حذيفة اكتبوا لي كم بلفظ الاسلام قوله (لا يغمر أصابعه) أي لا يغطيها قوله (والمسجد فيما ثمة) هكذا هو في جميع النسخ ثمة قال أهل اللغة ثم بفتح الثاء وثمة بفتح الهاء بمعنى هناك وهنا فثم للبعيد وثمة للقريب قوله صلى الله عليه وسلم (لو تركتيها ما زال قائما) أي موجودا حاضرا قوله في حديث غزوة تبوك (كان يجمع الصلاة) إلى آخره هذا الحديث سبق في كتاب الصلاة وفيه هذه المعجزة
[ 41 ]
الظاهرة في تكثير الماء وفيه الجمع بين الصلاتين في السفر قوله (والعين مثل الشراك تبض) هكذا ضبطناه هنا تبض بفتح التاء وكسر الموحدة وتشديد الضاد المعجمة ونقل القاضي اتفاق الرواة هنا على أنه بالضاد المعجمة ومعناه تسيل واختلفوا في ضبطه هناك فضبطه بعضهم بالمعجمة وبعضهم بالمهملة أي تبرق والشراك بكسر الشين وهو سير النعل ومعناه ماء قليل جدا قوله (فجرت العين بماء منهمر) أي كثير الصب والدفع قوله صلى الله عليه وسلم (قد ملئ جنانا) أي بساتين وعمرانا وهو جمع جنة وهو أيضا من المعجزات قوله في حديث المرأة انها حين عصرت العكة ذهبت بركة السمن وفي حديث الرجل حين كان الشعير فني ومثله حديث عائشة حين كالت الشعير ففني قال العلماء الحكمة في ذلك أن عصرها وكيله مضادة للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة وتكلف الاحاطة
[ 42 ]
بأسرار حكم الله تعالى وفضله فعوقب فاعله بزواله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديقة (اخرصوها) هو بضم الراء وكسرها والضم أشهر أي احزروا كم يجيئ من تمرها فيه استحباب امتحان العالم أصحابه بمثل هذا التمرين والحديقة البستان من النخل إذا كان عليه حائط قوله صلى الله عليه وسلم (ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم فيها أحد فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلى طئ) هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة من أخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيب وخوف الضرر من القيام وقت الريح وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته والرحمة لهم والاعتناء بمصالحهم وتحديرهم ما يضرهم في دين أو دنيا وانما أمر بشد عقل الجمال لئلا ينفلت منها شئ فيحتاج صاحبه إلى القيام في طلبه فيلحقه ضرر الريح وجبلا طئ مشهوران يقال لأحدهما أجاء بفتح الهمزة والجيم وبالهمز والآخر سلمى بفتح السين وطئ بياء مشددة بعدها همزة على وزن سيد وهو أبو قبيله من اليمن وهو طئ بن أدر بن زيد بن كهلان بن سبأ بن حمير قال صاحب التحرير وطي يهمز ولا يهمز لغتان قوله (وجاء رسول بن العلماء) بفتح العين المهملة واسكان اللام وبالمد قوله (وأهدى له بغلة بيضاء) فيه قبول هدية الكافر وسبق بيان هذا الحديث وما يعارضه في الظاهر وجمعنا بينهما وهذه البغلة هي دلدل بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة
[ 43 ]
لكن ظاهر لفظه هنا أنه أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقد كانت غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة وقد كانت هذه البغلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وحضر عليها غزاة حنين كما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة وكانت حنين عقب فتح مكة سنة ثمان قال القاضي ولم يرو أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة غيرها قال فيحمل قوله على أنه أهداها له قبل ذلك وقد عطف الاهداء على المجئ بالواو وهي لا تقتضي الترتيب والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه) سبق شرحه في آخر كتاب الحج قوله صلي الله عليه وسلم (خير دور الانصار دار بني النجار) قال القاضي المراد أهل
[ 44 ]
الدور والمراد القبائل وانما فضل بني النجار لسبقهم في الاسلام وآثارهم الجميلة في الدين قوله (ثم دار بني عبد الحارث بن خزرج) هكذا هو في النسخ بني عبد الحارث وكذا نقله القاضي قال وهو خطأ من الرواة وصوابه بني الحارث بحذف لفظة عبد قوله (وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببحرهم) أي ببلدهم والبحار القرى توكله على الله تعالي وعصمة الله تعالى له من الناس فيه حديث جابر ففيه بيان توكل النبي صلى الله عليه وسلم على الله وعصمة الله تعالى له من الناس كما قال الله تعالى والله يعصمك من الناس وفيه جواز الاستظلال بأشجار البوادي وتعليق السلاح وغيره فيها وجوازا لمن على الكافر الحربي واطلاقه وفيه الحث على مراقبة الله تعالى والعفو والحلم ومقابلة السيئة بالحسنة قوله (في واد كثير العضاه) هو بالعين المهملة والضاد المعجمة وهي كل شجرة ذات شوك قوله صلى اله عليه وسلم (ان رجلا أتاني) قال العلماء هذا الرجل اسمه
[ 45 ]
غورث بغين معجمة وثاء مثلثة والغين مضمومة ومفتوحة وحكى القاضي الوجهين ثم قال الصواب الفتح قال وضبطه بعض رواة البخاري بالعين المهملة والصواب المعجمة وقال الخطابي هو غويرث أو غورث على التصغير والشك وهو غورث بن الحارث قال القاضي وقد جاء في حديث آخر مثل هذا الخبر وسمى الرجل فيه دعثورا قوله صلى الله عليه وسلم (والسيف صلتا في يده إلى قوله فشام السيف) أما صلتا فبفتح الصاد وضمها أي مسلولا وأما شامه فبالشين المعجمة ومعناه غمده ورده في غمده يقال شام السيف إذا سله وإذا أغمده فهو من الأضداد والمراد هنا أغمده
[ 46 ]
باب بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ان مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى انما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) أما الغيث فهو المطر وأما العشب والكلأ والحشيش فكلها أسماء للنبات لكن الحشيش مختص باليابس والعشب والكلأ مقصورا مختصان بالرطب والكلأ بالهمز يقع على اليابس والرطب وقال الخطابي وابن فارس الكلأ يقع على اليابس وهذا شاذ ضعيف وأما الأجادب فبالجيم والدال المهملة وهي الأرض التي لا تنبت كلأ وقال الخطابي هي الأرض التي تمسك الماء فلا يسرع فيه النضوب قال ابن بطال وصاحب المطالع وآخرون هو جمع جدب على غير قياس كما قالوا في حسن جمعه محاسن والقياس أن محاسن جمع محسن وكذا قالوا مشابه جمع شبه وقياسه أن يكون جمع مشبه قال الخطابي وقال بعضهم أحادب بالحاء المهملة والدال قال وليس بشئ قال وقال بعضهم أجارد بالجيم والراء والدال قال وهو صحيح المعنى ان
[ 47 ]
ساعدته الرواية قال الأصمعي الأجارد من الأرض مالا ينبت الكلأ معناه أنها جرداء هزرة لا يسترها النبات قال وقال بعضهم انما هي اخاذات بالخاء والذال المعجمتين وبالألف وهو جمع اخاذة وهي الغدير الذي يمسك الماء وذكر صاحب المطالع هذه الأوجه التي ذكرها الخطابي فجعلها روايات منقولة وقال القاضي في الشرح لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره إلا بالدال المهملة من الجدب الذي هو ضد الخصب قال وعليه شرح الشارحون وأما القيعان فبكسر القاف جمع القاع وهو الأرض المستوية وقيل الملساء وقيل التي لا نبات فيها وهذا هو المراد في هذا الحديث كما صرح به صلى االله عليه وسلم ويجمع أيضا على أقوع وأقواع والقيعة بكسر القاف بمعنى القاع قال الأصمعي قاعة الدار ساحتها وأما الفقه في اللغة فهو الفهم يقال منه فقه بكسر القاف يفقه فقها بفتحها كفرح يفرح فرحا وقيل المصدر فقها باسكان القاف وأما الفقه الشرعي فقال صاحب العين والهروي وغيرهما يقال منه فقه بضم القاف وقال ابن دريد بكسرها كالأول والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم فقه في دين الله هذا الثاني فيكون مضموم القاف على المشهور وعلي قول ابن دريد بكسرها وقد روى بالوجهين والمشهور الضم وأما قوله صلى الله عليه وسلم فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فهكذا هو في جميع نسخ مسلم طائفة طيبة ووقع في البخاري فكان منه نقية قبلت الماء بنون مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مشددة وهو بمعنى طيبة هذا هو المشهور في روايات البخاري ورواه الخطابي وغيره ثقبة بالثاء المثلثة والغين المعجمة والباء الموحدة قال الخطابي وهو مستنقع الماء في الجبال والصخور وهو الثغب أيضا وجمعه ثغبان قال القاضي وصاحب المطالع هذه الرواية غلط من الناقلين وتصحيف واحالة للمعنى لأنه انما جعلت هذه الطائفة الأولى مثلا لما ينبت والثغبة لا تنبت وأما قوله صلى الله عليه وسلم وسقوا فقال أهل اللغة سقى وأسقى بمعنى لغتان وقيل سقاه ناوله ليشرب وأسقاه جعل له سقيا وأما قوله صلي الله عليه وسلم ورعوا فهو بالراء من الرعي هكذا هو في جميع نسخ مسلم ووقع في البخاري وزرعوا وكلاهما صحيح والله أعلم أما معاني الحديث ومقصوده فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحي بعد أن كان ميتا وينبت الكلأ فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى
[ 48 ]
والعلم فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع والنوع الثاني من الأرض مالا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة وهي امساك الماء لغيرها فينتفع بها الناس والدواب وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بما بلغهم والنوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت ونحوها فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع بها غيرها وكذا النوع الثالث من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم والله أعلم وفي هذا الحديث أنواع من العلم منها ضرب الأمثال ومنها فضل العلم والتعليم وشدة الحث عليهما وذم الاعراض عن العلم والله أعلم باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم قوله صلى الله عليه وسلم (لأني أنا النذير العريان) قال العلماء أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه واعلامهم بما يوجب المخافة نزع ثوبه وأشار به إليهم إذا كان بعيدا منهم ليخبرهم بمادهمهم وأكثر ما يفعل هذا ربيئة القوم وهو طليعتهم ورقيبهم قالوا وانما يفعل ذلك لأنه أبين للناظر وأغرب وأشنع منظرا فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو وقيل معناه أنا النذير الذي أدركني جيش العدو فأخذ ثيابي فأنا أنذركم عريانا . قوله (فالنجاء) ممدود أي انجوا النجاء أو اطلبوا النجاء
[ 49 ]
قال القاضي المعروف في النجاء إذا أفرد المد وحكى أبو زيد فيه القصر أيضا فإذا ما كرروه فقالوا النجاء النجاء ففيه المد والقصر معا قوله صلى الله عليه وسلم (فادلجوا فانطلقوا على مهلتهم) أما أدلجوا فباسكان الدال ومعناه ساروا من أول الليل يقال أدلجت باسكان الدال إدلاجا كأكرمت إكراما والاسم الدلجة بفتح الدال فان خرجت من آخر الليل قلت ادلجت بتشديد الدال أدلج إدلاجا بالتشديد بالتشديد أيضا والاسم الدلجة بضم الدال قال ابن قتيبة وغيره ومنهم من يجيز الوجهين في كل واحد منهما وأما قوله على مهلتهم هكذا هو في جميع نسخ مسلم بضم الميم وإسكان الهاء وبتاء بعد اللام وفي الجمع بين الصحيحين مهلهم بحذف التاء وفتح الميم والهاء وهما صحيحان
[ 50 ]
قوله (فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم) أي استأصلهم قوله صلى الله عليه وسلم (فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها) وفي رواية الدواب والفراش وفي رواية أنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها وفي رواية وأنتم تفلتون من يدي أما الفراش فقال الخليل هو الذي يطير كالبعوض وقال غيره ما تراه كصغار البق يتهافت في النار وأما الجنادب فجمع جندب وفيها ثلاث لغات جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما والثالثة حكاه القاضي بكسر الجيم وفتح الدال والجنادب هذا الصرار الذي يشبه الجراد وقال أبو حاتم الجندب على خلقة الجراد له أربعة أجنحة كالجرادة وأصغر منها يطير ويصر بالليل صرا شديدا وقيل غيره وأما التقحم فهو الاقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت والحجز جمع حجزة وهي معقد الازار والسراويل وأما قوله صلى الله عليه وسلم وأنا آخذ بحجزكم فروى بوجهين أحدهما إسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال والثاني فعل مضارع بضم الذال بلا تنوين والأول أشهر وهما صحيحان وأما تفلتون فروي بوجهين أحدهما فتح التاء والفاء المشددة والثاني ضم التاء وإسكان الفاء وكسر اللام المخففة وكلاهما صحيح يقال أفلت مني وتفلت إذا نازعك الغلبة والهرب ثم غلب وهرب ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساع في ذلك لجهله قوله (حدثنا سليم عن سعيد) هو بفتح السين وكسر اللام وهو سليم بن حيان
[ 51 ]
باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين في الباب قوله صلى الله عليه وسلم (مثلي ومثل الأنبياء من قبلى إلى قوله فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) فيه فضيلته صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين وجواز ضرب الأمثال في العلم وغيره واللبنة بفتح اللام
[ 52 ]
وكسر الباء ويجوز إسكان الباء مع فتح اللام وكسرها كما في نظائرها والله أعلم إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها قال مسلمة (وحدثت عن أبي أسامة وممن روى ذلك عنه ابراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة إلى آخره) قال المازري والقاضي هذا الحديث من الأحاديث المنقطعة في مسلم فإنه لم يسم الذي حدثه عن أبي اسامة قلت وليس هذا حقيقة انقطاع وانما هو رواية مجهول وقد وقع في حاشية بعض النسخ المعتمدة قال الجلودي حدثنا محمد بن المسيب الارعياني قال حدثنا ابراهيم بن سعيد الجوهري بهذا الحديث عن أبي أسامه باسناده
[ 53 ]
اثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته قال القاضي عياض رحمه الله أحاديث الحوض صحيحة والايمان به فرض والتصديق به من الايمان وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأول ولا يختلف فيه قال القاضي وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة فذكره مسلم من رواية ابن عمرو بن العاص وعائشة وأم سلمة وعقبة بن عامر وابن مسعود وحذيفة وحارثة بن وهب والمستورد وأبي ذر وثوبان وأنس وجابر ابن سمرة ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر الصديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وعبد الله بن زيد وأبي برزة وسويد بن حبلة وعبد الله بن الصنابجي والبراء بن عازب وأسماء بنت أبي بكر وخولة بنت قيس وغيرهم قلت ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية أبي هريرة ورواه غيرهما من رواية عمر بن الخطاب وعائذ بن عمر وآخرين وقد جمع ذلك كله الامام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرات قال القاضي وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترا قوله صلى الله عليه وسلم (أنا فرطكم على الحوض) قال أهل اللغة الفرط بفتح الفاء والرء والفارط هو الذي يتقدم الوارد ليصلح لهم والحياض والدلاء ونحوها من أمور الاستقاء فمعنى فرطكم علي الحوض سابقكم إليه كالمهئ له قوله صلى الله عليه وسلم (ومن شرب
[ 54 ]
لم يظمأ أبدا) أي شرب منه والظمأ مهموز مقصور كما ورد به القرآن العزيز وهو العطش يقال ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن وهم ظماء بالمد كعطش يعطش عطشا فهو عطشان وهم عطاش قال القاضي ظاهر هذا الحديث أن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة من النار فهدا هو الذي لا يظمأ بعده قال وقيل لا يشرب منه الا من قدر له السلامة من النار قال ويحتمل أن من شرب منه من هذه الأمة وقدر عليه دخول النار لا يعذب فيها بالظمأ بل يكون عذابه بغير ذلك لأن ظاهر هذا الحديث أن جميع الأمة يشرب منه الا من ارتد وصار كافرا قال وقد قيل إن جميع الأمم من المؤمنين يأخذون كتبهم بأيمانهم ثم يعذب الله تعالى من شاء من عصاتهم وقيل انما يأخذه بيمينه الناجون خاصة قال القاضي وهذا مثله قوله صلى الله عليه وسلم من ورد شرب هذا صريح في أن الواردين كلهم يشربون وانما يمنع منه الذين يذادون ويمنعون الورود لارتدادهم وقد سبق في كتاب الوضوء بيان هذا الذود والمذودين قوله صلى الله عليه وسلم (سحقا سحقا) أي بعدا لهم بعدا ونصبه على المصدر وكرر للتوكيد قوله (حدثنا هارون بن سعيد حدثنا ابن وهب أخبرني أبو أسامة عن أبي حازم عن سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال العلماء هذا العطف على سهل فالقائل وعن النعمان هو أبو حازم فرواه عن سهل ثم رواه عن النعمان عن أبي سعيد
[ 55 ]
قوله صلى الله عليه وسلم (حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء) قال العلماء معناه طوله كعرضه كما قال في حديث أبي ذر المذكور في الكتاب عرضه مثل طوله قوله صلى الله عليه وسلم (ماؤه أبيض من الورق) هكذا هو في جميع النسخ الورق بكسر الراء وهو الفضة والنحويون يقولون أن فعل التعجب الذي يقال فيه هو أفعل من كذا انما يكون فيما كان ماضيه على ثلاثة أحرف فان زاد لم يتعجب من فاعله وانما يتعجب من مصدره فلا يقال ما أبيض زيدا ولا زيد أبيض من عمرو وانما يقال ما أشد بياضه وهو أشد بياضا من كذا وقد جاء في الشعر أشياء من هذا الذي أنكروه فعدوه شاذا لا يقاس عليه وهذا الحديث يدل على صحته وهي لغة وان كانت قليلة الاستعمال ومنها قول عمر رضي الله عنه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع قوله صلى الله عليه وسلم (كيزانه كنجوم السماء) وفي رواية فيه أباريق كنجوم السماء وفي رواية والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من
[ 56 ]
عدد نجوم السماء وكواكبها وفي رواية وأن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء وفي رواية آنيته عدد النجوم وفي رواية ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء وفي رواية كأن الأباريق فيه النجوم المختار الصواب أن هذا العدد للآنية على ظاهره وأنها أكثر عددا من نجوم السماء ولا مانع عقلي ولا شرعي يمنع من ذلك بل ورد الشرع به مؤكدا كما قال صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وقال القاضي عياض هذا اشارة إلى كثرة العدد وغايته الكثيرة من باب قوله صلى الله عليه وسلم لا يضع العصا عن عاتقه وهو باب من المبالغة معروف في الشرع واللغة ولا يعد كذبا إذا كان المخبر عنه في حيز الكثرة
[ 57 ]
والعظم ومبلغ الغاية في بابه بخلاف ما إذا لم يكن كذلك قال ومثله كلمته ألف مرة ولقيته مائة كرة فهذا جائز إذا كان كثيرا وإلا فلا هذا كلام القاضي والصواب الأول قوله صلى الله عليه وسلم في الحوض (وان عرضه ما بين أيلة إلى الجحفة) وفي رواية بين ناحيتيه كما بين جرباء وأذرح قال الراوي هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاث ليال وفي رواية عرضه مثل طوله مابين عمان إلى أيلة وفي رواية من مقامي إلي عمان وفي رواية قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن وفي رواية ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة أما أيلة فبفتح الهمزة واسكان المثناة تحت وفتح اللام وهي مدينة معروفة في عراف الشام على ساحل البحر متوسطة بين مدينة رسول الله صلي الله عليه وسلم ودمشق ومصر بينها وبين المدينة نحو خمس عشرة مرحلة وبينها وبين دمشق نحو ثنتي عشرة مرحلة وبينها وبين مصر نحو ثمان مراحل قال الحازمي قيل هي آخر الحجاز وأول الشام
[ 58 ]
وأما الجحفة فسبق بيانها في كتاب الحج وهي نحو سبع مراحل من المدينة بينها وبين مكة وأما جربا فبجيم مفتوحة ثم راء ساكنة ثم باء موحدة ثم ألف مقصورة هذا هو الصواب المشهور أنها مقصورة وكذا قيدها الحازمي في كتابه المؤتلف في الأماكن وكذا ذكرها القاضي وصاحب المطالع والجمهور وقال القاضي وصاحب المطالع ووقع عند بعض رواة البخاري ممدودا قالا وهو خطأ وقال صاحب التحرير هي بالمد وقد تقصر قال الحازمي كان أهل جربا يهودا كتب لهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان لما قدم عليه لحية بن رؤبة صاحب أيلة بقوم منهم ومن أهل أذرح يطلبون الأمان وأما أذرح فبهمزة مفتوحة ثم ذال معجمة ساكنه ثم راء مضمومة ثم حاء مهملة هذا هو الصواب المشهور الذي قاله الجمهور قال القاضي وصاحب المطالع ورواه بعضهم بالجيم قالا وهو تصحيف لا شك فيه وهو كما قالا وهي مدينة في طرف الشام في قبلة الشوبك بينها وبينه نحو نصف يوم وهي في طرف الشراط بفتح الشين المعجمة في طرفها الشمالي وتبوك في قبلة أذرح بينهما نحو أربع مراحل وبين تبوك ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربع عشرة مرحلة وأما عمان فبفتح العين وتشديد الميم وهي بلدة بالبلقاء من الشام قال الحازمي قال ابن الأعرابي يجوز أن يكون فعلان من عم يعم فلا تنصرف معرفة وتنصرف ونكرة قال ويجوز أن يكون فعالا من عمن فتنصرف معرفة ونكرة إذا عني بها البلد هذا كلامه والمعروف في روايات الحديث وغيرها ترك صرفها قال القاضي عياض وهذا الاختلاف في قدر عرض الحوض ليس موجبا للاضطراب فانه لم يأت في حديث واحد بل في أحاديث مختلفة الرواة عن جماعة من الصحابة سمعوها في مواطن مختلفة ضربها النبي صلى الله عليه وسلم في كل واحد منها مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته وقرب ذلك من الأفهام لبعد ما بين البلاد المذكورة لا علي التقدير الموضوع للتحديد بل للاعلام بعظم هذه المسافة فبهذا تجمع الروايات هذا كلام القاضي قلت وليس في القليل من هذه منع الكثير والكثير ثابت على ظاهر الحديث ولا معارضة والله أعلم قولها (كفي رأسي) هو بالكاف أي اجمعيه وضمي شعره بعضه إلى بعض قولها (اني من الناس) دليل لدخول النساء في خطاب الناس وهذا متفق عليه وانما اختلفوا في دخولهن في خطاب الذكور ومذهبنا أنهن لا يدخلن فيه وفيه اثبات القول بالعموم قوله (صلى على أهل أحد صلاته على الميت) أي دعا لهم بدعاء صلاة
[ 59 ]
الميت وسبق شرح هذا الحديث في كتاب الجنائز قوله صلى الله عليه وسلم (واني والله لأنظر إلى حوضي الآن) هذا تصريح بأن الحوض حوض حقيقي على ظاهره كما سبق وأنه مخلوق موجود اليوم وفيه جواز الحلف من غير استحلاف لتفخيم الشئ وتوكيده قوله صلي الله عليه وسلم (واني قد اعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض اني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها) هكذا هو في جميع النسخ مفاتيح في اللفظين بالياء قال القاضي وروي مفاتح بحذفها فمن أثبتها فهو جمع مفتاح ومن حذفها فجمع مفتح وهما لغتان فيه وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه سلم فإن معناه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض وقد وقع ذلك وأنها لا ترتد جملة وقد عصمها الله تعالى من ذلك وأنها تتنافس في الدنيا وقد وقع كل ذلك قوله (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات فكانت آخر ما رأيته على المنبر) معناه خرج إلى قتلى أحد ودعا لهم دعاء مودع ثم دخل المدينة فصعد المنبر
[ 60 ]
فخطب الأحياء خطبة مودع كما قال النواس ابن سمعان قلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع وفيه معنى المعجزة قوله صلى الله عليه وسلم (لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة) أما قوله صلى الله عليه وسلم ألا في الليلة المظلمة فهو بتخفيف ألا وهي التي للاستفتاح وخص الليلة المظلمة المصحية لأن النجوم ترى فيها أكثر والراد بالمظلمة التي لا قمر فيها مع أن النجوم طالعة فإن وجود القمر يستر كثيرا من النجوم وأما قوله صلى الله عليه وسلم آنية الجنة فضبطه بعضهم برفع آنية وبعضهم بنصبها وهما صحيحان فمن رفع فخبر مبتدأ محذوف أي هي آنية الجنة ومن نصب فبإضمار أعني أو نحوه وأما آخر ما عليه فمنصوب وسبق نظيره في كتاب الايمان وأما يشخب فبالشين والخاء المعجمتين والياء مفتوحة والخاء مضمومة ومفتوحة والشخب السيلان وأصله ما خرج من تحت يد الحالب عند كل عمرة وعصرة لضرع الشاة وأما الميزابان فبالهمز ويجوز قلب الهمزة ياء
[ 62 ]
قوله (عن معدان اليعمرى) بفتح ميم اليعمرى وضمها منسوب إلى يعمر قوله صلى الله عليه وسلم (إني لبعقر حوضي) هو بضم العين وإسكان القاف وهو موقف الابل من الحوض إذا وردته وقيل مؤخره قوله صلى الله عليه وسلم (أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم) معناه أطرد الناس عنه غير أهل اليمن ليرفض على أهل اليمن وهذه كرامة لأهل اليمن في تقديمهم في الشرب منه مجازاة لهم بحسن صنيعهم وتقدمهم في الاسلام والأنصار من اليمن فيدفع غيرهم حتى يشربوا كما دفعوا في الدنيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أعداءه والمكروهات ومعنى يرفض عليهم أي يسيل عليهم ومنه حديث البراق استصعب حتى ارفض عرقا أي سال عرقه قال أهل اللغة والغريب وأصله من الدمع يقال ارفض الدمع إذا سال متفرقا قال القاضي وعصاه المذكورة في هذا الحديث هي المكني عنها بالهراوة في وصفه صلى الله عليه وسلم في كتب الأوائل بصاحب الهراوة قال أهل اللغة الهراوة بكسر الهاء العصا قال ولم يأت لمعناها في صفته صلي الله عليه وسلم تفسير إلا ما يظهر لي في هذا الحديث هذا كلام القاضي وهذا الذي قاله في تفسير الهراوة بهذه العصا بعيد أو باطل لأن المراد بوصفه بالهراوة تعريفه بصفة يراها الناس معه يستدلون بها على صدقه وأنه المبشر به المذكور في الكتب السالفة فلا يصح تفسيره بعصا تكون في الآخرة والصواب في تفسير صاحب الهراوة ما قاله الأئمة المحققون أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسك
[ 63 ]
القضيب بيده كثيرا وقيل لأنه كان يمشي والعصا بين يديه وتغرز له فيصلي إليها وهذا مشهور في الصحيح والله أعلم قوله صلي الله عليه وسلم (يغت فيه ميزابان يمدانه) أما يغت فبفتح الياء وبغين معجمة مضمومة ومكسورة ثم مثناة فوق مشددة وهكذا قال ثابت والخطابي والهروي وصاحب التحرير والجمهور وكذا هو في معظم نسخ بلادنا ونقله القاضي عن الأكثرين قال الهروي ومعناه يدفقان فيه الماء دفقا متتابعا شديدا قالوا وأصله من اتباع الشئ الشئ وقيل يصبان فيه دائما صبا شديدا ووقع في بعض النسخ يعب بضم العين المهملة وبباء موحدة وحكاها القاضي عن رواية العذري قال وكذا ذكره الحربي وفسره بمعنى ما سبق أي لا ينقطع جريانهما قال والعب الشرب بسرعة في نفس واحد قال القاضي ووقع في رواية ابن ماهان يثعب مثلثة وعين مهملة أي يتفجر وأما قوله صلى الله عليه وسلم يمدانه فبفتح الياء وضم الميم
[ 64 ]
أي يزيدانه ويكثرانه قوله صلى الله عليه وسلم (لأذودن عن حوضي رجالا كما تذاد الغريبة من الابل) معناه كما يذود الساقي الناقة الغريبة عن ابله إذا أرادت الشرب مع ابله قوله في حديث أنس من رواية حرملة (قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن وأن فيه من الاباريق كعدد نجوم السماء) وقع في بعض النسخ كما بالكاف وفي بعضها لما باللام وكعدد بالكاف وفي بعضها لعدد نجوم السماء باللام وكلاهما صحيح قوله صلى الله عليه وسلم (ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلى اختلجوا دوني فلأقولن رب أصيحابي أصيحابي فليقالن لي انك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أما اختلجوا فمعناه اقتطعوا وأما أصيحابي فوقع في الروايات مصغرا مكررا وفي بعض النسخ أصحابي أصحابي مكبرا مكررا قال القاضي هذا دليل لصحة تأويل من تأول انهم أهل الردة ولهذا قال فيهم سحقا سحقا ولا يقول ذلك في مذنبي الامة بل يشفع لهم ويهتم لأمرهم قال وقيل هؤلاء صنفان أحدهما عصاة مرتدون عن الاستقامة لا عن الاسلام وهؤلاء مبدلون للأعمال الصالحة بالسيئة والثاني مرتدون إلى الكفر حقيقة ناكصون على أعقابهم
[ 65 ]
واسم التبديل يشمل الصنفين قوله صلى الله عليه وسلم (مابين لابتي حوضي) أي ناحيتيه والله أعلم
[ 66 ]
باب اكرامه صلى الله عليه وسلم بقتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم قوله رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام وفي الرواية الأخرى أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره يقاتلان عنه كأشد القتال فيه بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى واكرامه اياه بانزال الملائكة تقاتل معه وبيان أن الملائكة تقاتل وأن قتالهم لم يختص بيوم بدر وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم اختصاص فهذا صريح في الرد عليه وفيه فضيلة الثياب البيض وأن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء بل يراهم الصحابة والأولياء وفيه منقبة لسعد بن أبي وقاص الذي رأى الملائكة والله أعلم
[ 67 ]
شجاعته صلى الله عليه وسلم قوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس الخ فيه بيان ما أكرمه الله تعالى به من جميل الصفات وأن هذه صفات كمال قوله (وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول لم تراعوا لم تراعوا قال وجدناه لبحرا أو أنه لبحر قال وكان فرسا يبطأ) وفي رواية فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة يقال له مندوب فركبه فقال ما رأينا من فزع وان وجدناه لبحرا وأما قوله يبطأ فمعناه يعرف بالبطء والعجز وسوء السير قوله صلى الله عليه وسلم (لم تراعوا) أي روعا مستقرا أو روعا يضركم وفيه فوائد منها بيان
[ 68 ]
شجاعته صلى الله عليه وسلم من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس وفيه بيان عظيم بركته ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان يبطأ وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم وجدناه نحرا أي واسع الجري وفيه جواز سبق الانسان وحده في كشف أخبار العدو ما لم يتحقق الهلاك وفيه جواز العارية وجواز الغزو على الفرس المستعار لذلك وفيه استحباب تقلد السيف في العنق واستحباب تبشير الناس بعدم الخوف إذا ذهب ووقع في هذا الحديث تسمية هذا الفرس مندوبا قال القاضي وقد كان في أفراس النبي صلى الله عليه وسلم مندوب فلعله صار إليه بعد أبي طلحة هذا كلام القاضي قلت ويحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم جوده صلى الله عليه وسلم قوله (كان رسول صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان ان جبريل يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ 69 ]
القرآن فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) أما قوله وكان أجود ما يكون فروى برفع أجود ونصبه والرفع أصح وأشهر والريح المرسلة بفتح السين والمراد كالريح في اسراعها وعمومها وقوله كان يلقاه في كل سنة كذا هو في جميع النسخ ونقله القاضي عن عامة الروايات والنسخ قال وفي بعضها كل ليلة بدل سنة قال وهو المحفوظ لكنه بمعنى الأول لأن قوله حتى ينسلخ بمعنى كل ليلة وفي هذا الحديث فوائد منها بيان عظم جوده صلى الله عليه وسلم ومنها استحباب اكثار الجود في رمضان ومنها زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم ومنها استحباب مدارسة القرآن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم قوله (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أفا قط ولا قال لشئ لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا) وفي رواية لاعاب على شيئا وفي رواية تسع سنين وفي رواية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا أما قوله ما قال لي أما فذكر القاضي وغيره
[ 70 ]
فيها عشر لغات أف بفتح الفاء وضمها وكسرها بلا تنوين وبالتنوين فهذه ست وأف بضم الهمزة وإسكان الفاء وإف بكسر الهمزة وفتح الفاء وأفي وأفه بضم همزتهما قالوا وأصل الأف والتف وسخ الأظفار وتستعمل هذه الكلمة في كل ما يستقذر وهي اسم فعل تستعمل في الواحد والاثنين والجمع والمؤنث والمذكر بلفظ واحد قال الله (ولا تقل لهما أف) قال الهروي يقال لكل ما يضجر منه ويستثقل أف له وقيل معناه الاحتقار مأخوذ من الأفف وهو القليل وأما قط ففيها لغات قط وقط بفتح القاف وضمها مع تشديد الطاء المضمومة وقط بفتح القاف وكسر الطاء المشددة وقط بفتح القاف واسكان الطاء وقط بفتح القاف وكسر الطاء المخففة وهي
[ 71 ]
لتوحيد نفي الماضي وأما قوله تسع سنين وفي أكثر الروايات عشر سنين فمعناه أنها تسع سنين وأشهر فان النبي صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة عشر سنين تحديدا لا تزيد ولا تنقص وخدمه أنس في أثناء السنة الأولى ففي رواية التسع لم يحسب الكسر بل اعتبر السنين الكوامل وفي رواية العشر حسبها سنة كاملة وكلاهما صحيح وفي هذا الحديث بيان كمال خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته وحلمه وصفحه في سخائه صلى الله عليه وسلم قوله (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا) وذكر الحديث بعده في اعطائه صلى الله عليه وسلم للمؤلفة وغيرهم في هذا كله بيان عظيم سخائه وغزارة جوده صلى الله عليه وسلم ومعناه ما سئل شيئا من متاع الدنيا قوله (حدثنا أبو كريب حدثنا الأشجعي قال وحدثني محمد
[ 72 ]
ابن المثنى) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا محمد بن المثتي وكذا نقله القاضي عياض عن الجلودي ووقع في رواية ابن ماهان محمد بن حاتم وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقي وخلف الواسطي قوله (فأعطاه غنما بين جبلين) أي كثيرة كأنها تملأ ما بين جبلين وفي هذا مع ما بعده اعطاء المؤلفة ولا خلاف في اعطاء مؤلفة المسلمين لكن هل يعطون من الزكاة فيه خلاف الأصح عندنا أنهم يعطون من الزكاة ومن بيت المال والثاني لا يعطون من الزكاة بل من بيت المال خاصة وأما مؤلفة الكفار فلا يعطون من الزكاة وفي اعطائهم من غيرها خلاف الأصح عندنا لا يعطون لأن الله تعالى قد أعز الاسلام عن التألف بخلاف أول الأمر ووقت قلة المسلمين قوله (فقال أنس ان كان الرجل ليسلم ما يريد الا الدنيا فما يسلم حتى يكون الاسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) هكذا هو في معظم النسخ فما يسلم وفي بعضها فما يمسي وكلاهما صحيح ومعنى الأول فما يلبث بعد اسلامه الا يسيرا حتى يكون الاسلام أحب إليه والمراد أنه يظهر الاسلام
[ 73 ]
أولا للدنيا لا بقصد صحيح بقلبه ثم من بركة النبي صلى الله عليه وسلم ونور الاسلام لم يلبث
[ 74 ]
الا قليلا حتى ينشرح صدره بحقيقة الايمان ويتمكن من قلبه فيكون حينئذ أحب إليه من الدنيا وما فيها قوله (فحثى أبو بكر رضي الله عنه مرة ثم قال لي عدها فعددتها فإذا هي خمسمائة فقال خذ مثليها) يعنى خذ معها مثليها فيكون الجميع ألفا وخمسمائة لأن له ثلاث حثيات وانما حثى له أبو بكر بيده لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيده قائمة مقام يده وكان له ثلاث حثيات بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه انجاز العدة قال الشافعي والجمهور انجازها والوفاء بها مستحب لا واجب وأوجبه الحسن وبعض المالكية باب رحمته صلي الله عليه وسلم الصبيان (والعيال وتواضعه وفضل ذلك) قوله (عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد لي الليلة غلام فسميته
[ 75 ]
باسم أبي ابراهيم ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له أبو سيف فانطلق يأتيه واتبعته إلى آخره) القين بفتح القاف الحداد وفيه جواز تسمية المولود يوم ولادته وجواز التسمية بأسماء الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وسبقت المسألتان في بابهما وفيه استتباع العالم والكبير بعض أصحابه إذا ذهب إلى منزل قوم ونحوه وفيه الأدب مع الكبار قوله (وهو يكيد بنفسه) أي يجود بها ومعناه وهو في النزع قوله (فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره) فيه جواز البكاء على المريض والحزن وأن ذلك لا يخالف الرضا بالقدر بل هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده وانما المذموم الندب والنياحة والويل والثبور ونحو ذلك من القول الباطل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ولا نقول الا ما يرضي ربنا قوله (ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وكان ابراهيم مسترضعا في عوالي المدينة إلى قوله
[ 76 ]
فيأخذه فيقلبه) أما العوالي فالقرى التي عند المدينة وقوله أرحم بالعيال هذا هو المشهور الموجود في النسخ والروايات قال القاضي وفي بعض الروايات بالعباد ففيه بيان كريم خلقه صلى الله عليه وسلم ورحمته للعيال والضعفاء وفيه جواز الاسترضاع وفيه فضيلة رحمة العيال والأطفال وتقبيلهم قوله صلى الله عليه وسلم (وإنه مات في الثدي وإن ظئرين تكملان رضاعه في الجنة) معناه مات وهو في سن رضاع الثدي أو في حال تغذيه بلبن الثدي وأما الظئر فبكسر الظاء مهموزة وهي المرضعة ولد غيرها وزوجها ظئر لذلك الرضيع فلفظة الظئر تقع على الأنثى والذكر ومعنى تكملان رضاعه أي تتمانه سنتين فانه توفي وله ستة عشر شهرا أو سبعة عشر فترضعانه بقية السنتين فانه تمام الرضاعة بنص القرآن قال صاحب التحرير وهذا الاتمام لارضاع إبراهيم رضي الله عنه يكون عقب موته فيدخل الجنة متصلا بموته فيتم فيها رضاعه كرامة له ولأبيه صلى الله عليه وسلم قال القاضي واسم أبي سيف هذا البراء واسم أم سيف زوجته خولة بنت المنذر الأنصارية كنيتها
[ 77 ]
أم سيف وأم بردة قوله صلى الله عليه وسلم (إنه من لا يرحم لا يرحم) وفي رواية من لا يرحم الناس لا يرحمه الله قال العلماء هذا عام يتناول رحمة الأطفال وغيرهم قوله (عن أبي ظبيان) بفتح الظاء وكسرها
[ 78 ]
باب كثرة حيائه ص قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه) العذراء البكر لأن عذرتها باقية وهي جلدة البكارة والخدر ستر يجعل للبكر في جنب البيت ومعنى عرفنا الكراهة في وجهه أي لا يتكلم به لحيائه بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته وفيه فضيلة الحياء وهو من شعب الإيمان وهو خير كله ولا يأتي إلا بخير وقد سبق هذا كله في كتاب الايمان وشرحناه واضحا وهو محثوث عليه ما لم ينته إلى الضعف والنخو كما سبق قوله (لم يكن فاحشا ولا متفحشا) قال القاضي أصل الفحش الزيادة والخروج عن الحد قال الطبري الفاحش البذئ قال ابن عرفة الفواحش عند العرب القبائح قال الهروي الفاحش ذو الفحش والمتفحش الذي يتكلف الفحش ويتعمده لفساد حاله قال وقد يكون المتفحش الذي يأتي الفاحشة قوله صلى الله عليه وسلم (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا) فيه الحث على حسن الخلق وبيان فضيلة صاحبه وهو صفة أنبياء الله تعالى وأوليائه قال الحسن البصري حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكف الأذى وطلاقة الوجه قال القاضي عياض هو مخالطة الناس بالجميل والبشر
[ 79 ]
والتودد لهم والاشفاق عليهم واحتمالهم والحلم عنهم والصبر عليهم في المكاره وترك الكبر والاستطالة عليهم ومجانبة الغلظ والغضب والمؤاخذة قال وحكى الطبري خلافا للسلف في حسن الخلق هل هو غريزة أم مكتسب قال القاضي والصحيح أن منه ما هو غريزة ومنه ما يكتسب بالتخلق والإقتداء بغيره والله أعلم تبسمه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته قوله (كان لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم) فيه استحباب الذكر بعد الصبح وملازمة مجلسها ما لم يكن عذر قال القاضي هذه سنة كان السلف وأهل العلم يفعلونها ويقتصرون في ذلك الوقت على الذكر والدعاء حتى تطلع الشمس وفيه جواز الحديث بأخبار الجاهلية وغيرها من الأمم وجواز الضحك والأفضل الاقتصار على التبسم كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في عامة أوقاته قالوا ويكره اكثار الضحك وهو في أهل المراتب والعلم أقبح والله أعلم
[ 80 ]
رحمته صلى الله عليه وسلم النساء والرفق بهن قوله صلى الله عليه وسلم (يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير وفي رواية ويحك يا أنجشة رويدا سوقك بالقوارير وفي رواية يا أنجشة لا تكسر القوارير يعني ضعفة النساء أما أنجشة فهمزة مفتوحة وإسكان النون وبالجيم وبشين معجمة وأما رويدك فمنصوب على الصفة بمصدر محذوف أي سق سوقا
[ 81 ]
رويدا ومعناه الأمر بالرفق بهن وسوقك منصوب باسقاط الجار أي ارفق في سوقك بالقوارير قال العلماء سمى النساء قوارير لضعف عزائمهن تشبيها بقارورة الزجاج لضعفها واسراع الانكسار إليها واختلف العلماء في المراد بتسميتهن قوارير على قولين ذكرهما القاضي وغيره أصحهما عند القاضي وآخرين وهو الذي جزم به الهروي وصاحب التحرير وآخرون أن معناه أن أنجشة كان حسن الصوت وكان يحدو بهن وينشد شيئا من القريض والرجز وما فيه تشبيب فلم يأمن أن يفتنهن ويقع في قلوبهن حداؤه فأمره بالكف عن ذلك ومن أمثالهم المشهورة الغنارقية الزنا قال القاضي هذا اشبه بمقصودة صلى الله عليه وسلم وبمقتضى اللفظ قال وهو الذي يدل عليه كلام أبي قلابة المذكور في هذا الحديث في مسلم والقول الثاني أن المراد به الرفق في السير لأن الابل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واستلذته فأزعجت الراكب وأتعبته فنهاه عن ذلك لأن النساء يضعفن عند شدة الحركة ويخاف ضررهن وسقوطهن وأما ويحك فهكذا وقع في مسلم ووقع في غيره ويلك قال القاضي قال سيبويه ويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة وويح زجر لمن أشرف على الوقوع في هلكة وقال الفراء ويل وويح وويس بمعنى وقيل ويح كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها يعني في عرفنا فيرثى له ويترحم عليه وويل ضده قال القاضي قال بعض أهل اللغة لا يراد بهذه الألفاظ حقيقة الدعاء وإنما يراد بها المدح والتعجب وفي هذه الأحاديث جواز الحداء وهو بضم الحاء ممدود وجواز السفر بالنساء واستعمال المجاز وفيه مساعدة النساء من الرجال ومن سماع كلامهم إلا الوعظ ونحوه
[ 82 ]
قربه صلى الله عليه وسلم من الناس (وتبركهم به وتواضعه لهم) قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى باناء الا غمس يده فيه فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها) وفي الرواية الأخرى (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل) وفي الآخر (ان امرأة كانت في عقلها شئ فقالت يا رسول الله ان لي اليك حاجة فقال يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها) في هذه الأحاديث بيان بروزه صلى الله عليه وسلم للناس وقربه منهم ليصل أهل الحقوق إلى حقوقهم ويرشد مسترشدهم ليشاهدوا أفعاله وحركاته فيقتدي بها وهكذا ينبغي لولاة الأمور وفيها صبره صلى الله عليه وسلم على المشقة في نفسه لمصلحة المسلمين واجابته من سأله حاجة أو تبريكا بمس يده وادخالها في الماء كما ذكروا وفيه التبرك بآثار الصالحين وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم وتبركهم بإدخال يده الكريمة في الآية وتبركهم بشعره الكريم وإكرامهم اياه إن يقع شئ منه إلا في يد رجل سبق إليه وبيان تواضعه بوقوفه مع المرأة الضعيفة قوله
[ 83 ]
(خلا معها في بعض الطرق) أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية فان هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها لكن لا يسمعون كلامها لأن مسألتها مما لا يظهره والله أعلم مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح اسهله (وانتقامه لله تعالى عند انتهاك حرماته) قولها (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فان كان إثما كان أبعد الناس منه) فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراما أو مكروها قال القاضي ويحتمل أن يكون تخييره صلى الله عليه وسلم هنا والله تعالى فيخيره فيما فيه عقوبتان أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة أو الاقتصار وكان يختار الأيسر في كل هذا قال وأما قولها ما لم يكن إثما فيتصور إذا خيره الكفار والمنافقون فأما ان كان التخيير من الله تعالى أو من المسلمين فيكون الاستثناء منقطعا قولها (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله) وفي رواية ما نيل منه شئ قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك
[ 84 ]
شئ من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى) معنى نيل منه أصيب بأذى من قول أو فعل وانتهاك حرمة الله تعالى هو ارتكاب ما حرمه قولها (إلا أن تنتهك حرمة الله) استثناء منقطع معناه لكن إذا انتهكت بحرمة الله انتصر لله تعالى وانتقم ممن ارتكب ذلك في هذا الحديث الحث على العفو والحلم واحتمال الأذى والانتصار لدين الله تعالي ممن فعل محرما أو نحوه وفيه أنه يستحب للأئمة والقضاة وسائر ولاة الأمور التخلق بهذا الخلق الكريم فلا ينتقم لنفسه ولا يهمل حق الله تعالى قال القاضي عياض وقد أجمع العلماء على أن القاضي لا يقضي لنفسه ولا لمن لا يجوز شهادته له قولها (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله) فيه أن ضرب الزوجة والخادم والدابة وان كان مباحا للأدب فتركه أفضل
[ 85 ]
طيب ريحه صلى الله عليه وسلم ولين مسه قوله (صلاة الأولى) يعنى الظهر والوالدان الصبيان واحدهم وليد وفي مسحه صلى الله عليه وسلم الصبيان بيان حسن خلقه ورحمته للأطفال وملاطفتهم وفي هذه الأحاديث بيان طيب ريحه صلى الله عليه وسلم وهو مما أكرمه الله تعالى قال العلماء كانت هذه الريح الطيبة صفته صلى الله عليه وسلم وان لم يمس طيبا ومع هذا فكان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات مبالغة في طيب ريحه لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي الكريم ومجالسة المسلمين قوله (كأنما أخرجت من جؤنة عطار) هي بضم الجيم وهمزة بعدها ويجوز ترك الهمزة بقلبها واوا كما في نظائرها وقد ذكرها كثيرون أو الأكثرون في الواو قال القاضي هي مهموزة وقد يترك همزها وقال الجوهري هي بالواو وقد تهمز وهي السقط الذي فيه متاع العطار هكذا فسره الجمهور وقال صاحب العين هي سليلة مستديرة
[ 86 ]
مغشاة وأما قوله (ما شممت) هو بكسر الميم الأولى على المشهور وحكى أبو عبيد وابن السكيت والجوهري وآخرون فتحها قوله (أزهر اللون) هو الأبيض المستنير وهي أحسن الألوان قوله (كأن عرقه اللؤلؤ) أي في الصفاء والبياض واللؤلؤ بهمز أوله وآخره وبتركهما وبهمز الأول دون الثاني وعكسه قوله (إذا مشى تكفأ) هو بالهمز وقد يترك همزه وزعم كثيرون أن أكثر ما يروى بلا همز وليس كما قالوا قال شمر أي مال يمينا وشمالا كما تكفأ السفينة قال الأزهري هذا خطأ لأن هذا صفة المختال وانما معناه أن يميل إلى سمته وقصد مشيه كما قال في الرواية الأخرى كأنما ينحط في صبب قال القاضي لابعد فيما قاله شمر إذا كان خلقة وجبلة والمذموم منه ما كان مستعملا مقصودا طيب عرقه صلى الله عليه وسلم والتبرك به قوله (فقال عندنا فعرق) أي نام للقيلولة قوله (تسلت العرق) أي تمسحه وتتبعه بالمسح قوله
[ 87 ]
(كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها) قد سبق أنها كانت محرما له صلى الله عليه وسلم ففيه الدخول على المحارم والنوم عندهن وفي بيوتهن وجواز النوم على الأدم وهي الأنطاع والجلود قوله (ففتحت عتيدتها) هي بعين مهملة مفتوحة ثم مثناة من فوق ثم من تحت وهي كالصندوق الصغير تجعل المرأة فيه ما يعز من متاعها قوله (ففزع النبي صلي الله عليه وسلم فقال ما تصنعين) معنى فزع استيقظ من نومه قولها (عرقك أدوف به طيبي) هو بالدال المهملة وبالمعجمة
[ 88 ]
والأكثرون على المهملة وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين ومعناه غلط وسبق بيان هذه اللفظة في أول كتاب الايمان قوله (كيف يأتيك الوحي فقال أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي ثم يفصم عني وقد وعيته وأحيانا ملك في مثل صورة الرجل فأعي ما يقول) أما الأحيان فالأزمان ويقع على القليل والكثير ومثل صلصلة هو بنصب مثل وأما الصلصلة فبفتح الصادين وهي الصوت المتدارك قال الخطابي معناه أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يقرع سمعه حتى يفهمه من بعد ذلك قال العلماء والحكمة في ذلك أن يتفرغ سمعه صلى الله عليه وسلم ولا يبقى فيه ولا في قلبه مكان لغير صوت الملك ومعنى وعيت جمعت وفهمت وحفظت وأما يفصم فبفتح الياء واسكان الفاء وكسر الصاد المهملة أي يقلع وينجلي ما يتغشاني منه قاله الخطابي قال العلماء الفصم هو القطع من غير ابانة وأما القصم بالقاف فقطع مع الابانة والانفصال ومعنى الحديث أن الملك يفارق على أن يعودوا لا يفارقه مفارقة قاطع لا يعود وروي هذا الحرف أيضا يفصم بضم الياء وفتح الصاد علي ما لم يسم فاعله وروى بضم الياء وكسر الصاد على أنه أفصم يفصم
[ 89 ]
رباعي وهي لغة قليلة وهي من أفصم المطر إذا أقلع وكف قال العلماء ذكر في هذا الحديث حالين من أحوال الوحي وهما مثل صلصلة الجرس وتمثل الملك رجلا ولم يذكر الرؤيا في النوم وهي من الوحي لأن مقصود السائل بيان ما يختص به النبي صلي الله عليه وسلم ويخفي فلا يعرف إلا من جهته وأما الرؤيا فمشتركة معروفة قوله (كرب لذلك وتربد وجهه) هو بضم الكاف وكسر الراء ومعنى تربد أي تغير وصار كلون الرماد وفي ظاهر هذا مخالفة لما سبق في أول كتاب الحج في حديث المحرم الذي أحرم بالعمرة وعليه خلوق وأن يعلى بن أمة نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي وهو محمر الوجه وجوابه أنها حمرة كدرة وهذا معنى التربد وأنه في أوله يتربد ثم يحمر أو بالعكس قوله (أتلى عنه) هكذا هو في معظم نسخ بلادنا أتلى بهمزة ومثناة فوق ساكنة ولام وياء ومعناه ارتفع عنه الوحي هكذا فسره صاحب التحرير وغيره ووقع في بعض النسخ أجلى بالجيم وفي رواية ابن ماهان انجلى ومعناهما أزيل عنه وزال عنه وفي رواية البخاري انجلى والله أعلم
[ 90 ]
صفة شعره صلى الله عليه وسلم وصفاته وحليته قوله (كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤسهم وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به فسدل ناصيته ثم فرق بعد) قال أهل اللغة يقال سدل يسدل ويسدل بضم الدال وكسرها قال القاضي سدل الشعر ارساله قال والمراد به هنا عند العلماء ارساله على الجبين واتخاذه كالقصة يقال سدل شعره وثوبه إذا أرسله ولم يضم جوانبه وأما الفرق فهو فرق الشعر بعضه من بعض قال العلماء والفرق سنة لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم قالوا فالظاهر أنه انما رجع إليه بوحي لقوله أنه كان يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر به قال القاضي حتى قال بعضهم نسخ المسدل فلا يجوز فعله ولا اتخاذ الناصية والجمة قال ويحتمل أن المراد جواز الفرق لا وجوبه ويحتمل أن الفرق كان باجتهاد في مخالفة أهل الكتاب لا يوحى ويكون الفرق مستحبا ولهذا اختلف السلف فيه ففرق منهم جماعة واتخذ اللمة آخرون وقد جاء في الحديث أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم لمة فإن انفرقت فرقها والا تركها قال مالك فرق الرجل أحب الي هذا كلام القاضي والحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق وأن الفرق أفضل والله أعلم قال القاضي واختلف العلماء في تأويل موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه شئ فقيل فعله استئلافا لهم في أول الاسلام وموافقة لهم على مخالفة عبدة الأوثان فلما أغنى الله تعالى عن استئلافهم وأظهر الاسلام على الدين كله صرح بمخالفتهم في غير شئ منها صبغ الشيب وقال آخرون يحتمل أنه أمر باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه شئ وانما كان هذا فيما علم أنهم لم يبدلوه واستدل بعض الأصوليين بهذا الحديث أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم
[ 91 ]
يرد شرعنا بخلافه وقال آخرون بل هذا دليل أنه ليس بشرع لنا لأنه قال يحب موافقتهم فأشار إلي أنه إلي خيرته ولو كان شرعا لنا لتحتم اتباعه والله أعلم قوله (كان رسول الله صلي الله عليه وسلم مربوعا) هو بمعنى قوله في الرواية الثانية ليس بالطويل ولا بالقصير قوله (عظيم الجمة إلى الشحمة أذنيه) وفي رواية ما رأيت من ذي لمة أحسن منه وفي رواية كان يضرب شعره منكبيه وفي رواية إلى أنصاف أذنيه وفي رواية بين أذنيه وعاتقه قال أهل اللغة الجمة أكثر من الوفرة فالجمة الشعر الذي نزل إلى المنكبين والوفرة ما نزل إلى شحمة الأذنين واللمة التي ألمت بالمنكبين قال القاضي والجمع بين هذه الروايات أن ما يلى الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو الذي بين أذنيه وعاتقه وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه قال وقيل بل ذلك لاختلاف الاوقات فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين فكان يقصر ويطول بحسب ذلك والعاتق ما بين المنكب والعنق وأما شحمة الأذن فهو اللين منها في أسفلها وهو معلق القرط منها وتوضح هذه الروايات رواية ابراهيم الحربي كان
[ 92 ]
شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة قوله في حديث البراء (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا) قال القاضي ضبطناه خلقا بفتح الخاء واسكان اللام هنا لأن مراده صفات جسمه قال وأما في حديث أنس فرويناه بالضم لأنه انما أخبر عن حسن معاشرته وأما قوله وأحسنه فقال أبو حاتم وغيره هكذا تقوله العرب وأحسنه يريدون وأحسنهم ولكن لا يتكلمون به وانما يقولون أجمل الناس وأحسنه ومنه الحديث خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أشفقه على ولد وأعطفه على زوج وحديث أبي سفيان عندي أحسن نساء العرب وأجمله قوله (كان شعرا رجلا ليس بالجعد ولا السبط) هو بفتح الراء وكسر الجيم وهو الذي بين الجعودة والسبوطة قاله الأصمعي
[ 93 ]
وغيره قوله (عن شعبة عن سماك بن حرب قال سمعت جابر بن سمرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم أشكل العين منهوس العقبين قال قلت لسماك ما ضليع الفم قال عظيم القم قلت أما أشكل العين قال طويل شق العين قلت ما منهوس العقب قال قليل لحم العقب) أما قوله في ضليع الفم فكذا قاله الأكثرون وهو الأظهر قالوا العرب تمدح بذلك وتذم صغر الفم وهو معنى قول ثعلب في ضليع الفم واسع الفم وقال شمر عظيم الأسنان وأما قوله في أشكل العين فقال القاضي هذا وهم من سماك باتفاق العلماء وغلط ظاهر وصوابه ما اتفق عليه العلماء ونقله أبو عبيد وجميع أصحاب الغريب أن الشكلة حمرة في بياض العينين وهو محمود والشهلة بالهاء حمرة في سواد العين وأما المنهوس فبالسين المهملة هكذا ضبطه الجمهور وقال صاحب التحرير وابن الأثير روى بالمهملة والمعجمة وهما متقاربان ومعناه قليل لحم العقب كما قال والله أعلم
[ 94 ]
قوله (كان أبيض مليحا مقصدا) هو بفتح الصاد المشددة وهو الذي ليس بجسيم ولا نحيف ولا طويل ولا قصير وقال شمر هو نحو الربعة والقصد بمعناه والله أعلم باب شيبه صلى الله عليه وسلم قوله (سألت أنس ابن مالك هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب فقال لم يبلغ الخضاب كان في لحيته شعرات بيض) وفي رواية لم ير من الشيب إلا قليلا وفي رواية لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه ولم يخضب وفي رواية لم يخضب رسول الله صلى الله وسلم إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ وفي رواية ما شانه الله ببيضاء وفي رواية أبي جحيفة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه منه بيضاء ووضع الراوي بعض أصابعه على عنفقته وفي رواية له رأيت رسول الله صلى عليه وسلم أبيض قد شاب وفي رواية جابر بن سمرة أنه سئل عن شيب النبي صلى الله عليه وسلم فقال كان إذا دهن رأسه لم ير منه شيئ وإذا لم يدهن رئى منه وفي رواية له كان قد شمط مقدم رأسه ولحيته وفي رواية لأنس يعد عدا توفي وليس
[ 95 ]
في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء وفي حديث أم سلمة أنها أخرجت لهم شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حمرا مخضوبة بالحناء والكتم قال القاضي اختلف العلماء هل خضب النبي صلى الله عليه وسلم أم لا فمنعه الأكثرون بحديث انس وهو مذهب مالك وقال بعض المحدثين خضب لحديث أم سلمة هذا ولحديث ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة قال وجمع بعضهم بين الاحاديث بما أشار إليه في حديث أم سلمة من كلام أنس في قوله فقال ما أدرى في هذا الذي يحدثون إلا أن يكون شئ من الطيب الذي كان يطيب به شعره لأنه صلى الله عليه وسلم كان يستعمل الطيب كثيرا وهو يزيل سواد الشعر فأشار أنس الى أن تغيير ذلك ليس بصبغ وإنما هو لضعف لون سواده بسبب الطيب قال ويحتمل أن تلك الشعرات تغيرت بعده لكثرة تطيب أم سلمة لها اكراما هذا آخر كلام القاضي والمختار أنه صلى الله عليه وسلم صبغ في وقت وتركه في معظم الاوقات فأخبر كل بما رأى وهو صادق وهذا التأويل كالمتعين فحديث ابن عمر في الصحيحين ولا يمكن تركه ولا تأويل له والله أعلم وأما اختلاف الرواية في قدر شيبه فالجمع بينها أنه رأى شيئا يسيرا فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير ومن نفاه أراد أنه لم يكثر فيه كما قال في الرواية الاخرى لم يشتد الشيب اي لم يكثر ولم يخرج شعره عن سواده وحسنه كما قال في الرواية الأخرى لم ير من الشيب الا قليلا قوله (أعد شمطاته) وفي الرواية الاخرى كان قد شمط بكسر الميم اتفق العلماء على أن المراد بالشمط هنا ابتداء الشيب يقال منه شمط وأشمط قوله (خضب أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بالحناء والكتم) أما الحناء فممدود وهو معروف وأما الكتم فبفتح
[ 96 ]
الكاف والتاء المثناة من فوق المخففة هذا هو المشهور وقال أبو عبيدة هو بتشديد التاء وحكاه عيره وهو نبات يصبغ به الشعر يكثر بياضه أو حمرته الى الدهمة قوله (اختضب عمر بالحناء) هو بالحاء المهملة معناه خالصا لم يخلط بغيره قوله (عن أنس رضي الله عنه قال يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته) هذا متفق عليه قال أصحابنا وأصحاب مالك يكره ولا يحرم قوله (وفي الرأس نبذ) ضبطوه بوجهين احدهما ضم النون وفتح الباء والثاني بفتح النون وإسكان الباء وبه جزم القاضي ومعناه شعرات متفرقة قوله (سمع أبا إياس) هو معاوية بن قرة قوله (أبري النبل رأريشها) أما أبرى فبفتح الهمزة وأما أريشها
[ 97 ]
فبفتح الهمزة ايضا وكسر الراء وإسكان الياء أي أجعل للنبل ريشا إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله من جسده صلى الله عليه وسلم قوله (ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده) وفي رواية بين كتفيه مثل زر الحجلة
[ 98 ]
وفي رواية فنظرت الى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل اما بيضة الحمامة فهو بيضتها المعروفة واما زر الحجلة فبزاي ثم ياء والحجلة بفتح الحاء والجيم هذا هو الصحيح المشهور والمراد بالحجلة واحدة الحجال وهى بيت كالقبة لها أزرار كباز وعرى هذا هو الصواب المشهور الذي قاله الجمهور وقال بعضهم المراد بالحجلة الطائر المعروف وزرها بيضتها واشار إليه الترمذي وانكره عليه العلماء وقال الخطابي روى ايضا بتقديم الراء على الزاي ويكون المراد البيض يقال أرزت الجرادة بفتح الراء وتشديد الزاي إذا كبست ذنبها في الارض فباضت وجاء في صحيح البخاري كانت بضعة ناشزة أي مرتفعة على جسده واما ناغض كتفه فبالنون والغين والضاد المعجمتين والغين مكسورة وقال الجمهور النغض والنغض والناغض أعلى الكتف وقيل هو العظم الرقيق الذي على طرفه وقيل ما يظهر منه عند التحرك واما قوله جمعا فبضم الجيم وإسكان الميم ومعناه انه كجمع الكف وهو صورته بعد ان
[ 99 ]
تجمع الاصابع وتضمها واما الخيلان فبكسر الخاء المعجمة وإسكان الياء جمع خال وهو الشامة في الجسد والله أعلم قال القاضي وهذه الروايات متقاربة متفقة على انها شاخص في جسده قدر بيضة الحمامة وهو نحو بيضة الحجلة وزر الحجلة وأما رواية جمع الكف وناشز فظاهرها المخالفة فتؤول على وفق الروايات الكثيرة ويكون معناه على هيئة جمع الكف لكنه اصغر منه في قدر بيضة الحمامة قال القاضي وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين الكتفين وهذا الذي قاله ضعيف بل باطل لأن شق الملكين إنما كان في صدره وبطنه والله اعلم قدر عمره صلى الله عليه وسلم وإقامته بمكة والمدينة ذكر في الباب ثلاث روايات إحداها انه صلى الله عليه وسلم توفى وهو ابن ستين سنة والثانية خمس وستون والثالثة ثلاث وستون وهو اصحها واشهرها رواه مسلم هنا من رواية عائشة وأنس وابن عباس رضي الله عنهم واتفق العلماء على ان أصحها ثلاث وستون وتأولوا الباقي عليه فرواية ستين اقتصر فيها على العقود وترك الكسر ورواية الخمس متأولة ايضا وحصل فيها اشتباه وقد أنكر عروة على ابن عباس قوله (خمس وستون) ونسبه الى الغلط وانه لم يدرك أول النبوة ولا كثرت صحبته بخلاف الباقين واتفقوا انه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين وبمكة قبل النبوة اربعين سنة وإنما الخلاف في قدر إقامته بمكة بعد النبوة وقبل الهجرة والصحيح انها ثلاث عشرة فيكون عمره ثلاثا وستين وهذا الذي ذكرناه انه بعث على رأس اربعين سنة هو الصواب المشهور الذي أطبق عليه العلماء وحكى القاضي عياض عن ابن عباس وسعيد بن المسيب رواية شاذة انه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس ثلاث واربعين سنة
[ 100 ]
والصواب اربعون كما سبق وولد عام الفيل على الصحيح المشهور وقيل بعد الفيل بثلاث سنين وقيل باربع سنين وادعى القاضي عياض الاجماع على عام الفيل وليس كما ادعى واتفقوا انه ولد يوم الاثنين في شهر ربيع الاول وتوفي يوم الاثنين من شهر ربيع الاول واختلفوا في يوم الولادة هل هو ثاني الشهر أم ثامنه ام عاشره ام ثاني عشره ويوم الوفاة ثاني عشره ضحى والله اعلم قوله (ليس بالطويل البائن ولا بالقصير) المراد بالبائن زائد الطول أي هو بين زائد الطول والقصير وهو بمعنى ما سبق انه كان مقصدا قوله (ولا الابيض الأمهق ولا بالآدم) الأمهق بالميم هو شديد البياض كلون الجص وهو كريه المنظر وربما توهمه الناظر أبرص والآدم الاسمر معناه ليس باسمر ولا بابيض كريه البياض بل أبيض بياضا نيرا كما قال في الحديث السابق انه صلى الله عليه وسلم كان أزهر اللون وكذا قال في الرواية التي بعده كان أزهر قوله (قلت لعروة كم لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال عشرا قلت فان ابن عباس يقول بضع عشرة قال فغفره وقال انما أخذ من قول الشاعر) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا فغفره بالغين والفاء وكذا نقله القاضي عن رواية الجلودي ومعناه دعا له بالمغفرة فقال غفر الله له وهذه اللفظة يقولونها غالبا لمن غلط في شئ فكأنه قال اخطأ غفر الله له قال القاضي وفي رواية ابن ماهان فصغره بصاد ثم غين أي استصغره عن معرفته هذا وادراكه ذلك وضبطه وانما أسند فيه الى قول الشاعر
[ 101 ]
وليس معه علم بذلك ويرجح القاضي هذا القول قال والشاعر هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس حيث يقول ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى خليلا مواتيا
[ 102 ]
وقد وقع هذا البيت في بعض نسخ صحيح مسلم وليس هو في عامتها قلت وأبو قيس هذا هو صرمة بن أبي أنس بن أبي انس بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري هكذا نسبه ابن اسحاق قال كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الاوثان واغتسل من الجنابة واتخذ بيتا له مسجدا لا يدخل عليه حائض ولا جنب وقال أعبد رب إبراهيم فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم فحسن إسلامه وهو شيخ كبير وكان قوالا بالحق وكان معظما لله تعالى في الجاهلية يقول الشاعر
[ 103 ]
في تعظيمه سبحانه وتعالى قوله (سمع معاوية يخطب فقال مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين وأبو بكر وعمر وأنا ابن ثلاث وستين هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح وتقديره وأبو بكر وعمر كذلك ثم استأنف فقال وأنا ابن ثلاث وستين أي وأنا متوقع موافقتهم
[ 104 ]
واني اموت في سنتي هذه قوله (يسمع الصوت ويرى الضوء) قال القاضي أي صوت الهاتف به من الملائكة ويرى الضوء اي نور الملائكة ونور آيات الله تعالى حتى رأى الملك بعينه وشافهه وحى الله تعالى في أسمائه صلى الله عليه وسلم ذكر هنا هذه الاسماء وله صلى الله عليه وسلم أسماء أخر ذكر أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي عن بعضهم ان لله تعالى ألف اسم وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم ايضا ثم ذكر منها على التفصيل بضعا وستين قال أهل اللغة يقال رجل محمد ومحمود إذا كثرت خصاله المحمودة وقال ابن فارس وغيره وبه سمي نبينا صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمد اي ألهم الله تعالى اهله ان سموه به لما علم من جميل صفاته قوله صلى الله عليه وسلم (وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر) قال العلماء المراد محو الكفر من مكة والمدينة وسائر بلاد العرب وما زوى له صلى الله عليه وسلم من الارض ووعد ان يبلغه ملك امته قالوا ويحتمل ان المراد المحو العام بمعنى الظهور بالحجة والغلبة كما قال
[ 105 ]
تعالى ليظهره على الدين كله وجاء في حديث آخر تفسير الماحي بأنه الذي محيت به سيئات من اتبعه فقد يكون المراد بمحو الكفر هذا ويكون كقوله تعالى قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف والحديث الصحيح الاسلام يهدم ما كان قبله قوله صلى الله عليه وسلم (وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي) وفي الرواية الثانية علي قدمي فأما الثانية فاتفقت النسخ علي انها على قدمي لكن ضبطوه بتخفيف الياء على الافراد وتشديدها على التثنية واما الرواية الاولى فهي في معظم النسخ وفي بعضها قدمي كالثانية قال العلماء معناهما يحشرون علي أثري وزمان نبوتي ورسالتي وليس بعدي نبي وقيل يتبعوني قوله (والمقفي ونبي التوبة ونبي الرحمة)
[ 106 ]
أما العاقب ففسره في الحديث بانه ليس بعده نبي اي جاء عقبهم قال ابن الاعرابي العاقب والعقوب الذي يخلف في الخير من كان قبله ومنه عقب الرجل لولده واما المقفي فقال شمر هو بمعني العاقب وقال ابن الاعرابي هو المتبع للانبياء يقال قفوته أقفوه وقفيته أقفيه إذا اتبعته وقافية كل شئ آخره واما نبي التوبة ونبي الرحمة ونبي المرحمة فمعناها متقارب ومقصودها انه صلى الله عليه وسلم جاء بالتوبة وبالتراحم قال الله تعالى رحماء بينهم وتواصوا بالصبر وتواصوا بالرحمة والله أعلم وفي حديث آخر نبي الملاحم لأنه صلى الله عليه وسلم بعث بالقتال قال العلماء وإنما اقتصر على هذه الاسماء مع ان له صلى الله عليه وسلم اسماء غيرها كما سبق لأنها موجودة في الكتب المتقدمة وموجودة للأمم السالفة باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله تعالى وشدة خشيته قوله (فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه فوالله
[ 107 ]
لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية) فيه الحث على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم والنهي عن التعمق في العبادة وذم التنزه عن المباح شكا في اباحتته وفيه الغضب عند انتهاك حرمات الشرع وان كان المنتهك متأولا تأويلا باطلا وفيه حسن المعاشرة بإرسال التعزيز والانكار في الجمع ولا يعين فاعله فيقال ما بال اقوام ونحوه وفيه ان القرب الى الله تعالى سبب لزيادة العلم به وشدة خشيته واما قوله صلى الله عليه وسلم فوالله لانا أعلمهم بالله واشدهم له خشية فمعناه انهم يتوهمون ان سننهم عما فعلت اقرب لهم عند الله وان فعل خلاف ذلك وليس كما توهموا بل انا اعلمهم بالله واشدهم له خشية وانما يكون القرب إليه سبحانه وتعالى والخشية له على حسب ما أمر لا بمخيلات النفوس وتكلف اعمال لم يأمر بها والله أعلم باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم قوله (شراج الحرة) بكسر الشين المعجمة وبالجيم هي مسايل الماء واحدها شرجة والحرة هي الارض الملسة فيها حجارة سود قوله (سرح الماء) اي ارسله قوله صلى الله عليه وسلم (اسق يا زبير ثم ارسل الماء الى جارك فغضب الانصاري فقال يا رسول الله ان كان ابن
[ 108 ]
عمتك فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم قال يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع الى الجدر) اما قوله ان كان ابن عمتك فهو بفتح الهمزة اي فعلت هذا لكونه ابن عمتك وقوله تلون وجهه اي تغير من الغضب لانتهاك حرمات النبوة وقبح كلا هذا الانسان واما الجدر فبفتح الجيم وكسرها وبالدال المهملة وهو الجدار وجمع الجدار جدر ككتاب وكتب وجمع الجدر جدور كفلس وفلوس ومعنى يرجع الى الجدر اي يصير إليه والمراد بالجدر أصل الحائط وقيل اصول الشجر والصحيح الاول وقدره العلماء ان يرتفع الماء في الارض كلها حتى يبتل كعب رجل الانسان فلصاحب الارض الاولى التي تلي الماء ان يحبس الماء في الارض الى هذا الحد ثم يرسله الى جاره الذي وراءه وكان الزبير صاحب الارض الاولى فأدل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اسق ثم ارسل الماء الى جارك اي اسق شيئا يسيرا دون قدر حقك ثم ارسله الى جارك ادلالا على الزبير ولعلمه بأنه يرضى بذلك ويؤثر الاحسان الى جاره فلما قال الجار ما قال أمره ان يأخذ جميع حقه وقد سبق شرح هذا الحديث واضحا في بابه قال العلماء ولو صدر مثل هذا الكلام الذي تكلم به الانصاري اليوم من انسان من نسبته صلى الله عليه وسلم الى هوى كان كفرا وجرت على قائله احكام المرتدين فيجب قتله بشرطه قالوا وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لانه كان في اول الاسلام يتألف الناس ويدفع بالتي هي أحسن ويصبر على أذى المنافقين ومن في قلبه مرض ويقول يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ويقول لا يتحدث الناس ان محمدا يقتل اصحابه وقد قال الله تعالى تزال تطلع على خائنة منهم الا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين قال القاضي وحكى الداودي ان هذا الرجل الذي خاصم الزبير كان منافقا وقوله في الحديث انه أنصاري لا يخالف هذا لانه كان من قبيلتهم لا من الانصار المسلمين وأما قوله في آخر الحديث فقال الزبير والله اني لاحسب هذه الآية نزلت فيه وربك لا يؤمنون
[ 109 ]
الآية فهكذا قال طائفة في سبب نزولها وقيل نزلت في رجلين تحاكما الى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على احدهما فقال ارفعني الى عمر بن الخطاب وقيل في يهودي ومنافق اختصما الى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرض المنافق بحكمه وطلب الحكم عند الكاهن قال ابن جرير يجوز انها نزلت في الجميع والله اعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم) هذا الحديث سبق شرحه واضحا في كتاب الحج وهو من قواعد الاسلام
[ 110 ]
باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع ونحو ذلك مقصود احاديث الباب انه صلى الله عليه وسلم نهاهمم عن اكثار السؤال والابتداء بالسؤال عما لا يقع وكره ذلك لمعان منها انه ربما كان سببا لتحريم شئ على المسلمين فيلحقهم به المشقة وقد بين هذا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الاول اعظم المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من اجل مسألته ومنها انه ربما كان في الجواب ما يكرهه السائل ويسوؤه ولهذا أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم كما صرح به في الحديث في سبب نزولها ومنها أنهم ربما أحفوه صلى الله عليه وسلم بالمسألة والحفوة المشقة والاذى فيكون ذلك سببا لهلاكهم وقد صرح بهذا في حديث أنس المذكور في الكتاب في قوله سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة الى آخره وقد قال الله تعالى الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا قوله صلى الله عليه وسلم (ان أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته) وفي رواية من سأل عن شئ ونقر عنه اي بالغ في البحث عنه والاستقصاء قال القاضي عياض المراد بالجرم هنا الحرج على المسلمين لا انه الجرم الذي هو الاثم المعاقب عليه لان السؤال كان مباحا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم سلوني
[ 111 ]
هذا كلام القاضي وهذا الذي قاله القاضي ضعيف بل باطل والصواب الذي قاله الخطابي وصاحب التحرير وجماهير العلماء في شرح هذا الحديث ان المراد بالجرم هنا الاثم والذنب قالوا ويقال منه جرم بالفتح واجترم تجرم إذا اثم قال الخطابي وغيره هذا الحديث فيمن سأل تكلفا أو تعنتا فيما لا حاجة به إليه فأما من سأل لضرورة بأن وقعت له مسألة فسال عنها فلا اثم عليه ولا عتب لقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر قال صاحب التحرير وغيره فيه دليل على ان من عمل ما فيه اضرار بغيره كان آثما قوله صلى الله عليه وسلم (عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) فيه
[ 112 ]
ان الجنة والنار مخلوقتان وقد سبق شرح عرضهما ومعنى الحديث لم أر خيرا اكثر مما رأيته اليوم في الجنة ولا شرا اكثر مما رأيته اليوم في النار ولو رأيتم ما رأيت وعلمتم ما علمت مما رايته اليوم وقبل اليوم لاشفقتم اشفاقا بليغا ولقل ضحككم وكثر بكاؤكم وفيه دليل على انه لا كراهة في استعمال لفظة لو في مثل هذا والله اعلم ، قوله (غطوا رؤسهم ولهم خنين) هو بالخاء المعجمة هكذا هو في معظم النسخ ولمعظم الرواة ولبعضهم بالحاء المهملة وممن ذكر الوجهين القاضي وصاحب التحرير وآخرون قالوا ومعناه بالمعجمة صوت البكاء وهو نوع من البكاء دون الانتحاب قالوا وأصل الخنين خروج الصوت من الانف كالخنين بالمهملة من الفم وقال الخليل هو
[ 113 ]
صوت فيه غنة وقال الاصمعي إذا تردد بكاؤه فصار في كونه غنة فهو خنين وقال أبو زيد الخنين مثل الحنين وهو شديد البكاء قوله (فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يقول سلوني برك عمر فقال رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك) قال العلماء هذا القول منه صلى الله عليه وسلم محمول على انه أوحى إليه والا فلا يعلم كل ما سئل عنه من المغيبات الا بإعلام الله تعالى قال القاضي وظاهر الحديث ان قوله صلى الله عليه وسلم سلوني انما كان غضبا كما قال في الرواية الاخرى سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اشياء كرهها فلما اكثر عليه غضب ثم قال للناس سلوني وكان اختياره صلى الله عليه وسلم ترك تلك المسائل لكن وافقهم في جوابها لانه لا يمكن رد السؤال ولما رآه من حرصهم عليها والله اعلم واما بروك عمر رضي الله عنه وقوله فانما فعله أدبا واكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقة على المسلمين لئلا يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهلكوا ومعنى كلامه رضينا بما عندنا من كتاب الله تعالى وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم واكتفينا به عن السؤال ففيه أبلغ كفاية قولهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى والذي نفسي محمد بيده لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط اما لفظة أولى فهي تهديد ووعيد وقيل كلمة تلهف فعلى هذا يستعملها من نجا من أمر عظيم والصحيح المشهور أنها للتهديد ومعناها قرب منكم ما تكرهونه ومنه قوله
[ 114 ]
تعالى فإن لك فاولى أي قاربك ما تكره فاحذره مأخوذ من الولي وهو القرب واما آنفا فمعناه قريبا الساعة والمشهور فيه المد ويقال بالقصر وقرئ بهما في السبع الاكثرون بالمد وعرض الحائط بضم العين جانبه قوله (أن أم عبد الله بن حذاقة قالت له أأمنت ان تكون أمك قد قارفت بعض ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابنها والله لو الحقني بعبد أسود للحقته) اما قولها قارفت فمعناه عملت سوءا والمراد الزنا والجاهلية هم من قبل النبوة سموا به لكثرة جهالاتهم وكان سبب سؤاله ان بعض الناس كان يطعن في نسبه على عادة الجاهلية من الطعن في الانساب وقد بين هذا في الحديث الآخر بقوله كان يلاحي فيدعي لغير أبيه والملاحاة المخاصمة والسباب وقولها فتفضحها معناه لو كنت من زنا فنفاك عن ابيك حذافة فضحتني واما قوله لو ألحقني بعبد للحقته فقد يقال هذا لا يتصور لان الزنا لا يثبت به النسب ويجاب عنه بأنه يحتمل وجهين احدهما أن ابن حذافة ما كان بلغه هذا الحكم وكان يظن ان ولد الزنا يلحق الزاني وقد خفى هذا على اكبر منه وهو سعد بن أبي وقاص حين خاصم في ابن وليدة زمعة فظن انه يلحق أخاه بالزنا والثاني انه يتصور الالحاق بعد وطئها بشبهة فيثبت النسب منه والله أعلم قوله (حدثنا يوسف بن حماد المعني)
[ 115 ]
هو بكسر النون وتشديد الياء قال السمعاني منسوب الى معن بن زائدة وهذا الاسناد كله بصريون قوله (أحفوه بالمسألة) اي اكثروا في الالحاح والمبالغة فيه يقال أحفى والحف وألح بمعنى قوله (فلما سمع ذلك القوم أرموا) هو بفتح الراء وتشديد الميم المضمومة أي سكتوا واصله من المرمة وهي الشفة اي ضموا شفاهمهم بعضها على بعض فلم يتكلموا ومنه رمت الشاه الحشيش ضمته بشفتيها قوله (أنشأ رجل ثم أنشأ عمر) قال أهل اللغة معناه ابتدأ ومنه أنشأ الله الخلق اي ابتدأهم
[ 116 ]
وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي فيه حديث ابار النخل وانه صلى الله عليه وسلم قال (ما اظن يعني ذلك شيئا فخرج شيصا فقال ان كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فاني انما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به) وفي رواية إذا امرتكم بشئ من دينكم فخذوا به وإذا امرتكم بشئ من رأى فانما انا بشر وفي رواية أنتم أعلم بامر دنياكم قال العلماء قوله صلى الله عليه وسلم من رأيي اي في امر الدنيا ومعايشها لا على التشريع فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعا يجب العمل به وليس آبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله مع ان لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى لقوله في آخر الحديث قال عكرمة أو نحو هذا فلم يخبر بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم محققا قال العلماء ولم يكن هذا القول خبرا وانما كان ظنا كما بينه في هذه الروايات قالوا ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك وسببه تعلق همهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم قوله يلقحونه) هو
[ 117 ]
بمعنى يأبرون في الرواية الأخرى ومعناه ادخال شئ طلع الذكر في طلع الأنثى فتعلق باذن الله ويأبرون بكسر الباء وضمها يقال منه أبر يأبر ويأبر كبذر يبذر ويبذر ويقال أبر يؤبر بالتشديد تأبيرا قوله (حدثني أحمد بن جعفر المعقري) هو بفتح الميم واسكان العين المهملة وكسر القاف منسوب الى معقر وهى ناحية من اليمن قوله فنفضت أو فنقصت هو بفتح الحروف كلها والأول بالفاء والضاد المعجمة والثاني بالقاف والمهملة واما قوله في آخر الحديث قال المعقري فنفضت
[ 118 ]
بالفاء والمعجمة ومعناه أسقطت ثمرها قال اهل اللغة ويقال لذلك المتساقط النفض بفتح النون والفاء بمعنى المنفوض كالخبط بمعنى المخبوط وانفض القوم فنى زادهم قوله (فخرج شيصا) هو بكسر الشين المعجمة واسكان الياء المثناة تحت وبصاد مهملة وهو البسر الردئ الذي إذا يبس صار حشفا وقيل أردأ البسر وقيل تمر ردئ وهو متقارب باب فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم وتمنيه قوله صلى الله عليه وسلم (والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني ثم لان يراني أحب إليه من اهله وماله معهم قال أبو اسحاق المعنى فيه عندي لان يراني معهم احب إليه من اهله وماله وهو عندي مقدم ومؤخر) هذا الذي قاله أبو اسحق هو الذي قاله القاضي عياض واقتصر عليه قال تقديره لان يراني معهم احب إليه من أهله وماله ثم لا يراني وكذا جاء في مسند سعيد بن منصور ليأتين على احدكم يوم لان يراني احب إليه من ان يكون له مثل اهله وماله ثم لا يراني اي رؤيته اياي افضل عنده واحظى من اهله وماله هذا كلام القاضي والظاهر ان قوله في تقديم لان يراني وتأخير من اهله لا يراني كما قال وأما لفظة معهم فعلى ظاهرها وفي موضعها وتقدير الكلام يأتي على أحدكم يوم لأن يراني فيه لحظة ثم لا يراني بعدها احب إليه من اهله وماله جميعا ومقصود الحديث حثهم على ملازمة مجلسه الكريم ومشاهدته حضرا وسفرا
[ 119 ]
للتأدب بآداب وتعلم الشرائع وحفظها ليبلغوها واعلامهم انهم سيندمون على ما فرطوا فيه من الزيادة من مشاهدته وملازمته ومنه قول عمر رضي الله عنه ألهاني عنه الصفق بالاسواق والله اعلم باب فضائل عيسى عليه السلام قوله صلى الله عليه وسلم (أنا أولى الناس بابن مريم الانبياء اولاد علات وليس بيني وبينه نبي) وفي رواية انا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الاولى والاخرة قالوا كيف يا رسول الله قال الانبياء اخوة من علات وامهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبي قال العلماء أولاد العلات بفتح العين المهملة وتشديد اللام هم الاخوة لاب من امهات شتى واما الاخوة من الابوين فيقال لهم اولاد الاعيان قال
[ 120 ]
جمهور العلماء معنى الحديث اصل ايمانهم واحد وشرائعهم مختلفة فانهم متفقون في اصول التوحيد واما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف واما قوله صلى الله عليه وسلم ودينهم واحد فالمراد به اصول التوحيد واصل طاعة الله تعالى وان اختلفت صفتها واصول التوحيد والطاعة جميعا واما قوله صلى الله عليه وسلم (وانا اولى الناس بعيسى فمعناه اخص به لما ذكره قوله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد الا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان الا ابن مريم وامه) هذه فضيلة ظاهرة وظاهر الحديث اختصاصها بعيسى وامه واختار القاضي عياض ان جميع الانبياء يتشاركون فيها قوله صلى الله عليه وسلم (صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان) أي حين يسقط من بطن امه ومعنى
[ 121 ]
نزغة نخسة وطعنة ومنه قولهم نزغة بكلمة سوء اي رماه بها قوله صلى الله عليه سلم (راى عيسى رجلا يسرق فقال له عيسى سرقت قال كلا والذي لا اله الا هو فقال عيسى آمنت بالله وكذبت نفسي) قال القاضي ظاهر الكلام صدقت من حلف بالله تعالى وكذبت ما ظهر لي من ظاهر سرقته فلعله اخذ ماله فيه حق أو باذن صاحبه أو لم يقصد الغصب والاستيلاء أو ظهر له من مد يده انه اخذ شيئا فلما حلف له أسقط ظنه ورجع عنه باب من فضائل ابراهيم الخليل صلي الله عليه وسلم قوله (جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا خير البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك ابراهيم عليه الصلاة والسلام) قال العلماء انما قال صلى الله عليه وسلم هذا تواضعا واحتراما لابراهيم صلى الله عليه وسلم لخلته وأبوته وإلا فنبينا صلى الله عليه وسلم افضل كما قال صلى الله عليه وسلم انا سيد ولد آدم ولم يقصد به الافتخار ولا التطاول على من تقدمه بل قاله بيانا لما أمر ببيانه وتبليغه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ولا فخر لينفى ما قد يتطرق الى بعض
[ 122 ]
الافهام السخيفة وقيل يحتمل انه صلى الله عليه وسلم قال ابراهيم خير البرية قبل ان يعلم انه سيد ولد آدم فان قيل التأويل المذكور ضعيف لان هذا خبر فلا يدخله خلف ولا نسخ فالجواب انه لا يمتنع انه اراد افضل البرية الموجودين في عصره واطلق العبارة الموهمة للعموم لانه أبلغ في التواضع وقد جزم صاحب التحرير بمعنى هذا فقال المراد افضل برية عصره وأجاب القاضي عن التأويل الثاني بانه وان كان خبرا فهو مما يدخله النسخ من الاخبار لان الفضائل يمنحها الله تعالى لمن يشاء فأخبر بفضيلة ابراهيم الى ان علم تفضيل نفسه فاخبر به ويتضمن هذا جواز التفاضل بين الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم ويجاب عن حديث النهي عنه بالاجوبة السابقة في أول كتاب الفضائل قوله صلى الله عليه وسلم (اختتن ابراهيم النبي وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) رواه مسلم متفقون على تخفيف القدوم ووقع في روايات البخاري الخلاف في تشديده وتخفيفه قالوا وآله النجار يقال لها قدوم بالتخفيف لا غير واما القدوم مكان بالشام ففيه التخفيف فمن رواه بالتشديد اراد القرية ومن رواه بالتخفيف يحتمل القرية والآلة والاكثرون على التخفيف وعلى ارادة الآلة وهذا الذي وقع هنا وهو ابن ثمانين سنة هو الصحيح ووقع في الموطأ وهو ابن مائة وعشرين سنة موقوفا على أبي هريرة وهو متأول أو مردود وسبق بيان حكم الختان في
[ 123 ]
أوائل كتاب الطهارة في خصال الفطرة قوله صلى الله عليه وسلم (نحن أحق بالشك من ابراهيم الى آخره) هذا الحديث سبق شرحه واضحا في كتاب الايمان قوله صلى الله عليه وسلم (لم يكذب ابراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله تعالى قوله اني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة وهي قوله ان سألك فاخبريه انك أختي فانك
[ 124 ]
أختي في الاسلام قال المازري اما الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى فالانبياء معصومون منه سواء كثيره وقليله واما مالا يتعلق بالبلاغ ويعد من الصفات كالكذبة الواحدة في حقير من امور الدنيا ففي امكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف قال القاضي عياض الصحيح ان الكذب فيما يتعلق بالبلاغ لا يتصور وقوعه منهم سواء جوزنا الصغائر منهم وعصمتهم منه ام لا وسواء قل الكذب ام كثر لان منصب النبوة يرتفع عنه وتجويزه يرفع الوثوق باقوالهم واما قوله صلى الله عليه وسلم ثنتين في ذات الله تعالى وواحدة في شأن سارة فمعناه ان الكذبات المذكورة انما هي بالنسبة الى فهم المخاطب والسامع واما في نفس الامر فليست كذبا مذموما لوجهين احدهما انه ورى بها فقال في سارة أختي في الاسلام وهو صحيح في باطن الامر وسنذكر ان شاء الله تعالى تأويل اللفظين الآخرين والوجه الثاني انه لو كان كذبا لاتورية فيه لكان جائزا في دفع الظالمين وقد اتفق الفقهاء على انه لو جاء ظالم يطلب انسانا مختفيا ليقتله أو يطلب وديعة لانسان ليأخذها غصبا وسأل عن ذلك وجب على من علم ذلك اخفاؤه وانكار العلم به وهذا كذب جائز بل واجب لكونه في دفع الظالم فنبه النبي صلى الله عليه وسلم على ان هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم قال المازري وقد تأول بعضهم هذه الكلمات واخرجها عن كونها كذبا قال ولا معنى للامتناع من اطلاق لفظ أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت اما اطلاق لفظ الكذب عليها فلا يمتنع لورود الحديث به واما تأويلها فصحيح لا مانع منه قال العلماء والواحدة التي في شأن سارة هي ايضا في ذات الله تعالى لانها سبب
[ 125 ]
دفع كافر ظالم عن مواقعة فاحشة عظيمة وقد جاء ذلك مفسرا في غير مسلم فقال ما فيها كذبة إلا بما حل بها عن الاسلام اي يجادل ويدافع قالوا وانما خص الثنتين بانهما في ذات الله تعالى لكون الثالثة تضمنت نفعا له وحظا مع كونها في ذات الله تعالى وذكروا في قوله إني سقيم اي ساسقم لان الانسان عرضة للاسقام واراد بذلك الاعتذار عن الخروج معهم الى عيدهم وشهود باطلهم وكفرهم وقيل سقيم بما قدر على من الموت وقيل كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت واما قوله بل فعله كبيرهم فقال ابن قتيبة وطائفة جعل النطق شرطا لفعل كبيرهم اي فعله كبيرهم ان كانوا ينطقون وقال الكسائي يوقف عند قوله بل فعله اي فعله فاعله فأضمر ثم يبتدئ فيقول كبيرهم هذا فاسألوهم عن ذلك الفاعل وذهب الاكثرون الى انها على ظاهرها وجوابها ما سبق والله اعلم قوله (فلك الله) اي شاهدا وضامنا ان لا أضرك قوله (مهيم) بفتح الميم والياء واسكان الهاء بينهما اي ما شأنك وما خبرك ووقع في البخاري لاكثر الرواة مهيما بالالف والاول افصح واشهر قولها (وأخدم خادما) اي وهبني خادما وهي هاجر ويقال آجر بمد الالف والخادم يقع على الذكر والانثى قوله (قال أبو هريرة فتلك أمكم يا بني ماء السماء) قال كثيرون المراد ببني ماء السماء العرب كلهم لخلوص نسبهم وصفائه وقيل لان اكثرهم اصحاب مواش وعيشهم من المرعى والخصب وما ينبت بماء السماء وقال القاضي الأظهر عندي ان المراد بذلك الانصار خاصة ونسبتهم الى جدهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأدد وكان يعرف بماء السماء وهو المشهور بذلك والانصار كلهم من ولد حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن
[ 126 ]
عامر والله اعلم وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة لابراهيم صلى الله عليه وسلم باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم قوله (انه آدر) بهمزة ممدودة ثم دال مهملة مفتوحة ثم راء وهو عظيم الخصيتين وجمع الحجر اي ذهب مسرعا إسراعا بليغا وطفق ضربا اي جعل يضرب يقال طفق يفعل كذا وطفق بكسر الفاء وفتحها وجعل واخذ واقبل بمعنى واحد واما الندب فهو بفتح النون والدال واصله أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد وقوله (ثوبي حجر) اي دع ثوبي يا حجر قوله (فما توارت يدك من شعرة فانك تعيش بها سنة) هكذا هو في جميع النسخ توارت ومعناه وارت وسترت
[ 127 ]
قوله (فاغتسل عند مويه) وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا ومعظم غيرها مويه بضم الميم وفتح الواو وإسكان الياء وهو تصغير ماء واصله موه والتصغير يرد الاشياء الى اصولها وقال القاضي وقع في بعض الروايات مويه كما ذكرناه وفي معظمها مشربة بفتح الميم واسكان الشين وهي حفرة في اصل النخلة يجمع الماء فيها لسقيها قال القاضي واظن الاول تصحيفا كما سبق والله اعلم وفي هذا الحديث فوائد منها ان فيه معجزتين ظاهرتين لموسى صلى الله عليه وسلم احداهما مشى الحجر بثوبه الى ملأ بني اسرائيل والثانية حصول الندب في الحجر ومنها وجود التمييز في الجماد كالحجر ونحوه ومثله تسليم الحجر بمكة وحنين الجذع ونظائره وسبق قريبا بيان هذه المسألة مبسوطة ومنها جواز الغسل عريانا في الخلوة وان كان ستر العورة افضل وبهذا قال الشافعي ومالك وجماهير العلماء وخالفهم ابن ابي ليلى وقال ان للماء ساكنا واحتج في ذلك بحديث ضعيف ومنها ما ابتلى به الانبياء والصالحون من اذى السفهاء والجهال وصبرهم عليهم ومنها ما قاله القاضي وغيره ان الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم وسلامه منزهون عن النقائص في الخلق والخلق سالمون من العاهات والمعايب قالوا ولا التفات الى ما قاله من لا تحقيق له من اهل التاريخ في إضافة بعض العاهات الى بعضهم بل نزههم الله تعالى من كل عيب وكل شئ يبغض العيون أو ينفر القلوب قوله (عن ابي هريرة قال أرسل ملك الموت الى موسى فلما جاءه صكه ففقا عينه فرجع الى ربه فقال أرسلتني الى عبد لا يريد الموت قال فرد الله إليه عينه وقال ارجع إليه
[ 128 ]
فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال اي رب ثم مه قال ثم الموت قال فالآن فسأل الله تعالى ان يدنيه من الارض المقدسة رميه بحجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو كنت ثم لاريتكم قبره الى جانب الطريق تحت الكثيب الاحمر) وفي الرواية الاخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ملك الموت إلى موسى فقال أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها وذكر نحو ما سبق اما قوله صكه فهو بمعنى لطمه في الرواية الثانية وفقأ عينه بالهمز ومتن الثور ظهره ورمية حجر اي قدر ما يبلغه وقوله ثم مه هي هاء السكت وهو استفهام اي ثم ماذا يكون أحياة ام موت والكثيب الرمل المستطيل المحدودب ومعنى اجب ربك اي الموت ومعناه جئت لقبض روحك واما سؤاله الادناء من الارض المقدسة فلشرفها وفضيلة من فيها من المدفونين من الانبياء وغيرهم قال بعض العلماء وإنما سأل الادناء ولم يسأل نفس بيت المقدس لانه خاف ان يكون قبره مشهورا عندهم فيفتتن به الناس وفي هذا استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والمواطن المباركة والقرب من مدافن الصالحين والله اعلم
[ 129 ]
قال المازري وقد انكر بعض الملاحدة هذا الحديث وانكر تصوره قالوا كيف يجوز على موسى فق ء عين ملك الموت قال واجاب العلماء عن هذا بأجوبة احدها انه لا يمتنع ان يكون موسى صلى الله عليه وسلم قد أذن الله تعالى له في هذه اللطمة ويكون ذلك امتحانا للملطوم والله سبحانه وتعالى يفعل في خلقه ما شاء ويمتحنهم بما اراد والثاني ان هذا على المجاز والمراد ان موسى ناظره وحاجه فغلبه بالحجة ويقال فقأ فلان عين فلان إذا غالبه بالحجة ويقال عورت الشئ إذا أدخلت فيه نقصا قال وفي هذا ضعف لقوله صلى الله عليه وسلم فرد الله عينه فان قيل اراد رد حجته كان بعيدا والثالث ان موسى صلى الله عليه وسلم لم يعلم انه ملك من عند الله وظن انه رجل قصده يريد نفسه فدافعه عنها فأدت المدافعة الى فق ء عينه لا انه قصدها بالفق ء وتؤيده رواية صكه وهذا جواب الامام ابي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين واختاره المازري والقاضي عياض قالوا وليس في الحديث تصريح بانه تعمد فق ء عينه فان قيل فقد اعترف موسى حين جاءه ثانيا
[ 130 ]
بانه ملك الموت فالجواب انه اتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها انه ملك الموت فاستسلم بخلاف المرة الاولى والله اعلم قوله في الرواية الثانية فالآن من قريب رب أمتني بالارض المقدسة رميه بحجر هكذا هو في معظم النسخ امتني بالميم والتاء والنون من الموت وفي بعضها أدنني بالدال ونونين وكلاهما صحيح قوله صلى الله عليه وسلم (لا تفضلوا بين الانبياء) فقد سبق بيانه وتأويله مبسوطا في اول كتاب الفضائل قوله صلى الله عليه وسلم (ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الارض الا من شاء الله ثم ينفخ فيه اخرى فأكون اول من بعث فإذا موسي آخذ بالعرش فلا ادري احوسب بصعقة يوم الطور أو بعث قبلي) وفي رواية فان الناس يصعقون فاكون اول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا ادوي اكان فيمن صعق فافاق قبلي ام كان ممن استثنى الله تعالى الصعق والصعقة الهلاك والموت ويقال منه صعق الانسان وصعق بفتح الصاد وضمها وأنكر بعضهم الضم وصعقتهم الصاعقة بفتح الصاد والعين وأصعقتهم وبنو تميم يقولون الصاقعة بتقديم القاف قال القاضي وهذا من أشكل الاحاديث لان موسى قد مات
[ 131 ]
فكيف تدركه الصعقة وانما تصعق الاحياء قوله (ممن استثنى الله تعالى) يدل على انه كان حيا ولم يأت ان موسى رجع الى الحياة ولا انه حي كما جاء في عيسى وقد قال صلى الله عليه وسلم لو كنت ثم لاريتكم قبره الى جانب الطريق قال القاضي يحتمل ان هذه الصعقة صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السموات والارض فتنتظم حينئذ الآيات والاحاديث ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم فأفاق لانه إنما يقال أفاق من الغشي واما الموت فيقال بعث منه وصعقة الطور لم تكن موتا واما قوله صلى الله عليه وسلم فلا ادري افاق قبلي فيحتمل انه صلى الله عليه وسلم قاله قبل ان يعلم انه اول من تنشق عنه الارض ان كان هذا اللفظ علي ظاهره وان نبينا صلى الله عليه وسلم اول شخص تنشق عنه الاوض على الاطلاق قال ويجوز ان يكون معناه انه من الزمرة الذين هم اول من تنشق عنهم الارض فيكون موسى من تلك الزمرة
[ 132 ]
وهي والله اعلم زمرة الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم هذا آخر كلام القاضي قوله صلى الله عليه وسلم (ولا اقول ان احدا افضل من يونس بن متي) وفي رواية ان الله تعالى قال لا ينبغي لعبد لي يقول انا خير من يونس بن متي وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما ينبغي لعبد يقول انا خير من يونس بن متي قال العلماء هذه الاحاديث تحتمل وجهين احدهما انه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل ان يعلم انه افضل من يونس فلما علم ذلك قال انا سيد ولد آدم ولم يقل هنا ان يونس افضل منه أو من غيره من الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم والثاني انه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجرا عن ان يتخيل احد من الجاهلين شيئا من حط مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من اجل ما في القرآن العزيز من قصته قال العلماء وما جرى ليونس صلى الله عليه وسلم لم يحطه من النبوة مثقال ذرة وخص يونس بالذكر لما ذكرناه من ذكره في القرآن بما ذكر واما قوله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لعبد ان يقول انا خير من يونس فالضمير في انا قيل يعود إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقيل يعود إلي القائل اي لا يقول ذلك بعض الجاهلين من المجتهدين في عبادة أو علم أو غير ذلك من الفضائل فانه لو بلغ من الفضاء
[ 133 ]
ما بلغ لم يبلغ درجة النبوة ويؤيد هذا التأويل الرواية التي قبله وهي قوله تعالى لا ينبغي لعبد ان يقول انا خير من يونس بن متي والله اعلم قوله صلى الله عليه وسلم (مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره) هذا الحديث سبق شرحه في أواخر كتاب الايمان عند ذكر موسى وعيسى صلى الله عليه وسلم
[ 134 ]
باب من فضائل يوسف صلى الله عليه وسلم قوله (قيل يا رسول الله من أكرم الناس قال اتقاهم لله قالوا ليس عن هذا نسألك قال يوسف نبي الله بن نبي الله بن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا) هكذا وقع في مسلم نبي الله بن نبي الله بن خليل الله وفي روايات للبخاري كذلك وفي بعضها نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله وهذه الرواية هي الاصل واما الاولى فمختصرة منها فله يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم الخليل ص فنسبه في الأولى الى جده ويقال يوسف بضم السين وكسرها وفتحها مع الهمز وتركه فهي ستة اوجه قال العلماء واصل الكرم كثرة الخير وقد جمع يوسف صلى الله عليه وسلم مكارم الاخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب وكونه نبيا ابن ثلاثة انبياء متناسلين احدهم خليل الله صلى الله عليه وسلم وانضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه ورياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وحياطته للرعية وعموم نفعه اياهم وشفقته عليهم وانقاذه اياهم من تلك السنين والله اعلم قال العلماء لما
[ 135 ]
سئل صلى الله عليه وسلم اي الناس اكرم اخبر باكمل الكرم واعمه فقال اتقاهم لله وقد ذكرنا ان اصل الكرم كثرة الخير ومن كان متقيا كان كثير الخير وكثير الفائدة في الدنيا وصاحب الدرجات العلى في الآخرة فلما قالوا ليس عن هذا نسألك قال يوسف الذي جمع خيرات الآخرة والدنيا وشرفهما فلما قالوا ليس عن هذا نسأل فهم عنهم ان مرادهم قبائل العرب قال خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا ومعناه ان اصحاب المروءات ومكارم الخلائق في الجاهلية إذا اسلموا وفقهوا فهم خيار الناس قال القاضي وقد تضمن الحديث في الاجوبة الثلاثة ان الكرم كله عمومه وخصوصه ومجمله ومبانه انما هو الدين من التقوى والنبوة والاعراق فيها والاسلام مع الفقه ومعنى معادن العرب اصولها وفقهوا بضم القاف على المشهور وحكى كسرها اي صاروا فقهاء عالمين بالاحكام الشرعية الفقهية والله اعلم باب من فضل زكرياء صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم (كان زكرياء نجارا) فيه جواز الصنائع وان النجارة لا تسقط المروءة وانها صنعة فاضلة وفيه فضيلة لزكرياء صلى الله عليه وسلم فانه كان صانعا يأكل من كسبه وقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم افضل ما أكل الرجل من كسبه وان نبي الله داود كان يأكل من عمل يده وفي زكريا خمس لغات المد والقصر وزكرى بالتشديد والتخفيف وزكر كعلم باب من فضائل الخضر صلى الله عليه وسلم جمهور العلماء على انه حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية واهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجماع به والاخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع
[ 136 ]
الشريفة ومواطن الخير اكثر من ان يحصر وأشهر من ان يستر وقال الشيخ أبو عمر بن الصلاح هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك قال وانما شذ بانكاره بعض المحدثين قال الحبري المفسر وابو عمرو هو نبي واختلفوا في كونه مرسلا وقال القشيري وكثيرون هو ولي وحكى الماوردي في تفسيره ثلاثة اقوال احدها نبي والثاني ولي والثالث انه من الملائكة وهذا غريب باطل قال المازري اختلف العلماء في الخضر هل هو نبي أو ولي قال واحتج من قال بنبوته بقوله وما فعلته عن امري فدل على انه نبي اوحي إليه وبأنه اعلم من موسى ويبعد ان يكون ولي اعلم من نبي واجاب الآخرون بأنه يجوز ان يكون قد اوحى الله الى نبي في ذلك العصر ان يأمر الخضر بذلك وقال الثعلبي المفسر الخضر نبي معمر على جميع الاقوال محجوب عن الابصار يعني عن ابصار اكثر الناس قال وقيل انه لا يموت الا في آخر الزمان حين يرفع القرآن وذكر الثعلبي ثلاثة اقوال في ان الخضر كان من زمن ابراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ام بعده بقليل ام بكثير كنية الخضر أبو العباس واسمه بليا بموحدة مفتوحة ثم لام ساكنة ثم مثناة تحت ابن ملكان بفتح الميم واسكان اللام وقيل كليان قال ابن قتيبة في المعارف قال وهب بن منبه اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح قالوا وكان ابوه من الملوك واختلفوا في لقبه الخضر فقال الاكثرون لانه جلس على فروة بيضاء فصارت خضراء والفروة وجه الارض وقيل لانه كان إذا صلى اخضر ما حوله والصواب الاول فقد صح في البخاري عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال انما سمي الخضر لانه جلس على فروة فإذا هي تهتز من خلفه خضراء وبسطت احواله في تهذيب الاسماء واللغات والله اعلم قوله (ان نوفا البكالي) هكذا ضبطه الجمهور بكسر الموحدة وتخفيف الكاف ورواه بعضهم بفتحها وتشديد الكاف قال القاضي هذا الثاني هو ضبط اكثر الشيوخ واصحاب الحديث قال والصواب الاول وهو قول المحققين وهو منسوب الى نبي بكال بطن من حمير وقيل من همدان ونوف هذا هو ابن فضالة كذا قاله ابن دريد وغيره
[ 137 ]
وهو ابن امرأة كعب الاحبار وقيل ابن اخيه والمشهور الاول قاله ابن ابي حاتم وغيره قالوا وكنيته أبو يزيد وقيل أبو رشد وكان عالما حكيما قاضيا واماما لاهل دمشق قوله (كذب عدو الله) قال العلماء هو على وجه الاغلاظ والزجر عن مثل قوله لا انه يعتقد انه عدو الله حقيقة انما قاله مبالغة في انكار قوله لمخالفته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في حال غضب ابن عباس لشدة انكاره وحال الغضب تطلق الالفاظ ولا تراد بها حقائقها والله اعلم قوله (انا اعلم) اي في اعتقاده والا فكان الخضر اعلم منه كما صرح به في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه) اي كان حقه ان يقول الله اعلم فان مخلوقات الله تعالى لا يعلمها الاهو قال الله تعالى يعلم جنود ربك الا هو واستدل العلماء بسؤال موسى السبيل الى لقاء الخضر صلى الله عليهما وسلم على استحباب الرحلة في طلب العلم واستحباب الاستكثار منه وانه يستحب للعالم وان كان من العلم بمحل عظيم ان ياخذه ممن هو اعلم منه ويسعى إليه في تحصيله وفيه فضيلة طلب العلم وفي تزوده الحوت وغيره جواز التزود في السفر وفي هذا الحديث الادب مع العالم وحرمة المشايخ وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لا يفهم ظاهره من افعالهم وحركاتهم واقوالهم والوفاء بعهودهم والاعتذار عند مخالفة عهدهم وفيه اثبات كرامات الاولياء على قول من يقول الخضر ولي وفيه جواز سؤال الطعام عند الحاجة وجواز اجارة السفينة وجواز ركوب السفينة والدابة وسكنى الدار ولبس الثوب ونحو ذلك بغير اجرة برضى صاحبه لقوله حملونا بغير نول وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لانكار موسى قال القاضي واختلف العلماء في قول موسى لقد جئت إمرا شيئا نكرا أيهما اشد فقيل إمرا لانه العظيم ولانه في مقابلة خرق السفينة الذي يترتب عليه في العادة هلاك الذي فيها واموالهم وهو اعظم من قتل الغلام فانها نفس واحد وقيل نكرا اشد لانه قاله عند مباشرة القتل حقيقة وأما القتل في خرق السفينة فمظنون وقد يسلمون في العادة وقد سلموا في هذه القضية وليس
[ 138 ]
فيه ما هو محقق الا مجرد الخرق ولله اعلم قوله تعالى (ان عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو اعلم منك أو قال قتادة هو مجمع بحري فارس والروم مما يلي المشرق وحكى الثعلبي عن ابي بن كعب انه بافريقية قوله (احمل حوتا في مكتل فحيث تفقد الحوت فهو ثم) الحوت السمكة وكانت سمكة مالحة كما صرح به في الرواية الثانية والمكتل بكسر الميم وفتح المثناة فوق وهو القفة والزنبيل وسبق بيانه مرات وتفقده بكسر القاف اي يذهب منك يقال فقده وافتقده وثم بفتح الثاء اي هناك قوله صلى الله عليه وسلم (وانطلق معه فتاه) وهو يوشع بن نون معنى فتاه صاحبه ونون مصروف كنوح وهذا الحديث يرد قول من قال من المفسرين ان فتاه عبد له وغير ذلك من الاقوال الباطلة قالوا وهو يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف صلى الله عليه وسلم (وامسك الله عنه جرية الماء حتى كان مثل الطاق) اما الجرية فبكسر الجيم والطاق عقد البناء وجمعه طيقان واطواق وهو الأزج وما عقد اعلاه من البناء وبقي ما تحته خاليا قوله صلى الله عليه وسلم (فانطلقا بقية يومهما وليلتهما) ضبطوه بنصب ليلتهما به وجرها والنصب التعب قالوا لحقه النصب والجوع ليطلب الغذاء فيتذكر نسيان الحوت ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي
[ 139 ]
امر به قوله واتخذ سبيله في البحر عجبا قيل ان لفظة عجبا يجوز ان تكون من تمام كلام يوشع وقيل من كلام موسى أبي قال موسى عجبت من هذا عجبا وقيل من كلام الله تعالى ومعناه اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا قوله ما كنا نبغي اي نطلب معناه ان الذي جئنا نطلبه هو الموضع الذي نفقد فيه الحوت قوله صلى الله عليه وسلم (فرأى رجلا مسجى عليه بثوب فسلم عليه فقال له الخضر اني بارضك السلام) المسجى المغطى وأني اي من اين السلام
[ 140 ]
في هذه الارض التي لا يعرف فيها السلام قال العلماء انى تأتي بمعنى اين ومتى وحيث وكيف وحملوها بغير نول بفتح النون واسكان الواو اي بغير اجر والنول والنوال العطاء قوله لتغرق أهلها قرئ في السبع بضم التاء المثناة فوق ونصب اهلها وبفتح المثناة تحت ورفع اهلها شيئا إمرا اي عظيما كثير الشدة ولا ترهقني اي تغشي وتحملني قوله أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قرئ في السبع زاكية وزكية قالوا ومعناه طاهرة من الذنوب وقوله بغير نفس اي بغير قصاص لك عليها والنكر المنكر وقرئ في السبع باسكان الكاف وضمها والاكثرون بالاسكان قال العلماء وقوله إذا غلام يلعب فقتله دليل على انه كان صبيا ليس ببالغ لانه حقيقة الغلام وهذا قول الجمهور انه لم يكن بالغا وزعمت طائفة انه كان بالغا يعمل بالفساد واحتجت بقوله سعيد نفسا زكية بغير نفس فدل على انه ممن يجب عليه القصاص والصبي لا قصاص عليه وبقوله كان كافرا في قراءة ابن عباس كما ذكر في آخر الحديث والجواب عن الاول من وجهين احدهما ان المراد التنبيه على انه قتل بغير حق والثاني انه يحتمل ان شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي كما انه في شرعنا يؤاخذ بغرامة المتلفات والجواب عن الثاني من وجهين احدهما انه شاذ لا حجة فيه والثاني انه سماه بما يؤول إليه لو عاش كما جاء في الرواية الثانية قوله بلغت من لدني عذرا فيه ثلاث قراآت في السبع الاكثرون بضم
[ 141 ]
الدال وتشديد النون والثانية بالضم وتخفيف النون والثالثة باسكان الدال وإشمامها الضم وتخفيف النون ومعناه قد بلغت الى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي قوله تعالى فانطلقا حتى إذا اتيا اهل قرية) قال الثعلبي قال ابن عباس هي انطاكية وقال ابن سيرين الأيلة وهي ابعد الارض من السماء قوله تعالى فوجدا فيها جدارا يريد ان ينقض) هذا من المجاز لان الجدار لا يكون له حقيقة ارادة ومعناه قرب من الانقضاض وهو السقوط واستدل الاصوليون بهذا على وجود المجاز في القرآن وله نظائر معروفة قال وهب بن منبه كان طول هذا الجدار الى السماء مائة ذراع قوله " لو شئت لاتخذت عليه اجرا " قرئ بالسبع لتخذت بتخفيف التاء وكسر الخاء ولتخذت بالتشديد وفتح الخاء اي لاخذت عليه اجرة تأكل بها قوله صلى الله عليه وسلم (وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر) قال العلماء لفظ النقص هنا ليس على ظاهره وانما معناه ان علمي وعلمك بالنسبة الى علم الله تعالى كنسبة ما نقره هذا العصفور الى ماء البحر هذا على التقريب الى الافهام والا فنسبة علمهما اقل واحقر وقد جاء في رواية البخاري ما علمي وعلمك في جنب علم الله الا كما اخذ هذا العصفور بمنقاره اي في جنب معلوم الله وقد يطلق العلم
[ 142 ]
بمعنى المعلوم وهو من إطلاق المصدر لارادة المفعول كقولهم رغم ضرب السلطان اي مضروبه قال القاضي وقال بعض من اشكل عليه هذا الحديث إلا هنا بمعنى ولا اي ولا نقص علمي وعلمك من علم الله ولا مثل ما اخذ هذا العصفور لان علم الله تعالى لا يدخله نقص قال القاضي ولا حاجة الى هذا التكلف بل هو صحيح كما بينا والله اعلم قوله (كذب نوف) هو جار على مذهب اصحابنا ان الكذب هو الاخبار عن الشئ خلاف ما هو عمدا كان أو سهوا خلافا للمعتزلة وسبقت المسألة في كتاب الايمان قوله صلى الله عليه وسلم (حتى انتهينا الى الصخرة فعمى عليه) وقع في بعض الاصول بفتح العين المهملة وكسر الميم وفي بعضها بضم العين وتشديد الميم وفي بعضها بالغين المعجمة قوله صلى الله عليه وسلم (مثل الكوة) بفتح الكاف ويقال بضمها وهي
[ 143 ]
الطاق كما قال في الرواية الاولى قوله (مستلقيا على حلاوة القفا) هي وسط القفا ومعناه لم يمل الى احد جانبيه وهي بضم الحاء وفتحها وكسرها افصحها الضم وممن حكى الكسر صاحب نهاية الغريب ويقال ايضا حلاوا بالفتح وحلاوى بالضم والقصر وحلواء بالمد قوله (يجئ ما جاء بك) قال القاضي ضبطناه مجئ مرفوع غير منون عن بعضهم وعن بعضهم منونا قال وهو اظهر اي امر عظيم جاء بك قوله صلى الله عليه وسلم (انتحى بها) اي اعتمد على السفينة وقصد
[ 144 ]
خرقها واستدل به العلماء على النظر في المصالح عند تعارض الامور وانه إذا تعارضت مفسدتان دفع اعظمهما بارتكاب اخفهما كما خرق السفينة لدفع غصبها وذهاب جملتها قوله صلى الله عليه وسلم (فانطلق الى احدهم بادي الراي فقتله) بادئ بالهمز وتركه فمن همزه معناه اول الرأي وابتداؤه اي انطلق إليه مسارعا الى قتله من غير فكر ومن لم يهمز فمعناه ظهر له راي في قتله من البدء وهو ظهور راي لم يكن قال القاضي ويمد البدء ويقصر قوله صلى الله عليه وسلم (رحمة الله علينا وعلى موسى قال وكان إذا ذكر احدا من الانبياء بدأ بنفسه رحمة الله علينا وعلى اخي كذا رحمة الله علينا) قال اصحابنا فيه استحباب ابتداء الانسان بنفسه في الدعاء وشبهه من امور الاخرة واما حظوظ الدنيا فالادب فيها الايثار وتقديم غيره على نفسه واختلف العلماء في الابتداء في عنوان الكتاب فالصحيح الذي قاله كثيرون من السلف وجاء به الصحيح انه يبدأ بنفسه فيقدمها على المكتوب إليه فيقال من فلا الى فلان ومنه حديث كتاب النبي صلى الله عليه وسلم من محمد عبد الله ورسوله الى هرقل عظيم الروم وقالت طائفة يبدأ بالمكتوب إليه فيقول الى فلان من فلان قالوا الا ان يكتب الامير الى من دونه أو السيد الى عبده أو الوالد الى ولده ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم (لكن اخذته من صاحبه ذمامة) هي بفتح الذال المعجمة
[ 145 ]
أي استحياءا لتكرار مخالفته وقيل ملامة والاول هو المشهور قوله (واما الغلام فطبع يوم طبع كافرا) قال القاضي في هذا حجة بينة لاهل السنة لصحة اصل مذهبهم في الطبع والرين والاكنة والاغشية والحجب والسد وأشباه هذه الالفاظ الواردة في الشرع في افعال الله تعالى بقلوب اهل الكفر والضلال ومعنى ذلك عندهم خلق الله تعالى فيها ضد الايمان وضد الهدى وهذا على اصل اهل السنة ان العبد لا قدرة له إلا ما اراده الله تعالى ويسره له وخلقه له خلافا للمعتزلة والقدرية القائلين بأن للعبد فعلا من قبل نفسه وقدرة على الهدى والضلال والخير والشر والايمان والكفر وان معنى هذه الالفاظ نسبة الله تعالى لاصحابها وحكمه عليهم بذلك وقالت طائفة منهم معناها خلقه علامة لذلك في قلوبهم والحق الذي لا شك فيه ان الله تعالى يفعل ما يشاء من الخير والشر لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون وكما قال تعالى في الذر هؤلاء للجنة ولا ابالي وهؤلاء للنار ولا ابالي فالذين قضى لهم بالنار طبع على قلوبهم وختم عليها وغشاها وأكنها وجعل من بين ايديها سدا ومن خلفها سدا وحجابا مستورا وجعل في آذانهم وقرا وفي قلوبهم مرضا لتتم سابقته فيهم وتمضي كلمته لاراد لحكمه ولا معقب لامره وقضائه وبالله التوفيق وقد يحتج بهذا الحديث من يقول اطفال الكفار في النار وقد سبق بيان هذه المسالة وان فيه ثلاثة مذاهب الصحيح انهم في الجنة والثاني في النار والثالث يتوقف عن الكلام فيهم فلا يحكم لهم بشئ وتقدمت دلائل الجميع وللقائلين بالجنة ان يقولوا في جواب هذا الحديث معناه علم الله لو بلغ لكان كافرا قوله (وكان ابواه قد عطفا عليه فلو ادرك أرهقهما طغيانا وكفرا) اي حملهما عليهما والحقهما بهما والمراد بالطغيان هنا الزيادة في الضلال وهذا الحديث من دلائل مذهب
[ 146 ]
أهل الحق في ان الله تعالى اعلم بما كان وبما يكون وبما لا يكون لو كان كيف كان يكون ومنه قوله تعالى ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقوله تعالى نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بايديهم لقال الذين كفروا الآية وقوله تعالى جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم وغير ذلك من الآيات قوله تعالى خيرا منه زكاة واقرب رحما قيل المراد بالزكاة الاسلام وقيل الصلاح واما الرحم فقيل معناه الرحمة لوالديه وبرهما وقيل المراد يرحمانه قيل أبدلهما الله بنتا صالحة وقيل ابنا حكاه القاضي قوله (تمارى هو والحر بن قيس) اي تنازعا وتجادلا والحر بالحاء والراء وفي هذه القصة انواع من القواعد والاصول والفروع والآداب والنفائس المهمة سبق التنبيه على معظمها سوى ما هو ظاهر منها ومما لم يسبق انه لا بأس على العالم والفاضل ان يخدمه المفضول ويقضي له حاجة ولا يكون هذا من اخذ العوض على تعليم العلم والآداب بل من مروءات الاصحاب وحسن العشرة ودليله من هذه القصة حمل فتاه غداءهما وحمل اصحاب السفينة موسى والخضر
[ 147 ]
اجرة لمعرفتهم الخضر بالصلاح والله اعلم ومنها الحث على التواضع في علمه وغيره وانه لا يدعي انه اعلم الناس وانه إذا سئل عن اعلم الناس يقول الله اعلم ومنها بيان اصل عظيم من اصول الاسلام وهو وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع وان كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول ولا يفهمه اكثر الناس وقد لا يفهمونه كلهم كالقدر موضع الدلالة قتل الغلام وخرق السفينة فان صورتهما صورة المنكر وكان صحيحا في نفس الامر له حكم بينة لكنها لا تظهر للخلق فإذا اعلمهم الله تعالى بها علموها ولهذا قال فعلته عن امري يعني بل بأمر الله تعالى
[ 148 ]
كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم قال الامام أبو عبد الله المازري اختلف الناس في تفضيل بعض الصحابة علي بعض فقالت طائفة لا نفاضل بل نمسك عن ذلك وقال الجمهور بالتفضيل ثم اختلفوا فقال اهل السنة افضلهم أبو بكر الصديق وقال الخطابية افضلهم عمر بن الخطاب وقالت الراوندية افضلهم العباس وقالت الشيعة علي واتفق اهل السنة على ان افضلهم أبو بكر ثم عمر قال جمهورهم ثم عثمان ثم علي وقال بعض اهل السنة من اهل الكوفة بتقديم علي على عثمان والصحيح المشهور تقديم عثمان قال أبو منصور البغدادي اصحابنا مجمعون على ان افضلهم الخلفاء الاربعة على الترتيب المذكور ثم تمام العشرة ثم اهل بدر ثم احد ثم بيعة الرضوان وممن له مزية اهل العقبتين من الانصار وكذلك السابقون الاولون وهم من صلى الى القبلتين في قول ابن المسيب وطائفة وفي قول الشعبي اهل بيعة الرضوان وفي قول عطاء ومحمد بن كعب اهل بدر قال القاضي عياض وذهبت طائفة منهم ابن عبد البر الى ان من توفي من الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم افضل ممن بقي بعده وهذا الاطلاق غير مرضي ولا مقبول واختلف العلماء في ان التفضيل المذكور قطعي ام لا وهل هو في الظاهر والباطن ام في الظاهر خاصة وممن قال بالقطع أبو الحسن الاشعري قال وهم في الفضل على ترتيبهم في الامامة وممن قال بانه اجتهادي ظني أبو بكر الباقلاني وذكر ابن الباقلاني اختلاف العلماء في ان التفضيل هل هو في الظاهر ام في الظاهر والباطن جميعا وكذلك اختلفوا في عائشة وخديجة ايتهما افضل وفي عائشة وفاطمة رضي الله عنهم اجمعين واما عثمان رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالاجماع وقتل مظلوما وقتلته فسقة لان موجبات القتل مضبوطة ولم يجر منه رضي الله عنه ما يقتضيه ولم يشارك في قتله احد من الصحابة وانما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل وسفلة
[ 149 ]
الاطراف والارذال تحزبوا وقصدوه من مصر فعجزت الصحابة الحاضرون عن دفعهم فحصروه حتى قتلوه رضي الله عنه واما علي رضي الله عنه فخلافته صحيحة بالاجماع وكان هو الخليفة في وقته لا خلافة لغيره واما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله عنه واما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب انفسها بسببها وكلهم عدول رضي الله عنهم ومتأولون في حروبهم وغيرها ولم يخرج شئ من ذلك احدا منهم عن العدالة لانهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص احد منهم واعلم ان سبب تلك الحروب ان القضايا كانت مشتبهة فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة اقسام قسم ظهر لهم بالاجتهاد ان الحق في هذا الطرف وان مخالفه باغ فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة امام العدل في قتال البغاة في اعتقاده وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد ان الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح احد الطرفين فاعتزلوا الفريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لانه لا يحل الاقدام على قتال مسلم حتى يظهر انه مستحق لذلك ولو ظهر لهؤلاء رجحان احد الطرفين وان الحق معه لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه فكلهم معذورون رضي الله عنهم ولهذا اتفق اهل الحق ومن يعتد به في الاجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم اجمعين باب من فضائل ابي بكر الصديق رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم (يا ابا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) معناه ثالثهما بالنصر والمعونة
[ 150 ]
والحفظ والتسديد وهو داخل في قوله تعالى ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وفيه بيان عظيم توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام وفيه فضيلة لابي بكر رضي الله عنه وهي من اجل مناقبه والفضيلة من اوجه منها هذا اللفظ ومنها بذله نفسه ومفارقته اهله وماله ورياسته في طاعة الله تعالى ورسوله وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه ومنها جعله نفسه وقاية عنه وغير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (عبد خيره الله بين ان يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وبكى وفال فديناك بآبائنا وامهاتنا) هكذا هو في جميع النسخ فبكى أبو بكر وبكى معناه بكى كثيرا ثم بكى والمراد بزهرة الدنيا نعيمها وأعراضها وحدودها وشبهها بزهرة الروض وقوله فديناك دليل لجواز التفدية وقد سبق بيانه مرات وكان أبو بكر رضي الله عنه علم ان النبي صلى الله عليه وسلم هو العبد المخير فبكى حزنا على فراقه وانقطاع الوحى وغيره من الخير دائما وانما قال صلى الله عليه وسلم ان عبدا وابهمه لينظر فهم اهل المعرفة ونباهة اصحاب الحذق قوله صلى الله عليه وسلم (ان آمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر) قال العلماء معناه اكثرهم جودا وسماحة لنا بنفسه وماله وليس هو من المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة لانه اذى مبطل للثواب ولأنه المنة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في قبول ذلك وفي غيره قوله صلى الله عليه وسلم (ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا ولكن اخوة الاسلام) وفي رواية لكن اخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا قال القاضي قيل اصل الخلة الافتقار
[ 151 ]
والانقطاع فخليل الله المنقطع إليه وقيل لقصره حاجته على الله تعالى وقيل الخلة الاختصاص وقيل الاصطفاء وسمي ابراهيم خليلا لانه والى في الله تعالى وعادى فيه وقيل سمي به لانه تخلق بخلال حسنة واخلاق كريمة وخلة الله تعالى له نصره وجعله اماما لمن بعده وقال ابن فورك الخلة صفاء المودة بتخلل الاسرار وقيل اصلها المحبة ومعناه الاسعاف والالطاف وقيل الخليل من لا يتسع قلبه لغير خليله ومعنى الحديث ان حب الله تعالى لم يبق في قلبه موضعا لغيره قال القاضي وجاء في احاديث انه صلى الله عليه وسلم قال الا وانا حبيب الله فاختلف المتكلمون هل المحبة ارفع من الخلة ام الخلة ارفع ام هما سواء فقالت طائفة هما بمعنى فلا يكون الحبيب الا خليلا ولا يكون الخليل الا حبيبا وقيل الحبيب ارفع لانها صفة نبينا صلى الله عليه وسلم وقيل الخليل ارفع وقد ثبتت خلة نبينا صلى الله عليه وسلم لله تعالى بهذا الحديث ونفى ان يكون له خليل غيره واثبت محبته لخديجة وعائشة وابيها واسامة وابيه وفاطمة وابنيها وغيرهم ومحبة الله تعالى لعبده تمكينه من طاعته وعصمته وتوفيقه وتيسير الطافه وهدايته وافاضة رحمته عليه هذه مباديها واما غايتها فكشف الحجب عن قلبه حتى يراه ببصيرته فيكون كما قال في الحديث الصحيح فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الى آخره هذا كلام القاضي واما قول ابي هريرة وغيره من الصحابة رضي الله عنهم سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم فلا يخالف هذا لان الصحابي يحسن في حقه الانقطاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا تبقين في المسجد خوخة الا خوخة ابي بكر) الخوخة بفتح الخاء وهي الباب الصغير بين البيتين أو الدارين ونحوه وفيه فضيلة
[ 152 ]
وخصيصة ظاهرة لابي بكر رضي الله عنه وفيه ان المساجد تصان عن تطرق الناس إليها
[ 153 ]
في خوخات ونحوها الا من ابوابها الا لحاجة مهمة قوله صلى الله عليه وسلم (ألا اني أبرأ الى كل خل من خله) هما بكسر الخاء فاما الاول فكسره متفق عليه وهو الخل بمعنى الخليل واما قوله من خله فبكسر الخاء عند جميع الرواة في جميع النسخ وكذا نقله القاضي عن جميعهم قال والصواب الاوجه فتحها قال والخلة والخل والخلال والمخاللة والخلالة والخلوة الاخاء والصداقة اي برئت إليه من صداقته المقتضية المخاللة هذا كلام القاضي والكسر صحيح كما جاءت به الروايات اي أبرأ إليه من مخالتي اياه وذكر ابن الاثير انه روى بكسر الخاء وفتحها وانهما بمعنى الخلة بالضم التي هي الصداقة قوله (بعثه على جيش ذات السلاسل) هو بفتح السين الاولى وكسر الثانية وهو ماء لبني حذام بناحية الشام ومنهم من قال هو بضم السين الاولى وكذا ذكره ابن الاثير في نهاية الغريب واظنه استنبطه من كلام الجوهري في الصحاح ولا دلالة فيه والمشهور والمعروف فتحها وكانت هذه الغزوة في جمادي الأخرى سنة ثمان من الهجرة وكانت مؤتة قبلها في جمادي الاولى من سنة ثمان ايضا قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر كانت ذات السلاسل بعد مؤتة فيما ذكره اهل المغازي الا ابن اسحاق فقال قبلها قوله (اي الناس احب اليك قال عائشة قلت من الرجال قال ابوها قلت ثم من قال عمر فعد رجالا) هذا تصريح بعظيم فضائل ابي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم وفيه دلالة بينة لاهل السنة في تفضيل ابي بكر ثم عمر على
[ 154 ]
جميع الصحابة قوله (سئلت عائشة من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلفه قالت أبو بكر فقيل لها ثم من بعد ابي بكر قالت عمر ثم قيل لها من بعد عمر قالت أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت الى هنا) يعني وقفت على ابي عبيدة هذا دليل لاهل السنة في تقديم ابي بكر ثم عمر للخلافة مع اجماع الصحابة وفيه دلالة لاهل السنة ان خلافة ابي بكر ليست بنص من النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحا بل اجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته ولو كان هناك نص عليه أو على غيره لم تقع المنازعة من الانصار وغيرهم اولا ولذكر حافظ النص ما معه ولرجعوا إليه لكن تنازعوا اولا ولم يكن هناك نص ثم اتفقوا على ابي بكر واستقر
[ 155 ]
الامر واما ما تدعيه الشيعة من النص على علي والوصية إليه فباطل لا اصل له باتفاق المسلمين والاتفاق على بطلان دعواهم من زمن علي واول من كذبهم علي رضي الله عنه بقوله ما عندنا الا ما في هذه الصحيفة الحديث ولو كان عنده نص لذكره ولم ينقل انه ذكره في يوم من الايام ولا ان احدا ذكره له والله اعلم واما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي بعد هذا للمرأة حين قالت يارسول الله أرأيت ان جئت فلم اجدك قال فان لم تجديني فأتي ابا بكر فليس فيه نص على خلافته وامر بها بل هو اخبار بالغيب الذي اعلمه الله تعالى به والله اعلم قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة (ادعي لي اباك ابا بكر واخاك حتى اكتب كتابا فاني اخاف ان يتمنى متمن ويقول قائل انا ولا يأبى الله والمؤمنون الا ابا بكر) هكذا هو في بعض النسخ المعتمدة انا ولا بتخفيف اما ولا اي يقول انا احق وليس كما يقول بل يأبى الله والمؤمنون الا ابا بكر وفي بعضها انا اولى اي انا احق بالخلافة قال القاضي هذه الرواية أجودها ورواه بعضهم أنا ولى بتخفيف النون وكسر اللام أي أنا أحق والخلافة لي وعن بعضهم أنا ولاه اي انا الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم اني ولاه بتشديد النون اي كيف ولاه في هذا الحديث دلالة ظاهرة لفضل ابي بكر الصديق رضي الله عنه واخبار منه صلى الله عليه وسلم بما سيقع في المستقبل بعد وفاته وان المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره وفيه اشارة الى انه سيقع نزاع ووقع كل ذلك واما طلبه لاخيها مع ابي بكر فالمراد انه يكتب الكتاب ووقع في رواية البخاري لقد هممت ان اوجه الى ابي بكر وابنه واعهد ولبعض رواة البخاري وآتيه بألف ممدودة ومثناة فوق ومثناة تحت من الاتيان قال القاضي وصوبه بعضهم وليس كما صوب بل الصواب ابنه بالباء الموحدة والنون وهو اخو عائشة وتوضحه رواية
[ 156 ]
مسلم اخاك ولان اتيان النبي صلى الله عليه وسلم كان متعذرا أو متعسرا وقد عجز عن حضور الجماعة واستخلف الصديق ليصلي بالناس واستأذن ازواجه ان يمرض في بيت عائشة والله اعلم قوله صلى الله عليه وسلم (من اصبح منكم اليوم صائما) قال أبو بكر انا الى قوله صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرئ الا دخل الجنة قال القاضي معناه دخل الجنة بلا محاسبة ولا مجازاة علي قبيح الاعمال والا فمجرد الايمان يقتضي دخول الجنة بفضل الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم في كلام البقرة وكلام الذئب وتعجب الناس من ذلك (فاني أو من به وابو بكر وعمر وما هما) ثم قال العلماء انما قال ذلك ثقة بهما لعلمه بصدق ايمانهما وقوة يقينهما وكمال معرفتهما لعظيم سلطان الله وكمال قدرته ففيه فضيلة ظاهرة لابي بكر وعمر رضي الله عنهما وفيه جواز كرامات الاولياء وخرق العوائد وهو مذهب اهل الحق وسبقت المسألة قوله (قال الذئب من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري) روى السبع بضم الباء واسكانها الاكثرون على الضم قال
[ 157 ]
القاضي الرواية بالضم وقال بعض اهل اللغة هي ساكنة وجعله اسما للموضع الذي عنده المحشر يوم القيامة اي من لها يوم القيامة وانكر بعض اهل اللغة ان يكون هذا اسما ليوم القيامة وقال بعض اهل اللغة يقال سبعت الأسد إذا دعوته فالمعنى على هذا من لها يوم الفزع ويوم القيامة يوم الفزع ويحتمل ان يكون المراد من لها يوم الاهمال من اسبعت الرجل اهملته وقال بعضهم يوم السبع بالاسكان عيد كان لهم في الجاهلية يشتغلون فيه بلعبهم فيأكل الذئب غنمهم وقال الداودي يوم السبع اي يوم يطردك عنها السبع وبقيت انا لها لاراعي لها غيري لفرارك منه فافعل فيها ما اشاء هذا كلام القاضي وقال ابن الاعرابي هو بالاسكان اي يوم القيامة أو يوم الذعر وأنكر عليه آخرون هذا لقوله يوم لادعي لها غيري ويوم القيامة لا يكون الذئب راعيها ولا له بها تعلق والاصح ما قاله آخرون وسبقت الاشارة إليه من انها
[ 158 ]
عند الفتن حين تتركها الناس هملا لا راعي لها نهبة للسباع فجعل السبع لها راعيا اي منفردا بها وتكون بضم الباء والله اعلم باب من فضائل عمر رضي الله عنه قوله (فتكنفه الناس) اي احاطوا به والسرير هنا النعش قوله (فلم يرعني الا برجل) هو بفتح الياء وضم الراء ومعناه لم يفجأني الا ذلك وقوله برجل هكذا هو في النسخ برجل بالباء اي لم يفجأني الامر أو الحال الا برجل وفي هذا الحديث فضيلة ابي بكر وعمر وشهادة علي لهما وحسن ثنائه عليهما وصدق ما كان يظنه بعمر قبل وفاته رضي الله عنهم اجمعين قوله صلى الله
[ 159 ]
عليه وسلم في رؤيا المنام (ومر عمر وعليه قميص يجره قالوا ما أولت ذلك يا رسول الله قال الدين) وفي الرواية الاخرى رايت قدحا اتيت به فيه لبن فشربت منه حتى اني لارى الري يخرج من اظفاري ثم اعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولت ذلك يا رسول الله قال العلم قال اهل العبارة القميص في النوم معناه الدين وجره يدل على بقاء آثاره الجميلة وسننه الحسنة في المسلمين بعد وفاته ليقتدى به واما تفسير اللبن بالعلم فلإشتراكهما في كثرة النفع وفي انهما سبب الصلاح فاللبن غذاء الاطفال وسبب صلاحهم وقوت للابدان بعد ذلك والعلم سبب لصلاح الآخرة والدنيا قوله صلي الله عليه وسلم (رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم اخذها ابن ابي قحافة فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه والله يغفر له ضعف ثم استحالت غربا فاخذها ابن الخطاب فلم ار عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن) اما القليب فهي البئر غير المطوية والدلو يذكر ويؤنث والذنوب بفتح الذال الدلو المملؤة والغرب بفتح الغين المعجمة واسكان الراء وهي الدلو العظيمة والنزع الاستقاء
[ 160 ]
والضعف بضم الضاد وفتحها لغتان مشهورتان الضم افصح ومعنى استحالت صارت وتحولت
[ 161 ]
من الصغر الى الكبر واما العبقري فهو السيد وقيل الذي ليس فوقه شئ ومعنى ضرب الناس بعطن اي ارووا ابلهم ثم آووها الى عطنها وهو الموضع الذي تساق إليه بعد السقي لتستريح قال العلماء هذا المنام مثال واضح لما جرى لابي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم ومن بركته وآثار صحبته فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو صاحب الامر فقام به اكمل قيام وقرر قواعد الاسلام ومهد اموره واوضح اصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله افواجا وانزل الله تعالى اكملت لكم دينكم ثم توفي صلى الله عليه وسلم فخلفه أبو بكر رضي الله عنه سنتين واشهرا وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ذنوبا أو ذنوبين وهذا شك من الراوي والمراد ذنوبان كما صرح به في الرواية الاخرى وحصل في خلافته قتال اهل الردة وقطع دابرهم واتساع الاسلام ثم توفي فخلفه عمر رضي الله عنه فاتسع الاسلام في زمنه وتقرر لهم من احكامه ما لم يقع مثله فعبر بالقليب عن امر المسلمين لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم وشبه اميرهم بالمستقى لهم وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير امورهم واما قوله صلى الله عليه وسلم في ابي بكر رضي الله عنه وفي نزعه ضعف فليس فيه حط من فضيلة ابي بكر ولا اثبات فضيلة لعمر عليه وانما هو اخبار عن مدة ولايتهما وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها ولاتساع الاسلام وبلاده والاموال وغيرها من الغنائم والفتوحات ومصر والامصار ودون الدواوين واما قوله صلى الله عليه وسلم الله يغفر له فليس فيه تنقيص له ولا اشارة الى ذنب وانما هي كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم ونعمت الدعامة وقد سبق في الحديث في صحيح مسلم انها كلمة كان المسلمون يقولونها افعل كذا والله يغفر لك قال العلماء وفي كل هذا اعلام بخلافة ابي بكر وعمر وصحة ولايتهما وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها قوله صلى الله عليه وسلم (فجاءني أبو بكر فاخذ الدلو من يدي ليروحني) قال العلماء
[ 162 ]
فيه اشارة الى نيابة ابي بكر عنه وخلافته بعده وراحته صلى الله عليه وسلم بوفاته من نصب الدنيا ومشاقها كما قال صلى الله عليه وسلم مستريح ومستراح منه الحديث والدنيا سجن المؤمن ولا كرب على ابيك بعد اليوم قوله صلى الله عليه وسلم (فلم ار عبقريا من الناس يفري فريه) اما فري فبفتح الياء والثانية كسر الراء وأما فريه فروى بوجهين أحدهما فريه باسكان الراء وتخفيف الباء والثانية كسر الراء وتشديد الياء وهما لغتان صحيحتان وانكر الخليل التشديد وقال هو غلط اتفقوا على ان معناه لم ار سيدا يعمل عمله ويقطع قطعه واصل الفري بالاسكان القطع يقال فريت الشئ أفريه فريا قطعته للاصلاح فهو مفري وفري وافريته إذا شققته على جهة الافساد وتفول العرب تركته يفرى الفرى إذا عمل العمل فاجاده ومنه حديث حسان لافرينهم فرى الاديم اي اقطعهم بالهجاء كما يقطع الاديم قوله صلى الله عليه وسلم (حتى ضرب الناس بعطن) سبق تفسيره قال القاضي ظاهره انه عائد الى خلافة عمر خاصة وقيل يعود الى خلافة ابي بكر وعمر جميعا لان بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الامر وضرب الناس بعطن لان ابا بكر قمع اهل الردة وجمع شمل المسلمين والفهم وابتدأ الفتوح ومهد الامور وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم (كأني انزع دلو بكرة) هي باسكان
[ 163 ]
الكاف وفتحها قوله صلى الله عليه وسلم (حتى روى الناس) هو بكسر الواو والمخففة
[ 164 ]
اي اخذوا كفايتهم قوله (عن صالح عن ابن شهاب قال اخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن سيدان محمد بن سعد ابي وقاص اخبره ان اباه سعدا قال استاذن عمر) هذا الحديث اجتمع فيه اربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض وهم صالح وابن شهاب وعبد الحميد ومحمد وقد راى عبد الحميد ابن عباس قوله (وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية اصواتهن) قال العلماء معنى يستكثرنه يطلبن كثيرا من كلامه وجوابه بحوائجهن وفتاويهن وقوله عالية اصواتهن قال القاضي يحتمل ان هذا قبل النهي عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم ويحتمل ان علو اصواتهن انما كان باجتماعها لا ان كلام كل واحدة
[ 165 ]
بانفرادها اعلى من صوته صلى الله عليه وسلم قوله (قلن انت اغلظ وافظ من رسول الله صلى لله عليه وسلم) الفظ والغليظ بمعنى وهو عبارة عن شدة الخلق وخشونة الجانب قال العلماء وليست لفظة افعل هنا للمفاضلة بل هي بمعنى فظ غليظ قال القاضي وقد يصح حملها على المفاضلة وان القدر الذي منها في النبي صلى الله عليه وسلم هو ما كان من إغلاظه على الكافرين والمنافقين كما قال تعالى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وكان يغضب ويغلظ عند انتهاك حرمات الله تعالى والله اعلم وفي هذا الحديث فضل لين الجانب والحلم والرفق ما لم يفوت مقصودا شرعيا قال الله تعالى واخفض جناحك للمؤمنين وقال تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك وقال تعالى رؤف رحيم قوله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك) الفج الطريق الواسع ويطلق ايضا على المكان المنخرق بين الجبلين وهذا الحديث محمول على ظاهره ان الشيطان متى راى عمر سالكا فجا هرب هيبة من عمر وفارق ذلك الفج وذهب في فج آخر لشدة خوفه من بأس عمر ان يفعل فيه شيئا قال القاضي ويحتمل انه ضرب مثلا لبعد الشيطان وإغوائه منه وان عمر في جميع اموره سالك
[ 166 ]
طريق السداد خلاف ما يأمر به الشيطان والصحيح الاول قوله (عن ابن وهب عن ابراهيم ابن سعد عن ابيه عن ابي سلمة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقول قد كان يكون في الامم محدثون فان يكن في امتي منهم احد فان عمر بن الخطاب منهم) قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون هذا الاسناد مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال المشهور فيه عن ابراهيم بن سعد عن ابيه عن ابي سلمة قال بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم واخرجه البخاري من هذا الطريق عن ابي سلمة عن ابي هريرة واختلف تفسير العلماء للمراد بمحدثون فقال ابن وهب ملهمون وقيل مصيبون وإذا ظنوا فكأنهم حدثوا بشئ فظنوا وقيل تكلمهم الملائكة وجاء في رواية متكلمون وقال البخاري يجري الصواب على السنتهم وفيه اثبات كرامات الاولياء قوله (قال عمر وافقت ربي في ثلاث في مقام ابراهيم وفي الحجاب وفي اسارى بدر) هذا من اجل مناقب عمر وفضائله رضي الله عنه وهو مطابق للحديث قبله ولهذا عقبه مسلم به وجاء في هذه الرواية وافقت ربي في ثلاث وفسرها بهذه الثلاث وجاء في رواية اخرى في الصحيح اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن ان يبدله ازواجا خيرا منكن فنزلت الاية بذلك وجاء في الحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا موافقته في منع الصلاة على المنافقين ونزول الاية
[ 167 ]
بذلك وجاءت موافقته في تحريم الخمر فهذه ست وليس في لفظه ما ينفي زيادة الموافقة والله اعلم قوله (لما توفي عبد الله بن ابي بن سلول) هكذا صوابه ان يكتب بن سلول بالالف ويعرب باعراب عبد الله فانه وصف ثان له لانه عبد الله بن ابي وهو عبد الله ابن سلول ايضا فابي ابوه وسلول امه فنسب الى ابويه جميعا ووصف بهما وقد سبق بيان هذا ونظائره في كتاب الايمان في حديث المقداد حين قتل من اظهر الشهادة واوضحنا هناك وجوهها قوله (ان النبي صلى الله عليه وسلم اعطاه قميصه ليكفن فيه اباه المنافق) قيل انما اعطاه قميصه وكفنه فيه تطييبا لقلب ابنه فانه كان صحابيا صالحا وقد سأل ذلك فاجابه إليه وقيل مكافأة لعبد الله المنافق الميت لانه كان البس العباس حين اسر يوم بدر قميصا وفي هذا الحديث بيان عظيم مكارم اخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم ما كان من هذا المنافق من الايذاء وقابله بالحسنى فالبسه قميصا كفنا وصلى عليه واستغفر له قال الله تعالى انك لعلى خلق عظيم وفيه تحريم الصلاة والدعاء له بالمغفرة والقيام على قبره للدعاء
[ 168 ]
باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فاذن له وهو على تلك الحال الى آخرة) هذا الحديث مما يحتج به المالكية وغيرهم ممن يقول ليست الفخذ عورة ولا حجة فيه لانه مشكوك في المكشوف هل هو الساقان ام الفخذان فلا يلزم منه الجزم بجواز كشف الفخذ وفي هذا الحديث جواز تدلل العالم والفاضل بحضرة من يدل عليه من فضلاء اصحابه واستحباب ترك ذلك إذا حضر غريب أو صاحب يستحي منه قوله (دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا تهتش بالتاء بعد الهاء وفي بعض النسخ الطارئة بحذفها وكذا ذكره القاضي وعلى هذا فالهاء مفتوحة يقال هش يهش كشم يشم واما الهش الذي هو خبط الورق من الشجر فيقال منه هش يهش بضمها قال الله تعالى بها قال اهل اللغة الهشاشة والبشاشة بمعنى طلاقة الوجه وحسن اللقاء ومعنى لم تباله
[ 169 ]
لم تكترث به وتحتفل لدخوله قوله صلى الله عليه وسلم (الا استحي ممن تستحي منه الملائكة) هكذا هو في الرواية استحي بياء واحدة في كل واحدة منهما قال اهل اللغة يقال استحيا يستحيي بياءين واستحى يستحي بياء واحدة لغتان الاولى افصح واشهر وبها جاء القرآن وفيه فضيلة ظاهرة لعثمان وجلالته عند الملائكة وان الحياء صفة جميلة من صفات الملائكة قوله (لابس مرط عائشة) هو بكسر الميم وهو كساء من صوف وقال الخليل كساء من صوف أو كتان أو غيره وقال ابن الاعرابي وابو زيد هو الازار قولها (مالي لم ارك فزعت لابي بكر وعمر كما فزعت لعثمان) اي اهتممت لهما واحتفلت بدخولهما هكذا هو في جميع نسخ بلادنا فزعت بالزاي والعين المهملة وكذا حكاه القاضي عن رواية الاكثرين قال وضبطه بعضهم فرغت بالراء والغين المعجمة وهو قريب من معنى الاول قوله (عن عثمان بن غياث) هو بالغين المعجمة والثاء
[ 170 ]
المثلثة قوله (في حائط) هو البستان قوله (يركز بعود) هو بضم الكاف اي يضرب باسفله ليثبته في الارض قوله (استفتح رجل فقال افتح وبشره بالجنة) وفي رواية امرني ان احفظ الباب وفي رواية لاكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل انه صلى الله عليه وسلم امره ان يكون بوابا في جميع ذلك المجلس ليبشر هؤلاء المذكورين بالجنة رضي الله عنهم ويحتمل انه امره بحفظ الباب اولا الى ان يقضي حاجته ويتوضأ لانها حالة يستتر فيها ثم حفظ الباب أبو موسى من تلقاء نفسه وفيه فضيلة هؤلاء الثلاثة وانهم من اهل الجنة وفضيلة لابي موسى وفيه جواز الثناء على الانسان في وجهه إذا امنت عليه فتنة الاعجاب ونحوه وفيه معجزة
[ 171 ]
ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم لاخباره بقصة عثمان والبلوى وان الثلاثة يستمرون على الايمان والهدى قوله (والله المستعان) فيه استحبابة عند مثل هذا الحال قوله (فخرج وجه ههنا) المشهور في الرواية وجه بتشديد الجيم وضبطه بعضهم باسكانها وحكى القاضي الوجهين ونقل الاول عن الجمهور ورجح الثاني لوجود خرج اي قصد هذه الجهة قوله (جلس على بئر اريس وتوسط قفها) اما اريس فبفتح الهمزة مصروف واما القف فبضم القاف وهو حافة البئر واصله الغليظ المرتفع من الارض قوله (على رسلك) كسر الراء وفتحها لغتان
[ 172 ]
الكسر اشهر ومعناه تمهل وتأن قوله (في ابي بكر وعمر رضي الله عنهما انهما دليا ارجلهما في البئر كما دلاهما النبي ص هذا فعلاه للموافقه وليكون أبلغ في بقاء النبي ص = على حالته راحته بخلاف ما إذا لم يفعلاه فربما استحى منهما فرفعهما وفي هذا دليل للغة الصحيحة انه يجوز ان يقول دليت الدلو في البئر ودليت رجلي وغيرها فيه كما يقال أدليت قال الله تعالى فادلى دلوه ومنهم من منع الاول وهذا الحديث يرد عليه قوله (فجلس
[ 173 ]
وجاهتهم) بكسر الواو وضمها اي قبالتهم قوله (قال سعيد بن المسيب فأولتها قبورهم) يعني ان الثلاثة دفنوا في مكان واحد وعثمان في مكان بائن عنهم وهذا من باب الفراسة الصادقة باب من فضائل علي بن ابي طالب رضي الله عنه قوله (عن يوسف ابن الماجشون) وفي بعض النسخ يوسف الماجشون بحذف لفظة ابن
[ 174 ]
وكلاهما صحيح وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن ابي سلمة واسم ابي سلمة دينار والماجشون لقب يعقوب وهو لقب جرى عليه وعلى اولاده واولاد اخيه وهو بكسر الجيم وضم الشين المعجمة وهو لفظ فارسي ومعناه الاحمر الابيض المورد سمي يعقوب بذلك لحمرة وجهه وبياضه قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي) قال القاضي هذا الحديث مما تعلقت به الروافض والامامية وسائر فرق الشيعة في ان الخلافة كانت حقا لعلي وانه وصى له بها قال ثم اختلف هؤلاء فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره وزاد بعضهم فكفر عليا لانه لم يقم في طلب حقه بزعمهم وهؤلاء اسخف مذهبا وافسد عقلا من ان يرد قولهم أو يناظر وقال القاضي ولا شك في كفر من قال هذا لان من كفر الامة كلها والصدر الاول فقد ابطل نقل الشريعة وهدم الاسلام واما من عدا هؤلاء الغلاة فانهم لا يسلكون هذا المسلك فاما الامامية وبعض المعتزلة فيقولون هم مخطئون في تقديم غيره لا كفار وبعض المعتزلة لا يقول بالتخطئة لجواز تقديم المفضول عندهم وهذا الحديث لاحجة فيه لاحد منهم بل فيه اثبات فضيلة لعلي ولا تعرض فيه لكونه افضل من غيره أو مثله وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده لان النبي صلى الله عليه وسلم انما قال هذا لعلي حين استخلفه في المدينة في غزوة تبوك ويؤيد هذا ان هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى بل توفي في حياة موسى وقبل وفاة موسى بنحو اربعين سنة على ما هو مشهور عند اهل الاخبار والقصص قالوا وانما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة والله اعلم قال العلماء وفي هذا الحديث دليل على ان عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم إذا نزل في آخر الزمان نزل حكما من حكام هذه الامة يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولا ينزل نبينا وقد سبقت الاحاديث المصرحة بما ذكرناه في كتاب الايمان قوله
[ 175 ]
(فوضع اصبعيه على اذنيه فقال نعم وإلا فاستكتا) هو بتشديد الكاف اي صمتا قوله (إن معاوية قال لسعد بن ابي وقاص ما معك ان سب ابا تراب) قال العلماء الاحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها قالوا ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله فقول معاوية هذا ليس فيه تصريح بانه امر سعدا بسبه وانما ساله عن السبب المانع له من السب كأنه يقول هل امتنعت تورعا أو خوفا أو غير ذلك فان كان تورعا واجلالا له عن السب فانت مصيب محسن وان كان غير ذلك فله جواب آخر ولعل سعدا قد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم وعجز عن الانكار وأنكر عليهم فسأله هذا السؤال قالوا ويحتمل تأويلا آخر ان معناه
[ 176 ]
ما منعك ان تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وانه اخطأ قوله (فتساورت لها) هو بالسين المهملة وبالواو ثم الراء ومعناه تطاولت لها كما صرح في الرواية الاخرى اي حرصت عليها اي اظهرت وجهي وتصديت لذلك ليتذكرني قوله (فما احببت الامارة إلا يومئذ) انما كانت محبته لها لما دلت عليه الامارة من محبته لله ورسوله صلى الله عليه
[ 177 ]
وسلم ومحبتهما له والفتح على يديه قوله صلى الله عليه وسلم (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار علي رضي الله عنه شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس) هذا الالتفات يحتمل وجهين احدهما انه على ظاهره اي لا تلتفت بعينيك لا يمينا ولا شمالا بل امض على جهة قصدك والثاني ان المراد الحث على الاقدام والمبادرة الى ذلك وحمله علي رضي الله عنه على ظاهره ولم يلتفت بعينه حين احتاج وفي هذا حمل امره صلى الله عليه وسلم على ظاهره وقيل يحتمل ان المراد لا تنصرف بعد لقاء عدوك حتى يفتح الله عليك وفي هذا الحديث معجزات ظاهرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولية وفعلية فالقولية اعلامه بأن الله تعالى يفتح على يديه فكان كذلك والفعلية بصاقه في عينه وكان أرمد فبرأ من ساعته وفيه فضائل ظاهرة لعلي رضي الله عنه وبيان شجاعته وحسن مراعاته لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه الله ورسول وحبهما اياه قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم واموالهم الا بحقها وحسابهم على الله) وفي الرواية الأخرى ادعهم الى الاسلام هذا الحديث فيه الدعاء الى الاسلام قبل القتال وقد قال بايجابة طائفة على الاطلاق ومذهبنا ومذهب آخرين انهم ان كانوا ممن لم تبلغهم دعوة الاسلام وجب انذارهم قبل القتال وإلا فلا يجب لكن يستحب وقد سبقت المسألة مبسوطة
[ 178 ]
في اول الجهاد وليس في هذا ذكر الجزية وقبولها إذا بذلوها ولعله كان قبل نزول آية الجزية وفيه دليل على قبول الاسلام سواء كان في حال القتال ام في غيره وحسابه على الله تعالى معناه انا نكف عنه في الظاهر واما بينه بين الله تعالى فان كان صادقا مؤمنا بقلبه نفعه ذلك في الآخرة ونجا من النار كما نفعه في الدنيا وإلا فلا ينفعه بل يكون منافقا من اهل النار وفيه انه يشترط في صحة الاسلام النطق بالشهادتين فان كان اخرس أو في معناه كفته الاشارة اليهما والله اعلم قوله (فبات الناس يدوكون ليلتهم ايهم يعطاها) هكذا هو في معظم النسخ والروايات يدوكون بضم الدال المهملة وبالواو اي يخوضون ويتحدثون في ذلك وفي بعض النسخ يذكرون باسكان الذال المعجمة وبالراء قوله صلى الله عليه وسلم (فوالله لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من ان تكون لك حمر النعم) هي الابل الحمر وهر انفس اموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشئ وانه ليس هناك اعظم منه وقد سبق بيان ان تشبيه امور الآخرة باعراض الدنيا انما هو للتقريب من الافهام والا فذرة من الآخرة الباقية خير من الارض باسرها وامثالها معها لو تصورت وفي هذا
[ 179 ]
الحديث بيان فضيلة العلم والدعاء الى الهدى وسن السنن الحسنة قوله (ماء يدعى خما بين مكة والمدينة) هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم وهو اسم لغيضة على ثلاثة اميال من الحسنة عندها غدير مشهور
[ 180 ]
يضاف الى الغيضة فيقال غدير خم قوله صلى الله عليه وسلم (وانا تارك فيكم ثقلين فذكر كتاب الله واهل بيته) قال العلماء سميا ثقلين لعظم ما وكبير شأنهما وقيل لثقل العمل بهما قوله (ولكن اهل بيته من حرم الصدقة) هو بضم الحاء وتخفيف الراء والمراد بالصدقة الزكاة وهي حرام عندنا على بني هاشم وبني المطلب وقال مالك بنو هاشم فقط وقيل بنو قصي وقيل قريش كلها قوله في الرواية الاخرى فقلنا من اهل بيته نساؤه قال لا هذا دليل لابطال قول من قال هم قريش كلها فقد كان في نسائه قرشيات وهن عائشة وحفصة وام سلمة وسودة وام حبيبة رضي الله عنهن واما قوله في الرواية الاخرى نساؤه من اهل بيته من حرم الصدقة قال وفي الرواية الاخرى فقلنا من اهل بيته نساؤه قال لا فهاتان الروايتان ظاهر هما التناقض والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم انه قال نساؤه لسن من اهل بيته فتتأول الرواية الاولى على ان المراد انهن من اهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم وامر باحترامهم واكرامهم وسماهم ثقلا ووعظ في حقوقهم وذكر فنساؤه داخلات في هذا كله ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة وقد اشار الى هذا في الرواية الاولى بقوله نساؤه من اهل بيته ولكن اهل بيته من حرم الصدقة
[ 181 ]
فاتفقت الروايتان قوله صلى الله عليه وسلم (كتاب الله هو حبل الله) قيل المراد بحبل الله عهده وقيل السبب الموصل الى رضاه ورحمته وقيل هو نوره الذي يهدي به قوله (المرأة تكون
[ 182 ]
مع الرجل العصر من الدهر) اي القطعة منه . قولها (فخرج ولم يقل عندي) هو بفتح الياء وكسر القاف من القيلولة وهي النوم نصف النهار وفيه جواز النوم في المسجد واستحباب ملاطفة الغضبان وممازحته والمشي إليه لاسترضائه باب في فضل سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه قولها (أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة) هو بفتح الهمزة وكسر الراء وتخفيف القاف اي سهر ولم يأته نوم والأرق السهر ويقال أرقني الامر بالتشديد تأريقا اي أسهرني ورجل أرق على وزن فرح قوله صلى الله عليه وسلم (ليت رجلا صالحا يحرسني) فيه جواز
[ 183 ]
الاحتراس من العدو والاخذ بالحزم وترك الاهمال في موضع الحاجة الى الاحتياط قال العلماء وكان هذا الحديث قبل نزول قوله تعالى والله يعصمك من الناس لانه صلى الله عليه وسلم ترك الاحتراس حين نزلت هذه الاية وامر اصحابه بالانصراف عن حراسته وقد صرح في الرواية الثانية بان هذا الحديث الاول كان في اول قدومه المدينة ومعلوم ان الاية نزلت بعد ذلك بأزمان قولها (حتى سمعت غطيطه) هو بالغين المعجمة وهو صوت النائم المرتفع قولها (سمعنا خشخشة سلاح) اي صوت سلاح صدم بعضه بعضا قوله (سمعت عليا رضي الله عنه يقول ما جمع رسول
[ 184 ]
الله صلى الله عليه وسلم ابويه لاحد غير سعد بن مالك فانه جعل يقول ارم فداك ابي وامي) وفي رواية عن سعد قال جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابويه يوم احد فقال ارم فداك ابي وامي فيه جواز التفدية بالابوين وبه قال جماهير العلماء وكرهه عمر بن الخطاب والحسن البصري رضي الله عنهما وكرهه بعضهم في التفدية بالمسلم من ابويه والصحيح الجواز مطلقا لانه ليس فيه حقيقة فداء وانما هو كلام والطاف واعلام بمحبته له ومنزلته وقد وردت الاحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقا واما قوله ما جمع ابويه لغير سعد وذكر بعد انه جمعهما للزبير وقد جاء جمعهما لغيرهما ايضا فيحمل قول علي رضي الله عنه على نفي علم نفسه اي لا اعلمه جمعهما الا لسعد بن ابي وقاص
[ 185 ]
وهو سعد بن مالك وفيه فضيلة الرمي والحث عليه والدعاء لمن فعل خيرا قوله (كان رجل من المشركين قد احرق المسلمين) اي اثخن فيهم وعمل فيهم نحو عمل النار قوله (فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فاصبت جنبه فسقط وانكشفت عورته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت الى نواجذه) فقوله نزعت له بسهم اي رميته بسهم ليس فيه زج وقوله فاصبت جنبه بالجيم والنون هكذا هو في معظم النسخ وفي بعضها حبته بحاء مهملة وباء موحدة مشددة ثم مثناة فوق اي حبة قلبه وقوله فضحك اي فرحا بقتله عدوه لا لانكشافه قوله نواجذه
[ 186 ]
بالذال المعجمة اي انيابه وقيل اضراسه وسبق بيانه مرات قوله (حدثنا محمد بن المثني وابن بشار قالا حدثنا شعبة ح وحدثنا أبو بكر بن ابي شيبة حدثنا وكيع ح وحدثنا أبو كريب واسحاق الحنظلي عن محمد بن بشر عن مسعر ح وحدثنا ابن ابي عمر حدثنا سفيان عن مسعر كلهم عن سعد بن ابراهيم قال أبو مسعود الدمشقي وابو علي الغساني وغيرهما) هكذا رواه مسلم قالوا وأسقط من روايته سفيان الثوري بين وكيع ومسعر لان ابا بكر ابن ابي شيبة انما رواه في مسنده والمغازي وغيره موضع عن وكيع عن الثوري عن مسعر وادعى بعضهم ان وكيعا لم يدرك مسعرا وهذا خطأ ظاهر فقد ذكر ابن
[ 187 ]
ابي حاتم وغيره وكيعا فيمن روى عن مسعر ولان وكيعا ادرك نحو ست وعشرين سنة من حياة مسعر مع انهما كوفيان قال أبو نعيم الفضل بن دكين والبخاري وغيرهما توفي مسعر سنة خمس وخمسين ومائة وقال احمد بن حنبل وغيره ولد وكيع سنة تسع وعشرين ومائة فلا يمتنع ان يكون وكيع سمع هذا الحديث من مسعر وكون ابن ابي شيبة رواه عن وكيع عن الثوري عن مسعر لا يلزم منه منع سماعه من مسعر كما قدمناه في نظائره والله اعلم قوله (اردت ان ألقيه في القبض) هو بفتح القاف والباء الموحدة والضاد المعجمة الموضع الذي يجمع فيه الغنائم وقد سبق شرح اكثر هذا الحديث مفرقا والحش بفتح الحاء وضمها البستان قوله (شجروا فاها بعصا ثم أوجروها) اي فتحوه ثم صبوا فيها الطعام وانما شجروها بالعصا لئلا تطبقه فيمتنع وصول الطعام جوفها وهكذا صوابه بالشين المعجمة والجيم والراء وهكذا في جميع النسخ قال القاضي ويروى شحوا فاها بالحاء المهملة وحذف الراء ومعناه قريب من الاول اي اوسعوه وفتحوه والشحو التوسعة ودابة شحو واسعة الخطو ويقال أوجره ووجره لغتان الاولى افصح واشهر قوله (ضرب انفه ففزره) هو بزاي ثم
[ 188 ]
راء يعني شقه وكان انفه مفزورا اي مشقوقا قوله (عن ابي عثمان قال لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الايام الى قوله غير طلحة وسعد عن حديثهما) معناه وهما حدثاني بذلك والله اعلم من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما قوله (ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب الزبير) اي دعاهم للجهاد وحرضهم عليه فأجابه الزبير قوله صلى الله عليه وسلم (لكل نبي حواري وحواري الزبير) قال القاضي اختلف في ضبطه فضبطه جماعة من المحققين بفتح الياء من الثاني كمصرخي وضبطه اكثرهم بكسرها
[ 189 ]
والحواري الناصر وقيل الخاصة قوله (عن عبد الله بن الزبير قال كنت انا وعمرو بن ابي سلمة يوم الخندق مع النسوة في أطم حسان فكان يطأطئ لي مرة فأنظر الى آخره) الاطم بضم الهمزة والطاء الحصن وجمعه آطام كعنق واعناق قال القاضي ويقال في الجمع ايضا إطام بكسر الهمزة والقصر كآكام واكام وقوله كان يطأطئ هو بهمز آخره ومعناه يخفض لي ظهره وفي هذا الحديث دليل لحصول ضبط الصبي وتمييزه وهو ابن اربع سنين فان ابن الزبير ولد عام الهجرة في المدينة وكان الخندق سنة اربع من الهجرة على الصحيح فيكون له في وقت ضبطه لهذه القضية دون اربع سنين وفي هذا رد على ما قاله جمهور المحدثين انه لا يصح سماع الصبي حتى يبلغ خمس سنين والصواب صحته متى حصل التمييز وان كان ابن اربع أو دونها وفيه منقبة
[ 190 ]
لابن الزبير لجودة ضبطه لهذه القضية مفصلة في هذا السن والله اعلم قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وابو بكر وعمر وعلي وعثمان وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد) هكذا وقع في معظم النسخ بتقديم علي على عثمان وفي بعضها بتقديم عثمان على علي كما وقع في الرواية الثانية باتفاق النسخ وقوله (اهدأ) بهمز آخره اي اسكن وحراء بكسر الحاء وبالمد هذا هو الصواب وقد سبق بيانه واضحا في كتاب الايمان وان الصحيح انه مذكر ممدود مصروف وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها إخباره ان هؤلاء شهداء وماتوا كلهم غير النبي صلى الله عليه وسلم وابي بكر شهداء فان عمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير رضي الله عنهم قتلوا ظلما شهداء فقتل الثلاثة مشهور وقتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة منصرفا تاركا للقتال وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركا للقتال فأصابه سهم فقتله وقد ثبت ان من قتل ظلما فهو شهيد والمراد شهداء في احكام الآخرة وعظيم ثواب الشهداء واما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم وفيه بيان فضيلة هؤلاء وفيه اثبات التمييز في الحجاز وجواز التزكية والثناء على الانسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة باعجاب ونحوه واما ذكر سعد بن ابي وقاص في الشهداء في الرواية الثانية فقال القاضي انما سمي شهيدا لانه مشهود له بالجنة
[ 191 ]
باب من فضائل ابي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم (ان لكل امة امينا وان اميننا ايتها الامة أبو عبيدة بن الجراح) قال القاضي هو بالرفع على النداء قال والاعراب الافصح ان يكون منصوبا على الاختصاص حكى سيبويه اللهم اغفر لنا ايتها العصابة واما الامين فهو الثقة المرضي قال العلماء والامانة مشتركة بينه وبين غيره من الصحابة لكن النبي صلى الله عليه وسلم خص بعضهم بصفات غلبت عليهم
[ 192 ]
وكانوا بها اخص قوله (فاستشرف لها الناس) اي تطلعوا الى الولاية ورغبوا فيها حرصا على ان يكون هو الامين الموعود في الحديث لا حرصا على الولاية من حيث هي باب من فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم للحسن (إني احبه فأحبه وأحبب من يحبه) فيه حث على حبه وبيان لفضيلته رضي الله عنه قوله (في طائفة من النهار حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى اتى خباء
[ 193 ]
فقال أثم لكع أثم لكع يعني حسنا فظننا انه انما تحبسه امه لان تغسله وتلبسه سخابا) اما قوله طائفة من النهار فالمراد قطعة منه وقينقاع بضم النون وفتحها وكسرها سبق مرات ولكع المراد به هنا الصغير وخباء فاطمة بكسر الخاء المعجمة وبالمد اي بيتها والسخاب بكسر السين المهملة وبالخاء المعجمة جمعه سخب وهو قلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من اخلاط الطيب يعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيان والجواري وقيل هو خيط فيه خرز سمي سخابا لصوت خرزه عند حركته من السخب بفتح السين والخاء يقال الصخب بالصاد وهو اختلاط الاصوات وفي هذا الحديث جواز الباس الصبيان القلائد والسخب ونحوها من الزينة واستحباب تنظيفهم لا سيما عند لقائهم اهل الفضل واستحباب النظافة مطلقا قوله (جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه) فيه استحباب ملاطفة الصبي ومداعبته رحمة له ولطفا واستحباب التواضع مع الاطفال وغيرهم واختلف العلماء في معانقة الرجل للرجل القادم من سفر فكرهها مالك وقال هي بدعة واستحبها سفيان وغيره وهو الصحيح الذي عليه الاكثرون والمحققون وتناظر مالك وسفيان في المسألة فاحتج سفيان بان النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بجعفر حين قدم فقال مالك هو خاص به فقال سفيان ما يخصه بغير دليل فسكت مالك قال القاضي عياض وسكوت مالك دليل لتسليمه قول سفيان وموافقته وهو صواب حتى يدل دليل للتخصيص قوله
[ 194 ]
(رايت رسول الله صلى عليه وسلم واضعا الحسن بن علي على عاتقه العاتق ما بين المنكب والعنق وفيه ملاطفة الصبيان ورحمتهم ومماستهم وان رطوبات وجهه ونحوها طاهرة حتى تتحقق نجاستها ولم ينقل عن السلف التحفظ منها ولا يخلون منها غالبا قوله (لقد قدت بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين بغلته الشهباء هذا قدامه وهذا خلفه) فيه دليل لجواز ركوب ثلاثة على دابة إذا كانت مطيقة وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة وحكى القاضي عن بعضهم منع ذلك مطلقا وهو فاسد قوله (وعليه مرط مرحل) هو بالحاء المهملة ونقل القاضي انه وقع لبعض رواة كتاب مسلم بالحاء ولبعضهم بالجيم والمرحل بالحاء هو الموشي المنقوش عليه صور رجال الابل وبالجيم عليه صور المراجل وهي القدور واما المرط فبكسر الميم وهو كساء
[ 195 ]
جمعه مروط وسبق بيانه مرات قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت قيل هو الشك وقيل العذاب وقيل الاثم قال الأزهري الرجس اسم لكل مستقذر من عمل من فضائل زيد بن حارثة وابنه أسامة رضي الله عنهما قوله (ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل في القرآن ادعوهم لآبائهم) قال العلماء كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيدا ودعاه ابنه وكانت العرب تفعل ذلك يتبنى الرجل مولاه أو غيره فيكون ابنا له يوارثه وينتسب إليه حتى نزلت الاية فرجع كل إنسان الى نسبه إلا من لم يكن له نسب معروف فيضاف إلى مواليه كما قال الله تعالى فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في
[ 196 ]
الدين ومواليكم قوله صلى الله عليه وسلم (وإن كان لخليقا للإمارة) أي حقيقا بها فيه جواز إمارة العتيق وجواز تقديمه على العرب وجواز تولية الصغير على الكبار فقد كان أسامة صغيرا جدا توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة وقيل عشرين وجواز تولية المفضول على الفاضل للمصلحة وفي هذه الأحاديث فضائل ظاهرة لزيد ولأسامة رضي الله عنهما ويقال طعن في الإمرة والعرض والنسب ونحوها يطعن بالفتح وطعن بالرمح وإصبعه وغيرها يطعن بالضم هذا هو المشهور وقيل لغتان فيهما والإمرة بكسر الهمزة الولاية وكذلك الإمارة باب من فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قوله (قال عبد الله بن جعفر لإبن الزبير أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس فحملنا وتركك) معناه قال ابن جعفر فحملنا وتركك وتوضحه الروايات بعده وقد توهم القاضي عياض أن القائل فحملنا هو ابن الزبير وجعله خلطا في رواية مسلم وليس كما قال بل صوابه
[ 197 ]
ما ذكرناه وأن القائل فحملنا وتركك ابن جعفر قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته) هذه سنة مستحبة أن يتلقى الصبيان المسافر وأن يركبهم وأن يردفهم ويلاطفهم والله اعلم
[ 198 ]
باب فضائل خديجة قوله صلى الله عليه وسلم (خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد وأشار وكيع الى السماء والارض) أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها وأن المراد به جميع نساء الارض أي كل من بين السماء والارض من النساء والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الارض في عصرها وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه قال القاضي ويحتمل أن المراد أنهما من خير نساء الارض والصحيح الاول قوله صلى الله عليه وسلم (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون) يقال كمل بفتح الميم وضمها وكسرها ثلاث لغات مشهورات الكسر ضعيف قال القاضي هذا الحديث يستدل به من يقول بنبوة النساء ونبوة آسية ومريم والجمهور على أنهما ليستا نبيتين بل هما صديقتان ووليتان من أولياء الله تعالى ولفظة الكمال تطلق على تمام الشئ وتناهيه في بابه والمراد هنا التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى قال القاضي فإن قلنا هما نبيتان
[ 199 ]
فلا شك أن غيرهما لا يلحق بهما وإن قلنا وليتان لم يمتنع أن يشاركهما من هذه الأمة غيرهما هذا كلام القاضي وهذا الذي نقله من القول بنبوتهما غريب ضعيف وقد نقل جماعة الإجماع على عدمها والله اعلم قوله صلى الله عليه وسلم (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) قال العلماء معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد وثريد مالا لحم فيه افضل من مرقه والمراد بالفضيلة نفعه والشبع منه وسهولة مساغه والالتذاذ به وتيسر تناوله وتمكن الانسان من أخذ كفايته منه بسرعة وغير ذلك فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الاطعمة وفضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لإحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة قوله (عن أبي هريرة قال أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه آدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) هذا الحديث من مراسيل الصحابة وهو حجة عند الجماهير كما سبق وخالف فيه الأستاذ أبو إسحق
[ 200 ]
الاسفرائني لأن أبا هريرة لم يدرك أيام خديجة فهو محمول على أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي ولم يذكر أبو هريرة هنا سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقوله أولا قد أتتك معناه توجهت اليك وقوله فإذا هي أتتك أي وصلتك فاقرأ عليها السلام أي سلم عليها وهذه فضائل ظاهرة لخديجة رضي الله عنها وقوله ببيت من قصب قال جمهور العلماء المراد به قصب اللؤلؤ المجوف كالقصر المنيف وقيل قصب من ذهب منظوم بالجوهر قال أهل اللغة القصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف قالوا ويقال لكل مجوف قصب وقد جاء في الحديث مفسرا ببيت من لؤلؤة محياة وفسروه بمجوفة قال الخطابي وغيره المراد بالبيت هنا القصر وأما الصخب فبفتح الصاد والخاء وهو الصوت المختلط المرتفع والنصب المشقة والتعب ويقال فيه نصب بضم النون وإسكان الصاد وبفتحهما لغتان حكاهما القاضي وغيره كالحزن والحزن والفتح أشهر وأفصح وبه جاء القرآن وقد نصب الرجل بفتح النون
[ 201 ]
وكسر الصاد إذا أعيا قوله (عن عائشة قالت هلكت خديجة قبل أن يتزوجني بثلاث سنين) تعني قبل أن يدخل بها لا قبل العقد وإنما كان قبل العقد بنحو سنة ونصف قوله (يهديها الى خلائلها) أي صدائقها جمع خليلة وهي الصديقة قوله صلى الله عليه وسلم (رزقت حبها) فيه إشارة الى أن حبها فضيلة حصلت
[ 202 ]
قولها (فارتاح لذلك أي هش لمجيئها وسر بها لتذكره بها خديجة وأيامها وفي هذا كله دليل لحسن العهد وحفظ الود ورعاية حرمة الصاحب والعشير في حياته ووفاته وإكرام أهل ذلك الصاحب قولها (عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين) معناه عجوز كبيرة جدا حتى قد سقطت أسنانها من الكبر ولم يبق لشدقها بياض شئ من الأسنان إنما بقي فيه حمرة لثاتها قال القاضي قال المصري وغيره من العلماء الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبة عليهن فيها لما جبلن عليه من ذلك ولهذا لم تزجر عائشة عنها قال القاضي وعندي أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها ولعلها لم تكن بلغت حينئذ باب فضائل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قوله صلى الله عليه وسلم (جاءني بك الملك في سرقة من حرير) هي بفتح السين المهملة والراء وهي الشقق البيض من الحرير قاله أبو عبيدة وغيره قوله صلى الله عليه وسلم (فأقول إن يك من عند الله يمضه) قال القاضي إن كانت هذه الرؤيا قبل النبوة وقبل تخليص أحلامه صلى اله عليه وسلم
[ 203 ]
من الأضغاث فمعناها إن كانت رؤيا حق وإن كانت بعد النبوة فلها ثلاثة معان أحدهما أن المراد إن تكن الرؤيا على وجهها وظاهرها لا تحتاج الى تعبير وتفسير فسيمضه الله تعالى وينجزه فالشك عائد الى أنها رؤيا على ظاهرها أم تحتاج الى تعبير وصرف على ظاهرها الثاني أن المراد إن كانت هذه الزوجة في الدنيا يمضها الله فالشك أنها زوجته في الدنيا أم في الجنة الثالث أنه لم يشك ولكن أخبر على التحقيق وأتى بصورة الشك كما قال أأنت أم أم سالم وهو نوع من البديع عند أهل البلاغة يسمونه تجاهل العارف وسماه بعضهم مزج الشك باليقين قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى الى قولها يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك) قال القاضي مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم هي مما سبق من الغيرة التي عفى عنها للنساء في كثير من الأحكام كما سبق لعدم انفكاكهن منها حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة قال واحتج بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله ولولا ذلك لكان على عائشة في ذلك من الحرج ما فيه لأن الغضب على النبي صلى الله عليه وسلم وهجره كبيرة عظيمة ولهذا قالت لا أهجر إلا اسمك فدل على أن قلبها وحبها كما كان وإنما الغيرة في النساء لفرط المحبة قال القاضي واستدل بعضهم بهذا أن الاسم غير المسمى في المخلوقين وأما في حق الله تعالى فالاسم هو المسمى قال القاضي وهذا كلام من لا تحقيق
[ 204 ]
عنده من معنى المسألة لغة ولا نظرا ولا شك عند القائلين بأن الاسم هو المسمى من أهل السنة وجماهير أئمة اللغة أو مخالفيهم من المعتزلة أن الاسم قد يقع أحيانا والمراد به التسمية حيث كان في خالق أو مخلوق ففي حق الخالق تسمية المخلوق له باسمه وفعل المخلوق ذلك بعباراته المخلوقة وأما أسماؤه سبحانه وتعالى التي سمى بها نفسه فقديمة كما أن ذاته وصفاته قديمة وكذلك لا يختلفون أن لفظة الاسم إذا تكلم بها المخلوق فتلك اللفظة والحروف والأصوات المقطعة المنفهم منها الاسم أنها غير الذات بل هي التسمية وإنما الاسم الذي هو الذات ما يفهم منه من خالق ومخلوق هذا آخر كلام القاضي قوله (عن عائشة أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القاضي فيه جواز اللعب بهن قال وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن قال وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن وروي عن مالك كراهة شرائهن وهذا محمول على كراهة الاكتساب بها وتنزيه ذوي المروآت عن تولي بيع ذلك لا كراهة اللعب قال ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن وقالت طائفة هو منسوخ بالنهي عن الصور هذا كلام القاضي قولها (وكانت تأتيني صواحبي فكن ينقمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يسر بهن الي) معنى ينقمعن يتغيبن حياء منه وهيبة وقد يدخلن في بيت ونحوه وهو قريب من الاول ويسر بهن بتشديد الراء أي يرسلهن وهذا
[ 205 ]
من لطفه صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته قولها (يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة) معناه يسألنك التسوية بينهن في محبة القلب وكان صلى الله عليه وسلم يسوي بينهن في الافعال والمبيت ونحوه وأما محبة القلب فكان يحب عائشة أكثر منهن وأجمع المسلمون على أن محبتهن لا تكليف فيها ولا يلزمه التسوية فيها لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله سبحانه وتعالى وإنما يؤمر بالعدل في الافعال وقد اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان يلزمه القسم بينهن في الدوام والمساواة في ذلك كما يلزم غيره أم لا يلزمه بل يفعل ما يشاء من إيثار وحرمان فالمراد بالحديث طلب المساواة في محبة القلب لا العدل في الافعال فإنه كان حاصلا قطعا ولهذا كان يطاف به
[ 206 ]
صلى الله عليه وسلم في مرضه عليهن حتى ضعف فاستأذنهن في أن يمرض في بيت عائشة فأذن له قولها (يناشدنك) أي يسألنك قولها (هي التي تساميني) أي تعادلني وتضاهيني في الحظوة والمنزلة الرفيعة مأخوذ من السمو وهو الارتفاع قولها (ما عدا سورة من حد كانت فيها تسرع منها الفيئة) هكذا هو في معظم النسخ سورة من حد بفتح الحاء بلا هاء وفي بعضها من حده بكسر الحاء وبالهاء وقولها سورة هي بسين مهملة مفتوحة ثم واو ساكنة ثم راء ثم تاء والسورة الثوران وعجلة الغضب وأما الحدة فهي شدة الخلق وثورانه ومعنى الكلام أنها كاملة الأوصاف إلا أن فيها شدة خلق وسرعة غضب تسرع منها الفيئة بفتح الفاء وبالهمز وهي الرجوع أي إذا وقع ذلك منها رجعت عنه سريعا ولا تصر عليه وقد صحف صاحب التحرير في هذا الحديث تصحيفا قبيحا جدا فقال ما عدا سودة بالدال
[ 207 ]
وجعلها سودة بنت زمعة وهذا من الغلط الفاحش نبهت عليه لئلا يغتر به قولها (ثم وقعت بي فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر فلما وقعت بها لم أنشبها حين أنحيت عليها) أما أنحيت فبالنون المهملة أي قصدتها واعتمدتها بالمعارضة وفي بعض النسخ حتى بدل حين وكلاهما صحيح ورجح القاضي حين بالنون ومعنى لم أنشبها لم أمهلها وفي الرواية الثانية لم أنشبها أن أثخنتها عليه بالعين المهملة وبالياء وفي بعض النسخ بالغين المعجمة واثخنتها بالثاء المثلثة والخاء المعجمة أي قمعتها وقهرتها وقولها أولا ثم وقعت بي أي استطالت علي ونالت مني بالوقيعة في أعلم أنه ليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة ولا أشار بعينه ولا غيرها بل لا يحل اعتقاد ذلك فانه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه خائنة الأعين وإنما فيه أنها انتصرت لنفسها فلم ينهها وأما قوله صلى الله عليه وسلم أنها ابنة أبي بكر فمعناه الإشارة الى كمال فهمها وحسن نظرها والله اعلم
[ 208 ]
قولها (قبضه الله بين سحري ونحري) السحر بفتح السين المهملة وضمها واسكان الحاء وهي الرئة وما تعلق بها قال القاضي وقيل إنما هو شجري بالشين المعجمة والجيم وشبك هذا القائل أصابعه وأومأ الى أنها ضمته الى نحرها مشبكة يديها عليه والصواب المعروف هو الأول قوله (فلما كان يومي قبضه الله) أي يومها الأصيل بحساب الدور والقسم وإلا فقد كان صار جميع الأيام في بيتها قولها (وأخذته بحة) هي بضم الباء الموحدة وتشديد الحاء وهي غلظ في الصوت قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق) وفي رواية الرفيق الأعلى الصحيح الذي عليه الجمهور أن المراد بالرفيق الأعلى الانبياء الساكنون أعلى عليين ولفظة رفيق تطلق على الواحد والجمع قال الله تعالى أولئك رفيقا وقيل هو الله تعالى يقال الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة فهو فعيل بمعنى فاعل وأنكر الأزهري هذا القول وقيل أراد مرتفق الجنة
[ 209 ]
قولها (فأشخص بصره إلى السماء) هو بفتح الخاء أي رفعه إلى السماء ولم يطرف قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة على عائشة وحفصة) أي خرجت القرعة لهما ففيه صحة الاقراع في القسم بين الزوجات وفي الأموال وفي العتق ونحو
[ 210 ]
ذلك مما هو مقرر في كتب الفقه مما في معنى هذا وباثبات القرعة في هذه الأشياء قال الشافعي وجماهير العلماء وفيه أن من أراد سفرا ببعض نسائه أقرع بينهن كذلك وهذا الاقراع عندنا واجب في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم وأما النبي صلى الله عليه وسلم ففي وجوب القسم في حقه خلاف قدمناه مرات فمن قال بوجوب القسم يجعل إقراعه واجبا ومن لم يوجبه يقول إقراعه صلى الله عليه وسلم من حسن عشرته ومكارم أخلاقه قولها (إن حفصة قالت لعائشة ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك) قال القاضي قال المهلب هذا دليل على أن القسم لم يكن واجبا عليه صلى الله عليه وسلم فلهذا تحيلت حفصة على عائشة بما فعلت ولو كان واجبا لحرم ذلك على حفصة وهذا الذي ادعاه ليس بلازم فإن القائل بأن القسم واجب عليه لا يمنع حديث الأخرى في غير وقت عماد القسم قال أصحابنا يجوز أن يدخل في غير وقت عماد القسم إلى غير صاحبة النوبة فيأخذ المتاع أو يضعه أو نحوه من الحاجات وله أن يقبلها ويلمسها من غير إطالة وعماد القسم في حق المسافر هو وقت النزول فحالة السير ليست منه سواء كان ليلا أو نهارا قولها (جعلت رجلها بين الأذخر وتقول إلى آخره) هذا الذي فعلته وقالته حملها عليه فرط الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن أمر الغيرة معفو عنه قوله صلى الله عليه وسلم
[ 211 ]
لعائشة رضي الله عنها (أن جبريل يقرأ عليك السلام قالت فقلت وعليه السلام ورحمة الله) فيه فضيلة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها وفيه استحباب بعث السلام ويجب على الرسول تبليغه وفيه بعث الأجنبي السلام إلى الأجنبية الصالحة إذا لم يخف ترتب مفسدة وأن الذي يبلغه السلام يرد عليه قال أصحابنا وهذا الرد واجب على الفور وكذا لو بلغه سلام في ورقة من غائب لزمه أن يرد السلام عليه باللفظ على الفور إذا قرأه وفيه أنه يستحب في الرد أن يقول وعليك أو وعليكم السلام بالواو فلو قال عليكم السلام أو عليكم أجزأه على الصحيح وكان تاركا للأفضل وقال بعض أصحابنا لا بجزئه وسبقت مسائل السلام في بابه مستوفاة ومعنى يقرأ عليك السلام
[ 212 ]
يسلم عليك قوله صلى الله عليه وسلم (يا عائش) دليل لجواز الترخيم ويجوز فتح الشين وضمها حديث أم زرع قوله (أحمد بن جناب) بالجيم والنون قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه المبهمات لا أعلم أحدا سمى النسوة المذكورات في حديث أم زرع إلا من الطريق الذي أذكره وهو غريب جدا فذكره وفيه أن الثانية اسمها عمرة بنت عمرو واسم الثالثة حنى بنت نعب والرابعة مهدد بنت أبي مرزمة والخامسة كبشة والسادسة هند والسابعة حنى بنت علقمة والثامنة بنت أوس ابن عبد والعاشرة كبشة بنت الأرقم والحادية عشر أم زرع بنت أكهل بن ساعد قولها (جلس إحدى عشرة امرأة) هكذا هو في معظم النسخ وفي بعضها جلسن بزيادة نون وهي لغة قليلة سبق بيانها في مواضع منها حديث يتعاقبون فيكم ملائكة وإحدى عشرة وتسع عشرة وما بينهما يجوز فيه اسكان الشين وكسرها وفتحها والاسكان أفصح وأشهر قولها (زوجي لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل) قال أبو عبيد وسائر أهل الغريب والشراح
[ 213 ]
المراد بالغث المهزول وقولها على رأس جبل وعر أي صعب الوصول إليه فالمعنى أنه قليل الخير من أوجه منها كونه كلحم الجمل لا كلحم الضأن ومنها أنه مع ذلك غث مهزول ردئ ومنها أنه صعب التناول لا يوصل إليه إلا بمشقة شديدة هكذا فسره الجمهور وقال الخطابي قولها على رأس جبل أي يترفع ويتكبر ويسمو بنفسه فوق موضعها كثيرا أي أنه يجمع إلى قلة خيره تكبره وسوء الخلق قالوا وقولها ولا سمين فينتقل أي تنقله الناس إلى بيوتهم ليأكلوه بل يتركوه رغبة عنه لرداءته قال الخطابي ليس فيه مصلحة يحتمل سوء عشرته بسببها يقال أنقلت الشئ بمعنى نقلته وروي في غير هذه الرواية ولا سمين فينتقي أي يستخرج نقيه والنقي بكسر النون واسكان القاف هو المخ يقال نقوت العظم ونقيته وانتقيته إذا استخرجت نقيه قولها (قالت الثانية زوجي لا أبث خبره إني أخاف أن لا أذره أن أذكره أذكر عجره بجره) فقولها لا أبث خبره أي لا أنشره وأشيعه إني أخاف أن لا أذره فيه تأويلان أحدهما لابن السكيت وغيره أن الهاء عائدة على خبره فالمعنى أن خبره طويل إن شرعت في تفصيله لا أقدر على إتمامه لكثرته والثانية أن الهاء عائدة على الزوج وتكون لا زائدة كما في قوله تعالى ما منعك أن لا تسجد ومعناه أني أخاف أن يطلقني فأذره وأما عجره وبجره فالمراد بهما عيوبه وقال الخطابي وغيره أرادت بهما عيوبه الباطنة وأسراره الكامنة قالوا وأصل العجر أن يتعقد العصب أو العروق حتى تراها ناتئة من الجسد والبجر نحوها إلا أنها في البطن خاصة واحدتها بجرة ومنه قيل رجل أبجر إذا كان نأتى السرة عظيمها ويقال أيضا رجل أبجر إذا كان عظيم البطن وامرأة بجراء والجمع بجر وقال الهروي قال ابن الأعرابي العجرة نفخة في الظهر فإن كانت في السرة فهي بجرة قولها (قالت الثالثة زوجي العشنق إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق) فالعشنق بعين مهملة مفتوحة ثم شين معجمة مفتوحة ثم نون مشددة ثم قاف وهو الطويل ومعناه ليس فيه أكثر من طول بلا نفع فإن ذكرت عيوبه طلقني وإن سكت عنها علقني فتركني لا عزباء ولا مزوجة
[ 214 ]
(قالت الرابعة زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة) هذا مدح بليغ ومعناه ليس فيه أذى بل هو راحة ولذاذة عيش كليل تهامة لذيذ معتدل ليس فيه حر ولا برد مفرط ولا أخاف له غائلة لكرم أخلاقه ولا يسأمني ويمل صحبتي (قالت الخامسة زوجي إن دخل فهد وإن خرج أسد ولا يسأل عما عهد) هذا أيضا مدح بليغ فقولها فهد بفتح الفاء وكسر الهاء تصفه إذا دخل البيت بكثرة النوم والغفلة في منزله عن تعهد ما ذهب من متاعه وما بقي وشبهته بالفهد لكثرة نومه يقال أنوم من فهد وهو معنى قولها ولا يسأل عما عهد أي لا يسأل عما كان عهده في البيت من ماله ومتاعه وإذا خرج أسد بفتح الهمزة وكسر السين وهو وصف له بالشجاعة ومعناه إذا صار بين الناس أو خالط الحرب كان كالأسد يقال أسد واستأسد قال القاضي وقال ابن أبي أويس معنى فهد إذا دخل البيت وثب على وثوب الفهد فكأنها تريد ضربها والمبادرة بجماعها والصحيح المشهور التفسير الأول (قالت السادسة زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن إضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث) قال العلماء اللف في الطعام الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منها شيئا والاشتفاف في الشرب أن يستوعب جميع ما في الإناء مأخوذ من الشفافة بضم الشين وهي ما بقي في الإناء من الشراب فإذا شربها قيل اشتفها وتشافها وقولها ولا يولج الكف ليعلم البث قال أبو عبيد أحسبه كان بجسدها عيب أو داء كنت به لأن البث الحزن فكان لا يدخل يده في ثوبها ليمس ذلك فيشق عليها فوصفته بالمروءة وكرم الخلق وقال الهروي قال ابن الأعرابي هذا ذم له أرادت وإن اضطجع ورقد التف في ثيابه في ناحية ولم يضاجعني ليعلم ما عندي من محبته قال ولا بث هناك إلا محبتها الدنو من زوجها وقال آخرون أرادت أنه لا يفتقد أموري ومصالحي قال ابن الأنباري رد ابن قتيبة على أبي عبيدة تأويله لهذا الحرف وقال كيف تمدحه بهذا وقد ذمته في صدر الكلام قال ابن الأنباري ولا رد على أبي عبيد
[ 215 ]
الأن النسوة تعاقدن أن لا يكتمن شيئا من أخبار أزواجهن فمنهن من كانت أوصاف زوجها كلها حسنة فوصفتها ومنهن من كانت أوصاف زوجها قبيحة فذكرتها ومنهن من كانت أوصافه فيها حسن وقبيح فذكرتهما والى قول ابن الأعرابي وابن قتيبة ذهب الخطابي وغيره واختاره القاضي عياض (قالت السابعة زوجي غياياء أو عياياء طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك أو جمع كلا لك) هكذا وقع في هذه الرواية غياياء بالغين المعجمة أو عياياء بالمهملة وفي أكثر الروايات بالمعجمة وأنكر أبو عبيد وغيره المعجمة وقالوا الصواب المهملة وهو الذي لا يلقح وقيل هو العنين الذي تعييه مباضعة النساء ويعجز عنها وقال القاضي وغيره غياياء بالمعجمة صحيح وهو مأخوذ من الغياية وهي الظلمة وكل ما أظل الشخص ومعناه لا يهتدي الى سلك أو أنها وصفته بثقل الروح وأنه كالظل المتكاثف المظلم الذي لا إشراق فيه أو أنها أرادت أنه غطيت عليه أموره أو يكون غياياء من الغي وهو الإنهماك في الشر أو من الغي الذي هو الخيبة قال الله تعالى فسوف يلقون غيا وأما طباقاء فمعناه المطبقة عليه أموره حمقا وقيل الذي يعجز عن الكلام فتنطبق شفتاه وقيل هو العي الأحمق الفدم وقولها شجك أي جرحك في الرأس فالشجاج جراحات الرأس والجراح فيه وفي الجسد وقولها فلك الفل الكسر والضرب ومعناه أنها معه بين شج رأس وضرب وكسر عضو أو جمع بينهما وقيل المراد بالفل هنا الخصومة وقولها كل داء له داء أي جميع أدواء الناس مجتمعة فيه (قالت الثامنة زوجي الريح ريح زرنب والمس مس أرنب) الزرنب نوع من الطيب معروف قيل أرادت طيب ريح جسده وقيل طيب ثيابه في الناس وقيل لين خلقه وحسن عشرته والمس مس أرنب صريح في لين الجانب وكرم الخلق (قالت التاسعة زوجي رفيع العماد طويل النجاد عظيم الرماد قريب البيت من النادي) هكذا هو في النسخ النادي بالياء وهو الفصيح في العربية لكن المشهور في الرواية حذفها ليتم السجع قال
[ 216 ]
العلماء معنى رفيع العماد وصفه بالشرف وسناء الذكر وأصل العماد عماد البيت وجمعه عمد وهي العيدان التي تعمد بها البيوت أي بيته في الحسب رفيع في قومه وقيل إن بيته الذي يسكنه رفيع العماد ليراه الضيفان وأصحاب الحوائج فيقصدوه وهكذا بيوت الأجواد وقولها طويل النجاد بكسر النون تصفه بطول القامة والنجاد حمائل السيف فالطويل يحتاج الى طول حمائل سيفه والعرب تمدح بذلك قولها عظيم الرماد تصفه بالجود وكثرة الضيافة من اللحوم والخبز فيكثر وقوده فيكثر رماده وقيل لأن ناره لا تطفأ بالليل لتهتدي بها الضيفان والأجواد يعظمون النيران في ظلام الليل ويوقدونها على التلال ومشارف الأرض ويرفعون الأقباس على الأيدي لتهتدي بها الضيفان وقولها قريب البيت من النادي قال أهل اللغة النادي والناد والندى والمنتدى مجلس القوم وصفته بالكرم والسؤدد لانه لا يقرب البيت من النادي إلا من هذه صفته لأن الضيفان يقصدون النادي ولأن اصحاب النادي يأخذون ما يحتاجون إليه في مجلسهم من بيت قريب النادي واللئام يتباعدون من النادي (قالت العاشرة زوجي مالك فما مالك مالك خير من ذلك له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك) معناه أن له إبلا كثيرا فهي باركة بفنائه لا يوجهها تسرح الا قليلا قدر الضرورة ومعظم أوقاتها تكون باركة بفنائه فإذا نزل به الضيفان كانت الابل حاضرة فيقريهم من ألبانها ولحومها والمزهر بكسر الميم العود الذي يضرب أرادت أن زوجها عود إبله إذا نزل به الضيفان نحر لهم منها واتاهم بالعيدان والمعازف والثمراب فإذا سمعت الابل صوت المزهر علمن أنه قد جاءه الضيفان وأنهن منحورات هوالك هذا تفسير أبي عبيد والجمهور وقيل مباركها كثيرة لكثرة ما ينحر منها للأضياف قال هؤلاء ولو كانت كما قال الأولون لماتت هزالا وهذا ليس بلازم فإنها تسرح وقتا تأخذ فيه حاجتها ثم تبرك بالفناء وقيل كثيرات المبارك أي مباركها في الحقوق والعطايا والحمالات والضيفان كثيرة ومراعيها قلية لأنها
[ 217 ]
تصرف في هذه الوجوه قاله ابن السكيت قال القاضي عياض وقال أبو سعيد النيسابوري إنما هو إذا سمعن صوت المزهر بضم الميم وهو موقد النار للأضياف قال ولم تكن العرب تعرف المزهر بكسر الميم الذي هو العود إلا من خالط الخضر قال القاضي وهذا خطأ منه لأنه لم يروه أحد بضم الميم ولأن المزهر بكسر الميم مشهور في أشعار العرب ولأنه لا يسلم له أن هؤلاء النسوة من غير الحاضرة فقد جاء في رواية أنهن من قرية من قرى اليمن قالت الحادية عشرة وفي بعض النسخ الحادي عشرة وفي بعضها الحادية عشر والصحيح الأول قولها (أناس من حلي أذني) هو هو بتشديد الياء من أذني على التثنية والحلى بضم الحاء وكسرها لغتان مشهورتان والنوس بالنون والسين المهملة الحركة من كل شئ متدل يقال منه ناس ينوس نوسا وأناسه غيره أناسة ومعناه حلاني قرطة وشنوفا فهي تنوس أي تتحرك لكثرتها قولها (وملأ من شحم عضدي) وقال العلماء معناه أسمنني وملأ بدني شحما ولم ترد اختصاص العضدين لكن إذا سمنتا سمن غيرهما قولها (وبجحني فبجحت الى نفسي) هو بتشديد جيم بجحني فبجحت بكسر الجيم وفتحها لغتان مشهورتان أفصحهما الكسر قال الجوهري الفتح ضعيفة ومعناه فرحني ففرحت وقال ابن الأنباري وعظمني فعظمت عند نفسي يقال فلان يتبجح بكذا أي يتعظم ويفتخر قولها (وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق) أما قولها في غنيمة فبضم الغين تصغير الغنم أرادت أن أهلها كانوا أصحاب غنم لا أصحاب خيل وإبل لأن الصهيل أصوات الخيل والأطيط أصوات الابل وحنينها والعرب لا تعتد بأصحاب الغنم وإنما يعتدون بأهل الخيل والابل وأما قولها بشق فهو بكسر الشين وفتحها والمعروف في روايات التحديث والمشهور لأهل الحديث كسرها والمعروف عند أهل اللغة فتحها قال أبو عبيد هو بالفتح قال والمحدثون يكسرونه قال وهو موضع وقال الهروي الصواب الفتح قال ابن الأنباري هو بالكسر والفتح وهو موضع وقال ابن أبي أويس وابن حبيب يعني بشق جبل لقلتهم وقلة غنمهم وشق الجبل ناحيته وقال القبتيني ويقطونه بشق بالكسر أي بشظف من العيش وجهد قال القاضي عياض هذا عندي أرجح واختاره أيضا غيره فحصل فيه ثلاثة أقوال وقولها ودائس هو الذي يدوس الزرع في بيدره قال الهروي وغيره يقال داس
[ 218 ]
الطعام درسه وقيل الدائس الأبدك قولهاومنق هو بضم الميم فتح النون وتشديد القاف ومنهم من يكسر النون والصحيح المشهور فتحها قال أبو عبيد هو بفتحها قال والمحدثون يكسرونها ولا أدري ما معناه قال القاضي روايتان فيه بالفتح ثم ذكر قول أبي عبيد قال وقاله ابن أبي أويس بالكسر وهو من النقيق وهو أصوات المواشي تصفه بكثرة أمواله ويكون منق من أنق إذا صار ذا نقيق أو دخل في النقيق والصحيح عند الجمهور فتحها والمراد به الذي ينقى الطعام أي يخرجه من بيته وقشوره وهذا أجود من قول الهروي هو الذي ينقيه بالغربال والمقصود أنه صاحب زرع ويدوسه وينقيه قولها (فعنده أقول فلا أقبح وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح) معناه لا يقبح قولي فيرد بل يقبل مني ومعنى أتصبح أنام الصبحة وهي بعد الصباح أي أنها مكفية بمن يخدمها فتنام وقولها فأتقنح هو بالنون بعد القاف هكذا هو في جميع النسخ بالنون قال القاضي لم نروه في صحيح البخاري ومسلم إلا بالنون وقال البخاري قال بعضهم فأتقمح بالميم قال وهو أصح وقال أبو عبيد هو بالميم قال وبعض الناس يرويه بالنون ولا أدري ما هذا وقال آخرون النون والميم صحيحتان فأيهما معناه أروي حتى أدع الشراب من شدة الري ومنه قمح البعير يقمح إذا رفع رأسه من الماء بعد الري قال أبو عبيد ولا أراها قالت هذه إلا لعزة الماء عندهم ومن قاله بالنون فمعناه أقطع المشرب وأتمهل فيه وقيل هو الشرب بعد الري قال أهل اللغة قنحت الابل إذا تكارهت وتقنحته أيضا قولها (عكومها رداح) قال أبو عبيد وغيره العكوم الأعدال والأوعية التي فيها الطعام والامتعة واحدها عكم بكسر العين ورداح أي عظام كبيرة ومنه قيل للمرأة رداح إذا كانت عظيمة الأكفال فإن قيل رداح مفردة فكيف وصف بها العكوم والجمع لا يجوز وصفه بالمفرد قال القاضي جوابه أنه أراد كل عكم منها رداح أو يكون رداح هنا مصدرا كالذهاب قولها (وبيتها فساح) بفتح الفاء وتخفيف السين المهملة أي واسع والفسيح مثله هكذا فسره الحمهور قال القاضي ويحتمل أنها أرادت كثرة الخير والنعمة . قولها (مضجعة كمسل
[ 219 ]
شطبة) المسل بفتح الميم والسين المهملة وتشديد اللام وشطبة بشين معجمة ثم طاء مهملة ساكنة ثم موحدة ثم هاء وهي ما شطب من جريد النخل أي شق وهي السعفة لأن الجريدة تشقق منها قضبان رقاق مرادها أنه مهفهف خفيف اللحم كالشطبة وهو مما يمدح به الرجل والمسل هنا مصدر بمعنى المسلول أي ماسل من قشره وقال ابن الأعرابي وعيره أرادت بقولها كمسل شطبة أنه كالسيف سل من غمده قولها (وتشعبه ذراع الجفرة) الذراع مؤنثة وقد تذكر والجفرة بفتح الجيم وهي الأنثى من أولاد المعز وقيل من الضأن وهي ما بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها والذكر جفر لأنه جفر جنباه أي عظما قال القاضي قال أبو عبيد وغيره الجفرة من أولاد المعز وقال ابن الانباري وابن دريد من أولاد الضأن والمراد أنه قليل الأكل والعرب تمدح به قولها طوع ابيها وطوع أمها أي مطيعة لهما منقادة لأمرهما قولها وملء كسائها أي ممتلئة الجسم سمينته وقالت في الرواية الأخرى صفر ردائها بكسر الصاد والصفر الخالي قال الهروي أي ضامرة البطن والرداء ينتهي الى البطن وقال غيره معناه أنها خفيفة أعلى البدن وهو موضع الرداء ممتلئة أسفله وهو موضع الكساء ويؤيد هذا أنه جاء في رواية وملء أزارها قال القاضي والأولى أن المراد امتلأ منكبيها وقيام نهديها بحيث يرفعان الرداء عن أعلى جسدها فلا يمسه فيصير خاليا بخلاف أسفلها قولها (وغيظ جارتها) قالوا المراد بجارتها ضرتها يغيظها ما ترى من حسنها وحمالها وعفتها وأدبها وفي الرواية الأخرى وعقر جارتها هكذا هو في النسخ عقر بفتح العين سكون القاف قال القاضي كذا ضيطناه عن جميع شيوخنا قال وضبطه الحياني عبر بضم العين واسكان الباء الموحدة وكذا ذكره ابن الاعرابي وكأن الجياني أصلحه من كتاب الانباري وفسره الانباري بوجهين أحدهما أنه من الاعتبار أي ترى من حسنها وعفتها وعقلها ما تعتبر به والثاني من العبرة وهي البكاء أي ترى من ذلك ما يبكيها لغيظها وحسدها ومن رواه بالقاف فمعناه تغيظها فتصير كمعقور وقيل تدهشها من قولهم عقر ذ ا دهش قولها (لا تبث حديثنا تبثيثا) هو بالباء الموحدة بين المثناة والمثلثة أي لا تشعه
[ 220 ]
وتظهره بل تكتم سرنا وحديثنا كله وروي في غير مسلم تنث وهو بالنون وهو قريب من الأول أي لا تظهره قولها (ولا تنقث ميرتنا تنقيبثا) الميرة الطعام المجلوب ومعناه لا تفسده ولا تفرقه ولا تذهب به ومعناه وصفها بالأمانة قولها (ولا تملأ بيتنا تعشيشا) هو بالعين المهملة أي لا تترك الكناسة والقمامة فيه مفرقة كعش الطائر بل هي مصلحة للبيت معتنية بتنظيفه وقيل معناه لا تخوننا في طعامنا في زوايا البيت كأعشاش الطير وروي في غير مسلم تغشيشا بالغين المعجمة من الغش قيل في الطعام وقيل من النميمة أي لا تتحدث بنميمة قولها (والأوطاب تمخض) هو جمع وطب بفتح الواو واسكان الطاء وهو جمع قليل النظير وفي رواية في غير مسلم والوطاب وهو الجمع الاصلي وهي سقية اللبن التي يمخض فيها وقال أبو عبيد هو جمع وطبة قولها (يلعبان من تحت خصرها برمانتين) قال أبو عبيد معناه أنها ذات كفل عظيم فإذا استلقت على قفاها ! تا الكفل بها من الارض حتى تصير تحتها فجوة يجري فيها الرمان قال القاضي قال بعضهم المراد بالرمانتين هنا ثدياها ومعناه أن لها نهدين حسنين صغيرين كالرمانتين قال القاضي هذا أرجح لا سيما وقد روي من تحت صدرها ومن تحت درعها ولأن العادة لم تجر برمي الصبيان الرمان تحت ظهور أمهاتهم ولا جرت العادة ايضا باستلقاء النساء كذلك حتى يشاهده منهن الرجال قولها (فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا) أما الاول فبالسين المهملة على المشهور وحكى القاضي عن ابن السكيت أنه حكي فيه المهملة والمعجمة وأما الثاني فبالشين المعجمة بلا خلاف فالاول معناه سيدا شريفا وقيل سخيا والثاني هو الفرس الذي يستشري في سيره أي يلح ويمضي بلا فتور ولا انكسار وقال ابن السكيت هو الفرس الفائق الخيار قولها (وأخذ خطيا) هو بفتح الخاء وكسرها والفتح أشهر ولم يذكر الاكثر غيره وممن حكى الكسر أبو الفتح الهمداني في كتاب الاشتقاق قالوا والخطي الرمح منسوب الى الخط قرية من سيف البحر أي ساحله عند عمان والبحرين قال أبو الفتح قيل لها
[ 221 ]
الخط لأنها على ساحل البحر والساحل يقال له الخط لانه فاصل بين الماء والتراب وسميت الرماح خطية لانها تحمل الى هذا الموضع وتثقف فيه قال القاضي ولا يصح قول من قال أن الخط منبت الرماح قولها (وأراح علي نعما ثريا) أي أتى بها الى مراحها بضم الميم هو موضع مبيتها والنعم الابل والبقر والغنم ويحتمل أن المراد هنا بعضها وهي الابل وادعى القاضي عياض أن أكثر أهل اللغة على أن النعم مختصة بالابل والثرى بالمثلثة وتشديد الياء الكثير من المال وغيره ومنه الثروة في المال وهي كثرته قولها (وأعطاني من كل رائحة زوجا) فقولها من كل رائحة أي مما يروح من الابل والبقر والغنم والعبيد وقولها زوجا أي اثنين ويحتمل أنها أرادت صنفا والزوج يقع على الصنف ومنه قوله تعالى وكنتم أزواجا ثلاثة قولها في الرواية الثانية وأعطاني من كل ذابحة زوجا هكذا هو في جميع النسخ ذابحة بالذال المعجمة وبالباء الموحدة أي من كل ما يجوز ذبحه من الابل والبقر والغنم وغيرها وهي فاعلة بمعنى مفعولة قوله (ميرى أهلك) بكسر الميم من الميرة أي أعطيهم وأفضلي عليهم وصليهم قولها في الرواية الثانية ولا تنقث ميرتنا تنقيثا فقولها تنقث بفتح التاء واسكان النون وضم القاف وجاء قولها تنقيثا مصدرا على غير المصدر وهو جائز كقوله تعالى فتقلبها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ومراده أن هذه الرواية وقعت بالتخفيف كما ضبطناه وفي الرواية السابقة تنقث بضم التاء وفتح النون وكسر القاف المشددة وكلاهما صحيح قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها (كنت لك كأبي زرع لأم زرع) قال العلماء هو تطييب لنفسها وإيضاح لحسن عشرته إياها ومعناه أنا لك كأبي زرع وكان زائدة أو للدوام كقوله تعالى وكان الله غفورا رحيما أي كان فيما مضى وهو باق كذلك والله اعلم قال العلماء في حديث أم زرع هذا فوائد منها استحباب حسن المعاشرة للأهل وجواز الإخبار عن الأمم الخالية وأن المشبه بالشئ لا يلزم كونه مثله في كل شئ ومنها أت كنايات الطلاق لا يقع بها طلاق إلا بالنية لأن النبي صلى الله أي أعطيهم وأفضلي عليهم وصليهم قولها في الرواية الثانية ولا تنقث ميرتنا تنقيثا فقولها تنقث بفتح التاء واسكان النون وضم القاف وجاء قولها تنقيثا مصدرا على غير المصدر وهو جائز كقوله تعالى فتقلبها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ومراده أن هذه الرواية وقعت بالتخفيف كما ضبطناه وفي الرواية السابقة تنقث بضم التاء وفتح النون وكسر القاف المشددة وكلاهما صحيح قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها (كنت لك كأبي زرع لأم زرع) قال العلماء هو تطييب لنفسها وإيضاح لحسن عشرته إياها ومعناه أنا لك كأبي زرع وكان زائدة أو للدوام كقوله تعالى وكان الله غفورا رحيما أي كان فيما مضى وهو باق كذلك والله اعلم قال العلماء في حديث أم زرع هذا فوائد منها استحباب حسن المعاشرة للأهل وجواز الإخبار عن الأمم الخالية وأن المشبه بالشئ لا يلزم كونه مثله في كل شئ ومنها أت كنايات الطلاق لا يقع بها طلاق إلا بالنية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع ومن جملة أفعال أبي زرع أنه طلق امرأته أم زرع
[ 222 ]
كما سبق ولم يقع على النبي صلى الله عليه وسلم طلاق بتشبيهه لكونه لم ينو الطلاق قال المازري قال تعضهم وفيه أن هؤلاء النسوة ذكر بعضهن أزواجهن بما يكره ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم أو أسمائهم وإنما الغيبة المحرمة أن يذكر إنسانا بعينه أو جماعة بأعيانهم قال المازري وإنما يحتاج الى هذا الاعتذار لو كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع امرأة تغتاب زوجها وهو مجهول فأقر على ذلك وأما هذه القضية فإنما حكتها عائشة عن نسوة مجهولات غائبات لكن لو وصفت اليوم امرأة زوجها بما يكرهه وهو معروف عند السامعين كان غيبة محرمة فإن كان مجهولا لا يعرف بعد البحث فهذا لا حرج فيه عند بعضهم كما قدمنا ويجعله كمن قال في العالم من يشرب أو يسرق قال المازري وفيما قاله هذا القائل احتمال قال القاضي عياض صدق القائل المذكور فإنه إذا كان مجهولا عند السامع ومن يبلغه الحديث عنه لم يكن غيبة لأنه لا يتأذى إلا بتعيينه قال وفد قال ابراهيم لا يكون غيبة ما لم يسم صاحبها باسمه أو ينبه عليه بما يفهم به عنه وهؤلاء النسوة مجهولات الأعيان والأزواج لم يثبت لهن إسلام فيحكم فيهن بالغيبة لو تعين فكيف مع الجهالة والله أعلم .