شرح مسلم
النووي ج 14

[ 1 ]
صحيح مسلم بشرح النووي الجزء الرابع عشر
[ 2 ]
باب فضل تمر المدينة فيه قوله صلى الله عليه وسلم (من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسى) وفى الرواية الأخرى من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضر ذلك اليوم سم ولاسحر وفى الرواية الاخرى إن في عجوة العالية شفاء أو إنها ترياق أول البكرة اللابتان هما الحرتان والمراد لابتا المدينة وقد سبق بيانهما مرات والسم معروف وهو بفتح السين وضمها وكسرها والفتح أفصح وقد أوضحته في تهذيب الأسماء واللغات والترياق بكسر التاء وضمها لغتان ويقال
[ 3 ]
درياق وطرياق أيضا كله فصيح قوله صلى الله عليه وسلم (أول البكرة) بنصب أول على الظرف وهو بمعنى الرواية الأخرى من تصبح والعالية ما كان من الحوائط والقرى والعمارات من جهة المدينة العليا مما يلى العليا مما يلى نجدا والسافلة من الجهة الأخرى مما يلى تهامة قال القاضى وأدنى العالية ثلاثة أميال وأبعدها ثمانية من المدينة والعجوة نوع جيد من التمر وفى هذه الأحاديث فضيلة تمر المدينة وعجوتها وفضيلة التصبح بسبع تمرات منه وتخصيص عجوة المدينة دون غيرها وعدد السبع من الأمور التى علمها الشارع ولا نعلم نحن حكمتها فيجب الايمان بها واعتقاد فضلها والحكمة فيها وهذا كاعداد الصلوات ونصب الزكاة وغيرها فهذا هو الصواب في هذا الحديث وأما ما ذكره الامام أبو عبد الله المازرى والقاضى عياض فيه فكلام باطل فلا تلتفت إليه ولا تعرج عليه وقصدت بهذا التنبيه التحذير من الاغترار به والله أعلم باب فضل الكمأة ومداواة العين بها فيه قوله صلى الله عليه وسلم (الكماة من المن وماؤها شفاء للعين) وفى رواية من المن الذى أنزل الله تعالى
[ 4 ]
على بنى اسرائيل أما الكمأة فبفتح الكاف واسكان الميم وبعدها همزة مفتوحة وفى الاسناد الحكم بن عتيبة هو بالتاء المثناة فوق وقد سبق بيانه والحسن العربي بضم العين المهملة وفتح الراء وبعدها نون منسوب الى عرينة واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن فقال أبو عبيد وكثيرون شبهها بالمن الذى كان ينزل على بنى اسرائيل لأنه كان يحصل لهم بلا كلفة ولاعلاج والكمأة تحصل بلا كلفة ولاعلاج ولازرع بزر ولا سقى ولاغيره وقيل هي من المن الذى أنزل الله تعالى على بنى اسرائيل حقيقة عملا بظاهر اللفظ وقوله صلى الله عليه وسلم (وماؤها شفاء للعين) قبل هو نفس الماء مجردا وقيل معناه أن يخلط ماؤها بدواء ويعالج به العين وقيل ان كان لبرودة ما في العين من حرارة فماؤها مجردا شفاء وان كان لغير ذلك فمركب
[ 5 ]
مع غيره والصحيح بل الصواب أن ماؤها مجردا شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه وقد رأيت أنا وغيري في زمننا من كان عمى وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة مجردا فشفى وعاد إليه بصره وهو الشيخ العدل الأيمن الكمال بن عبد الله الدمشقي صاحب صلاح ورواية للحديث وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركابه والله أعلم باب فضيلة الأسود من الكباث فيه جابر (قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران ونحن نجئ الكباث فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالأسود منه فقلنا يا رسول الله كأنك رعيت الغنم قالنعم وهل من نبى الا وقد رعاها أو نحو هذا من القول) الكباث بفتح الكاف وبعدها مخففة موحدة ثم ألف ثم مثلثة قال
[ 6 ]
أهل اللغة هو النضيج من ثمر الاراك ومر الظهران على دون مرحلة من مكة معروف سبق بيانه وهو بفتح الظاء المعجمة واسكان الهاء وفيه فضيلة رعاية الغنم قالوا والحكمة في رعاية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لها ليأخذوا أنفسهم بالتواضع وتصفى قلوبهم بالخلوة ويترقوا من سياستها بالنصيحة الى سياسة أممهم بالهداية والشفقة والله أعلم باب فضيلة الخل والتأدم به فيه حديث عائشة رضى الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم الادام أو الأدم الخل) وفى رواية نعم الأدم بلاشك وعن جابر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم فقالوا ما عندنا إلاخل فدعا به فجعل يأكل به ويقول نعم الأدم الخل وذكره من طرق أخرى بزيادة في الحديث فضيلة الخل وأنه يسمى أدما وأنه أدم فاضل جيد قال أهل اللغة الادام
[ 7 ]
بكسر الهمزة ما يؤتدم به يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال وجمع الادام أدم بضم الهمزة والدال كاهاب وأهب وكتاب كتب والأدم باسكان الدال مفرد كالادام وفيه استحباب الحديث على الأكل تأنيسا الآكلين وأما معنى الحديث فقال الخطابى والقاضى عياض معناه مدح الاقتصار في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة تقديره ائتدموا بالخل وما في معناه ما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن هذا كلام الخطابى ومن تابعه والصواب الذى ينبغى أن يجرم به أنه مدح للخل نفسه وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد آخر والله أعلم وأما قول جابرا فمازلت أحب الخل منذ سمعتها من نبى الله صلى الله عليه وسلم فهو كقول أنس ما زلت أحب الدباء وقد سبق بيانه وهذا مما يؤيده ما قلناه في معنى الحديث أنه مدح للخل نفسه وقد ذكرنا مرات أن تأويل الراوى إذا لم يخالف الظاهر يتعين المصير إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين وهذا كذلك بل تأويل الراوى هنا هو ظاهر اللفظ فيتعين اعتماده والله أعلم قوله أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدى فأخرج إليه فلقا من خبز) هكذا هو في الأصول فأخرج إليه فلقا وهو صحيح
[ 8 ]
ومعناه أخرج الخادم ونحوه فلقا وهى الكسر قوله (فأخذ بيدى) فيه جواز أخذ الانسان بيد صاحبه في تماشيهما قوله (فدخلت الحجاب عليها معناه دخلت الحجاب الى الموضع الذى فيه المرأة وليس فيه أنه رأى بشرتها قوله (فأتى بثلاثة أقرصة فوضعن على نبى) هكذا هو في أكثر الأصول نبى بنون مفتوحة ثم باء موحدة مكسورة ثم ياء مثناة تحت مشددة وفسروه بمائدة من خوص ونقل القاضى عياض عن كثير من الرواة أو الأكثرين أنه بتى بباء موحدة مفتوحة ثم مثناة فوق مكسورة مشددة ثم ياء مثناة من تحت مشددة والبت كساء من وبر أو صوف فلعله منديل وضع عليه هذا الطعام قال ورواه بعضهم بضم الباء وبعدها نون مكسورة مشددة قال القاضى الكنانى هذا هو الصواب وهو طبق من خوص قوله في الاسناد (يحيى بن صالح الوحاظى) هو بضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبالظاء المعجمة منسوب الى وحاظة قبيلة من حمير هكذا ضبطه الجمهور وكذا نقله القاضى عياض عن شيوخهم قال وقال أبو الوليد الباجى هو بفتح الواو قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بثلاثة أقرصة فجعل قدامه قرصا وقدامي قرصا وكسر الثالث فوضع نصفه بين يديه ونصفه بين يدى) فيه استحباب مواساة الحاضرين على الطعام وأنه يستحب جعل الخبز ونحوه بين أيديهم بالسوية وأنه لا بأس بوضع الأرغفة والأقراص صحاحا غير مكسورة
[ 9 ]
باب إباحة أكل الثوم وأنه ينبغى لمن أراد خطاب (الكبار تركه وكذا ما في معناه) قوله في الثوم (فسألته أحرام هو قال لا ولكني أكرهه من أجل ريحة) هذا تصريح بإباحة الثوم وهو مجمع عليه لكن يكرملن أراد حضور جمع في غير المسجد أو مخاطبة الكبار ويلحق بالثوم كل ماله رائحة كريهة وقد سبقت المسألة مستوفاة في كتاب الصلاة قوله (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى) معناه تأتيه الملائكة والوحى كما جاء في الحديث الآخر انى أناجي من لاتناجى وأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آذم وكان صلى الله عليه وسلم يترك الثوم دائما لأنه يتوقع مجئ الملائكة والوحى كل ساعة واختلف أصحابنا في حكم الثوم في حقه صلى الله عليه وسلم وكذلك البصل والكراث ونحوها فقال بعض أصحابنا هي محرمة عليه والأصح عندهم أنها مكروه كراهة تنزيه ليست محرمة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لافى جواب قوله أحرام هو ومن قال بالأول يقول معنى الحديث ليس بحرام في حقكم والله أعلم قوله (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام أكل منه وبعث بفضله الى) العلماء قال العلماء في هذا أنه يستحب للآكل والشارب أن يفضل مما يأكل ويشرب فضلة ليواسي بها من بعده لاسيما ان كان ممن يتبرك بفضلته وكذا إذا كان في الطعام قلة ولهم إليه حاجة ويتأكد هذا في حق الضيف لاسيما ان كانت عادة أهل الطعام أن
[ 10 ]
يخرجوا كل ما عندهم وتنتظر عيالهم الفضلة كما يفعله كثير من الناس ونقلوا أن السلف كانوا يستحبون افضال هذه الفضلة المذكورة وهذا الحديث أصل ذلك كله قوله (نزل النبي صلى الله عليه وسلم في السفل وأبو أيوب في العلو ثم ذكر كراهة أبى أيوب لعلوه ومشية فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم تحول الى العلو) أما نزوله صلى الله عليه وسلم أولا في السفل فقد صرح بسببه وأنه أرفق به وبأصحابه وقاصديه وأما كراهة أبى أيوب فمن الأدب المحبوب الجميل وفيه اجلال أهل الفضل والمبالغة في الأدب معهم والسفل والعلو بكسر أولهما وضمه لغتان وفيه منقبة ظاهرة لأبى أيوب الأنصاري رضى الله عنه من أوجه منها نزوله صلى الله عليه وسلم ومنها أدبه معه ومنها موافقته في ترك الثوم وقوله (انى أكره ما تكره) ومن أوصاف المحب الصادق أن يحب ما أحب محبوبه ويكره ما كره قوله (فكان يصنع للنبى صلى الله عليه وسلم طعاما فإذا جئ به إليه سأل عن موضع أصابعه فيتتبع موضع أصابعه) يعنى إذا بعث إليه فأكل منه حاجته ثم رد الفضلة أكل أبو أيوب من موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم
[ 11 ]
تبركا ففيه التبرك بآثار أهل الخير في الطعام وغيره قوله (فقيل له لم يأكل ففزع) يعنى فزع لخوفه أن يكون حدث منه أمر أوجب الامتناع من طعامه قوله (حدثنا حجاج وأحمد ابن سعيد قالا حدثنا أبو النعمان حدثنا ثابت في رواية حجاج بن يزيد أخو زيد الأحول) هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا أخو زيد بالخاء وهو غلط باتفاق الحفاظ وصوابه أبو زيد بالياء كنية لثابت وكذا نقله القاضى عياض على الصواب عن جميع شيوخهم ونسخ بلادهم وأنه في كلها أبو زيد بالباء قال ووقع لبعضهم أخو زيد وهو خطأ مخض وإنما هو ثابت بن زيد أبو زيد الأنصاري البصري الأحول وحكى البخاري في تاريخه عن أبى دارد الطيالى أنه قال ثابت ابن ريد قال البخاري والأصح ثابت بن يزيد بالياء أبو زيد وقوله (في أصل كتاب مسلم الأحول) مرفوع صفة لثابت والله أعلم باب اكرام الصيف وفضل إيثاره قوله انى مجهود) أي أصابني الجهد وهو المشقة والحاجة وسوء العيش والجوع قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه هذا المجهود أرسل الى نسائه واحدة فقالت كل واحدة والذى
[ 12 ]
بعثك بالحق ما عندي إلاماء فقال من يضيف هذا الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يارسول الله فانطلق به الى رحله وذكر صنيعه وصنيع امرأته) هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة منها ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من الزهد في الدنيا والصبر على الجوع وضيق حال الدنيا ومنها أنه ينبغى لكبير القوم أن يبدأ في مواساة الضيف ومن يطرقهم بنفسه فيواسيه من ماله أولا بما يتيسر ان أمكنه ثم يطلب له على سبيل التعاون على البر والتقوى من أصحابه ومنها المواساة في حال الشدائد ومنها فضيلة اكرام الضيف وإيثاره ومنها منقبة لهذا الأنصاري وامرأته رضى الله عنهما ومنها الاحتيال في اكرام الضيف إذا كان يمتنع منه رفقا باهل المنزل لقوله اطفئ السراج وأريه أنا نأكل فإنه لو رأى قلة الطعام وأنهما لا يأكلان معه لامتنع من الأكل وقوله (فانطلق به الى رحله) الى منزله ورحل الانسان هو منزله من حجر أو مدر أو شعر أو وبر قوله (فقال لامرأته هل عدك شئ قالت لا إلا قوت صبياني قال فعلليهم بشئ هذا محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين الى الأكل وانما تطلبه أنفسهم على عادة الصبيان من غير جوع يضرهم فإنهم لو كانوا على حاجة بحيث يضرهم ترك الأكل لكان اطعامهم واجبا ويجب تقديمه على الضيافة وقد أثنى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل وامرأته فدل على انهما لم يتركا واجبا بل أحسنا وأجملا رضى الله عنهما وأما هو وامرأته فأثرا على أنفسهما برضاهما مع حاجتهما وخصاصتهما فمدحهما الله تعالى وأنزل فيهما على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فضيلة الايثار والحث عليه وقد أجمع العلماء على فضيلة الايثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفوس أما القربات فالأفضل أن لا يؤثر بها لأن الحق فيها لل ه تعالى
[ 13 ]
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) قال القاضى المراد بالعجب من الله رضاه ذلك قال وقد يكون المراد عجبت ملائكة الله وأضافه إليه سبحانه وتعالى تشريفا قوله (أقبلت أنا وصاحبان لى قد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد فجلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد يقبلنا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا) أما قوله الجهد فهو بفتح الجيم وهو الجوع والمشقة وقد سبق في أول الباب وقوله (فليس أحد يقبلنا) هذا محمول على أن الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا مقلين ليس عندهم
[ 14 ]
شئ يواسون به قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجئ من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان) هذا فيه آداب السلام على الايقاظ في موضع فيه نيام أو من في معناهم وأنه يكون سلاما متوسطا بين الرفع والمخافتة بحيث يسمع الايقاظ ولا يهوش على غيرهم قوله (ما به حاجة الى هذه الجرعة) هي بضم الجيم وفتحها حكاهما ابن السكيت وغيره وهى الحشوة من المشروب والفعل منه جرعت بفتح الجيم وكسر الراء قوله (وغلت في بطني) بالغين المعجمة المفتوحة أي دخلت وتمكنت منه قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال اللهم أطعم من أطعمني وأسق من سقاني) فيه الدعاء للمحسن والخادم ولمن سيفعل خيرا وفيه
[ 15 ]
ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم والأخلاق المرضية والمحاسن المرضية وكرم النفس والصبر والاغضاء من حقوقه فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن نصيبه من اللبن قوله في الأعنز (اذاهن حفل كلهن) هذه من معجزات النبوة وآثار بركته صلى الله عليه وسلم قوله (فحلبت فيه حتى علته رغوة) هي زبد اللبن الذى يعلوه وهى بفتح الراء وضمها وكسرها ثلاث لغات مشهورات ورغاوة بكسر الراء وحكى ضمها ورغاية بالضم وحكى الكسر وارتغيت شربت الرغوة قوله (فلما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قذ روى وأصبت دعوته ضحكت حتى ألقيت الى الأرض فقال النبي صلى الله عليه وسلم احدى سوأتك يا مقداد) معناه انه كان عنده حزن شديد خوفا من أن يدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أذهب نصيب النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض لأذاه فلما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى وأجيبت دعوته فرح وضحك حتى سقط الى الأرض من كثرة ضحكه لذهاب ما كان به من الحزن وانقلابه سرورا بشرب النبي صلى الله عليه وسلم واجابة دعوته لمن أطعمه وسقاه وجريان ذلك على يد المقداد وظهور هذه المعجزة ولتعجبه من قبح فعله أولا وحسنه آخرا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم احدى سوأتك يا مقداد أي انك فعلت سوءة من الفعلات ما هي فأخبره خبره فقال النبي صلى الله عليه
[ 16 ]
وسلم ما هذه الا رحمة من الله تعالى أي احداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته وان كان الجميع من فضل الله تعالى قوله (جاء رجل مشرك مشعان) هو بضم الميم واسكان الشين المعجمة وتشديد النون أي منتفش الشعر ومتفرقة قوله (وأمر بسواد البطن أن يشوى) يعنى الكبد قوله (وايم الله ما من الثلاثين ومائه الاحز له رسول الله صلى الله عليه وسلم حزة من سواد بطنها ان كان شاهدا أعطاه وان كان غائبا خبأ له وجعل قصعتين فأكلنا منهما أجمعون
[ 17 ]
وشبعنا وفضل في القصعتين فحملته على البعير) الحزة بضم الحاء وهى القطعة من اللحم وغيره والقصعة بفتح القاف وفى هذا الحديث معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم احداهما تكثير سواد البطن حتى وسق هذا العدد والأخرى بكثير الصاع ولحم الشاة حتى أشبعهم أجمعين وفضلت منه فضلة حملوها لعدم حاجة أحد إليها وفيه مواساة الرفقة فيما يعرض لهم من طرفة وغيرها وأنه إذا غاب بعضهم خبى نصيبه قوله صلى الله عليه وسلم (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم فليذهب بثلاثة ووقع في صحيح البخاري فليذهب بثلاث قال القاضى هذا الذى ذكره البخاري هو الصواب وهو الموافق لسياق باقى الحديث قلت وللذى في مسلم أيضا وجه وهو محمول على موافقة البخاري وتقديره فليذهب بمن يتم ثلاثة أو بتمام ثلاثة كما قال الله تعالى " فيها أقواتها في أربعة أيام " أي في تمام أربعة وسبق في كتاب الجنائز إيضاح هذا وذكر نظائره وفى هذا الحديث فضيلة الايثار والمواساة وأنه إذا حضر ضيفان كثيرون فينبغي للجماعة أن يتوزعوهم ويأخذ كل واحد منهم من يحتمله وأنه ينبغى لكبير القوم أن يأمر أصحابه بذلك ويأخذ هو من يمكنه قوله (وان أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبى الله صلى الله عليه وسلم بعشرة) هذا مبين لما كان عليه النبي
[ 18 ]
صلى الله عليه وسلم من الأخذ بأفضل الأمور والسبق الى السخاء والجود فإن عيال النبي صلى الله عليه وسلم كانو قريبا من عدد ضيفانه هذه الليلة فأتى بنصف طعامه أو نحوه وأتى أبو بكر رضى الله عنه بثلث طعامه أو أكثر وأتى الباقون بدون ذلك والله أعلم قوله (فإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم فثم لبث حتى صليت العشاء ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء) قوله نعس بفتح العين وفى هذا جواز ذهاب من عنده ضيفان الى أشغاله ومصالحه إذا كان له من يقوم بأمورهم ويسد مسده كما كان لأبى بكر هنا عبد الرحمن رضى الله عنهما وفيه ما كان عليه أبو بكر رضى الله عنه من الحب للنبى صلى الله عليه وسلم والانقطاع إليه وإيثاره في ليله ونهاره على الأهل والأولاد والضيفان وغيرهم قوله (في الأضياف أنهم امتنعوا من الأكل حتى يحضر أبو بكر رضى الله عنه) هذا فعلوه أدبا ورفقا بأبى بكر فيما ظنوه لأنهم ظنوا أنه لا يحصل له عشاء من عشائهم قال العلماء والصواب للضيف أن لا يمتنع مما أراده المضيف من تعجيل طعام وتكثيره وغير ذلك من أمور الا أن يعلم أنه يتكلف ما يشق عليه حياء منه فيمنعه برفق ومتى شك لم يعترض عليه ولم يمتنع فقد يكون للمضيف عذر أو غرض في ذلك لا يمكنه اظهاره فتلحقه المشقة بمخالفة الأضياف كما جرى في قصة أبى بكر رضى الله عنه قوله (عن عبد الرحمن فذهبت فاختبأت وقال يا غنثر فجدع وسب) أما اختباؤه فخوفا من خصام أبيه
[ 19 ]
له وشتمه اياه وقوله فجدع أي دعا بالجدع وهو قطع الأنف وغيره من الأعضاء والسب الشتم وقوله يا غنثر بغين معجمة مضومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة مفتوحة ومضمومة لغتان هذه هي الرواية المشهورة في ضبطه قالوا وهو الثقيل الوخم وقيل هو الجاهل مأخوذ من الغثارة بفتح الغين المعجمة وهى الجهل والنون فيه زائدة وقيل هو السفيه وقيل هو ذباب أزرق وقيل هو اللئيم مأخوذ من الغثر وهو اللؤم وحكى القاضى عن بعض الشيوخ أنه قال انما هو غنثر بفتح الغين والثاء ورواه الخطابى وطائفة عنتر بعين مهملة وتاء مثناة مفتوحتين قالوا وهو الذباب وقيل هو الأزرق منه شبهه به تحقيرا له قوله (كلوا لاهنيئا) انما قاله لما حصل له من الحرج والغيظ بتركهم العشاء بسببه وقيل إنه ليس بدعاء انما أخبر أي لم تتهنأوا به في وقته قوله (والله لاأطعمه أبدا) وذكر في الرواية الأخرى في الأضياف قالوا والله لا نطعمه حتى تطعمه ثم أكل وأكلوا فيه أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فعل ذلك وكفر عن يمينه كما جاءت به الأحاديث الصحيحة وفيه حمل المضيف المشقة على نفسه اكرام ضيفانه وإذا تعارض حنثه نفسه لأن حقهم عليه آكد وهذا الحديث الأول مختصر توضحه الرواية الثانية وتبين ما حذف منه وما هو مقدم أو مؤخر قوله (ما كنا نأخذ من لقمة الاربا من أسفلها أكثر منها وأنهم أكلوا منها حتى شبعوا وصارت بعد ذلك أكثر مما كانت بثلاث مرارثم حملوها الى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منها الخلق الكثير) فقوله الاربا من أسفلها أكثر ضبطوه بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة هذا الحديث فيه كرامة ظاهرة لأبى بكر الصديق رضى الله عنه وفيه اثبات كرامات الأولياء وهو مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة قوله (فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر) وقوله (لهى الآن أكثر منها) ضبطوهما أيضا بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة قولها (لاوقرة عينى لهى الآن أكثر منها) قال أهل اللغة قرة العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الانسان ويوافقه قيل انما قيل ذلك لأن
[ 20 ]
عينه تقر لبلوغها أمنيته فلا يستشرف لشئ فيكون مأخوذ من القرار وقيل ماخوذ من القر بالضم وهو البردأى عينه باردة لسرورها وعدم مقلقها قال الأصمعى وغيره أقر الله عينه أي أبرد دمعنه لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة ولهذا يقال في ضده أسخن الله عليه قال صاحب المطالع قال الداودى أرادت بقرة عينها النبي صلى الله عليه وسلم فأقسمت به ولفظة لافى قولها لاوقرة عينى زائد ولها نظائر مشهورة ويحتمل أنها نافية وفيه محذوف أي لا شئ غير ما أقول وهو وقرة عينى لهى أكثر منها قوله (يا أخت بني فراس) هذا خطاب من أبى بكر لامرأته أم ورومان ومعناه يامن هي من بنى فراس قال القاضى فراس هو ابن غنم بن مالك بن كنانة ولا خلاف في نسب أم رومان الى غنم بن مالك واختلفوا في كيفية انتسابها الى غنم اختلافا كثيرا واختلفوا هل هي من بنى فراس بن غنم أم من بنى الحارث بن غنم وهذا الحديث الصحيح كونها من بنى فراس بن غنم قوله (فعرفنا اثنا عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس) هكذا هو في معظم النسخ فعرفنا بالعين وتشديد الراء أي جعلنا عرفاء وفى كثير من النسخ ففرقنا بالفاء المكررة في أوله بقاف من التفريق أي جعل كل رجل من الاثنى عشر مع فرقة فهما صحيحان ولم يذكر القاضى هنا غير الأول وفى هذا الحديث دليل لجواز تفريق العرفاء على العساكر ونحوها وفى سنن أبى دادود العرافة حق لما فيه من مصلحة الناس وليتيسر ضبط الجيوش ونحوها على الامام باتخاذ العرفاء وأما الحديث الآخر العرفاء في النار فمحمول على العرفاء المقصرين في ولايتهم المرتكبين فيها مالايجوز كما هو معتاد لكثير منهم قوله فعرفنا اثنا عشر رجلا مع كل واحد منهم أناس هكذا هو في معظم النسخ وفى نادر منها اثنى عشر وكلاهما صحيح والأول جار على لغة من جعل المثنى بالألف في الرفع والنصب والجر وهى لغة أربع
[ 21 ]
قبائل من العرب ومنها قوله تعالى هذان لساحران ذلك وقد سبقت المسألة مرات قوله (أفرغ من أضيافك) أي عشهم وقوم بحقهم قوله (جئناهم بقراهم) هو بكسر القاف مقصور وهو ما يصنع للضيف من مأكول ومشروب قوله (حتى يجئ أبو منزلنا) أي صاحبه قوله (انه رجل حديد) أي فيه قوة وصلابة ويغضب لانتهاك الحرمات والتقصير في حق ضيفه ونحو ذلك قوله (مالكم ألا تقبلوا منا قراكم) قال القاضى عياض قوله ألاهو بتخفيف اللام على التحضيض واستفتاح الكلام هكذا رواه الجمهور قال ورواه بعضهم بالتشديد ومعناه مالكم لا تقبلوا قراكم وأى شئ منعكم ذلك وأحوجكم الى تركه قوله (أما الأولى فمن الشيطان)
[ 22 ]
يعنى يمينه قال القاضى وقيل معناه اللقمة الأولى فلقمع الشيطان وارغامه ومخالفته في مراده باليمين وهو ايقاع الوحشة بينه وبين أضيافه فأخزاه أبو بكر بالحنث الذى هو خير قوله (قال أبو بكر يارسول الله بروا وحنثت فقال بل أن أبرهم وأخيرهم قال ولم تبلغني كفارة) ومعناه بروا في أيمانهم وحنث في يمينى فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أنت أبرهم أي أكثرهم طاعة وخير منهم لأنك حنثت في يمينك حنثا مندوبا إليه محثوثا عليه فأنت أفضل منهم قوله (وأخيرهم هكذا هو في جميع النسخ وأخيرهم بالألف وهى لغة سبق بيانها مرات وأما قوله (ولم تبلغني كفارة) يعنى لم يبلغني أنه كفر قبل الحنث فأما وجوب الكفارة فلا خلاف فيه لقوله صلى الله عليه وسلم من خلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه وهذا نص في عين المسألة مع عموم قوله تعالى يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته اطعام الخ باب فضيلة المواساة في الطعام القليل (وأن طعام الاثنين يكفى الثلاثة ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (طعام الاثنين كافى الثلاثة وطعام الثلاثة كافى الأربعة) وفى رواية جابر
[ 23 ]
طعام الواحد يكفى الاثنين وطعام يكفى الأربعة يكفى الثمانية) هذا فيه الحث على المواساة في الطعام وأنه وان كان قليلا حصلت منه الكفاية المقصودة ووقعت فيه بركة تعم الحاضرين عليه والله أعلم باب المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء قوله صلى الله عليه وسلم (الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد) وفى الرواية
[ 24 ]
الأخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام بعد أن ضاف كافرا فشرب حلاب سبع شياه ثم أسلم من الغد فشرب حلاب شاة ولم يستتم حلاب الثانية قال القاضى قيل ان هذا في رجل بعينه فقيل له على جهة التمثيل وقيل ان المراد أن المؤمن يقتصد في أكله وقيل المراد المؤمن يسمى الله تعالى عند طعامه فلا يشركه فيه الشيطان والكافر لا يسمى فيشاركه الشيطان فيه وفى صحيح مسلم أن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله تعالى عليه قال أهل الطب لكل انسان سبعة أمعاء المعدة ثم ثلاثة متصلة بها رقاق ثم ثلاثة غلاظ فالكفافر لشرهه وعدم تسميته لا يكفيه إلاملؤها والمؤمن لاقصاده وتسميته يشبعه ملء أحدها ويحتمل أن يكون هذا في بعض المؤمنين وبعض الكفار وقيل المراد بالسبعة سبع صفات الحرص والشره وطول الأمل والطمع وسوء الطبع والحسد والسمن وقيل المراد بالمؤمن هنا تام الايمان المعرض عن الشهوات المقتصر على سد خلته والمختار أن معناه بعض المؤمنين
[ 25 ]
يأكل في معى واحد وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء ولا يلزم أن كل واحد من السبعة مثل معى المؤمن والله أعلم قال العلماء ومقصود الحديث التقليل من الدنيا والحث على الزهد فيها والقناعة مع أن قلة الأكل من محاسن أخلاق الرجل وكثرة الأكل بضده وأما قول ابن عمر في المسكين الذى أكل عنده كثيرا لا يدخلن هذا على فإنما قال هذا لأنه أشبه الكفار ومن أشبه الكفار كرهت مخالطته لغير حاجة أو ضرورة ولأن القدر الذى يأكله هذا يمكن
[ 26 ]
أن يسد به خلة جماعة وأما الرجل المذكور في الكتاب الذي شرب حلاب سبع شياه فقيل هو ثمامة بن أثال وقيل جهجاه الغفاري وقيل نضرة بن أبى نضرة الغفاري والله أعلم باب لا يعيب الطعام قوله (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط كان إذا اشتهى شيئا أكله وان كرهه تركه) هذا من آداب الطعام المتأكدة وعيب الطعام كقوله مالح قليل الملح حامض رقيق غليظ غير ناضج ونحو ذلك وأما حديث ترك أكل الضب كل فليس هو من عيب الطعام انما هو اخبار بان هذا الطعام الخاص لاأشتهيه وذكر مسلم في الباب اختلاف طرق هذا الحديث فرواه أولا من رواية الأكثرين عن الأعمش عن أبى حازم عن أبى هريرة ثم رواه عن أبى معاوية عن الأعمش عن أبى يحيى مولى آل جعدة عن أبى هريرة وأنكر عليه الدارقطني هذا الاسناد الثاني وقال هو معلل قال القاضى وهذا الاسناد من الأحاديث المعللة في كتاب مسلم التى بين مسلم علتها
[ 27 ]
كما وعد في خطبته وذكر الاختلاف فيه ولهذه العلة لم يذكر البخاري حديث أبى معاية ولاخرجه من طريقه بل خرجه من طريق آخر وعلى كل حال فالمتن صحيح لا مطعن فيه والله أعلم كتاب اللباس والزينة باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة (في الشرب وغيره على الرجال والنساء) قوله صلى الله عليه وسلم (الذى يشرب في آنية الفضة انما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفى رواية ان الذى يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب وفى رواية من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم اتفق العلماء من أهل الحديث واللغة والغريب وغيرهم على كسر الجيم الثانية من يجر جر واختلفوا في راء النار في الرواية الأولى فنقلوا فيها النصب والرفع وهما مشهوران في الرواية وفى كتب الشارحين وأهل الغريب واللغة والنصب هو الصحيح
[ 28 ]
المشهور الذى جزم به الأزهري وآخرو من المحققين ورجحه الزجاج والخطابى والأكثرون ويؤيده الرواية الثالثة يجرجر في بطنه نارا من جهنم ورويناه في مسند أبى عوانة الاسفرابنى وفى الجعديات من رواية عائشة رضى الله عنها إنما يجرجر في جوفه نارا كذا هو في الأصول نار من غير ذكر جهنم وأما معناه فعلى رواية النصب الفاعل هو الشارب مضمر في يجرجر أي يلقيها في بطنه يجرع متتابع يسمع له جرجرة وهو الصوت لتردده في حلقه وعلى رواية الرفع تكون النار فاعله ومعناه تصوت النار في بطنه والجرجرة هي التصويت وسمى المشروب نارا لأنه يؤول إليها كما قال تعالى الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا جهنم عافانا الله منها ومن كل بلاء فقال الواحدى قال يونس وأكثر النحويين هي عجمية لا تنصرف للتعريف والعجمية وسميت بذلك لبعد قعرها يقال بئر جهنام إذا كانت عميقة القعر وقال بعض اللغويين مشقة من الجهومة وهى الغلظ سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب والله أعلم قال القاضى واختلفوا في المراد بالحديث فقيل هو إخبار عن الكفار من ملوك العجم وغيرهم الذين عادتهم فعل ذلك كما قال في الحديث الآخر هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة أي هم المستعملون لها في الدنيا وكما قال صلى الله عليه وسلم في ثوب الحرير انما يلبس هذا من لاخلاق له في الآخرة أي لانصيب قال وقيل المراد نهى المسلمين عن ذلك وأن
[ 29 ]
من ارتكب هذا النهى استوجب هذا الوعيد وقد يعفو الله عنه هذا كلام القاضى والصواب أن النهى يتناول جميع من يستعمل إناء الذهب أو الفضة من المسلمين والكفار لأن الصحيح أن الكفار مخاطبون بغروع الشرع والله أعلم وأجمع المسلمون على تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب وإناء الفضة على الرجل وعلى المرأة ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء إلا ما حكاه أصحابنا العراقيون أن للشافعي قولا قديما أنه يكره ولا يحرم وحكوا عن داود الظاهرى تحريم الشرب وجواز الأكل وسائر وجوه الاستعمال وهذان النقلان باطلان أما قول داود فباطل لمنابذة صريح هذه الأحاديث في النهى عن الأكل والشرب جميعا ولمخالفة الاجماع قبله قال أصحابنا انعقد الاجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمال في إناء ذهب أو فضة إلا ما حكى عن داود وقول الشافعي في القديم فهما مردودان بالنصوص والاجماع وهذا انما يحتاج إليه على قول من يعتد بقول داود في الاجماع والخلاف والا فالمحققون يقولون لا يعتد به لاخلاله بالقياس وهو أحد شروط المجتهد الذى يعتد به وأما قول الشافعي القديم فقال صاحب التقريب أن سياق كلام الشافعي في القديم يدل على أنه أراد أن نفس الذهب والفضة الذى اتخذ منه الاناء ليست حراما ولهذا لم يحرم الحلى على المرأة هذا كلام صاحب التقريب وهو من متقدمي أصحابنا وهو أتقنهم لنقل نصوص الشافعي ولأن الشافعي رجع عن هذا القديم والصحيح عند أصحابنا وغيرهم من الأصولين أن المجتهد إذا قال قولا ثم رجع عنه لا يبقي قولا له ولا ينسب إليه قالوا وانما يذكر القديم وينسب الى الشافعي مجازا وباسم ما كان عليه لا أنه قول له الآن فحصل مما ذكرناه أن الاجماع منعقد على تحريم استعمال اناء الذهب واناء الفضة في الأكل والشرب والطهارة والأكل بمعلقة من أحدهما والتجمر بمجمرة منهما والبول غي الإناء منهما وجميع وجوه الاستعمال ومنها المكحلة والميل وطرف العالية وغير ذلك سواء الاناء الصغير والكبير ويستوى في التحريم الرجل
[ 30 ]
والمرأة بلا خلاف وانما فرق بين الرجل والمرأة في التحلى لما يقصد منها من التزين للزوج والسيد قال أصحابنا ويحرم استعمال ماء الورد والادهان من قارورة الذهب والفضة قالوا فإن ابتلى بطعام في اناء ذهب أو فضة فيخرج الطعام الى اناء آخر من غيرهما ويأكل منه فإن لم يكن اناء آخر فليجعله على رغيف ان أمكن وان ابتلى بالدهن في القارورة فضة فليصبه في يده اليسرى ثم يصبه من اليسرى في اليمين ويستعمله قال أصحابنا ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت والمجالس بأوانى الفضة والذهب هذا هو الصواب وجوزه بعض أصحابنا قالوا وهو غلط قال الشافعي والأصحاب لو توضأ أو اغتسل من اناء ذهب أو فضة عصى بالفعل وصح وضوءه وغسله هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو حنيفة والعلماء كافة الا داود فقال لا يصح والصواب الصحة وكذا لو أكل منه أو شرب عصى بالفعل ولايكون المأكول والمشروب حراما هذا كله في حال الاختبار وأما إذا اضطر الى استعمال اناء فلم يجد الا ذهبا أو فضة فله استعماله في حال الضرورة بلا خلاف صرح به أصحابنا قالوا كما تباح الميتة في حال الضرورة قال أصحابنا ولو باع هذا الاناء صح بيعه لأنه عين طاهرة يمكن الانتفاع بها بأن تسبك وأما اتخاذ هذه الاواني من غير استعمال فللشافعي والأصحاب فيه خلاف والأصح تحريمه والثانى كراهته فإن كرهناه استحق صانعه الأجرة ووجب على كاسره أرش النقص ولافلا وأما اناء الزجاج النفيس فلا يحرم بالاجماع وأما اناء الياقوت والزمرد والفيروزج ونحوها فالأصح عند أصحابنا جواز استعمالها ومنهم من حرمها والله أعلم
[ 31 ]
باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء (وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء) (وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع قوله (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وابرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم واجابة الداعي وإفشاء السلام ونهنا عن خواتيم أو عن تختم بالذهب وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسى وعن لبس الحرير والاستبرق والديباج) وفى رواية وانشاد الضالة بدل ابرار القسم أو المقسم وفى رواية ورد السلام بدل افشاء السلام أما عيادة المريض فبسنة بالاجماع وسواء فيه من يعرفه ومن لا يعرفه والقريب والأجنبي واختلف العلماء في الأوكد ولأفضل منهما وأما اتباع الجنائز فسنة بالاجماع أيضا وسواء فيه من يعرفه وقريبة وغيرهما وسبق ايضاحه في الجنائز وأما تشميت العاطس فهو أن يقول له يرحمك الله ويقال بالسين المهملة والمعجمة لغتان مشهورتان قال الأزهري قال الليث التشميت ذكر الله تعالى على كل شئ ومنه قوله للعاطس يرحمك الله وقال ثعلب يقال سمت العاطس وشمته إذا دعوت له بالهدى وقصد السمت المستقيم قال والأصل فيه السين المهملة فقلبت شينا معجمة وقال صاحب المحكم تسميت العاطس معناه هداك الله الى السمت قال وذلك لما في العاطس من الانزعاج والقلق قال أبو عبيد وغيره
[ 32 ]
الشين المعجمة على اللغتين قال ابن الأنباري ويقال منه شمته وسمت عليه إذا دعوت له بخير وكل داع بالخير فهو مشمت ومسمت العاطس سنة وهو سنة على الكفاية إذا فعل بعض الحاضرين سقط الأمر عن الباقين وشرطه أن يسمع قول العاطس الحمد لله كما سنوضحه مع فروع تتعلق به في بابه ان شاء الله تعالى وأما ابرار القسم فهو سنة أيضا مستحبة متأكدة وانما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو خوف ضرر أو نحو ذلك فإن كان شئ من هذا لم يبر قسمه كما ثبت أن أبا بكر رضى الله عنه لما عبر الرؤيا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أصبت بعضا وأخطأت بعضا فقال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرنى فقال لا تقسم ولم يخبره وأما نصر المظلوم فمن فروض الكفاية وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وانما يتوجه الأمر به لى من قدر عليه ولم يخف ضررا وأما اجابة الداعي فالمراد به الداعي الى وليمة ونحوها من الطعام وسبق ايضاح ذلك بفروعه في باب الوليمة من كتاب النكاح وأما افشاء السلام فهو اشاعته واكثاره وأن يبذله لكل مسلم كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وسبق بيان هذا في كتاب الايمان في حديث افشوا السلام وسنوضح فروعه في بابه ان شاء الله تعالى وأما رد السلام فهو فرض بالاجماع فإن كان السلام على واحد كان الرد فرض عين عليه وان كان على جماعة كان فرض كفاية في حقهم إذا رد أحدهم سقط الحرج عن الباقين وسنوضحه بفروعه في بابه إن شاء الله تعالى وأما إنشاد الضالة فهو تعريفها وهو مأمور به وسبق تفصيله في كتاب اللقطة وأما خاتم الذهب فهو حرام على الرجل بالاجماع وكذا لو كان بعضه ذهبا وبعضه فضة حتى قال أصحابنا لو كانت سن الخاتم ذهبا أو كان مموها بذهب يسير فهو حرام لعموم الحديث الآخر في الحرير والذهب ان هذين حرام على ذكور أمتى حل لإناثها وأما لبس الحرير والاستبرق والديباج والقسى وهو نوع من الحرير فكله حرام على الرجال سواء لبسه للخيلاء أو غيرها الا أن يلبسه للحكة فيجوز في السفر والحضر وأما النساء فيباح لهن لبس الحرير وجميع أنواعه وخواتيم الذهب وسائر الحلى منه ومن الفضة سواء المزوجة وغيرها والشابة والعجوز والغتية والفقيرة هذا الذى ذكرناه من تحريم الحرير على الرجال واباحته للنساء هو مذهبنا ومذهب الجماهير وحكى القاضى عن قوم إباحته للرجال
[ 33 ]
والنساء وعن ابن الزبير تحريمه عليهما ثم انعقد الاجماع على إباحته للنساء وتحريمه على الرجال ويدل عليه الأحاديث المصرحة بالتحريم مع الأحاديث التى ذكرها مسلم بعد هذا في تشقيق على رضى الله عنه الحرير بين نسائه وبين الفواطم خمرا لهن وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك كما صرح به في الحديث والله أعلم وأما الصبيان فقال أصحابنا يجوز الباسهم الحلى والحرير في يوم العيد لأنه لا تكليف عليهم وفى جواز الباسهم ذلك في باقى السنة ثلاثة أوجه أصحها جوازه والثانى تحريمه والثالث يحرم بعد سن التمييز وأما قوله وعن شرب بالفضة فقد سبق إيضاحه في الباب قبله وأما قوله (وعن المياثر) فهو بالثاء المثلثة قبل الراء قال العلماء هو جمع مئثرة بكسر الميم وهى وطاء كانت النساء يضعنه لأزواجهن على السروج وكان من مراكب العجم ويكون من الحرير ويكون من الصوف وغيره وقيل أغشية للسروج تتخذ من الحرير وقيل هي سروج من الديباج وقيل هي شئ كالفراش الصغير تتخذ من حرير تحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب على البعير تحته فوق الرحل والمئثرة مهموزة وهى مفعلة بكسر الميم من الوثارة يقال وثر بضم الثاء وثارة بفتح الواو فهو وثير أي وطئ لين وأصلها موثرة فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها كما في ميزان وميقات وميعاد من الوزن والوقت والوعد وأصله موزان وموقات ومعاد قال العلماء فالمئثرة ان كانت من الحرير كما هو الغالب فيما كان من عادتهم فهى حرام لأنه جلوس على الحرير واستعمال له وهو حرام على الرجال سواء كان على رحل أو سرج أو غيرهما وان كانت مئثرة من غير الحرير فليست بحرام ومذهبنا أنها ليست مكروهة أيضا فان الثوب الأحمر لاكراهة فيه سواء كانت حمراء أم لا وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء وحكى القاضى عن بعض العلماء كراهتها لئلا يظنها الرائى من بعيد حريرا وفى صحيح البخاري عن يزيد بن رومان المراد بالمئثرة جلود السباع وهذا قول باطل مخالف للمشهور الذى أطبق عليه أهل اللغة والحديث وسائر العلماء والله أعلم وأما القسى فهو بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة وهذا الذى ذكرنا من فتح القاف هو الصحيح المشهور وبعض أهل الحديث يكسرها قال أبو عبيد أهل الحديث يكسرونها وأهل مصر
[ 34 ]
يفتحونها واختلفوا في تفسيره فالصواب ما ذكره مسلم بعد هذا بنحو راسة في حديث النهى عن التختم في الوسطى والتى تليها عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن لبس القسى وعن جلوس على المياثر قال فأما القسى فثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام فيها شبه كذا هو لفظ رواية مسلم وفى رواية البخاري فيها حرير أمثال الأترج قال أهل اللغة وغريب الحديث هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس بفتح القاف وهوموضع من بلاد مصر وهو قرية على ساحل البحر قريبة من تنيس وقيل هي ثياب كتان مخلوط بحرير وقيل هي ثياب من القز وأصله القزى بالزاى منسوب الى القز وهو ردئ الحرير فأبدل من الزاى سين وهذا القسى ان كان حريره أكثر من كتانه فالنهى عنه لتحريم والا فالكراهة للتنزية وأما الاستبرق فغليظ الديباج وأما الديباج فبفتح الدال وكسرها جمعه دبابيج وهو عجمى معرب الديبا والديباج والاستبرق حرام لأنهما من الحرير والله أعلم قوله في حديث أبى بكر وعثمان ابن أبى شيبة (وزاد في الحديث وعن الشرب) فالضمير في وزاد يعود الى الشيباني الراوى عن
[ 35 ]
أشعث بن أبى الشعشاء قوله (فجاء دهقان) هو بكسر الدال على المشهور وحكى ضمها ممن حكاه صاحب المشارق والمطالع وحكاهما القاضى في الشرح عن حكاية أبى عبيدة ووقع في نسخ صحاح الجوهرى أو بعضها مفتوحا وهذا غريب وهو زعيم فلاحى العجم وقيل زعيم القرية ورئيسها وهو بمعنى الأول وهو عجمى معرب قيل النون فيه أصلية مأخوذ من الدهقنة وهى الرياسة وقيل زائدة من الدهق وهو الامتلاء وذكره الجوهرى في دهقن لكنه قال ان جعلت نونه أصلية من قولهم تدهقن الرجل صرفته لأنه فعلان وان جعلته من الدهق لم تصرفه لأنه فعلان قال القاضى يحتمل أنه سمى به من جمع المال وملأ الأوعية منه يقال دهقت الماء وأدهقته إذا أفرغته ودهق لى دهقة من ماله أي أعطانيها وأدهقت الناء أي ملأته قالوا يحتمل أن يكون من الدهقنة والدهمة وهى لين الطعام لأنهم يلينون طعامهم وعيشهم لسعة أيديهم وأحوالهم وقيل لحذقه ودهائه والله أعلم قوله (ان حذيفة رماه باناء الفضة حين جاءه بالشراب فيه وذكر أنه إنما رماه به لأنه كان نهاه قبل ذلك عنه) فيه تحريم الشرب فيه وتعزير من ارتكب معصية لاسيما ان كان قد سبق نهيه عنها كقضية الدهقان مع حذيفة وفيه أنه لا بأس أن يعزر الأمير ينفسه بعض مستحقي التعزير وفيه أن الأمير والكبير إذا فعل شيئا صحيحا في نفس الأمر ولايكون وجهه ظاهرا فينبغي
[ 36 ]
أن ينبه على دليله وسبب فعله ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (فانه لهم في الدنيا وهو لكم في الآخرة) أي ان الكفار إنما يحصل لهم ذلك في الدنيا وأما الآخرة فمالهم فيها من نصيب وأما المسلمون فلهم في الجنة الحرير والذهب وما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشر وليس في الحديث حجة لمن يقول الكفار غير مخاطبين بالفروع لأنه لم يصرح فيه باباحته لهم وإنما أخبر عن الواقع في العادة أنهم هم الذين يستعملونه في الدنيا وان كان حراما عليهم كما هو حرام على المسلين قوله صلى الله عليه وسلم (وهو لكم في الآخرة يوم القيامة) انما جمع بينهما لأنه قد يظن أنه بمجرد موته صار في حكم الآخرة في هذا الاكرام فبين
[ 37 ]
أنه انما هو في يوم القيامة وبعده في الجنة أبدا ويحتمل أن المراد أنه لكم في الآخرة من حين الموت ويستمر في الجنة أبدا قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تأكلوا في صحافها) جمع صحفة وهى دون القصعة قال الجوهرى قال الكسائي أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المكيلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل قوله (رأى حلة سيراء) هي بسين مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مفتوحة ثم راء ثم ألف ممدودة وضبطوا الحلة هنا بالتنوين على أن سيراء صفة وبغير تنوين على الاصافة وهما وجهان مشهوران والمحققون ومتقنو العربية يختارون الاضافة قال سيبويه لم تأت فعلاء صفة وأكثر المحدثين
[ 38 ]
ينونون قال الخطابى حلة سيراء كما قالوا نافة عشراء قالوا هي برود يخالطها حرير وهى مضلعة بالحرير وكذا فسرها في الحديث في سننأبى داود وكذا قاله الخليل والأصمعي وآخرون قالوا كأنها شبهت خطوطها بالستور وقال ابن شهاب هي ثياب مضلعة بالقز وقيل هي مختلفة الألوان وقال هي وشى من حرير وقيل انها حرير محض وقد ذكر مسلم في الرواية الأخرى حلة من استبرق وفى الأخرى من ديباج أو حرير وفى رواية حلة سندس فهذه الألفاظ تبين أن هذه الحلة كانت حديرا محضا وهو الصحيح الذى يتعين القول به في هذا الحديث جمعا بين الروايات ولأنها هي المحرمة أما المختلط من حرير وغيره فلا يحرم إلا أن يكون الحرير أكثر وزنا والله أعلم قال أهل اللغة الحلة لا تكون إلا ثوبان وتكون غالبا إزارا ورداء وفى حديث عمر في هذه الحلة دليل لتحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء وإباحة هديته وإباحة ثمنه وجواز إهداء المسلم الى المشرك ثوبا وغيره واستحباب لباس أنفس ثيابه يوم الجمعة والعيد وعند لقاء الوفود ونحوهم وعرض المفضول على الفاضل والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحة التى قد لا يذكرها وفيه صلة الأقارب والمعارف وان كانوا كفارا وجواز البيع والشراء عند باب المسجد قوله صلى الله عليه وسلم (إنما يلبس هذه من لاخلاق له في الآخرة) قيل معناه من لانصيب له في الآخرة وقيل من لاحرمة له وقيل من لادين له فعلى الأول يكون محمولا على الكفار وعلى القولين الأخيرين يتناول المسلم والكافر والله أعلم قوله (فكساها عمر أخاله مشركا بمكة) هكذا رواه البخاري ومسلم وفى رواية للبخاري في كتاب قال أرسل
[ 39 ]
بها عمر الى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم فهذا يدل على أنه أسلم بعد ذلك وفى رواية في مسند أبى عوانة الاسفراينى فكساها عمر أخا له من أمه من أهل مكة مشركا وفى هذا كله دليل لجواز صلة الأقارب الكفار والاحسان إليهم وجواز الهدية الى الكفار وفيه جواز إهداء ثياب الحرير الى الرجال لأنها لاتتعين للبسهم وقد يتوهم متوهم أن فيه دليلا على أن رجال الكفار يجوز لهم لبس الحرير وهذا وهم باطل لأن الحديث انما فيه الهدية الى كافر وليس فيه الاذن له في لبسها وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الى عمر وعلى وأسامة رضى الله عنهم ولا يلزم منه إباحة لبسها لهم بل صرح صلى الله عليه ويلم بأنه انما أعطاه لينتفع بها بغير اللبس والمذهب الصحيح الذى عليه المحققون والأكثرون أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع فيحرم عليهم الحرير كما يحرم على المسلمين والله أعلم قوله (رأى عمر عطارد التميمي يقيم بالسوق حلة) أي يعرضها للبيع
[ 40 ]
قوله صلى الله عليه وسلم (شققها خمرا بين نسائك) هو بضم الميم ويجوز إسكانها جمع خمار وهو ما يوضع
[ 41 ]
على رأس المرأة وفيه دليل لجواز لبس النساء الحرير وهو مجمع عليه اليوم وقد قدمنا أنه كان فيه خلاف لبعض السلف وزال قوله صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت بها اليك لتنتفع بها) أي تبيعها فتنتفع بثمنها كما صرح به في الرواية التى قبلها وفى حديث ابن مثنى بعدها قوله (حدثنى يحيى بن أبى اسحاق قال قال لى سالم بن عبد الله في الاستبرق قلت ما غلظ من الديباج وخشن منه قال سمعت عبد الله ابن عمر يقول وذكر الحديث) هكذا هو في جميع نسخ مسلم وفى كتابي البخاري والنسائي قال لى سالم ما الاستبرق قلت ما غلظ من الديباج وهذا معنى رواية مسلم لكنها مختصرة ومعناها قال لى سالم في الاستبرق ما هو فقلت هو ما غلظ فرواية مسلم صحيحة لاقدح فيها وقد أشار القاضى
[ 42 ]
الى تغليطها وأن الصواب رواية البخاري وليست بغلط بل صحيحة كما أوضحناه قوله (ومئثرة الأرجوان) تقدم تفسير المئثرة وضبطها وأما الأجوان فهو بضم الهمزة والجيم هذا هو الصواب المعروف في روايات الحديث وفى كتب الغريب وفى كتب اللغة وغيرها وكذا صرح به القاضى في المشارق وفى شرح القاضى عياض في موضعين منه أنه بفتح الهمزة وضم الجيم وهذا غلط ظاهر من النساخ لامن القاضى عياض في موضعين منه أنه بفتح الهمزة قال أهل اللغة وغيرهم هو صبغ أحمر شديد الحمرة هكذا قاله أبو عبيد والجمهور وقال الفراء هو الحمرة وقال ابن فارس هو كل لون أحمر وقيل هو الصوف الأحمر وقال الجوهرى هو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون قال وهو معرب وقال آخرون هو عربي قالوا والذكر والأنثى فيه سواء يقال هذا ثوب أرجوان وهذه قطيفة أوجوان وقد يقولونه على الصفة ولكن الأكثر في استعماله اضافة الأرجوان الى ما بعده ثم ان أهل اللغة ذكروه في باب الراء والجيم والواو وهذا هو الصواب ولا يغتر بذكر القاضى له في المشارق في باب الهمزة والراء والجيم ولا بذكر ابن الأثير له في الراء والجيم والنون والله أعلم قوله (ان اسماء أرسلت الى ابن عمر بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة العلم في الثوب ومئثرة الأرجوان وصوم رجب كله فقال ابن عمر أما ذكرت من رجب فكيف بمن يصوم الأبد وأما ما ذكرت من العلم في الثوب فانى سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ 43 ]
يقول انما يلبس الحرير من لاخلاق له فحفت أن يكون العلم منه وأما مئثرة الأرجوان فهذه مئثرة عبد الله أرجوان فهذه مئثرة عبد الله أرجوان فقالت هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت الى بجبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج وفرجيها مكفوفين بالدبياج فقالت هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت قبضها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرمضى يستشفى بها) أما جواب ابن عمر في صوم رجب فانكار منه لما بلغها عنه من تحريمه واخبار بأنه يصوم رجبا كله وأنه يصوم الأبد والمراد بالأبد ما سوى أيام العيدين والتشريق وهذا مذهبه ومذهب أبيه عمر ابن الخطاب وعائشة وأبى طلحة وغيرهم من سلف الأمة ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه لا يكره صوم الدهر وقد سبقت المسألة في كتاب الصيام مع شرح الأحاديث الواردة من الطرفين وأما ما ذكرت عنه من كراهة العلم فلم يعترف بأنه كان يحرم بل أخبره أنه تورع عنه خوفا من دخوله في عموم النهى عن الحرير وأما المئثرة فأنكر ما بلغها عنه فيها وقال هذه مئثرتى وهى أرجوان والمراد أنها حمراء وليست من حرير بل من صوف أو غيره وقد سبق أنها قد تكون من حرير وقد تكون من صوف وأن الأحاديث الواردة في النهى عنها مخصوصة بالتى هي من الحرير وأما اخراج أسماء جبة النبي صلى الله عليه وسلم المكفوفة بالحرير فقصدت بها بيان أن هذا ليس محرما وهكذا الحكم عند الشافعي وغيره أن الثوب والجبة والعمامة ونحوها إذا كان مكفوف الطرف بالحرير جار ما لم يزد على أربع أصابع فان زاد فهو حرام لحديث عمر رضى الله تعالى عنه المذكور بعد هذا وأما قوله (جبة طيالسة) فهو بإضافة جبة الى طيالسة والطيالسة جمع طيلسان بفتح اللام
[ 44 ]
على المشهور قال جماهير أهل اللغة لا يجوز فيه غير فتح اللام وعدوا كسرها في تصحيف العوام وذكر القاضى في المشارق في حرف السين والياء في تفسير الساج أن الطليسان يقال بفتح اللام وضمها وكسرها وهذا غريب ضعيف وأما قوله (كسروانية) فهو بكسر الكاف وفتحها والسين ساكنة والراء مفتوحة ونقل القاضى أن جمهور الرواة رووه بكسر الكاف وهو نسبة الى كسرى صاحب العراق ملك الفرس وفيه كسر الكاف وفتحها قال القاضى ورواه الهروي في مسلم فقال خسروانية وفى هذا الحديث دليل على استحباب التبرك بآثار الصالحين وثيابهم وفيه أن النهى عن الحرير المراد به الثوب المتمحض من الحرير أو ما أكثره حرير وأنه ليس المراد تحريم كل جزء منه بخلاف الخمر والذهب فإنه يحرم كل جزء منهما وأما قوله في الجبة (ان لها لبنة) فهو بكسر اللام واسكان الباء ضبطها القاضى وسائر الشراح وكذا هي في كتب اللغة والغريب قالوا وهى رقعة في جيب القميص هذه عبارتهم كلهم والله أعلم وأما قولها (وفرجيها مكفوفين) فهكذا وقع في جميع النسخ وفرجيها مكفوفين وهما منصوبان بفعل محذوف أي ورأيت فرجيها مكفوفين ومعنى المكفوف أنه جعل لها كفة بضم الكاف وهو ما يكف به جوانبها ويعطف عليها ويكون ذلك في الذيل وفى الفرجين وفى الكمين وفى هذا جواز لباس الجبة ولباس ماله فرجان وأنه لاكراهة فيه والله أعلم قوله (عن أبى ذبيان) هو بضم الذال وكسرها وقوله (أن عبد الله بن الزبير خطب فقال لا تلبسوا نساءكم الحرير فانى سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تلبسوا الحرير) هذا مذهب ابن الزبير وأجمعوا بعده على اباحة الحرير للنساء كما سبق وهذا الحديث الذى احتج به انما ورد في لبس الرجال لوجهين أحدهما أنه خطاب للذكور ومذهبنا ومذهب محققى الاصوليين أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال عند الاطلاق والثانى أن الاحاديث الصحيحة التى ذكرها مسلم قبل هذا وبعده صريحة في اباحته للنساء
[ 45 ]
وأمره صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة بأن يكسواه نساءهما مع الحديث المشهور أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحرير والذهب ان هذين حرام على ذكور أمتى حل لإناثها والله أعلم قوله (عن أبى عثمان قال كتب الينا عمر رضى الله عنه ونحن بأذربيجان يا عتبة بن فرقد) الى آخره هذا الحديث مما استدركه الدراقطنى على البخاري ومسلم وقال هذا الحديث لم يسمعه أبو عثمان من عمر بل أخبر عن كتاب عمر وهذا الاستدراك باطل فإن الصحيح الذى عليه جماهير المحدثين ومحققو الفقهاء والاصوليين جواز العمل بالكتاب وروايته عن الكاتب سواء قال في الكتاب أذنت لك في رواية هذا عنى أو أجزتك روايته عنى أو لم يقل شيئا وقد أكثر البخاري ومسلم وسائر المحدثين والمصنفين في تصانيفهم من الاحتجاج بالمكاتبة فيقول الراوى منهم وممن قبلهم كتب الى فلان كذا أو كتب الى فلان قال حدثنا فلان أو أخبرني مكاتبة والمراد به هذا الذى نحن فيه وذلك معمول به عندهم معدود في المتصل لاشعاره بمعنى الاجازة وزاد السمعاني فقال هي أقوى من الاجازة ودليلهم في المسألة الاحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب الى عماله ونوابه وأمرائه ويفعلون ما فيها وكذلك الخلفاء ومن ذلك كتاب عمر رضى الله عنه هذا فانه كتبه الى جيشه وفيه خلائق من الصحابة فدل على حصول الاتفاق منه وممن عنده في المدينة ومن في الجيش على العمل بالكتاب والله أعلم وأما قول أبى عثمان كتب الينا عمر فكهذا ينبغى للراوى بالمكاتبة أن يقول كتب الى فلان قال حدثنا فلان أو أخبرنا فلان مكاتبة أو في كتابه أو فيما كتب به الى ونحو هذا ولايجوز أن يطلق قوله حدثنا ولا أخبرنا هذا هو الصحيح وجوزه طائفة من متقدمي اهل الحديث وكبارهم منهم منصور والليث وغيرهما والله أعلم قوله (ونحن بأذربيجان) هي اقليم معروف وراء العراق وفى ضبطها وجهان مشهوران اشهرهما وأفصحهما وقول الأكثرين أذربيجان بفتح الهمزة بغير مدة واسكان الذال وفتح الراء وكسر الباء قال صاحب المطالع وآخرون هذا هو المشهور والثانى
[ 46 ]
مد الهمزة وفتح الذال وفتح الراء وكسر الباء وحكى صاحب المشارق والمطالع أن جماعة فتحوا الباء على هذا الثاني والمشهور كسرها قوله (كتب الينا عمر يا عتبة بن فرقد أنه ليس من كدك ولاكد أبيك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير) أما قوله كتب الينا فمعناه كتب الى أمير الجيش وهو عتبة بن فرقد ليقرأه على الجيش فقرأه علينا وأما قوله (ليس من كدك) فالكد التعب والمشقة والمراد هنا أن هذا المال الذى عندك ليس هو من كسبك ومما تعبت فيه ولحقتك الشدة والمشقة في كده وتحصيله ولاهو من كد أبيك وأمك فورثته منهما بل هو مال المسلمين فشاركهم فيه ولا تختص عنهم بشئ بل أشبعهم منه وهم في رحالهم أي منازلهم كما تشبع منه في الجنس والقدر والصفة ولا تؤخر أرزاقهم عنهم ولا تحوجهم يطلبونها منك بل أوصلها إليهم وهم في منازلهم بلا طلب وأما قوله (واياكم والتنعم وزى العجم) فهو بكسر الزاى ولبوس الحرير هو بفتح اللام وضم الباء ما يلبس منه ومقصود عمر رضى الله تعالى عنه حثهم على خشونة العيش وصلابتهم
[ 47 ]
في ذلك ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك وقد جاء في هذا الحديث زيادة في مسند أبى عوانة الاسفراينى وغيره باسناد صحيح قال أما بعد فاتزروا وارتدوا وألقوا الخفاف والسراويلات وعليكم بلباس أبيكم اسماعيل واياكم والتنعم وزى الأعاجم وعليكم بالشمس فانها حمام العرب وتمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وابرزوا وارموا الأغراض والله أعلم قوله (فرئيتهما أزرار الطيالسة حتى رأيت الطيالسة) فقوله فرئيتهما هو بضم الراء وكسر الهمزة وضبطه بعضهم بفتح الراء قوله (فما عتمنا أنه يعنى الاعلام) هكذا ضبطناه عتمنا بعين مهملة مفتوحة ثم تاء مثناة فوق مشددة مفتوحة ثم ميم ساكنة ثم نون ومعناه ما أبطأنا في معرفة أنه أر الاعلام يقال عتم الشئ إذا أبطأ وتأخر وعتمته إذا أخرته ومنه حديث سلمان الفارسى رضى الله عنه أنه غرس كذا وكذا أودية والنبى صلى الله عليه وسلم يناوله وهو يغرس فما عتمت منها واحدة أي ما أبطأت أن علقت فهذا الذى ذكرناه من ضبط اللفظة وشرحها هو الصواب المعروف الذى
[ 48 ]
صرح به جمهور الشارحين وأهل غريب الحديث وذكر القاضى فيه عن بعضهم تغييرا واعتراضا لا حاجة الى ذكره لفساده قوله (عن قتادة عن الشعبى عن سويد بن غفلة أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه خطب بالجابية فقال نهى نبى الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير الا موضع أصبحين أو ثلاث أو أربع) هذا الحديث مما استدركه الدراقطنى على مسلم وقال لم يرفعه عن الشعبى إلا قتادة وهو مدلس ورواه شعبة عن أبى السفر عن الشعبى من قول عمر موقوفا ورواه بيان وداود بن أبى هند عن الشعبى عن سويد عن عمر موقوفا عليه وكذا قال شعبة عن الحكم عن خيثمة عن سويد وقاله ابن عبد الأعلى عن سويد وأبو حصين عن ابراهيم عن سويد هذا كلام الدراقطنى وهذه الزيادة في هذه الراوية انفرد بها مسلم لم يذكرها البخاري وقد قدمنا أن الثقة إذا انفرد برفع ما وقفه الأكثرون كان الحكم لروايته وحكم بأنه مرفوع على الصحيح الذى عليه الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين وهذا من ذاك والله أعلم وفى هذه الرواية إباحة العلم من الحرير في الثوب إذا لم يزد على أربع أصابع وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور وعن مالك رواية
[ 49 ]
بمنعه وعن بعض أصحابه رواية باباحة العلم بلا تقدير بأربع أصابع بل قال يجوز وان عظم وهذان القولان مردودان بهذا الحديث الصريح والله أعلم قوله (حدثنا محمد بن عبد الله الرزى) هو براء مضمومة ثم زاى مشددة قوله (فأطرتها بين نسائى) أي قسمتها قوله (ان أكيدر دومة) هي بضم الدال وفتحها لغتان مشهورتان وزعم ابن دريد أنه لا يجوز إلا لضم وأن المحدثين
[ 50 ]
يفتوحنها وأنهم غالطون في ذلك وليس كما قال بل هما لغتان مشهورتان قال الجوهرى أهل الحديث يقولونها بالضم وأهل اللغة يفتحونها ويقال لها أيضا دوما وهى مدينة لها حصن عادى وهى في برية في أرض نخل وزرع يسقون بالنواضح وحولها عيون قليلة وغالب زرعهم الشعير وهى عن المدينة على نحو ثلاث عشرة مرحلة وعن دمشق على نحو عشر مراحل وعن الكوفة على قدر عشر مراحل أيضا والله أعلم وأما أكيدر فهو بضم الهمزة وفتح الكاف وهو أكيدر بن عبد الملك الكندى قال الخطيب البغدادي في كتابه المبهمات كان نصرانيا ثم أسلم قال وقيل بل مات نصرانيا وقال ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني في كتابهما في معرفة الصحابة ان أكيدرا هذا أسلم وأهدى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء قال ابن الأثير في كتابه معرفة الصحابة أما الهدية والمصالحة فصحيحان وأما الاسلام فغلط قال لأنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير ومن قال أعلم فقد أخطأ خطأ فاحشا قال وكان أكيدر نصرانيا فلما صالحه النبي صلى الله عليه وسلم عاد الى حصنه وبقى فيه ثم حاصره خالد بن الوليد في زمان أبى بكر الصديق رضى الله عنه فقتله مشركا نصرانيا يعنى لنقضه العهد قال وذكر البلاذرى أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاد الى دومة فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ادتد أكيدر فلما سار خالد من العراق الى الشام قتله وعلى هذا القول لا ينبغى أيضا عده في الصحابة هذا كلام ابن الأثير قوله (ان أكيدر دومة أهدى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه عليا فقال شققه خمرا بين الفواطم) أما الخمر فسبق أنه بضم الميم جمع خمار وأما الفواطم فقال الهروي والأزهري والجمهور انهن ثلاث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت أسد وهى
[ 51 ]
أم على بن أبى طالب وهى أول هاشمية ولدت لهاشمي وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب وذكر الحافظان عبدالغنى بن سعيد وابن عبد البر باسنادهما أن عليا رضى الله عنه قسمه بين الفواطم الأربع فذكر هؤلاء الثلاث قال القاضي عياض يشبه أن تكون الرابعة فاطمة بنت شيبة بن ربيعة امرأة عقيل بن أبي طالب لاختصاصها بعلي رضي الله عنه بالمصاهرة وقربها إليه بالمناسبة وهي من المبايعات شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا ولها قصة مشهورة في الغنائم تدل على ورعها والله أعلم قال القاضي هذه المذكورات فاطمة بنت أسد أم علي كانت منهن وهو مصحح لهجرتها كما قاله غير واحد خلافا لمن زعم أنها ماتت قبل الهجرة وفي هذا الحديث جواز قبول هدية الكافر وقد سبق الجمع بين الأحاديث المختلفة في هذا وفيه جواز هدية الحرير الى الرجال وقبولهم إياه وجواز لباس النساء له قوله
[ 52 ]
(أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه فنزعه نزعا شديدا كالكاره له ثم قال لا ينبغى هذا للمتقين) الفروج بفتح الفاء وضم الراء المشددة هذا هو الصحيح المشهور في ضبطه ولم يذكر الجمهور غيره وحكى ضم الفاء وحكى القاضى في الشرح وفى المشارق تخفيف الراء وتشديدها والتخفيف غريب ضعيف قالوا وهو قباء له شق من خلفه وهذا اللبس المذكور في هذا الحديث كان قبل تحريم الحرير على الرجال ولعل أول النهى والتحريم كان حين نزعه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذى ذكره مسلم قبل هذا بأسطر حين صلى في قباء ديباج ثم نزعه وقال نهانى عنه جبريل فيكون هذا أول التحريم والله أعلم باب أباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في قمص الحرير في السفر من حكة كانت بهما) وفى رواية أنهما شكوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب
[ 53 ]
الشافعي وموافقيه أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة وكذلك للقمل وما في معنى ذلك وقال مالك لا يجوز وهذا الحديث حجة عليه وفى هذا الحديث دليل لجواز لبس الحرير عند الضرورة كمن فاجأته الحرب ولم يجد غيره وأما قوله لحكة فهى بكسر الحاء وتشديد الكاف وهى الجر أو نحوه ثم الصحيح عند أصحابنا والذى قطع به جماهيرهم أنه يجوز لبس الحرير للحكة ونحوها في السفر والحضر جميعا وقال بعض أصحابنا يختص بالسفر وهو ضعيف باب النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر قوله (حدثنا محمد بن مثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثنى أبى عن يحيى حدثنى محمد بن ابراهيم ابن الحارث أن ابن معدان أخبره أن جبير بن نفير أخبره أن عبد الله بن عمرو بن العاص أخبره
[ 54 ]
قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثوبين معصفرين فقال ان هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها) وفى الرواية الأخرى قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم على ثوبين معصرفين فقال أمك أمرتك بهذا قلت أغسلها قال بل أحرقهما وفى رواية على رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسى والمعصفر هذا الاسناد الذى ذكرنا فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض وهم يحى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن ابراهيم بن الحارث التيمى وخالد بن معدان وجبير ابن نفير واختلف العلماء في الثياب المعصفرة وهى المصبوغة بعصفر فأباحها جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك لكنه قال غيرها أفضل منها وفى رواية عنه أنه أجاز لبسها في البيوت وأفنية الدور وكرهه في المحافل والأسواق ونحوها وقال جماعة من العلماء هو مكروه كراهة تنزيه وحملوا النهى على هذا لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء وفى الصحيحين عن ابن عمر رضى الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة وقال الخطابى النهى منصرف الى ما صبغ من الثياب بعد النسج فأما ما صبغ غزله ثم نسج فليس بداخل في النهى وحمل بعض العلماء النهى هنا على المحرم بالحج أو العمرة ليكون موافقا لحديث ابن عمر رضى الله عنه نهى المحرم أن يلبس ثوبا همسه ورس أو زعفران وأما البيهقى رضى الله عنه فأتقن المسألة فقال في كتابه معرفة السنن نهى الشافعي الرجل عن المزعفر وأباح المعصفر قال الشافعي وانما رخصت في المعصفر لأنى لم أجد أحدا يحكى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهى عنه إلا ما قال على رضى الله عنه نهانى ولا أقول نهاكم قال البيهقى وقد جاءت أحاديث تدل على النهى على العموم ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
[ 55 ]
هذا الذى ذكره مسلم ثم أحاديث أخر ثم قال لو بلغت هذه الأحاديث الشافعي لقال بها ان شاء الله ثم ذكر باسناده ما صح عن الشافعي أنه قال إذا كان حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولى فاعملو بالحديث ودعوا قولى وفى رواية فهو مذهبي قال البيهقى قال الشافعي وأنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر قال وآمره إذا تزعفر أن يغسله قال البيهقى فتبع السنة في المزعفر فمتا بعتها في المعصفر أولى قال وقد كره المعصفر بعض السلف وبه قال أبو عبد الله الحليمى من أصحابنا ورخص فيه جماعة والسنة أولى بالاتباع والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أمك أمرتك بهذا) معناه أن هذا من لباس النساء وزيهن وأخلاقهن وأما الأمر باحراقهما فقيل هو عقوبة وتغليظ لزجره
[ 56 ]
وزجر غيره عن مثل هذا الفعل وهذا نظير أمر تلك المرأة التى لعنت الناقة بارسلها وأمر أصحاب بريرة ببيعها وأنكر عليهم اشتراط الولاء ونحو ذلك والله أعلم باب فضل لباس ثياب الحبرة هذان الاسنادان اللذان في الباب كل رجالهم بصريون وسبق بيان هذا مرات قوله (كان أحب الثياب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة) هي بكسر الحاء وفتح الباء وهى ثياب من كتان أو قطن محبرة أي مزينة والتحبير التزيين والتحسن ويقال ثوب حبرة على الوصف وثوب حبرة على الاضافة وهو أكثر استعمالا والحبرة مفرد والجمع حبر وحبرات كعنبة وعنب وعنبات ويقال ثوب حبير على الوصف فيه دليل لاستحباب لباس الحبرة وجواز لباس المخطط وهو مجمع عليه والله أعلم باب التواضع في اللباس والاقتصار على الغليظ منه (واليسير في اللباس والفراش وغيرهما وجواز لبس ثوب الشعر وما فيه أعلام) في هذه الأحاديث المذكورة في الباب ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهادة قى الدنيا والاعراض عن متاعها وملاذها وشهواتها وفاخر لباسها ونحوه واجتزائه بما يحصل به أدنى التحزية في ذلك كله وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره قوله (أخرجت
[ 57 ]
الينا عائشة رضى الله عنها ازارا وكساء ملبدا فقالت في هذا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال العلماء الملبد بفتح الباء وهو المرقع يقال لبدت القميص ألبده بالتشديد وقيل هو الذى ثخن وسطه بالتخفيف فيهما ولبدته ألبده حتى صار كاللبد قوله (وعليه مرط مرحل من شعر أسود) أما المرط فبكسر الميم واسكان الراء وهو كساء يكون تارة من صوف وتارة من شعر أو كتان أو خز قال الخطابى هو كساء يؤتزر به وقال النضر لا يكون المرط الادرعا ولا يلبسه الا النساء ولا يكون الاأخضر وهذا الحديث يرد عليه وأما قوله مرحل فهو بفتح الراء وفتح الحاء المهملة هذا هو الصواب الذى رواه الجمهور وضبطه المتقنون وحكى القاضى أن بعضهم رواه بالجيم أي عليه صور الرجال والصواب الأول ومعناه عليه صورة رجال الابل ولا بأس بهذه الصور
[ 58 ]
وانما يحرم تصوير الحيوان وقال الخطابى المرحل الذى فيه خطوط وأما قوله من شعر أسود فقيدته بالاسود لأن الشعر قد يكون أبيض قوله (انما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى ينام عليه أدما حشوه ليف) وفى رواية وسادة بدل فراش وفى نسخة وساد فيه جواز اتخاذ الفرش والوسائد والنوم عليها والارتقاق بها وجواز المحشو وجواز اتخاذ ذلك من الجلود وهى الأدم والله أعلم باب جواز اتخاذ الأنماط قوله صلى الله عليه وسلم لجابر حين تزوج (اتخذت أنماطا قال وأنى لنا قال أما انها ستكون) الأنماط بفتح الهمزة جمع نمط بفتح النون والميم وهو ظهارة الفراش وقيل ظهر الفراش ويطلق
[ 59 ]
أيضا على بساط لطيف له خمل يجعل على الهودج وقد يجعل سترا ومنه حديث عائشة الذى ذكره مسلم بعد هذا في باب الصور قالت فأخذت نمطا فسترته على الباب والمراد في حديث جابر هو النوع الأول وفيه جواز اتخاذ الأنماط إذا لم تكن من حرير وفيه معجزة ظاهرة بإخباره بها وكانت كما أخبر قوله (عن جابر قال وعند امرأتي نمط فأنا أقول نحيه عنى وتقول قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انها ستكون) قوله نحيه عنى أي أخرجيه من بيتى كانه كرهه كراهة تنزيه لأنه من زينة الدنيا وملهياتها والله أعلم باب كراهة ما زاد على الحاجة من الفراش واللباس قوله صلى الله عليه وسلم (فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف والرابع للشيطان) قال العلماء معناه أن ما زاد على الحاجة فاتخاذه انما هو للمباهاة والاختيال والالتهاء بزينة الدنيا وما كان بهذه الصفة فهو مذموم وكل مذموم يضاف الى الشيطان لأنه يرتضيه ويوسوس به ويحسنه ويساعد عليه وقيل أنه على ظاهره وأنه إذا كان لغير حاجة كان للشيطان عليه مبيت ومقيل كما أنه يحصل له المبيت بالبيت الذى لا يذكر الله تعالى صاحبه عند دخوله عشاء وأما تعديد الفراش للزوج والزوجة فلا
[ 60 ]
بأس به لأنه قد يحتاج كل واحد منهما الى فراش عند المرض ونحوه وغير ذلك واستدل بعضهم بهذا على أنه لا يلزمه النوم مع امرأته وأن له الانفراد عنها بفراش والاستدلال به في هذا ضعيف لأن المراد بهذا وقت الحاجة كالمرض وغيره كما ذكرنا وان كان النوم مع الزوجة ليس واجبا لكنه بدليل آخر والصواب في النوم مع الزوجة أنه إذا لم يكن لواحد منهما عذر في الانفراد فاجتماعهما في فراش واحد أفضل وهو ظاهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى واظب عليه مع مواظبته صلى الله عليه وسلم على قيام الليل فينام معها فإذا أراد القيام لوظيفته قام وتركها فيجمع بين وظيفته وقضاء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف لاسيما ان عرف من حالها حرصها على هذا ثم انه لا يلزم من النوم معها الجماع والله أعلم باب تحريم جر الثوب خلاء (وبيان حد ما يجوز ارخاؤه إليه وما يستحب) قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينظر الله الى من جر ثوبه خيلاء) وفى رواية ان الله لا ينظر الى من يجر ازاره بطرا وفى رواية عن ابن عمر مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى ازارى استرخاء فقال يا عبد الله ارفع ازارك فرفعته ثم قال زد فزدت فما زلت اتحراها بعد فقال بعض القوم أين فقال أنصاف الساقين قال العلماء الخيلاء بالمد والمخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر
[ 61 ]
كلها بمعنى واحد وهو حرام يقال خال الرجل خالاواختال اختيالا إذا تكبر وهو رجل خال أي متكبر وصاحب خال أي صاحب كبر ومعنى لا ينظر الله إليه أي لا يرحمه ولا ينظر إليه نظر رحمة وأما فقه الأحاديث فقد سبق في كتاب الايمان واضحا بفروعه وذكرنا هناك
[ 62 ]
الحديث الصحيح أن الاسبال يكون في الازار والقميص والعمامة وأنه لا يجوز اسباله تحت الكعبين ان كان للخيلاء فان كان لغيرها فهو مكروه وظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء وهكذا نص الشافعي على الفرق كما ذكرنا وأجمع العلماء على جواز الاسبال للنساء وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الاذن لهن في ارخاء ذيولهن ذراعا والله أعلم وأما القدر المستحب فيما ينزل إليه طرف القميص والازار فنصف الساقين كما في حديث ابن عمر المذكور وفى حديث أبى سعيد ازاره المؤمن الى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ما أسفل من لك فهو في النار فالمستحب نصف الساقين والجائز
[ 63 ]
بلا كراهة ما تحته الى الكعبين فما نزل عن الكعبين فهو ممنوع فان كان للخيلاء فهو ممنوع منع تحريم والا فمنع تنزيه وأما الأحاديث المطلقة بأن ما تحت الكعبين في النار فالمراد بها ما كان للخيلاء لانه مطلق فوجب حمله على المقيد والله أعلم قال القاضى قال العلماء وبالجملة يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة والله أعلم قوله (مس ابن يناق) هو بياء مثناة تحت مفتوحة ثم نون مشددة وبالقاف غير مصروف والله أعلم باب تحريم التبختر في المشى مع اعجابه بثيابه قوله صلى الله عليه وسلم (بينما رجل يمشى قد أعجبته جمته وبراده إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل
[ 64 ]
في الأرض حتى تقوم الساعة) وفى رواية بينما رجل يتبختر يمشى في برديه وقد أعجبته نفسه فخسف الله به يتجلجل بالجيم أي يتحرك وينزل مضطربا قيل يحتمل أن هذا الرجل من هذه الأمة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع هذا وقيل بل هو اخبار عمن قبل هذه الأمة وهذا هو الصحيح وهو معنى ادخال البخاري له في باب ذكر بنى اسرائيل والله أعلم
[ 65 ]
باب تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ (ماكان من إباحته في أول الاسلام) أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء وأجمعوا على تحريمه على الرجال الاما حكى عن أبى بكر بن محمد بن عمربن محمد بن حزم أنه أباحة وعن بعض أنه مكروه لاحرام وهذان النقلان باطلان فقائلهما محجوج بهذه الأحاديث التى ذكرها مسلم مع اجماع من قبله على تحريمه له مع قوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير ان هذين حرام على ذكور أمتى حل لانائها قال أصحابنا ويحرم سن الخاتم إذا كان ذهبا وان كان باقيه فضة وكذ لوموه خاتم الفضة بالذهب فهو حرام قوله (نهى عن خاتم الذهب) أي في حق الرجال كما سبق قوله (رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه) فيه ازالة المنكر باليد لمن قدر عليها وأما قوله صلى الله عليه وسلم حين نزعه من يد الرجل يعمد أحدكم الى جمرة من نار فيجعلها في يده) ففيه تصريح بأن النهى عن خاتم الذهب للتحريم كما سبق وأما قول صاحب هذا الخاتم حين قالوا له خذه لا آخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه المبالغة في امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتناب نهيه وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضيفة ثم ان هذا الرجل انما ترك الخاتم على سبيل الاباحة لمن أراد أخذه من الفقراء وغيرهم وحينئذ يجوز أخذه لمن شاء فإذا أخذه جاز تصرفه
[ 66 ]
فيه ولو كان صاحبه أخذه لم يحرم الأخذ والتصرف فيه بالبيع وغيره ولكن تورع عن أخذه وأراد الصدقة به على من يحتاج إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن التصرف فيه بكل وجه وانما نهاه عن لبسه وبقى ما سواه من تصرفه على الاباحة قوله (فكان يجعل فصه في باطن كفه) الفص بفتح الفاء وكسرها وفى الخاتم أربع لغات فتح التاء وكسرها وخيتام وخاتام قوله صلى الله عليه وسلم (والله لاألبسه أبدا فنبذ الناس خواتيمهم) فيه بيان ما كانت الصحابة
[ 67 ]
رضى الله عنهم عليه من المبادرة الى امتثال أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأفعاله قوله (اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق) الورق الفضة وقد أجمع المسلمون على جواز خاتم الفضة للرجال وكره بعض علماء الشام المتقدمين لبسه لغير ذى سلطان ورووا فيه أثرا وهذا شاذ مردود قال الخطابى ويكره للنساء خاتم الفضة لأنه من شعار الرجال قال فان لم تجد خاتم ذهب فلتصفرة بزعفران وشبهه وهذا الذي قاله ضيعف أو باطل لاأصل له والصواب أنا لاكراهة في لبسها خاتم الفضة قوله (اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم) خاتما من ورق فكان في يده ثم كان في يد أبى بكر ثم كان في يد عمر ثم كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس نقشه محمد رسول الله فيه التبرك بآثار الصالحين ولبس لباسهم وجواز ليس الخاتم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يورث اذلو ورث لدفع الخاتم الى ورثته بل كان الخاتم والقدح والسلاح ونحوها من آثاره الضرورية صدقة للمسلمين يصرفها والى الامر حيث رأى من المصالح فجعل القدح عند أنس اكراما له لخدمته ومن أراد التبرك به لم يمنعه وجعل باقى الأثاث عند ناس معروفين واتخذ الخاتم عنذه للحاجة التى اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم لها فانها موجودة في الخليفة بعده ثم الخليفة الثاني ثم الثالث وأما بئر أريس فبفتح الهمزة وكسر الراء وبالسين المهملة
[ 68 ]
وهو مصروف وأما قوله (نقشه محمد رسول الله) ففيه جواز نقش الخاتم ونقش اسم صاحب الخاتم وجواز نقش اسم الله تعالى هذا مذهبنا ومذهب سعيد بن المسيب ومالك والجمهور وعن ابن سيرين وبعضهم كراهة نقش اسم الله تعالى وهذا ضعيف قال العلماء وله أن ينقش عليه اسم نفسه أو ينقش عليه كلمة حكمة وأن ينقش ذلك مع ذكر الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينقش أحد على نقش خاتمي هذا) سبب النهى أنه صلى الله عليه وسلم انما اتخذ الخاتم ونقش فيه ليختم به كتبه الى ملوك العجم وغيرهم فلو نقش غيره مثله لدخلت المفسدة وحصل الخلل قوله (وكان إذا لبسه جعل فصه مما يلي بطن كفه) قال العلماء لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بشى فيجوز جعل فصه
[ 69 ]
في باطن كفه وفى ظاهرها وقد عمل السلف بالوجهين وممن اتخذه في ظاهرها ابن عباس رضى الله عنه قالوا ولكن الباطل أفضل اقتداء به صلى الله عليه وسلم ولأنه أصون لفصه وأسلم له وأبعد من الزهو والاعجاب قوله ((فصاغ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما حلقة فضة) هكذا هو في جميع النسخ حلقة فضة بنصب حلقة على البدل من خاتما وليس فيها هاء الضمير والحلقة ساكنة اللام على المشهور وفيها لغة شاذة ضعيفة حكاها الجوهرى وغيره بفتحها قوله (عن ابن شهاب عن أنس رضى
[ 70 ]
الله عنه أنه أبصر في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحد فصنع الناس الخواتم من ورق فلبسوه فطرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتمهم) قال القاضى قال جميع أهل الحديث هذا وهم من ابن شهاب فوهم من خاتم الذهب الى خاتم الورق والمعروف من روايات أنس من غير طريق ابن شهاب اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتم فضة ولم يطرحه وإنما طرح خاتم الذهب كما ذكره مسلم في باقى الأحاديث ومنهم من تأول حديث ابن شهاب وجمع بينه وبين الروايات فقال لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم خاتم الذهب اتخذ خاتم فضة فلما لبس خاتم الفضة أراه الناس في ذلك اليوم ليعلمهم اباحته ثم طرح خاتم الذهب وأعلمهم تحريمه فطرح الناس خواتيمهم من الذهب فيكون قوله فطرح الناس خواتمهم أي خواتم الذهب وهذا التأويل هو الصحيح وليس في الحديث ما يمنعه وأما قوله فصنع الناس الخواتم من الورق فلبسوه ثم قال فطرح خاتمة فطرحوا خواتمهم فيحتمل أنهم لما علموا أنه صلى الله عليه وسلم يصطنع لنفسه خاتم فضة اصطنعوا لأنفسهم خواتيم فضة بقيت معهم خواتيم الذهب كما بقى مع النبي صلى الله
[ 71 ]
عليه وسلم الى أن طرح خاتم الذهب واستبدلوا الفضة والله أعلم قوله (وكان فصه حبشيا) قال العلماء يعنى حجرا حبشيا أي فصا من جزع أو عتيق فان معدنهما بالحبشة واليمن وقيل لونه حبشي أي أسود وجاء في صحيح البخاري من رواية حميد عن أنس أيضا فصه منه قال ابن عبد البر هذا أصح وقال غيره كلاهما صحيح وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت خاتم فصه منه وفى وقت خاتم فصه حبشي وفى حديث آخر فصه من عقيق قوله (في حديث طلحة بن يحيى وسليمان بن بلال عن يونس عن ابن شهاب عن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتم فضة في يمينه) وفى حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه وأشار الى الخنصر من يده اليسرى وفى حديث على نهانى صلى الله عليه وسلم أن أتختم في أصبعي هذه أو هذه فأومأ الى الوسطى والتى تليها وروى هذا الحديث في غيرهم السبابة والوسطى وأجمع المسلمون على أن السنة جعل خاتم الرجل في الخنصر وأما المرأة فانها تتخذ خواتيم في أصابع قالوا والحكمة في كونه في الخنصر أنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد لكونه طرفا ولأنه لا يشغل اليد عما تتناوله من أشغالها بخلاف غير الخنصر ويكره للرجل جعله في الوسطى والتى تليها لهذا الحديث وهى كراهة تنزيه وأما التختم في اليد اليمنى أو اليسرى فقد جاء فيه هذان الحديثان وهما صحيحان وقال الدارقطني لم يتابع سليمان بن
[ 72 ]
بلال على هذه الزيادة وهى قوله في يمينه قال وخالفه الحفاظ عن يونس مع أنه لم يذكرها أحد من أصحاب الزهري مع تضعيف إسماعيل بن أبى أويس رواتها عن سليمان ابن بلال وقد ضعف إسماعيل بن أبى أويس أيضا يحيى بن معين والنسائي ولكن وثقه الأكثرون واحتجوا به واحتج به البخاري ومسلم في صحيحهما وقد ذكر مسلم أيضا من رواية طلحة بن يحيى مثل رواية سليمان بن بلال فلم ينفرد بها سليمان بن بلال فقد اتفق طلحة وسليمان عليها وكون الأكثرين لم يذكروها لايمنع صحتها فان زيادة الثقة مقبوله والله أعلم وأما الحكم في المسألة عند الفقهاء فأجمعوا على جواز التختم في اليمين وعلى جوازه في اليسار
[ 73 ]
ولاكراهة في واحدة منهما واختلفوا أيتهما أفضل فتحتمك كثيرون من السلف في اليمين وكثيرون في اليسار واستحب مالك اليسار وكره اليمين وفى مذهبنا وجهان لأصحابنا الصحيح أن اليمين أفضل لأنه زينة واليمين أشرف وأحق بالزينة والاكرام وأما ما ذكره في حديث على رضى الله تعالى عنه من القسى والمياثر وتفسيرها فقد سبق بيانه واضحا في بابه والله أعلم باب استحباب لبس النعال وما في معناها قوله صلى الله عليه وسلم حين كانوا في غزاة (استكثروا من النعال فان الرجل لا يزال راكبا ما انتعل) معناه أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة عليه وقلة تعبه وسلامة رجله مما يعرض في الطريق من خشونة وشوك وأذى ونحو ذلك وفيه استحباب الاستظهار في السفر بالنعال وغيرهما مما يحتاج إليه المسافر واستحباب وصية الأمير أصحابه بذلك
[ 74 ]
باب استحباب لبس النعال في اليمنى أولا والخلع من اليسرى أولا (وكراهة المشى في نعل واحدة) قوله صلى الله عليه وسلم (إذا انتعل أحدكم فليبدأ بالميمنى وإذا خلع فليبدأ بالشمال ولينعلهما جميعا أو ليخلعها جميعا) وفى الرواية الأخرى لا يمش أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا وفى رواية إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى حتى يصلها وفى رواية ولا يمشى في خف واحد أما قوله صلى الله عليه وسلم لينعلهما فبضم الياء وأما قوله صلى الله عليه وسلم أو ليخلعها فكذا هو في جميع نسه مسلم ليخلعها بالخاء المعجمة واللام والعين وفى صحيح البخاري ليحفها بالحاء المهملة والفاء من الحفاء وكلاهما صحيح ورواية البخاري أحسن وأما الشسع فبشين معجمة مكسورة ثم سين مهملة ساكنة وهو أحد سيور النعال وهو الذى يدخل بين الأصبعين ويدخل طرفه في النقب الذى في صدر النعل المشدود في الزمام والزمام هو السير الذى يعقد فيه الشسع وجمعه شسوع أما فقه الأحاديث ففيه ثلاث مسائل أحدها يستحب البداءة باليمنى في كل ما كان من باب التكريم والزينة والنطافة ونحو ذلك كلبس النعل والخف والمداس والسراويل والكم وحلق الرأس وترجيله وقص الشارب ونتف الابط والسواك والاكتحال وتقليم الأظفار والوضوء والغسل والتيمم ودخول المسجد والخروج من الخلاء ودفع الصدقة وغيرها من أنواع الدفع الحسنة وتناول الأشياء الحسنة ونحو ذلك الثانية يستحب البداءة باليسار في كل ما هو ضد السابق في المسألة الأولى فمن ذلك خلع النعل والخف والمداس والسراويل والكم والخروج من المسجد ودخول الخلاء والاستنجاء وتناول أحجار الاستنجاء
[ 75 ]
ومس الذكر والامتخاط والاستنثار وتعاطى المستقذرات وأشباهها الثالثة يكره المشى في نعل واحدة أو خف واحد أو مداس واحد لا لعذر ودليله هذه الأحاديث التى ذكرها مسلم قال العلماء وسببه أن ذلك تشويه ومثله ومخالف للوقار ولأن المنتعلة تصير أوفع من الأخرى فيعسر مشيه وربما كان سببا للعثار وهذه الآداب الثلاثة التى في المسائل الثلاث مجمع على استحبابها وأنها ليست واجبة وإذا انقطع شسعه ونحوه فليخلعهما ولا يمشى في الأخرى وحدها حتى يصلحها وينعلها كما هو نص في الحديث قوله (حدثنا ابن إدريس عن الأعمش عن أبى رزين قال خرج الينا أبو هريرة رضى الله عنه فضرب بيده على جبهته فقال انكم وذكر الحديث) وفى الرواية الثانية عن على بن مسهر قال أخبرنا الأعمش عن أبى رزين وأبى صالح عن أبى هريرة بمعناه هكذا وقع هذان الاسنادان في جميع نسخ مسلم وذكر القاضى عن أبى على الغساني أنه قال في الرواية الثانية قال أبو مسعود الدمشقي انما يرويه أبو رزين عن أبى صالح عن أبى هريرة كذا وأخرجه أبو مسعود في كتابه عن مسلم وذكر أن على بن مسهر انفرد بهذا هذا آخر ما ذكره القاضى وهذا استدرك فاسد لأن أبارزين قد صرح في الرواية الأولى بسماعه من أبى هريرة بقوله خرج الينا أبو هريرة الى آخره واسم أبى رزين مسعود بن مالك الأسدى الكوفى كان عالما
[ 76 ]
باب النهى عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد كاشفا (بعض عورته وحكم الاستلقاء على ظهره رافعا إحدى رجليه على الأخرى) قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله أو يمشى في نعل واحدة وأن يشتمل الصماء وأن يحتبى في ثوب واحد كاشفا عن فرجه) أما الأكل بالشمال فسبق بيانه في بابه وسبق في الباب الماضي حكم المشى في نعل واحدة وأما اشتمال الصماء بالمد فقال الأصمعى هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده لا يرفع منه جانبا فلا يبقى ما يخرج منه يده ومذا يقوله أكثر أهل اللغة قال ابن قتيبة سميت صماء لأنه سد المنافذ كلها كالصخرة الصماء التى ليس فيها خرق ولاصدع قال أبو عبيد وأما الفقهاء فيقولون هو أن يشتمل بثوب ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه قال العلماء فعلى تفسير أهل اللغة يكره الاشتمال المذكور لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها أو غير ذلك فيعسر عليه أو يتعذر فيلحقه الضرر وعلى تفسير الفقهاء يحرم الاشتمال المذكور ان انكشف به بعض العورة وإلا فيكره وأما الاحتباء بالمد فهو أن يقعد الانسان على إليته وينصب ساقيه ويحتوى عليهما بثوب أو نحوه أو بيده وهذه القعد يقال لها الحبوة بضم الحاء وكسرهما
[ 77 ]
وكان هذا الاحتباء عادة للعرب في مجالسهم فان انكشف معه شئ من عورته فهو حرام والله أعلم قوله (نهى عن اشتمال الصماء وأن يرفع الرجل احدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره وفى الرواية الأخرى (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا احدى رجليه على الأخرى) قال العلماء أحاديث النهى عن الاستلقاء رافعا احدى رجليه على
[ 78 ]
الأخرى محمولة على حالة تظهر فيها العورة أو شئ منها وأما فعله صلى الله عليه وسلم فكان على وجه لا يظهر منها شئ وهذا لا بأس به ولاكراهة فيه على هذه الصفة وفى هذا الحديث جواز الاتكاء في المسجد والاستلقاء فيه قال القاضى لعله صلى الله عليه وسلم فعل هذا لضرورة أو حاجة من تعب أو طلب راحة أو نحو ذلك قال والافقد علم أن جلوسه صلى الله عليه وسلم في المجامع على خلاف هذا بل كان يجلس متربعا أو محتبيا وهو كان أكثر جلوسه أو القرفصاء أو مقعيا وشبهها من جلسات الوقار والتواضع قلت ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان الجواز وأنكم إذا أردتم الاستلقاء فليكن هكذا وأن النهى الذى نهيتكم عن الاستلقاء ليس هو على الاطلاق بل المراد به من ينكشف شئ من عورته أو يقارب انكشافها والله أعلم قوله (وحدثنا اسحق بن ابراهيم وعبد بن حميد قالا أخبرنا عبد الرزاق) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وكذا ذكره أبو علي الغساني عن رواية الجلودى قال وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقي عن مسلم قال وفى رواية ابن ماهان اسحق بن منصور بدل اسحق بن ابراهيم قال الغساني الأول هو الذى أعتقد صوابه لكثرة ما يجئ اسحق بن ابراهيم وعبد بن حميد في رواية مسلم مقرونين عن عبد الرزاق وان كان اسحق بن منصور أيضا يروى عن عبد الرزاق وهذا الذى صوبه الغساني هو الصواب وكذا ذكره الواسطي في الأطراف عن رواية مسلم
[ 79 ]
باب نهى الرجل عن التزعفر قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل) هذا دليل لمذهب الشافعي وموافقيه في تحريم لبس الثوب المرعفر على الرجل وقد سقت المسألة في باب نهى الرجل عن الثوب المعصفر والله أعلم باب استحباب خضاب الشيب بفصرة أو حمرة وتحريمه بالسواد قوله (أتى بأبى قحافة رضى الله عنه يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غيروا هذا بشئ واجتنبوا السواد) وفى رواية إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم أما الثغامة بثاء مثلثة مفتوحة ثم غين معجمة مخففة قال أبو عبيد هو نبت أبيض الزهر والثمر شبه بياض الشيب به وقال ابن الأعرابي شجرة تبيض كأنها الملح وأما أبو قحافة بضم القاف
[ 80 ]
وتخفيف الحاء المهملة واسمه عثمان فهو ولد أبى بكر الصديق أسلم يوم فتح مكة ويقال صبغ يصبغ بضم الياء وفتحها ومذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة ويحرم خضابه بالسواد على الاصح وقيل يكره كراهة تنزيه والمختار التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم واجتنبوا السواد هذا مذهبنا وقال القاضى اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفى جنسه فقال بعضهم ترك الخضاب أفضل ورووا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهى عن تغيير الشيب لأنه صلى الله عليه وسلم لم يغير شببه روى هذا عن عمر وعلى وأبى وآخرين رضى الله عنهم وقال آخرون الخضاب أفضل وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره ثم اختلف هؤلاء فكان أكثرهم يخضب بالصفرة منهم ابن عمر وأبو هريرة وآخرون وروى ذلك عن على وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم وبعضهم بالزعفران وخضب جماعة بالسواد روى ذلك عن عثمان والحسن والحسين ابني على وعقبة بن عامر ابن سيرين وأبى بردة وآخرين قال القاضى قال الطبراني الصواب أن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب وبالنهى عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبى قحافة والنهى لمن له شمط فقط قال واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك مع أن الأمر والنهى في ذلك ليس للوجوب بالاجماع ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض خلافه في ذلك قال ولايجوز أن يقال فيهما ناسخ ومنسوخ قال القاضى وقال غيره هو على حالين فمن كان في موضع عادة أهل الصبغ أو تركه فخروجه عن العادة شهرة ومكروه والثانى أنه يختلف باختلاف نظافة الشيب فمن كان شيبته تكون نقية أحسن منها مصبوغة فالترك أولى ومن كانت شيبته تستبشع فالصبغ أولى هذا ما نقله القاضى والأصح الأوفق للسنة ما قدمناه عن مذهبنا والله أعلم
[ 81 ]
باب تحريم تصوير صورة الحيوان (وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه) (وأن الملائكة عليهم السلام لا يدخلون بيتا فيه صورة أو كلب) قال أصحابنا وغيرهم من العلماء تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو اناء أو حائط أو غيرها وأما تصوير صورة الشجر ورحال الابل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام هذا حكم نفس التصوير وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فان كان معلقا على حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام وان كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت فيه كلام نذكره قريبا إن شاء الله ولافرق في هذا كله بين ماله ظل ومالاظل له هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
[ 82 ]
وهو مذهب الثوري ومالك وأبى حنيفة وغيرهم وقال بعض السلف انما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التى ليس لها ظل وهذا مذهب باطل فان الستر الذى أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع باقى الأحاديث المطلقة في كل صورة وقال الزهري النهى في الصورة على العموم وكذلك استعمال ماهى فيه ودخول البيت الذى هي فيه سواء كانت رقما في ثوب أو غير رقم وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن عملا بظاهر الأحاديث لاسيما حديث النمرقة الذى ذكره مسلم وهذا مذهب قوى وقال آخرون يجوز منها ما كان رقما في ثوب سواء امتهن أم لا وسواء علق في حائط أم لاوكرهوا ما كان له ظل أو كان مصورا في الحيطان وشبهها سواء كان رقما أو غيره واحتجوا بقوله في بعض أحاديث الباب إلا ما كان رقما في ثوب وهذا مذهب القاسم بن محمد وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره قال القاضى إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته وادعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث والله أعلم قوله (أصبح يوما واجما) هو بالجيم قال أهل اللغة هو الساكت الذى يظهر عليه الهم والكابة وقيل هو الحزين يقال وجم يجم وجوما قوله (أصبح يوما واجما فقالت ميمونة يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان جبريل كان وعدني ان يلقانى الليلة فلم يلقنى أم والله ما أخلقني) وذكر الحديث فيه أنه يستحب
[ 83 ]
للانسان إذا رأى صاحبه ومن له حق واجما أن يسأله عن سببه فيساعده فيما يمكن مساعدته أو يتحزن معه أو يذكره بطريق يزول به ذلك العارض وفيه التنبيه على الوثوق بوعد الله ورسله لكن قد يكون للشئ شرط فيتوقف على حصوله أو يتخيل توقيته بوقت ويكون غير موقت به ونحو ذلك وفيه أنه إذا تكدر وقت الانسان أو تنكدت وظيفته ونحو ذلك فينبغي أن يفكر في سببه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا حتى استخرج الكلب وهو من نحو قول الله تعالى " ان الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " قوله (ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه) أما الجرو فبكسر الجيم وضمها وفتحها ثلاث لغات مشهورات وهو الصغير من أولاد الكلب وسائر السباع والجمع أجر وجراء وجمع الجراء أجرية وأما الفسطاط ففيه ست لغات فسطاط فستاط بالتاء وفساط بتشديد السين وضم الفاء فيهن وتكسر وهو نحو الخباء قال القاضى والمراد به هنا بعض حجال البيت بدليل قولها في الحديث الآخر تحت سرير عائشة وأصل الفسطاط عمود الأخبية التى يقام عليها والله أعلم وأما قوله ثم أخذ بيده ماء فنضح به مكانه فقد احتج به جماعة في نجاسة الكلب قالوا والمراد بالنضح الغسل وتأولته المالكية على أنه غسله لخوف حصول بوله أو روثه
[ 84 ]
قوله صلى الله عليه وسلم (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة) قال العلماء سبب امتناعهم من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب لكثرة أكله النجاسات ولأن بعضها يسمى شيطانا كما جاء به الحديث والملائكة ضد الشياطين ولقبح رائحة الكلب والملائكة تكره الرائحة القبيحة ولأنها منهى عن اتخاذها فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته وصلاتها فيه واستغفارها له وتبريكها عليه وفى بيته ودفعها أذى للشيطان وأما هؤلاء الملائكة لذين لا يدخلون بيتا فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار وأما الحفظة فيدخلون في كل بيت ولا يفارقون بنى آدم في كل حال لأنهم مأمورون باحصاء أعمالهم وكتابتها قال الخطابى وانما لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور فأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التى تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه وأشار القاضى الى نحو ما قاله الخطابى والأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة وأنهم يمتنعون من الجميع لاطلاق الأحاديث ولأن الجرو الذى كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم تحت السرير كان له فيه عذر ظاهر فانه لم يعلم به ومع هذا امتنع جبريل صلى الله عليه وسلم من دخول البيت وعلل بالجرو فلو كان العذر في وجود الصورة والكلب لا يمنعهم لم يمتنع جبريل والله أعلم قوله (فأمر بقتل الكلاب حتى أنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير ويترك كلب الحائط الكبير) المراد بالحائط البستان وفرق بين
[ 85 ]
الحائطين لأن الكبير تدعو الحاجة الى حفظ جوانبه ولا يتمكن الناظور من المحافظة على ذلك بخلاف الصغير والأمر بقتل الكلاب منسوخ وسبق ايضاحه في كتاب البيوع حيث بسط مسلم أحاديثه هناك قوله (إلا رقما في ثوب) هذا يحتج به من يقول باباحة ماكان رقما مطلقا كما سبق وجوابنا وجواب الجمهور عنه أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره مما ليس
[ 86 ]
بحيوان وقد قدمنا أن هذا جائز عندنا قوله (عن عائشة رضى الله عنها قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاته فأخذت نمطا فسترته على الباب فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه وقال ان الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين قالت فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا فلم بعب ذلك على المراد بالنمط هنا بساط لطيف له خمل وقد سبق ببانه قريبا في باب اتخاذ الأنماط وقولها (هتكه) هو بمعنى قطعه وأتلف الصورة التى فيه وقد صرحت في الروايات المذكورات بعد هذه بأن هذا النمط كان فيه صور الخيل ذوات الأجنحة وأنه كان فيه صورة فيستدل به لتغير المنكر باليد وهتك الصور المحرمة والغضب عند رؤية المنكر وأنه يجوز اتخاذ الوسائد والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم حين جذب النمط وأزاله ان الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين فاستدلوا به على أنه يمنع من ستر الحيطان وتنجيد البيوت بالثياب وهو منع كراهة تنزيه لا تحريم هذا هو الصحيح وقال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي من أصحابنا هو حرام وليس في هذا الحديث ما يفتضى تحريمه لأن حقيقة
[ 87 ]
اللفظ أن الله تعالى لم يأمرنا بذلك وهذا يقتضى أنه ليس بواجب ولا مندوب ولا يقتضى التحريم والله أعلم قوله (عن عائشة رضى الله عنها قالت كانت لنا تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم حولي هذا فانى كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا) هذا محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة فلهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل ويراه ولا ينكره قبل هذه المرة الأخيرة قولها (سترت على بابى درنوكا فيه الخيل ذوات الأجنحة فأمرني فنزعته) أما قولها سترت فهو بتشديد التاء الأولى وأما الدونوك فبضم الدال وفتحها حكاهما القاضى وآخرون والمشهور ضمها والنون مضمومة لاغير ويقال فيه درموك بالميم وهو ستر له خمل وجمعه درانك قولها
[ 88 ]
(دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام) هكذا هو في معظم النسخ متسترة بتاءين مثنابين فوق بينهما سين وفي بعضها مستترة بسين ثم تاءين أي متخذة سترا وأما القرام فبكسر القاف الرقيق الستر وهو قولها (وقد سترت سهوه لى بقرام) السهوة بفتح السين المهملة قال الأصمعى هي شبيهة بالرف أوبالطاق يوضع عليه الشئ قال أبو عبيد وسمعت غير واحد من أهل اليمن يقولون السهوة عندنا بيت صغير متحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض يشبه الخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع قال أبو عبيد وهذا عندي أشبه ما قيل في السهوة وقال الخليل هي أربعة أعواد أو ثلاثة يعرض بعضها على بعض ثم يوضع عليها
[ 89 ]
شئ من الأمتعة وقال ابن الأعرابي هي الكوة بين الدارين وقيل بيت صغير يشبه المخدع وقيل
[ 90 ]
هي كالصفة تكون بين يدى البيت وقيل شبيه دخلة في جانب البيت والله أعلم قوله (اشتريت نمرقة) هي بضم النون والراء ويقال بكسرهما ويقال بضم النون وفتح الراء ثلاث لغات ويقال نمرق بلاهاء وهى وسادة صغيرة وقيل هي مرفقة قوله صلى الله عليه وسلم (ان أصحاب هذه الصور يعذبون ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) وفى الرواية السابقة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى وفى رواية الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيو ما خلقتم وفى رواية ابن عباس كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذبه في جهنم وفى رواية من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس ينافخ وفى رواية قال الله تعالى " أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة " أما قوله صلى الله عليه وسلم (ويقال لهم أحيواما خلقتم) فهو الذى يسميه الأصوليون أمر تعجيز كقوله تعالى فأتوا بعشر سور مثله قوله في رواية ابن عباس يجعل له فهو بفتح الياء من يجعل والفاعل هو الله تعالى أضمر للعلم به قال القاضى في رواية ابن عباس يحتمل أن معناها أن الصورة التى صورها هي تعذبه بعد أن يجعل فيها روح وتكون الباء في بكل بمعنى في قال ويحتمل أن يجعل له بعدد كل صورة ومكانها شخص يعذبه وتكون الباء بمعنى لام السبب وهذه الأحاديث صريحة في تحريم تصوير الحيوان وانه غليظ التحريم وأما
[ 91 ]
الشجر ونحوه ممالا روح فيه فلا تحرم صنعته ولا التكسب به وسواء الشجر المثمر وغيره وهذا مذهب العلماء كافة الا مجاهدا فانه جعل الشجر المثمر من المكروه قال القاضى لم يقله أحد غير مجاهد واحتج مجاهد بقوله تعالى " أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي " واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم ويقال لهم أحيوا ما خلقتم أي اجعلوه حيونا ذا روح كما ضاهيتم وعليه رواية أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي حديث ابن عباس رضى الله عنه المذكور في الكتاب ان كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر وما لانفس له وأما رواية أشد عذابا فقيل هي محمولة على من فعل الصورة لتعبد وهو صانع الأصنام ونحوها فهذا كافر وهو أشد عذابا وقيل هي فيمن قصد المعنى الذى في الحديث من مضاهاة خلق الله تعالى واعتقد ذلك فهذا كافر له من أشد العذاب ما للكفار ويزيد عذابه بزيادة قبح كفره فأما من لم يقصد بها العبادة ولا المضاهاة فهو فاسق صاحب ذنب كبير ولا يكفر كسائر المعاصي وأما قوله تعالى " ذرة أو حبة أو شعيرة " فالذرة بفتح الذال وتشديد الراء ومعناه فليخلقوا ذرة فيها روح تتصرف بنفسها كهذه الذرة التى هي خلق الله تعالى وكذلك فليخلقوا حبة حنطة أو شعير أي ليخلقوا حبة فيها طعم تؤكل وتزرع وتنبت ويوجد فيها ما يوجد في حبة الحنطة والشعير ونحوهما من الحب الذى يخلقه الله تعالى وهذا أمر تعجيز كما سبق والله أعلم
[ 94 ]
باب كراهة الكلب والجرس في السفر قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولاجرس) وفى رواية (الجرس مزامير الشيطان) الرفقة بضم الراء وكسرها والجرس بفتح الراء وهو معروف هكذا ضبطه الجمهور ونقل القاضى أن هذه رواية الأكثرين قال وضبطناه عن أبى بحر باسكانها
[ 95 ]
وهو اسم للصوت فأصل الجرس بالاسكان الصوت الخفى أما فقه الحديث ففيه كراهة استصحاب الكلب والجرس في الاسفار وأن الملائكة لا تصحب رفقة فيها أحدهما والمراد بالملائكة ملائكة الرحمة والاستغفار لا الحفظة وقد سبق بيان هذا قريبا وسبق بيان الحكمة في مجانبة الملائكة بيتا فيه كلب وأما الجرس فقيل سبب منافرة الملائكة له أنه شبيه بالنواقيس أو لأنه من المعاليق المنهى عنها وقيل سببه كراهة صوتها وتؤيده رواية مزامير الشيطان وهذا الذى ذكرناه من كراهة الجرس على الاطلاق هو مذهبنا ومذهب مالك وآخرين وهى كراهة تنزيه وقال جماعة من متقدى علماء الشام يكره الجرس الكبير دون الصغير باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير قوله صلى الله عليه وسلم (لا يبقين في رقبة بغير قلادة من وتر أو قلادة الا قطعت) قال مالك أرى ذلك من العين هكذا هو في جميع النسخ قلادة من وتر أو قلادة فقلادة الثانية مرفوعة معطوفة على قلادة الأولى ومعناه أن الراوى شك هل قال قلادة من وتر أو قال قلادة فقط ولم يقيدها بالوتر وقول مالك أرى ذلك من العين هو بضم همزة أرى أي أظن أن النهى مختص فعل ذلك بسبب رفع ضرر العين وأما من فعله لغير ذلك من زينة أو غيرها فلا بأس القاضى الظاهر من مدهب مالك أن النهى مختص بالوتر دون غيره من القلائد قال وقد اختلف الناس في تقليد البعير وغيره من الانسان وسائر الحيوان ما ليس بتعاويذ مخافة العين فمنهم من منعه قبل الحاجة إليه وأجازه إليه وأجازه عند الحاجة لدفع ما أصابه من ضرر العين ونحوه ومنهم من
[ 96 ]
أجازه قبل الحاجة وبعدها كما يجوز الاستظهار بالتداوي قبل المرض هذا كلام القاضى وقال أبو عبيد كانوا يقلدون الابل الأوتار لئلا تصيبها العين فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بازالتها اعلاما لهم أن الأوتار لاترد شيئا وقال محمد بن الحسن وغيره معناه لا تقلدوها أوتار القسى لئلا تضيق على اعناقها فتخنقها وقال النضر معناه لا تطلبوا الدخول التى وترتم بها في الجاهلية وهذا تأويل ضعيف فاسد والله أعلم باب النهى عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه قوله (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب الحيوان في الوجه وعن الوسم في الوجه وفى رواية (مر عليه حماد وقد وسلم في وجهه فقال لعن الله الذى وسمه) وفى رواية
[ 97 ]
ابن عباس رضى الله عنه (فأنكر ذلك قال فوالله لاأسمه الاأقصى شئ من الوجه فأمر بحمار له فكوى في جاعرتيه فهو أول من كوى الجاعرتين) أما الوسم فبالسين المهملة هذا هو الصحيح المعروف في الروايات وكتب الحديث قال القاضى ضبطناه بالمهملة قال وبعضهم يقوله بالمهملة وبالمجمة وبعضهم فرق فقال بالمهملة في الوجه وبالمعجمة في سائر الجسد وأما الجاعرتان فيهما حرفا الورك المشرفان مما يلى الدبر وأما القائل فوالله لاأسمه الاأقصى شئ من الوجه فقد قال القاضى عياض هو العباس بن عبد المطلب كذا ذكره في سنن أبى داود وكذا صرح به في رواية البخاري في تاريخه قال القاضى وهو في كتاب مسلم مشكل يوهم أنه من قول النبي ص = والصواب أنه من قول العباس رضي الله عنه كما ذكرنا هذا كلام القاضي وقوله يوهم أنه من كلام النبي ص = ليس هو بظاهر فيه بل ظاهره أنه من كلام ابن عباس وحينئذ يجوز أن تكون القضية جرت للعباس ولابنه وأما الضرب في الوجه فمنهى عنه في كل الحيوان المحترم من الآدمى والحمير والخيل والابل والبغال والغنم وغيرها لكنه في الآدمى أشد لأنه مجمع المحاسن مع أنه لطيف لأنه يظهر فيه أثر الضرب وربما شانه وربما آذى بعض الحواس وأما الوسم في الوجه فمنهى عنه بالاجماع للحديث ولما ذكرناه فأما الآدمى موسمه حرام لكرامته ولأنه لا حاجة إليه فلا يجوز تعذيبه وأما غير الآدمى فقال جماعة من أصحابنا يكره وقال البغوي من أصحابنا لا يجوز فأشار الى تحريمه وهو الأظهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله واللعن يقتضى التحريم وأما وسم غير الوجه من غير الآدمى فجائز بلا خلاف عندنا لكن يستحب في نعم الزكاة والجزية ولايستحب في غيرها ولا ينهى عنه قال أهل اللغة الوسم أثركية يقال بعير موسوم وقد وسمه يسمه وسما وسمة والميسم الشئ الذى يوسم به وهو بكسر الميم وفتح السين وجمعه مياسم ومواسم وأصله كله من السمة وهى العلامة ومنه موسم الحج أي معلم جمع الناس وفلان موسوم بالخير وعليه سمة الخير أي علامته وتوسمت فيه كذا أي رأيت فيه علامته والله أعلم
[ 98 ]
باب جواز وسم الحيوان غير الآدمى في غير الوجه (وندبه في نعم الزكاة والجزية) قوله (عن أنس قال لما ولدت أم سليم قالت لى يا أنس انظر هذا الغلام فلا يصيبن شيئا حتى تغدو به الى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه فغدوت فإذا هو في الحائط وعليه خميصة حويتية وهو يسم الظهر الذى قدم عليه في الفتح) وفى رواية فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في مربد يسم غما قال شعبة وأكثر علمي أنه قال في آذنها وفى رواية رأيت في يد النبي صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة أما الخميصة فهى كساء من صوف أو خز ونحوهما مربع له أعلام وأما
[ 99 ]
قوله حويتية فاختلف رواة صحيح مسلم في ضبطه فالأشهر أنه بحاء مهملة مضمومة ثم واو مفتوحة ثم ياء مثناة تحت ساكنة ثم مثناة فوق مكسورة ثم مثناة تحت مشددة وفى بعضهم حوتنية باسكان الواو وبعدها مثناة فوق مفتوحة ثم نون مكسورة وقد ذكرها القاضى وفى بعضها حونية باسكان الواو وبعدها نون مكسورة وفى بعضها حريثية بحاء مهملة مضمومة وراء مفتوحة ثم مثناة تحت ساكنة ثم مثلثة مكسورة منسوبة الى بني حريث وكذا وقع في رواية البخاري لجمهور رواة صحيحة وفى بعضها حونبية بفتح الحاء المهملة واسكان الواو ثم نون مفتوحة ثم باء موحدة ذكره القاضى وفى بعضها خويثية بضم الخاء المعجمة وفتح الواو واسكان المثناة تحت وبعدها مثلثة حكاه القاضى وفى بعضها جوينية بجيم مضمومة ثم واو ثم مثناة تحت ثم نون مكسورة ثم مثناة تحت مشددة وفى بعضها جونية بفتح الجيم واسكان الواو وبعدها نون قال القاضى في المشارق ووقع لبعض رواة البخاري خيبرية منسوبة الى خيبر ووقع في الصحيحين حوتكية بفتح الحاء وبالكاف أي صغيرة ومنه رجل حوتكى أي صغير قال صاحب التحرير في شرح مسلم في الرواية الأولى هي منسوبة الى الحويت وهو قبيلة أو موضع وقال القاضى في المشارق هذه الروايات كلها تصحيف إلا روايتي جونية بالجيم وحريثية بالراء والمثلثة فأما الجونية بالجيم فمنسوبة الى بنى الجون قبيلة من الأزد أو الى لونها من السواد أو البياض أو الحمرة لأن العرب تسمى كل لون من هذه جونا هذا كلام القاضى وقال ابن الأثير في نهاية الغريب بعد أن ذكر الرواية الأولى هذا وقع في بعض نسخ مسلم ثم قال والمحفوظ المشهور جونية أي سوداء قال وأما الحويتية فلا أعرفها وطالما بحثت عنها فلم أقف لها على معنى والله أعلم وأما قوله قال شعبة وأكثر علمي روى بالثاء المثلثة وبالباء الموحدة وهما صحيحان والميسم بكسر الميم سبق بيانه في الباب قبله وسبق هناك أن وسم الآدمى حرام وأما غير الآدمى فالوسم في وجهه منهى عنه وأما غير الوجه فمستحب في نعم الزكاة والجزية وجائز في غيرها وإذا وسم فيستحب أن يسم الغنم في آذانها والابل والبقر في أصول أفخاذخا لأنه موضع صلب فيقل الألم فيه ويخف شعره ويظهر الوسم وفائدة الوسم تمييز الحيوان بعضه من بعض ويستحب أن يكتب في ماشية الجزية جزية أو صغار وفى ماشية الزكاة زكاة أو صدقة قال الشافعي وأصحابه يستحب كون ميسم الغنم ألطف من ميسم البقر وميسم البقر ألطف من ميسم الابل وهذا الذى قدمناه من استحباب وسم نعم الزكاة والجزية هو
[ 100 ]
مذهبنا ومذهب الصحابة كلهم رضى الله عنهم وجماهير العلماء بعدهم ونقل ابن الصباغ وغيره إجماع الصحابة عليه وقال أبو حنيفة هو مكروه لأنه تعذيب ومثله وقد نهى عن المثلة وحجة الجمهور هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التى ذكرها مسلم وآثار كثيرة عن عمر وغيره من الصحابة رضى الله عنهم ولأنها ربما شردت فيعرفها واجدها بعلامتها فيردها والجواب عن النهى عن المثلة والتعذيب أنه عام وحديث الوسم خاص فوجب تقديمه والله أعلم وأما المربد فبكسر الميم واسكان الراء وفتح الموحدة وهو الموضع الذى تحبس فيه الابل وهو مثل الحظيرة للغنم فقوله هنا في مربد يحتمل أنه أراد الحظيرة التى للغنم فأطلق عليها اسم المربد مجازا لمقاربتها ويحتمل أنه على ظاهره وأنه أدخل الغنم مربد الابل ليسمها فيه وأما قوله يسم الظهر فالمراد به الابل سميت بذلك لأنها تحمل الأثقال على ظهورها وفى هذا الحديث فوائد كثيرة منها جواز الوسم في غير الآدمى واستحبابه في نعم الزكاة والجزية وأنه ليس في فعله دناءة ولاترك مروءة فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ومنها بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع وفعل الأشغال بيده ونظره مصالح المسلمين والاحتياط في حفظ مواشيهم بالوسم وغيره ومنها استحباب تحنيك المولود وسنبسطه في بابه إن شاء الله تعالى ومنها حمل المولود عند ولادته الى واحد من أهل الصلاح والفضل يحنكه بتمرة ليكون أول ما يدخل في جوفة ريق الصالحين فيتبرك به والله أعلم باب كراهة القزع قوله (أخبرني عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع قلت
[ 101 ]
لنافع وما القزع قال يحلق بعض رأس الصبى ويترك بعض) وفى رواية أن هذا التفسير من كلام عبيدالله القزع بفتح القاف والزاى وهذا الذى فسره به نافع أو عبيدالله هو الأصح وهو أن القزع حلق بعض الرأس مطلقا ومنهم من قال هو حلق مواضع منفرقة منه والصحيح الأول لأنه تفسير الراوى وهو غير مخالف للظاهر فوجب العمل به وأجمع العلماء على كراهة القزع إذا كان في مواضع متفرقة إلا أن يكون لمداواة ونحوها وهى كراهة تنزيه وكرهه مالك في الجارية والغلام مطلقا وقال بعض أصحابه لا بأس به في القصة والقفا للغلام ومذهبنا كراهته مطلقا للرجل والمرأة لعموم الحديث قال العلماء والحكمة في كراهته أنه تشويه للخلق وقيل لأنه أذى الشر والشطارة وقيل لأنه زى اليهود وقد جاء هذا في رواية لأبى داود والله أعلم
[ 102 ]
باب النهى عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه قوله صلى الله عليه وسلم (إياكم والجلوس في الطرقات قالوا يارسول الله مالنا بد من مجالسنا نتحدث فيها قال فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) هذا الحديث كثير الفوائد وهومن الأحاديث الجامعة وأحكامه ظاهرة وينبغى أن يجتنب الجلوس في الطرقات لهذا الحديث ويدخل في كف الأذى اجتناب الغيبة وظن السوء واحقار بعض المارين وتضييق الطريق وكذا إذا كان القاعدون ممن يهابهم المارون أو يخافون منهم ويمتنعون من المرور في أشغالهم بسبب ذلك لكونهم لا يجدون طريقا إلا ذلك الموضع باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة (والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله تعالى قوله (جاءت امرأة فقالت يارسول الله ان لى ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله
[ 103 ]
فقال لعن الله الواصلة والمستوصلة) وفى رواية فتمرق شعر رأسها وزوجها يستحينها أفأصل شعرها يارسول الله فنهاها وفى رواية أنها مرضت فتمرط شعرها وفى رواية فاشتكت فتساقظ شعرها وأن زوجها يريدها أما تمرق فالبالراء المهملة وهو بمعنى تساقط وتمرط كما ذكر في باقى الروايات ولم يذكر القاضى في الشرح الا الراء المهملة كما ذكرنا وحكاه في المشارق عن جمهور الرواة ثم حكى عن جماعة من رواة صحيح مسلم أنه بالزاى المعجمة قال وهذا وان كان قريبا من معنى الأول ولكنه لا يستعمل في الشعر في حال المرض وأما قولها (ان لى ابنة عريسا) فبضم العين وفتح الراء وتشديد الياء المكسورة وتصغير عروس والعروس يقع على المرأة والرجل عند الدخول بها وأما الحصبة فبفتح الحاء واسكان الصاد المهملتين ويقال أيضا بفتح الصاد وكسرها ثلاث لغات حكاهن جماعة والاسكان أشهر وهى بثر تخرج في الجلد يفول منه حصب جلده بكسر الصاد يحصب وأما الواصلة فهى التى تصل شعر المرأة بشعر آخر والمستوصلة التي تطلب من يفعل بها ذلك ويقال لها موصولة وهذه الأحاديث صريحة في تحريم الوصل ولعن الواصلة والمستوصلة مطلقا وهذا هو الظاهر المختار وقد فصله أصحابنا فقالوا ان وصلت شعرها بشعر آدمى فهو حرام بلا خلاف سواء كان شعر رجل أو امرأة وسواء شعر المحرم والزوج وغيرهما بلا خلاف لعموم الأحاديث ولانه يحرم الانتفاع بشعر الآدمى وسائر أجزائه لكرامته بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه وان وصلته بشعر غير آدمى فان كان شعرا نجسا وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل إذا انفصل في حياته فهو حرام أيضا للحديث ولانه
[ 104 ]
حمل نجاسة في صلاته وغيرها عمدا وسواء في هذين النوعين المزوجة وغيرها من النساء والرجال وأما الشعر الطاهر من غير الآدمى فان لم يكن لها زوج ولاسيد فهو حرام أيضا وان كان فثلاثة أوجه أحدها لا يجوز لظاهر الأحاديث والثانى لا يحرم وأصحها عندهم ان فعلته باذن الزوج أو السيد جازوالافهو حرام قالوا وأما تحمير الوجه والخضاب بالسواد وتطريق الأصابع فان لم يكن لها زوج ولاسيد أو كان وفعلته بغير اذنه فحرام وان أذن جاز على الصحيح هذا تلخيص كلام أصحابنا في المسألة وقال القاضى عياض اختلف العلماء في المسألة فقال مالك والطبري وكثيرون أو الأكثرون الوصل ممنوع بكل شئ سواء وصلته بشعر أو صوف أو خرق واحتجوا بحديث جابر الذى ذكره مسلم بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن تصل المرأة برأسها شيئا وقال الليث بن سعد النهى مختص بالوصل بالشعر ولا بأس بوصله بصوف وخرق وغيرها وقال بعضهم يجوز جميع ذلك وهو مروى عن عائشة ولا يصح عنها بل الصحيح عنا كقول الجمهور قال القاضى فأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر
[ 105 ]
فليس بمنهى عنه لأنه ليس بوصل ولاهو معنى مقصود الوصل وانما هو للتجمل والتحسين قال وفى الحديث أن وصل الشعر من المعاصي الكبائر للعن فاعله وفيه أن المعين على الحرام يشارك فاعله في الاثم كما أن المعاون في الطاعة يشارك في ثوابها والله أعلم وأما قولها وزوجها يستحنها فهكذا وقع في جماعة من النسخ باسكان الحاء وبعدها سين مكسورة ثم نون من الاستحسان أي يستحسنها فلا يصير عنها ويطلب تعجيلها إليه ووقع في كثير منها يستحثنيها بكسر الحاء وبعدها ثاء مثلثة ثم نون ثم ياء مثناة تحت من الحث وهو سرعة الشئ وفى بعضها يستحثها بعد الحاء ثاء مثلثة فقط والله أعلم وفى هذا الحديث أن الوصل حرام سواء كان لمعذروة
[ 106 ]
أو عروس أو غيرهما قوله (لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) أما الواشمة بالشين المعجمة ففاعلة الوشم وهى أن تغرز ابرة أو مسلة أو نحوهما في ظهر الكف أو المعصم أو الشفة أو غير ذلك من بدن المرأة حتى يسيل الدم ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل أو النورة فيخضر وقد يفعل ذلك بدارات ونقوش وقد تكثره وقد تقلله وفاعلة هذا واشمة وقد وشمت تشم وشما والمفعول بها موشومة فان طلبت فعل ذلك بها فهى مستوشمة وهو حرام على الفاعلة والمفعول بها باختيارها والطالبة له وقد يفعل بالبنت وهى طفلة فتأثم الفاعلة ولا تأثم البنت لعدم تكليفها حينئذ قال أصحابنا هذا الموضع الذى وشم يصير نجسا فان أمكن ازالته بالعلاج وجبت ازالته وان لم يمكن الا بالجرح فان خاف منه التلف أو فوات عضو أو منفعة عضو أو شيئا فاحشا في عضو ظاهر لم تجب إزالته فإذا بان لم يبق عليه اثم وإن لم يخف شيئا من ذلك ونحوه لزمه إزالته ويعصى بتأخيره وسواء في هذا كله الرجل والمرأة والله أعلم وأما النامصة بالصاد المهملة فهى التى تزيل الشعر من الوجه والمتنمصة التى تطلب فعل ذلك بها وهذا الفعل حرام الا إذا نبتت للمرأة لحية أو شوارب فلاتحرم إزالتها بل يستحب عندنا وقال ابن جرير لا يجوز حلق لحيتها ولا عنفقتها ولاشاربها ولا تغيير شئ من خلقتها بزيادة ولا نقص ومذهبنا ما قدمناه من استحباب إزالة اللحية والشارب والعنفقة وأن النهى إنما هو في الحواجب وما في أطراف الوجه ورواه بعضهم المنتمصة بتقديم النون والمشهور تأخيرها ويقال للمنقاش منماص بكسر الميم وأما المتفلجات فبالفاء والجيم والمراد مفلجات الأسنان بأن تبرد ما بين أسنانها الثنايا والرباعيات وهو من الفلج بفتح الفاء واللام وهى فرجة بين الثنايا والرباعيات وتفعل ذلك العجوز ومن قاربتها في السن اظهارا للصغر وحسن الأسنان لأن هذه للفرجة اللطيفة بين الأسنان تكون للبنات الصغار فإذا عجزت المرأة كبرت سنها وتوحشت فتبردها بالمبرد
[ 107 ]
لتصير لطيفة حسنة المنظر وتوهم كونها صغيرة ويقال له أيضا الوشر ومنه لعن الواشرة والمستوشرة وهذا الفعل حرام على الفاعلة والمفعول بها لهذه الأحاديث ولأنه تغيير لخلق الله تعالى ولأنه تزوير ولأنه تدليس وأما قوله المتفلجات للحسن فمعناه يفعلن ذلك طلبا للحسن وفيه اشارة الى أن الحرام هو المفعول لطلب الحسن أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب في السن ونحوه فلا بأس والله أعلم قوله (لو كان ذلك لم نجامعها) قال جماهير العلماء معناه لم نصاحبها ولم نجتمع نحن وهى بل كنا نطلقها ونفاقها قال القاضى ويحتمل ان معناه لم أطأها وهذا ضعيف والصحيح ما سبق فيحتج به في أن من عنده امرأة مرتكبة معصية كالوصل أوتر الصلاة
[ 108 ]
أو غيرهما ينبغى له أن يطلقها والله أعلم قوله (حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير حدثنا الأعمش عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الاسناد مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال الصحيح عن الأعمش ارساله قال ولم يسنده عنه غير جرير وخالفه أبو معاوية وغيره فرووه عن الأعمش عن ابراهيم مرسلا قال والمتن صحيح من رواية منصور عن ابراهيم يعنى كما ذكره في الطرق السابقة وهذا الاسناد فيه أربعة تابعيون بعضهم عن بعض وهم جرير والأعمش وابراهيم وعلقمة وقد رأى جرير رجلا من الصحابة وسمع أبا الطفيل وهو صحابي والله أعلم قوله (ان معاوية تناول وهو على المنبر فصة من شعر كانت في يدى حرسي) قال الأصمعى وغيره هي شعر مقدم الرأس المقبل على الجبهة وقيل شعر الناصية والحرسى كالشرطي وهو غلام الأمير قوله (وأخرج كبة من شعر) هي بضم الكاف وتشديد الباء وهى شعر مكفوف بعضه على بعض قوله (يا أهل المدينة أين علماؤكم) هذا السؤال للانكار عليهم باهمالهم إنكار هذا المنكر وغفلتهم عن تغييره وفى حديث معاوية هذا اعتناء الخلفاء وسائر ولاة الأمور بانكار المنكر وإشاعة إزالته وتوبيخ من أهمل إنكاره ممن توجه ذلك عليه قوله صلى الله عليه وسلم (إنما هلكت بنو اسرائيل حين اتخد هذه نساؤهم) قال القاضى قيل يحتمل
[ 109 ]
أنه كان محرما عليهم فعوقبوا باستعماله وملكوا بسببه وقيل يحتمل أن الهلاك كان به وبغير مما ارتكبوه من المعاصي فعند ظهور ذلك فيهم هلكوا وفيه معاقبة العامة بظهور المنكر باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات قوله صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها
[ 110 ]
الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وان ريحها توجد من مسيرة كذا وكذا) هذا الحديث من معجزات النبوة فقد وقع هذان الصنفان وهما موجودان وفيه ذم هذين الصنفين قيل معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها وقيل معناه تستر بعض بذنها وتكشف بعضه إظهارا بحالها ونحوه وقيل معناه تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها وأما مائلات فقيل معناه عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه مميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم وقيل مائلات يمشين متبخترات مميلات لأكتافهن وقيل مائلات يمشطن المشطة المائلة وهى مشطة البغايا مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة ومعنى رؤسهن كأسنمة البخت أن يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها باب النهى عن التزوير في اللباس وغيره (والتشبع مما لم يعط) قولها امرأة قالت يارسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطنى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبع بما لم يعظ كلابس ثوبي زور) قال العلماء معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور قال أبو عيدوآخرون هو الذى يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع ومقصوده أن يظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه فهذه ثياب
[ 111 ]
زور ورياء وقيل هو كمن لبس ثوبين لغيره وأوهم أنهما له وقيل هو من يلبس فميصا واحد ويصل بكمية كمين آخرين فيظهر أن عليه قميصين وحكى الخطابى قولا آخر أن المراد هنا بالثوب الحالة والمذهب والعرب تكنى بالثوب عن حال لابسه ومعناه أنه كالكاذب القائل ما لم يكن وقولا آخر أن المراد الرجل الذى تطلب منه شهادة زو فيلبس ثوبين يتجمل بهما فلا ترد شهادته لحسن هيئته والله أعلم قوله في اسناد الباب (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا وكيع عبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها) وذكر الحديث وبعده عن ابن نمير أيضا عن عبدة عن هشام عن فاطمة عن أسماء الحديث وبعده عن أبى بكر بن أبى شيبة عن أبى أسامة وعن إسحاق عن أبى معاوية كلاهما عن هشام بهذا الاسناد هكذا وقعت هذه الأسانيد في جميع نسخ بلادنا على هذا الترتيب ووقع في نسخة ابن ماهان رواية ابن أبي شيبة وإسحاق عقيب رواية ابن نمير عن وكيع ومقدمة على رواية ابن نمير عن عبدة وحده واتفق الحفاط على أن هذا الذى في نسخة ابن ماهان خطأ قال عبدالغنى بن سعيد هذا خطأ قبيح قال وليس يعرف حديث هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها الامن رواية مسلم عن ابن نمير ومن رواية معمر ين راشد وقال الدارقطني في كتاب العلل حديث هشام عن أبيه عن عائشة انما يرويه هكذا معمر والمبارك ابن فضالة ويرويه غيرهما عن فاطمة عن أسماء وهو الصحيح قال وإخراج مسلم حديث هشام عن أبيه عن عائشة لا يصح والصواب حديث عبدة ووكيع وغيرهما عن هشام عن فاطمة عن أسماء والله أعلم
[ 112 ]
كتاب الآداب باب النهى عن التكنى بأبى القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء قوله (نادي رجل رجلا بالبقيع يا أبا القاسم فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله انى لم أعنك انما دعوت فلانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمعوا باسمى ولا تكنوا بكنيتي) اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهد كثيرة وجمعها القاضى وغيره أحدها مذهب الشافعي وأهل الظاهر أنه لا يحل التكنى بأبى القاسم لاحد أصلا سواء كان اسمه محمدا أو حمد أم لم يكن لظاهر هذا الحديث والثانى أن هذا النهى منسوخ فان هذا الحكم كان في أول الأمر لهذا المعنى المذكور في الحديث ثم نسخ قالوا فيباح التكنى اليوم بأبى القاسم لكل أحد سواء من اسمه محمد وأحمد وغيره وهذا مذهب مالك قال القاضى وبه قال جمهور السلف وفقهاء الأمصار وجمهور العلماء قالوا وقد اشتهر أن جماعنة تكنوا بأبى القاسم في العصر الأول وفيما بعد ذلك الى اليوم مع كثرة فاعل ذلك وعدم الانكار الثالث مذهب ابن جرير أنه ليس بمنسوخ وانما كان النهى للتنزيه والأدب لا للتحريم الرابع أن النهى عن
[ 113 ]
التكنى بأبى القاسم مختص بمن اسمه ممحمد أو أحمد ولا بأس بالكنية وحدها لمن لا يسمى بواحد من الاسمين وهذا قول جماعة من السلف وجاء فيه حديث مرفوع عن جابر الخامس أنه ينهى عن التكنى بأبى القاسم مطلقا وينهى عن التسمية بالقاسم لئلا يكنى أبوه بأبى القاسم وقد غير مروان ابن الحكم اسم ابنه عبد الملك حين بلغه هذا الحديث فسماه عبد الملك وكان سماه أولا القاسم وفعله بعض الأنصار أيضا السادس أن التسمية بمحمد ممنوعة مطلقا سواء كان له كنية أم لا وجاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمون أولادكم محمد اثم تلعنونهم وكتب عمر الى الكوفة لاتسمو أحد باسم نبى وأمر جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم محمد حتى ذكر له جماعة أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم في ذلك وسماهم به فتركهم قال القاضى والأشبه أن فعل عمر هذا إعظام لاسم النبي صلى الله عليه وسلم لئلا ينتهك الاسم كما سبق في الحديث تسمونهم محمدا ثم تلعنونهم وقيل سبب نهى عمر أنه سمع رجلا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب فعل الله بك يا محمد فدعاه عمر فقال أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك والله لا تدعى محمدا ما بقيت وسماه عبد الرحمن قوله (حدثنى ابراهيم بن زياد الملقب بسبلان) وهو بسين مهملة مفتوحة ثم موحدة مفتوحة قوله (عن عبيدالله بن عمر وأخيه عبد الله) هذا صحيح لأن عبيد الله ثقة حافظ وضابط مجمع على الاحتجاج به وأما أخوه عبد الله فضيعف لا يجوز الاحتجاج فإذا جمع بينهما الرازي جاز ووجب العمل بالحديث اعتمادا على عبيدالله قوله (صلى الله عليه وسلم (ان أحب اسمائكم الى الله عبد الله وعبد الرحمن) فيه التسمية بهذين الاسمين وتفضيلهما على سائر ما يسمى به قوله صلى الله عليه وسلم
[ 114 ]
فانما أنا قاسم أقسم بينكم) وفى رواية للبخاري في أول الكتاب في من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطى القاضى عياض هذا يشعر بأن الكنية انما تكون بسبب وصف صحيح في المكنى أو لسبب اسم ابنه وقال ابن بطال في شرح رواية البخاري معناه
[ 115 ]
أنى لم استأثر من مال الله تعالى شيئا دونكم وقاله تطيبا لقلوبهم حين فاضل في العطاء فقال الله هو الذى يعطيكم لاأنا وإنما أنا قاسم فمن قسمت له شيئا فذلك نصيبه قليلا كان أو كثيرا وأما غير ابي القاسم من الكنى فأجمع المسلمون على جوازه سواء كان له ابن أو بنت فكنى به أو بها أو لم يكن له ولد أو صغيرا أو كنى بغير ولده ويجوز أن يكنى الرجل أبا فلان
[ 116 ]
وأبا فلانة وأن تكنى المرأة أم فلانة وأم فلان وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للصغير أخى أنس يا أبا عمير ما فعل النغير والله أ علم قوله (ولاننعمك عينا) أي لانقرعينك بذلك وسبق شرح قرت عينه في حديث أبى بكر وضيفانه رضى الله عنهم قوله صلى الله
[ 117 ]
عليه وسلم عن بنى اسرائيل (أنهم كانو يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم) استدل به جماعة على جواز التسمية بأسماء الانبياء عليهم السلام وأجمع عليه العلماء إلا ما قدمناه عن عمر رضى الله عنه وسبق تأويله وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه ابراهيم وكان في أصحابه خلائق مسمون باسماء الانبياء قال القاضى وقد كره بعض العلماء التسمى بأسماء الملائكة وهو قول الحارث بن مسكين قال وكره مالك التسمى بجبريل وياسين باب كراهة التسمية بالاسماء القبيحة وبنافع ونحوه قوله (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسمى رقيقنا بأربعة أسماء أفلح ورباح ويسار ونافع) وفى رواية لا تسمين غلامك يسارا ولارباحا ولانجيحا ولا أفلح فانك تقول اثم هو فلا يكون
[ 118 ]
فيقول لاإنما هن أربع فلا تزيدن على) وفى رواية جابر قال (أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن أن يسمى بيعلى وبركة وبأفلح وبيسار وبنافع ونحو ذلك ثم رأيته سكت بعد عنها فلم يقل شيئا ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينه عن ذلك ثم أراد عمر أن ينهى عن ذلك ثم تركه) هكذا وقع هذا اللفظ في معظم نسخ صحيح مسلم التى ببلادنا أن يسمى بيعلى وفى بعضها بمقبل بدل يعلى وفى الجمع بين الصحيحين للحميدي بيعلى وذكر القاضى أنه في أكثر النسخ بمقبل وفى بعضها بيعلى قال والأشبه أنه تصحيف قال والمعروف بمقبل وهذا الذى أنكره القاضى ليس بمنكر بل هو المشهور وهو صحيح في الرواية وفى المعنى وروى بأبو داود في سننه هذا الحديث عن أبى سفيان عن جابزد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان عشت ان شاء الله أنهى أمتى أن يسموا نافعا وأفلح وبركة والله أعلم وأما قوله فلا تزيدون على هو بضم الدال ومعناه
[ 119 ]
الذى سمعته أربع كلمات وكذا روايتهن لكم فلا تزيدوا على في الرواية ولانتقلوا عنى غير الاربع وليس فيه منع القياس على الاربع وأن يلحق بها مافى معناها قال أصحابنا يكره التسمية بهذه الاسماء المذكورة في الحديث وما في معناه ولا تختص الكراهة بها وحدها وهى كراهة تنزيه لا تحريم والعلة في الكراهة ما بينه صلى الله عليه وسلم في قوله فانك تقول أثم هو فيقول لافكره لبشاعة الجواب وربما أوقع بعض الناس في شئ من الطيرة وأما قوله أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن هذه الاسماء فمعناه أراد أن ينهى عنها نهى تحريم فلم ينه وأما النهى الذى هو لكراهة التنزيه فقد نهى عنه في الأحاديث الباقية باب استحباب تغير الاسم القبيح الى حسن وتغير اسم برة (الى زينب وجويرية ونحوهما) قوله (ان ابنة لعمر كان يقال لها عاصية فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة) وفى الحديث الآخر كانت جويرية اسمها برة فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية وكان يكره أن
[ 120 ]
يقال خرج من عند برة وذكر في الحديثين الآخرين أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم برة بنت أبى سلمة برة بنت جحش فسماهما زينب وزينب وقال لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم معنى هذه الأحاديث تغيير الاسم القبيح أو المكروه الى حسن وقد ثبت أحاديث بتغيره
[ 121 ]
صلى الله عليه وسلم أسماء جماعة كثيرين من الصحابة وقد بين صلى الله عليه وسلم العلة في النوعين وما في معناهما وهى التزكية أو خوف النطير باب تحريم التسمى بملك الاملاك أو بملك الملوك قوله صلى الله عليه وسلم (ان أخنع اسم عند الله عزوجل تسمى ملك الأملاك لامالك إلا الله قال سفيان مثل شاهان شاه وقال أحمد بن حنبل سألت ابل عمرو عن أخنع فقال أوضع) وفى رواية أغيظ رجل على ال ه يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه رجل كان يسمى ملك الأملاك هكذا جاءت هذه الألفاظ هنا أخنع وأغيظ وأخبث وهذا التفسير الذى فسره أبو عمرو مشهور عنه وعن غيره قالوا معناه أشد ذلاوصغارا يوم القيامة والمراد صاحب الاسم ويدل عليه الرواية الثانية أغيظ رجل قال القاضى وقد يستدل به على أن الاسم هو المسمى وفيه الخلاف المشهور وقيل أختع يمعنى فجر يقال خنع الرجل الى المرأة والمرأة إليه أي دعاها الى الفجور وهو بمعنى أخبث أي أكذب الأسماء وقيل أقبح وفى رواية البخاري أخنأوهو بمعنى ما سبق أي أفحش وأفجر والخنى الفحش وقد يكون بمعنى أهلك لصاحبه المسمى الخنى الهلاك يقال أخنى عليه الدهر أي أهلكه قال أبو عبيدوروى أنخع أي أقتل والنخع القتل الشديد وأما قوله صلى الله عليه وسلم أغيظ رجل على الله وأغيظه عليه فهكذا وقع في جميع النسخ بتكرير أغيظ قال القاضى ليس تكريره وجه الكلام قال وفيه وهم من بعض الرواة بتكريره أو تغييره قال وقال بعض الشيوخ لعل أحدهما أغنظ بالنون والطاء والمهملة أي أشده عليه والغنط شدة الكرب قال الماوردى أغيظ هنا مصروف عن ظاهره والله سبحانه وتعالى لا يوصف بالغيظ فيتأول هنا الغيظ على الغضب وسبق شرح معنى الغضب والرحمة في
[ 122 ]
حق الله سبحانه وتعالى والله أعلم وأما قوله قال سفيان مثل شاهان شاه فكذا هو في جميع النسخ قال القاضى وقع في رواية شاه شاه قال وزعم بعبضهم أن الأصوب شاه شاهان وكذا جاء في بعض الأخبار في كسرى قالوا وشاه الملك وشاهان الملوك وكذا يقولون لقاضي القضاة موبذ موبذان قال القاضى ولا ينكر صحة ما جاءت به الرجال لأن كلام العجم مبنى على التقديم والتأخير في المضاف والمضاف إليه فيقولون في غلام زيد زيد غلام فهكذا أكثر كلامهم فرواية مسلم صحيحة واعلم أن التسمى بهذا الاسم حرم وكذلك التسمى بأسماء الله تعالى المختصة به كالرحمن والقدوس والمهيمن وخالق الخلق ونحوها وأما قوله قال أحمد بن حنبل سألت أبا عمر فأبو عمرو هذا هو اسحاق بن مرار بكسر الميم على وزن قتال وقيل مرار بفتحها وتشديد الراء كعمار وقيل بفتحها وتخفيف الراء كغزال وهو أبو عمر واللغوى النحوي المشهور وليس بأبى عمرو الشيباني ذاك تابعي توفى قبل ولادة أحمد بن حنبل والله أعلم باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله الى صالح (يحنكه وجواز تسميته يوم ولادته واستحباب التسمية) (بعبد الله وابراهيم وسائر أسماء الانبياء عليهم السلام) اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عند ولادته بتمر فان تعذر فما في معناه وقريب منه
[ 123 ]
من الحلو فيمضغ المحنك التمر حتى تصير مائعة بحيث تبتلع ثم بفتح فم المولود ويضعها فيه ليدخل شئ منها جوفة ويستحب أن يكون المحنك من الصالحين وممن يتبرك به رجلا كان أو امرأة فان لم يكن حاضرا عند المولود حمل إليه قوله (ذهبت بعبد الله بن أبى طلحة حين ولد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيرا له فقال هل معك تمر فقلت نعم فناولته تمرات فألقاهن في فيه فلاكهن ثم فغر فا الصبى فمجه فيه فجعل الصبى يتلمظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الأنصار التمر وسماه عبد الله) أما العباءة فمعروفة وهى ممدودة يقال فيها عباية بالياء وجمع العباءة العباء وأما قوله يهنأ فبهمزة آخره أي يطلبه بالقطران وهو الهناء بكسر الهاء والمد يقال هنأت البعير أهنأه ومعنى لاكهن أي مضغهن قال أهل اللغة اللوك مختص بمضغ الشئ الصلب وفغرفاه بفتح الفاء والغين المعجمة أي فتحه ومجه فيه أي طرحه فيه ويتلمظ أي يحرك لسانه ليتتبع مافى فيه من آثار التمر والتلمظ واللمظ فعل ذلك باللسان يقصد به فاعله تنقية الفم من بقايا الطعام وكذلك ما على الشفتين وأكثر ما يفعل ذلك في شئ يستطيبه ويقال تلمظ يتلمظ تلمظلة ولمظ يلمظ بضم الميم لمظا باسكانها ويقال لذلك الشئ الباقي في الفم لماظة بضم اللام وقوله صلى الله عليه وسلم حب الأنصار التمر روى بضم الحاء وكسرها فالكسر بمعنى المحبوب كالذبح بمعنى المدبوح وعلى هذا فالباء مرفوعة أي محبوب الأنصار التمر وأما من ضم الحاء فهو مصدر وفي الباء على هذا وجهان النصب وهو الأشهر والرفع فمن نصب فتقديره انظروا حب الأنصار التمر فينصب التمر أيضا ومن رفع قال هو مبتدأ حذف خبره أي حب الأنصار التمر لازم أو هكذا أو عادة من صغرهم والله أعلم وفى هذا الحديث فوائد منها تحنيك المولود عند ولادته وهو سنة بالاجماع كما سبق
[ 124 ]
ومنها أن يحنكه صالح من رجل أو امرأة ومنها التبرك بآثار الصالحين وريقهم وكل شئ منهم ومنها كون التحنيك بتمر وهو مستحب ولو حنك بغيره حصل التحنيك ولكن التمر أفضل ومنها جواز لبس العباءة ومنها التواضع وتعاطى الكبير أشغاله وأنه لا ينقص ذلك مروءته ومنها استحباب التسمية بعبد الله ومنها استحباب تقويض تسميته الى صالح فيختار له اسما يرتضيه ومنها جواز تسميته يوم ولادته والله أعلم قوله في الرواية الثانية أن الصبى لما مات فجاء أبوه أبو طلحة سأل أم سليم وهى أم الصبى ما فعل الصبى قالت هو أسكن مما كان فقربت إليه العشاء فتعشى ثم أصاب منها فلما فرغ قالت واروا الصبى أي أدفنوه فقد مات وفى هذا الحديث مناقب لأم سليم رضى الله عنهامن عظيم صبرها وحسن رضاها بقضاء الله تعالى وجزالة عقلها في اخفائها موته على أبيه في أول الليل لبيبت مستريحا بلا حزن ثم عشته وتعشت ثم تصنعت له وعرضت له باصابته فأصابها وفيه استعمال المعاريض عند الحاجة لقولها هو أسكن مما كان فانه كلام صحيح مع أن المفهوم منه أنه قدهان مرضه وسهل وهو في الحياة وشرط المعاريض المباحة أن لا يضيع بها حق أحد والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أعرستم الليلة) هو باسكان العين وهو كناية عن الجماع قال الأصمعى والجمهور يقال أعرس الرجل إذا دخل بامرأته قالوا ولايقال فيه عرس بالتشديد وأراد هنا الوطء وسماه اعراسا لأنه في معناه في المقصود قال صاحب التحرير روى أيضا أعرستم بفتح العين وتشديد الراء قال وهى لغة يقال عرس بمعنى أعرس قال لكن قال أهل اللغة أعرس أفصح من عرس في هذا وهذا السؤال للتعجب من صنيعها وصبرها وسرورا بحسن رصاها بقضاء الله تعالى ثم دعا صلى الله عليه وسلم لهما بالبركة في ليلتهما فاستجاب الله
[ 125 ]
تعالى ذلك الدعاء وحملت بعبدالله بن أبى طلحة وجاء من أولاد عبد الله اسحاق واخوته التسعة صالحين علماء رضى الله عنهم قوله (حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا يزيد بن هرون أخبرنا ابن عون عن ابن سيرين عن أنس) هكذا وقع في مسلم ابن سيرين مهملا وفى رواية البخاري هذا الحديث عن أنس بن سيرين قوله (عن أبى موسى رضى الله عنه قال ولد لى غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه بابراهيم وحنكه بتمرة) فيه التحنيك وغيره مما سبق في حديث أنس وفيه جواز التسمية بأسماء الانبياء عليهم السلام وقد سبقت المسألة وذكرنا أن الجماهير على ذلك وفيه جواز التسمية يوم الولادة وفيه أن قوله صلى الله عليه وسلم أحب الاسماء الى الله تعالى
[ 126 ]
عبد الله وعبد الرحمن ليس بمانع من التسمية بغيرهما ولذا سمى ابن أبى أسيد المذكور بعد هذا المنذر قولها (مسحه وصلى عليه وسماه عبد الله) معنى صلى عليه أي دعا له ومسحه تبركا ففيه استحباب الدعاء للمولود عند تحنيكه ومسحه للتبريك قوله (أن ابن الزبير جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك الزبير فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلا إليه ثم بايعه) هذا بيعة تبريك وتشريف لابيعة تكليف قولها (فخرجت وأنا متم) أي مقاربة للولادة قولها (ثم تفل في فيه) هو بالتاء المثناة فوق أي بصق كما صرح به في الرواية الأخرى قوله (وكان أول مولود ولد في الاسلام) يعنى أول من لد في الاسلام بالمدينة بعد الهجرة من أولادها المهاجرين والا فالنعمان بن بشير الأنصاري رضى الله عنه ولد قبله بعد الهجرة وفى هذا الحديث مع ما سبق شرحه مناقب كثيرة لعبدالله بن الزبير رضى الله عنه منها أن النبي
[ 127 ]
صلى الله عليه وسلم مسح عليه وبارك عليه ودعا له وأول شئ دخل جوفه ريقه صلى الله عليه وسلم وأن أول من ولد في الاسلام بالمدينة والله أعلم قوله (فلهى النبي صلى الله عليه وسلم بشئ بين يديه) هذه اللفظة رويت على وجهين أحدها فلها بفتح الهاء والثانية فلهى بكسرها وبالياء والأولى لغة طى والثانية لغة الاكثرين ومعناه اشتغل بشئ بين يديه وأما من الله فلها بالفتح لاغير يلهو والأشهر في الرواية هنا كسر الهاء وهى لغة أكثر العرب كما ذكر واتفق أهل الغريب والشراح على أن معناه اشتغل قوله (المنذر بن أبى أسيد) المشهور في أبى أسد ضم الهمزة وفتح السين ولم يذكر الجماهير غيره قال القاضى وحكى عبد الرحمن بن
[ 128 ]
مهدى عن سفيان أنه بفتح الهمزة قال أحمد بن حنبل وبالضم قال عبد الرزاق ووكيع وهو الصواب واسمه مالك بن أبى ربيعة قالوا وسبب تسمية النبي صلى الله عليه وسلم هذا المولود المنذر لأن ابن عم ابيه المنذر بن عمروكان قد استشهد ببئر معونة وكان أميرهم فيقال بكونه خلفا منه قوله (فاقلبوه) أي ردوه وصرفوه في جميع نسخ صحيح مسلم فأقلبوه بالألف وأنكره جمهور أهل اللغة والغريب وشراح الحديث وقالوا صوابه قلبوه بحذف الألف قالوا يقال قلبت الصبى والشئ صرفته ورددته ولايقال أقلبته وذكر صاحب التحرير أن أقلبوه بالألف لغة قليلة فأثبتها لغة والله أعلم فاستفاق رسول الله ص = أي انتبه من شغله وفكره الذي كان فيه والله أعلم باب جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الصغير قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وكان لى أخ يقال له أبو عمير أحسبه قال كان نطما قال فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في قال أبا عمير ما فعل النغير وكان يلعب به)
[ 129 ]
أما النغير فبضم النون تصغير النغر بضمها وفتح الغين المعجمة وهو طائر صغير جمعه نغران والفطيم بمعنى المفطوم وفى هذا الحديث فوائد كثيرة جدا منها جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الطفل وأنه ليس كذبا وجواز المزاح فيما ليس أثما وجواز تصغير بعض المسميات وجواز لعب الصبى بالعصفور وتمكين الولى إياه من ذلك وجواز السجع بالكلام الحسن بلا كلفة وملاطفة الصبيان وتأنيسهم وبيان ماكان النبي صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وكرم لشمائل والتواضع وزيارة الأهل لأن أم سليم والدة أبى عمير هي من محارمه صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه واستدل بعض المالكية على جواز الصيد من حرم المدينة ولا دلالة فيه لذلك لأنه ليس في الحديث صراحة ولا كناية أنه من حرم المدينة وقد سبقت الأحاديث الصحيحة الكثيرة في كتاب الحج المصرحة بتحريم صيد حرام المدينة فلا يجوز تركها بمثل هذا ولا معارضتها به والله أعلم باب جواز قوله لغير ابنه يا بنى واستحبابه للملاطفة قوله صلى الله عليه وسلم لأنس (يا بنى وللمغيرة أي بنى) هو بفتح الياء المشددة وكسرها وقرئ بهما في السبع الأكثرون بالكسر وبعضهم باسكانها وفى هذين الحديثين جواز قول الانسان لغير ابنه ممن هو أصغر سنا منه يا ابني ويا بني مصغرا ويا ولدي ومعناه تلطف وانك عندي بمنزلة ولدى في الشفقة وكذا يقال له ولمن هو في مثل سن المتكلم يا أخي للمعنى الذى ذكرناه وإذا قصد التلطف كان مستحبا كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله
[ 130 ]
عليه وسلم في الدجال (وما ينصبك منه) هو من النصب وهو التعب والمشقة أي ما يشق عليك ويتعبك منه قوله صلى الله عليه وسلم (إنه لن يضرك) هو من معجزات النبوة وسيأتى شرح أحاديث الدجال مستوعبا ان شاء الله تعالى حيث ذكرها مسلم في أواخر الكتاب وبالله التوفيق باب الاستئذان قوله صلى الله عليه وسلم (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع) أجمع العلماء أن الاستئذان
[ 131 ]
مشروع وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة واجماع الأمة والسنة أن يسلم ويستأذن ثلاثا فيجمع بين السلام والاستئذان كما صرح به في القرآن واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام ثم الاستئذان أو تقديم الاستئذان ثم السلام الصحيح الذى جاءت به السنة وقاله المحققون أنه يقدم السلام فيقول السلام عليكم أأدخل والثانى يقدم الاستئذان والثالث وهو اختيار الماوردى من أصحابنا ان وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام والاقدم الاستئذان وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام أما إذا أستأذن ثلاثا فلا يؤذن له وظن أنه لم يسمعه ففيه ثلاثة مذاهب أشهرها أنه ينصرف ولا يعيد الاستئذان والثانى يزيد فيه والثالث ان كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده وإن كان بغيره أعادة فمن قال بالأظهر فحجته قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فلم يؤذن له فليرجع ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم أو ظن أنه سمعه فلم يأذن والله أعلم قوله (قال عمر أقم عليه البينة والا أوجعتك فقال أبى بن كعب لا يقوم معه الاأصغر القوم قال أبو سعيد قلت أنا أصغر القوم فأذهب به) معنى كلام أبى بن كعب رضى الله عنه الانكار على عمر في انكاره الحديث وأما قوله لا يقوم معه الاأصغر القوم فمعناه أن هذا حديث مشهور بيننا معروف لكبارنا وصغارنا حتى أن أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعلق بهذا الحديث من يقول لا يحتج بخير الواحد وزعم أن عمر رضى الله عنه رد حديث أبى موسى هذا لكونه خبر واحد وهذا مذهب باطل وقد أجمع من يعتد به على الاحتجاج بخير الواحد ووجوب العمل به ودلائله من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة ومن بعدهم أكثر من أن يحصر وأما قول عمر لأبى
[ 132 ]
موسى أقم عليه البينة فليس معناه رد خبر الواحد من حيث هو خبر واحد ولكن خاف عمر مسارعة الناس الى القوم على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقول عليه بعض المبتدعين أو الكاذبين أو المنافقين ونحوهم ما لم يقل وأن كل من وقعت له قضية وضع فيها حديثا على النبي صلى الله عليه وسلم فأراد سد الباب خوفا من غير أبى موسى لاشكا في رواية أبى موسى فانه عند عمر أجل من أن يظن به أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل بل أراد زجر غيره بطريقة فان من دون أبى موسى إذا رأى هذه القضية أو بلغته وكان في قلبه مرض أو أراد وضع حديث خاف من مثل قضية أبى موسى فامتنع من وضع الحديث والمسارعة الى الرواية بغير يقين ومما يدل على أن عمر لم يرد خبر أبى موسى لكونه خبر واحد أنه طلب منه اخبار رجل آخر حتى يعمل بالحديث ومعلوم أن خبر الاثنين خبر واحد وكذا ما زاد حتى يبلغ التواتر فما لم يبلغ التواتر فهو خبر واحد مما يؤيده أيضا ما ذكره مسلم في الرواية الأخيرة من قضية أبى موسى هذه أن أبيا رضى الله عنه قال يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سبحان الله انما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت والله أعلم قوله (فلوما استأذنت) أي هلا استأذنت ومعناها التخضيض على الاستئذان
[ 133 ]
قوله (فها وإلا فلأجعلنك عظة) أي فهات البينة قوله (يضحكون) سبب ضحكهم التعجب
[ 134 ]
من فزع أبى موسى وذعره وخوفه من العقوبة مع أنهم قد أمنوا أن يناله عقوبة أو غيرها لقوة حجته إوسماعهم ما أنكر عليه من النبي صلى الله عليه وسلم قوله (ألهانى عنه الصفق بالأسواق) أي التجارة والمعاملة في الأسواق قوله (أقم البينة وإلا أو جعتك) وفى الرواية الأخرى
[ 135 ]
والله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد وفى رواية لأجعلنك نكالا هذا كله محمول على أن تقديره لأفعلن بك هذا الوعيد بان أنك تعمدت كذبا والله أعلم باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل من هذا قوله (استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال من هذا فقلت أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا أنا) زاد في رواية كأنه كرهها قال العلماء إذا استأذن فقيل له من أنت أو من هذا كره أن يقول أبا لهذا الحديث ولأنه لم يحصل بقوله أنا فائدة ولا زيادة بل الابهام باق بل ينبغى أن يقول فلان باسمه وان قال أنا فلان فلا بأس كما قالت أم هانئ حين استأذنت فقال النبي صلى الله عليه وسلم من هذه فقالت أنا أم هانئ ولا بأس بقوله أنا أبو فلان أو القاضى فلان أو الشيخ
[ 136 ]
فلان إذا لم يحصل التعريف بالاسم لخفائه وعليه يحمل حديث أم فلان ومثله لأبى قتادة وأبى هريرة والأحسن في هذا أن يقول أنا فلان المعروف بكذا والله أعلم باب تحريم النظر في بيت غيره قوله (ان رجلا اطلع في حجر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أعلم أنك تنطرنى لطعنت به في عينك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما جعل الاذن من أجل البصر) وفى رواية مدرى يرجل به رأسه وأما المدرى فبكسر الميم واسكان الدال المهملة
[ 137 ]
وبالقصر وهى حديدة يسوى بها شعر الرأس وقيل هو شبه المشط وقيل هي أعواد تحدد تجعل شبه المشط وقيل هو عود تسوى به المرأة شعرها وجمعه مدارى ويقال في الواحد مدراة أيضا ومدارية أيضا ويقال تدريت بالمدرى وقوله (يرجل به رأسه) هذا يدل لمن قال أنه مشط أو يشبه المشط وأما قوله يحك به فلا ينافى هذا فكان يحك به ويرجل به وترجيل الشعر تسريحه ومشطة وفيه استحباب الترجيل وجواز استعمال المدرى قال العلماء فالترجيل مستحب للنساء مطلقا وللرجل بشرط أن لا يفعله كل يوم أوكل يومين ونحو ذلك بل بحيث يخف الأول وأما قوله صلى الله عليه وسلم (لو علمت أنك تنطرنى) فهكذا هو في أكثر النسخ أو كثير منها وفى بعضها تنظرنى بحذف التاء الثانية قال القاضى الأول رواية الجمهور قال والصواب الثاني ويحمل الأول عليه وقوله في حجر هو بضم الجيم واسكان الحاء وهو الخرق قوله صلى الله عليه وسلم انما جعل الاذن من أجل البصر معناه أن الاستئذان مشروع
[ 138 ]
ومأمور به وانما جعل لئلا يقع البصر على الحرام فلا يحل لاحد أن ينظر في حجر باب ولا غيره مما هو متعرض فيه لوقع بصره على امرأة أجنبية وفى هذا الحديث جواز رمي عين المتطلع بشئ خفيف فلورماه بخفيف ففقأها فلاضمان إذا كان قد نظر في بيت ليس فيه امرأة محرم والله أعلم قوله (فقام إليه بمشقص أو مشاقص فكانى أنظر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله ليطعنه) أما المشاقص فجمع مشقص وهو نصل عريض للسهم وسبق إيضاحه في الجنائز وفى الايمان وأما يختله فبفتح أوله وكسر التاء أي يراوغه وسيتغفله وقوله (ليطعنه) بضم العين وفتحها الضم أشهر قوله صلى الله عليه وسلم (من اطلع في بيت قوم بغير اذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه) قال العلماء محمول على مااذا نظر في بيت الرجل فرماه بحصاة ففقأ عينه وهل يجوز رميه قبل انذاره فيه وجهان لأصحابنا أصحهما جوازه لظاهر هذا الحديث والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم فخذفته بحصاة ففقأت عينه هو بهمز فقأت وأما خذفته فبالخاء المعجمة أي رميته بها من بين أصبعيك
[ 139 ]
باب نظر الفجأة قوله (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصرى) الفجأة بضم الفاء وفتح الجيم وبالمد ويقال بفتح الفاء وإسكان الجيم والقصر لغتان هي البغتة ومعنى نظر الفجأة أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد فلا إثم عليه في أول ذلك ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال فان صرف في الحال فلا إثم عليه وان استدام النظر أثم لهذا الحديث فانه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يصرف بصره مع قوله تعالى للمؤمنين يغضوا من أبصارهم قال القاضى قال العلماء وفى هذا حجة أنه لا يجب على المرأة أن تستروجهها في طريقها وانما ذلك سنة مستحبة لها ويجب على الرجال غض البصر عنها في جميع الأحوال إلا لغرض صحيح شرعى وهو حالة الشهادة والمداواة وإرادة خطبتها أو شراء الجارية أو المعاملة بالبيع والشراء وغيرهما ونحو ذلك وانما يباح في جميع هذا قدر الحاجة دون ما زاد والله أعلم
[ 140 ]
كتاب السلام باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير هذا أدب من آداب السلام واعلم أن ابتداء السلام سنة ورده واجب فان كان المسلم جماعة فهو سنة كفاية في حقهم إذا سلم بعضهم حصلت سنة السلام في حق جميعهم فان كان المسلم عليه واحد تعين عليه الرد وان كانوا جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم فإذا رد واحد منهم سقط الحرج عن الباقين والأفضل أن يبتدئ الجميع بالسلام وأن يرد الجميع وعن أبى يوسف أنه لابد أن يرد الجميع ونقل ابن عبد البر وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سنة وأن رده فرض وأقل السلام أن يقول السلام عليكم فان كان المسلم عليه واحد فأقله السلام عليك والأفضل أن يقول السلام عليكم ليتناوله وملكية وأكمل منه أن يزيد ورحمة الله وأيضا وبركاته ولو قال سلام عليكم أجزأه واستدل العلماء لزيادة ورحمة الله وبركاته بقوله تعالى إخبارا عن سلام الملائكة بعد ذكر السلام رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت وبقول المسلمين كلهم في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ويكره أن يقول المبتدى عليكم السلام فان قاله استحق الجواب على الصحيح المشهور وقيل لا يستحقه وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى والله أعلم وأما صفة الرد فالأفضل
[ 141 ]
والأكمل أن يقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فيأتى بالواو فلو حذفها جاز وكان تاركا للأفضل ولو اقتضر على وعليكم السلام أو على عليكم السلام أجزأه ولو اقتصر على عليكم لم يجزه بلا خلاف ولو قال وعليكم بالواو ففى إجزائه وجهان لأصحابنا قالوا وإذا قال المبتدى سلام عليكم أو السلام عليكم فقال المجيب مثله سلام عليكم أو السلام عليكم كان جوابا وأجزأه قال الله تعالى سلاما قال سلام بالألف واللام أفضل وأقل السلم ابتداء وردا أن يسمع صاحبه ولا يجزئه دون ذلك ويشترط كون الرد على الفور ولو أتاه سلام من غائب مع رسول أو في ورقة وجب الرد على الفور وقد جمعت في كتاب الأذكار نحو كراستين في الفوائد المتعلقة بالسلام وهذا الذى جاء به الحديث من تسليم الراكب على الماشي والقائم على القاعد والقليل على الكثير وفى كتاب البخاري والصغير على الكبير لكه للاستحباب فلو عكسوا جاز وكان خلاف الأفضل وأما معنى السلام فقيل هو اسم الله تعالى فقوله السلام عليك أي اسم السلام عليك ومعناه اسم الله عليك أي أنت في حفظه كما يقال الله معك والله يصحب وقيل السلام بمعنى السلامة أي السلامة ملازمة لك باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام قوله (كنا قعودا بالأفينة نتحدث) هي جمع فناء بكسر الفاء والمد وهو حريم الدار ونحوها وما كان في جوانبها وقريبا منها قوله صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا بجالس الصعدات فقلنا انما قعدنا لغير ما بأس فقعدنا نتذاكر ونتحدث قال إما لا فأرادوا حقها غض البصر ورد السلام وحسن
[ 142 ]
الكلام) وفى الرواية الأخرى غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أما الصعدات فبضم الصاد والعين وهى الطرقات واحدها صعيد كطريق يقال صعيد وصعد وصعدان كطريق وطرق وطرقات على وزنه ومعناه وقد صرح به في الرواية الثانية وأما قوله صلى الله عليه وسلم إما لا فبكسر الهمزة وبالامالة ومعناه إن لم تتركوها فأدوا حقها وقد سبق بيان هذه اللفظة مبسوطا في كتاب الحج وقوله قعدنا لغير ما بأس لفظة ما زائدة وقد سبق شرح هذا الحديث والمقصود منه أنه يكره الجلوس على الطرقات للحديث ونحوه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم الى علة النهى من التعرض للفتن والاثم بمرور النساء وغيرهن وقد يمتد نظر اليهن أو فكرفيهن أو ظن سوء فيهن أو في غيرهن من المارين ومن أذى الناس باحتقار من يمر أو غيبة أو غيرها أو إهمال رد السلام في بعض الأوقات أو إهمال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ونحو ذلك من الأسباب التى لو خلا في بيته سلم منها ويدخل في الأذى أن يضيق الطريق على المارين أو يمتنع النساء ونحوهن من الخروج في أشغالهن بسبب قعود القاعدين في الطريق أو يجلس بقرب باب دار إنسان يتأذى بذلك أو حيث يكشف من أحوال النساء شيئا يكرهونه وأما حسن الكلام فيدخل فيه حسن كلامهم في حديثهم بعضهم لبعض فلا يكون فيه غيبة ولا نميمة ولاكذب
[ 143 ]
ولا كلام ينقص المروءة ونحو ذلك من الكلام المذموم ويدخل فيه كلامهم للمار من در السلام ولطف جوابهم له وهدايته للطريق وارشاده لمصلحته ونحو ذلك باب من حق المسلم للمسلم رد السلام قوله صلى الله عليه وسلم (خمس تجب للمسلم على أخيه رد السلام وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وعيادة المريض واتباع الجنائز) وفى الرواية الأخرى حق المسلم على المسلم ست إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه وقد سبق شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الباس وذكرنا هناك أن التشميت بالشين المعجمة والمهملة وبيان اشتقاقه وأما رد السلام وابتداؤه فقد سبقا في الباب الماضي وأما قوله صلى الله عليه وسلم وإذا استنصحك فمعناه طلب من النصيحة فعليك أن تنصحه ولا تداهنه ولا تغشه ولا تمسك عن بيان النصيحة والله أعلم
[ 144 ]
باب النهى عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم قوله صلى الله عليه وسلم (إذا سلم أهل الكتاب فقولوا وعليكم) وفى رواية ان أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم قال قولوا وعليكم وفى رواية ان اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقل عليك وفى رواية ان رهطا من اليهود استأذنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم فقالت عائشة بل عليكم السام واللعنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله قالت ألم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم وفى رواية قد قلت عليكم بحذف الواو وفى الحديث الآخر لا تبدأوا اليهود والا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه الى أضيقة اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم وعليكم السلام بل يقال عليكم فقط أو وعليكم وقد جاءت الأحاديث التى ذكرها مسلم عليكم وعليكم باثبات الواو وحذفها وأكثر الروايات باثباتها وعلى هذا في معناه وجهان أحدهما أنه على ظاهره فقالوا عليكم الموت فقال وعليكم أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء وكلنا نموت والثانى أن الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك وتقديره وعليكم ما تستحقونه من الذم وأما من خذف الواو فتقديره بل عليكم السام قال القاضى اختار بعض العلماء منهم ابن حبيب المالكى حذف الواو لئلا يقتضى التشريك وقال غيره باثباتها كما هو في أكثر الروايات قال وقال بعضهم يقول عليكم السلام بكسر السين أي الحجارة وهذا ضعيف وقال الخطابى عامة المحدثين يروون هذا
[ 145 ]
الحرف وعليكم بالواو وكان ابن عيينة يرويه بغير واو قال الخطابى وهذا هو الصواب لأنه إذا حذف الواو صار كلامهم بعينه مردودا عليهم خاصة وإذا ثبت الواو واقتضى المشاركة معهم فيما قالوه هذا كلام الخطابى والصواب أن اثبات الواو وحذفها جائزان كما صحت به الروايات وأن الواو أجود كما هو في أكثر الروايات ولا مفسدة فيه لأن السام الموت وهو علينا وعليهم ولاضرر في قوله بالواو واختلف العلماء في رد السلام على الكفار وابتدائهم به فمذهبنا تحريم ابتدائهم به ووجوب رده عليهم بأن يقول وعليكم أو عليكم فقط ودليلنا في الابتداء قوله صلى الله عليه وسلم لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام وفى الرد قوله صلى الله عليه وسلم فقولوا وعليكم وبهذا الذى ذكرناه عن مذهبنا قال أكثر العلماء وعامة السلف وذهبت طائفة الى جواز ابتدائنا لهم بالسلام روى ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبى محيريز وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الماوردى لكنه قال يقول السلام عليك ولا يقول عليكم بالجمع هؤلاء بعموم الأحاديث وبافشاء السلام وهى حجة باطلة لأنه عام مخصوص بحديث لاتبدأو اليهود ولا النصارى بالسلام وقال بعض أصحابنا يكره ابتداؤهم بالسلام ولا يحرم وهذا ضعيف أيضا لأن النهى للتحريم فالصواب تحريم ابتدائهم وحكى القاضى عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة أو سبب وهو قول علقمة والنخعي وعن الأوزاعي أنه قال ان سلمت فقد سلم الصالحون وان تركت فقد ترك الصالحون وقالت طائفة من العلماء لايرد عليهم السلام ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك وقال بعض أصحابنا يجوز أن يقول في الرد عليهم وعليكم السلام ولكن لا يقول ورحمة الله حكاه الماوردى وهو ضعيف مخالف للأحاديث والله أعلم ويجوز الابتداء بالسلام على جمع فيهم مسلمون وكفار أو مسلم وكفار ويقصد المسلمين للحديث السابق أنه ص = سلم على مجلس فيه اخلاط من المسلمين والمشركين قوله صلى الله عليه وسلم يا عائشة ان الله يحب الرفق في الأمر كله هذا من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم وكمال حلمه وفيه حث على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع حاجة الى المخاشنة قولها عليكم السام والذام هو بالذال المعجمة وتخفيف الميم وهو الذم ويقال بالهمزة أيضا والأشهر ترك الهمز وألفه منقلبة عن واو والذام والذيم والذم بمعنى العيب وروى الدام بالدال المهملة ومعناه الدائم وممن ذكر أنه روى بالمهملة ابن الأثير ونقل القاضى الاتفاق على أنه بالمعجمة قال ولو روى بالمهملة لكان له وجه والله أعلم
[ 147 ]
قوله (ففطنت بهم عائشة فسبتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه يا عائشة فان الله لا يحب الفحش والتفحش) مه كلمة زجر عن الشئ وقوله ففطنت هو بالفاء وبالنون بعد الطاء من الفطنة هكذا هو في جميع النسخ وكذا نقله القاضى عن الجمهور قال ورواه بعضهم فقطبت بالقاف وتشديد الطاء وبالباء الموحدة وقد تخفيف الطاء في هذا اللفظ وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى غضبت ولكن الصحيح الأول وأما سبها لهم ففيه الانتصار من الظالم وفيه الانتصار لأهل الفضل ممن يؤذيهم وأما الفحش فهو القبيح من القول والفعل وقيل الفحش مجاوزة الحد وفى هذا الحديث استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم تترتب عليه مفسدة قال الشافعي رحمه الله الكيس العاقل هو الفطن المتغافل قوله صلى الله عليه وسلم وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه الى أضيقة قال أصحابنا لا يترك للذمي صدر الطريق بل يضطر الى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون فان خلت الطريق عن الرحمة فلا حرج قالوا وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه جدار ونحوه والله أعلم
[ 148 ]
باب استحباب السلام على الصبيان قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان فسلم عليهم وفى رواية مر بصبيان فسلم عليهم
[ 149 ]
الغلمان هم الصبيان بكسر الصاد على المشهور وبضمها ففيه استحباب السلام على الصبيان المميزين والندب الى التواضع وبذل السلام للناس كلهم وبيان تواضعه صلى الله عليه وسلم وكمال شفقته على العالمين واتفق العلماء على استحباب السلام على الصبيان ولو سلم على رجال وصبيان فرد السلام صبى منهم هل يسقط فرض الرد عن الرجال ففيه وجهان لأصحابنا أصحهما يسقط ومثله الخلاف في صلاة الجنازة هل يسقط فرضها بصلاة الصبى الأصح سقوطه ونص عليه الشافعي ولو سلم الصبى على رجل لزم الرجل رد السلام هذا هو الصواب الذى أطبق عليه الجمهور وقال بعض أصحابنا لا يجب وهو ضعيف أو غلط وأما النساء فان كن جميعا سلم عليهن وان كانت واحدة سلم عليها النساء وزوجها وسيدها ومحرمها سواء كانت جميلة أو غيرها وأما الأجنبي فان كانت عجوزا لا تشتهي استحب له السلام عليها واستحب لها السلام عليه ومن سلم منهما لزم الآخر رد السلام عليه وإن شابة أو عجوزا تشتهى لم يسلم عليها الأجنبي ولم تسلم عليه ومن سلم منهما لم يستحق جوابا ويكره رد جوابه هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال ربيعة لا يسلم الرجال على النساء ولا النساء على الرجال وهذا غلط وقال الكوفيون لا يسلم الرجال عل النساء إذا لم يكن فيهن محرم والله أعلم
[ 150 ]
باب جواز جعل الأذن رفع حجاب أو غيره من العلامات قوله (عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آذنك على أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادى حتى أنهاك) السواد بكسر السين المهملة واتفق العلماء على أن المراد به السرار بكسر السين وبالراء المكررة وهو السر والمسار ريقال ساودت الرجل مساودة إذا ساررته قالوا وهو مأخوذ من ادناء سوادك من سواده عند المساررة أي شخصك من شخصه والسواد اسم لكس شخص وفيه دليل لجواز اعتماد العلامة في الأذن في الدخول فإذا جعل الأمير والقاضى ونحوهما وغيرهم رفع الستر الذى على بابه علامة في الأذن في الدخول عليه للناس عامة أو لطائفة خاصة أو لشخص أو جعل علامة غير ذلك جازا عتمادها والدخول إذا وجدت بغير استئذان وكذا إذا جعل الرجل ذلك علامة بينه وبين خدمه ومماليكه وكبار أولاده وأهله فمتى أرخى حجابه فلادخول عليه إلا باستئذان فإذا رفعه جاز بلا استئذان والله أعلم باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الانسان قوله (وكانت امرأة جسمية تفرع النساء جسما لاتخفى على من يعرفها) فقوله جسيمة أي عظيمة
[ 151 ]
الجسم وقوله تفرع هو بفتح التاء واسكان الفاء وفتح الراء وبالعين المهملة أي تطولهن فتكون اطول منهن والفارع المرتفع العالي وقوله لاتخفى على من يعرفها يعنى لاتخفى إذا كانت متلففة في ثيابها ومرطها في ظلمة الليل ونحوها على من قد سبقت له معرفة طولها لانفرادها بذلك قولها وأنه ليتعشى وفى يده عرق هو بفتح العين واسكان الراء وهو العظم الذى عليه بقية لحم هذا هو المشهور وقيل هو القذرة من اللحم وهو شاذ ضعيف قوله قال هشام يعنى البراز هكذا المشهور في الرواية البراز بفتح الباء وهو الموضع الواسع البارز الظاهر وقد قال الجوهرى في الصحاح البراز بكسر الباء هو الغائط وهذا أشبه أن يكون هو المراد هنا فان مراد هشام بقوله يعنى البراز تفسير قوله صلى الله عليه وسلم قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكم فقال هشام المراد بحاجتهن الخروج للغائط لالكل حاجة من أمور المعايش والله أعلم قوله كن يخرجن إذا تبرزن الى المناصع وهو صعيد أفيح معنى تبرزن أردن الخروج لقضاء الحاجة والمناصع بفتح الميم وبالصاد المهملة المكسورة وهو جمع منصع وهذه المناصع مواضع قال الأزهري أراها مواضع خارج المدينة وهو مقتضى قوله في الحديث وهو صعيد أفيح أي أرض متسعه والأفيح بالفاء المكان الواسع وفى هذا الحديث منقبة ظاهرة لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه وفيه تنبيه أهل الفضل والكبار على مصالحهم ونصيحتهم وتكرار ذلك عليهم وفيه جواز تعرق العظم وجواز خروج المرأة من بيت زوجها لقضاء حاجة الانسان الى الموضع المعتاد لذلك بغير استئذان الزوج لأنه مما أذن فيه الشرع قال القاضى عياض فرض الحجاب مما اختص به ازواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولاغيرها ولايجوز لهن إظهار شخوصهن وان كن مستترات إلاما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز قال الله تعالى سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر ولما توفيت زينب رضى الله عنها جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها هذا آخر كلام القاضى
[ 153 ]
باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها قوله صلى الله عليه وسلم (لايبتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم) هكذا هو في نسخ بلادنا إلا أن يكون بالياء المثناة من تحت أي يكون الداخل زوجا أو ذا محرم وذكره القاضى فقال إلا أن تكون ناكحا أو ذات محرم بالتاء المثناة فوق وقال ذات بدل ذا قال والمراد بالنا كح المرأة المزوجة وزوجها حاضر فيكون مبيت الغريب في بيتها بحضرة زوجها وهذه الرواية التى اقتصر عليها والتفسير غربيان مردودان والصواب الرواية الأولى التى ذكرتها عن نسخ بلادنا ومعناه لا يبيتن رجل عند امرأة إلا زوجها أو محرم لها قال العلماء إنما خص الثيب لكونها التى يدخل إليها غالبا وأما البكر فمصونة متصونة في العادة مجانبة للرجال أشد مجانية فلم يحتج الى ذكرها ولأنه من باب التنبية لأنه إذا نهى عن الثيب التى يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة فالبكر أولى وفى هذا الحديث والأحاديث بعده تحريم الخلوة بالأجنبية وإباحة الخلوة بمحارمها وهذان الأمران مجمع عليهما وقد قدمنا أن المحرم هو كل من حرم عليه نكاحها على التأييد لسبب مباح لحرمتها فقولنا على التأييد احتراز من أخت امرأته وعمتها وخالتها ونحوهن ومن بنتها قبل الدخول بالأم وقولنا لسبب مباح احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها فانه حرام على التأييد لكن لا لسبب مباح فان وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح ولا محرم ولا بغيرهما من أحكام الشرع الخمسة لأنه ليس فعل مكلف وقولنا لحرمتها احتراز من الملاعنة فهى حرام على التأيد لالحرمتها بل تغليظا عليهما والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (الحمو الموت) قال الليث بن
[ 154 ]
سعد الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه اتفق أهل اللغة على أن الاحماء أقارب زوج المرأة كأبيه وعمه وأخيه وابن أخيه وابن عمه ونحوهم والأختان أقارب زوجة الرجل والأصهار يقع على النوعين وأما قوله صلى الله عليه وسلم الحمو الموت فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول الى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي والمراد بالحموهنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وانما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت وهو أولى بالمنع من أجنبي لما ذكرناه فهذا الذى ذكرته هو صواب معنى الحديث وأما ما ذكره المازرى وحكاه أن المراد بالحمو أبو الزوج وقال إذا نهى عن أبى الزوج وهو محرم فكيف بالغريب فهذا كلام فاسد مردود ولايجوز حمل الحديث عليه فكذا ما نقله القاضى عن أبى عبيد أن معنى الحمو الموت فليمت ولا يفعل هذا هو أيضا كلام فاسد بل الصواب ما قدمناه وقال ابن الأعرابي هي كلمة تقولها العرب كما يقال الأسد الموت أي لقاؤه مثل الموت وقال القاضى معناه الخلوة بالأحماء مؤدية الى الفتنة والهلاك في الدين فجعله كهلاك الموت فورد الكلام مورد التغليظ قال وفى الحم أربع لغات إحدها هذا حموك بضم الميم في الرفع ورأيت حماك ومررت بحميك والثانية هذا حمؤك باسكان الميم وهمزة مرفوعة ورأيت حماك ومررت بحمئك والثالثة حما هذا حماك ورأيت حماك ومررت بحماك كقفا وقفاك والرابعة حم كأب وأصله حمو بفتح
[ 155 ]
الحاء والميم وحماة المرأة أم زوجها لا يقال فيها غير هذا قوله صلى الله عليه وسلم (لا يدخلن رجل بعد يومى هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان) المغيبة بضم الميم وكسر الغين المعجمة وإسكان الياء وهى التى غاب عنها زوجها والمراد غاب زوجها عن منزلها سواء غاب عن البلد بأن سافر أو غاب عن المنزل وان كان في البلد هكذا ذكره القاضى وغيره وهذا ظاهر متعين قال القاضى ودليله هذا الحديث وأن القصة التى قيل الحديث بسببها وأبو بكر رضى الله عنه غائب عن منزله لاعن البلد والله أعلم ثم ان ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو ثلاثة بالأجنبية والمشهور عند أصحابنا تحريمه فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم أوغير ذلك وقد أشار القاضى الى نحو هذا التأويل
[ 156 ]
باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خاليا بامرأة وكانت زوجته (أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به) قوله في حديث صفية رضى الله عنها وزيارتها للنبى صلى الله عليه وسلم في اعتكافه عشاء فرأى الرجلين فقال (انها صفية فقالاسبحان الله فقال إن الشيطان يجرى من الانسان مجرى الدم) الحديث فيه فوائد منها بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومراعاته لمصالحهم وصيانة قلوبهم وجوارحهم بالمؤمنين رحيما صلى الله عليه وسلم أن يلقى الشيطان في قلوبهما فيهلكا فان ظن السوء بالأنبياء كفر بالاجماع والكبائر غير جائزة عليهم وفيه أن من ظن شيئا من نحو هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر وفيه جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في ليل أو نهار وأنه لا يضر اعتكافه لكن يكره الاكثار من مجالستها والاستلذاذ بحديثها لئلا يكون ذريعة الى الوقاع أو الى القبلة أو نحوها مما يفسد الاعتكاف وفيه استحباب التحرز من التعرض لسوء ظن الناس في الانسان وطلب السلامة ولاعتذار بالأعذار الصحيحة وأنه متى فعل ما قد ينكر ظاهره مما هو حق وقد يخفى أن
[ 157 ]
يبين حاله ليدفع ظن السوء وفيه الاستعداد للتحفظ من مكايد الشيطان فإنه يجرى من الانسان مجرى الدم فيتأهب الانسان للاحتراز من وساوسه وشره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ان الشيطان يجرى من الانسان مجرى الدم) قال القاضى وغيره قيل هو على ظاهره وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة على الجرى في باطن الانسان مجارى دمه وقيل هو على الاسعارة لكثرة اغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الانسان كما لا يفارقه دمه وقيل يلقى وسوسته في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة الى القلب والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم يا فلان هذه زوجتى فلانة هكذا هو في جميع النسخ بالتاء قبل الياء وهى لغة صحيحة وإن كان الأشهر حذفها وبالحذف جاءت آيات القرآن والاثبات كثير أيضا قولها فقام معى ليقلبني هو بفتح الياء أ ليردني الى منزلي فيه جواز تمشى المعتكف معها ما لم يخرج من المسجد وليس في الحديث أنه خرج من المسجد قوله صلى الله عليه وسلم على رسلكما هو بكسر الراء وفتحها لغتان والكسر أفصح وأشهر أي على هينتكما في المشى فما هنا شئ تكرهانه قوله فقال سبحان اللل ه فيه جواز التسبيح تعظيما للشئ وتعجبا منه وقد كثر في الأحاديث وجاء به القرآن في قوله تعالى إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك
[ 158 ]
باب من أتى مجلسا فوجد فرجة فجلس فيها والاوراءهم قوله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد الناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان) الى آخره فيه استحباب جلوس العالم لأصحابه وغيرهم في موضع بارز ظاهر للناس والمسجد أفضل فيذا كرهم العلم والخير وفيه جواز حلق العلم والذكر في المسجد واستحباب دخولها ومجالسة أهلها وكراهة الانصراف عنها من غير عذر واستحباب القرب من كبير الحلقة ليسمع كلامه سماعا بينا ويتأدب بأدبه وأن قاصد الحلقة ان رأى فرجة دخل فيها والاجلس وراءهم وفيه الثناء على من فعل جميلا فانه صلى الله عليه وسلم أثنى على الاثنين في هذا الحديث وأن الانسان إذا فعل قبيحا ومذموما وباح به جاز أن ينسب إليه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فرأى فرجة في الحلقة فدخل فيها) الفرجة بضم الفاء وفتحها لغتان وهى الخلل بين الشيئين ويقال لها أيضا فرج ومنه قوله تعالى من فروج فرج وأما الفرجة بمعنى الراحة من الغم فذكر الازهرى فيها فتح الفاء وضمها وكسرها وقد فرج له في الحلقة والصف ونحوهما بتخفيف الراء يفرج بضمها وأما الحلقة فباسكان اللام على المشهور وحكى الجوهرى فتحها وهى لغة رديئة قوله صلى الله عليه وسلم (أما أحدهم فأوى الى الله فآواه الله) لفظة أوى بالقصر وآواه بالمد هكذا الرواية وهذه هي اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن أنه إذا كان لازما كان مقصورا وان كان متعديا كان ممدودا قال الله تعالى إذا أوينا الى الصخرة تعالى أوى الفتية الى الكهف
[ 159 ]
في المتعدى الى ربوة تعالى يجدك يتيما فآوى القاضى وحكى بعض أهل اللغة فيهما جميعا لغتين القصر والمد فيقال أويت الى الرجل بالقصر والمد وآويته بالمد والقصر والمشهور الفرق كما سبق قال العلماء معنى أوى الى الله أي لجأ إليه قال القاضى وعندي أن معناه هنا دخل مجلس ذكر الله تعالى أو دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجمع أوليائه وانضم إليه ومعنى آواه الله أي قبله وقربه وقيل معناه رحمه أو آواه الى جنته أي كتبها له قوله صلى الله عليه وسلم (وأما الآخر فاستحى فاستحى الله منه) أي ترك المزاحمة والتخطى حياء من الله تعالى ومن النبي صلى الله عليه وسلم والحاضرين أو استحياء منهم أن يعرض ذاهبا كما فعل الثالث فاستحى الله منه أي رحمه ولم يعذبه بل غفر ذنوبه وقيل جازاه بالثواب قالوا ولم يلحقه بدرجة صاحبه الأول في الفضيلة الذى آواه وبسط له اللطف وقربه وأما الثالث فأعرض الله عنه أي لم يرحمه وقيل سخط عليه وهذا محمول على أنه ذهب معرضا لا لعذر وضرورة قوله صلى الله عليه وسلم في الثاني وأما الاخر فاستحى هذا دليل اللغة الفصيحة الصحيحة أنه يجوز في الجماعة أن يقال في غير الأخير منهم الآخر فيقال حضرني ثلاثة أما أحدهم فقرشي وأما الآخر فأنصارى وأما الآخر فتيمى وقد زعم بعضهم أنه لا يستعمل الآخر الافى الآخر خاصة وهذا الحديث صريح في الرد عليه والله أعلم
[ 160 ]
باب تحريم اقامة الانسان من موضعه المباح الذى سبق إليه قوله صلى الله عليه وسلم (لايقمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس) فيهوفى رواية ولكن تفسحوا وتوسعوا وفى رواية وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه هذا النهى للتحريم فمن سبق الى موضع مباح في المسجد وغيره يوم الجمعة أو غيره لصلاة أو غيرها فهو أحق به ويحرم على غيره اقامته لهذا الحديث الا أن أصحابنا استثنوا منه ما إذا ألف من المسجد موضعا يفتى فيه أو يقرأ قرآنا أو غيره من العلوم الشرعية فهو أحق به وإذا حضر لم يكن لغيره أن يقعد فيه وفى معناه من سبق الى موضع من الشوارع ومقاعد الأسواق لمعاملة وأما قوله وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه فهذا
[ 161 ]
ورع منه وليس قعوده فيه حرما إذا قام برضاه لكنه تورع عنه لوجهين أحدهما أنه ربما استحى منه انسان فقام له من مجلسه من غير طيب قلبه فسد ابن عمر الباب ليسلم من هذا والثانى أن الايثار بالقرب مكروه أو خلاف الأولى فكان ابن عمر يمتنع من ذلك لئلا يرتكب أحد بسببه مكروها أو خلاف الأولى بأن يتأخر عن موضعه من الصف الأول ويؤثره به وشبه ذلك قال أصحابنا وانما يحمد الايثار بحظوظ النفوس وأمور الدنيا دون القرب والله أعلم باب إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به قوله صلى الله عليه وسلم (من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) قال أصحابنا هذا الحديث فيمن جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلاثم فارقه ليعود بأن فارقه ليتوضأ أو يقضى
[ 162 ]
شغلا يسيرا ثم يعود لم يبطل اختصاصه بل إذا رجع فهو أحق به في تلك الصلاة فان كان قد قعد فيه غيره فله أن يقيمه وعلى القاعد أن يفارقه لهذا الحديث هذا هو الصحيح عند أصحابنا وأنه يجب على من قعد في مفارقته إذا رجع الأول وقال بعض العلماء هذا مستحب ولا يجب وهو مذهب مالك والصواب الأول قال أصحابنا ولافرق بين أن يقوم منه ويترك فيه سجادة ونحوها أم لافهذا أحق به في الحالين قال أصحابنا وانما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها والله أعلم باب منع المخنث من الدخول على النساء الاجانب قولها (كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولى الاربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال إذا أقبلت
[ 163 ]
أقبلت بأربع وإذا أدبرت بثمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أرى هذا يعرف ماههنا لايدخل عليكن فحجبوه) قال أهل اللغة المخنث هو بكسر النون وفتحها وهو الذى يشبه النساء في أخلاقه وكلامه وحركاته وتارة يكون هذا خلقه من الأصل وتارة بتكلف وسنوضحهما قال أبو عبيد وسائر العلماء معنى قوله تقبل بأربع وتدبر بثمان أي أربع عكن وثمان عكن قالوا ومعناه أن لها أربع عكن تقبل بهن من كل ناحية اثنتان ولكل واحد طرفان فإذا أدبرت صارت الأطراف ثمانية قالوا وانما ذكر فقال بثمان وكان أصله أن يقول بثمانية فان المراد الأطراف وهى مذكرة لأنه لم يذكر لفظ المذكر ومتى لم يذكره جاز حذف الهاء كقوله صلى الله عليه وسلم من صام رمضان وأتبعه بست من شوال سبقت المسألة هناك واضحة وأما دخول هذا المخنث أولا على أمهات المؤمنين فقد بين سببه في هذا الحديث بأنهم كانوا يعتقدونه من غير أولى الاربة وأنه مباح دخوله عليهن فلما سمع منه هذا الكلام علم أنه من أولى الاربة فمنعه صلى الله عليه وسلم الدخول ففيه منع المخنث من الدخول على النساء ومنعهن من الظهور عليه وبيان أن له حكم الرجال الفحول الراغبين في النساء في هذا المعنى وكذا حكم الخصى والمحبوب ذكره والله أعلم واختلف في اسم هذا المخنث قال القاضى الأشهر أن اسمه هيت بكسر الهاء ومثناة تحت ساكنة ثم مثناة فوق قال وقيل صوابه منب بالنون والباء الموحدة قاله بن درستويه وقال انما سواه تصحيف قال والهنب الأحمق وقيل ماتع بالمثناة فوق مولى فاخته المخزومية وجاء هذا في حديث آخر ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غرب ماتعا هذا وهيتا الى الحمى ذكره الواقدي وذكر أبو منصور البادردى نحو الحكاية عن مخنث كان بالمدينة يقال له انه وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفاه الى حمراء الأسد والمحفوظ أنه هيت قال العلماء واخراجه ونفيه كان لثلاثة معان أحدها المعنى المذكور في الحديث أنه كان يظن أنه من غير أولى الاربة وكان منهم ويتكتم بذلك والثانى وصفه النساء ومحاسهن وعوراتهن بحضرة الرجال وقد نهى أن تصف المرأة المرأة لزوجها
[ 164 ]
فكيف إذا وصفها الرجل للرجال والثالث أنه ظهر له منه أنه كان يطلع من النساء وأجسامهن وعوراتهن على ما لا يطلع عليه كثير من النساء فكيف الرجال لاسيما على ما جاد في غير مسلم أنه وصفها حتى وصف مابين رجليها أي فرجها وحواليه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم لايدخل هؤلاء عليكم اشارة الى جميع المخنثين لما رأى من وصفهم للنساء ومعرفتهم ما يعرفه للرجال منهن قال العلماء المخنث ضربان أحدهما من خلق كذلك ولم يتكلف التخلق بأخلاق النساء وزيهن وكلامهن وحركاتهن بل هو خلقة خلقه الله عليها فهذا لاذم عليه ولاعتب ولا اثم ولاعقوبة لأنه معذور لاصنع له في ذلك ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم أولادخوله على النساء ولاخلقه الذى هو عليه حين كان من أصل خلقته وانما أنكر عليه بعد ذلك معرفته لأوصاف النساء ولم ينكر صفته وكونه مخنثا الضرب الثاني من بالمخنث هو من لم يكن له ذلك خلقه بل يكلف أخلاق النساء وحركاتهن وهيآتهن وكلامهن ويتزيا بزيهن فهذا هو المذموم الذى جاء في الأحاديث الصحيحة لعنه وهو بمعنى الحديث الآخر لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين بالنساء من الرجال وأما الضرب بالأول فليس بملعون ولو كان ملعونا لما أقره أولا والله أعلم باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق قوله (عن أسماء أنها كانت تعلف فرس زوجها الزبير وتكفيه مؤنته وتسوسه وتدق النو لناضحه وتعلفه وتستقى الماء وتعجن) هذا كله من المعروف والمروآت التى أطبق الناس عليها وهو أن المرأة تخدم زوجها بهذه الأمور المذكورة ونحوها من الخبز والطبخ وغسل والثياب وغير ذلك وكله بتبرع من المرأة وإحسان منها الى زوجها وحسن معاشرة وفعل معروف معه ولا يجب عليها شئ من ذلك بل لو امتنعت من جميع هذا لم تاثم ويلزمه هو تحصيل هذه الأمور لها ولا محل
[ 165 ]
له الزامها بشئ من هذا وانما تفعله المرأة تبرعا وهى عادة جميلة استمر عليها النساء من الزمن الأول الى الآن وانما الواجب على المرأة شيئان تمكينها زوجها من نفسها وملازمة بيته قولها (وأخرز غربه) هو بغين معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم باءه موحدة وهو الدلو الكبير قولها (وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله ص = على رأسي وهو على ثلثي فرسخ قال أهل اللغة يقال أقطعه إذا أعطاه قطيعة وهي قطعة أرض سميت قطيعة لأنها اقتطعها من جملة الأرض وقوله على ثلثى فرسخ أي من مسكنها بالمدينة وأما الفرسخ فهو ثلاثة أميال والميل ستة آلاف ذراع والذراع أربع وعشرون أصبعا معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات وفى هذا دليل لجواز إقطاع الامام فأما الأرض المملوكة لبيت المال فلا يملكها أحد الابا فطاع الامام ثم تارة يقطع رقبتها ويملكها الانسان يرى فيه مصلحة فيجوز ويملكها كما يملك ما يعطيه من الدراهم والدنانير وغيرها إذا رأى فيه مصلحة وتارة يقطعه منفعتها فيستحق الانتفاع بها مدة الاقطاع وأما الموات فيجوز لكل أحد احياؤه ولا يفتقر الى اذن الامام هذا مذهب مالك والشافعي والجمهور وقال أبو حنيفة لا يملك الموات بالاحياء الا باذن الامام وأما قولها وكنت أنقل النوى من أرض الزبير فأشار القاضى الى أن معناه أنها تلتقطه من النوى الساقط فيها مما أكله الناس وألقوه قال ففيه جواز التقاط المطروحات رغبة عنها كالنوى والسنابل وخرق المزابل وسقاطتها وما يطرحه الناس من ردئ المتاع وردئ الخضر وغيرها مما يعرف أنهم تركوه رغبة عنه فكل هذا يحل التقاطه ويملكه الملتقط وقد اقطه الصالحون وأهل الورع ورأوه من الحلال المحصن وارتضوه لأكلهم ولباسهم قولها (فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ 166 ]
ومعه نفر من أصحابه قد وقال إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت وعرفت غيرتك) أما لفطة إخ إخ فهى بكسر الهمزة واسكان الخاء المعجمة وهى كلمة تقال للبعير ليبرك وفى هذا الحديث جواز الارداف على الدابة إذا كانت مطيقة وله نظائر كثيرة في الصحيح سبق بيانها في مواضعها وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على المؤمنين والمؤمنات ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه وفيه جواز ارداف المرأة التى ليست محرما إذا وجدت في طريق قدأعيت لاسيما مع جماعة رجال صالحين ولا شك في جواز مثل هذا وقال القاضى عياض هذا خاص للنبى صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره فقد أمرنا بالمباعدة من أنفاس الرجال والنساء وكانت عادته صلى الله عليه وسلم مباعدتهن ليقتدى به أمته قال وانما كانت هذه خصوصية له لكونها بنت أبى بكر وأخت عائشة وامرأة للزبير فكانت كاحدى أهله ونسائه مع ما خص به صلى الله عليه وسلم أنه أملك لاربه وأما ارداف المحارم فجائز بلا خلاف بكل حال قولها (أرسل الى بخادم) أي جارية تخدمني يقال
[ 167 ]
للذكر والأنثى خادم بلا هاء قولها في الفقير الذى استأذنها في أن يببع في ظل دارها وذكرت الحيلة في استرضاء الزبير هذا فيه حسن الملاطفة في تحصيل المصالح ومداراة أخلاق الناس في تتميم ذلك والله أعلم باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه قوله صلى الله عليه وسلم (إذا كان ثلاثة فلايتناجى اثنان دون واحد) وفى رواية حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه قال أهل اللغة يقال حزنه وأحزنه وقرئ بهما في السبع والمناجاة المسارة وانتجى القوم وتناجوا أي سار بعضهم بعضا وفى هذه الأحاديث النهى عن تناجى اثنين بحضرة ثالث وكذا ثلاثة وأكثر بحضرة واحد وهو نهي تحريم فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم الا أن يأذن ومذهب ابن عمر رضى الله عنه ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء أن النهى عام في كل الأزمان وفى الحضر والسفر وقال بعض العلماء انما المنهى عنه المناجاة في السفر دون الحضر لأن السفر مظنة الخوف وادعى بعضهم أن هذا الحديث منسوخ وان كان هذا في أول الاسلام فلما فشا الاسلام وأمن الناس سقط النهى وكان المنافقون يفعلون ذلك بحضرة المؤمنين ليحزنوهم أما إذا كانو أربعة فتناجى
[ 168 ]
اثنان دون اثنين فلا بأس بالاجماع والله أعلم
[ 169 ]
باب الطب والمرض والرقى قوله (إن جبرئيل رقى النبي صلى الله عليه وسلم) وذكر الاحاديث بعده في الرقى الحديث الآخر في الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يرقون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون فقد يظن مخالفا لهذه الأحاديث ولا مخالفة بل المدح في ترك الرقى المراد بها الرقى التى هي من كلام الكفار والرقى المجهولة والتى بغير العربية ومالا يعرف معناها فهذه مذمومة لاحتمال أن معناها كفر أو قريب منه أو مكروه وأما الرقى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلانهى فيه بل هو سنة ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين أن المدح في ترك الرقى للأفضيلة وبيان التوكل والذى فعل الرقى وأذن فيها لبيان الجواز مع أن تركها أفضل وبهذا قال ابن عبد البر وحكاه عمن حكاه والمختار الأول وقد نقلو الاجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تعالى قال المازرى جميع الرقى جائزة إذا كانت بكتاب الله أو بذكره ومنهى عنها إذا كانت باللغة الععجمية أو بما لا يدرى معناه لجواز أن يكون فيه كفر قال واختلفوا في رقية أهل الكتاب فجوزها أبو بكر الصديق رضى الله عنه وكرهها مالك خوفا أن يكون مما بدلوه ومن جوازها قال الظاهر أنهم لم يبدلوا الرقى فانهم لهم غرض في ذلك بخلاف غيرها مما بدلوه وقد ذكر مسلم بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شئ وأما قوله في الرواية الأخرى يارسول الله إنك نهيت عن الرقى فأجاب العلماء عنه بأجوبة أحدها كان نهى أولاثم نسخ ذلك وأذن فيها وفعلها واستقر الشرع على الاذن والثانى أن النهى عن الرقى المجهولة كما سبق والثالث أن النهى لقوم كانوا يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة أما قوله في الحديث الآخر لارقية إلامن عين أو حمة فقال العلماء لم يرد به حصر الرقية الجائزة فيهما ومنعها فيما عداهما وانما المراد لارقية أحق وأولى من رقبة العين والحمة لشدة الضرر فيهما قال القاضى وجاء في حديث في غير مسلم سئل عن النشرة فأضافها الى الشيطان قال والنشرة
[ 170 ]
معروفة مشهورة عند أهل التعزيم وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تخلى عنه وقال الحسن هي من السحر قال القاضى وهذا محمول على أنها أشياء خارجة عن كتاب الله تعالى وأذكاره وعن المداواة المعروفة التى هي من جنس المباح وقد اختار بعض المتقدمين هذا فكره حل المعقود عن امرأته وقد حكى البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن رجل به طب أي ضرب من الجنون أو يؤخذ عن امرأته أيخلى عنه أو ينشر قال لا بأس به انما يريدون به الصلاح فلم ينه عما ينفع وعن أجاز النشرة الطبري وهو الصحيح قال كثيرون أو الأكثرون يجوز الاسترقاء للصحيح لما يخاف أن يغشاه من المكرهات والهوام ودليله أحاديث ومنها حديث عائشة في صحيح البخاري كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى الى فراشه تفل في كفه ويقرأ " هو الله أحد " والمعوذتين ثم يمسح بها وجهه وما بلغت يده من جسده والله أعلم قوله (بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد) هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره وقوله من شر كل نفس قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الآدمى وقيل يحتمل أن المراد بها العين فان النفس تطلق على العين ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه كما قال في الرواية الأخرى من شر كل ذى عين ويكون قوله أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ مختلف أو شكا من الراوى في لفظه والله أعلم قوله
[ 171 ]
صلى الله عليه وسلم (العين حق ولو كان شئ سابق القدر سبقته العين وإذا استغلتم فاغسلوا قال الامام أبو عبد الله المازرى أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقالوا العين حق وأنكره طوائف من المبتدعة والدليل عل فساد قولهم أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه ولا يؤدى الى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فانه من مجوزات العقول إذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ولايجوز تكذيبه وهل من فرق بين تكذيبهم بهذا وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الآخرة قال وقد زعم بعض الطبائعين المثبتين للعين أن العائن تنعث من عينه قوة سمية تتصل بالعين فيهلك أو يفسد قالوا ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب تتصل باللديغ فيهلك وان كان غير محسوس لنا فكذا العين قال المازرى وهذا غير مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أن لافاعل إلا الله تعالى وبينا فساد القول بالطبائع وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئا وإذا تقرر هذا بطل ما قالوه ثم هذا المنبعث من العين إما جوهر وإما عرض فباطل أن يكون عرضا لأنه لا يقبل الانتقال وباطل أن يكون جوهرا لأن الجوهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسدا لبعضها بأولى من عكسه فبطل ما قالوه قال وأقرب طريقة قالها من ينتحل الاسلام منهم أن قالوا لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من العين فتتصل بالعين وتتخلل مسام جسمه فيخلق الله سبحانه وتعالى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم عادة أجراها الله تعالى وليست ضرورة ولا طبيعة ألجأ العقل إليها ومذهب اهل السنة أن العين انما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة الشخص لشخص
[ 172 ]
آخر وهل ثم جواهر خفية أم لاهذا من مجوزات العقول لا يقطع فيه بواحد من الأمرين وانما يقطع بنفى الفعل عنها وباضافته الى الله تعالى فمن قطع من أطباء الاسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه وانما هو من الجائزات هذا ما يتعلق بعلم الأصول أما ما يتعلق بعلم الفقه فان الشرع ورد بالوضوء لهذا الآمر في حديث سهل بن حنيف لما أصيب بالعين عند اغتساله فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائنه أن يتوضأ رواه مالك في الموطأ وصفة وضوء العائن عند العلماء أن يؤتى بقدح ماء ولا يوضع القدح في الأرض فيأخذا منه غرفة فيتمضمض بها ثم يمحها في القدح ثم يأخذ منه ماء يغسل وجهه ثم يأخذ بشماله ماء يغسل به كفه اليمنى ثم بيمنيه ماء يغسل به مرفقه الأيسر ولا يغسل ما بين المرفقين والكعبين ثم يغسل قدمه اليمنى ثم اليسرى على الصفة المتقدمة وكل ذلك في القدح ثم داخلة ازاره وهو الطرف المتدلى الذى يلى حقوه الأيمن وقد ظن بعضهم أن داخلة الازار كناية عن الفرج وجمهور العلماء على ما قدمناه فإذا استكمل هذا صبه من خلفه على رأسه وهذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات فلا يدفع هذا بأن لا يعقد معناه قال وقد اختلف العلماء في العائن هل يجير على الوضوء للمعين أم لا واحتج من أوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم هذه وإذا ستغسلتم فاغسلوا وبرواية الموطأ التى ذكرناها أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوضوء والأمر للوجوب قال المازرى والصحيح عندي الوجوب ويبعد الخلاف فيه إذا خشى على المعين الهلاك وكان وضوء العائن مما جرت العادة بالبرئ به أو كان الشرع أخبر به خبرا عاما ولم يكن زوال الهلاك إلا بوضوء العائن فانه يصير من باب من تعين عليه احياء نفس مشرفة على الهلاك وقد تقرر أنه يجير على بذل الطعام للمضطر فهذا أولى وبهذا التقرير يرتفع الخلاف فيه هذا آخر كلام المازرى قال القاضى عياض بعد أن ذكر قول المازرى الذى حكيته بقى من تفيسر هذا الغسل على قول الجمهور وما فسره به الزهري وأخبر أنه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه علماؤنا ومضى به العمل أن غسل العائن وجهه انما هو صبه وأخذه بيده اليمنى وكذلك باقى أعضائه انما هو صبه صبة على ذلك الوضوء في القدح ليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء وغيره وكذلك غسل داخلة الازار انما هو ادخاله وغمسه في القدح ثم يقوم الذى في يده القدح فيصبه على رأس المعين من ورغائه على جميع جسده ثم يكفأ القدح وراءه على ظ هر الارض وقيل يستغفله
[ 173 ]
بذلك عند صبه عليه هذه رواية ابن أبى ذئب وقد جاء عن ابن شهاب من رواية عقيل مثل هذا إلا أن فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة وفيه في غسل القدمين أنه لا يغسل جميعهما وانما قال ثم يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه واليسرى كذلك وداخلة الازار هنا المئزر والمراد بداخلته ما يلى الجسد منه وقيل المراد موضعه من الجسد وقيل المراد مذاكيره كما يقال عفيف الازار أي الفرج وقيل المراد وركه إذ هو معقد الازار وقد جاء في حديث سهل بن حنيف من رواية مالك في صفته أنه قال للعائن اغتسل له فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة ازاره وفى رواية فغسل وجهه وظاهر كفيه ومرفقيه وغسل صدره وداخلة إزاره وركبتيه وأطراف قدميه ظاهرهما في الاناء قال وحسبته قال وأمر فحسا منه حسوات والله أعلم قال القاضى في هذا الحديث من الفقه ما قله بعض العلماء أنه ينبغى إذا عرف أحد بالاصابة بالعين أن يجتنب ويتحرز منه وينبغى للامام منعه من مداخلة الناس ويأمره بلزموم بيته فان كان فقيرا رزقه ما يكفيه ويكف أذاه عن الناس فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذى منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد لئلا يؤذى المسلمين ومن ضرر المجذوم الذى منعه عمر رضى الله عنه والعلماء بعده الاختلاط بالناس ومن ضرر المؤذيات من المواشى التى يؤمر بتغريبها الى حيث لا يتأذى به أحد وهذا الذى قاله هذا القائل صحيح متعين ولا يعرف عن غيره تصريح بخلافه والله أعلم قال القاضى وفى هذا الحديث دليل لجواز النشرة والتطبب بها وسبق بيان الخلاف فيها والله أعلم قوله (حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وحجاج بن الشاعر وأحمد ابن خراش) هكذا هو في جميع النسخ أحمد ابن خراش بالخاء المعجمة المكسورة وبالراء وبالشين المعجمة وهو الصواب ولا خلاف فيه في شئ من النسخ وهو أحمد ابن الحسن بن خراش أبو جعفر البغدادي نسب الى جده وقال القاضى عياض هكذا هو في الأصول بالخاء المعجمة قال قيل انه وهم وصوابه أحمد بن جواس بفتح الجيم وبواو مشددة وسين مهملة هذا كلام القاضى وهو غلط فاحش ولا خلاف أن المذكور في مسلم انما هو با المعجمة والراء والشين المعجمة كما سبق وهو الراوي عن مسلم بن ابراهيم المذكور في صحيح مسلم هنا وأما ابن جواس بالجيم فهو أبو عاصم الحنفي الكوفى روى عنه مسلم أيضا في غير هذا الموضع ولكنه لا يروى عن مسلم بن ابراهيم ولاهو المراد هنا قطعا وكان سبب غلط من غلط كون
[ 174 ]
أحمد بن خراش وقع منسوبا الى جده كما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم (ولو كان شئ سابق القدر سبقته العين) فيه إثبات القدر وهو حق بالنصوص واجماع أهل السنة وسبقت المسألة في أول كتاب الايمان ومعناه أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى ولا تقع إلاعلى حسب ما قدرها الله تعالى وسبق بها علمه فلا يقع ضرر العين ولاغيره من الخير والشر إلا بقدر الله تعالى وفيه صحة أمر العين وأنها قوية الضرر والله أعلم باب السحر قوله (من يهود بنى زريق) بتقديم الزاى قوله (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودى حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله) قال الامام المازرى رحمه الله مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على اثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة خلافا لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته واضاف ما يقع منه الى خيالات باطلة لاحقائق لها وقد ذكره الله تعالى في كتابه وذكر أنه مما يتعلم وذكر ما فيه اشارة الى أنه مما يكفر به وأنه يفرق بين المرء وزوجه وهذا كله لا يمكن فيما لاحقيقة له وهذا الحديث أيضا مصرح باثباته وأنه أشياء دفنت وأخرجت وهذا كله يبطل ما قالوه فاحلة كونه من الحقائق محال ولا يستنكر في العقل أن الله سبحانه وتعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر وإذا شاهد الانسان بعبض الأجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة كالأدوية الحادة ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفر د الساحر بعلم قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة قال وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب آخر فزعم أنه يحط منصب النبوة ويشكك وأن تحويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا
[ 175 ]
الذى ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك وتجويز ما قام الدليل يخلافه باطل فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التى لم يبعث بسببها ولاكان مفضلا من أجلها وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا مالاحقيقة له وقد قيل انه إنما كان يتخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ وقد يتخيل الانسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة ولا حقيقة له وقيل انه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله فتكون اعتقاداته على السداد قال القاضى عياض وقد جائت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه الاعلى عقله وقلبه واعتقاده ويوكن معنى قوله في الحديث حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن ويروى يخيل إليه أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدوة عليهن فإذا دنى منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتيهن ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه فعل شئ لم يفعله ونحوه فمحول على التخيل بالبصر لا لخلل تطرق لى العقل وليس في ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة ولاطعنا لأهل الضلالة والله أعلم قال المازرى واختلف الناس في القدر الذى يقع به السحر ولهم فيه اضطراب فقال بعضهم لا يزيد تأثيره على قدر التفرقة بين المرء وزوجه لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيما لما يكون عنده وتهويلاته في حقنا فلو وقع به أعظم منه لذكره لأن المثل لا يضرب عند المبالغة الا بأعلى أحوال المذكور قال ومذهب الأشعرية أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك قال وهذا هو الصحيح عقلا لأنه لافاعل إلا الله تعالى وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها بأولى من بعض ولو ورد الشرع بقصوره عن مرتبة لوجب المصير إليه ولكن لا يوجد شرع قاطع يوجب الاقتصار على ما قاله القائل الأول وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية ليس بنص في منع الزيادة وانما النظر في أنه ظاهر أم لاقال فان قيل إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر فبماذا يتميز عن النبي فالجواب أن العادة تنخرق على يد النبي والولى والساحر لكن النبي يتحدى بها الخلق ويستعجزهم عن مثلها ويخبر عنالله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه فلو كان كاذبا لم تنخرق العادة على يديه ولو خرقها الله على يد كاذب لخرقها على يد المعارضين للأنبياء وأما الولى والساحر فلا يتحديان الخلق ولا يستدلان على النبوة ولو ادعيا شيئا من ذلك لم تنخرق العادة
[ 176 ]
لهما وأما الفرق بين الولى والساحر فمن وجهين أحدهما وهو المشهور إجماع المسلمين على أن السحر لا يظهر الا على فاسق والكرامة لا تظهر على فاسق وانما تظهر على ولى وبهذا جزم امام الحرمين وأبو سعد المتولي وغيرهما والثانى أن السحر قد يكون ناشئا بفعلها وبمزجها ومعاناة وعلاج والكرامة لاتفتقر الى ذلك وفى كثير من الأوقات يقع ذلك اتفاقا من غير أن يستدعيه أو يشعر به والله أعلم وأما لما يتعلق بالمسألة من فروع الفقه فعمل السحر حرام وهو من الكبائر بالاجماع وقد سبق في كتاب الايمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عده من السبع الموبقات وسبق هناك شرحه ومختصر ذلك أنه قد يكون كفرا وقد لا يكون كفرا بل معصيته كبيرة فان كان فيه قول أو فعل يقتضى الكفر كفر وإلا فلا وأما تعلمه وتعليمه فحرام فان تضمن ما يقتضى الكفر كفر والا فلا وإذا لم يكن فيه ما يقتضى الكفر عزر واستتيب منه ولا يقتل عندنا فان تاب قبلت توبته وقال مالك الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولاتقبل توبته بل يتحتم قتله والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا وعندنا ليس بكافر عندنا تقبل توبة المنافق والزنديق قال القاضى عياض ويقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروى عن جماعة من الصحابة والتابعين قال أصحابنا فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص وان قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لافلا قصاص وتجب الدية والكفارة وتكون الدية في ماله لاعلى عاقلته لأن العاقلة لاتحمل ما ثبت باعتراف الجاني قال أصحابنا ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة وانما يتصور باعتراف الساحر والله أعلم قوله (حتى إذا كان ذات يوم أو ذوات ليلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا ثم دعا) هذا دليل لاستحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره وحسن الالتجاء الى الله
[ 177 ]
تعالى قوله (ما وجع الرجل قال مطبوب) المطبوب المسحور يقال طب الرجل إذا سحر فكنوا بالطب عن السحر كما كنوا بالسليم عن اللديغ قال ابن الأنباري الطب منالأضداد يقال لعلاج الداء طب وللسحر طب وهو من أعظم الأدواء ورجل طبيب أي خاذق سمى طبيبا لحذقة وفطنته قوله (في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر) أما المشاطة فبضم الميموهى الشعر الذى يسقط من الرأس أو اللحية عند تسريحه وأما المشطففيه لغات مشط ومشط بضم الميم فيهما واسكان الشين وضمها ومشط بكسر الميم واسكان الشين وممشط ويقال له مشطأ بالهمزة وتركه ومشطاء ممدود وممكد ومرجل وقليم بفتح القاف حكاهن أبو عمر الزاهد وأما قوله وجب هكذا في أكثر نسخ بلادنا جب بالجيم وبالباء الموحدة وفى بعضها جف بالجيم والفاء وهما بمعنى وهو وعاء طلع النخل وهو الغشاء الذى يكون عليه ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا قيده في الحديث بقوله طلعة ذكر وهو باضافة طلعة الى ذكر والله أعلم ووقع في البخاري من رواية ابن عيينة ومشاقة بالقاف بدل مشاطة وهى المشاطة أيضا وقيل مشاقة الكتان قوله صلى الله عليه وسلم (في بئرذى أروان) هكذا هو في جميع نسخ مسلم ذى أروان وكذا وقع في بعض روايات البخاري وفى معظمها ذروان وكلاهما صحيح والأول أجود وأصح وادعى ابن عتيبة أنه الصواب وهو قول الأصمعى وهى بذر بالمدينة في بستان بنى زريق قوله صلى الله عليه وسلم (والله لكأن ماءها نقاعة الحناء) النقاعة بضم النون الماء الذى ينقع فيه الحناء والحناء ممدود قولها (فقلت يارسول الله أفلا أحرقته) وفى الرواية الثانية قلت يارسول الله فأخرجه كلاهما صحيح فطلبت أنه يخرجه ثم يحرقه المراد اخراج السحر فدفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الله تعالى قد عافاه وأنه يخاف
[ 178 ]
من اخراجه واحرفه واشاعة هذا ضررا وشرا على المسلمين من تذكر السحر أو تعلمه وشيوعه والحديث فيه أو ايذاء فاعله فيحمله ذلك أو يحمل بعض أهله ومحبيه والمتعصبين له من المنافقين وغيرهم على سحر الناس وأذاهم وانتصابهم لمناكدة المسلمين بذلك هذا من باب ترك مصلحة لخوف مفسدة أعظم منها وهو من أهم قواعد الاسلام وقد سبقت المسألة مرات والله أعلم باب السم قوله (ان يهودية أتت رسول الله صلى اللهه عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجئ بها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذاك قالت أردت لأقتلك قال وما كان الله ليسلطك على ذاك قال أو قال على قالوا ألا نقتلها قال لا قال فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله
[ 179 ]
عليه وسلم) وفى الرواية الأخرى جعلت سما في لحم أما السم فبفتح السين وضمها وكسرها ثلاث لغات الفتح أفصح جمعه سمام وسموم وأما اللهوات فبفتح اللام والهاء جمع لهات بفتح اللام وهى اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك قاله الأصمعى وقيل اللحمات اللواتى في سقف أقصى الفم وقوله مازلت أعرفها أي العلامة كأنه نقى للسم علامة وأثر من سواد أو غيره وقولهم ألا نقتلها هي بالنون في أكثر النسخ وفى بعضها بتاء الخطاب وقوله صلى الله عليه وسلم ماكان الله ليسلط على ذاك أو قال على فيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم كما قال والله يعصمك من الناس وهي معجزة لسول الله ص = في سلامته من السم المهلك لغيره وفى اعلام الله تعالى له بأنها مسومة وكلام عضو منه له فقد جاء في غير مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ان الذراع تخبرني انها مسمومة وهذه المرأة اليهودية الفاعلة لسم اسمها زينب بنت الحارث أخت مرحب اليهودي روينا تسميتها هذه في مغازى موسى بن عقبة ودلائل النبوة للبيهقي قال القاضى عياض واختلف الآثار والعلماء هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم أم لا فوقع في صحيح مسلم أنهم قالوا ألا نقتلها قال لا ومثله عن أبى هريرة وجابر وعن جابر من رواية أبى سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قتلها وفى رواية ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم دفعها الى أولياء بشر بن البراء بن معرور وكان أكل منها فمات بها فقتلوها وقال ابن سحنون أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها قال القاضى وجه الجميع بين هذه الروايات والأقاويل أنه لم يقتلها أولا حين اطلع على سمها وقيل له اقتلها قال لا فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصا فيصح قولهم لم يقتلها أي في الحال ويصح قولهم قتلها أي بعد ذلك والله أعلم
[ 180 ]
باب استحباب رقية المريض ذكر في الباب الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم يرقى المريض وقد سبقت المسأ لة مستوفاة في الباب السابق في أول الطلب قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا انسان مسحه بيمينه ثم قال أذهب الباس الى آخره) فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الاذكار وهذا المذكور هنا من أحسنها ومعنى
[ 181 ]
لا يغادر سقما أي لا يترك والسقم بضم السين واسكان القاف وبفتحهما لغتان قولها (كان رسول
[ 182 ]
الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات) هي بكسر الواو والنفث نفخ لطيف بلاريق فيه استحباب النفث في الرقية وقد أجمعوا على جوازه واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم قال القاضى وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقى وأجازوا فيها النفخ بلا ريق وهذا المذهب والفرق انما يجئ على قول ضعيف قيل ان النفث معه ريق قال وقد اختلف العلماء في النفث والتفل فقيل هما بمعنى ولا يكونان الابريق قال أبو عبيد يشترط في التفل ريق يسير ولايكون في النفث وقيل عكسه قال وسئلت عائشة عن نفث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريقمعه قال ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك وقد جاء في حديث الذى رقى بفاتحة الكتاب فجعل يجمع بزاقه ويتفل والله أعلم قال القاضى وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة للرقية والذكر الحسن لكن قال كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والاسماء الحسنى وكان مالك ينفث إذا رقى نفسه وكان يكره الرقية بالحديدة والملح والذى يعقد والذى يكتب خاتم
[ 183 ]
سليمان والعقد عنده أشد كراهة لما في ذلك من مشابهة السحر والله أعلم وفى هذا الحديث استحباب الرقية بالقران وبالاذكار وانما رقى بالمعوذات لأنهن جامعات للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلا ففيها الاستعاذة من شر ما خلق فيدخل فيه كل شئ شر النفاثات في العقد السواحر ومن شر الحاسدين شر الوسواس الخناس أعلم قولها (رخص في الرقية من كل ذى حمة) هي بحاء مهملة مضمومة ثم ميم مخففة وهى السم ومعناه اذن في الرقية من كل ذات سم قولها (قال النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه هكذا ووضع سفيان سبابته
[ 184 ]
بالأرض ثم رفعها باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضننا ليشفى به سقيمنا باذن ربنا) قال جمهور العلماء المراد بأرضنا هنا جملة الأرض وقيل أرض المدينة خاصة لبركتها والريقة أقل من الريق ومعنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيلعق بها منه شئ فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا اكلام في حال المسح والله أعلم قال القاضى واختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم وبالجواز قال الشافعي باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة أما الحمة فسبق بيانها في الباب قبله والعبن سبق بيانها قبل ذلك وأما النملة فبفتح النون واسكان الميم هي قروح تخرج في الجنب قال ابن قتيبة وغيره كانت المجوس تزعم أن ولد الرجل من
[ 185 ]
أخته إذا حط على النملة يشفى صاحبها وفى هذه الأحاديث استحباب الرقى لهذه العاهات والأدواء وقد سبق بيان ذلك مبسوطا والخلاف فيه قوله (رخص في الرقية من العين والحمة والنملة) ليس معناه تخصيص جوازها بهذه الثلاثة وانما معناه سئل عن هذه الثلاثة فأذن فيها ولو سئل عن غيرها لأذن فيه وقد أذن لغير هؤلاء وقد رقى هو صلى الله عليه وسلم في غير هذه الثلاثة والله أعلم قوله (رأى بوجهها سفعة فقال بها نظرة فاسترقوا لها) يعنى بوجهها صفرة أما السفعة فبسين مهملة مفتوحة ثم فاء ساكنة وقد فسرها في الحديث بالصفرة وقيل سواد وقال ابن قتيبة هي لون يخالف لون الوجه وقيل أخذة من الشيطان وهذا الحديث مما استدركه الدارقطني على البخاري ومسلم لعله فيه قال رواه عقيل عن الزهري عن عروة مرسلا وأرسله مالك وغيره من أصحاب يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة قال الدارقطني وأسنده أبو معاوية ولا يصح قال وقال عبد الرحمن بن اسحاق عن الزهري عن سعيد ولم يضع شيئا هذا كلام الدارقطني قوله ص = ماله أرى أجسام بنى أخى ضارعة) بالضاد المعجمة
[ 186 ]
أي نحيفة والمراد أولاد جعفر رضى الله عنه
[ 187 ]
باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار فيه حديث (أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه وأن رجلا رقى سيد الحى) هذا الراقي هو أبو سعيد الخدرى الراوى كذا جاء مبينا في رواية أخرى في غير مسلم قوله (فأعطى قطيعا من غنم) القطيع هو الطائفة من الغنم وسائر النعم قال أهل اللغة الغالب استعماله فيما بين العشر والأربعين وقيل ما بين خمس عشرة الى خمس وعشرين وجمعه أقطاع وأقطعة وقطعان وقطاع وأقاطيع كحديث وأحاديث والمراد بالقطيع المذكور في الحديث ثلاثون شاة كذا جاء
[ 188 ]
مبينا قوله صلى الله عليه وسلم (ما أدراك أنها رقية) فيه التصريح بأنها رقية فيستحب أن يقرأ بها على اللديغ والمريض وسائر أصحاب الأسقام والعاهات قوله صلى الله عليه وسلم (خذوا منهم واضربوا لى بسهم معكم) هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة والذكر وأنها حلال لاكراهة فيها وكذا الأجرة على تعليم القرآن وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد واسحاق وأبى ثور وآخرين من السلف ومن بعدهم ومنعها أبو حنيفة في تعليم القرآن وأجازها في الرقية وأما قوله صلى الله عليه وسلم واضربوا لى بسهم معكم وفى الرواية الأخرى اقسموا واضربوا لى بسهم معكم فهذه القسمة من باب المروءات والتبرعات ومواساة الأصحاب والرفاق والا فجميع الشياه ملك للراقي مختصة به لاحق للباقين فيها عند التنازع فقاسمهم بترعا وجودا ومروءة وأما قوله صلى الله عليه وسلم واضربوا لي بسهم فإنما قاله تطييبا لقلوبهم ومبالغة في تعريفهم أنه حلال لا شبهة فيه وقد فعل رسول الله ص = في حديث العنبر وفى حديث أبى قتادة في حمار الوحش مثله قوله (ويجمع بزاقة ويتفل) هو بضم الفاء وكسرها وسبق بيان مذاهب العملاء في التفل والنفث قوله (سيد الحى سليم) أي لديغ قالوا سمى بذلك تفاؤلا
[ 189 ]
بالسلامة وقيل لأنه مستسلم لما به قوله (ماكنا نأبته برقية) هو بكسر الباء وضمها أي نظنه كما سبق في الرواية التى قبلها وأكثر ما يستعمل هذا اللفظ بمعنى نتهمه ولكن المراد هنا نظنه كما ذكرناه والله أعلم باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء فيه حديث عثمان بن أبى العاص ومقصوده أنه يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتى بالدعاء المذكور والله أعلم
[ 190 ]
باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة قوله (ان الشيطان قد حال بينى وبين صلاتي وقراءتي يلبسها على فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا ففعلت ذلك فأذهبه الله عنى) أما خنزب فبخاء معمة مكسورة ثم نون ساكنة ثم زاى مكسورة ومفتوحة ويقال أيضا بفتح الخاء والزاى حكاه القاضى ويقال أيضا بضم الخاء وفتح الزاى حكاه ابن الأثير في النهاية وهو غريب وفى هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان عند وسوسته مع التفل عن اليسار ثلاثا ومعنى يلبسها أي مخلطها ويشككني فيها وهو بفتح أوله وكسر ثالثه ومعنى حال بينى وبينها أي نكدنى فيها ومنعنى لذتها والفراغ للخشوع فيها
[ 191 ]
باب لكل داء دواء واستحباب التداوى قوله صلى الله عليه وسلم (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ باذن الله) الدواء بفتح الدال ممدود وحكى جماعات منهم الجوهرى فيه لغة بكسر الدال قال القاضى هي لغة الكلابين وهو شاذوفى هذا الحديث اشارة الى استحباب الدواء وهو مذهب أصحابنا وجمهور السلف وعامة الخلف قال القاضى في هذه الأحاديث جمل من علوم الدين والدنيا وصحة علم الطب وجواز التطيب في الجملة واستحبابه بالامور المذكورة في هذه الأحاديث التى ذكرها مسلم وفيها رد على من أنكر التداوى من غلاة الصوفية وقال كل شئ بقضاء وقدر فلا حاجة الى التداوى وحجة العلماء هذه الأحاديث ويعتقدون أن الله تعالى هو الفاعل وأن التداوى هو أيضا من قدر الله وهذا كالأمر بالدعاء وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصن ومجانية الالقاء باليد الى التهلكة مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أوقاتها ولابد من وقوع المقدرات والله أعلم قال الامام أبو عبد الله المازرى ذكر مسلم هذه الأحاديث الكثيرة في الطب والعلاج وقد اعترض في بعضها من في قلبه مرض فقال الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به الاسهال ومجمعون أيضا أن استعمال المحموم الماء البارد مخاطرة قريب من الهلاك لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة الى داخل الجسم فيكون سببا للتلف وينكرو أيضا مداواة ذات الجنب بالقسط مع ما فيه من الحرارة الشديدة ويرون ذلك خطرا قال المازرى وهذا الذى قال هذا المعترض جهالة بينة وهو فيها كما قال الله تعالى كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه نشرح الأحاديث المذكورة في هذا الموضع فنقول قوله صلى الله عليه
[ 192 ]
وسلم (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ باذن الله) فهذا فيه بيان واضح لأنه قد علم أن الأطباء يقولون المرض هو خروج الجسم عن المجرى الطبيعي والمداواة رده إليه وحفظ الصحة بقاؤه عليه فحفظها يكون باصلاح الأغذية وغيرها ورده يكون بالموافق من الأدوية المضادة للمرض وبقراط يقال الأشيئا تداوى بأضدادها ولكن قد يدق ويغمض حقيقة المرض وحقيقة طبع الدواء فيقل الثقة بالضادة ومن ههنا يقع الخطأ من الطبيب فقط فقد يظن العلة عن مادة حارة فيكون عن غير مادة أو عن مادة باردة أو عن مادة حارة دون الحرارة التى ظنها فلا يحصل الشفاء فكأنه صلى الله عليه وسلم نبه بآخر كلامه على ما قد يعارض به أوله فيقال قلت لكل داء دواء ونحن كثيرين من المرضى يداوون فلا يبرءون فقال انما ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة لا لفقد الدواء وهذا واضح والله أعلم وأما الحديث الآخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم (إن كان في شئ من أدويتكم خير ففى شرطة محجكم أو شربة من عسل أو لذعة بنار) فهذا من بديع الطب عند أهله لأن الأمراض الامتلائية دموية أو صفراوية أو سوداوية أو بلغمية فان كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم وان كانت من الثلاثة الباقية فشفاؤها بالاسهال بالمسهل اللائق لكل خلط منها فكأنه نبه صلى الله عليه وسلم بالعسل على المسهلات وبالحجامة
[ 193 ]
على إخراج الدم بها وبالفصد ووضع العلق وغيرها مما في معناها وذكر الكى لأنه يستعمل عند عدم نفع الأدوية المشروبة ونحوها فآخر الطب الكى وقوله صلى الله عليه وسلم ما أحب أن أكتوى إشارة الى تأخير العلاج بالكى حتى يضطر إليه لما فيه من استعمال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكى وأما ما اعترض به الملحد المذكور فنقول في إبطاله ان علم الطب من أكثر العلوم احيتاجا الى التفصيل حتى ان المريض يكون الشئ دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التى تليها بعارض يعرض من غضب يحمى مزاجه فيغير علاجه أو هواء يتغير أو غير ذلك مما لا تحصى كثرته فإذا وجد الشفاء بشئ في حالة بالشخص لم يلزم منه الشفاء به في سائر الأحوال وجميع الأشخاص والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدمة والتدبير المألوف وقوة الطباع فإذا
[ 194 ]
عرفت ما ذكرناه فاعلم أن الاسهال يحصل من أنواع كثيرة منها الاسهال الحادث من التخم والهيضات وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على علاجه بأن يترك الطبيعة وفعلها وان احتاجت الى معين على الاسهال أعينت مادامت القوة باقية فأما حبسها فضرر عندهم واستعجال مرض فيحتمل أن يكون هذا الاسهال للشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة فدواؤه ترك إسهاله على ما هو أو تقويته فأمره صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فرآه إسهالا فزاده عسلا الى أن فنيت المادة فوقف الاسهال ويكون الخلط الذى كان يوافقه شرب العسل فثبت بما ذكرناه أن العسل جار على صناعة الطب وأن المعترض عليه جاهل لها ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم فلو أوجدوا المشاهدة بصحة دعواهم تأولنا كلامه صلى الله عليه وسلم حينئذ وخرجناه على ما يصح فذكرنا هذا الجواب
[ 195 ]
ومابعده عدة للحاجة إليه ان اعتضدوا بمشاهدة وليظهر به جهل المعترض وأنه لا يحسن الصناعة التى اعترض بها وانتسب إليها وكذلك القول في الماء البارد للمحموم فإن المعترض يقول على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل أكثر من قوله ابردوها بالماء ولم يبين صفته وحالته والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراورية يدبر صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرودة ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى والعسل على نحو ما قالوه وقد ذكر مسلم هنا في صحيحه
[ 196 ]
عن أسماء رضى الله عنها أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة فتصب الماء في جيبها وتقول ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابردوها بالماء فهذه أسماء راوية الحديث وقربها من النبي صلى الله عليه وسلم معلوم تأولت الحديث على نحو ما قلناه فلم يبق للملحد المعترض إلا اختراعه الكذب واعتراضه به فلا يلتفت إليه وأما انكارهم الشفاء من ذات الجنب بالقسط فباطل فقد قال بعض قدماء الأطباء أن ذات الجنب إذا حدثت من البلغم كان القسط من علاجها وقد ذكر جالينوس وغيره أنه ينفع من وجع الصدر وقال بعض قدماء الأطباء ويستعمل حيث يحتاج الى اسخان عضو من الأعضاء وحيث يحتاج الى أن يجذب الخلط من باطن البدن الى ظاهره وهتكذا قاله ابن سينا وغيره وهذا يبطل ما زعمه هذا المعترض الملحد وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيه سبعة أشفية فقد أطبق الأطباء في كتبهم على أنه يدر الطمث والبول وينفع من السموم ويحرك شهوة الجماع ويقتل الدود وحب القرع في الأمعاء إذا شرب بعسل ويذهب الكلف إذا طلى عليه وينفع من برد المعدة والكبد ويردهما ومن حمى الورد والربع وغير ذلك صنفان بحرى وهندى والبحري هو القسط الأبيض وهو أكثر من صنفين ونص بعضهم أن البحري أفضل من الهندي وهو أقل حرارة منه وقيل هما حاران يابسان في الدرجة الثالثة والهندي أشد حرا في الجزء الثالث من الحرارة وقال ابن سنيا القسط حار في الثالثة يابس في الثانية فقد اتفق العلماء على هذه المنافع التى ذكرناها في القسط فصار ممدوحا شرعا وطبا وانما عددنا منافع القسط من كتب الأطباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر منها عددا مجملا وأما قوله صلى الله عليه وسلم ان في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السم فيحمل أيضا على العلل الباردة على نحو ما سبق في القسط وهو صلى الله عليه وسلم قد يصف بحسب ما شاهده من غالب أحوال أصحابه رضى الله عنهم وذكر القاضى عياض كلام المازرى الذى قدمناه ثم قال وذكر الأطباء في منفعة
[ 197 ]
السوداء التى هي الشونيز أشياء كثيرة وخواص عجيبة يصدقها قوله صلى الله عليه وسلم فذكر جالينوس أنها أنها تحل النفخ وتقل ديدان البطن إذا أكل أو وضع على البطن وتنفى الزكام إذا قلى وصر في خرقة وشم وتزيل العلة التى تقشر منها الجلد ويقلع الثآليل المتعلقة والمنكسة والخيلان وتدر الطمث المنحبس إذا كان انحبله من أخلاط غليظة لزجة وينفع الصداع إذا طلى به الجبين وتقلع البثور والجرب وتحلل الأورام البلغمية إذا تضمد به مع الخل وتنفع من الماء العارض في العين إذا استعط به مسحوقا بدهن الأوليا وتنفع من انتصاب النفس ويتمضمض به من وجع الأسنان وتدر البول والبن وتنفع من نهشة الرتيلا وإذا بخربه طرد والهوام قال القاضى وقال غير جالينوس خاصيته إذهاب حمى البلغم والسوداء وتقتل حت القرع وادا علق في عنق المزكوم نفعه وينفع من حمى الربع قال ولا يبعد منفعة الحار من أدواء حارة بخواص فيها فقد نجد ذلك في أدوية كثيرة فيكون الشونيز منها لعموم الحديث ويكون استعماله أحيانا منفردا وأحيانا مركبا قال القاضى وفى جملة هذه الأحاديث ما حوان من علوم الدين والدنيا وصحة علم الطب وجواز التطبب في الجملة واستحبابه بالأمور المذكورة من الحجامة وشرب الأدوية والسعوط واللدود وقطع العروق والرقى قال قوله صلى الله عليه وسلم أنزل الدواء الذى أنزل الداء هذا اعلام لهم واذن فيه وقد يكون المراد بانزاله انزال الملائكة الموكلين بمباشرة مخلوقات الأرض من داء ودواء قال وذكر بعض الأطباء في قوله صلى الله عليه وسلم شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار أنه اشارة الى جميع ضروب المعافاة والله أعلم قوله (ان جابر بن عبد الله عاد المقنع) هو بفتح القاف والنون المشددة قوله (يشتكى خراجا) هو بضم الخاء وتخفيف الراء قوله (أعلق فيه محجما) هو بكسر الميم وفتح الجيم وهى الآلة التى تمص ويجمع بها وضع الحجامة وأما قوله (شرطة محجم (فالمراد بالمحجم هنا الحديدة التى يشرط بها موضع الحجامة ليخرج الدم قوله (فلما رأى تبرمه) أي تضجره وسامته منه قوله (عن جابر بن عبد الله قال رمى أبى يوم الأحزاب على أكحله فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقوله أبى بضم الهمزة وفتح الباء وبشديد الياء وهكذا صوابه وكذا هو في الروايات والنسخ وهو أبى بن كعب المذكور في الرواية التى قبل هذه وصفحه بعضهم فقال بفتح الهمزة وكسر الباء وتخفيف الياء وهو غلط فاحش لأن أبا جابر استشهد يوم أحد قبل الأحزاب بأكثر من سنة وأما الأكحل فهو عرق معروف قال الخليل
[ 198 ]
هو عرق الحياة يقال هو نهر الحياة ففى كل عضو شعبة منه وله فيها اسم متفرد فإذا قطع في اليد لم يرقأ الدم وقال غيره هو عرق واحد يقال له في اليد الأكحل وفى الفخذ النسا وفى الظهر الأبهر وأما الكلام في أجرة الحجام فسبق قوله (فحسمه) أي كواه ليقطع دمع وأضل الحسم القطع قوله صلى الله عليه وسلم (الحمى من فيح) جهنم فابردوها بالماء وفى رواية من فور جهنم هو بفتح الفاء فيهما وهو شدة حرها ولهبها وانتشارها وأما ابردوها فبهمزة وصل وبضم الراء يقال بردت الحمى أبردها بردا على وزن قتلتها أقتلها قتلا أي أسكنت حرارتها وأطفأت لهبها كما قال في الرواية الأخرى فأطفئوها بالماء وهذا الذى ذكرناه من كونه بهمزة وصل وضم الراء هو الصحيح الفصيح المشهور في الروايات وكتب اللغة وغيرها وحكى القاضى عياض في المشارق أنه يقال بهمزة قطع وكسر الراء في لغة قد حكاه الجوهر وقال هي لغة رديئة وفى هذا الحديث دليل لأهل السنة أن جهنم مخلوقة الآن موجودة قوله (عن أسماء أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة فتدعو بالماء فتصبه في جيبها وتقول ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابردوها بالماء) وفى رواية صبت الماء بينها وبين جيبها قال القاضى هذا يرد قول الأطباء ويصحح حصول البرء باستعمال المحموم الماء وأنه على ظاهره لاعلى ما سبق من تأويل المازرى
[ 199 ]
قال ولو لاتجربة أسماء والمسلمين لمنفعة لما استعملوه قولها (لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فأشار أن لا تلدوني بفقلنا كراهية المريض للدواء فما أفاق لا يبقى منكم أحد إلالد غير العباس فانه لم يشدكم) قال أهل اللغة اللدود بفتح اللام هو الدواء الذى يصب في أحد جانبى فم المريض ويسفا أو يدخل هناك بأصبع وغيرها ويحنك به ويقال منه لددته ألده وحكى الجوهرى أيضا ألددته رباعيا والتددت أنا قال الجوهرى ويقال للدود لديد أيضا وانما أمر صلى الله عليه وسلم بلدهم عقوبة لهم حين خالفوه في إشارته إليهم لا تلدوني ففيه أن الاشارة المفهمة تصريح العبارة في نحو هذه المسألة وفيه تعزيز المتعدى بنحو من فعله الذى تعدى به إلا أن يكون فعلا
[ 200 ]
محرما قولها (دخلت عليه بابن لى قد أعلقت عليه من العذرة فقال علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق عليكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود لا هندي فان فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب يسعط من العذرة ويلد من ذات الجنب) أما قولها أعلقت عليه فكهذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم عليه ووقع في صحيح البخاري من رواية معمر وغيره عليه فأعلقت عليه كما هنا ومن رواية سفيان بن عيينة فأعلقت عنه بالنون وهذا هو المعروف عند أهل اللغة قال الخطابى المحدثون يروونه أعلقت عليه والصواب عنه وكذا قال غيره وحكاهما بعضهم لغتين أعلقت عنه وعليه ومعناه عالجت وجع لهاته بأصبعى وأما العذرة فقال العلماء هي بضم العين وبالذال المعجمة وهى وجع في الحلق يهيج من الدم يقال في علاجها عذرته فهو معذور وقيل هي قرحة تخرج في الخر الذى يبن الحلق والأنف تعرض للصبيان غالبا عند طلوع العذرة وهى خمسة كواكب تحت الشعرى العبور وتسمى العذارى وتطلع في وسط الحز وعادة النساء في معالجة العذرة أن تأخذ المرأة خرقة فتفتلها فتلا شديدا وتدخلها في أنف الصبى وتطعن ذلك الموضع فينفجر منه دم أسود وربما أقرحته وذلك الطعن يسمى دغرا وغدرا فمعنى تدغرن أولادكن أنها تغمز حلق الولد بأصبعها فترفع ذلك الموضع وتكبسه وأما العلاق فبفتح العين وفى الرواية الأخرى الاعلاق وهو الأشهر عند أهل اللغة حتى زعم بعضهم أنه الصواب وأن العلاق لا يجوز قالوا والعلاق مصدر أعلقت عنه ومعناه أزلت عنه العلوق وهى الآفة والداهية والاعلاق هو معالجة عذرة الصبى وهى وجع حلقة كما سبق قال ابن الأثير ويجوز أن يكون العلاق هو الاسم منه وأما ذات الجنبفعلة معروفة والعود الهندي يقال له القسط
[ 201 ]
والكست لغتان مشهورتان قوله صلى الله عليه وسلم (علامة تدغرن أولادكن) هكذا هو في جميع النسخ علامه وهى هاء السكت ثبت هنا في الدرج قوله (والحبة السوداء الشونيز) هذا هو الصواب المشهور الذى ذكره الجمهور قال القاضي وذكر الحربى عن الحسن أنها الخردل قال وقيل هي الحبة الخضراء وهى البطم والعرب تسمى الأخضر أسود ومنه سواد العراق
[ 202 ]
لخضرته بالأشجار وتسمى الأسود أيضا أخضر قوله صلى الله عليه وسلم (التلبينة مجمة لفؤاد المريض وتذهب بعض الحزن) أما مجمة فبفتح الميم والجيم ويقال بضم الميم وكسر الجيم أي تريح فؤاده وتزيل عنه الهم وتنشطه والجمام المستريح كأهل النشاط وأما التلبينة فبتح التاء وهى حساء من دقيق أو نخالة قالوا وربما جعل فيها عسل قال الهرواى وغيره سميت تلبينة
[ 203 ]
تشبيها بالبن لبياضها ورقتها وفيه استحباب التلبينة للمحزون قوله (ان أخى عرب بطنه) هو بفتح العين وكسر الراء معناه فسدت معدته قوله صلى الله عليه وسلم (صدق الله وكذب بطن أخيك) المراد قوله تعالى من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس العسل وهذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن الضمير في قوله تعالى فيه شفاء يعود الى الشراب الذى هو العسل وهو الصحيح وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم وقال مجاهد الضمير عائد الى القرآن وهذا ضعيف مخالف لظاهر القرآن ولصريح هذا الحديث الصحيح قال بعض العلماء الآية على الخصوص أي شفاء من بعض الأدواء ولبعض الناس وكان داء هذا المبطون مما يشفى بالعسل وليس في الآية تصريح بأنه شفاء من كل داء ولكن علم النبي صلى الله عليه وسلم أن داء هذا الرجل مما يشفى بالعسل والله أعلم
[ 204 ]
باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها قوله صلى الله عليه وسلم في الطاعون (أنه رجز أرسل على بنى اسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرضفلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرار منه) وفى رواية أن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم ثم بقى بعد بالأرض فيذهب المرة ويأتى الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن وقع بأرض وهو بها فلا يخرجنه الفرار منه وفى حديث عمر رض اللل ه عنه أن الوباء وقع بالشام أما الوباء فمهموز مقصور وممدود لغتان القصر أفصح وأشهر وأما الطاعون فهو قروح تخرج في الجسد فتكون في المرافق أو الآباط أو الأيدى أو الأصابع وسائر البدن ويكون معه ورم وألم شديد وتخرج تلك القروح مع لهيب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان القلب والقئ وأما الوباء فقال الخليل وغيره هو الطاعون وقال هو كل مرض عام والصحيح الذى قاله المحققون أنه مرض الكثيرين من الناس في جهة من الأرض دون سائر الجهات ويكون مخالفا للمعتاد من أمراض في الكثرة وغيرها ويكون مرضهم نوعا واحدا بخلاف سائر الأوقات فان أمراضهم فيها مختلفة قالوا وكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا والوباء الذى وقع في الشام في زمن عمر كان طاعونا وهو طاعون عمواس وهى قرية معروفة بالشام وقد سبق في شرح مقدمة الكتاب في ذكر الضعفاء من الرواة عند ذكره طاعون الجارف بيان الطواعين وأزمانها وعددها وأما كنها ونفائس مما يتعلق بها وجاء في هذه الأحاديث أنه أرسل على بنى إسرائيل أو من كان قبلكم عذابا لهم هذا الوصف بكونه عذابا مختص بمن كان قبلنا وأما هذه الأمة فهو لها رحمة وشهادة ففى الصحيحين قوله صلى اللل ه عليه وسلم المطعون شهيد وفى حديث آخر في غير الصحيحين أن الطاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده
[ 205 ]
صابرا يعلم أنه لن يصبه الاما كتب الله له الا كان له مثل أجر شهيد وفى حديث اخر الطاعون شهادة لكل مسلم وإنما يكون شهادة لمن صبر كما بينه في الحديث المذكور وفى هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون ومنع الخروج منه فرارا من ذلك أما الخروج لعارض فلا بأس به وهذا الذى ذكرناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور قال القاضى هو قوله الأكثرين قال حتى قالت عائشة الفرار منه كالفرار من الزحف قال ومنهم من جوز القدوم عليه والخروج منه فرار قال وروى
[ 206 ]
هذا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأنه ندم على رجوعه من سرغ وعن أبى موسى الأشعري ومسروق والأسود بن هلال أنهم فروا من الطاعون وقال عمرو بن العاص فروا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤس الجبال فقال معاذ بل هو شهادة ورحمة ويتأول هؤلاء النهى على أنه لم ينه عن الدخول عليه والخروج منه مخافة أن يصيبه غير المقدر لكن مخافة لفتنة على الناس لئلا يظنوا أن هلاك القادم انما حصا بقدومه وسلامة الفار انما كانت
[ 207 ]
بفراره قالوا وهو من نحو النهى عن الطيرة والقرب من المجذوم وقد جاء عن ابن مسعود قال الطاعون فتنة على المقيم والفار أما الفار فيقول فررت فنجوت وأما المقيم فيقول أقمت فمت وانما فر من لميأت أجله وأقام من حضر أجله والصحيح ما قدمناه من النهى عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة قال العلماء وهو قريب المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا وفى هذا الحديث الاحتراز من المكاره وأسبابها وفيه التسليم لقضاء الله عند حلول الافات والله أعلم واتفقوا على جواز الخروج بشغل وغرض غير الفرار ودليله صريح الأحاديث قوله في رواية أبى النضر (لا يخرجكم الافرار منه) وقع في بعض النسخ فرار بالرفع وفى بعضها فرار بالنصب وكلاهما مشكل من حيث العربية والمعني قال القاضى وهذه الرواية ضعيفة عند أهل العربية مفسدة للمعنى
[ 208 ]
لأن ظاهرها المنع من الخروج لكل سبب الاللفرار فلامنع منه وهذا ضد المراد وقال جماعة ان لفظة إلا هنا غلط من الراوى والصواب حذفنها كما هو المعروف في سائر الروايات قال القاضى وخرج بعض محققى العربية لرواية النصب وجها فقال هو منصوب على الحال قال ولفظة الاهنا لايجاب لا للاستثناء وتقديره لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا فرارا منه والله أعلم واعلم أن أحاديث الباب كلها من رواية أسامة بن زيد وذكر في الطرق الثلاث في آخر الباب ما يوهم أو يقتضى أنه من رواية سعد بن أبى وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضى وغيره هذا وهم انما هو من رواية سعد عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم قوله (حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الاجناد) أما سرغ فبسين مهملة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم غين معجمة وحكى القاضى وغيره أيضا فتح الراء والمشهور اسكانها ويجوز صرفه وتركه وهى قرية في طرف الشام مما يلى الحجاز وقوله أهل الاجناد وفى غيره هذه الرواية أمراء الاجناد والمراد بالاجناد هنا مدن الشام الخمس وهى فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين هكذا فسروه واتفقوا عليه ومعلوم أن فلسطين اسم لناحية بيت المقدس والأردن اسم لناحية سيان وطبرية وما يتعلق بهما ولا يضر اطلاق اسم المدينة عليه قوله (ادع لى المهاجرين
[ 209 ]
الأولين فدعا ثم دعا الأنصار ثم مشيخة قريش من مهاجرة الفتح) انما رتبهم هكذا على حسب فضائلهم قال القاضى المراد بالمهاجرين الأولين من صلى للقبلتين فأما من أسلم بعد تحويل القبلة فلا يعد فيهم قال وأما مهاجرة الفتح فقيل هم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم فضل بالهجرة قبل الفتح إذ لا هجرة بعد الفتح وقيل هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده فحصل لهم اسم دون الفضيلة قال القاضى هذا أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم مشخة قريش وكان رجوع عمر رضى الله عنه لرجحان طرف الرجوع لكثرة القائلين وأنه أحوط ولم يكن مجرد تقليد لمسلمة الفتح لأن بعض المهاجرين الأولين وبعض الانصار أشاروا بالرجوع وبعضهم بالقدوم عليه وانضم الى المشيرين بالرجوع رأى مشيخة قريش فكثر القائلين به مع مالهم من السن والخبرة وكثرة التجارب وسداد الرأى وحجة الطائفين واضحة مبينة في الحديث وهما مستمدان من أصلين في الشرع أحدهما التوكل والتسليم للقضاء والثانى الاحتياط والحذر ومجانبة أسبابا لالقاء باليد الى التهلكة قال القاضى وقيل انما رجع عمر لحديث عبد الرحمن بن عوف كما قال مسلم هنا في روايته عن ابن شهاب ان سالم بن عبد الله قال ان عمر انما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف قالوا ولأنه لم يكن ليرجع
[ 210 ]
لرأى دون رأى حتى يجد علما وتأول هؤلاء قوله (أن مصبح على ظهر فأصبحوا) فقالوا أي مسافر الى الجهة التى قصدناها أو لالاللرجوع الى المدينة وهذا تأويل فاسد ومذهب ضعيف بل الصحيح الذى عليه الجمهور وهو ظاهر الحديث أو صريحه أنه إنما قصد الرجوع أولا بالجتهاد حين رأى الأكثرين على ترك الرجوع مع فضيلة المشيرين به وما فيه من الاحتياط ثم بلغه حديث عبد الرحمن فحمد الله تعالى وشكره على موافقة اجتهاده واجتهاد معظم أصحابه نص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قول مسلم انه انما رجع لحديث عبد الرحمن فيحتمل أن سالما لم يبلغه ما كان عمر عزم عليه من الرجوع قبل حديث عبد الرحمن له ويحتمل أنه أراد لم يرجع الابعد حديث عبد الرحمن والله أعلم قوله (انى مصبح على ظهر فأصبحوا عليه) هو باسكان الصاد فبهما أي مسافر راكب على ظهر الراحلة راجع الى وطنى فأصبحوا عليه وتأهبوا له قوله (فقال أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافة نعم نفر من قدر الله الى قدر الله أرأيت لو كان لك ابل فهبطت وابل له عدوتان احداهما خصيبة والأخرى جدبة أليس ان رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله وان رعيت الجدية رعيتها بقدر الله) أما العدوة فبضم العين وكسرها وهى جانب الوادي والجدبة بفتح الجيم واسكان الدال المهملة وهى ضد الخصبية وقال صاحب التحرير الجدبة هنا بسكون الدال وكسرها قال والخصبة كذلك أما قوله لو غيرك قالها يا أبا عبيدة فجواب لو محذوف وفى تقديره وجهان ذكرهما صاحب التحرير وغيره أحدهما لو قاله غيرك لأدبته لاعتراضه على مسألة اجتهادية وافقنى عليها أكثر الناس وأهل الحل والعقد فيها والثاني
[ 211 ]
لو قالها غيرك لم أتعجب منه وانما أتعجب من قولك أنت ذلك مع ما أنت عليه من العلم والفضل ثم ذكر له عمر دليلا واضحا من القياس الجلى الذى لاشك في صحبه وليس ذلك اعتقادا منه أن الرجوع يرد المقدور وانما معناه أن الله تعالى أمر بالاحتياط والحزم ومجانية أسباب الهلاك كما أمر سبحانه بالتحصن من سلاح العدو وتجنب المهالك وان كان كل واقع فبقضاء الله وقدره السابق في علمه وقاس عمر على رعى العدوتين لكونه واضحا لا ينازع فيه أحد مع مساواته لمئلة النزاع قوله (أكنت معجزه) هو بفتح العين وتشديد الجيم أي تنسبه الى العجز ومقصود عمر أن الناس رعية لى استر عانيها الله تعالى فيجب على الاحتياط لها فان تركته نسبت الى العجز واستوجبت العقوبة والله أعلم قوله (هذا المحل أو قال هذا المنزل) هما بمعنى وهو بفتح الحاء وكسرها والفتح أقبس فان ما كان على وزن فعل ومضارعه يفعل بضم ثالثه كان مصدره واسم الزمان والمكان منه مفعلا بالفتح كقعد يقعد مقعدا ونظائره إلا أحرفا شذت جاءت بالوجهين منها المحل قوله في الاسناد (عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس) قال الدراقطنى كذا قال مالك وقال معمر ويونس عن عبد الله بن الحارث قال والحديث صحيح على اختلافهم قال وقد أخرجه
[ 212 ]
مسلم من طريق يونس عن عبد الله بن الحارث وأما البخاري فلم يخرجه إلامن طريق مالك واعلم أن في حديث عمر هذا فوائد كثيرة منها خروج الامام بنفسه في ولايته في بعض الأوقات ليشاهد أحوال رعيته ويزيل ظلما لمظلوم ويكشف كرب المكروب ويسد خلة المحتاج ويقمع أهل الفساد ويخافه أهل البطالة والأذى والولاة ويحذر واتجسسه عليهم ووصول قبائحهم إليه فينكفوا ويقيم في رعيته شعائر الاسلام ويؤدب من رآهم مخلين بذلك ولغير ذلك من المصالح ومنها تلقى الأمراء ووجوه الناس الامام عند قدومه وإعلامهم إياه بما حدث في بلادهم من خير وشر ووباء ورخص وغلاء وشدة ورخاء وغير ذلك ومنها استحباب مشاورة أهل العلم والرأى في الأمور الحادثة وتقديم أهل السابقة في ذلك ومنها تنزيل الناس منازلهم وتقديم أهل الفضل غيرهم والابتداء بهم في المكارم ومنها جواز الاجتهاد في الحروب ونحوها كما يجوز في الأحكام ومنها قبول خبر الواحد فانهم قبلوا خبر عبد الرحمن ومنها صحة القياس وجواز العمل به ومنها ابتداء العالم لما عنده من العلم قبل أن يسأله كما فعل عبد الرحمن ومنها اجتناب أسباب الهلاك ومنها منع القدوم على الطاعون ومنع الفرار منه والله أعلم
[ 213 ]
باب لا عدوى ولاطيرة ولا هامة ولاصفر ولانوء ولاغول (ولا يورد ممرض على مصح قوله صلى الله عليه وسلم من رواية أبى هريرة (لا عدوى ولا صفر ولا هامة فقال أعرابي يارسول الله فما بال الابل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجئ البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها قال فمن أعدى الأول) وفى رواية لا عدوى ولاطيرة ولاصفر ولا هامة وفى رواية أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال لا يورد ممرض على مصحح ثم ان أبا هريرة اقتصر على رواية حديث لا يورد ممرض على مصح وأمسك عن حديث لا عدوى فراجعوه فيه وقالوا له إنا سمعناك تحدثه فأبى أن يعترف به قال أبو سلمة الرواى عن أبى هريرة فلا أدري أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر قال جمهو العلماء يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان قالوا وطريق الجمع أن حديث لا عدوى المراد به نفى ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدى بطبعها لا بفعل الله تعالى وأما حديث لا يورد
[ 214 ]
ممرض على مصح فأرشد فيه الى مجانية ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله وأرشد في الثاني الى الااحتراز مما يحضل عنده الضرر بفعل الله وارادته وقدره فهذا الذى ذكرناه من تصحيح الحديثن والجمع بينهما هو الصواب الذى عليه جمهور العلماء ويتعين المصير إليه ولا يؤثر نسيان أبى هريرة لحديث لا عدوى لوجهين أحدهما أن نسيان الراوى للحديث الذى رواه لا يقدح في صحته عند جماهير العلماء بل يجب العمل به والثانى أن هذا اللفظ ثابت من رواية غير أبى هريرة فقد ذكر مسلم هذا من رواية السائب بن يزيد وجاد بن عبد الله وأنس ابن مالك وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحكى المازرى والقاضى عياض عن بعض العلماء أن حديث لا يورد ممرض على مصح منسوخ بحديث لا عدوى وهذا غلط لوجهين أحدهما أن النسخ يشترط فيه تعذر الجمع بين الحديثين ولم يتعذر بل قد جمعنا بينهما والثانى أنه يشترط فيه معرفة التاريخ وتأخر الناسخ وليس ذلك موجودهنا وقال آخرون حديث لا عدوى على ظاهره وأما النهى عن ايراد الممرض على المصح فليس للعدوى بل للتأذى بالرائحة الكريهة وقبح صورته وصورة المجذوم والصواب ما سبق والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ولاصفر) فيه تأويلان أحدهما المراد تأخيرهم تحريم المحرم الى صفر وهو النسئ الذى كانوا يفعلونه وبهذا
[ 215 ]
قال مالك وأبو عبيدة والثانى أن الصفر دواب في البطن وهى دود وكانوا يعتقدون أن في البطن دابة تهيج عند الجوع وربما قتلت صاحبها وكانت العرب تراها أعدى من الجرب وهذا التفسير هو الصحيح وبه قال مطرف وابن وهب وابن حبيت وأبو عبيد وخلائق من العلماء وقد ذكره مسلم عن جابر بن عبد الله راوي الحديث فيتعين اعتماده ويجوز أن يكون المراد هذا والأول جميعا وأن الصفرين جميعا باطلان لاأصل لهما ولا تصريح على واحد منهما قوله صلى الله عليه وسلم (ولا هامة) فيه تأويلان أحدهما أن العرب كانت تتشاءم باطامة وهى الطائر المعروف من طير الليل وقيل هي البومة قالوا كانت إذا سقطت على دار أحدهم رآها ناعية له نفسه أو بعض أهله وهذا تفسير مالك بن أنس والثانى أن العرب كانت تعتقد أن عظام الميت وقيل روحه تنقلب هامة تطير وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور ويجوز أن يكون المراد النوعين فانهما جميعا باطلان فبين النبي صلى الله عليه وسلم ابطال ذلك وضلالة
[ 216 ]
الجاهلية فيما تعتقده من ذلك والهامة بتخفيف الميم على المشهور الذى لم يذكر الجمهور غيره وقيل بتشديدها قاله جماعة وحكاه القاضى عن أبى زيد الأنصاري الامام في اللغة قوله صلى الله عليه وسلم (ولانوء) أي لا تقولوا مطرنا بنوء كذا ولا تعتقدوه وسبق شرحه واضحا في كتاب الصلاة قوله صلى الله عليه وسلم (ولاغول) قال جمهور العلماء كانت العرب تزعم أن الغيلان
[ 217 ]
في الفلوات هي جنس من الشياطين فتتراءى للناس وتتغول أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال آخرون ليس المراد بالحديث وجود الغول وانما معناه ابطال ما تزعمه العرب من تلون الغول الصور المختلفة واغتيالها قالوا ومعنى لاغول أي لا تستطيع أن تضل أحد ويشهد له حديث آخر لاغول ولكن السعالى قال العلماء السعالى بالسين المفتوحة والعين المهملتين وهم سحرة الجن أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس تخيل وفى الحديث الآخر إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذن أي ارفعوا شرها بذكر الله تعالى وهذا دليل على أنه ليس المراد نفى أصل وجودها وفى حديث أبى أيوب كان لى تمر في سهوة وكانت الغول تجئ فتأكل منه قوله صلى الله عليه وسلم (فمن أعدى الأول) معناه أن البعير الأول الذى جرد من أجر به أي وأنتم تعملون تعترفون أن الله تعالى هو الذى أوجد ذلك من غير ملاصقة لبعير أجرب فاعملوا أن البعير الثاني والثالث وما بعدهما انما جرب بفعل الله تعالى وإرادته لابعدوى تعدى بطبعها ولو كان الجرب بالعدوى بالطبائع لم يجرب الأول لعدم المعدى ففى الحديث بيان الدليل القاطع لابطال قولهم في العدوى بطبعها قوله صلى الله عليه وسلم (لا يورد ممرض على مصح) قوله يورد بكسر الراء والممرض والمصح بكسر الراء والصاد ومفعول يورد محذوف أي لا يورد ابله المراض قال العلماء الممرض صاحب الابل المراض والمصح صاحب الابل الصحاح فمعنى الحديث لا يورد صاحب الابل المراض ابله على ابل صاحب الابل الصحاح لأنه ربما أصابها المرض بفعل الله تعال وقدره الذى أجرى به العادة لابطبعها فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك باعتقاد العدوى بطبعها فيكفر والله أعلم قوله (كان أبو هرير يحدثهما كلتيهما) كذا هو في جميع النسخ كلتيهما بالتاء والياء مجموعتين والضمير عائد الى الكلمتين أو القصتين أو المألتين ونحو ذلك قوله (قال
[ 218 ]
أبو الزبير هذه الغول التى تغول) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا قال أبو الزبير وكذا نقله القاضى عن الجمهور قال وفى رواية الطبري أحد رواة صحيح مسلم قال أبو هريرة قال والصواب الأول قوله (انه قال في تفيسر الصفر هي دواب البطن) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا دواب بدال مهملة وباء موحدة مشددة وكذا نقله القاضي عن رواية الجمهور قال وفي رواية العذري ذوات بالذال المعجمة والتاء المثناة فوق وله وجه ولكن الصحيح المعروف هو الأول قال القاضى واختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم لا عدوى فقيل هو نهى عن أن يقال ذلك أو يعتقد وقيل هو خبر أي لا تقع عدوى بطبعها باب الطيره والفأل وما يكون فيه الشؤم قوله صلى الله عليه وسلم (لاطيرتة وخيرها الفأل) وقيل يارسول الله وما الفأل قال الكلمة الحسنة الصالحة يسمعها أحدكم وفى رواية لاطيرة ويعجبنى الفأل الكلمة الحسنة الكلمة الطيبة وفى رواية وأحب الفأل الصالح أما الطيرة فبكسر الطاء وفتح الياء على وزن العنبة هذا هو الصحيح المعروف في رواية الحديث وكتب اللغة والغريب وحكى القاضى وابن الأثير أن منهم من سكنالياء والمشهور الأول قالوا وهى مصدر تطير طيرة قالوا ولم يجئ في المصادر على هذا الوزن إلا تطير طيرة وبخير خيره بالخاء المعجمة وجاء في الأسماء حرفان وهما شئ طيبة أي طيب والتولة بكسر التاء المثناة رضمها وهو نوع من السحر وقيل يشبه السحر وقال الأصمعى هو ما تتحبب به المرأة الى زوجها والتطير التشاءم وأصله الشئ المكروه من قول أو فعل أو مرئى وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح فينفرون الظباء والطيور فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم وان
[ 219 ]
أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا بها فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم فنفى الشرع ذلك وأبطله ونهي عنه وأخبر أنه ليس له تأثير بنفع ولا ضر فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم لاطيرة وفى حديث اخر الطيرة شرك أي اعتقاد أنها تنفع أو تضر إذ عملوا بمقتضاها معتقدين تأثيرها فهو شركلأنهم جعلوا لها أثر في الفعل والايجاد وأما الفأل فمهموز ويجوز ترك همزه وجمعه فؤول كفلس وفلوس وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلمة الصالحة والحسنة والطيبة قال العلماء يكون الفأل فيما يسروفيما يسوء والغالب في السرور والطيرة ولايكون إلا فيما يسوء قالوا وقد يستعمل مجازا في السرور يقال تفاءلت بكذا بالتخفيف وتفألت بالشديد وهو الأصل والأول مخفف منه ومقلوب عنه قال العلماء وانما أحب الفأل لان الانسان إذا مل فائدة اللل ه تعالى وفضله عند سبب قوى أو ضعيف فهو
[ 220 ]
على خير في الحال وان غلط في جهة الرجاء فالرجاء له خير وأما إذا قطع رجاءه وأمله من الله تعالى فان ذلك شر له والطيرة فيها سوء الظن وتوقع البلاء ومن أمثال التفاؤل أن يكون له مريض فيتفاءل بما يسمعه فيسمع من يقول يا سالم أو يكون طالب حاجة فيسمع من يقول يا واجد فيقع في قلبه رجاء البرء أو الوجدان والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (الشؤم في الدار والمرأة والفرس) وفى رواية انما الشؤم في ثلاثة المرأة والفرس والدار وفى رواية ان كان الشؤم في شئ ففى الفرس والمسكن والمرأة وفى رواية ان كان في شئ ففى الربع والخادم والفرس واختلف العلماء في هذا الحديث فقال مالك وطائفة هو على ظاهره وأن الدار قد يجعل الله تعالى
[ 221 ]
سكناها سببا للضرر أو الهلاك وكذا اتخاذ المرأة المعينة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى ومعناه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاثة كما صرح به في رواية إن يكن الشؤم في شئ وقال الخطابى وكثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة أي الطيرة منهى عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة وقال آخرون شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم وشؤم المرأة عدم ولادتها
[ 222 ]
وسلاطة لسانها وتعرضها للريب وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها وقيل حرانها وغلاء ثمنها وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه وقيل المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة واعترض بعض الملاحدة بحديث لاطيرة على هذا فأجاب ابن قتيبة وغيره بان هذا مخصوص من حديث لاطيرة إلا في هذه الثلاثة قال القاضى قال بعض العلماء الجامع لهذه الفصول السابقة في الأحاديث ثلاثة أقسام أحدها ما لم يقع الضرر به ولا اطردت عادة خاصة ولا عامة فهذا لا يلتفت إليه وأنكر الشرع الالتفات إليه وهو الطيرة والثانى ما يقع عند الضرر عموما الايخصه وزاد لامتكرا كالو باء فلا يقدم عليه ولا يخرج منه والثالث ما يخص ولا يعم كالدار والفرس والمرأة فهذا يباح الفرار منه والله أعلم
[ 223 ]
باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان قوله صلى الله عليه وسلم (فلا تأتوا الكهان) وفى رواية سئل عنالكهان فقال ليسوا بشئ قال القاضى رحمه الله كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب أحدها يكون للانسان ولى من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم الثاني أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفى عنه مما قرب أو بعدوهذا لا يبعد وجوده ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما ولا استحالة في ذلك ولابعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون والنهى عن تصديقهم والسماع منهم عام الثالث المنجمون وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف وهو الذى يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعى معرفتها بها وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة وقد أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم واتيانهم والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ليسوا بشئ) فمعناه بطلان قولهم وأنه لاحقيقة له وفيه جواز اطلاق هذا اللفظ على ماكان باطلا قوله (كما نتطير قال ذلك شئ يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم) معناه أن كراهة ذلك تقع في نفوسكم في العادة ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل هذا وقد صح
[ 224 ]
عن عروة بن عامر الصحابي رضى الله عنه قال ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحسنها الفأل وليرد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولاحول ولاقوة إلا بك رواه أو داود باسناد صحيح قوله صلى الله عليه وسلم (كان نبى من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذلك) هذا الحديث سبق شرحه في كتاب الصلاة قوله صلى الله عليه وسلم (تلك الكلمة الحق يخطفها الجنى فيقذفها في أذن وليه ويزيد فيها مائة كذبة) أما يخطفها فبفتح الطاء على المشهور به جاء القرآن وفى لغة قليلة كسرها ومعناه استرقه واخذه بسرعة وأما الكذب فبفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما قال القاضى وأنكر بعضهم الكسر
[ 225 ]
إذا زاد الحالة الهيئة وليس هذا موضعها ومعنى يليها قوله صلى الله عليه وسلم (تلك الكلمة من الجن يخطفها فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة) هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا الكلمة من الجن بالجيم والنون أي الكلمة المسوعة من الجن أو التي يصح مما نقلته الجن بالجيم والنون وذكر القاضى في الشمارق أنه روى هكذا وروى أيضا من الحق بالحاء والقاف وأما قوله فيقرها فهو بفتح الياء وضم القاف وتشديد الراء وقر الدجاجة بفاح القاف والدجاجة بالدال الدجاجة
[ 226 ]
المعروفة قال أهل اللغة والغريب القر ترديد الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه يقول قررته فيه أقره قرا وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته يقال قرت تقر قرا وقريرا فان رددته قلت قرقرت قرقرة قال الخطابى وغيره معناه أن الجنى يقذف الكلمة الى وليه الكاهن فتسمعها الشياطين كما تؤذن الدجاجة بصوتها صواحبها فتتجاوب قال وفيه وجه آخر وهى أن تكون الرواية كقر الزجاجة بدل عليه رواية البخاري فيقرها في أذنه كما تقر القارورة قال فذكر القارورة في هذه الرواية يدل على ثبوب الرواية بالزجاجة قال القاضى أما مسلم فلم تختلف الرواية فيه أنه الدجاجة بالدال لكن رواية القارورة تصحح الزجاجة قال القاضى معناه يكون لما يلقيه الى وليه حس كحس القارورة عند تحريكها مع اليدأو على صفا قوله صلى الله عليه وسلم في رواية صالح عن ابن شهاب (ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون) هذه اللفظة ضبطوها من رواية صالح
[ 227 ]
على وجهين أحدهما بالراء والثانى بالذال ووقع في رواية الأوزاعي وابن معقل الراء باتفاق النسخ ومعناه يخلطون فيه الكذب وهو بمعنى يقذفون وفى رواية يونس يرقون قال القاضى ضبطناه عن شيوخنا بضم الياء وفتح الراء وتشديد القاف قال ورواه بعضهم بفتح الياء واسكان الراء قال في المشارق قال بعضهم صوابه بفتح الياء واسكان الراء وفتح القاف قال وكذا ذكره الخطابى قال ومعناه معنى يزيدون يقال رقى فلان الى الباطلة بكسر القاف أي رفعه وأصله من الصعود أي يدعون فيها فوق ما سمعوا قال القاضى وقد يصح الرواية الأولى على تضعيف هذا الفعل وتكثيره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (من أتى عرافا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) أما العراف فقد سبق بيانه وأنه من جملة أنواع الكهان قال الخطابى وغيره العراف هو الذى يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لاثواب له فيها وان كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ولايحتاج معها الى اعادة ونظير هذه الصلاة في الأرض المغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لاثواب فيها كذا قاله جمهور أصحابنا قالوا فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان سقوط الفرض عنه وحصول الثواب فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث فان العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلوات أربعين ليلة فوجب تأويله والله أعلم
[ 228 ]
باب اجتناب المجذوم ونحوه قوله (كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجع) هذا موافق للحديث الآخر في صحيح البخاري وفر من المجذوم فرارك من الأسد وقد سبق شرح هذا الحديث في باب لا عدوى وأنه غير مخالف لحديث لا يورد ممرض علي مصح قال القاضي قد اختلف الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجذوم فثبت عنه الحديثان المذكوران وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم وقال له كل ثقة بالله وتوكلا عليه وعن عائشة قالت مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحى وينام على فراشي قال وقد ذهب عمر رضي الله عنه وغيره من السلف الي الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ والصحيح الذي قاله الأكثرون ويتعين المصير إليه أنه لانسخ بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والحتياط لا للوجوب وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز والله أعلم قال القاضي قال بعض العلماء في هذا الحديث وما في معناه دليل على أنه يثبت للمرأة الخيار في فسح النكاح إذا وجدت زوجها مجذوما أو حدث به جذام واختلف أصحابنا وأصحاب مالك في أن أمته هل لها منع نفسها من استمتاعه إذا أرادها قال القاضى قالوا ويمنع من المسجد والاختلاط بالناس قال وكذلك اختلفوا في أنهم إذا كثروا هل يؤمرون أيتخذوا لأنفسهم موضعا منفردا خارجا عن الناس ولا يمنععوا من التصرف في منافعهم وعليه أكثر الناس أم لا يلزمهم التنحي قال ولم يختلفوا في القليل منهم في أنهم لا يمنعون قال ولا يمنعون من صلاة الجمعة مع الناس ويمنعون من غيرها قال ولو استضر أهل قرية فيهم جذمي بمخالطتهم في الماء فان قدروا على استنباط ماء بلا ضرر أمروا به والا استنبطه لهم الآخرون أو اقاموا من يستقى لهم والا فلا يمنعون والله أعلم
[ 229 ]
كتاب قتل الحيات وغيرها قوله صلى الله عليه وسلم (اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فانهما يستسقطان الحبل ويلتمسان البصر) وفى رواية أن ابن عمر ذكر هذا الحديث ثم قال فكنت لاأترك حية أراها إلا قتلتها فبينا أنا أطارد حية يوما من ذوات البيوت مربى زيد بن الخطاب أو أبو لبابة وأنا أطاردها فقال مهلا يا عبد الله فقلت ان رسول الله أمر بقتلهن قال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدنهى عن ذوات البيوت وفى رواية نهى عن قتل الجنان التى في البيوت رفى رواية أن فتى من الأنصار قتل حية في ببته فمات في الحال فقال النبي صلي الله عليه وسلم إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوا ثلاثه أيام فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فانما هو شيطان وفي رواية ان لهذا البيوت عوامر فإذ رأيتم شيئا منها فخرجوا عليها ثلاثا فان ذهب والا فاقتلوه فانه كافر وفى الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بقتل الحية التي خرجت عليهم وهم
[ 230 ]
بغار مني قال المازري لا تقتل حيات مدينة النبي صلي الله عليه وسلم إلا بانذارها كما جاء في هذه الأحاديث فإذا أنذرها ولم تنصرف قتلها وأما حيات غير المدينة في جميع الأرض والبيوت والدور فيندب قتلها من غير إنذار لعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بقتلها ففى هذه الأحاديث اقتلوا الحيات وفي الحديث الآخر خمس يقتلن في الحل والحرام منها الحية ولم يذكر إنذاراو في الحديث الحية الخارجة بمنى أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها ولم يذكر إنذروها قالوا فأخذ بهذه الأحاديث في استحباب قتل الحيات مطلقا وحصت المدينة بالإنذار للحديث الوارد فيها وسببه صرح به في الحديث أنه أسلم طائفة من الجن بها وذهبت طائفة من العلماء الى عموم النهى في حيات البيوت بكل بلد حتى تنذر وأما ليس في البيوت فيقتل من غير انذار قال مالك يقتل ما وجد منها في المساجد قال القاضي وقال بعض العلماء الأمر بقتل الحيات مطلقا مخصوص بالنهي عن جنان البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين فانه يقتل على كل حال سواء كانا في البيوت أم غيرها وإلا ما ظهر منها بعد الانذار قال ويخص من النهى عن قتل جنان البيوت الأبتر وذو الطفيتين والله أعلم وأما صفة الانذار فقال القاضى روى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول أنشدكن بالعهد الذى أخذ عليكم سليمان بن داود أن لا تؤذنا ولا تظهرن لنا وقال مالك يكفى أن يقول أخرج عليك بالله واليوم الآخر أن لا تبدو لنا ولا تؤذينا وامل مالكا أخذ لفظ التحريج مما وقع في صحيح مسلم فخرجوا عليها ثلاثا والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ذا الطفيتين) هو بضم الطاء المهملة واسكان الفاء قال العلماء هما الخطان الأبيضان على ظهر الحية وأضل الطفية خوصة المقل وجمعها طفى شبه الخطين علي ظهرها بخوصتى امقل وأما الأبترفهو قصير الذنب وقال نضر بن شميل هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا ألقت مافى بطنها قوله صلى الله عليه وسلم (يستسقطان الحبل) معناه أن المرأة الحامل إذا نظرت اليهما وخافت أسقطت الحمل غالبا وقد ذكر مسلم في روايته عن الزهري أنه قال يرى ذلك من سمهما وأما يلتمسان البصر ففيه تأويلان ذكرهما الخطابى وآخرون أحدهما معناه يخطفان البصر ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه لخاصة جعلها الله تعالى في بصريهما إذا وقع على بصر الانسان ويؤيده هذا الرواية الأخرى في مسلم يخطفان البصر والرواية الأخرى يلتمعان البصر والثانى أنهما يقصدان البصر بالسع والنهش والأول أصح وأشهر قال العلماء وفى الحيات نوع يسمى الناضر إذا وقع نظره على عين انسان
[ 231 ]
مات من ساعته والله أعلم قوله (يطارده حية) أي يطلبها ويتتبعها ليقتلها قوله (نهى عن قتل
[ 232 ]
الجنان) هو بجيم مكسورة ونون مفتوحة وهى الحيات جمع جان وهى الحية الصغيرة وقيل الدقيقة الخفيفة وقيل الدقيقة البيضاء قوله (يفتح خوخة) هي بفتح الخاء واسكان الواو وهى كوة بين دارين أو بيتين
[ 233 ]
يدخل منها وقد تكون في حائط منفرد قوله صلى الله عليه وسلم (ويتتبعان مافى بطون النساء) أي يسقطانه كما سبق في الروايات الباقية على ما سبق شرحه وأطبق عليه الببتع مجازا ولعل فيهما طلبا لذلك جعهله الله تعالى خصيصة فيهما قوله (عند الأطم) هو بضم الهمزة وهو القصر وجمعه آطام
[ 234 ]
كعنق وأعناق قوله (أمر محرما بقتل حية بمنى) فيه جواز قتلها للمحرم وفى الحرم وأنه لا ينذرها في غير البيوت وأن قتلها مستحب قوله (فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع الى أهله) قال العلماء هذا الاستئذان امتثال لقوله تعالى كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه النهار بفتح الهمزة أي منتصفه وكأنه وقت لآخر النصف الأول وأول النصف الثاني فجمعه كما قالوا ظهور الترسين وأما رجوعه الى أهله فلطالع حالهم ويقضى حاجتهم ويؤنس امرأته فانها كانت عروسا كما ذكر في الحديث قوله
[ 235 ]
صلى الله عليه وسلم (فأذنوا ثلاثة أيام فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فانما هو شيطان) قال العلماء
[ 236 ]
معناه وإذا لم يذهب بالإنذار علمتم أنه ليس من عوامر البيوت ولاممن أسلم من الجن بل هو شيطان فلا حرمة عليكم فاقتلوه ولن يجعل الله له سبيلا للانتصار عليكم بثأره بخلاف العوامر ومن أسلم والله أعلم باب استحباب قتل الوزغ قولها (ان النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ) وفى رواية امر بقتل الوزغ وسماه فويسقا وفى رواية من قتل وزغه في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة ومن قتلها في الضربة الثانبة فله كذا وكذا حسنة لدون لاولى وان قتلها في الضربة الثالثة فيه كذا وكذا حسنة لدون الثانية وفى رواية من قتل وزغا في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفى الثانية دون ذلك وفى الثالثة دون ذلك وفى رواية في أول ضربة سبعين حسنة قال أهل اللغة الوزغ وسام أبرص جنس فسام أبرص هو كباره واتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذات وجمعه أوزاغ ووزغان وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وحث عليه ورغب فيه لكونه من المؤذيات وأما سبب تكثير الثواب في قتله بأول ضربة ثم ما يليها فالمقصود به الحث على المبادرة بقتله والاعنتاء به وتحريس
[ 237 ]
قاتله على أن يقتله بأول ضربة فانه إذا أراد أن يضربه ضربات ربما انفلت وفات قتله وأما تسميته فريسقا فنظيره الفواسق الخمس التى تقتل في الحل والحرم وأصل الفسق الخروج وهذه المذكورات خرجت عن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر والأذى وأما تقييد الحسنات في الضربة الاولى بمائة وفى رواية بسبعين فجوابه من أوجه سبقت في صلاة الجماعة تزيد بخمس وعشرين درجة وفى روايات بسبع وعشرين أحدها أن هذا مفهوم للعدد ولا يعمل به عند الأصوليين غيرهم فذكر سبعين لايمنع المائة فلا معارضة بينهما الثاني لعله أخبرنا بسبعين ثم تصدق الله تعالى بالزيادة فأعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم حين أوحى إليه بعد ذلك
[ 238 ]
والثالث أنه يختلف باختلاف قاتلي الوزغ بحسب نياتهم واخلاصهم ويقال أحوالهم ونقصها فتكون المائة للكامل منهم والسبعين لغيره والله أعلم قوله (حدثنا محمد بن الصباح حدثنا اسماعيل يعنى ابن زكريا عن سهيل قال حدثنى أختى عن أبى هريرة) كذا وقع في أكثر النسخ أختى وفى بعضها أخى بالتذكير وفى بعضها أبى وذكر القاضى الأوجه الثلاثة قالوا ورواية أبى خطأ وهى الواقعة في رواية أبى العلاء ابن ماهان ووقع في رواية أبى داود أخى أو أختي قال القاضى أخت سهيل سودة وأخواه هشام وعباد باب النهى عن قتل النمل قوله صلى الله عليه وسلم (ان نملة قرصت نبيا من الأنبياء فامر بقرية النمل فأحرقت
[ 239 ]
فأوحى الله إليه في أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تستبح وفى رواية فهلا نملة واحدة قال العلماء وهذا الحديث محمول على أن شرع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه جواز قتل النمل وجواز الإحراق بالنار ولم يعتب عليه في أصل القتل والاحراق بل في الزيادة على نملة واحدة قوله تعالى فهلانملة واحدة فهلا عاقبت نملة واحدة هي التى قرصتك لأنها الجانية وأما غيرها فليس لها جناية وأما في شرعنا فلا يجوز الاحراق بالنار للحيون الا إذا أحرق إنسانا فمات بالاحراق فلوليه الاقتصاص باحراق الجاني وسواء في منع الاحراق بالنار القمل وغيره للحديث المشهور لا يعذب بالنار إلا الله وأما قتل النمل فمذهبنا أنه لا يجوز واحتج أصحابنا فيه بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد رواه أبو دادود باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم وقوله صلى الله عليه وسلم (فأمر بقرية النمل فأحرقت) وفى رواية فأمر بجهازه فأخرج من تحت الشجرة أما قربة النمل فهى منزلهن والجهاز بفتح الجيم وكسرها وهو المتاع
[ 240 ]
باب تحريم قتل الهرة قوله صلى الله عليه وسلم (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) في رواية ربطتها وفى رواية تأكل من حشرات الأرض معناه عذبت بسبب هرة ومعنى دخلت فيها أي بسببها وخشاش الأرض بفتح الخاء المعجمة وكسرها وضمها حكاهن في المشارق احتج أشهر وروى بالحاء المهملة والصواب المعجمة وهى هوام الأرض وحشرراتها كما وقع في الرواية الثانية وقيل المراد به نبات الأرض وهو ضعيف أو غلط وفى الحديث دليل لتحريم قتل الهرة وتحريم حبسها بغير طعام أو شراب وأما دخولها النار بسببها فظاهر الحديث أنها كانت مسلمة وانما دخلت النار بسبب الهرة وذكر القاضى أنه يجوز أنها كافرة عذبت لكفرها وزيد في عذابها بسبب الهرة واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر هذا كلام القاضى والصواب ما قدمناه أنها كانت مسلمة وأنها دخلت النار بسببها كما هو ظاهر الحديث وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت باصرارها في الحديث أنها تخلد في النار وفيه
[ 241 ]
وجوب نفقة الحيوان على مالكه والله أعلم باب فضل سقى البهائم المحترمة وإطعامها قوله صلى الله عليه وسلم (في كل كبد رطبة أجر) معناه في الاحسان الى كل حيوان حى بسقيه ونحوه أجر وسمى الحى ذا كبد رطبة لأن الميت يجف جسمه وكبده ففى هذا الحديث الحث على الاحسان الى الحيوان المحترم وهو مالا يؤمر بقتله فأما المأمور بقتله فيمتثل أمر الشرع في قتله والمأمور بقتله كالكافر الحربى والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن وأما المحترم فيحصل الثواب بسقيه والاحسان إليه أيضا باطعامه وغيره سواء كان مملوه أو مباحا وسواء كان مملوكا له أو لغيره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش) أما الثرى فالتراب الندى ويقال لهث بفتح والصواب ما قدمناه أنها كانت مسلمة وأنها دخلت النار بسببها كما هو ظاهر الحديث وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت باصرارها في الحديث أنها تخلد في النار وفيه
[ 241 ]
وجوب نفقة الحيوان على مالكه والله أعلم باب فضل سقى البهائم المحترمة وإطعامها قوله صلى الله عليه وسلم (في كل كبد رطبة أجر) معناه في الاحسان الى كل حيوان حى بسقيه ونحوه أجر وسمى الحى ذا كبد رطبة لأن الميت يجف جسمه وكبده ففى هذا الحديث الحث على الاحسان الى الحيوان المحترم وهو مالا يؤمر بقتله فأما المأمور بقتله فيمتثل أمر الشرع في قتله والمأمور بقتله كالكافر الحربى والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن وأما المحترم فيحصل الثواب بسقيه والاحسان إليه أيضا باطعامه وغيره سواء كان مملوه أو مباحا وسواء كان مملوكا له أو لغيره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش) أما الثرى فالتراب الندى ويقال لهث بفتح الهاء وكسرها يلهث بفتحها لاغير لهثا باسكانها والاسم اللهث بفتحها واللهاث بضم اللام
[ 242 ]
ورجل لهثان وامرأة لهثى كعطشان وعطشى وهو الذي أخرج لسانه من شدة العطش والحر قوله (حتى رقى فسقى الكلب) يقال رزقي بكسر القاف على اللغة الفصيحة المشهورة حكى فتحها وهى لغة طى في كل ما أشبه هذا قوله صلى الله عليه وسلم (إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حاريطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فعغرلها) أما البغى فهى الزانية والبغاء بالمد هو الزنا ومعنى يطيف أي حولها بضم الياء ويقال طاف به وأطاف إذا دار حوله وأدلع لسانه ودلعه لغتان أي أخرجه لشدة العطش والموق بضم الميم هو الخف فارسي معرب ومعنى نزعت له بموقها أي استقت يقال نزعت بالدلوا استقيت به من البئر ونحوها نزعت الدلو أيضا قوله (فشكر الله له فغفر له) معناه قبل عمله وأثابه وغفر له والله أعلم