شرح مسلم
النووي ج 12
[ 1 ]
صحيح مسلم بشرح النووي الجزء الثاني عشر
[ 2 ]
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الأقضية باب اليمين على المدعى عليه قال الزهري رحمه الله تعالى القضاء في الأصل أحكام الشئ والفراغ منه ويكون القضاء امضاء الحكم ومنه قوله تعالى وقضينا إلى بني اسرائيل وسمي الحاكم قاضيا لأنه يمضي الأحكام ويحكمها ويكون قضى بمعنى أوجب فيجوز أن يكون سمي قاضيا لإيجابه الحكم على من يجب عليه وسمي حاكما لمنعه الظالم من الظلم يقال حكمت الرجل وأحكمته إذا منعته وسميت حكمة الدابة لمنعها الدابة من ركوبها رأسها وسميت الحكمة حكمة لمنعها النفس من هواها قوله (صلى الله عليه وسلم) (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) وفي رواية أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى باليمين على المدعي عليه هكذا روى هذا الحديث البخاري ومسلم في صحيحهما مرفوعا من رواية ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وهكذا ذكره أصحاب السنن وغيرهم قال القاضي عياض رضي الله عنه قال الأصيلي لا يصح مرفوعا
[ 3 ]
إنما هو قول ابن عباس كذا رواه أيوب ونافع الجمحي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال القاضي قد رواه البخاري ومسلم من رواية ابن جريج مرفوعا هذا كلام القاضي قلت وقد رواه أبو داود والترمذي بأسانيدهما عن نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرفوعا قال الترمذي حديث حسن صحيح وجاء في رواية البيهقي وغيره باسناد حسن أو صحيح زيادة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر وهذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعى عليه فإن طلب يمين المدعى عليه فلو ذلك وقد بين (صلى الله عليه وسلم) الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه لأنه لو كان أعطى بمجردها لأعطى قوم دماء قوم وأموالهم واستبيح ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه وأما المدعى فيمكنه صيانتهما بالبينة وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي والجمهور من سلف الأمة وخلفها أن اليمين تتوجه على كل من ادعى عليه حق سواء كان بينه وبين المدعى اختلاطا أم لا وقال مالك وجمهور أصحابه والفقهاء السبعة فقهاء المدينة أن اليمين لا تتوجه إلا على من بينه وبينه خلطة لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم مرارا في اليوم الواحد فاشترطت الخلطة دفعا لهذه المفسدة واختلفوا في تفسير الخلطة فقيل هي معرفته بمعاملته ومدينته أبشاهد أو بشاهدين وقيل تكفي الشبهة وقيل هي أن تليق به الدعوى بمثلها على مثله وقيل أن يليق به أن يعامله بمثلها ودليل الجمهور حديث الباب ولا أصل لاشتراط الخلطة في كتاب ولاسنة ولا اجماع
[ 4 ]
باب وجوب الحكم بشاهد ويمين قوله (عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قضى بيمين وشاهد) فيه جواز القضاء بشاهد ويمين واختلف العلماء في ذلك فقال أبو حنيفة رضي الله عنه والكوفيون والشعبي والحكم والأوزاعي والليث والأندلسيون من أصحاب مالك لا يحكم بشاهد ويمين في شئ من الأحكام وقال جمهور علماء الإسلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار يقضي بشاهد ويمين المدعى في الأموال وما يقصد به الأموال وبه قال أبو بكر الصديق وعلي وعمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأحمد وفقهاء المدينة وسائر علماء الحجاز ومعظم علماء الأمصار رضي الله عنهم وحجتهم أنه جاءت أحاديث كثيرة في هذه المسألة من رواية علي وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر وأبي هريرة ! بحزم وسعد ابن عبادة وعبد الله بن عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال الحفاظ أصح أحاديث الباب حديث ابن عباس قال ابن عبد البر لا مطعن لأحد في اسناده قال ولا خلاف بين أهل المعرفة في صحته قال وحديث أبي هريرة وجابر وغيرهما حسان والله أعلم بالصواب باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن قوله (صلى الله عليه وسلم) (انكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فاقضي له على نحو مما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار) وفي الرواية الأخرى إنما أنا بشر وانه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون
[ 5 ]
أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضى له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها أما ألحن فهو بالحاء المهملة ومعناه أبلغ وأعلم بالحجة كما صرح به في الرواية الثانية وقوله (صلى الله عليه وسلم) (إنما أنا بشر) معناه التنبيه على حالة البشرية وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئا إلا أن يطلعهم الله تعالى على شئ من ذلك وأنه يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر والله يتولى السرائر فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك ولكنه إنما كلف الحكم بالظاهر وهذا نحو قوله (صلى الله عليه وسلم) أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وفي حديث المتلاعنين لولا الإيمان لكان لي ولها شأن ولو شاء الله تعالى لأطلعه (صلى الله عليه وسلم) على باطن أمر الخصمين فحكم بيقين نفسه من غير حاجة إلى شهادة أو يمين لكن لما أمر الله تعالى أمته باتباعه والاقتداء بأقواله وأفعاله وأحكامه أجرى له حكمهم في عند م الإطلاع على باطن الأمور ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه فأجرئ الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوى فيه هو وغيره ليصح الإقتداء به وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن والله أعلم فإن قيل هذا الحديث ظاهره أنه قد يقع منه (صلى الله عليه وسلم) في الظاهر مخالف للباطن وقد اتفق الأصوليون على أنه (صلى الله عليه وسلم) لا يقر على خطأ في الأحكام فالجواب أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة الأصوليين لأن مراد الأصوليين فيما
[ 6 ]
حكم فيه باجتهاده فهل يجوز أن يقع فيه خطأ فيه خلاف الأكثرون على جوازه ومنهم من منعه فالذين جوزوه قالوا لا يقر على امضائه بل يعلمه الله تعالى به ويتداركه وأما الذي في الحديث فمعناه إذا حكم بغير اجتهاد كالبينة واليمين فهذا إذا وقع منه ما يخالف ظاهره باطنه لا يسمى الحكم خطأ بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلا فإن كانا شاهدي زور أو نحو ذلك فالتقصير منهما وممن ساعدهما وأما الحكم فلا حيلة له في ذلك ولا عيب عليه بسببه بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع والله أعلم وفي هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير علماء الإسلام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين فمن بعدهم أن حكم الحاكم لا يحيل الباطن ولا يحل حراما فإذا شهد شاهدا زور لإنسان بمال فحكم به الحاكم لم يحل للمحكوم له ذلك المال ولو شهدا عليه بقتل لم يحل للولى قتله مع علمه بكذبهما وإن شهدا بالزور أنه طلق امرأته لم يحل لمن علم بكذبهما أن يتزوجها بعد حكم القاضي بالطلاق وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يحل حكم الحاكم الفروج دون الأموال فقال يحل نكاح المذكورة وهذا مخالف لهذا الحديث الصحيح ولا جماع من قبله ومخالف لقاعدة وافق هو وغيره عليها وهي أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (فإنما أقطع له به قطعة من النار معناه إن قضيت له بظاهر يخالف الباطن فهو حرام يؤول به إلى النار قوله (صلى الله عليه وسلم) (فليحملها أو يذرها) ليس معناه التخيير بل هو التهديد والوعيد كقوله تعالى شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وكقوله سبحانه اعملوا ما شئتم قوله (سمع لجبة خصم بباب أم سلمة) هي بفتح اللام والجيم وبالباء الموحدة وفي الرواية التي قبل هذه جلبة خصم بتقديم الجيم وهما صحيحان والجلبة والجبة اختلاط الأصوات والخصم هنا الجماعة وهو من الألفاظ التي تقع على الواحد والجمع والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (فمن قضبت له بحق مسلم) هذا التقييد بالمسلم خرج على الغالب وليس المراد به الاحتراز
[ 7 ]
من الكافر فإن مال الذمي والمعاهد والمرتد في هذا كمال المسلم والله أعلم باب قضية هند قوله (يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل علي في ذلك من جناح فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك) في هذا الحديث فوائد منها 1 وجوب نفقة الزوجة 2 وجوب نفقة الأولاد الفقراء الصغار 3 أن النفقة مقدرة بالكفاية لا بالأمداد ومذهب أصحابنا أن نفقة القريب مقدرة بالكفاية كما هو ظاهر هذا الحديث ونفقة الزوجة مقدرة بالأمداد على الموسر كل يوم مدان وعلى المعسر مد وعلى المتوسط مد ونصف وهذا الحديث يرد على أصحابنا 4 جواز سماع كلام الأجنبية عند الافتاء والحكم وكذا ما في معناه 5 جواز ذكر الإنسان بما يكرهه إذا كان للاستفتاء والشكوى ونحوهما 6 أن من له على غيره حق وهو عاجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه وهذا مذهبنا ومنع ذلك
[ 8 ]
أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما 7 جواز إطلاق الفتوى ويكون المراد تعليقها بثبوت ما يقوله المستفتي ولا يحتاج المفتي أن يقول إن ثبت كان الحكم كذا وكذا بل يجوز له الاطلاق كما أطلق النبي (صلى الله عليه وسلم) فإن قال ذلك فلا بأس 8 أن للمرأة مدخلا في كفالة أولادها والأنفاق عليهم من مال أبيهم قال أصحابنا إذا امتنع الأب من الانفاق على الولد الصغير أو كان غائبا أذن القاضي لأمه في الأخذ من آل الأب أو الاستقراض عليه والانفاق على الصغير بشرط أهليتها وهل لها الاستقلال بالأخذ من ماله بغير اذن القاضي فيه وجهان مبنيان على وجهين لأصحابنا في أن إذن النبي (صلى الله عليه وسلم) لهند امرأة أبي سفيان كان إفتاء أم قضاء والأصح أنه كان إفتاء وأن هذا يجري في كل امرأة أشبهتها فيجوز والثاني كان قضاء فلا يجوز لغيرها إلا بإذن القاضي والله أعلم 9 اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي 10 جواز خروج المزوجة من بيتها لحاجتها إذا أذن لها زوجها في ذلك أو علمت رضاه به واستدل به جماعات من اصحابنا وغيرهم على جواز القضاء على الغائب وفي المسألة خلاف للعلماء قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين لا يقضي عليه بشئ وقال الشافعي والجمهور يقضي عليه في حقوق الآدميين ولا يقضي في حدود الله تعالى ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث للمسألة لأن هذه القضية كانت بمكة وكان أبو سفيان حاضرا بها وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد أو مستترا لا يقدر عليه أو متعذرا ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجودا فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء كما سبق والله أعلم قوله (جاءت هند إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال يا رسول الله
[ 9 ]
والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يذلهم الله من أهل خبائك وما على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي من أن يعزهم الله من أهل خبائك فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) وأيضا والذي نفسي بيده) وفي الرواية الأخرى ولا أصبح اليوم على ظهر الأرض خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك قال القاضي عياض رضي الله عنه أرادت بقولها أهل خباء نفسه (صلى الله عليه وسلم) فكنت عنه بأهل الخباء إجلالا له قال ويحتمل أن تريد بأهل الخباء أهل بيته والخباء يعبر به عن مسكن الرجل وداره وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) وأيضا والذي نفسي بيده فمعناه وستزيدين من ذلك ويتمكن الإيمان من قلبك ويزيد حبك لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) ويقوي رجوعك عن بغضه وأصل هذه اللفظة آض يئيض أيضا إذا رجع قولها في الرواية الأخيرة (إن أبا سفيان رجل مسيك) أي شحيح وبخيل واختلفوا في ضبطه على وجهين حكاهما
[ 10 ]
القاضي أحدهما مسيك بفتح الميم وتخفيف السين والثاني بكسر الميم وتشديد السين وهذا الثاني هو الأشهر في روايات المحدثين والأول أصح عند أهل العربية وهما جميعا للمبالغة والله أعلم قولها (فهل علي حرج من أن أطعم من الذي له عيالنا قال لها لا إلا بالمعروف) هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح ومعناه لا حرج ثم ابتدأ فقال إلا بالمعروف أي لا تنفقي إلا بالمعروف أولا حرج إذ لم تنفقي إلا بالمعروف باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات (وهو الامتناع من أداء حق لزمه أو طلب مالا يستحقه) قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال واضاعة المال) وفي الرواية الأخرى أن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعاوهات وكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال واضاعة المال قال العلماء الرضى والسخط والكراهة من الله تعالى المراد بها أمره ونهيه وثوابه وعقابه أو ارادته الثوات لبعض العباد
[ 11 ]
والعقاب لبعضهم وأما الاعتصام بحبل الله فهو التمسك بعهده وهو اتباع كتابه العزيز وحدوده والتأدب بأدبه والحبل يطلق على العهد وعلى الأمان وعلى الوصلة وعلى السبب وأصله من استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم ويوصلون بها المتفرق فاستعير إسم الحبل لهذه الأمور وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) ولا تفرقوا فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين وتألف بعضهم ببعض وهذه احدى قواعد الإسلام واعلم أن الثلاثة المرضية احداها أن يعبدوه الثانية أن لا يشركوا به شيئا الثالثة أن يعتصموا بحبل الله ولا يتفرقوا وأما قيل وقال فهو الخوض في أخبار الناس وحكايات مالا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم واختلفوا في حقيقة هذين اللفظين على قولين أحدهما أنهما فعلان فقيل مبنى لما لم يسم فاعله وقال فعل ماض والثاني أنهما اسمان مجروران منونان لأن القيل والقال والقول والقالة كله بمعنى ومنه قوله ومن أصدق من الله قيلا ومنه قولهم كثر القيل والقال وأما كثرة السؤال فقيل المراد به القطع في المسائل والاكثار من السؤال عما لم يقع ولا تدعو إليه حاجة وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك وكان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف المنهي عنه وفي الصحيح كره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسائل وعابها وقيل المراد به سؤال الناس أموالهم وما في أيديهم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن ذلك وقيل يحتمل أن المراد كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان ومالا يعني الإنسان وهذا ضعيف لأنه قد عرف هذا من النهي عن قيل وقال وقيل يحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه ويتضمن ذلك حصول الحرج في حق المسؤل فإنه قد لا يؤثر اخباره بأحواله فإن أخبره شق عليه وإن كذبه في الأخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقة وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب وأما اضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية وتعريضه للتلف وسبب النهي أنه افساد والله لا يجب المفسدين ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس وأما عقوق الأمهات فحرام وهو من الكبائر باجماع العلماء وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على عده من الكبائر وكذلك عقوق الآباء من الكبائر وإنما
[ 12 ]
اقتصر هنا على الأمهات لأن حرمتهن آكد من حرمة الآباء ولهذا قال (صلى الله عليه وسلم) حين قال له السائل من أبر قال أمك ثم أمك ثلاثا ثم قال في الرابعة ثم أباك ولأن أكثر العقوق يقع للأمهات ويطمع الأولاد فيهن وقد سبق بيان حقيقة العقوق وما يتعلق به في كتاب الإيمان وأما وأد البنات بالهمز فهو دفنهن في حياتهن فيمتن تحت التراب وهو من الكبائر الموبقات لأنه قتل نفس بغير حق ويتضمن أيضا قطيعة الرحم وإنما اقتصر على البنات لأنه المعتاد الذي كانت الجاهلية تفعله وأما قوله ومنعا وهات وفي الرواية الأخرى ولا وهات فهو بكسر التاء من هات ومعنى الحديث أنه نهى أن يمنع الرجل ما توجه عليه من الحقوق أو يطلب مالا يستحقه وفي قوله (صلى الله عليه وسلم) حرم ثلاثا وكره ثلاثا دليل على أن الكراهة في هذه الثلاثة الأخيرة للتنزيه لا للتحريم والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن الله حرم ثلاثا ونهى عن ثلاث حرم عقوق الوالد ووأد البنات ولا وهات ونهى عن ثلاث قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) هذا الحديث دليل لمن يقول أن النهي لا يقتضي التحريم والمشهور أنه يقتضي التحريم وهو الأصح ويجاب عن هذا بأنه خرج بدليل آخر وقوله في اسناد هذا الحديث (عن خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي عن كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة)
[ 13 ]
هذا الحديث فيه أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض وهم خالد وسعيد بن عمرو بن أشوع وهو تابعي سمع يزيد بن سلمة الجعفي الصحابي رضي الله عنه التابعي الثالث الشعبي والرابع كاتب المغيرة وهو وراد قوله (كتب المغيرة إلى معاوية سلام عليك أما بعد) فيه استحباب المكاتبة على هذا الوجه فيبدأ سلام عليك كما كتب النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل السلام على من اتبع الهدى باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ قوله (عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن محمد بن ابراهيم عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص) هذا الإسناد فيه أربعة تابعيون بعضهم عن بعض وهم يزيد فمن بعده قوله (صلى الله عليه وسلم) (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) قال العلماء أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في
[ 14 ]
حاكم عالم أهل للحكم فإن أصاب فله أجر باجتهاده وأجر باصابته وإن أخطأ فله أجر باجتهاده وفي الحديث محذوف تقديره إذا أراد الحاكم فاجتهد قالوا فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا لأن إصابته اتفاقه ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سوا وافق الصواب أم لا وهي مردودة كلها ولا يعذر في شئ من ذلك وقد جاء في الحديث في السنن القضاة ثلاثة قاض في الجنة واثنان في النار قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار وقاض قضى على جهل فهو في النار وقد اختلف العلماء في أن كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد وهو من وافق الحكم الذي عند الله تعالى والآخر مخطئ لا إثم عليه لعذره والأصح عند الشافعي وأصحابه أن المصيب واحد وقد احتجت الطائفتان بهذا الحديث وأما الأولون القائلون كل مجتهد مصيب فقالوا قد جعل للمجتهد أجر فلولا اصابته لم يكن له أجر وأما الآخرون فقالوا سماه مخطئا ولو كان مصيبا لم يسمه مخطئا وأما الأجر فإنه حصل له على تعبه في الاجتهاد قال الأولون إنما سماه مخطئا لأنه محمول على من أخطأ النص أو اجتهد فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد كالمجمع عليه وغيره وهذا الاختلاف إنما هو في الاجتهاد في لفروع فأما أصول التوحيد فالمصيب فيها واحد باجماع من يعتد به ولم يخالف إلا عبد الله بن الحسن العبتري وداود الظاهري فصوبا المجتهدين في ذلك أيضا قال العلماء الظاهر أنهما أراد المجتهدين من المسلمين دون الكفار والله أعلم
[ 15 ]
باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان) فيه النهي عن القضاء في حال الغضب قال العلماء ويلتحق بالغضب كل حال يخرج الحاكم فيها عن سداد النظر واستقامة الحال كالشبع المفرط والجوع المقلق والهم والفرح البالغ ومدافعة الحدث وتعلق القلب بأمر ونحو ذلك وكل هذه الأحوال يكره له القضاء فيها خوفا من الغلط فإن قضى صح قضاؤه لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى في شراج الحرة في مثل هذا الحال وقال في اللقطة مالك ولها إلى آخره وكان في حال الغضب والله أعلم
[ 16 ]
باب نقص الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور قوله (صلى الله عليه وسلم) (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي الرواية الثانية من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد قال أهل العربية الرد هنا بمعنى المردود ومعناه فهو باطل غير معتد بة وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهو من جوامع كلمه (صلى الله عليه وسلم) فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات وفي الرواية الثانية زيادة وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سبق إليها فإذا احتج عليه بالرواية الأولى يقول أنا ما أحدثت شيئا فيحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات سواء أحدثها الفاعل أو سبق باحداثها وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليين أن النهي يقتضي الفساد ومن قال لا يقتضي الفساد يقول هذا خبر واحد ولا يكفي في اثبات هذه القاعدة المهمة وهذا جواب فاسد وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في ابطال المنكرات واشاعة الاستدلال به باب بيان خير الشهود قوله في اسناد حديث الباب (حدثنا يحيى بن يحيى قال قرات على مالك عن عبد الله بن أبي
[ 17 ]
بكر عن ابيه عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن أبي عمرة الأنصاري عن زيد بن خالد الجهني) هذا الحديث فيه أربعة تابعيون بعضهم عن بعض وهم عبد الله وأبوه وعبد الله بن عمرو بن عثمان وابن أبي عمرة وإسم ابن أبي عمرة عبد الرحمن بن عمرو بن محصن الأنصاري قوله (صلى الله عليه وسلم) (ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسئلها) وفي المراد بهذا الحديث تأويلان أصحهما وأشهرهما تأويل مالك وأصحاب الشافعي أنه محمول على من عنده شهادة لإنسان بحق ولا يعلم ذلك الإنسان أنه شاهد فيأتي إليه فيخبره بأنه شاهد له والثاني أنه محمول على شهادة الحسبة وذلك في غير حقوق الآدميين المختصة بهم فمتقبل فيه شهادة الحسبة الطلاق والعتق والوقف والوصايا العامة والحدود ونحو ذلك فمن علم شيئا من هذا النوع وجب عليه رفعه إلى القاضي واعلامه به والشهادة قال الله تعالى وأقيموا الشهادة لله وكذا في النوع الأول يلزم من عنده شهادة لإنسان لا يعلمها أن يعلمه إياها لأنها أمانة له عنده وحكى تأويل ثالث أنه محمول على المجاز والمبالغة في أداء الشهادة بعد طلبها لا قبله كما يقال الجواد يعطي قبل السؤال أي يعطي سريعا حق السؤال من غير توقف قال العلماء وليس في هذا الحديث مناقضة للحديث الآخر في ذم من يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد في قوله (صلى الله عليه وسلم) يشهدون ولا يستشهدون وقد تأول العلماء هذا تأويلات اصحها تأويل أصحابنا أنه محمول على من معه شهادة لآدمي عالم بها فيأتي فيشهد بها قبل أن تطلب منه والثاني أنه محمول على شاهد الزور فيشهد بما لا أصل له ولم يستشهد والثالث أنه محمول على من ينتصب شاهدا وليس هو من أهل الشهادة والرابع أنه محمول على من يشهد لقوم بالجنة أو بالنار من غير توقف وهذا ضعيف والله أعلم
[ 18 ]
باب اختلاف المجتهدين فيه حديث أبي هريرة في قضاء دواد وسليمان (صلى الله عليه وسلم) في الولدين اللذين أخذ الذئب أحدهما فتنازعته أماهما فقضى به داود للكبرى فلما مرتا بسليمان قال أقطعه بينكما نصفين فاعترفت به الصغرى للكبرى بعد أن قالت الكبرى اقطعه فاستدل سليمان بشفقة الصغرى على أنها أمه وأما الكبرى فما كرهت ذلك بل أرادته لتشاركها صاحبتها في المصيبة بفقد ولدها قال العلماء يحتمل أن داود (صلى الله عليه وسلم) قضى به للكبرى لشبه رآه فيها أو أنه كان في شريعته الترجيح بالكبير أو لكونه كان في يدها وكان ذلك مرجحا في شرعه وأما سليمان فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية فأوهمهما أنه يريد قطعة ليعرف من يشق عليها قطعة فتكون هي أمه فلما أرادت الكبرى قطعة عرف أنها ليست أمه فلما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه ولم يكن مراده أنه يقطعه حقيقة وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم فلما تميزت بما ذكرت عرفها ولعله استقر الكبرى فأقرت بعد ذلك به للصغرى فحكم للصغرى بالإقرار لا بمجرد الشفقة المذكورة قال العلماء ومثل هذا يفعله الحكام ليتوصلوا به إلى حقيقة الصواب بحيث إذا انفرد ذلك لم يتعلق به حكم فإن قيل كيف حكم سليمان بعد حكم داود في القصة الواحدة ونقض حكمه والمجتهد لا ينقض حكم المجتهد فالجواب من أوجه مذكورة أحدها أن داود لم يكن جزم بالحكم والثاني أن يكون ذلك فتوى من داود لا حكما والثالث لعله كان في شرعهم فسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافة والرابع أن سليمان فعل ذلك حيلة إلى اظهار الحق وظهور الصدق فلما أقرت به الكبرى عمل باقراراها وإن كان بعد الحكم كما إذا اعترف المحكوم له بعد الحكم أن الحق هنا لخصمه قوله (فقالت الصغرى لا يرحمك الله هو ابنها) معناه لا تشقه وتم
[ 19 ]
الكلام ثم استأنفت فقالت يرحمك الله هو ابنها قال العلماء ويستحب أن يقال في مثل هذا بالواو فيقال لا ويرحمك الله قوله (السكين والمدية) أما المدية بضم الميم وكسرها وفتحها سميت به لأنها تقطع مدى حياة الحيوان والسكين تذكر وتؤنث لغتان ويقال أيضا سكينة لأنها تسكن حركة الحيوان باب استحباب اصلاح الحاكم بين الخصمين ذكر في الباب حديث الرجل الذي باع العقار فوجد المشتري فيه جرة ذهب فتناكراه فأصلح بينهما رجل على ان يزوج أحدهما بنته ابن الآخر وينفقا ويتصدقا منه فيه فضل الاصلاح بين المتنازعين وإن القاضي يستحب له الاصلاح بين المتنازعين كما يستحب لغيره وقوله (صلى الله عليه وسلم) (اشترى رجل عقارا) هو الأرض وما يتصل بها وحقيقة العقار الأصل سمى بذلك من العقر بضم العين وفتحها وهو الأصل ومنه عقر الدار بالضم والفتح قوله (صلى الله عليه وسلم) (فقال الذي شرى الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها) هكذا هو في أكثر النسخ شرى بغير
[ 20 ]
ألف وفي بعضها اشترى بالألف قال العلماء الأول أصح وشرى هنا بمعنى باع كما في قوله تعالى بثمن بخس ولهذا قال فقال الذي شرى الأرض إنما بعتك والله أعلم كتاب اللقطة هي بفتح القاف على اللغة المشهورة التي قالها الجمهور واللغة الثانية لقطة باسكانها والثالثة لقاطة بضم اللام والرابعة لقط بفتح اللام والقاف قوله (جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فسأله عن اللقطة فقال اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال فضالة الغنم قال لك أو لأخيك أو للذئب قال فضالة الإبل قال مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها
[ 21 ]
ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها) وفي الرواية الثانية عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فإن جاء ربها فأدها إليه قال الأزهري وغيره لا يقع إسم الضالة إلا على الحيوان يقال ضل الإنسان والبعير وغيرهما من الحيوان وهي الضوال وأما الأمتعة وما سوى الحيوان فيقال لها لقطة ولا يقال ضالة قال الأزهري وغيره يقال للضوال الهوامي والهوافي واحدتها هامية وهافية وهمت وهفت وهملت إذا ذهبت على وجهها بلا راع وقوله (صلى الله عليه وسلم) اعرف عفاصها معناه تعرف لتعلم صدق واصفها من كذبه ولئلا يختلط بماله ويشتبه وأما العفاص فبكسر العين وبالفاء والصاد المهملة وهو الوعاء التي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره ويطلق العفاص أيضا على الجلد الذي يكون على رأس القارورة لأنه كالوعاء له فأما الذي يدخل في فم القارورة من خشب أو جلد أو خرقة مجموعة ونحو ذلك فهو الصمام بكسر الصاد يقال عفصتها عفصا إذا شددت العفاص عليها وأعفصتها اعفاصا إذا جعلت لها عفاصا وأما الوكاء فهو الخيط الذي يشد به الوعاء يقال أو كيته إيكاء فهو موكى بلاهمز قوله (صلى الله عليه وسلم) (فشأنك بها) هو بنصب النون وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (معها سقاؤها) فمعناه أنها تقوي على ورود المياه وتشرب في اليوم الواحد وتملأ كرشها بحيث يكفيها الأيام وأما حذاؤها
[ 22 ]
فبالمد وهو اخفافها لأنها تقوى بها على السير وقطع المفاوز وفي هذا الحديث جواز قول رب المال ورب المتاع ورب الماشية بمعنى صاحبها الآدمي وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء ومنهم من كره إضافته إلى ماله روح دون المال والدار ونحوه وهذا غلط لقوله (صلى الله عليه وسلم) فإن جاء ربها فأدها إليه وحتى يلقاها ربها وفي حديث عمر رضي الله عنه وإدخال رب الصريمة والغنيمة ونظائر ذلك كثيرة والله أعلم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (ثم عرفها سنة) معناه إذا أخذتها فعرفها سنة فأما الأخد فهل هو واجب أم مستحب فيه مذاهب ومختصر ما ذكره أصحابنا ثلاثة أقوال أصحها عندهم يستحب ولا يجب والثاني يجب والثالث إن كانت اللقطة في موضع يأمن عليها إذا تركها استحب الأخذ وإلا وجب وأما تعريف سنة فقد أجمع المسلمون على وجوبه إذا كانت اللقطة ليست تافهة ولا في معنى التافهة ولم يرد حفظها على صاحبها بل أراد تملكها ولا بد من تعريفها سنة بالإجماع فأما إذا لم يرد تملكها بل أراد حفظها على صاحبها فهل يلزمه التعريف فيه وجهان لأصحابنا أحدهما لا يلزمه بل إن جاء صاحبها وأثبتها دفعها إليه والادام حفظها والثاني وهو الأصح أنه يلزمه التعريف لئلا تضيع على صاحبها فإنه لا يعلم أين هي حتى يطلبها فوجب تعريفها وأما الشئ الحقير فيجب تعريفه زمنا يظن أن فاقده لا يطلبه في العادة أكثر من ذلك الزمان قال أصحابنا والتعريف أن ينشدها في الموضع الذي وجدها فيه وفي الأسواق وأبواب المساجد ومواضع اجتماع الناس فيقول من ضاع منه شئ من ضاع منه حيوان من ضاع منه دراهم ونحو ذلك ويكرر ذلك بحسب العادة قال أصحابنا فيعرفها أولا في كل يوم ثم في الأسبوع ثم في أكثر منه والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) معناه إن جاءها صاحبهم فادفعها إليه وإلا فيجوز لك أن تتملكها قال أصحابنا إذا عرفها فجاء صاحبها في أثناء مدة التعريف أو بعد انقضائها وقبل أن يتملكها الملتقط فأثبت أنه صاحبها أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة فالمتصلة كالسمن في الحيوان وتعليم صنعة ونحو ذلك والمنفصلة كالولد واللبن والصوف واكتساب العبد ونحو ذلك وأما إن جاء من يدعيها ولم يثبت ذلك فإن لم يصدقه الملتقط
[ 23 ]
لم يجز له دفعها إليه وإن صدقه جاز له الدفع إليه ولا يلزمه حتى يقيم البينة هذا كله إذا جاء قبل أن يتملكها الملتقط فأما إذا عرفها سنة ولم يجد صاحبها فله أن يديم حفظها لصاحبها وله أن يتملكها سواء كان غنيا أو فقيرا فإن أراد تملكها فمتى يملكها فيه أوجه لأصحابنا أصحها لا يملكها حتى يتلفظ بالتملك بأن يقول تملكتها أو اخترت تملكها والثاني لا يملكها إلا بالتصرف فيها بالبيع ونحوه والثالث يكفيه نية التملك ولا يحتاج إلى لفظ والرابع يملك بمجرد مضي السنة فإذا تملكها ولم يظهر لها صاحب فلاشئ عليه بل هو كسب من اكسابه لا مطالبة عليه به في الآخرة وإن جاء صاحبها بعد تملكها أخذها بزيادتها المتصلة دون المنفصلة فإن كانت قد تلفت بعد التملك لزم الملتقط بدلها عندنا وعند الجمهور وقال داود لا يلزمه والله أعلم قوله (فضالة الغنم قال لك أو لأخيك أو للذئب) معناه الأذن في أخذها بخلاف الإبل وفرق (صلى الله عليه وسلم) بينهما وبين الفرق بأن الإبل مستغنية عن من يحفظها لاستقلالها بحذائها وسقائها وورودها الماء والشجر وامتناعها من الذئات وغيرها من صغار السباع والغنم بخلاف ذلك فلك أن تأخذها أنت أو صاحبها أو أخوك المسلم الذي يمر بها أو الذئب فلهذا جاز أخذها دون الإبل ثم إذا أخذها وعرفها سنة وأكلها ثم جاء صاحبها لزمته غرامتها عندنا وعند أبي حنيفة رضي الله عنه وقال مالك لا تلزمه غرامتها لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يذكر له غرامة واحتج أصحابنا بقوله (صلى الله عليه وسلم) في الرواية الأخرى فإن جاء صاحبها فأعطها إياه وأجابوا عن دليل مالك بأنه لم يذكر في هذه الرواية الغرامة ولا نفاها وقد عرف وجوبها بدليل آخر قوله (صلى الله عليه وسلم) (عرفها سنة ثم أعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها) هذا ربما أوهم أن معرفة الوكاء والعفاص تتأخر على تعريفها سنة وباقي الروايات صريحة في تقديم المعرفة على التعريف فيجاب عن هذه الرواياة أن هذه معرفة أخرى ويكون مأمورا بمعرفتين فيتعرفها أول ما يلتقطها حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها ولئلا تختلط وتشتبه فإذا عرفها سنة وأراد تملكها استحب له أن يتعرفها أيضا مرة أخرى تعرفا وافيا محققا ليعلم قدرها وصفتها فيردها إلى صاحبها إذا جاء بعد تملكها وتلفها ومعنى استنفق بها تملكها ثم أنفقها على نفسك قوله (فغضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
[ 24 ]
حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه ثم قال مالك ولها) الوجنة بفتح الواو وضمها وكسرها وفيها لغة رابعة أجنة بضم الهمزة وهي اللحم المرتفع من الخدين ويقال رجل موجن وواجن أي عظيم الوجنة وجمعها وجنات ويجئ فيها اللغات المعروفة في جمع قصعة وحجرة وكسرة وفيه جواز الفتوى والحكم في حال الغضب وأنه نافذ لكن يكره ذلك في حقنا ولا يكره في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) لأنه لا يخاف عليه في الغضب ما يخاف علينا والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (ثم عرفها سنة فإن لم يجئ صاحبها كانت وديعة عندك) وفي الرواية الثانية ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه معناه تكون أمانة عندك بعد السنة ما لم تتملكها فإن تلفت بغير تفريط فلا ضمان عليك وليس معناه منعه من تملكها بل له تملكها على ما ذكرناه للأحاديث الباقية الصريحة وهي قوله (صلى الله عليه وسلم) ثم استنفق بها فاستنفقها وقد أشار (صلى الله عليه وسلم) إلى هذا في الرواية الثانية بقوله فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك أي لا ينقطع حق صاحبها بل متى جاءها فأدها إليه إن كانت باقية وإلا فبدلها وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه والمراد أنه لا ينقطع حق صاحبها
[ 25 ]
بالكلية وقد نقل القاضي وغيره إجماع المسلمين على أنه إذا جاء صاحبها بعد التمليك صمنها المتملك إلا داود فأسقط الضمان والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك) في هذا دلالة لمالك وغيره ممن يقول إذا جاء من وصف اللقطة بصفاتها وجب دفعها إليه ببينة وأصحابنا يقولون لا يجب دفعها إليه إلا ببينة وبه قال أبو حنيفة واصحابهم رحمهم الله تعالى ويتأولون هذا الحديث على أن المراد أنه إذا صدقه جاز له الدفع إليه ولا يجب فالأمر بدفعها بمجرد تصديقه ليس للوجوب والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) في روايات حديث زيد بن خالد (عرفها سنة) وفي حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه
[ 26 ]
(صلى الله عليه وسلم) أمر بتعريفها ثلاث سنين وفي رواية سنة واحدة وفي رواية أن الراوي شك قال لا أدري قال حول أو ثلاثة أحوال وفي رواية عامين أو ثلاثة قال القاضي عياض قيل في الجمع بين الروايات قولان أحدهما أن يطرح الشك والزيادة ويكون المراد سنة في رواية الشك وترد الزيادة لمخالفتها باقي الأحاديث والثاني أنهما قضيتان فرواية زيد في التعريف سنة محمولة على نقل ما يجرى ورواية أبي بن كعب في التعريف ثلاث سنين محمولة على الورع وزيادة الفضيلة قال وقد أجمع العلماء على الاكتفاء بتعريف سنة ولم يشترط أحد تعريف ثلاثة أعوام إلا ما روى
[ 27 ]
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولعله لم يثبت عنه
[ 28 ]
قوله (نهى عن لقطة الحاج) يعنى عن التقاطها للتملك وأما التقاطها للحفظ فقط فلا منع منه وقد أوضح هذا (صلى الله عليه وسلم) في قوله (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الآخر ولا تحل لقطتها إلا لمنشد وقد سبقت المسألة مبسوطة في آخر كتاب الحج قوله (صلى الله عليه وسلم) (من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها) هذا دليل للمذهب المختار أنه يلزمه تعريف اللقطة مطلقا سواء أراد تملكها أو حفظها على صاحبها وهذا هو الصحيح وقد سبق بيان الخلاف فيه ويجوز أن يكون المراد بالضالة هنا ضالة الإبل ونحوها مما لا يجوز التقاطها للتملك بل أنها تلتقط للحفظ على صاحبها فيكون معناه من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها أبدا ويتملكها والمراد بالضال المفارق للصواب وفي جميع أحاديث الباب دليل على أن التقاط اللقطة وتملكها لا يفتقر إلى حكم حاكم ولا إلى إذن السلطان وهذا مجمع عليه وفيها أنه لا فرق بين الغني والفقير وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور والله أعلم باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر
[ 29 ]
خزانته فينتقل طعامه فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه) وفي روايات فينتثل بالثاء المثلثة في آخره بدل القاف ومعنى ينتثل ينثر كله ويرمي المشربة فتح الميم وفي الراء لفتان الضم والفتح وهي كالغرفة يخزن فيها الطعام وغيره ومعنى الحديث أنه (صلى الله عليه وسلم) شبه اللبن في الضرع بالطعام المخزون المحفوظ في الخزانة في أنه لا يحل أخذه بغير اذنه وفي الحديث فوائد منها تحريم أخذ مال الإنسان بغير اذنه والأكل منه والتصرف فيه وأنه لا فرق بين اللبن وغيره وسواء المحتاج وغيره وسواء المحتاج وغيره إلا المضطر الذي لا يجد ميتة ويجد طعاما لغيره فيأكل الطعام للضرورة ويلزمه بدله لمالكه عندنا وعند الجمهور وقال بعض السلف وبعض المحدثين لا يلزمه وهذا ضعيف فإن وجد ميتة وطعاما لغيره ففيه خلاف مشهور للعلماء وفي مذهبنا الأصح عندنا أكل الميتة أما غير المضطر إذا كان له إدلال على صاحب اللبن أو غيره من الطعام بحيث يعلم أو يظن أن نفسه تطيب بأكله منه بغير إذنه فله الأكل بغير إذنه وقد قدمنا بيان هذا مرات وأما شرب النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وهما قاصدان المدينة في الهجرة من لبن غنم الراعي فقد قدمنا بيان وجهه وأنه يحتمل أنهما شرباه إدلالا على صاحبه لأنهما كانا يعرفانه أو أنه أذن للراعي أن يسقى منه من مر به أو أنه كان عرفهم إباحة ذلك أو أنه مال حربي لا أمان له والله أعلم وفي هذا الحديث
[ 30 ]
أيضا إثبات القياس والتمثيل في المسائل وفيه أن اللبن يسمى طعاما فيحنث به من حلف لا يتناول طعاما إلا أن يكون له نية تخرج اللبن وفيه أن بيع لبن الشاة بشاة في ضرعها لبن باطل وبه قال الشافعي ومالك والجمهور وجوزه الأوزاعي والله أعلم باب الضيافة ونحوها قوله (صلى الله عليه وسلم) (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته يا رسول الله قال يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه) وقال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وفي رواية الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه قالوا يا رسول الله وكيف يؤثمه قال يقيم عنده ولا شئ له يقر به وفي رواية ان نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم هذه الأحاديث متظاهرة على الأمر بالضيافة والاهتمام بها وعظيم موقعها وقد أجمع المسلمون على الضيافة وأنها من متأكدات الإسلام ثم قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى والجمهور هي سنة ليست بوجبة وقال الليث وأحمد هي واجبة يوما وليلة قال أحمد رضي الله عنه هي واجبة يوما وليلة على أهل البادية وأهل
[ 31 ]
القرى دون أهل المدن وتأول الجمهور هذه الأحاديث وأشباهها على الاستحباب ومكارم الأخلاق وتأكد حق الضيف كحديث غسل الجمعة واجب على كل محتلم أي متأكد الاستحباب وتأولها الخطابي رضي الله عنه وغيره على المضطر والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (فليكرم ضيفه جائزته يوما وليلة والضيافة ثلاثة أيام) قال العلماء معناه الاهتمام به في اليوم والليلة وإتحافه بما يمكن من بر وإلطاف وأما في اليوم الثاني والثالث فيطعمه ما تيسر ولا يزيد على عادته وأما ما كان بعد الثلاثة فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل وإن شاء ترك قالوا وقوله (صلى الله عليه وسلم) ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه معناه لا يحل للضيف أن يقيم عنده بعد الثلاث حتى يوقعه في الإثم لأنه قد يغتابه لطول مقامه أو يعرض له بما يؤذيه أو يظن به مالا يجوز وقد قال الله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وهذا كله محمول على ما إذا أقام بعد الثلاث من غير استدعاء من المضيف أما إذا استدعاه وطلب زيادة اقامته أو علم أو ظن أنه لا يكره اقامته فلا بأس بالزيادة لأن النهي إنما كان لكونه يؤثمه وقد زال هذا المعنى والحالة هذه فلو شك في حال المضيف هل تكره الزيادة ويلحقه بها حرج أم لا تحل الزيادة إلا بإذنه لظاهر الحديث والله أعلم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت فقد سبق شرحه مبسوطا في كتاب الإيمان وفيه التصريح بأنه ينبغي له الإمساك عن الكلام الذي ليس فيه خير ولا شر لأنه مما لا يعنيه ومن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ولأنه قد ينجز الكلام المباح إلى حرام وهذا موجود في العادة وكثير والله
[ 32 ]
أعلم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم) فقد حمله الليث وأحمد على ظاهره وتأوله الجمهور على أوجه أحدها أنه محمول على المضطرين فإن ضيافتهم واجبة فإذا لم يضيفوهم فلهم أن يأخذوا حاجتهم من مال الممتسين والثاني أن ا لمراد أن لكم أن تأخذوا من أعراضهم بألسنتكم وتذكرون للناس لؤمهم وبخلهم والعيب عليهم وذمهم والثالث أن هذا كان في أول الإسلام وكانت المواساة واجبة فلما اتسع الإسلام نسخ ذلك هكذا حكاه القاضي وهو تأويل ضعيف أو باطل لأن هذا الذي ادعاه قائله لا يعرف والرابع أنه محمول على من مر بأهل الذمة الذين شرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين وهذا أيضا ضعيف إنما صار هذا في زمن عمر رضي الله عنه قوله (عن أبي شريح العدوي) وفي الرواية الثانية عن أبي شريح الخزاعي هو واحد يقال له العدوى والخزاعي والكعبي وقد سبق بيانه قوله (صلى الله عليه وسلم) (ولا شئ له يقريه) هو بفتح أوله وكذا قوله في الرواية الأخرى فلا يقروننا بفتح أوله يقال قريت الضيف أقريه قرى
[ 33 ]
باب استحباب المواساة بفضول المال قوله (بينما نحن مع رسو الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر إذ جاء رجل على راحلته فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل) أما قوله فجعل يصرف بصره فهكذا وقع في بعض النسخ وفي بعضها يصرف فقط بحذف بصره وفي بعضها يضرب بالضاد المعجمة والباء وفي رواية أبي داود وغيره يصرف راحلته في هذا الحديث الحث على الصدقة والجود والمواساة والإحسان الى الرفقة والأصحاب والأعتناء بمصالح الأصحاب وأمر كبير القوم أصحابه بمواساة المحتاج وأنه يكتفي في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء وتعريضه من غير سؤال وهذا معنى قوله فجعل يصرف بصره أي متعرضا لشئ يدفع به حاجته وفيه مواساة ابن السبيل والصدقة عليه إذا كان محتاجا وإن كان له راحلة وعليه ثياب أو كان موسرا في وطنه ولهذا يعطي من الزكاة في هذه الحال والله أعلم
[ 34 ]
با ب استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمواساة فيها قوله (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا فأمر نبي الله (صلى الله عليه وسلم) فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعا فاجتمع زاد القوم على النطع قال فتطاولت لأحزره كم هو فحزرته كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة قال فأكلنا حتى شبعنا جميعا ثم حشونا جربنا فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هل من وضوء فجاء رجل باداوة فيها نطفة فأفرغها في قدح فتوضأنا كلنا ند غفقه دغفقة أربع عشرة مائة قال ثم جاء بعد ثمانية فقالوا هل مطهور فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرغ الوضوء) أما قوله جهد فبفتح الجيم وهو المشقة وقوله مزاودنا هكذا هو في بعض النسخ أو أكثرها وفي بعضها أزوادنا وفي بعضها تزوادنا بفتح التاء وكسرها وفي النطع لغات سبقت أفصحن كسر النون وفتح الطاء وقوله كربضة العنز أي كمبركها أو كقدر وهي رابضة قال القاضي الرواية فيه بفتح الراء وحكاه ابن دريد بكسرها قوله (حشونا جربنا) هو بضم الراء وإسكانها جمع جراب بكسر الجيم على المشهور ويقال بفتحها قوله (صلى الله عليه وسلم) (هل من وضوء) أي ما يتوضأ به وهو بفتح الواو على المشهور ! وسبق بيانه في كتاب الطهارة قوله (فيها نطفة) هو بضم النون أي قليل من الماء قوله (ندغفقة دغفقة) أي نصبه صبا شديدا وفي هذا الحديث معجزتان ظاهرتان
[ 35 ]
لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهما تكثير الطعام وتكثير الماء هذه الكثرة الظاهرة قال المازري في تحقيق المعجزة في هذا أنه كلما أكل منه جزء أو شرب جزء خلق الله تعالى جزءا آخر يخلفه قال ومعجزات النبي (صلى الله عليه وسلم) ضربان أحدهما القرآن وهو منقول تواترا والثاني مثل تكثير الطعام والشراب ونحو ذلك ولك فيه طريقان أحدهما أن تقول تواترت على المعنى كتواتر جود حاتم طيئ وحلم الأحنف بن قيس فإنه لا ينقل في ذلك قصة بعينها متواترة ولكن تكاثرت أفرادها بالآحاد حتى أفاد مجموعها تواتر الكرم والحلم وكذلك تواتر انخراق العادة للنبي (صلى الله عليه وسلم) بغير القرآن والطريق الثاني أن تقول إذا روى الصحابي مثل هذا الأمر العجيب وأحال على حضوره فيه مع سائر الصحابة وهم يسمعون روايته ودعواه أو بلغهم ذلك ولا ينكرون عليه كان ذلك تصديقا له يوجب العلم بصحة ما قال والله أعلم وفي هذا الحديث استحباب المواساة في الزاد وجمعه عند قلته وجواز أكل بعضهم مع بعض وفي الحالة وليس هذا من الربا في شئ وإنما هو من نحو الإباحة وكل واحد مبيح لرفقته الأكل من طعامه وسواء تحقق الإنسان أنه أكل أكثر من حصته أو دونها أو مثلها فلا بأس بهذا لكن يستحب له الإيثار والتقلل لا سيما أن كان في الطعام قلة والله أعلم كتاب الجهاد والسير باب جواز الإغارة على الكفا الذين بلغتهم دعوة الإسلام (من غير تقدم إعلام بالإغارة) قوله (حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال حدثنا سليم بن أخضر عن ابن عون قال كتبت إلى نافع أسأله
[ 36 ]
عن الدعاء قبل القتال قال فكتب إلي إنما كان في أول الإسلام قد أغار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على بني المصطلق وهم غاوون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم وأصاب يومئذ قال يحيى بن يحيى أحسبه قال جويرية أو البتة ابنة الحارث وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش) قال وقال في الرواية الأخرى جويرية بنت الحارث ولم يشك أما قوله أو البتة فمعناه أن يحيى بن يحيى قال أصاب يومئذ بنت الحارث وأظن شيخي سليم بن أخضر سماها في روايته جويرية أو أعلم ذلك وأجزم به وأقوله البتة وحاصله أنها جويرية فيما أحفظه إما ظنا وإما علما وفي الرواية الثانية قال هي جويرية بنت الحارث بلا شك قوله وهم غارون هو بالغين المعجمة وتشديد الراء أي غافلون وفي هذا الحديث جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازري والقاضي أحدها يجب الإنذار مطلقا قال مالك وغيره وهذا ضعيف والثاني لا يجب مطلقا وهذا أضعف منه أو باطل والثالث يحب إن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب وهذا هو الصحيح وبه قال نافع مولى ابن عمر والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور قال ابن المنذر وهو قول أكثر أهل العلم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه فمنها هذا الحديث وحديث قتل كعب بن الأشرف وحديث قتل أبي الحقيق وفي هذا الحديث جواز استرقاق العرب لأن بني المصطلق عرب من خزاعة وهذا قول الشافعي في الجديد وهو الصحيح وبه قال مالك وجمهور أصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي وجمهور العلماء وقال جماعة
[ 37 ]
من العلماء لا يسترقون وهذا قول الشافعي في القديم باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث (ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها) قوله (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا) أما السريه فهي قطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه قال ابراهيم الحربي هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها قالوا سميت سرية لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها وهي فعيلة بمعنى فاعلة يقال سرى واسري إذا ذهب ليلا قوله (صلى الله عليه وسلم) (ولا تغدروا) بكسر الدال والوليد الصبي وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر وتحريم الغلول وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا وكراهة المثلة واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى والرفق باتباعهم وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم وما يحل لهم وما يحرم عليهم وما يكره وما يستحب قوله (صلى الله عليه وسلم) (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال
[ 38 ]
فأيتهن ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم) قوله ثم ادعهم إلى الإسلام هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم ثم ادعهم قال القاضي عياض رضي الله تعالى عنه صواب الرواية ادعهم باسقاط ثم وقد جاء باسقاطها على ا لصواب في كتاب أبي عبيد وفي سنن أبي داود وغيرهما لأنه تفسير للخصال الثلاث وليست غيرها وقال المازري ليست ثم هنا زائدة بل دخلت لاستفتاح الكلام والأخذ قوله (صلى الله عليه وسلم) (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كاعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفئ شئ الا أن يجاهدوا مع المسلمين معنى هذا الحديث أنهم إذا أسلموا استحب لهم أن يهاجروا الى المدينة فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفئ والغنيمة وغير ذلك والأفهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو فتجرى عليهم أحكام الإسلام ولا حق لهم في الغنيمة والفئ وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة إن كانوا بصفة استحقاقها قال الشافعي الصدقات للمساكين ونحوهم ممن لا حق له في الفئ والفئ للأجناد قال ولا يعطى أهل الفئ من الصدقات ولا أهل الصدقات من الفئ واحتج بهذا الحديث وقال مالك وأبو حنيفة المالان سواء ويجوز صرف كل واحد منهما إلى النوعين وقال أبو عبيد هذا الحديث منسوخ قال وإنما كان هذا الحكم في أول الإسلام لمن لم يهاجر ثم نسخ ذلك بقوله
[ 39 ]
تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وهذا الذي ادعاه أبو عبيد لا يسلم له قوله (صلى الله عليه وسلم) (فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) هذا مما يستدل به مالك والأوزاعي وموافقوهما في جواز أخذ الجزية من كل كافر عربيا كان أو عجميا كتابيا أو مجوسيا أو غيرهما وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه تؤخذ الجزية من جميع الكفار إلا مشركي العرب ومجوسهم وقال الشافعي لا يقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس عربا كانوا أو عجما ويحتج بمفهوم آية الجزية وبحديث سنوا بهم سنة أهل الكتاب وبتأول هذا الحديث على أن المراد بأخذ الجزية أهل الكتاب لأن إسم المشرك يطلق على أهل الكتاب وغيرهم وكان تخصيصهم معلوما عند الصحابة واختلفوا في قدر الجزية فقال الشافعي أقلها دينار على الغني ودينار على الفقير أيضا في كل سنة وأكثرها ما يقع به التراضي وقال مالك هي أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الفضة وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وغيره من الكوفيين وأحمد رضي الله تعالى عنه على الغني ثمانية وأربعون درهما والمتوسط اربعة وعشرون والفقير اثنا عشر قوله (صلى الله عليه وسلم) (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله و ذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) قال العلماء الذمة هنا العهد وتخفروا بضم التاء يقال أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته أمنته وحميته قالوا وهذا نهى تنزيه أي لا تجعل لهم ذمة الله فإنه قد ينقضها من لا يعرف حقها وينتهك حرمتها بعض الأعراب وسواد الجيش قوله (صلى الله عليه وسلم) (وإذا حاصرت أهل حصن
[ 40 ]
فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) هذا النهي أيضا على التنزيه والاحتياط وفيه حجة لمن يقول ليس كل مجتهد مصيبا بل المصيب واحد وهو الموافق لحكم الله تعالى في نفس الأمر وقد يجيب عنه القائلون بأن كل مجتهد مصيب بأن المراد أنك لا تأمن أن ينزل على وحي بخلاف ما حكمت وهذا المعنى منتف بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) قوله (حدثنا مسلم بن هيصم) بفتح الهاء والصاد المهملة قوله (صلى الله عليه وسلم) (بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا) وفي الحديث الآخر أنه (صلى الله عليه وسلم) قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهما يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا
[ 41 ]
وتطاوعا ولا تختلفا وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه يسروا ولا تعسروا واسكنو ولا تنفروا إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشئ وضده لأنه قد يفعلهما في وقتين فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات وعسر في معظم الحالات فإذا قال ولا تعسروا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه وهذا هو المطلوب وكذا يقال في يسرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شئ ويختلفان في شئ وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوايه وجزيل عطائه وسعة رحمته والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير وفيه تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليهم وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ ومن تاب من المعاصي كلهم يتلطف بهم ويدرجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالبا التزايد منها ومتى عسرت عليه أو شك أن لا يدخل فيها وإن دخل أو شك أن لا يدوم أو لا يستحليها وفيه أمر الولاة بالرفق واتفاق المتشاركين في ولاية ونحوها وهذا من المهمات فإن غالب المصالح لا يتم إلا بالإتفاق ومتى حصل الإختلاف فات وفيه وصية الإمام الولاة وإن كانوا أهل فضل وصلاح كمعاذ وأبي موسى فإن الذكرى تنفع المؤمنين قوله (حدثنا محمد ابن عباد حدثنا سفيان عن عمرو عن سعيد بن أبي بردة) هذا مما استدركه الدارقطني رجال لم
[ 42 ]
يتابع ابن عباد عن سفيان عن عمرو عن سعيد وقد روى عن سفيان عن مسعر عن سعيد ولا يثبت ولم يخرجه البخاري من طريق سفيان هذا كلام الدارقطني ولا إنكار على مسلم لأن ابن عباد ثقة وقد جزم بروايته عن سفيان عن عمرو عن سعيد ولو لم يثبت لم يضر مسلما فإن المتن ثابت من الطرق
[ 43 ]
باب تحريم الغدر قوله (صلى الله عليه وسلم) (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان) وفي رواية يعرف به وفي رواية لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة وفي رواية لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة قال أهل اللغة اللواء الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب أو صاحب دعوة الجيش ويكون الناس تبعا له قالوا فمعنى لكل غادر لواء أي علامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك وأما الغادر فهو الذي يواعد على أمر ولا يفي به يقال غدر يغدر بكسر
[ 44 ]
الدال في المضارع وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين وقيل لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء كما جاء في الحديث الصحيح في تعظيم كذب الملك والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر وذكر القاضي عياض احتمالين أحدهما هذا وهو نهي الإمام أن يغدر في عهوده لرعيته وللكفار وغيرهم أو غدره للأمانة التي قلدها لرعيته والتزم القيام بها والمحافظة عليها ومتى خانهم أو ترك الشفقة عليهم أو الرفق بهم فقد غدر بعهده والاحتمال الثاني أن يكون المراد نهي الرعية عن الغدر بالإمام فلا يشقوا عليه العصا ولا يتعرضوا لما يخاف حصوفتنة بسببه والصحيح الأول والله أعلم
[ 45 ]
باب جواز الخداع في الحرب قوله صلى الله عليه وسلم (الحرب خدعة) فيها ثلاث لغات مشهورات اتفقوا على أن أفصحهن خدعة بفتح الخاء واسكان الدال قال ثعلب وغيره وهي لغة النبي (صلى الله عليه وسلم) والثانية بضم الخاء واسكان الدال والثالثة بضم الخاء وفتح الدال واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل وقد صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء أحدها في الحرب قال الطبري إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل هذا كلامه والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب لكن الاقتصار على التعريض أفضل والله أعلم باب كراهة تمنلقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا تمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا) وفي الرواية الأخرى لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف إنما نهى عن تمنى لقاء العدو لما فيه من صورة الاعجاب والاتكال على النفس والوثوق بالقوة وهو نوع بغى وقد ضمن الله تعالى لمن بغى عليه أن ينصره ولأنه يتضمن قلة الإهتمام
[ 46 ]
بالعدو واحتقاره وهذا يخالف الاحتياط والحزم وتأوله بعضهم على النهي عن التمني في صورة خاصة وهي إذا شك في المصلحة فيه وحصول ضرر وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة والصحيح الأول ولهذا تممه (صلى الله عليه وسلم) بقوله (صلى الله عليه وسلم) واسألوا الله العافية وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية وهي من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في البدن والباطن في الدين والدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العافية العامة لي ولأحبائي ولجميع المسلمين وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (وإذا لقيتموهم فاصبروا) فهذا حث على الصبر في القتال وهو آكد أركانه وقد جمع الله سبحانه آداب القتال في قوله تعالى أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا وراء الناس ويصدون عن سبيل الله وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف فمعناه ثواب الله والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله ومشى المجاهدين في سبيل الله فاحضورا فيه بصدق واثبتوا قوله في هذا الحديث (أن النبي (صلى الله عليه وسلم) انتظر حتى مالت الشمس قام فيهم فقال يا أيها الناس إلى آخره) وقد جاء في غير هذا الحديث أنه (صلى الله عليه وسلم) كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس قال العلماء سببه أنه أمكن للقتال فإنه وقت هبوب الريح ونشاط النفوس وكلما طال ازدادوا نشاطا واقداما على عدوهم وقد جاء في صحيح البخاري آخر حتتهب الأرواح وتحضر الصلاة قالوا وسببه
[ 47 ]
فضيلة أوقات الصلوات والدعاء عندها قوله (ثم قام النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال اللهم منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الاحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم) فيه استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار والله أعلم قوله (عن أبي النضر عن كتاب رجل من الصحابة قال الدارقطني هو حديث صحيح قال واتفاق البخاري ومسلم على روايته حجة في جواز العمل بالمكاتبة والإجازة وقد جوزوا العمل بالمكاتبة والإجازة وبه قال جماهير العلماء من أهل الحديث والأصول والفقه ومنعت طائفة الرواية بها وهذا غلط والله أعلم باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو ذكر في الباب دعاءه (صلى الله عليه وسلم) عند لقاء العدو وقد اتفقوا على استحبابه قوله (صلى الله عليه وسلم) (اللهم اهزمهم وزلزلهم) أي ازعجهم وحركهم بالشدائد قال أهل اللغة الزلزال
[ 48 ]
والزلزلة الشدائد التي تحرك الناس قوله (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يقول يوم أحد اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض) قال العلماء فيه التسليم لقدر الله تعالى والرد على غلاة القدرية الزاعمين أن الشر غير مراد ولا مقدر تعالى الله عن قولهم وهذا الكلام متضمن أيضا لطلب النصر وجاء في هذه الرواية أنه (صلى الله عليه وسلم) قال هذا يوم أحد وجاء بعده أنه قاله يوم بدر وهو المشهور في كتب السير والمغازي ولا معارضة بينهما فقاله في اليومين والله أعلم باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب قوله (نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن قتل النساء والصبيان) أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا فإن قاتلوا قال جماهير العلماء يقتلون وأما شيوخ الكفار فإن كان فيهم رأي قتلوا والا ففيهم وفي الرهبان خلاف قال مالك وأبو حنيفة لا يقتلون والأصح في مذهب الشافعي قتلهم
[ 49 ]
باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد قوله (سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال هم منهم) هكذا هو في أكثر نسخ بلادنا سئل عن الذراري وفي رواية عن أهل الدار من المشركين ونقل القاضي هذه عن رواية جمهور رواة صحيح مسلم قال وهي الصواب فأما الرواية الأولى فقال ليست بشئ بل هي تصحيف قال وما بعده هو تبيين الغلط فيه قلت وليست باطلة كما ادعى القاضي بل لها وجه وتقديره سئل عن حكم صبيان المشركين الذين يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل فقال هم من آبائهم أي لا بأس بذلك لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح وفي القصاص والديات وغير ذلك والمراد إذا لم يتعمدوا من غير ضرورة وأما الحديث السابق في النهي عن قتل النساء والصبيان فالمراد به إذا تميزوا وهذا الحديث الذي ذكرناه من جواز بياتهم وقتل النساء والصبيان في البيات هو مذهبنا ومذهب مالك وأبي
[ 50 ]
حنيفة والجمهور ومعنى البيات ويبيتون أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي وأما الذراري فبتشديد الياء وتخفيفها لغتان التشديد أفصح وأشهر والمراد بالذراري هنا النساء والصبيان وفي هذا الحديث دليل لجواز البيات وجواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير اعلامهم بذلك وفيه أن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا حكم آبائهم وأما في الآخرة ففيهم إذا ماتوا قبل البلوغ ثلاثة مذاهب الصحيح أنهم في الجنة والثاني في النار والثالث لا يجزم فيهم بشئ والله أعلم باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها قوله (حرق (صلى الله عليه وسلم) نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فأنزل الله تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) قوله حرق بتشديد الراء والبويرة بضم الباء الموحدة وهي موضع نخل بني النضير واللينة المذكورة في القرآن هي أنواع الثمر كلها إلا العجوة وقيل كرام النخل وقيل كل النخل وقيل كل الأشجار للينها وقد ذكرنا قبل هذا أن أنواع نخل المدينة مائة وعشرون نوعا وفي هذا الحديث جواز قطع شجر الكفار واحراقه وبه قال عبد الرحمن بن القاسم ونافع مولى ابن عمر ومالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد واسحاق والجمهور وقال أبو بكر الصديق والليث بن سعد وأبو ثور والأوزاعي رضي الله عنه في رواية عنهم لا يجوز
[ 51 ]
قوله وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير) المستطير المنتشر والسراة بفتح السين أشراف القوم ورؤساؤهم والله أعلم باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة قوله (صلى الله عليه وسلم) (غزا نبي من الأنبياء عليهم السلام فقال لقومه لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن ولا آخر قد بنى بنيانا ولما يرفع سقفها ولا آخر قد اشترى غنما أو خلفات وهو منتظر ولادها) أما البضع فهو بضم الباء وهو فرج المرأة وأما الخلفات فبفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وهي الحوامل وفي هذا الحديث أن الأمور المهمة ينبغي أن لا تفوض إلا إلى أولي الحزم وفراغ البال لها ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها
[ 52 ]
لأن ذلك يضعف عزمه ويفوت كمال بذل وسعه فيه قوله (صلى الله عليه وسلم) (فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر) هكذا هو في جميع النسخ فأدنى بهمزة قطع قال القاضي كذا هو في جميع النسخ فأدنى رباعي إما أن يكون تعدية لدنى أي قرب فمعناه أدنى جيوشه وجموعه للقرية وإما أن يكون أدنى بمعنى حان أي قرب فتحها من قولهم أدنت الناقة إذا حان نتاجها ولم يقولوه في غير الناقة قوله (صلى الله عليه وسلم) (فقال للشمس أنت مأمورة وأما مأمور اللهم احبسها على شيئا فحبست عليه حتى فتح الله القرية) قال القاضي اختلف في حبس الشمس المذكور هنا فقيل ردت على أدراجها وقيل وقفت ولم ترد وقيل أبطئ بحركتها وكل ذلك من معجزات النبوة قال ويقال أن الذي حبست عليه الشمس يوشع بن نون قال القاضي رضي الله عنه وقد روى أن نبينا (صلى الله عليه وسلم) حبست له الشمس مرتين أحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت فردها الله عليه حتى صلى العصر ذكر ذلك الطحاوي وقال رواته ثقاة والثانية صبيحة الاسراء حين انتظر العير التي أخبر بوصولها مع شروق الشمس ذكره يونس بن بكير في زيادته على سيرة ابن اسحاق قوله (صلى الله عليه وسلم) (فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال فيكم غلول) هذه كانت عادة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في الغنائم أن يجمعوها فتجئ نار من السماء فتأكلها فيكون ذلك علامة لقبولها وعدم الغلول فلما جاءت في هذه المرة فأبت أن تأكلها علم أن فيهم غلولا فلما ردوه جاءت فأكلتها وكذلك كان أمر قربانهم إذا تقبل جاءت نار من
[ 53 ]
السماء فأكلته قوله (صلى الله عليه وسلم) (فوضعوه في المال وهو بالصعيد) يعني وجه الأرض وفي هذا الحديث إباحة الغنائم لهذه الأمة زادها الله شرفا وأنها مختصة بذلك والله أعلم باب الأنفال قوله (عن مصعب بن سعد عن أبيه قال أخذ أبي من الخمس سيفا فأتى به النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال هب لي هذا فأبى قال فأنزل الله تعالى عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول أو فقوله عن أبيه قال أخذ أبي هو من تلوين الخطابي وتقديره عن مصعب ب بن سعد أنه حدث عن أبيه بحديث قال فيه قال أبي أخذت حكم الغنائم من الخمس سيفا إلى آخره قال القاضي يحتمل أن يكون هذا الحديث قبل نزول الآية واباحتها قال وهذا هو الصواب وعليه يدل الحديث وقد روى في تمامه ما بينه من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) لسعد بعد نزول الآية خذ سيفك إنك سألتنيه وليس لي ولا لك وقد جعله الله لي وجعلته لك قال واختلفوا في هذه الآية فقيل هي منسوخة بقوله تعالى أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول وأن مقتضى آية الأنفال والمراد بها أن الغنائم كانت ت للنبي (صلى الله عليه وسلم) خاصة كلها ثم جعل الله أربعة أخماسها للغانمين بالآية الأخرى وهذا قول ابن عباس وجماعة وقيل هي محكمة وأن التنفيل من الخمس وقيل هي محكمة
[ 54 ]
وللإمام أن ينفل من الغنائم ما شاء لمن شاء بحسب ما يراه وقيل محكمة مخصوصة والمراد أنفال السرايا قوله (عن سعد قال نزلت في أربع آيات أصبت سيفا) لم يذكر هنا من الأربع إلا هذه الواحدة وقد ذكر مسلم الأربع بعد هذا في كتاب الفضائل وهي بر الوالدين وتحريم الخمر ولا تطرد الذين يدعون ربهم وآية الأنفال قوله (أأجعل كمن لا غناء له) هو بفتح الغين وبالمد وهو الكفاية قوله (فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيرا) هكذا هو في أكثر النسخ اثنا عشر وفي بعضها اثنى عشر وهذا ظاهر والأول أصح على لغة من يجعل المثنى بالألف سواء كان مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا وهي لغة أربع قبائل من العرب وقد كثرت في كلام العرب ومنها قوله تعالى هذان لساحران قوله (فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونفلوا بعيرا) بعيرا وفي رواية ونفلنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعيرا بعيرا فيه اثبات النفل وهو مجمع عليه واختلفوا في محل النفل هل هو من أصل الغنيمة أو من أربعة أخماسها أو من خمس الخمس وهي ثلاثة أقوال للشافعي وبكل منها قال جماعة من
[ 55 ]
العلماء والأصح عندنا أنه من خمس الخمس وبه قال ابن المسيب ومالك وأبو حنيفة رضي الله عنهم وآخرون وممن قال أنه من أصل الغنيمة الحسن البصري والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وآخرون وأجاء النخعي أن تنفل السرية جميع ما غنمت دون باقي الجيش وهو خلاف ما قاله العلماء كافة قال أصحابنا ولو نفلهم الإمام من أموال بيت المال العتيد دون الغنيمة جاز والتنفيل إنما يكون لمن صنع صنعا جميلا في الحرب انفرد به وأما قول ابن عمر رضي الله عنه نفلوا بعيرا بعيرا معناه أن الذين استحقوا النفل نفلوا بعيرا بعيرا إلا أن كل واحد من السرية نفل قال أهل اللغة والفقهاء الأنفال هي العطايا من الغنيمة غير السهم المستحق بالقسمة وأحدها نفل بفتح الفاء على المشهور وحكى اسكانها وأما قوله فكانت سهمانهم اثنا عشبعيرا فمعناه سهم كل واحد منهم وقد قيل معناه سهمان جميع الغانمين اثنا عشر وهذا غلط فقد جاء في بعض روايات أبي داود وغيره أن الاثنى عشر بعيرا كانت سهمان كواحد من الجيش والسرية ونفل السرية سوى هذا بعيرا بعيرا قوله (ونفلوا بعيرا بعيرا) وفي رواية نفلوا بعيرا فلم يغيره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ونفلنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعيرا بعيرا والجمع بين هذه الروايات أن أمير السرية نفلهم فأجازه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيجوز نسبته إلى كل واحد منهما
[ 56 ]
وفي هذا الحديث استحباب بعث السرايا وما غنمت تشترك فيه هي والجيش إن انفردت عن الجيش في بعض الطريق وأما إذا خرجت من البلد وأقام الجيش في البلد فتختص هي بالغنيمة ولا يشاركها الجيش وفيه اثبات التنفيل للترغيب في تحصيل مصالح القتال ثم الجمهور على أن التنفيل يكون في كل غنيمة سواء الأولى وغيرها وسواء غنيمة الذهب والفضة وغيرهما وقال الأوزاعي وجماعة من الشاميين لا ينفل في أول غنيمة
[ 57 ]
ولا ينفل ذهبا ولا فضة قوله (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك واجب كله) قوله كله مجرور تأكيد لقوله في ذلك وهذا تصريح بوجوب الخمس في كل الغنائم ورد على من جهل فزعم أنه لا يجب فاغتر به بعض الناس وهذا مخالف للإجماع وقد أوضحت هذا في جزء جمعته في قسمة الغنائم حين دعت الضرورة إليه في أول سنة أربع وسبعين وستمائة والله أعلم باب استحقاق القاتل سلب القتيل قوله (حدثنا يحيبن يحيى التميمي أخبرنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد الأنصاري وكان جليسا لأبي قتادة قال قال أبو قتادة واقتص الحديث قال مسلم وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن يحيى عن عمر بن كثير عن أبي محمد مولى أبي قتادة أن أبا قتادة قال وساق الحديث قال مسلم وحدثنا أبو الطاهر واللفظ له أخبرنا عبد الله بن وهب قال سمعت مالك ابن أنس يقول حدثني يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عام حنين إلى آخره) أعلم أن قوله في
[ 58 ]
الطريق الأول واقتص الحديث وقوله في الثاني وساق الحديث يعني بهما الحديث المذكور في الطريق الثالث المذكور بعدهما وهو قوله وحدثنا أبو الطاهر وهذا غريب من عادة مسلم فاحفظ ما حققته لك فقد رأيت بعض الكتاب غلط فيه وتوهم أنه متعلق بالحديث السابق قبلهما كما هو الغالب المعروف من عادة مسلم حتى أن هذا المشار إليه ترجم له بابا مستقلا وترجم للطريق الثالث بابا آخر وهذا غلط فاحش فاحذره وإذا تدبرت الطرق المذكورة تيقنت ما حققته لك والله أعلم وإسم أبي محمد هذا نافع بن عباس الأقرع المدني الأنصاري مولاهم وفي هذا الحديث ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض وهم يحيى بن سعيد وعمر وأبو محمد قوله (كانت للمسلمين جولة) بفتح الجيم أي انهزام وخيفة ذهبوا فيه وهذا إنما كان في بعض الجيش وأما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وطائفة معه فلم يولوا والأحاديث الصحيحة بذلك مشهورة وسيأتي بيانها في مواضعها وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يقال انهزم النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يرو أحد قط أنه انهزم بنفسه (صلى الله عليه وسلم) في موطن من المواطن بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه وثباته (صلى الله عليه وسلم) في جميع المواطن قوله (فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين) يعني ظهر عليه وأشرف على قتله أو صرعه وجلس عليه لقتله قوله (فضربته على حبل عاتقه) هو ما بين العنق والكتف قوله (فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت) يحتمل أنه أراد شدة كشدة الموت ويحتمل قاربت الموت قوله (ثم أن الناس رجعوا وجلس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال من قتل قتيلا له عليه بينه فله سلبه) اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال الشافعي ومالك والأوزاعي والليث والثوري وأبو ثور وأحمد واسحق وابن جرير وغيرهم يستحق القاتل سلب القتيل في جميع الحروب
[ 59 ]
سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلا فله سلبه أم لم يقل ذلك قالوا وهذا فتوى من النبي (صلى الله عليه وسلم) وإخبار عن حكم الشرع فلا يتوقف على قول أحد وقال أبو حنيفة ومالك ومن تابعهما رحمهم الله تعالى لا يستحق القاتل بمجرد القتل سلب القتيل بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنيمة إلا أن يقول الأمير قبل القتال من قتل قتيلا فله سلبه وحملوا الحديث على هذا وجعلوا هذا إطلاقا من النبي (صلى الله عليه وسلم) وليس بفتوى وإخبار عام وهذا الذي قالوه ضعيف لأنه صرح في هذا الحديث بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال هذا بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم والله أعلم ثم أن الشافعي رضي الله عنه يشترط من استحقاقه أن يغزو بنفسه في قتل كافر ممتنع في حال القتال والأصح أن القاتل لو كان ممن له رضخ ولا سهم له كالمرأة والصبي والعبد استحق السلب وقال مالك رضي الله عنه لا يتسحقه إلا المقاتل وقال الأوزاعي والشاميون لا يستحق السلب إلا في قتيل قتله قبل التحام الحرب فأما من قتل في التحام الحرب فلا يستحقه واختلفوا في تخميس السلب وللشافعي فيه قولان الصحيح منهما عند أصحابه لا يخمس وهو ظاهر الأحاديث وبه قال أحمد وابن جرير وابن المنذر وآخرون وقال مكحول ومالك والأوزاعي يخمس وهو قول ضعيف للشافعي وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه واسحاق وابن راهوية يخمس إذا كثر وعن مالك رواية اختارها اسماعيل القاضي أن الإمام بالخيار إن شاء خمسه وإلا فلا وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) ففيه تصريح بالدلالة لمذهب الشافعي والليث ومن وافقهما من المالكية وغيرهم أن السلب لا يعطى إلا لمن له بينة بأنه قتله ولا يقبل قوله بغير بينة وقال مالك والأوزاعي يعطى بقوله بلا بينة قالا لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أعطاه السلب في هذا الحديث بقول واحد ولم يحلفه والجواب أن هذا محمول على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) علم أنه القاتل بطريق من الطرق وقد صرح (صلى الله عليه وسلم) بالبينة فلا تلغي وقد يكون المالكي هذا مفهوم وليس هو بحجة عنده ويجاب بقوله (صلى الله عليه وسلم)
[ 60 ]
لو يعطى الناس بدعواهم لادعى الحديث فهذا الذي قدمناه هو المعتمد في دليل الشافعي رضي الله عنه وأما ما يحتج به بعضهم أن أبا قتادة إنما يستحق السلب باقرار من هو في يده فضعيف لأن الاقرار إنما ينفع إذا كان المال منسوبا إلى من هو في يده فيؤخذ باقراره والمال هنا منسوب إلى جميع الجيش ولا يقبل إقرار بعضهم على الباقين والله أعلم قوله (قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى بقاتل عن الله وعن رسوله (صلى الله عليه وسلم) فيعطيك سلبه فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدق) هكذا في جميع روايات المحدثين في الصحيحين وغيرهما لاها الله إذا بالألف وأنكر الخطابي هذا وأهل العربية وقالوا هو تغيير من الرواة وصوابه لاها الله ذا بغير ألف في أوله وقالوا وها بمعنى الواو التي يقسم بها فكأنه قال لا والله ذا قال أبو عثمان المازري رضي الله عنه معناه لاها الله ذا يميني أو ذا قسمي وقال أبو زيد ذا زائدة وفيها لغتان المد والقصر قالوا ويلزم الجر بعدها كما يلزم بعد الواو قالوا ولا يجوز الجمع بينهما فلا يقال لاها والله وفي هذا الحديث دليل على أن هذه اللفظة تكون يمينا قال أصحابنا إن نوى بها اليمين كانت يمينا وإلا فلا لأنها ليست متعارفة في الإيمان والله أعلم وأما قوله (لا يعمد فضبطوه) بالياء والنون وكذا قوله بعده فيعطيك بالياء والنون وكلاهما ظاهر وقوله (يقاتل عن الله ورسوله أي يقاتل في سبيل الله نصرة لدين الله وشريعة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ولتكون كلمة الله هي العليا) وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق في افتائه بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) واستدلاله لذلك وتصديق النبي (صلى الله عليه وسلم)
[ 61 ]
في ذلك وفيه منقبة ظاهرة لأبي قتادة فإنه سماه أسدا من اسد الله تعالى يقاتل ع عن الله ورسوله وصدقه النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذه منقبة جليلة من مناقبه وفيه أن السلب للقاتل لأنه أضافه إليه فقال يعطيك سلبه والله أعلم قوله (فابتعت به مخرفا في بني سلمة) أما بنو سلمة فبكسر اللام وأما المخرف فبفتح الميم والراء وهذا هو المشهور وقال القاضي رويناه بفتح الميم وكسر الراء كالمسجد والمسكن بكسر الكاف والمراد بالمخرف هنا البستان وقيل السكة من النخل تكون صفين يخرف من أيها ساء أي يجتني وقال ابن وهب هي الجنينة الصغيرة وقال غيره هي نخلات يسيرة وأما المخرف بكسر الميم وفتح الراء فهو الوعاء الذي يجعل فيه ما يجتني من الثمار ويقال اخترف الثمر إذا جناه وهو ثمر مخروف قوله (فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام) هو بالثاء المثلثة بعد الألف أي أقتنيته وتأصلته وأثلة الشئ أصله قوله (لا تعطه أضيبع من قريش) قال القاضي اختلف رواة كتاب مسلم في هذا الحرف على وجهين أحدهما رواية السمرقندي أصيبغ بالصاد المهملة والغين المعجمة والثاني رواية سائر الرواة أضييع بالضاد المعجمة والعين المهملة قال وكذلك اختلف فيه رواة البخاري فعلى الثاني هو تصغير ضبع على غير قياس كأنه لما وصف أبا قتادة بأنه أسد صغر هذا بالإضافة إليه وشبههه بالضبيع لضعف افتراسها وما توصف به من العجز والحمق وأما على الوجه الأول فوصفه به لتغير لونه وقيل حقره وذمه بسواد لونه وقيل معناه أنه صاحب لون غير محمود وقيل وصفه بالمهانة والضعف قال الخطابي الأصيبغ نوع
[ 62 ]
من الطير قال ويجوز أنه شبهه بنبات ضعيف يقال له الصيبغا أول ما يطلع من الأرض يكون مما يلي الشمس منه أصفر والله أعلم قوله (تمنيت لو كنت بين أضلع منهما) هكذا هو في جميع النسخ أضلع بالضاد المعجمة وبالعين وكذا حكاه القاضي عن جميع نسخ صحيح مسلم وهو الأصوب قال ووقع في بعض روايات البخاري أصلح بالصاد والحاء المهملتين قال وكذا رواه مسدد قلت وكذا وقع في حاشية بعض نسخ ضحيح مسلم ولكن الأول أصح وأجود من أن الاثنين صحيحان ولعله قالهما جميعا ومعنى أضلع أقوى قوله (لا يفارق سوادي سواده) أي شخصي شخصه قوله (حتى يموت الأعجل مناه) أي لا أفارقه حتى يموت أحدنا وهو الأقرب أجلا قوله (فلم أنشب إن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس) معناه لم ألبث قوله يزول هو بالزاي والواو هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وكذا رواه القاضي عن جماهير شيوخهم قال ووقع عند بعضهم عن ابن ماهان يرفل بالراء والفاء قال والأول أظهر وأوجه ومعناه يتحرك ويزعج ولا يستقر على حالة ولا في مكان والزوال القلق قال فإن صحت الرواية الثانية فمعناه يسبل ثيابه ودرعه ويجره قوله (صلى الله عليه وسلم) (أيكما قتله) فقال كل واحد منهما أنا قتلته فقال هل مسحتما سيفيكما قالا لا فنظر في السيفين فقال كلا كما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والرجلان معاذ
[ 63 ]
ابن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقا أصحابنا اشترك هذان الرجلان في جراحته لكن معاذ بن عمرو بن الجموح ثخنه أولا فاستحق السلب وإنما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) كلا كما قتله تطييبا لقلب الآخر من حيث أن له مشاركة في قتله وإلا فالقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب وهو الاثخان واخراجه عن كونه متمنعا إنما وجد من معاذ بن عمرو بن الجموح فلهذا قضى له بالسلب قالوا وإنما أخذ السيفين ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما فعلم أن ابن الجموح أثخنه ثم شاركه الثاني بعد ذلك وبعد استحقاقه السلب فلم يكن له حق في السلب هذا مذهب أصحابنا في معنى هذا الحديث وقال أصحاب مالك إنما أعطاه لأحدهما لأن الإمام مخير في السلب يفعل فيه ما شاء وقد سبق الرد على مذهبهم هذا والله أعلم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء فهكذا رواه البخاري ومسلم من رواية يوسف بن الماجشون وجاء في صحيح البخاري أيضا من حديث ابراهيم بن سعد أن الذي ضربه ابنا عفراء وذكره أيضا من رواية ابن مسعود وأن ابني عفرا ضرباه حتى برد وذكر ذلك مسلم بعد هذا وذكر غيرهما أن ابن مسعود رضي الله عنه هو الذي أجهز عليه وأخذ رأسه وكان وجده وبه رمق وله معه خبر معرو ف قال القاضي هذا قول أكثر أهل السير قلت يحمل على أن الثلاثة اشتركوا في قتله وكان الاثخان من معاذ بن عمرو بن الجموح وجاء ابن مسعود بعد ذلك وفيه رمق فحز رقبته وفي هذا الحديث من الفوائد 1 المبادرة إلى الخيرات 2 الاشتياق إلى الفضائل 3 الفضب لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) 4 ينبغي أن لا يحتقر أحد فقد يكون بعض من يستصغر عن القيام بأمر أكبر مما في النفوس وأحق ذلك الأمر كما جرى لهذين الغلامين واحتجت به المالكية في أن استحقاق القاتل السلب
[ 64 ]
يكفي فيه قوله بلا بينة وجواب أصحابنا عنه لعله (صلى الله عليه وسلم) علم ذلك ببينه أو غيرها قوله (عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه فمنعه خالد ابن الوليد وكان واليا عليهم فأتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عوف بن مالك فأخبره فقال لخالد ما منعك أن تعطيه ! استكثرته يا رسول الله قال ادفعه إليه فمر خالد بعوف فجر بردائه فقال هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فسمعه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاستغضب فقال لا تعطه يا خالد لا تعطه يا خالد هل أنتم تاركوا لي أمرائي إلى آخره) هذه القضية جرت في غزوة موتة سنة ثمان كما بينه في الرواية التي بعد هذه وهذا الحديث قد يستشكل من حيث أن القاتل قد استحق السلب فكيف منعه إياه ويجاب عنه بوجهين أحدهما لعله أعطاه بعد ذلك للقاتل وإنما أخره تعزيزا له ولعوف بن مالك لكونهما أطلقا ألسنتهما في خالد رضي الله عنه وانتهكا حرمة الوالي ومن ولاه الوجه الثاني لعله استطاب قلب صاحبه فتركه صاحبه باختياره وجعله للمسلمين وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد رضي الله عنه للمصلحة في إكرام الأمراء قوله (فاستغضب فقال لا تعطه يا خالد) فيه جواز القضاء في حال الغضب ونفوذه وأن النهي للتنزيه لا للتحريم وقد سبقت المسألة في كتاب الاقضية قريبا واضحة قوله (صلى الله عليه وسلم) (هل أنتم تاركوا الى أمرائي) هكذا هو في بعض النسخ تاركوا
[ 65 ]
بغير نون وفي بعضها تاركون بالنون وهذا هو الأصل والأول صحيح أيضا وهي لغة معروفة وقد جاءت بها أحاديث كثيرة منها قوله (صلى الله عليه وسلم) لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا وقد سبق بيانه في كتاب الإيمان قوله (صلى الله عليه وسلم) في صفة الأمراء والرعية (فصفوه لكم يعني الرعية وكدره عليهم) يعني على الأمراء قال أهل اللغة الصفو هنا بفتح الصاد لا غير وهو الخالص فإذا ألحقوه الهاء فقالوا الصفوة كانت الصاد مضمومة ومفتوحة ومكسورة ثلاث لغات ومعنى الحديث أن الرعية يأخذون صفو الأمور فتصلهم أعطياتهم بغير نكد وتبتلي الولاة بمقاساة الأمور وجميع الأموال على وجوهها وصرفها في وجوهها وحفظ الرعية والشفقة عليهم والذب عنهم وإنصاف بعضهم من بعض ثم متى وقع علقة أو عتب في بعض ذلك توجه على الأمراء دون الناس قوله (غزوة مؤتة) هي بضم الميم ثم همزة ساكنة ويجوز ترك الهمز كما في نظائره وهي قرية معروفة في طرف الشام عند الكرك قوله (ورافقني مددي) يعني الرجل
[ 66 ]
من المدد والذين جاؤا يمدون جيش مؤتة ويساعدونهم قوله (فبينا نحن نتضحى) أي نتغذى مأخوذ من الضحاء بالمد وفتح الضاد وهو بعد امتداد النهار وفوق الضحى بالضم والقصر قوله (ثم انتزع طلقا من حقبة) أما الطلق فبفتح الطاء واللام وبالقاف وهو العقال من جلد وأما قوله من حقبه فهو بفتح الحاء والقاف وهو حبل الشد على حقو البعير قال القاضي لم يرو هذا الحرف إلا بفتح القاف قال وكان بعض شيوخنا يقول صوابه بإسكانها أي مما احتقب خلفه وجعلفي حقيبته وهي الرفادة في مؤخر القتب ووقع هذا الحرف في سنن أبي داود حقوه وفسره مؤخره قال القاضي والأشبه عندي أن يكون حقوه في هذه الرواية حجزته وحزامه والحقو معقد الإزار من الرجل وبه سمي الإزار حقوا ووقع في رواية السمرقندي رضي الله عنه في مسلم من جعبته بالجيم والعين فإن صح ولم يكن تصحيفا فله وجه بأن علقه بجعبة سهامه وأدخله فيها قوله (وفينا ضعفة ورقة) ضبطوه على وجهين الصحيح المشهور ورواية الأكثرين بفتح الضاد واسكان العين أي حالة ضعف وهزال قال القاضي وهذا الوجه هو الصواب والثاني بفتح العين جمع ضعيف وفي بعض النسخ وفينا ضعف بحذف الهاء قوله (خرج يشتد) أي يعدو وقوله (ثم أناخه فقعد عليه ثم أثاره) أي ركبه ثم بعثه قائما قوله (ناقة ورفاء) أي في لونها
[ 67 ]
سواد كالغبرة قوله (فاخترطت سيفى) أي سللته قوله (فضربت رأس الرجل فندر) هو بالنون أي سقط قوله (فاستقبلني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والناس معه فقال من قتل الرجل قالوا ابن الأكوع قال له سلبه أجمع) فيه استقبال السرايا والثناء على من فعل جميلا وفيه قتل الجاسوس الكافر الحربي وهو كذلك بإجماع المسلمين وفي رواية النسائي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان أمرهم بطلبه وقتله وأما الجاسوس المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي يصير ناقضا للعهد فإن رأى استرقاقه أرقه ويجوز قتله وقال جماهير العلماء لا ينتقض عهده بذلك قال أصحابنا إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك وأما الجاسوس المسلم فقال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وبعض المالكية وجماهير العلماء رحمهم الله تعالى يعزره الإمام بما يرى من ضرب وحبس ونحوهما ولا يجوز قتله وقال مالك رحمه الله تعالى يجتهد فيه الإمام ولم يفسر الاجتهاد وقال القاضي عياض رحمه الله قال كبار أصحابه يقتل قال واختلفوا في تركه بالتوبة قال الماجشون إن عرف بذلك قتل وإلا عزر وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وموافقيه أن القاتل يستحق السلب وأنه لا يخمس وقد سبق إيضاح هذا كله وفيه استحباب مجانسة الكلام إذ لم يكن فيه تكلف ولا فوات مصلحة والله أعلم با ب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى قوله (فلما كان بيننا وبين الماء ساعة) هكذا رواه جمهور رواة صحيح مسلم وفي رواية بعضهم
[ 68 ]
بيننا وبين الماء ساعة والصواب الأول قوله (أمرنا أبو بكر رضي الله عنه فعرسنا ثم شن الغارة) التعريس النزول آخر الليل وشن الغارة فرقها قوله (وانظر إلى عنق من الناس) أي جماعة قوله (فيهم الذراري) يعني النساء والصبيان قوله (وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم) هو بقاف ثم شين معجمة ساكنة ثم عين مهملة وفي القافل لغتان فتحها وكسرها وهما مشهورتان وفسره في الكتاب بالنطع وهو صحيح قوله (فنفلني أبو بكر رضي الله عنه ابنتها) فيه جواز التنفيل وقد يحتج به من يقول التنفيل من أصل الغنيمة وقد يجيب عنه الآخرون بأنه حسب قيمتها ليعوض أهل الخمس عن حصتهم قوله (وما كشفت لها ثوبا) فيه استحباب الكناية عن الوقاع بما يفهمه قوله (صلى الله عليه وسلم) (يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك فقلت هي لك يا رسول الله فبعث بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أهل مكة ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسروا بمكة) فيه جواز المفاداة وجواز فداء الرجال بالنساء الكافرات وفيه جواز التفريق
[ 69 ]
بين الأم وولدها البالغ ولا خلاف في جوازه عندنا وفيه جواز استيهاب الإمام أهل جيشه بعض ما غنموه ليفادى به مسلما أو يصرفه في مصالح المسلمين أو يتألف به من في تألفه مصلحة كما فعل (صلى الله عليه وسلم) هنا وفي غنائم حنين وفيه جواز قول الإنسان للآخر لله أبوك ولله درك وقد سبق تفسير معناه واضحا في أول الكتاب في كتاب الإيمان في حديث حذيفة في الفتنة التي تموج موج البحر باب حكم الفئ قوله (صلى الله عليه وسلم) (أيما قرية أتيتموها أقمتم فيها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله ثم هي لكم) قال القاضي يحتمل أن يكون المراد بالأولى الفئ الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب بل جلا عنه أهله أو صالحوا عليه فيكون سهمهم فيها أي حقهم من العطايا كما يصرف الفئ ويكون المراد بالثانية ما أخذ عنوة فيكون غنيمة يخرج منه الخمس وباقيه للغانمين وهو معنى قوله ثم هي لكم أي باقيها وقد يحتج من لم يوجب الخمس في الفئ بهذا الحديث وقد أوجب الشافعي الخمس في الفئ كما أوجبوه كلهم في الغنيمة وقال جميع العلماء سواه لا خمس في الفئ قال ابن المنذر لا نعلم أحدا قبل الشافعي قال بالخمس في الفئ والله أعلم قوله (حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد وأبو بكر بن أبي شيبة واسح ق بن إبراهيم حدثنا سفيان عن عمرو عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر ثم قال بعده وحدثنا يحيى بن
[ 70 ]
يحيى أخبرنا سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري بهذا الإسناد وهكذا هو في كثير من النسخ وأكثرها عن عمرو عن الزهري عن مالك بن أوس وكذا ذكره خلف الواسطي في الأطراف وغيره وهو الصواب وسقط في كثير من النسخ ذكر الزهري في الإسناد الأول فقال عن عمرو عن مالك بن أوس وهذا غلط من بعض الناقلين عن مسلم قطعا لأنه قد قال في الإسناد الثاني عن الزهري بهذا الإسناد فدل على أنه قد ذكره في الإسناد الأول فالصواب إثباته قوله (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكانت للنبي (صلى الله عليه وسلم) خاصة فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقى جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله) أما الكراع فهو الخيل وقوله ينفق على أهله نفقة سنة أي يعزل لهم نفقة سنة ولكنه كان ينفقه قبل انقضاء السنة في وجوه الخير فلا تتم عليه السنة ولهذا توفى (صلى الله عليه وسلم) ودرعه مرهونة على شعير استدانة لأهله ولم يشبع ثلاثة أيام تباعا وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بكثرة جوعه (صلى الله عليه وسلم) وجوع عياله وقوله كانت للنبي (صلى الله عليه وسلم) خاصة هذا يؤيد مذهب الجمهور أنه لا خمس في الفئ كما سبق وقد ذكرنا أن الشافعي أوجبه ومذهب الشافعي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان له من الفئ أربعة أخماسه وخمس خمس الباقي فكان له أحد وعشرون سهما من خمسة وعشرين والأربعة الباقية لذوي القربى و اليتامى والمساكين وابن السبيل ويتأول هذا الحديث على هذا فنقول قوله كانت أموال بني النضير أي معظمها وفي هذا الحديث جواز ادخار قوت سنة وجواز الادخار للعيال وأن هذا لا يقدح في التوكل وأجمع العلماء على جواز الادخار فيما يستغله الإنسان من قريته كما
[ 71 ]
جرى للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأما إذا أراد أن يشتري من السوق ويدخره لقوت عياله فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز بل يشتري مالا يضيق على المسلمين كقوت أيام أو شهر وإن كان في وقت سعة اشترى قوت سنة وأكثر هكذا نقل القاضي هذا التفصيل عن أكثر العلماء وعن قوم أباحته مطلقا وأما ما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فالإيجاف الإسراع قوله (فجئته حين تعالى النهار) أي ارتفع وهو بمعنى متع النهار بفتح المثناة فوق كما وقع في رواية البخاري قوله (فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله) هو بضم الراء وكسرها وهو ما ينسج من سعف النخل ونحوه ليضطجع عليه وقوله مفضيا إلى رماله يعني ليس بينه وبين رماله شئ وإنما قال هذا لأن العادة أن يكون فوق الرمال فراش أو غيره قوله (فقال لي يا مال) هكذا هو في جميع النسخ يا مال وهو ترخيم مالك بحذف الكاف ويجوز كسر اللام وضمها وجهان مشهوران لأهل العربية فمن كسرها تركها على ما كانت ومن ضمها جعله اسما مستقلا قوله (دف أهل أبيات من قومك) الدف المشي بسرعة كأنهم جاءوا مسرعين للضر الذي نزل بهم وقيل السير اليسير قوله (وقد أمرت فيهم برضخ) هو بإسكان الضاد وبالخاء المعجمتين وهي العطية القليلة قوله (فجاء يرفا) هو بفتح المثناة تحت وإسكان الراء بالفاء غير مهموز هكذا ذكره الجمهور ومنهم من همزه وفي سنن البيهقي في باب الفئ تسميه اليرفا بالألف واللام وهو حاجب
[ 72 ]
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله (اقض بيني وبين هذا الكاذب إلى آخره) قال جماعة من العلماء معناه هذا الكاذب إن لم ينصف فحذف الجواب وقال القاضي عياض قال المازري هذا اللفظ الذي وقع لا يليق ظاهره بالعباس وحاش لعلي أن يكون فيه بعض هذه الأوصاف فضلا عن كلها ولسنا نقطع بالعصمة إلا للنبي (صلى الله عليه وسلم) ولمن شهد له بها لكنا مأمورون بحسن الظن بالصحابة رضي الله عنهم أجمعين ونفى كل رذيلة عنهم وإذا انسدت طرق تأويلها نسبنا الكذب إلى رواتها قال وقد حمل هذا المعنى بعض الناس على أن أزال هذا اللفظ من نسخته تورعا عن إثبات مثل هذا ولعله حمل الوهم على رواته قال المازري وإذا كان هذا اللفظ لا بد من إثباته ولم نضف الوهم إلى رواته فأجود ما حمل عليه أنه صدر من العباس على جهة الا دلال على ابن أخيه لأنه بمنزلة ابنه وقال مالا يعتقده وما يعلم براءة ذمة ابن أخيه منه ولعله قصد بذلك ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن قصد وأن عليا كالا يراها إلا موجبة لذلك في اعتقاده وهذا كما يقول المالكي شارب النبيذ ناقص الدين والحنفي يعتقد أنه ليس بناقص فكل واحد محق في اعتقاده ولا بد من هذا التأويل لأن هذه القضية جرت في مجلس فيه عمر رضي الله عنه وهو الخليفة وعثمان وسعد وزبير وعبد الرحمن رضي الله عنهم ولم ينكر أحد منهم هذا الكلام مع تشددهم في إنكار المنكر وما ذلك إلا لأنهم فهموا بقرينة الحال أنه تكلم بما لا يعتقد ظاهره مبالغة في الزجر قال المازري وكذلك قول عمر رضي الله عنه انكما جئتما أبا بكر فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا وكذلك ذكر عن نفسه أنهما رأياه كذلك وتأويل هذا على نحو ما سبق وهو أن المراد أنكما تعتقدان أن الواجب أن نفعل في هذه القضية خلاف ما فعلته أنا وأبو بكر فنحن على مقتضى رأيكما لو أتينا ما أتينا ونحن معتقدان ما تعتقد انه لكنا بهذه الأوصاف أو يكون معناه أن الإمام إنما يخالف إذا كان على هذه الأوصاف
[ 73 ]
ويتهم في قضاياه فكان مخالفتكما لنا تشعر من رآها أنكم تعتقدان ذلك فينا والله أعلم قال المازري وأما الاعتذار عن علي والعباس رضي الله عنهما في أنهما ترددا إلى الخليفتين مع قوله (صلى الله عليه وسلم) لا نور ث ما تركناه فهو صدقة وتقرير عمر رضي الله عنه أنهما يعلمان ذلك فأمثل ما فيه ماقاله بعض العلماء أنهما طلبا أن يقسماها بينهما نصفين ينفقان بها على حسب ما ينفعهما الإمام بها لو وليها بنفسه فكره عمر أن يوقع عليها اسم القسمة لئلا يظن لذلك مع تطاول الأزمان أنها ميراث وأنهما ورثاه لا سيما وقسمة الميراث بين البنت والعم نصفان فيلتبس ذلك ويظن أنهم تملكوا ذلك ومما يؤيد ما قلناه ما قاله أبو داود أنه لما صارت الخلافة إلى علي رضي الله عنه لم يغيرها عن كونها صدقة وبنحو هذا احتج السفاح فإنه لما خطب أول خطبة قام بها قام إليه رجل معلق في عنقه المصحف فقال أنشدك الله إلا ما حكمت بيني وبين خصمي بهذا المصحف فقال من هو خصمك قال أبو بكر في منعه فدك قال أظلمك قال نعم قال فمن بعده قال عمر قال أظلمك قال نعم وقال في عثمان كذلك قال فعلى ظلمك فسكت الرجل فأغلظ له السفاح قال القاضي عياض وقد تأول قوم طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من أبيها علي أنها تأولت الحديث إن كان بلغها قوله (صلى الله عليه وسلم) لا نورث على الأموال التي لها بال فهي التي لا تورث لا ما يتركون من طعام وأثاث وسلاح وهذا التأويل خلاف ما ذهب إليه أبو بكر وعمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فليس معناه ارثهن منه بل لكونهن محبوسات عن الأزواج بسببه أو لعظم حقهن في بيت المال لفضلهن وقدم هجرتهن وكونهن أمهات المؤمنين وكذلك اختصصن بمساكنهن لم يرثها ورثتهن قال القاضي عياض وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث ثم ولى علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنه فدل على أن طلب علي والعباس إنما كان طلب تولي القيام بها بأنفسهما وقسمتها بينهما كما سبق قال وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر رضي الله عنه فمعناه انقباضها عن لقائه وليس هذا من الهجران المحرم الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء قوله في هذا الحديث (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه
[ 74 ]
ولا كلمته قال وأما قول عمر جئتماني تكلماني وكلمتكما في واحدة جئت يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك وجاءني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها فيه أشكال مع إعلام أبي بكر لهم قبل هذا الحديث وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لا نورث وجوابه أن كل واحد إنما طلب القيام وحده على ذلك ويحتج هذا بقربه بالعمومة وذلك بقرب امرأته بالبنوة وليس المراد أنهما طلبا ما علما منع النبي (صلى الله عليه وسلم) ومنعهما منه أبو بكر وبين لهما دليل المنع واحترفا له بذلك قال العلماء وفي هذا الحديث أنه ينبغي أن يولى أمر كل قبيلة سيدهم وتفوض إليه مصلحتهم لأنه أعرف بهم وأرفق بهم وأبعد من أن يأنفوا من الانقياد له ولهذا قال الله تعالى فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وفيه جواز نداء الرجل باسمه من غير كنية وفيه جواز احتجاب المتولي في وقت الحاجة لطعامه أو وضوئه أو نحو ذلك وفيه جواز قبول خبر الواحد وفيه استشهاد الإمام على ما يقوله بحضرة الخصمين العدول لتقوى حجته في إقامة الحق وقمع الخصم والله أعلم قوله (فقال عمر رضي الله عنه اتئدا) أي اصبرا وأمهلا قوله (أنشدكم بالله) أي أسألكم بالله مأخوذ من النشيد وهو رفع الصوت يقال أنشدتك ونشدتك بالله قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا نورث ما تركناه صدقة) هو برفع صدقة وما بمعنى الذي أي الذي تركناه فهو صدقة وقد ذكر مسلم بعد حديث يحيى بن يحيى عن مالك من حديث عائشة رفعته لا نورث ما تركناه فهو صدقة وإنما نبهت على هذا لأن بعض جهلة الشيعة يصحفه قال العلماء والحكمة في أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورثون أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك ولئلا يظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثهم فيهلك الظان وينفر الناس عنهم
[ 75 ]
قوله (أن الله كان خص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره قال الله تعالى ما أفاء الله على رسوله الآية) ذكر القاضي في معنى هذا احتمالين أحدهما تحليل الغنيمة له ولأمته والثاني تخصيصه بالفئ إما كله أو بعضه كما سبق من اختلاف العلماء قال وهذا الثاني
[ 77 ]
أظهر لاستشهاد عمر على هذا بالآية قوله (فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ستة أشهر) أما هجرانها فسبق تأويله وأما كونها عاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ستة أشهر فهو الصحيح المشهور وقيل ثمانية أشهر وقيل ثلاثة وقيل شهرين وقيل سبعين يوما فعلي الصحيح قالوا توفيت لثلاث مضين من شهر رمضان سنة إحدى عشرة قوله (إن عليا دفن فاطمة رضي الله عنها ليلا) فيه جواز الدفن ليلا وهو مجمع عليه لكن النهار أفضل إذا لم يكن عذر قوله (وكان لعلي من الناس وجهة حياة فاطمة رضي الله عنها فلما توفيت استنكر على وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته رضي الله عنهما ولم يكن بايع تلك الأشهر) أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة فقد ذكره علي في هذا الحديث واعتذر أبو بكر رضي الله عنه ومع هذا فتأخره ليس بقادح في البيعة ولا فيه أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له وأن لا يظهر خلافا ولا يشق لعصا وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته فإنه لم يظهر على أبي بكر خلافا ولا شق العصا ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر
[ 78 ]
المذكور في الحديث ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفا على حضوره فلم يجب عليه الحضور لذلك ولا لغيره فلما لم يجب لم يحضر وما نقل عنه قدح في البيعة ولا مخالفة ولكن بقى في نفسه عتب فتأخر حضوره إلى أن زال العتب وكان سبب العتب أنه مع وجاهته وفضيلته في نفسه في كل شئوقربه من النبي (صلى الله عليه وسلم) وغير ذلك رأى أنه لا يستبد بأمر إلا بمشورته وحضوره وكان عذابي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحا لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ولهذا أخروا دفن النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهم الأمور كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصلاة عليه أو غير ذلك وليس لهم من يفصل الأمور فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء والله أعلم قوله (فأرسل إلى أبي بكر رضي الله عنه أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد كراهية محضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر لأبي بكر رضي الله عنه والله لا تدخل عليهم وحدك) أما كراهتهم لمحضر عمر فلما علموا من شدته وصدعه بما يظهر له فخافوا أن ينتصر لأبي بكر رضي الله عنه فيتكلم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر وكانت قلوبهم قد طابت عليه وانشرحت له فخافوا أن يكون حضور عمر سببا لتغيرها وأما قول عمر لا تدخل عليهم وحدك فمعناه أنه خاف أن يغلظوا عليه في المعاتبة ويحملهم على الإكثار من ذلك لين أبي بكر وصبره عن الجواب عن نفسه وربما رأى من كلامهم ما غير قلبه فيترتب على ذلك مفسدة خاصة أو عامة وإذا حضر عمر امتنعوا من ذلك وأما كون عمر حلف أن لا يدخل عليهم أبو بكر وحده فحنثه أبو بكر ودخل وحده ففيه دليل على أن إبرار القسم إنما يؤمر به الإنسان إذا أمكن
[ 79 ]
احتماله بلا مشقة ولا تكون فيه مفسدة وعلى هذا يحمل الحديث بإبرار القسم قوله (ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك) هو بفتح الفاء يقال نفست عليه بكسر الفاء أنفس بفتحها نفاسة وهو قريب من معنى الحسد قوله (وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل ف يها عن الحق) معنى شجر الاختلاف والمنازعة وقوله لم آل أي لم أقصر قوله (فقال لأبي بكر موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقى على المنبر) هو بكسر القاف يقال رقى يرقى كعلم يعلم والعشي بحذف الهاء هو من زوال الشمس ومنه الحديث صلى إحدى صلاتي العشى أما الظهر وأما العصر وفي هذا الحديث بيان صحة خلافة أبي بكر وانعقاد الإجماع عليها
[ 81 ]
قوله (كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه) معناه ما يطرأ عليه من الحقوق الواجبة والمندوبة ويقال عروته واعتريته وعررته واعتررته إذا أتيته تطلب منه حاجة قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا تقسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة) قال العلماء هذا التقييد بالدينار هو من باب التنبيه على ما سواه كما قال الله تعالى يعمل مثقال ذرة خيرا يره وقال تعالى من أن تأمنه بدينار لا يؤده إليك قالوا وليس المرا بهذا اللفظ النهي لأنه إنما ينهى عما يمكن وقوعه وارثه (صلى الله عليه وسلم) غير ممكن وإنما هو بمعنى الأخبار ومعناه لا يقتسمون شيئا لأني لا أورث هذا هو الصحيح المشهور من مذاهب العلماء في معنى الحديث وبه قال جماهيرهم وحكى القاضي عن ابن علية وبعض أهل البصرة أنهم قالوا إنما لم يورث لأن الله تعالى خصه أن جعل ماله كله صدقة والصواب الأول وهو الذي يقتضيه سياق الحديث ثم أن جمهور العلماء على أن جميل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لا يورثون وحكى القاضي عن الحسن البصري أنه قال عدم الإرث بينهم مختص بنبينا (صلى الله عليه وسلم) لقوله تعالى عن زكريا ويرث من آل يعقوب وزعم أن المراد وراثة المال وقال ولو أراد وراثة النبوة لم يقل وإني خفت الموالي من ورائي إذ لا يخاف الموالي على النبوة ولقوله تعالى سليمان داود والصواب ما حكيناه عن الجمهور أن جميع الأنبياء لا يورثون والمراد بقصة زكريا وداود وراثة النبوة وليس المراد حقيقة الإرث بل قيامه مقامه وحلوله مكانه والله أعلم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (ومؤنة عاملي)
[ 82 ]
فقيل هو القائم على هذه الصدقات والناظر فيها وقيل كل عامل للمسلمين من خليفة وغيره لأنه عامل النبي (صلى الله عليه وسلم) ونائب عنه في أمته وأما مؤنة نسائه (صلى الله عليه وسلم) فسبق بيانها قريبا والله أعلم قال القاضي عياض رضي الله عنه في تفسير صدقات النبي (صلى الله عليه وسلم) المذكورة في هذه الأحاديث قال صارت إليه بثلاثة حقوق أحدها ما وهب له (صلى الله عليه وسلم) وذلك وصية مخيريق اليهودي له عند إسلامه يوم أحد وكانت سبع حوائط في بني النضير وما أعطاه الأنصار من أرضهم وهو مالا يبلغه الماء وكان هذا ملكا له (صلى الله عليه وسلم) الثاني حقه من الفئ من أر ض بني النضير حين أجلاهم كانت له خاصة لأنها لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب وأما منقولات بني النضير فحملوا منها ما حملته الإبل غير السلاح كما صالحهم ثم قسم (صلى الله عليه وسلم) الباقي بين المسلمين وكانت الأرض لنفسه ويخرجها في نوائب المسلمين وكذلك نصف أرض فدك صالح أهلها بعد فتح خيبر على نصف أرضها وكان خالصا له وكذلك ثلث أرض وادي القرى أخذه في الصلح حين صالح أهلها اليهود وكذلك حصنان من حصون خيبر وهما الوطيخ والسلالم أخذهما صلحا الثالث سهمه من خمس خيبر وما افتتح فيها عنوة فكانت هذه كلها ملكا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) خاصة لا حق فيها لأحد غيره لكنه (صلى الله عليه وسلم) كان لا يستأثر بها بل ينفقها على أهله والمسلمين وللمصالح العامة وكل هذه صدقات محرمات التملك بعده والله أعلم
[ 83 ]
باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين قوله (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قسم في النفل للفرس سهمين) هكذا هو في أكثر الروايات للفرس سهمين وللرجل سهما وفي بعضها للفرس سهمين وللراجل سهما بالألف في الراجل وفي بعضها للفارس سهمين والمراد بالنفل هنا الغنيمة وأطلق عليها اسم النفل لكونها تسمى نفلا لغة فإن النفل في اللغة الزيادة والعطية وهذه عطية من الله تعالى فإنها أحلت لهذه الأمة دون غيرها واختلف العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة فقال الجمهور يكون للراجل سهم واحد وللفارس ثلاثة أسهم سهمان بسبب فرسه وسهم بسبب نفسه ممن قال بهذا ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد واسحق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون وقال أبو حنيفة للفارس سهمان فقط سهم لها وسهم له قالوا ولم يقل بقوله هذا أحد إلا ماروى عن علي وأبي موسى وحجة الجمهور هذا الحديث وهو صريح على رواية من روى للفرس سهمين وللرجل سهما بغير ألف في الرجل وهي رواية الأكثرين ومن روى وللراجل روايته محتملة فيتعين حملها على موافقة الأولى جمعا بين الروايتين قال أصحابنا وغيرهم ويرفع هذا الاحتمال ما ورد مفسرا في غير هذه الرواية في حديث ابن عمر هذا من رواية أبي معاوية وعبد الله بن نمير وأبي أسامة وغيرهم بإسنادهم عنه ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه ومثله من رواية ابن عباس وأبي عمرة الأنصاري رضي الله عنه والله أعلم ولو حضر بأفراس لم يسهم إلا لفرس واحد هذا مذهب الجمهور منهم الحسن ومالك وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهم وقال الأوزاعي والثوري والليث وأبو يوسف رضي الله عنهم يسهم لفرسين ويروي مثله أيضا عن الحسن ومكحول ويحيى الأنصاري وابن وهب وغيره من المالكيين قالوا ولم يقل أحد أنه يسهم لأكثر من فرسين إلا شيئا روي عن سليمان بن موسى أنه يسهم والله أعلم
[ 84 ]
باب الإمداد بالملائكة في غزو بدر وإباحة الغنائم قوله (لما كان يوم بدر) أعلم أن بدرا هو موضوع الغزوة العظمى المشهورة وهو ماء معروف وقرية عامرة على نحو أربع مراحل من المدينة بينها وبين مكة قال ابن قتيبة بدر بئر كانت لرجل يسمى بدرا فسميت باسمه قال أبو اليقظان كانت لرجل من بني غفار وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة وروى الحافظ أبو القاسم بإسناده في تاريخ دمشق فيه ضعفاء أنها كانت يوم الاثنين قال الحافظ والمحفوظ أنها كانت يوم الجمعة وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أن يوم بدر كان يوما حارا قوله ( فاستقبل نبي الله (صلى الله عليه وسلم) القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه اللهم انجز لي ما وعدتني) أما يهتف فبفتح أوله وكسر التاء المثناة فوق بعد الهاء ومعناه يصيح ويستغيث بالله بالدعاء وفية استجاب استقبال القبلة في الدعاء ورفع اليدين فيه وأنة لا بأس برفع الصوت في الدعاء قوله (صلى الله عليه وسلم) (اللهم أنك أن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)
[ 85 ]
بطوة تهلك بفتح التاء وضمها فعلى الأول ترفع العصابة على أنها فاعل وعلى الثاني تنصب تكون مفعولة والعصابة الجماعة قوله (كذاك مناشدتك ربك) المناشدة السؤال مأخوذة النشيد وهو رفع الصوت هكذا وقع لجماهير رواة مسلم كذاك بالذال ولبعضهم كفاك بالفاء في رواية البخاري حسبك مناشدتك ربك وكل بمعنى وضبطوا مناشدتك بالرفع والنصب والأشهر قال القاضي من رفعه جعله فاعلا بكفاك ومن نصبه فعلى المفعول بما في حسبك كفاك وكذاك من معنى الفعل من الكف قال العلماء هذه المناشدة إنما فعلها النبي (صلى الله عليه وسلم) ليراه أصحابه بتلك الحال فتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه مع أن الدعاء عبادة وقد كان عده الله تعالى إحدى الطائفتين أما العير وأما الجيش وكانت العير قد ذهبت وفاتت فكان على ثقة من حصول الأخرى ولكن سأل تعجيل ذلك وتنجيزه من غير أذى يلحق المسلمين قوله تعالى ممدكم بألف من الملائكة مردفين أي معينكم والإمداد الإعانة ومردفين متتابعين وقيل غير ذلك قوله (أقدم حيزوم) هو بحاء مهملة مفتوحة ثم مثناه تحت ساكنة ثم زاي مضمومة ثم واو ثم ميم قال القاضي وقع في رواية العذري حيزون بالنون والصواب الأول وهو المعروف لسائر الرواة والمحفوظ وهو اسم فرس الملك وهو منادى بحذف حرف النداء أي يا حيزوم وأما أقدم فضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما ولم يذكر ابن دريد وكثيرون أو الأكثرون غيره أنه بهمزة قطع مفتوحة وبكسر الدال من الإقدام قالوا وهي كلمة زجر
[ 86 ]
للفرس معلومة في كلامهم والثاني بضم الدال وبهمزة وصل مضمومة من التقدم قوله (فإذا هو قد خطم أنفه) الخطم الأثر على الأنف وهو بالخاء المعجمة قوله (هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) يعني أشرافها الواحد صنديد بكسر الصاد والضمير في صناديدها يعود على أئمة الكفر أو مكة قوله (فهوى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما قال أبو بكر) هو بكسر الواو أي أحب ذلك واستحسنه يقال هوى الشئ بكسر الواو يهوى بفتحها هوى والهوى المحبة قوله (ولم يهو ما قلت) هكذا هو في بعض النسخ ولم يهو وفي كثير منها ولم يهوى بالياء وهي لغة قليلة بإثبات الباء مع الجازم ومنه قراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر بالياء ومنه قول الشاعر
[ 87 ]
ألم يأتيك والأنباء تنمى وقوله تعالى يثخن في الأرض أي يكثر القتل والقهر في العدو باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه قوله (فجاء رجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سوارى المسجد) أما أثال فبضم الهمزة وبثاء مثلثة وهو مصروف وفي هذا جواز ربط الأسير وحبسه وجواز إدخال المسجد الكافر ومذهب الشافعي جوازه بإذن مسلم سواء كان الكافر كتابيا أو غيره وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة ومالك لا يجوز وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يجوز لكتابي دون غيره ودليلنا على الجميع هذا الحديث وأما قوله تعالى المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام فهو خاص بالحرم ونحن نقول لا يجوز إدخاله الحرم والله أعلم قوله (أن تقتل تقتل ذا دم) اختلفوا في معناه
[ 88 ]
فقال القاضي عياض في المشارق وأشار إليه في شرح مسلم معناه أن تقتل تقتل صاحب دم لدمه موقع يشتفى بقتله قاتله ويدرك قاتله به ثأره أي لرياسته وفضيلته وحذف هذا لأنهم يفهمونه في عرفهم وقال آخرون معناه تقتل من عليه دم ومطلوب به وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله ورواه بعضهم في سنن أبي داود وغيره ذا ذم بالذال المعجمة وتشديد الميم أي ذا ذمام وحرمة في قومه ومن إذا عقد ذمة وفي بها قال القاضي هذه الرواية ضعيفة لأنها تقلب المعنى فإن من له حرمة لا يستوجب القتل قلت ويمكن تصحيحها على معنى التفسير الأول أي تقتل رجلا جليلا يحتفل قاتله بقتله بخلاف ما إذا قتل ضعيفا مهينا فإنه لا فضيلة في قتله ولا يدرك به قاتله ثأره قوله (صلى الله عليه وسلم) (أطلقوا ثمامة) فيه جواز المن على الأسير وهو مذهبنا ومذهب الجمهور قوله (فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل) قال أصحابنا إذا أراد الكافر الإسلام بادر به ولا يؤخره للاغتسال ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره بل يبادر به ثم يغتسل ومذهبنا أن اغتساله واجب إن كان عليه جنابة في الشرك سواء كان اغتسل منها أم لا وقال بعض أصحابنا إن كان اغتسل أجزأه وإلاوجب وقال بعض أصحابنا وبعض المالكية لا غسل عليه ويسقط حكم الجنابة بالإسلام كما تسقط الذنوب وضعفوا هذا بالوضوء فإنه يلزمه بالإجماع ولا يقال يسقط أثر الحدث بالإسلام هذا كله إذا كان أجنب في الكفر أما إذا لم يجنب أصلا ثم أسلم فالغسل مستحب له وليس بواجب هذا مذهبنا ومذهب مالك وآخرين وقال أحمد وآخرون يلزمه الغسل قوله (فانطلق إلى نخل قريب من المسجد) هكذا هو في البخاري ومسلم وغيرهما نخل بالخاء
[ 89 ]
المعجمة وتقديره انطلق إلى نخل فيه ماء فاغتسل منه قال القاضي قال بعضهم صوابه نجل بالجيم وهو الماء القليل المنبعث وقيل الجاري قلت بل الصواب الأول لأن الروايات صحت به ولم يرو إلا هكذا وهو صحيح ولا يجوز العدول عنه قوله (صلى الله عليه وسلم) (ما عندك يا ثمامة) وكرر ذلك ثلاثة أيام هذا من تأليف القلوب وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير قوله (وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأمره أن يعتمر) يعني بشره بما حصل له من الخير العظيم بالإسلام وأن الإسلام يهدم ما كان قبله وأما أمره بالعمرة فاستحباب لأن العمرة مستحبة في كل وقت لا سيما من هذه الشريف المطاع إذا أسلم وجاء مراغما لأهل مكة فطاف وسعى وأظهر إسلامه وأغاظهم بذلك والله أعلم قوله ( قال له قائل أصبوت) هكذا هو في الأصول أصبو ت وهي لغة والمشهور أصبأت بالهمز وعلى
[ 90 ]
الأول جاء قولهم الصباة كقاض وقضاة قوله في حديث ابن المثنى (إلا أنه قال أن تقتلني تقتل ذا دم) هكذا في النسخ المحققة أن تقتلني بالنون والياء في آخرها وفي بعضها بحذفها وهو فاسد لأنه يكون حينئذ مثل الأول فلا يصح استثناؤه باب إجلاء اليهود من الحجاز قوله (صلى الله عليه وسلم) (أسلموا تسلموا فقالوا قد بلغت يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك أر) معناه أريد أن تعترفوا أني بلغت وفي هذا الحديث استحباب تجنيس الكلام وهومن بديع الكلام وأنواع الفصاحة وأما أخراجه (صلى الله عليه وسلم) اليهود من المدينة فقد سبق بيانه واضحا في آخر كتاب الوصايا قوله (صلى الله عليه وسلم) (الأرض لله ورسوله) معناه ملكها والحكم فيها وإنما قال لهم هذا لأنهم حاربوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
[ 91 ]
كما ذكره ابن عمر في روايته التي ذكرها مسلم بعد هذه قوله (عن ابن عمر أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأجلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساؤهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين) في هذا أن المعاهد والذمي إذا نقض العهد صار حربيا وجرت عليه أحكام أهل الحرب وللإمام سبى من أراد منهم وله المن على من أراد وفيه أنه إذا من عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده وإنما ينفع المن فيما مضى لا فيما يستقبل وكانت قريظة في أمان ثم حاربوا النبي (صلى الله عليه وسلم) ونقضوا العهد وظاهروا قريشا على قتال النبي (صلى الله عليه وسلم) قال الله تعالى الذين ظاهروهم من أهل الكتا ب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا إلى آخر الآية الأخرى قوله (يهود بني قينقاع) هو بفتح القاف ويقال بضم النون وفتحها وكسرها ثلاث لغات مشهورات
[ 92 ]
باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن (على حكم حاكم عدل أهل للحكم) قوله (نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ) فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهماتهم العظام وقد أجمع العلماء عليه ولم يخالف فيه إلا الخوارج فإنهم أنكروا على علي التحكيم وأقام الحجة عليهم وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم أمين على هذا الأمر وعليه الحكم بما فيه مصلحة للمسلمين وإذا حكم بشئ لزم حكمه ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع عنه ولهم الرجوع قبل الحكم والله أعلم قوله (فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
[ 93 ]
إلى سعد فأتاه على حمار فلما دنا قريبا من المسجد) قال القاضي عياض قال بعضهم قوله دنا من المسجد كذا هو في البخاري ومسلم من رواية شعبة وأراه وهما إن كان أراد مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) لأن سعد بن معاذ جاء منه فإنه كان فيه كما صرح به في الرواية الثانية وإنما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) حين أرسل إلى سعد نازلا على بني قريظة ومن هناك أرسل إلى سعد ليأتيه فإن كان الراوي أراد مسجدا اختطه النبي (صلى الله عليه وسلم) هناك كان يصلي فيه مدة مقامه لم يكن وهما قال والصحيح ما جاء في غير صحيح مسلم قال فلما دنا من النبي (صلى الله عليه وسلم) أو فما طلع على النبي (صلى الله عليه وسلم) كذا وقع في كتاب ابن أبي شيبة وسنن أبي داود فيحتمل أن المسجد تصحيف من لفظ الراوي والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (قوموا إلى سيدكم أو خيركم) فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام قال القاضي وليس هذا من القيام المنهي عنه وإنما ذلك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويمثلون قياما طول جلوسه قلت القيام للقادم من أهل الفضل مستحب وقد جاء فيه أحاديث ولم يصح في النهي عنه شئ صريح وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء عليه في جزء وأجبت فيه عما توهم النهي عنه والله أعلم قال القاضي واختلفوا في الذين عناهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله قوموا إلى سيدكم هل هم الأنصار خاصة أم جميع من حضر من المهاجرين معهم قوله (صلى الله عليه وسلم) لسعد بن معاذ (أن هؤلاء نزلوا على حكمك) وفي الرواية الأخرى قال فنزلوا على حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الحكم فيهم إلى سعد قال القاضي يجمع بين الروايتين بأنهم نزلوا على حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فرضوا برد الحكم إلى سعد فنسب إليه قال والأشهر أن الأوس طلبوا من النبي (صلى الله عليه وسلم) العفو عنهم لأنهم كانوا حلفاءهم فقال لهم النبي (صلى الله عليه وسلم) أما ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم يعني من الأوس يرضيهم بذلك فرضوا به فرده إلى سعد بن معاذ الأوسي قوله (وسبى ذريتهم) سبق أن الذرية تطلق على النساء والصبيان معا قوله (صلى الله عليه وسلم) (لقد
[ 94 ]
حكمت بحكم الملك) الرواية المشهورة الملك بكسر اللام وهو الله سبحانه وتعالى وتؤيدها الروايات التي قالت فيها لقد حكمت فيهم بحكم الله قال القاضي رويناه في صحيح مسلم بكسر اللام بغير خلاف قال وضبطه بعضهم في صحيح البخاري بكسرها وفتحها فإن صح الفتح فالمراد به جبريل عليه السلام وتقديره بالحكم الذي جاء به الملك عن الله تعالى قوله (رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة) هو بعين مهملة مفتوحة ومكسورة ثم قاف قال القاضي قال أبو عبيد هي أمه قال ابن الكلبي اسم هذا الرجل حيان بكسر الحاء بن أبي قيس بن علقمة بن عبد مناف بن الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيض بن عامر بن لؤي بن غالب قال واسم العرقة قلابة بقاف مكسورة وباء موحدة بنت سعد بن سهل بن عبد مناف ابن الحارث وسميت بالعرقة لطيب ريحها وكنيتها أم فاطمة والله أعلم قوله (رماه في الأكحل) قال العلماء هو عرق معروف قال الخليل إذا قطع في اليد لم يرقأ الدم وهو عرق الحياة في كل عضو منه شعبة لها اسم قوله (فضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خيمة في المسجد)
[ 95 ]
فيه جواز النوم في المسجد وجواز مكث المريض فيه وإن كان جريحا قوله (أن سعدا تحجر كلمه للبرء) الكلم بفتح الكاف الجرح وتحجر أي يبس قوله (فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها) هذا ليس من تمنى الموت المنهي عنه لأن ذلك فيمن تمناه لضر نزل به وهذا إنما تمنى انفجارها ليكون شهيدا قوله (فانفجرت من لبته) هكذا هو في أكثر الأصول المعتمدة لبته بفتح اللام وبعدها باءموحدة مشددة مفتوحة وهي النحر وفي بعض الأصول من ليته بكسر اللام وبعدها ياء مثناة من تحت ساكنة والليت صفحة العنق وفي بعضها من ليلته قال القاضي قالوا وهو الصواب كما اتفقوا عليه في الرواية التي بعد هذه قوله
[ 96 ]
(فلم يرعهم) أي لم يفجأهم ويأتيهم بغتة قوله (فإذا سعد جرحه يغذ دما) هكذا هو في معظم الأصول المعتمدة يغذ بكسر الغين المعجمة وتشديد الذال المعجمة أيضا ونقله القاضي عن جمهور الرواة وفي بعضها يغذ بإسكان الغين وضم الذال المعجمة وكلاهما صحيح ومعناه يسيل يقال غذ الجرح يغذ إذا دام سيلانه وغذا يغذو سال كما قال في الرواية الأخرى فما زال يسيل حتى مات قوله في الشعر ألا يا سعد سعد بني معاذ فما فعلت قريظة والنضير هكذا هو في معظم النسخ وكذا حكاه القاضي عن المعظ وفي بعضها لما فعلت باللام بدل الفاء وقال وهو الصواب والمعروف في السير قوله (تركتم قدركم لا شئ فيها وقدر القوم حامية تفور هذا مثل لعدم الناصر وأراد بقوله تركتم قدركم الأوس لقلة حلفائهم فإن حلفاءهم قريظة وقد قتلوا وأراد بقوله وقدر القوم حامية تفور الخروج لشفاعتهم في حلفائهم بني قينقاع حتى من عليهم
[ 97 ]
النبي (صلى الله عليه وسلم) وتركهم بعبد الله بن أبي بن سلول وهو أبو حباب المذكور في البيت الآخر قوله (كما ثقلت بميطان الصخور) هو اسم جبل من أرض أجاز في ديار بني مزينة وهو بفتح الميم على المشهور وقال أبو عبيد البكري وجماعة هو بكسرها وبعدها ياء مثناة تحت وآخره نون هذا هو الصحيح المشهور ووقع في بعض نسخ مسلم بميطار بالراء قال القاضي وفي رواية ابن ماهان بحيطان بالحاء مكان الميم والصواب الأول قال وإنما قصد هذا الشاعر تحريض سعد على استبقاء بني قريظة حلفائه ويلومه على حكمه فيهم ويذكره بفعل عبد الله بن أبي ويمدحه بشفاعته في حلفائهم بني قينقاع باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين قوله (نادى فينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم انصرف عن الأحزاب أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة وقال آخرون لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإن فاتنا الوقت فما عنف واحدا من الفريقين) هكذا رواه مسلم لا يصلين أحد الظهر ورواه البخاري في باب صلاة الخوف من رواية ابن عمر
[ 98 ]
أيضا قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لنا لما رجع من الأحزاب لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق وقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي ولم يرد ذلك منا فذكر ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم يعنف واحدا منهم أما جميعهم بين الروايتين في كونها الظهر والعصر فمحمول على أن هذا الأمر كان بعد دخول وقت الظهر وقد صلى الظهر بالمدينة بعضهم دون بعض فقيل للذين لم يصلوا الظهر لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وللذين صلوا بالمدينة لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة ويحتمل أنه قيل للجميع ولا تصلوا العصر ولا الظهر إلا في بني قريظة ويحتمل أنه قيل للذين ذهبوا أولا لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وللذين ذهبوا بعدهم لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة والله أعلم وأما اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها وتأخيرها فسببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم بأن الصلاة مأمور بها في الوقت مع أن المفهوم من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يصلين أحد الظهر أو العصر إلا في بني قريظة المبادرة بالذهاب إليهم وأن لا يشتغل عنه بشئ لا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث أنه تأخير فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظرا إلى المعنى لا إلى اللفظ فصلوا حين خافوا فوت الوقت وأخذ آخرون بظاهر اللفظ وحقيقته فأخروها ولم يعنف النبي (صلى الله عليه وسلم) واحدا من الفريقين لأنهم مجتهدون ففيه دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى ولمن يقول بالظاهر أيضا وفيه أنه لا يعنف المجتهد فيما فعله باجتهاده إذا بذل وسعه في الاجتهاد وقد يستدل به على أن كل مجتهد مصيب وللقائل الآخر أن يقول لم يصرح بإصابة الطائفتين بل ترك تعنيفهم ولا خلاف في ترك تعنيف المجتهد وإن أخطأ إذا بذل وسعه في الاجتهاد والله أعلم باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر (حين استغنوا عنها بالفتوح) قوله (لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شئ وكان الأنصار أهل الأرض
[ 99 ]
والعقار فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤنة ثم ذكر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم قال العلماء لما قدم المهاجرون آثرهم الأنصار بمنائح من أشجارهم فمنهم من قبلها منيحة محضة ومنهم مقبلها بشرط أن يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة هذا لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلا وكان هذا مساقاة وفي معنى المساقاة فلما فتحت عليهم خيبر استغنى المهاجرون بأنصبائهم فيها عن تلك المنائح فردوها إلى الأنصار ففيه فضيلة ظاهرة للأنصار في مواساتهم وإيثارهم وما كانوا عليه من حب الإسلام واكرام أهله وأخلاقهم الجميلة ونفوسهم الطاهرة وقد شهد الله تعالى لهم بذلك فقال تعالى تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم الآية قوله (وكان الأنصار أهل الأرض والعقار) أراد بالعقار هنا النخل قال الزجاج العقار كل ماله أصل قال وقيل أن النخل خاصة يقال له العقار قوله (وكانت أعطت أم أنس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عذاقا لها) هو بكسر العين جمع عذق بفتحها وهي النخلة ككلب وكلاب وبئر وبئار قوله (فأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أم أيمن) هذا دليل لما قدمنا عن العلماء أنه لم يكن كل ما أعطت الأنصار على المساقاة بل كان فيه ما هو منيحة ومواساة
[ 100 ]
وهذا منه وهو محمول على أنها أعطته (صلى الله عليه وسلم) ثمارها يفعل فيها ما شاء من أكله بنفسه وعياله وضيفه وإيثاره بذلك لمن شاء فلهذا آثر بها أم أيمن ولو كانت إباحة له خاصة لما أباحها لغيره لأن المباح له بنفسه لا يجوز له أن يبيح ذلك الشئ لغيره بخلاف الموهوب له نفس رقبة الشئ فإنه يتصرف فيه كيف شاء قوله (رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم) هذا دليل على أنها كانت منائح ثمار أي إباحة للثمار لا تمليك لا رقاب النخل فإنها لو كانت هبة لرقبة النخل لم يرجعوا فيها فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز وإنما كانت إباحة كما ذكرنا والإباحة يجوز الرجوع فيها متى شاء ومع هذا لم يرجعوا فيها حتى اتسعت الحال على المهاجرين بفتح خيبر واستغنوا عنها فردوها على الأنصار فقبلوها وقد جاء في الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لهم ذلك قوله (قال ابن شهاب وكان من شأن أم أيمن أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة) هذا تصريح من ابن شهاب أن أم أيمن أم أسامة بن زيد حبشية وكذا قاله الواقدي وغيره ويؤيده ما ذكره بعض المؤرخين أنها كانت من سبي الحبشة أصحاب الفيل وقيل أنها لم تكن حبشية وإنما الحبشية امرأة أخرى واسم أم أيمن التي هي أم أسامة بركة كنيت بابنها أيمن بن عبيد الحبشي صحابي استشهد يوم خيبر قال الشافعي
[ 101 ]
وغيره وقد سبق ذكر قطعة من أحوال أم أيمن في باب القافة قوله في قصة أم أيمن أنها امتنعت من رد تلك المنائح حتى عوضها عشرة أمثاله إنما فعلت هذا لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤبدة وتمليكا لأصل الرقبة وأراد النبي (صلى الله عليه وسلم) استطابه قلبها في استرداد ذلك فما زال يزيدها في العوض حتى رضيت وكل هذا تبرع منه (صلى الله عليه وسلم) واكرام لها لما لها من حق الحضانة والتربية قوله (والله لا نعطيكاهن) هكذا هو في معظم النسخ نعطيكاهن بالألف ب عد الكاف وهو صحيح فكأنه أشبع فتحة الكاف فتولدت منها ألف وفي بعض النسخ والله ما نعطاكهن وفي بعضها لا نعطيكهن والله أعلم
[ 102 ]
باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب فيه حديث عبد الله بن مغفل (أنه أصاب جرابا من شحم يوم خيبر) وفي رواية قال رمى إلينا جراب فيه طعام وشحم أما الجراب فبكسر الجيم وفتحها لغتان الكسر أفصح وأشهر وهو وعاء من جلد وفي هذا إباحة أكل طعام الغنيمة في دار الحرب قال القاضي أجمع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب فيأكلون منه قدر حاجاتهم ويجوز بإذن الإمام وبغير إذنه ولم يشترط أحد من العلماء استئذانه إلا الزهري وجمهورهم على أنه لا يجوز أن يخرج معه منه شيئا إلى عمارة دار الإسلام فإن أخرجه لزمه رده إلى المغنم وقال الأوزاعي لا يلزمه وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع شئ منه في دار الحرب ولا غيرها فإن بيع منه شئ لغير الغانمين كان بدله غنيمته ويجوز أن يركب دوابهم ويلبس ثيابهم ويستعمل سلاحهم في حال الحرب بالإجماع ولا يفتقر إلى إذن الإمام وشرط الأوزاعي إذنه وخالف الباقين وفي هذا الحديث دليل لجواز أكل شحوم ذبائح اليهود وإن كانت شحومها محرمة عليهم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وجماهير العلماء قال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور لا كراهة فيها وقال مالك هي مكروهة وقال أشهب وابن القاسم المالكيان وبعض أصحاب أحمد هي محرمة وحكى هذا أيضا عن مالك واحتج الشافعي والجمهور بقوله تعالى الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال المفسرون المراد به الذبائح ولم يستثن منها شيئا لا لحما ولا شحما ولا غيره وفيه حل ذبائح أهل الكتاب وهو مجمع عليه ولم يخالف إلا الشيعة ومذهبنا ومذهب الجمهور إباحتها سواء سموا الله تعالى عليها أم لا وقال قوم لا يحل إلا أن يسموا الله تعالى فأما إذا ذبحوا على اسم المسيح أو كنيسة ونحوها فلا تحل تلك
[ 103 ]
الذبيحة عندنا وبه قال جماهير العلماء والله أعلم قوله (فالتفت فإذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاستحببت منه) بعني لما رآه من حرصه على أخذه أو لقوله لا أعطى اليوم أحدا من هذا شيئا والله أعلم باب كتب النبي (صلى الله عليه وسلم) (إلى هرقل ملك الشام يدعوه إلى الإسلام قوله (هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء واسكان القاف هذا هو المشهور ويقال هرقل بكسر الهاء واسكان الراء وكسر القاف حكاه الجوهري في صحاحه وهو اسم علم له ولقبه قصير وكذا كل من ملك الروم يقال له قصير قوله (عن أبسفيان انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) يعني الصلح يوم الحديبية وكانت الحديبية في أواخر سنة ست من الهجرة قوله (دحية الكلبي) هو بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان اختلف في الراجحة منهما وادعى ابن السكيت أنه بالكسر لا غير وأبو حاتم السجستاني أنه بالفتح لا غير قوله (عظيم
[ 104 ]
بصرى) هي بضم الباء وهي مدينة حوران ذات قلعة وأعمال قريبة من طرف البرية التي بين الشام والحجاز والمراد بعظيم بصرى أميرها قوله عن هرقل (أنه سأل أيهم أقرب نسبا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ليسأله عنه) قال العلماء إنما سأل قريب النسب لأنه أعلم بحاله وأبعد من أن يكذب في نسبه وغيره ثم أكد ذلك فقال لأصحابه أن كذبني فكذبوه أي لا تستحيوا منه فتسكتوا عن تكذيبه إن كذب قوله (وأجلسوا أصحابي خلفي) قال بعض العلماء إنما فعل ذلك ليكون عليهم أهون في تكذيبه أن كذب لأن مقابلته بالكذب في وجهه صعبة بخلاف ما إذا لم يستقبله قوله (دعا بترجمانه) هو بضم التاء وفتحها والفتح أفصح وهو المعبر عن لغة بلغة أخرى والتاء فيه أصلية وأنكروا على الجوهري كونه جعلها زائدة قوله (لولا مخافة أن يؤثر على الكذب لكذبت) معناه لولا خفت أن رفقتي ينقلون عني الكذب إلى قومي ويتحدثونه في بلادي لكذبت عليه لبغضي إياه ومحبتي نقصه وفي هذا بيان أن الكذب قبيح في الجاهلية كما هو قبيح في الإسلام ووقع في رواية البخاري لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه وهو بضم الثاء وكسرها قوله (كيف حسبه فيكم) أي نسبه قوله (فهل كان من آبائه ملك) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم ووقع في صحيح البخاري فهل كان في آبائه من مالك
[ 105 ]
وروى هذا اللفظ على وجهين أحدهما من بكسر الميم وملك بفتحها مع كسر اللام والثاني من بفتح الميم وملك بفتحها على أنه فعل ماض وكلاهما صحيح والأول أشهر وأصح وتؤيده رواية مسلم بحذف من قوله (ومن يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم) يعني بأشرافهم كبارهم وأهل الأحساب فيهم قوله (سخطة له) هو بفتح السين والسخط كراهة الشئ وعدم الرضى به قوله (يكون الحرب بيننا وبينه سجالا) هو بكسر السين أي نوبا نوبة لنا ونوبة له قالوا وأصله من المستقيين بالسجل وهي الدلو الملأى يكون لكل واحد منهما سجل قوله (فهل يغدر) هو بكسر الدال وهو ترك الوفاء بالعهد قوله ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها يعني مدة الهدنة والصلح الذي جرى يوم الحديبة قوله (وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها) يعني في أفضل أنسابهم وأشرفها قيل الحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له وأما قوله أن الضعفاء هم اتباع الرسل فلكون الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم والضعفاء لا يأنفون فيسرعون إلى الانقياد واتباع الحق وأما سؤاله عن الردة فلان من دخل على
[ 106 ]
بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه بخلاف من دخل في أباطيل وأما سؤاله عن الغدر فلان من طلب حظ الدنيا لا يبالي بالغدر وغيره مما يتوصل به إلى ذلك ومن طلب الآخرة لم يرتكب غدرا ولا غيره من القبائح قوله (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب) بعني انشراح الصدور وأصلها اللطف بالإنسان عند قدومه واظهار السرور برؤيته يقال بش به وتبشبش قوله وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة معناه يبتليهم الله بذلك ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم بذلهم وسعهم في طاعة الله تعالى قوله (قلت يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف) أما الصلة فصلة الأرحام وكل ما أمر الله به أن يوصل وذلك بالبر والاكرام وحسن المراعاة وأما العفاف الكف عن المحارم وخوارم المروءة قال صاحب المحكم العفة الكف عما لا يحل ولا يحمل يقال عف يعف عفة وعفافا وعفافة وتعفف واستعف ورجل عف وعفيف
[ 107 ]
والأنثى عفيفة وجمع العفيف أعفة وأعفاء قوله (إن يكن ما يقوله حقا أنه نبي) قال العلماء هذا الذي قاله هرقل أخذه من الكتب القديمة ففي التوراة هذا أو نحوه من علامات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعرفه بالعلامات وأما الدليل القاطع على النبوة فهو المعجزة الظاهرة الخارقة للعادة فهكذا قاله المازري والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه) هكذا هو في مسلم ووقع في البخاري لتجشمت لقاءه وهو أصح في المعنى ومعناه لتكلفت الوصول إليه وارتكبت المشقة في ذلك ولكن أخاف أن أقتطع دونه ولا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) وإنما شح في الملك ورغب في الرياسة فأثرها على الإسلام وقد جاء ذلك مصرحا به في صحيح البخاري ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة ونسأل الله توفيقه قوله (ثم دعا بكتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أو الآية في هذا الكتاب جمل من القواعد وأنواع من الفوائد 1 دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم وهذا الدعاء واجب والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب هذا مذهبنا وفيه خلاف للسلف سبق بيانه في أول كتاب الجهاد 2 وجوب العمل بخبر الواحد وإلا فلم يكن في بعثه مع دحية فائدة وهذا إجماع من يعتد به 3 استحباب تصدير الكتاب
[ 108 ]
بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافرا 4 أن قوله (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الآخر كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجزم المراد بالحمد لله ذكر الله تعالى وقد جاء في رواية بذكر الله تعالى وهذا الكتاب كان ذا بال بل من المهمات العظام وبدأ فيه بالبسملة دون الحمد 5 أنه يجوز أن يسافر إلى أرض العدو بالآية والآيتين ونحوهما وأن يبعث بذلك إلى الكفار وإنما نهى عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو أي بكله أو بجملة منه وذلك أيضا محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار 6 أنه يجوز للمحدث والكافر مس آية أو آيات يسيرة مع غير القرآن 7 أن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس أن يبدأ الكاتب بنفسه فيقول من زيد إلى عمرو وهذه مسألة مختلف فيها قال الإمام أبو جعفر في كتابة صناعة الكتاب قال أكثر العلماء يستحب أن يبدأ بنفسه كما ذكرنا ثم روى فيه أحاديث كثيرة وآثارا قال وهذا هو الصحيح عند أكثر العلماء لأنه إجماع الصحابة قال وسواء في هذا تصدير الكتاب والعنوان قال ورخص جماعة في أن يبدأ بالمكتوب إليه فيقول في التصدير والعنوان إلى فلان من فلان ثم روى باسناده أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية وعن محمد بن الحنفية وبكر بن عبد الله وأيوب السختياني أنه لا بأس بذلك قال وأما العنوان فالصواب أن يكتب عليه إلى فلان ولا يكتب لفلان لأنه إليه لا له إلا على مجاز قال هذا هو الصواب الذي عليه أكثر العلماء من الصحابة والتابعين 8 التوقي في المكاتبة واستعمال الورع فيها فلا يفرط ولا يفرط ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل عظيم الروم فلم يقل ملك الروم لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو ولاه من أذن له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشرط وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة ولم يقل إلى هرقل فقط بل أتى بنوع من الملاطفة فقال عظيم الروم أي الذي يعظمونه ويقدمونه وقد أمر الله تعالى بالانة القول لمن يدعى الى الإسلام فقال تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وقال تعالى فقولا له قولا لينا وغير ذلك 9 استحباب البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة فإن قوله (صلى الله عليه وسلم) أسلم تسلم في نهاية من الاختصار وغاية من الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني مع ما فيه من بديع التجنيس وشموله لسلامته من خزي الدنيا بالحرب والسبي والقتل وأخذ الديار والأموال ومن عذاب الآخرة
[ 109 ]
أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا (صلى الله عليه وسلم) فآمن به فله أجران كما صرح به هنا وفي الحديث الآخر في الصحيح ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين منهم رجل من أهل الكتاب الحديث 11 البيان الواضح أن من كان سببا لضلالة أو سبب منع من هداية كان آثما لقوله (صلى الله عليه وسلم) وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ومن هذا المعنى قول الله تعالى وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم 12 ومنها استحباب أما بعد في الخطب والمكاتبات وقد ترجم البخاري لهذه بابا في كتاب الجمعة ذكر فيه أحاديث كثيرة قوله (صلى الله عليه وسلم) (وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) هكذا وقع في هذه الرواية الأولى في مسلم الأريسيين وهو الأشهر في روايات الحديث وفي كتب أهل اللغة وعلى هذا اختلف في ضبطه على أوجه أحدها بياءين بعد السين والثاني بياء واحدة بعد السين وعلى هذين الوجهين الهمزة مفتوحة والراء مكسورة مخففة والثالث الأريسين بكسر الهمزة وتشديد الراء وبيان واحدة بعد السين ووقع في الرواية الثانية في مسلم وفي أول صحيح البخاري إثم اليريسيين بياء مفتوحة في أوله وبياءين بعد السين واختلفوا في المراد بهم على أقوال أصحها وأشهرها أنهم الأكارون أي الفلاحون والزراعون ومعناه أن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك ونبه بهؤلاء على جميع الرعايا لأنهم الأغلب ولأنهم أسرع انقيادا فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا وهذا القول هو الصحيح وقد جاء مصرحا به في رواية رويناها في كتاب دلائل النبوة للبيهقي وفي غيره فإن عليك إثم الأكارين وفي رواية ذكرها أبو عبيد في كتاب الأموال وإلا فلا يحل بين الفلاحين وبين الإسلام وفي رواية ابن وهب واتمهم عليك قال أبو عبيد ليس المراد بالفلاحين الزراعين خاصة بل المراد بهم جميع أهل مملكته الثاني أنهم اليهود والنصارى وهم أتباع عبد الله بن أريس الذي تنسب إليه الأروسية من النصارى ولهم مقالة في كتب المقالات ويقال لهم الأروسيون الثالث أنهم الملوك الذين
[ 110 ]
يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة ويأمرونهم بها قوله (صلى الله عليه وسلم) (أدعوك بدعاية الإسلام) وهو بكسر الدال أي بدعوته وهي كلمة التوحيد وقال في الرواية الأخرى التي ذكرها مسلم بعد هذا أدعوك بداعية الإسلام وهو بمعنى الأولى ومعناها الكلمة الداعية إلى الإسلام قال القاضي ويجوز أن تكون داعية هنا بمعنى دعوة كما في قوله تعالى لها من دون الله كاشفة أي كشف قوله (صلى الله عليه وسلم) (سلام على من اتبع الهدى) هذا دليل لمن يقول لا يبتدأ الكافر بالسلام وفي المسألة خلاف فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه وأكثر العلماء أنه لا يجوز للمسلم أن يبتدئ كافرا بالسلام وأجازه كثيرون من السلف وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك وستأتي في موضعها إن شاالله تعالى وجوزه آخرون لاستئلاف أو لحاجة إليه أو نحو ذلك قوله (وكثر اللغط) هو بفتح الغين واسكانها وهي الأصوات المختلفة قوله (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) أما أمر فبفتح الهمزة وكسر الميم أي عظم وأما قوله ابن أبي كبشة فقيل هو رجمن خزاعة كان يعبد الشعرى ولم يوافقه أحد من العرب في عبادتهم شبهوا النبي (صلى الله عليه وسلم) به لمخالفته إياهم في دينهم كما خالفهم أبو كبشة روينا عن الزبير بن بكار في كتاب الأنساب قال ليس مرادهم بذلك عيب النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما أرادوا بذلك مجرد التشبيه وقيل أن أبا كبشة جد النبي (صلى الله عليه وسلم) من قبل أمه قال ابن قتيبة وكثيرون وقيل هو أبوه من الرضاعة وهو الحارث بن عبد العزى السعدي حكاه ابن بطال وآخرون وقال القاضي عياض قال أبو الحسن الجرجاني التشابه إنما قالوا ابن أبي كبشة عداوة له (صلى الله عليه وسلم) فنسبوه إلى نسب له غير نسبه المشهور إذ لم يمكنهم الطعن في نسبه المعلوم المشهور قال وقد كان وهب بن عبد مناف بن زهرة جده أبو آمنة يكنى أبا كبشة وكذلك عمرو بن زيد بن أسد الأنصاري النجاري أبو سلمى أم عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة قال وكان في أجداده أيضا من قبل أمه أبو كبشة وهو أبو قبيلة أم وهب ابن عبد مناف أبو آمنة أم النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو خزاعي وهو الذي كان يعبد الشعري وكان أبوه من الرضاعة يدعى أبا كبشه وهو الحارث بن عبد العزى السعدي قال القاضي وقال مثل هذا كله محمد بن حبيب
[ 111 ]
البغدادي وزاد ابن ماكولا فقال وقيل أبو كبشة عم والد حليمة مرضعته (صلى الله عليه وسلم) قوله (أنه ليخافه ملك بني الأصفر) بنو الأصفر هم الروم قال ابن الأنباري سموا به لأن جيشا من الحبشة غلب على بلادهم في وقت فوطئ نساءهم فولدن أولادا صفرا من سواد الحبشة وبياض الروم وقال أبو اسحاق بن إبراهيم الحربي نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيصو بن اسحاق بن إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) قال القاضي هذا أشبه من قول ابن الأنباري قوله (مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله) أما حمص فغير مصروفة لأنها مؤنثة علم عجمية وأما إيلياء فهو بيت المقدس وفيه ثلاث لغات أشهرها إيلياء بكسر الهمزة واللام وإسكان الياء بينهما وبالمد والثانية كذلك إلا أنها بالقصر والثالثة الياء بحذف الياء الأولى واسكان اللام وبالمد حكاهن صاحب المطالع وآخرون وفي رواية لأبي يعلى الموصلي في سند ابن عباس الإيلياء بال ألف واللام قال صاحب المطالع قيل معناه بيت الله والله أعلم وأما قوله شكرا لما أبلاه الله فمعناه شكرا لما أنعم الله به عليه وأناله إياه ويستعمل ذلك في الخير والشر قال الله تعالى بالشر والخير فتنة والله أعلم
[ 112 ]
باب كتب النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ملوك الكفار (يدعوهم إلى الإسلام قوله (حدثني يوسف بن حماد المعنى) هو بكسر النون وتشديد الياء منسوب إلى معن وقال السمعاني هو من ولد معن بن زائدة قوله (حدثني يوسف بن حماد المعنى حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أنس قال مسلم وحدثنا محمد بن عبد الله الرازي حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعد بن قتادة حدثنا أنس قال مسلم حدثنيه نصر بن علي الجهضمي أخبرني خالد بن قيس عن قتادة عن أنس) هذه الأسانيد الثلاثة كلهم بصريون ومحمد بن عبد الله الرازي بصرى بغدادي ولا ينقض هذا ما ذكرته وفي الإسناد الثاني تصريح قتادة بالسماع من أنس فزال ما يخاف من لبسه لو اقتصر على الطريق الأول قوله ان النبي (صلى الله عليه وسلم) كتب إلى كسرى والى قيصر وإلى النجاشي وإلى كجبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي (صلى الله عليه وسلم)) أما كسرى فبفتح الكاف وكسرها وهو لقب لكل من ملك
[ 113 ]
من ملوك الفرس وقيصر لقب من ملك الروم والنجاشي لكل من ملك الحبشة وخاقان لكل من ملك الترك وفرعون لكل من ملك القبط والعزيز من ملك مصر وتبع لكل من ملك حمير وفي هذا الحديث جواز مكاتبة الكفار ودعاؤهم إلى الإسلام والعمل بالكتاب وبخبر الواحد والله أعلم باب غزوة حنين حنين واد بين مكة والطائف وراء عرفات بينه وبين بضعة عشر ميوهو مصروف كما جاء به القرآن العزيز قوله (قال ابن عباس شهدت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلم نفارقه) أبو سفيان هذا هو ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال جماعة من العلماء اسمه هو كنيته وقال آخرون اسمه المغيرة وممن قاله هشام بن الكلبي وإبراهيم بن المنذر والزبير بن بكار وغيرهم وفي هذا عطف الأقارب بعضهم على بعض عند الشدائد وذب بعضهم عن بعض قوله (ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن فناثه الجذامي) أما قوله بغلة بيضاء فكذا قال في هذه الرواية ورواية أخرى بعدها أنها بغلة بيضاء وقال في آخر الباب على بغلته الشهباء وهي واحدة [ قال العلماء لا يعرف له (صلى الله عليه وسلم) بغلة سواها وهي التي يقال لها دلدل ] وأما قوله أهداها له فروة بن نفاثة فهو بنون مضمومة ثم فاء مخففة ثم ألف ثم ثاء مثلثة وفي الرواية التي بعدها رواية اسحاق بن إبراهيم قال فروة بن نعامة بالعين والميم
[ 114 ]
والصحيح المعروف الأول قال القاضي واختلفوا في إسلامه فقال الطبري اسلم وعمر عمرا طويلا وقال غيرهم لم يسلم [ وفى صحيح البخاري أن الذي أهداها له ملك أيلة واسم ملك أيله فيما ذكره بن اسحاق يحنة بن روبة والله أعلم فإن قيل ففي هذا الحديث قبوله (صلى الله عليه وسلم) هدية الكافر وفي الحديث الآخر هدايا العمال غلول مع حديث ابن اللتبية عامل الصدقات وفي الحديث الآخر أنه رد بعض هدايا المشركين وقال إنا لا نقبل زبد المشركين أي رفدهم فكيف يجمع بين هذه الأحاديث قال القاضي رضي الله تعالى عنه قال بعض العلماء أن هذه الأحاديث ناسخة لقبول الهدية قال وقال الجمهور لا نسخ بل سبب القبول أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مخصوص بالفئ الحاصل بلا قتال بخلا ف غيره فقبل النبي (صلى الله عليه وسلم) ممن طمع في إسلامه وتأليفه لمصلحة يرجوها للمسلمين وكافأ بعضهم ورد هدية من لم يطمع في إسلامه ولم يكن في قبولها مصلحة لأن الهدية توجب المحبة والمودة وأما غير النبي (صلى الله عليه وسلم) من العمال والولاة فلا يحل له قبولها لنفسه عند جمهور العلماء فإن قبلها كانت فيئا للمسلمين فإنه لم يهدها إليه إلا لكونه إمامهم وإن كانت من قوم هو محاصرهم فهي غنيمة قال القاضي وهذا قول الأوزاعي ] ومحمد بن الحسن وابن القاسم وابن حبيب وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم وقال آخرون هي للإمام خالصة به قال أبو يوسف وأشهب وسحنون وقال الطبري إنما رد النبي (صلى الله عليه وسلم) من هدايا المشركين ما علم أنه أهدى له في خاصة نفسه وقيل ما كان خلافذلك مما فيه استئلاف المسلمين قال ولا يصح قول من ادعى النسخ قال وحكم الأئمة بعد إجراؤها مجرى مال الكفار من الفئ أو الغنيمة بحسب اختلاف الحال وهذا معنى هدايا العمال غلول أي إذا خصوا بها أنفسهم لأنها لجماعة المسلمين بحكم الفئ والغنيمة [ قال القاضي وقيل إنما قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية كالمقوقس وملوك الشام فلا معارضة بينه وبين قوله (صلى الله عليه وسلم) لا يقبل زبد المشركين وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم بخلاف المشركين عبدة الأوثان هذا آخر كلام القاضي عياض ] وقال أصحابنا متى أخذ القاضي أو العامل هدية محرمة لزمه ردها إلى مهديها فإن لم يعرفه وجب عليه أن يجعلها في بيت المال والله أعلم قوله (ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) على بغلة له بيضاء) [ قال العلماء ركوبه (صلى الله عليه وسلم) البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات
[ 115 ]
ولأنه أيضا يكون معتمدا يرجع المسلمون إليه وتطمئن قلوبهم به وبمكانه وإنما فعل هذا عمدا وإلا فقد كانت له (صلى الله عليه وسلم) أفراس معروفة ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته (صلى الله عليه وسلم) تقدمه يركض بغلته إلى جمع المشركين وقد فر الناس عنه وفي الرواية الأخرى أنه نزل إلى الأرض حين غشوه وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر وقيل فعل ذلك مواساة لمن كان نازلا على الأرض من المسلمين وقد أخبرت الصحابة رضي الله تعالى عنهم بشجاعته (صلى الله عليه وسلم) في جميع المواطن وفي صحيح مسلم قال إن الشجاع منا الذي يحاذي به وإنهم كانوا يتقون به قوله (صلى الله عليه وسلم) (أي عباس ناد أصحاب السمرة) هي الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان ومعناه ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية ] قوله (فقال عباس وكان رجلا صيتا) ذكر الحازمي في المؤتلف أن العباس رضي الله تعالى عنه كان يقف على سلع فينادي غلمانه في آخر الليل وهم في الغابة فيسمعهم قال ويين سلع والغابة ثمانية أميال قوله (فو الله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا يا لبيك يا لبيك) قال العلماء في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيدا وأنه لم يحصل الفرا من جميعهم وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا وإنما كانت هزيمتهم فجأة لانصبابهم عليهم دفعة واحدة ورشقهم بالسهام ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه وممن يتربص بالمسلمين الداوئر وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة فتقدم اخفاؤهم فلما رشقوهم بالنبل ولوا فانقلبت أولاهم على أخراهم إلى أن أنزل الله تعالى سكينته على المؤمنين كما ذكر
[ 116 ]
الله تعالى في القرآن قوله والكفار هكذا هو في النسخ وهو بنصب الكفار أي مع الكفار قوله (والدعوة في الأنصار) هي بفتح الدال يعني الاستغاثة والمناداة إليهم قوله (صلى الله عليه وسلم) (هذا حين حمى الوطيس) هو بفتح الواو وكسر الطاء المهملة وبالسين المهملة قال الأكثرون هو شبه التنور يسجر فيه ويضر ب مثلا لشدة الحرب التي يشبه حرها حره وقد قال آخرون الوطيس هو التنور نفسه وقال الأصمعي هي حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطأ عليها فيقال الآن حمى الوطيس وقيل هو الضرب في الحرب وقيل هو الحرب الذي يطيس الناس أي يدقهم قالوا وهذ اللفظة من فصيح الكلام وبديعه الذي لم يسمع من أحد قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) قوله (فرماهم بالحصيات ثم قال انهزموا ورب محمد فما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا) هذا فيه معجزتان ظاهرتان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحداهما فعلية والأخرى خبرية فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بهزيمتهم ورماهم بالحصيات فولوا مدبرين [ وذكر مسلم في الرواية الأخرى في آخر هذا الباب أنه (صلى الله عليه وسلم) قبض قبضة من تراب من الأرض ثم استقبل بها وجوههم فقال شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة وهذا أيضا فيه معجزتان خبرية وفعلية ويحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وقبضة من تراب فرمى بذامرة وبذامرة ويحتمل أنه أخذ قبضة واحدة
[ 117 ]
مخلوطة من حصى وتراب ] قوله (فما زلت أرى حدهم كليلا) هو بفتح الحاء المهملة أي ما زلت أرى قوتهم ضعيفة قوله (قال رجل للبراء يا أبا عمارة فررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم سلاح) [ هذا الجواب الذي أجاب به البراء رضي الله تعالى عنه من بديع الأدب لأن تقدير الكلام فررتم كلكم فيقتضي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وافقهم في ذلك ] فقال البراء لا والله ما فر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا وأما قوله شبان أصحابه فهو بالشين وآخره نون جمع شاب [ وقوله إخفاؤهم جمع خفيف وهم المسارعون المستعجلون ] ووقع هذا الحرف في رواية إبراهيم الحربي والهروي وغيرهم جفاء بجيم مضمومة
[ 118 ]
وبالمد وفسره بسرعانهم قالوا تشبيها بجفاء السيل وهو غثاؤه قال القاضي رضي الله تعالى عنه إن صحت هذه الرواية فمعناها ما سبق من خروج من خرج معهم من أهل مكة ومن انضاف إليهم ممن لم يستعدوا وإنما خرج للغنيمة من النساء والصبيان ومن في قلبه مرض فشبهه بغثاء السيل وأما قوله حسرا فهو بضم الحاء وتشديد السين المفتوحة أي بغير دروع وقد فسره بقوله ليس عليهم سلاح والحاسر من لا درع عليه قوله (فرشقوهم رشقا) هو بفتح الراء وهو مصدر وأما الرشق بالكسر فهو اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة وضبط القاضي الرواية هنا بالكسر وضبطه غيره بالفتح كما ذكرنا أولا وهو الأجود وإن كانا جيدين وأما قوله في الرواية التي بعد هذه فرموه برشق من نبل فهوبالكسر لا غير والله أعلم قال أهل اللغة يقال رشقه يرشقه وأرشقه ثلاثي ورباعي والثلاثي أشهر وأفصح [ قوله (فنزل واستنصر) أي دعا ففيه استحباب الدعاء عند قيام الحرب ] قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) قال القاضي عياض قال المازري أنكر بعض الناس كون الرجز شعرا لوقوعه من النبي (صلى الله عليه وسلم) مقوله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له وهذا مذهب الأخفش واحتج به على فسامذهب الخليل في أنه شعر ] وأجابوا عن هذا بأن الشعر هو ما قصد إليه واعتمد الإنسان أن يوقعه موزونا مقفى يقصده إلى القافية ويقع في ألفاظ العامة كثير من الألفاظ الموزونة ولا يقول أحد أنها شعر ولا صاحبها شاعر وهكذا الجواب عما في القرآن من الموزون كقوله تعالى تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وقوله تعالى من الله وفتح قريب شك أن هذا لا يسميه أحد من العرب شعرا لأنه لم تقصد تقفيته وجعله شعرا
[ 119 ]
قال وقد غفل بعض الناس عن هذا القول فأوقعه ذلك في أن قال الرواية أنا النبي لا كذب بفتح الباء حرصا منه على أن يفسد الروي فيستغني عن الاعتذار وإنما الرواية بإسكان الباء هذا كلام القاضي عن المازري قلت وقد قال الإمام أبو القاسم علي بن أبي جعفر بن علي السعدي الصقلي المعروف بابن القطاع في كتابه الشافي في علم القوافي قد رأي قوم منهم الأخفش وهو شيخ هذه الصناعة بعد الخليل أن مشطور الرجز ومنهوكه ليس بشعر كقول النبي (صلى الله عليه وسلم) مولانا ولا مولى لكم وقوله (صلى الله عليه وسلم) هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت وقوله (صلى الله عليه وسلم) أنا النبلا كذب أنا ابن عبد المطلب وأشباه هذا قال ابن القطاع وهذا الذي زعمه الأخفش وغيره غلط بين وذلك لأن الشاعر إنما سمى شاعرا لوجوه منها أنه شعر القول وقصده وأراده واهتدى إليه وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا ولا يكون قائله شاعرا بدليل أنه لو قال كلاما موزونا على طريقة العرب وقصد الشعر أو أراده ولم يقفه لم يسم ذلك الكلام شعرا ولا قائله شاعرا بإجماع العلماء والشعراء وكذا لو قفاه وقصد به الشعر ولكن لم يأت به موزونا لم يكن شعرا وكذا لو أتى به موزونا مقفى لكن لم يقصد به الشعر لا يكون شعرا ويدل عليه أن كثيرا من الناس يأتون بكلام موزون مقفى غير أنهم ما قصدوه ولا أرادوه ولا يسمى شعرا وإذا تفقد ذلك وجد كثيرا في كلام الناس كما قال بعض السؤال اختموا صلاتكم بالدعاء والصدقة وأمثال هذا كثيرة فدل على أن الكلام الموزون لا يكون شعرا إلا بالشروط المذكورة وهي القصد وغيره مما سبق والنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يقصد بكلامه ذلك الشعر ولا أراده فلا يعد شعرا وإن كان موزونا والله أعلم [ فإن قيل كيف قال النبي (صلى الله عليه وسلم) أنا ابن عبد المطلب فانتسب إلى جده دون أبيه وافتخر بذلك مع أن الافتخار في حق أكثر الناس من عمل الجاهلية فالجواب أنه (صلى الله عليه وسلم) كانت شهرته بجده أكثر لأن أباه عبد الله توفى شابا في حياة أبيه عبد المطلب قبل اشتهار عبد الله وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد أهل مكة وكان كثير من الناس يدعون النبي (صلى الله عليه وسلم) ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته ] ومنه حديث همام بن ثعلبة في قوله أيكم ابن عبد المطلب وقد كان مشتهرا عندهم أن عبد المطلب بشر بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه سيظهر وسيكون شأنه عظيما وكان قد أخبره بذلك سيف بن ذي يزن وقيل أن عبد المطلب رأى
[ 120 ]
رؤيا تدل على ظهور النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان ذلك مشهورا عندهم فأراد النبي (صلى الله عليه وسلم) تذكيرهم بذلك وتنبيههم بأنه (صلى الله عليه وسلم) لا بد من ظهوره على الأعداء وأن العاقبة له لتقوي نفوسهم وأعلمهم أيضا بأنه ثابت ملازم للحرب لم يول مع من ولى وعرفهم موضعه ليرجع إليه الراجعون والله أعلم ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) أنا النبي لا كذب أي أنا النبي حقا فلا أفر ولا أزول [ وفي هذا دليل على جواز قول الإنسان في الحرب أنا فلان وأنا ابن فلان ومثله قول سلمة أنا ابن الأكوع وقول علي رضي الله عنه أنا الذي سمتني أمي حيدره وأشباه ذلك وقد صرح بجوازه علماء السلف وفيه حديث صحيح قالوا وإنما يكره قول ذلك على وجه الافتخار كفعل الجاهلية والله أعلم ] قوله (حدثنا أحمد بن جناب المصيصي) هو بالجيم والنون والمصيصي بكسر الميم وتشديد الصاد الأولى هذا هو المشهور ويقال أيضا بفتح الميم وتخفيف الصاد قوله (فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد يعني كأنها قطعة من جراد وكأنها شبهت برجل الحيوان لكونها قطعة منه قوله (برشق) هو بكسر الراء وسبق بيانه قريبا قوله (فانكشفوا) أي انهزموا وفارقوا مواضعهم وكشفوها قوله (كنا والله إذا احمر البأس نتقى به وإن الشجاع منا للذي
[ 121 ]
يحاذي به) احمرار البأس كناية عن شدة الحرب واستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة فيها في العادة أو لاستعار الحرب واشتعالها كاحمرار الجمر كما في الرواية السابقة حمى الوطيس وفيه بيان شجاعته
[ 122 ]
(صلى الله عليه وسلم) وعظم وثوقه بالله تعالى قوله (عن سلمة بن الأكوع وأرجع منهزما إلى قوله مررت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهزما فقال لقد رجع ابن الأكوع فزعا) قال العلماء قوله منهزما حال من ابن الأكوع كما صرح أولا بانهزامه ولم يرد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) انهزم وقد قالت الصحابة كلهم رضي الله عنهم أنه (صلى الله عليه وسلم) ما انهزم ولم ينقل أحد قط أنه انهزم (صلى الله عليه وسلم) في موطن من المواطن وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه (صلى الله عليه وسلم) ولا يجوز ذلك عليه بل كان العباس وأبو سفيان ابن الحارث آخذين بلجام بغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو وقد صرح بذلك البراء في حديثه السابق والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (شاهت الوجوه) أي قبحت والله أعلم باب عزوة الطائف قوله (حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن أبي العباس الأعمى الشاعر عن عبد الله بن عمرو قال
[ 123 ]
حاصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أهل الطائف) هكذا هو في نسخ صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمرو بفتح العين وهو ابن عمرو بن العاص قال القاضي كذا هو في رواية الجلودي وأكثر أهل الأصول عن ابن ماهان قال وقال القاضي الشهيد أبو علي صوابه ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كذا ذكره البخاري وكذا صوبه الدارقطني وذكر ابن أبي شيبه الحديث في مسنده عن سفيان فقال عبد الله بن عمرو بن العاص ثم قال أن ابن عقبة حدث به مرة أخرى عن الله ابن عمر هذا ما ذكره القاضي عياض وقد ذكر خلف الواسطي هذا الحديث في كتاب الأطراف في مسند ابن عمر ثم في مسند ابن عمرو وأضافه في الموضعين إلى البخاري ومسلم جميعا وأنكروا هذا على خلف وذكره أبو مسعود الدمشقي في الأطراف عن ابن عمر بن الخطاب قال البخاري ومسلم وذكره الحميدى في الجمع بين الصحيحين في مسند ابن عمر ثم قال هكذا أخرجه البخاري ومسلم في كتب الأدب عن قتيبة وأخرجه هو ومسلم جميعا في المغازى عن ابن عمرو بن العاص قال والحديث من حديث ابن عيينة وقد اختلف فيه عليه فمنهم من رواه عنه هكذا ومنهم من رواه بالشك قال الحميدى قال أبو بكر البرقاني الأصح ابن عمر ابن الخطاب قال وكذا أخرجه ابن مسعود في مسند ابن عمر بن الخطاب قال الحميدى وليس لأبي العباس هذا في مسند ابن عمر بن الخطاب غير هذا الحديث المختلف فيه وقد ذكره النسائي في سننه في كتاب السير عن ابن عمرو بن العاص فقط قوله (حاصر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال إنا قافلون إن شاء الله قال أصحابه نرجع ولم نفتتحه فقال اغدوا على القتال فغدوا عليه فأصابهم جراح فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنا قافلون غدا فأعجبهم ذلك فضحك رسول الله
[ 124 ]
(صلى الله عليه وسلم)) [ معنى الحديث أنه (صلى الله عليه وسلم) قصد الشفقة على أصحابه والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره وشدة الكفار الذين فيه وتقويتهم بحصنهم مع أنه (صلى الله عليه وسلم) علم أو رجى أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة كما جرى فلما رأى حرص أصحابه على المقام والجهاد أقام وجد في القتال فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ماكان قصده أولا من الرفق بهم ففرحوا بذلك لما رأوا من المشقة الظاهرة ولعلهم نظروا فعلموا أن رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) أبرك وأنفع وأحمد عاقبة وأصوب من رأيهم فوافقوا على الرحيل وفرحوا فضحك النبي (صلى الله عليه وسلم) تعجبا من سرعة تغير رأيهم والله أعلم ] باب غزوة بدر قوله (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه فقام سعد بن عبادة فقا إيانا تريد يا رسول الله والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها لأخضناها) [ قا العلماء إنما قصد (صلى الله عليه وسلم) اختبار الأنصار لأنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده فلما عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم أنهم يوافقون على ذلك فأجابوه أحسن جواب بالموافق التامة في هذه المرة وغيرها وفيه استشارة الأصحاب وأهل الرأي والخبرة ] قوله أن نخيضها يعني الخيل وقوله برك الغماد أما برك فهو بفتح الباء واسكان الراء هذا هو المعروف المشهور في كتب الحديث وروايات المحدثين وكذا نقله القاضي
[ 125 ]
عن رواية المحدثين قال وقال بعض أهل اللغة صوابه كسر الراء قال وكذا قيده شيوخ أبي ذر في البخاري كذا ذكره القاضي في شرح مسلم وقال في المشارق هو بالفتح لأكثر الرواة قال ووقع للأصيلي والمستملي وأبي محمد الحموي بالكسر قلت وذكره جماعة من أهل اللغة بالكسر لا غير واتفق الجميع على أن الراء ساكنة إلا ما حكاه القاضي عن الأصيلي أنه ضبطه بإسكانها وفتحها وهذا غريب ضعيف وأما الغماد فبغين معجمة مكسورة ومضمومة لغتان مشهورتان لكن الكسر أفصح وهو المشهور في روايا ت المحدثين والضم هو المشهور في كتب اللغة وحكى صاحب المشارق والمطالع الوجهين عن ابن دريد وقال القاضي عياض في الشرح ضبطناه في الصحيحين بالكسر قال وحكى ابن دريد فيه الضم والكسر وقال الحازمي في كتابه المؤتلف والمختلف في أسماء الأماكن هو بكسر الغين ويقال بضمها قال وقد ضبطه ابن الفرات في أكثر المواضع بالضم لكن أكثر ما سمعته من المشايخ بالكسر قال وهو موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل وقيل بلدتان هذا هول الحازمي وقال القاضي وغيره هو موضع بأقاصي هجر وقال إبراهيم الحربي [ برك الغماد وسعفات هجر كناية يقال فيما تباعد ] قوله (ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم يصلي فلما رأى ذلك انصرف قال والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا
[ 126 ]
كذبكم) [ معنى انصرف سلم من صلاته ففيه استحباب تخفيفها إذا عرض أمر في أثنائها ] وهكذا وقع في النسخ تضربوه وتتركوه بغير نون وهي لغة سبق بيانها مرات أعنى حذف النون بغير ناصب ولا جازم [ وفيه جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له وإن كان أسيرا وفيه معجزتان من أعلام النبوة إحداهما إخباره (صلى الله عليه وسلم) بمصرع جبابرتهم فلم ينفذ أحد مصرعه الثانية إخباره (صلى الله عليه وسلم) بأن الغلام الذي كانوا يضربونه يصدق إذا تركوه ويكذب إذا ضربوه وكان كذلك في نفس الأمر والله أعلم ] قول (فماط أحدهم) أي تباعد باب فتح مكة قوله (فبعث الزبير على إحدى المجنبتين) هي بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون وهما الميمنة والميسرة ويكون القلب بينهما وبعث أبا عبيدة على [ الحسر ] هو بصم الحاء وتشديد السين المهملتين
[ 127 ]
[ أي الذين لا دروع عليهم ] قوله (فأخذوا بطن الوادي) أي جعلوا طريقهم في بطن الوادي قوله (صلى الله عليه وسلم) (اهتف لي بالأنصار) أي ادعهم لي قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (لا يأتيني إلا أنصاري) ثم قال فأطافوا إنما خصهم لثقته بهم ورفعا لمراتبهم وإظهارا لجلالتهم وخصوصيتهم ] قوله (ووبشت قريش أو باشا لها) أي جمعت جموعا من قبائل شتى وهو بالباء الموحدة المشددة والشين المعجمة قوله (فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا) أي لا يدفع أحد عن نفسه قوله (قال أبو سفيان أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم) كذا في هذه الرواية أبيحت وفي التي بعدها أبيدت وهما متقاربان أي استؤصلت قريش بالقتل وأفنيت وخضراؤهم بمعنى جماعتهم [ ويعبر عن الجماعة المجتمعة بالسواد والخضرة ومنه السواد الأعظم ] قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) استدل به الشافعي وموافقوه على أن دور مكة مملوكة يصح بيعها وإجارتها لأن أصل الإضافة إلى الآدميين تقتضي الملك وما سوى ذلك مجاز وفيه تأليف لأبي سفيان وإظهار لشرفه ]
[ 128 ]
قوله (فقالت الأنصار بعضهم لبعض أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته وذكر نزول الوحي فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يا معشر الأنصار قالوا لبيك يا رسول الله قال قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته قالوا قد كان ذلك قال كلا إني عبد الله ورسولها اجرت إلى الله وإليكم المحيا محياكم والممات مماتكم فأقبلوا إليه يبكون ويقولون والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم) معنى هذه الجملة أنهم رأوا رأفة النبي (صلى الله عليه وسلم) بأهل مكة وكف القتل عنهم فظنوا أنه يرجع إلى سكنى مكة والمقام فيها دائما ويرحل عنهم ويهجر المدينة فشق ذلك عليهم وأوحى الله تعالى إليه (صلى الله عليه وسلم) فأعلمهم بذلكفقال لهم (صلى الله عليه وسلم) قلتم كذا وكذا قالوا نعم قد قلنا هذا فهذه معجزة من معجزات النبوة فقال كلا إني عبد الله ورسوله معنى كلا هنا حقا ولها معنيان أحدهما حقا والآخر النفي وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (إني عبد الله ورسوله) فيحتمل وجهين أحدهما إني رسول الله حقا فيأتيني الوحي وأخبر بالمغيبات كهذه القضية وشبهها فثقوا بما أقول لكم وأخبركم به في جميع الأحوال والآخر لا تفتتنوا بإخباري إياكم بالمغيبا ت وتطروني كما أطرت النصارى عيسى صلوات الله عليه فإني عبد الله ورسوله ] وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (هاجرت إلى الله وإليكم المحيا محياكم والممات
[ 129 ]
مماتكم) فمعناه أني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها فلا أتركها ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى بل أنا ملازم لكم المحيا محياكم والممات مماتكم أي لا أحيى إلا عندكم ولا أموت إلا عندكم وهذا أيضا من المعجزات فلما قال لهم هذا بكوا واعتذروا وقالوا والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حرصا عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا لنستفيد منك ونتبرك بك وتهدينا الصراط المستقيم كما قال الله تعالى لتهدي إلى صراط مستقيم وهذا معنى قولهم ما قلنا الذي قلنا إلا الظن بك هو بكسر الضاد أي شحا بك أن تفارقنا ويختص بك غيرنا وكان بكاؤهم فرحا بما قال لهم وحياء مما خافوا أن يكون بلغه عنهم مما يستحيى منه [ قوله (فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى أقبل إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت) فيه الابتداء بالطواف في أول دخول مكة سواء كان محرما بحج أو عمرة أو غير محرم وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) دخلها في هذا اليوم وهو يوم الفتح غير محرم بإجماع المسلمين وكان على رأسه المغفره والأحاديث متظاهرة على ذلك والإجماع منعقد عليه ] وأما قول القاضي عياض رضي الله عنه أجمع العلماء على تخصيص النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك ولم يختلفوا في أن من دخلها بعده لحرب أو بغى أنه لا يحل له دخولها حلالا فليس كما نقل بل مذهب الشافعي وأصحابه وآخرين أنه يجوز دخولها حلالا للمحارب بلا خلاف وكذا لمن يخاف من ظالم لو ظهر للطواف وغيره وأما من لا عذر له أصلا فللشافعي رضي الله عنه فيه قولان مشهوران أصحهما أنه لا يجوز له دخولها بغير إحرام لكن يستحب له الإحرام والثاني لا يجوز وقد سبقت المسألة في أول كتبا الحج قوله (فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه فجعل يطعنه بسية قوسه) [ السية ] بكسر السين وتخفيف الياء
[ 130 ]
[ المفتوحة المنعطف من طرفي القوس ] وقوله يطعن بضم العين على المشهور ويجوز فتحها في لغة [ وهذا الفعل إذلال للأصنام ولعابديها وإظهار لكونها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن نفسها ] كما قال الله تعالى يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه قوله (جعل يطعن في عينه ويقول جاء الحق وزهق الباطل) وقال في الرواية التي بعد هذه وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا فجعل يطعنها بعود كان في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد النصب الصنم وفي هذا استحباب قراءة هاتين الآيتين عند إزالة المنكر ] قوله [ (ثم قال بيديه أحداهما على الأخرى احصدوهم حصدا) هو بضم الصاد وكسرها وقد استدل بهذا من يقول أن مكة فتحت ت عنوة وقد اختلف العلماء فيها ] فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء وأهل السير فتحت عنوة وقال الشافعي فتحت صلحا وادعى المازري أن الشافعي انفرد بهذا القول واحتج الجمهور بهذا الحديث وبقوله أبيدت خضراء قريش قالوا وقال (صلى الله عليه وسلم) من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فلو كانوا كلهم آمنين لم يحتج إلى هذا وبحديث أم هانئ رضي الله عنها حين أجارت رجلين أراد علي رضي الله عنه قتلهما فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) قد أجرنا من أجرت فكيف يدخلها صلحا ويخفى ذلك على علي رضي الله عنه حتى يريد قتل رجلين دخلا في الأمان وكيف يحتاج إلى أمان أم هانئ بعد الصلح واحتج الشافعي بالأحاديث المشهورة أنه (صلى الله عليه وسلم) صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) احصدوهم وقتل خالد من قتل فهو محمول على من أظهر من كفار مكة قتالا وأما أمان من دخل دار أبي سفيان ومن ألقى سلاحه وأمان أم هانئ فكله محمول
[ 131 ]
على زيادة الاحتياط لهم بالأمان وأما هم علي رضي الله عنه بقتل الرجلين فلعله تأول منهما شيئا أو جرى منهما قتال أو نحو ذلك وأما قوله في الرواية الأخرى فما أشرف أحد يومئذ لهم إلا أناموه فمحمول على من أشرف مظهرا للقتال والله أعلم ] قوله (قلنا ذاك يا رسول الله قال فما اسمي إذا كلا إني عبد الله ورسوله) قال القاضي يحتمل هذا وجهين أحدهما أنه أراد (صلى الله عليه وسلم) أني نبي لإعلام إياكم بما تحدثتم به سرا والثاني لو فعلت هذا الذي خفتم منه وفارقتكم رجعت إلى استيطان مكة لكنت ناقضا لعهدكم في ملازمتكم ولكان هذا غير مطابق لما اشتق منه اسمي وهو الحمد فإني كنت أوصف حينئذ بغير الحمد [ قوله (وفدنا إلى معاوية رضي الله عنه وفينا أبو هريرة فكان كل رجل منا بصنع طعاما يوما لأصحابه فكانت نوبتي) فيه دليل على استحباب اشتراك المسافرين في الأكل واستعمالهم مكارم الأخلاق وليس هذا من باب المعارضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام وأن لا يأكل بعضهم أثر من بعض بل هو من باب المروءات ومكارم الأخلاق وهو بعنى الاباحة فيجوزوأن تفاضل الطعام واختلفت أنواعه ويجوز وإن أكل بعضهم أكثر من بعض لكن يستحب أن يكون شأنهم إيثار بعضهم بعضا ] [ قوله (فجاؤا إلى المنزل ولم يدرك طعامنا فقلت يا أبا هريرة لو حدثتنا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى يدرك طعامنا فقال كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح إلى آخره) فيه استحباب الاجتماع على الطعام وجواز
[ 132 ]
دعائهم إليه قبل ادراكه واستحباب حديثهم في حال الاجتماع بما فيه بيان أحوال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وغزواتهم ونحوها مما تنشط النفوس لسماعه وكذلك غيرها من الحروب ونحوها مما لا إثم فيه ولا يتولد منه في العادة ضر في دين ولا دنيا ولا أذى لأحد لتنقطع بذلك مدة الانتظار ولا يضجروا ولئلا يشتغل بعضهم مع بعض في غيبة أو نحوها من الكلام المذموم وفيه أنه يستحب إذا كان في الجمع مشهور بالفضل أو بالصلاح أن يطلب منه الحديث فإن لم يطلبوا استحب له الابتداء بالحديث كما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يبتديهم بالتحديث من غير طلب منهم ] قوله (وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي) [ البياذقة ] بباء موحدة ثم مثناة تحت وبذال معجمة وقاف [ وهم الرجالة قالوا وهو فارسي معرب وأصله بالفارسية أصحاب ركاب الملك ومن يتصرف في أموره قيل سموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم ] هكذا الرواية في هذا الحرف هنا وفي غير مسلم أيضا قال القاضي هكذا روايتنا فيه قال ووقع في بعض الروايات الساقة وهم الذين يكونون آخر العسكر وقد يجمع بينه وبين البياذقة بأنهم رجالة وساقة ورواه عضهم الشارفة وفسروه بالذين يشرفون على مكة قال القاضي وهذا ليس بشئ لأنهم أخذوا في بطن الوادي والبياذقة هنا هم الحسر في الرواية السابقة وهم رجالة لا دروع عليهم قوله (وقال موعدكم الصفا) يعني قال هذا لخالد ومن معه الذين أخذوا أسفل من بطن الوادي وأخذ هو (صلى الله عليه وسلم) ومن معه أعلى مكة قوله [ (فما أشرف لهم أحد إلا أناموه) أي ما ظهر لهم أحد إلا قتلوه ] فوقع إلى الأرض أو يكون بمعنى أسكنوه بالقتل كالنائم يقال نامت الريح إذا سكنت وضربه
[ 133 ]
حتى سكن أي مات ونامت الشاة وغيرها ماتت قال الفراء النائمة الميتة هكذا تأول هذه اللفظة
[ 134 ]
القائلون بأن مكة فتحت عنوة ومن قال فتحت صلحا يقول أناموه ألقوه إلى الأرض من غير قتل إلا من قاتل والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (لا يقتل قرشي صبرا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة) قال العلماء معناه الاعلام بأن قريشا يسلمون كلهم ولا يرتد أحد منهم كما ارتد غيرهم بعده (صلى الله عليه وسلم) ممن حورب وقتل صبرا وليس المراد أنهم لا يقتلون ظلما صبرا فقد جرى على قريش بعد ذلك ما هو معلوم ] والله أعلم [ قوله (ولم يكن أسلم من عصاة قريش غير مطيع كان اسمه العاصي فسماه النبي (صلى الله عليه وسلم) مطيعا) قال القاضي عياض عصاة هنا جمع العاص من أسماء الأعلام لا من الصفات أي ما أسلم ممن كان اسمه العاص مثل العا ص بن وائل السهمي والعاص بن هشام أبو البختري والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية والعاص بن هشام بن المغيرة المخزومي والعاص بن منبه بن الحجاج وغيرهم سوى العاص بن الأسود العذري فغير النبي (صلى الله عليه وسلم) اسمه فسماه مطيعا وإلا فقد أسلمت عصاة قريش وعتاتهم كلهم بحمد الله تعالى ] ولكنه ترك أبا جندل بن سهيل بن عمرو وهو ممن أسلم واسمه أيضا العاص فإذا صح هذا فيحتمل أن هذا لما غلبت عليه كنيته وجهل اسمه لم يعرفه المخبر باسمه فلم يستثنه كما استثنى مطيع بن الأسود والله أعلم
[ 135 ]
باب صلح الحديبية في الحديبية والجعرانة لغتان التخفيف وهو الأفصح والتشديد وسبق بيانهما في كتاب الحج قوله (هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله) وفي الرواية الأخرى هذا ما قاضى عليه محمد قال العلماء معنى قاضى هنا فاصل وأمضى أمره عليه ومنه قضى القاضي أي فصل الحكم وأمضاه ولهذا سميت تلك السنة عام المقاضاة وعمرة القضية وعمرة القضاء كله من هذا وغلطوا من قال أنها سميت عمرة القضاء لقضاء العمرة التي صدعنها لأنه لا يجب قضاء المصدود عنها إذا تحلل بالاحصار كما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في ذلك العام [ وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز أن يكتب في أول الوثائق وكتب الأملاك والصداق والعتق والوقف والوصية ونحوها هذا ما اشترى فلان أو هذا ما أصدق أو وقف أو أعتق ونحوه وهذا هو الصواب الذي عليه الجمهور من العلماء وعليه عمل المسلمين في جميع الأزمان وجميع البلدان من غير انكار قال القاضي عياض رضي الله عنه وفيه دليل على أنه يكتفي في ذلك بالاسم الشهور من غير زيادة خلافا لمن قال لابد من أربعة المذكور وأبيه وجده ونسبه وفيه أن للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي وفيه احتمال المفسدة اليسيرة لدفع أعظم منها أو لتحصيل مصلحة أعظم منها إذا لم يمكن ذلك إلا بذلك ] قوله [ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لعلي امحه فقال ما أنا بالذي أمحاه ] هكذا هو في جميع النسخ بالذي أمحاه وهي لغة في أمحوه [ وهذا الذي فعله علي رضي الله عنه من باب الأدب المستحب ] لأنه ليفهم من النبي (صلى الله عليه وسلم) تحتيم محو علي بنفسه ولهذا لم ينكر
[ 136 ]
ولو حتم محوه بنفسه لم يجز لعلي تركه ولما أقره النبي (صلى الله عليه وسلم) على المخالفة قوله (ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح) قال أبو اسحاق السبيعي [ جلبان السلاح هو القراب وما فيه ] والجلبان بضم الجيم قال القاضي في المشارق ضبطناه جلبان بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة قال وكذا رواه الأكثرون وصوبه ابن قتيبة وغيره ورواه بعضهم باسكان اللام وكذا ذكره الهروي وصوبه هو وثابت ولم يذكر ثابت سواه [ وهو ألطف من الجراب يكون من الأدم يوضع فيه السيف مغمدا ويطرح في الراكب سوطه وأداته ويعلقه في الرحل قال العلماء وإنما شرطوا هذا لوجهين أحدهما أن لا يظهر منه دخول الغالبين القاهرين والثاني أنه إن عرض فتنة أو نحوها يكون في الاستعداد بالسلاح صعوبة قوله (اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثا) قال العلماء سبب هذا التقدير أن المهاجر من مكة لا يجوز له أن يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام وهذا أصل في أن الثلاثة ليس لها حكم الإقامة وأما ما فوقها فله حكم الإقامة وقد رتب الفقها على هذا قصر الصلاة فيمن نوى إقامة في بلد في طريقه وقاسوا على هذا الأصل مسائل كثيرة ] قوله (لما أحصر النبي (صلى الله عليه وسلم) عند البيت) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا
[ 137 ]
أحصر عند البيت وكذا نقله القاضي عن رواية جميع الرواة سوى ابن الحذاء فإن في روايته عن البيت وهو الوجه وأما أحصر وحصر فسبق بيانهما في كتاب الحج قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها وكتب ابن عبد الله) قال القاضي عياض رضي الله تعالى عنه احتج بهذا اللفظ بعض الناس على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كتب ذلك بيده على ظاهر هذا اللفظ وقد ذكر البخاري نحوه من رواية اسرائيل عن أبي اسحاق وقال فيه أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الكتاب فكتب وزاد عنه في طريق آخر ولا يحسن أن يكتب فكتب قال أصحاب هذا المذهب ان الله تعالى أجرى ذلك على يده إما بأن كتب ذلك القلم بيده وهو غير عالم بما يكتب أو أن الله تعالى علمه ذلك حينئذ حتى كتب وجعل هذا زيادة في معجزته فإنه كان أميا فكما علمه ما لم يعلم من العلم وجعله يقرأ ما لم يقرأ ويتلو ما لم يكن يتلو كذلك علمه أن يكتب ما لم يكن يكتب وخط ما لم يكن يخط بعد النبوة أو أجرى ذلك على يده قالوا وهذا لا يقدح في وصفه بالأمية واحتجوا بآثار جاءت في هذا عن الشعبي وبعض السلف وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يمت حتى كتب ] قال القاضي والي جواز هذا ذهب الباجي وحكاه عن السمناني وأبي ذر وغيره [ وذهب الأكثرون إلى منع هذا كله قالوا وهذا الذي زعمه الذاهبون إلا القول الأول يبطله وصف الله تعالى إياه بالنبي الأمي (صلى الله عليه وسلم) وقوله تعالى كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك وقوله (صلى الله عليه وسلم) إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب قالوا وقوله في هذا الحديث كتب معناه أمر بالكتابة كما يقال رجم ماعزا وقطع السارق وجلد الشارب أي أمر بذلك واحتجوا
[ 138 ]
بالرواية الأخرى فقال لعلي رضي الله تعالى عنه اكتب محمد بن عبد الله قال القاضي وأجاب الأولون عن قوله تعالى أنه لم يتل ولم يخط أي من قبل تعليمه كما قال الله تعالى من قبله فكما جاز أن يتلوا جاز أن يكتب ولا يقدح هذا في كونه أميا إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميا فإن المعجزة حاصلة بكونه (صلى الله عليه وسلم) كان أولا كذلك ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون قال القاضي وهذا الذي قالوه ظاهر قال وقوله في الرواية التي ذكرناها ولا يحسن أن يكتب فكتب كالنص أنه كتب بنفسه قال والعدول إلى غيره مجاز ولا ضرورة إليه قال وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا والله أعلم ] قوله (فلما كان يوم الثالث) هكذا هو في النسخ كلها يوم الثالث بإضافة يوم إلى الثالث وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة وقد سبق بيانه مرات ومذهب الكوفيين جوازه على ظاهره ومذهب البصريين تقدير محذوف منه أي أي يوم الزمان الثالث قوله [ (فأقام بها ثلاثة أيام فلما كان يوم الثالث قالوا لعلي هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره أن يخرج فأخبره بذلك فقال نعم فخرج) هذا الحديث فيه حذف واختصار والمقصود أن هذا الكلام لم يقع في عام صلح الحديبية وإنما وإنما وقع في السنة الثانية وهي عمرة القضاء وكانوا شارطوا النبي (صلى الله عليه وسلم) في عام الحديبية أن يجئ بالعام المقبل فيعتمر ولا يقيم أكثر من ثلاثة أيام فجاء في العام المقبل فأقام إلى أواخر اليوم الثالث فقالوا لعلي رضي الله تعالى عنه هذا الكلام فاختصر هذا الحديث ولم يذكر أن الإقامة وهذا الكلام كان في العام المقبل واستغنى عن ذكره بكونه معلوما وقد جاء مبينا في روايات أخرى مع أنه قد علم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يدخل مكة عام الحديبية والله أعلم ] فإن قيل كيف أحوجوهم إلى أن يطلبوا
[ 139 ]
منهم الخروج ويقوموا بالشرط فالجواب أن هذا الطلب كان قبل انقضاء الأيام الثلاثة بيسير وكان عزم النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه على الارتحال عند انقضاء الثلاثة فاحتاط الكفار لأنفسهم وطلبوا الارتحال قبل انقضاء الثلاثة بيسير فخرجوا عند انقضائها وفاء بالشرط لأنهم كانوا مقيمين لو لم يطلب ارتحالهم قوله (فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لعلي رضي الله عنه اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل أما بسم الله فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم) [ قال العلماء وافقهم النبي (صلى الله عليه وسلم) في ترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم وأنه كتب باسمك اللهم وكذا وافقهم في محمد بن عبد الله وتر ك كتابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكذا وافقهم في رد من جاء منهم إلينا دون من ذهب منا إليهم وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور ] أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد وكذا قوله محمد بن عبد الله هو أيضا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك ولا في ترك وصفه أيضا (صلى الله عليه وسلم) هنا بالرسالة ما ينفيها فلا مفسدة فيما طلبوه وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب مالا يحل من تعظيم آلهتهم
[ 140 ]
ونحو ذلك وأما شرط رد من جاء منهم ومنع من ذهب إليهم فقد بين النبي (صلى الله عليه وسلم) الحكمة فيهم في هذا الحديث بقوله من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ثم كان كما قال (صلى الله عليه وسلم) فجعل الله للذين جاءونا منهم وردهم إليهم فرجا و مخرجا ولله الحمد وهذا من المعجزات [ قال العلماء والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلها ودخول الناس في دين الله أفواجا وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبي (صلى الله عليه وسلم) كما هي ولا يحلون بمن يعلمهم بها مفصلة فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة وحلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه وسمعوا منهم أحوال النبي (صلى الله عليه وسلم) مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فما زلت نفوسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي قال تعالى جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا قوله (حدثنا عبد العزبز بن سياه) هو بسين مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مخففة ثم ألف ثم هاء في الوقف والدرج على وزني مياه وشياه قوله [ (قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس اتهموا أنفسكم إلى آخره) أراد بهذا تصبير الناس على الصلح وأعلامهم بما يرجى بعده من الخير فإنه يرجى مصيره إلى خير وإن كان ظاهره في الابتداء مما تكرهه النفوس كما كان شأن صلح الحديبية وإنما قال سهل هذا القول حين
[ 141 ]
ظهر من أصحاب علي رضي الله عنه كراهة التحكيم فأعلمهم بما جرى يوم الحديبية من كراهة أكثر الناس الصلح وأقولهم في كراهته ومع هذا فأعقب خيرا عظيما فقررهم النبي (صلى الله عليه وسلم) على الصلح مع أن إرادتهم كانت مناجزة كفار مكة بالقتال ] ولهذا قال عمر رضي الله عنه فعلام نعطي الدنية في ديننا والله أعلم قوله (ففيم نعطي الدنية في ديننا) هي بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء أي النقيصة والحالة الناقصة [ قال العلماء لم يكن سؤال عمر رضي الله عنه وكلامه المذكور شكا بل طلبا لكشف ما خفى عليه وحثا على إذلال الكفار وظهور الإسلام كما عرف من خلقه رضي الله عنه وقوته في نصرة الدين واذلال المبطلين وأما جواب أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمثل جواب النبي (صلى الله عليه وسلم) فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله وبارع علمه وزيادة عرفانه ورسوخه في كل ذلك وزيادته فيه كله على غيره رضي الله عنه ] قوله (فنزل القرآن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه فقال يا رسول الله
[ 142 ]
أو فتح هو قال نعم فطابت نفسه ورجع) المراد أنه نزل قوله تعالى فتحنا لك فتحا مبينا وكان الفتح هو صلح يوم الحديبية فقال عمر أو فتح هو قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نعم لم ا فيه من الفوائد التي قدمنا ذكرها [ وفيه إعلام الإمام والعالم كبار أصحابه بما يقع له من الأمور المهمة والبعث إليهم لإعلامهم بذلك والله أعلم ] قوله (يوم أبي جندل) هو يوم الحديبية واسم أبي جندل العاص بن سهيل بن عمر وقوله أمر بفظعنا أي يشق علينا ونخافه قوله (إلى أمركم) هذا يعني القتال الواقع بينهم وبين أهل الشام قوله (عن أبي حصين) بفتح الحاء وكسر الصاد قوله (عن سهل بن حنيف أنه قال اتهموا رأيكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما فتحنا منه في خصم إلا انفجر علينا منه خصم) هكذا وقع هذا
[ 143 ]
الحديث في نسخ صحيح مسلم كلها وفيه محذوف وهو جواب لو تقديره ولو أستطيع أن أرد أمره (صلى الله عليه وسلم) لرددته ومنه قوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون ولو وترى إذ الظالمون في غمرات الموت ولو ترى إذ الظالمون موقوفون ونظائره فكله محذوف جواب لو لدلالة الكلام عليه وأما قوله ما فتحنا منه خصما فالضمير في منه عائد إلى قوله اتهموا رأيكم ومعناه ما أصلحنا من رأيكم وأمركم هذا ناحية إلا انفتحت أخرى ولا يصح إعادة الضمير إلى غير ما ذكرناه وأما قوله ما فتحنا منه خصما فكذا هو في مسلم قال القاضي وهو غلط أو تغيير وصوابه ما سددنا منه خصما وكذا هو في رواية البخاري ما سددنا وبه يستقيم اكلام ويتقابل سددنا بقوله إلا انفجر وأما الخصم فبضم الخاء وخصم كل شئ طرفه وناحيته وشبهه بخصم الراوية وانفجار الماء من طرفها أو بخصم الغرارة والخرج وانصباب ما فيه بإنفجاره [ وفي هذه الأحاديث دليل لجواز مصلحة الكفار إذا كان فيها مصلحة وهو مجمع عليه عند الحاجة ومذهبنا أن مدتها لا تزيد على عشر سنين إذا لم يكن الإمام مستظهرا عليهم وإن كان مستظهرا لم يزد على أربعة أشهر وفي قول يجوز دون سنة وقال مالك لاحد لذلك بل يجوز ذلك قل أم كثر بحسب رأى الإمام والله أعلم
[ 144 ]
باب الوفاء بالعهد قوله عن حذيفة بن اليمان (خرجت أنا وأبي حسيل) إلى آخره هو حسيل بحاء مضمومة ثم سين مفتوحة مهملتين ثم ياء ثم لام ويقال له أيضا حسل بكسر الحاء واسكان السين وهو والد حذيفة واليمان لقب له والمشهور في استعمال المحدثين أنه اليمان بالنون من غير ياء بعدها وهي لغة قليلة والصحيح اليماني بالياء وكذا عمرو بن العاصي وعبد الرحمن بن أبي الموالي وشداد بن الهادي والمشهور للمحدثين حذف الياء والصحيح إثباتها قوله (فأخذنا كفار قريش فقالوا إنكم تريدون محمدا قلنا ما نريده ما نريد إلى المدينة فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبرناه الخبر فقال انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) [ في هذا الحديث جواز الكذب في الحرب وإذا أمكن التعريض في الحرب فهو أولى ومع هذا يجوز الكذب في الحرب وفي الاصلاح بين الناس وكذب الزوج لامرأته كما صرح به الحديث الصحيح وفيه الوفاء بالعهد وقد اختلف العلماء في الأسير يعاهد الكفار أن لا يهرب منهم فقال الشافعي وأبو حنيفة والكوفيون لا يلزمه ذلك بل متى أمكنه الهرب هرب وقال مالك يلزمه واتفقوا على أنه لو أكرهوه فحلف لا يهرب لا يمين عليه لأنه مكره وأما قضية حذيفة وأبيه فإن الكفار استحلفوهما لا يقاتلان مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزاة بدر فأمرهما النبي (صلى الله عليه وسلم) بالوفاء وهذا ليس للإيجاب فإنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه ولكن أراد النبي (صلى الله عليه وسلم) أن لا يشيع عن أصحابه نقض العهد وإن
[ 145 ]
كان لا يلزمهم ذلك لأن المشيع عليهم لا يذكر تأويلا ] باب غزوة الأحزاب قوله [ (كنا عند حذيفة فقال رجل لو أدركت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاتلت معه وأبليت فقال له حذيفة ما قال) معناه أن حذيفة فهم منه أنه لو أدرك النبي (صلى الله عليه وسلم) لبالغ في نصرته ولزاد على الصحابة رضي الله عنهم فأخبره بخبره في ليلة الأحزاب وقصد زجره عن ظنه أنه يفعل أكثر من فعل الصحابة ] قوله (وأخذتنا ريح شديدة وقر) هو بضم القاف وهو البرد وقوله بعد هذا (قررت) هو بضم القاف وكسر الراء أي بردت قوله (صلى الله عليه وسلم) (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي) هو بفتح التاء وبالذال المعجمة معناه لا تفزعهم علي ولا تحركهم علي وقيل معناه لا تنفرهم وهو قريب من المعنى الأول والمراد لا تحركهم عليك فإنهم إن أخذوك كان ذلك ضررا علي لأنك رسولي وصاحبي قوله (فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي
[ 146 ]
في حمام حتى أتيتهم) يعني أنه لم يجد البرد الذي يجده الناس ولا من تلك الريح الشديدة شيئا بل عافاه الله منه ببركة إجابته للنبي (صلى الله عليه وسلم) وذهابه فيما وجهه له ودعائه (صلى الله عليه وسلم) له واستمر ذلك اللطف به ومعافاته من البرد حتى عاد إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فلما رجع ووصل عاد إليه البرد الذي يجده النا س وهذه من معجزات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولفظة الحمام عربية وهو مذكر مشتق من الحميم وهو الماء الحار قوله (فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره) هو بفتح الياء واسكان الصاد أيدفئه ويدنيه منها وهو الصلا بفتح الصاد والقصر والصلاء بكسرها والمد [ قوله (كبد القوس) هو مقبضها وكبد كل شئ وسطه ] قوله (فألبسني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها) العباءة بالمد والعباية بزيادة ياء لغتان مشهورتان معروفتان وفيه جواز الصلاة في الصوف وهو جائز بإجماع من يعتد به وسواء الصلاة عليه وفيه ولا كراهية في ذلك قال العبدري من أصحابنا وقالت الشيعة لا تجوز الصلاة على الصوف وتجوز فيه وقال مالك يكره كراهة تنزيه قوله (فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان) هو بفتح النون وإسكان الواو وهو كثير النوم وأكثر ما يستعمل في النداء كما استعمله هنا وقوله (أصبحت) أي طلع الفجر [ وفي هذا الحديث أنه ينبغي للإمام وأمير الجيش بعث الجواسيس والطلائع لكشف خبر العدو والله أعلم ]
[ 147 ]
باب غزوة أحد قوله (حدثنا هداب بن خالد الأزدي) هكذا هو في جميع النسخ الأزدي وكذا قاله البخاري في التاريخ وابن أبي حاتم في كتابه وغيرهما وذكره ابن عدي والسمعاني فقالا هو قيسي فقد ذكر البخاري أخاه أمية ابن خالد فنسبه قيسيا وذكره الباجي فقال القيسي الأزدي قال القاضي عياض هذان نسبتان مختلفتان لأن الأزد من اليمن وقيس من معد قال ولكن قيس هنا ليس قيس غيلان بل قيس بن يونان من الأزد فتصح النسبتان قال القاضي وقد جاء مثل هذا في صحيح مسلم في زياد بن رباح القيسي ويقال رياح كذا نسبه مسلم في غير موضع القيسي وقال في النذور التيمي قيل لعله من تيم بن قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائفيجتمع النسبتان وإلا فتيم قريش لا تجتمع هي وقيس هذا كلام القاضي وقد سبق بيان ضبط هداب هذا مرات وأنه بفتح الهاء وتشديد الدال وأنه يقال له هدبة بضم الهاء قيل هدبة اسم هداب لقب وقيل عكسه قوله [ (فلما رهقوه) هو بكسر الهاء أي غشوه وقربوا منه ] أرهقه أي غشيه قال صاحب الأفعال رهقته وأرهقته أي أدركته قال القاضي في المشارق قيل لا يستعمل ذلك إلا في المكروه قال وقال ثابت كل شئ دنوت منه فقد رهقته والله أعلم قوله (أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان معه سبعة رجال من الأنصار ورجلان من قريش فقتلت السبعة فقال لصحابيه (صلى الله عليه وسلم) ما أنصفنا أصحابنا) الرواية المشهورة فيه ما أنصفنا بإسكان الفاء وأصحابنا منصوب مفعول به هكذا ضبطه جماهير العلماء من المتقدمين والمتأخرين ومعناه ما أنصفت قريش الأنصار لكون
[ 148 ]
القرشيين لم يخرجا للقتال بل خرجت الأنصار واحدا بعدو أحد وذكر القاضي وغيره أن بعضهم رواه ما أنصفنا بفتح الفاء والمراد على هذا الذين فروا من القتال فإنهم لم ينصفوا لفرارهم قوله (حدثنا يحيى بن يحيى التميمي حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وكذا ذكره أصحاب الأطراف وذكر القاضي عن بعض رواة كتاب مسلم أنهم جعلوا أبا بكر بن أبي شيبة بدل يحيى بن يحيى قال والصواب الأول [ قوله (وكسرت رباعيته) هي بتخفيف الياء وهي السن التي تلى الثنية من كل جانب وللإنسان أربع رباعيات وفي هذا وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم قال القاضي وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات وتلبيس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم قوله (وهشمت البيضة على رأسه) فيه استحباب لبس البيضة والدروع وغيرها من أسباب التحصن في الحرب وأنه ليس بقادح في التوكل قوله (يسكب عليها بالمجن) أي يصب عليها بالترس ] وهو بكسر الميم [ وفي هذا الحديث إثبات المداواة ومعالجة الجراح وأنه لا يقدح في التوكل لأن
[ 149 ]
النبي (صلى الله عليه وسلم) فعله مع قوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت ] قوله (دووى جرحه) هو بواوين ويقع في بعض النسخ بواو واحدة وتكون الأخرى محذوفة كما حذفت من داود في
[ 150 ]
الخط [ قوله (أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حكى نبيا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم لهم بالهداية والغفران وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين وقد جرى لنبينا (صلى الله عليه وسلم) مثل هذا يوم أحد ] قوله (وهو ينضح الدم عن جبينه) هو بكسر الضاد أي يغسله ويزيله باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوله (اشتد غضب الله تعالى على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله) فقوله في سبيل الله احتراز ممن يقتله في حد أو قصاص لأن من يقتله في سبيل الله كان قاصدا قتل النبي (صلى الله عليه وسلم)
[ 151 ]
باب مالقى النبي (صلى الله عليه وسلم) (من أذى المشركين والمنافقين) قوله (أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان إلى آخره) السلا بفتح السين المهملة وتخفيف اللام مقصور وهو اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان وهي من الآدمية المشيمة قوله (فانبعث أشقى القوم) هو عقبة بن أبي معيط كما صرح به في الرواية الثانية وفي هذا الحديث إشكال فإنه يقال كيف استمر في الصلاة مع وجود النجاسة على ظهره ] وأجاب القاضي عياض بأن هذا ليس بنجس قال لأن الفرث ورطوبة البدن طاهران والسلا من ذلك وإنما النجس الدم وهذا الجواب يجئ على مذهب مالك ومن وافقه أن روث ما يؤكل لحمه طاهر ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة وآخرين نجاسته وهذا الجواب الذي ذكره القاضي ضعيف أو باطل لأن هذا السلا يتضمن النجاسة من حيث أنه لا ينفك من الدم في العادة ولأنه ذبيحة عباد الأوثان فهو نجس وكذلك اللحم وجميع أجزاء هذا الجزور وأما [ الجواب المرضى أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يعلم ما وضع على ظهره فاستمر في سجوده استصحابا للطهارة وما ندري هل كانت هذه الصلاة فريضة فتجب إعادتها على الصحيح عندنا أم غيرها فلا تجب فإن وجبت الإعادة فالوقت موسع لها فإن قيل يبعد أن لا يحس بما وقع على ظهره قلنا وإن أحس به فما يتحقق أنه نجاسة والله أعلم ]
[ 152 ]
قوله [ (لو كانت لي منعة طرحته) ] هي بفتح النون وحكى اسكانها وهو شاذ ضعيف ومعناه [ لو كان لي قوة تمنع أذاهم أو كان لي عشيرة بمكة تمنعني ] وعلى هذا منعة جمع مانع ككاتب وكتبه قوله (وكان إذا دعا دعا ثلاثا وإذا سأل سأل ثلاثا) فيه استحباب تكرير الدعاء ثلاثا وقوله وإذا سأل هو الدعاء لكن عطفه لاختلاف اللفظ توكيدا قوله (ثم قال اللهم عليك ب أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة) هكذا هو في جميع نسخ مسلم والوليد بن عقبة بالقاف [ واتفق العلماء على أنه غلط وصوابه والوليد بن عتبة ] بالتاء كما ذكره مسلم في رواية أبي بكر بن أبي شيبة بعد هذا وقد ذكره البخاري في ضحيحه وغيره من أئمة الحديث على الصواب وقد نبه عليه إبراهيم بن سفيان في آخر الحديث فقال الوليد بن عقبة في هذا الحديث غلط قال العلماء والوليد بن عقبة بالقاف هو ابن أبي معيط ولم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان طفلا صغيرا جدا فقد أتى به النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم الفتح وهو ! ناهز الاحتلام ليمسح على رأسه [ قوله (وذكر السابع ولم أحفظه) وقد وقع في رواية البخاري تسمية السابع أنه عمارة بن الوليد ] قوله (والذي بعث محمدا (صلى الله عليه وسلم) بالحق
[ 153 ]
[ لقد رأيت الذين سمى صرعي يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر) هذه احدى دعواته (صلى الله عليه وسلم) المجابة والقليب هي البئر التي لم تطو وإنما وضعوا في القليب تحقيرا لهم ولئلا يتأذى الناس برائحتهم وليس هو دفنا لأن الحربي لا يجب دفنه قال أصحابنا بل يترك في الصحراء إلا أن يتأذى به ] قال القاضي عياض اعترض بعضهم على هذا الحديث في قوله رأيتهم صرعى ببدر ومعلوم أن أهل السير قالوا أن عمارة بن الوليد وهو أحد السبعة كان عند النجاشي فاتهمه في حرمه وكان جميلا فنفخ في إحليله سحرا فهام مع الوحوش في بعض جزائر الحبشة فهلك قال القاضي وجوابه [ أن المراد أنه رأى أكثرهم بدليل أن عقبة ابن أبي معيط منهم ولم يقتل ببدر بل حمل منها أسيرا وإنما قتله النبي (صلى الله عليه وسلم) صبرا بعد انصرافه من بدر بعرق الظبية ] قلت الظبية ظاء معجمة مضمومة ثم باء موحدة ساكنة ثم ياء مثناة تحت ثم هاء هكذا ضبطه الحازمي في كتابه المؤتلف في الأماكن قال قال الواقدي هو من الروحاء على ثلاثة أميال مما يلي المدينة قوله (تقطعت
[ 154 ]
أوصاله فلم يلق في البئر) الأوصال المفاصل قوله (فلم يلق) هكذا هو بعض النسخ بالقاف فقط وفي أكثرها فلم يلقى بالألف وهو جائز على لغة وقد سبق بيانه مرات وقريبا قوله في رواية أبي بكر بن أبي شيبة (وكان يستحب ثلاثا) هكذا هو في نسخ بلادنا يستحب بالباء الموحدة
[ 155 ]
في آخره وذكر القاضي أنه روى بهاء وبالموحدة وبالمثلثة قال وهو الأظهر ومعناه الالحاح [ قوله (صلى الله عليه وسلم) (فلم أستفق إلا بقرن الثعالب) أي لم أوطن لنفسي وأتنبه لحالي وللموضع الذي أنا ذاهب إليه وفيه إلا وأنا عند قرن الثعالب لكثرة همي الذي كنت فيه قال القاضي قرن الثعالب هو قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد وهو على مرحلتين من مكة وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير ] قوله [ (إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) ] هما بفتح الهمزة وبالخاء والشين المعجمتين [ وهما جبلا مكة أبو قبيس والجبل الذي يقابله ] قوله (صلى الله عليه وسلم) هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت لفظ ما هنا بمعنى الذي أي الذي لقيته محسوب في سبيل الله وقد سبق في باب غزوة حنين أن الرجز هل هو شعر وأن من قال هو شعر قال شرط الشعر أن يكون مقصودا وهذا ليس مقصودا وأن الرواية المعروفة
[ 156 ]
دميت ولقيت بكسر التاء وأن بعضهم أسكنها قوله (كان النبي (صلى الله عليه وسلم) في غار فنكبت أصبعه) كذا هو في الأصول في غار قال القاضي عياض قال أبو الوليد الكناني لعله غازيا فتصحف كما قال في الرواية الأخرى في بعض المشاهد وكما جاء في زاوية البخاري بينما النبي (صلى الله عليه وسلم) يمشي إذ أصابه حجر قال القاضي [ وقد يراد بالغار هنا الجيش والجمع لا الغار الذي هو الكهف فيوافق رواية بعض المشاهد ومنه قول علي رضي الله عنه ما ظنك بامرئ بين هذين الغارين أي العسكرين والجمعين ] قوله (واشتكى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليلتين أو ثلاثا فجاءته امرأة فقال يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله تعالى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ي) قال ابن عباس رضي الله عنه ما ودعك أي ما قطعك منذ أرسلك وما قلى أي ما أبغضك وسمى الوداع وداعا
[ 157 ]
لأنه فراق ومتاركة وقوله ما قربك هو بكسر الراء والمضارع يقربك بفتحها وقوله ما ودعك هو بتشديد الدال على القراءات الصحيحة المشهورة التي قرأ بها القراء السبعة وقرئ في الشاذ بتخفيفها قال أبو عبيد هو من ودعه يدعه معناه ما تركك قال القاضي النحويون ينكرون أن يأتي منه ماض أو مصدر قالوا وإنما جاء منه المستقبل والأمر لا غير وكذلك يذر قال القاضي وقد جاء الماضي والمستقبل منهما جميعا كما قال الشاعر وكأن ما قدموا لأنفسهم أكثر نفعا من الذي ودعوا وقال مالذي غاله في الواد حتى يدعه غاله بالغين المعجمة أي أخذه قوله (ركب حمارا عليه أكاف تحته قطيفة فدكية) [ إلا كاف بكسر الهمزة ويقال وكاف أيضا والقطيفة دثار مجمل جمعها قطائف وقطف والفدكية منسوبة إلى فدك ] بلدة معروفة على مرحلتين أو ثلاث من المدينة قوله [ (وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعد بن عباد) 1 فيه جواز الأرداف على الحمار وغيره من الدواب إذا كان مطيقا 2 جواز العيادة راكبا 3 أن ركوب الحمار ليس بنقص في حق
[ 158 ]
الكبار ] قوله [ (عجاجة الجابة هو ما ارتفع من غبار حوافرها) ] قوله [ (خمر أنفه) أي غطاه ] قوله [ (فسلم عليه النبي (صلى الله عليه وسلم)) فيه جواز الابتداء بالسلام على قوم فيهم مسلمون وكفار وهذا مجمع عليه ] قوله [ (أيها المرء لا أحسن من هذا) ] هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بألف في أحسن [ أي ليس شئ أحسن من هذا ] وكذا حكاه القاضي عن جماهير رواة مسلم قال ووقع للقاضي أبي علي الأحسن من هذا بالقصر من غير الف قال القاضي وهو عندي أظهر [ وتقديره أحسن من هذا أن تقعد في بيتك ولا تأتينا ] قوله [ (فلم يزل يخفضهم) أي يسكنهم ويسهل الأمر بينهم ] قوله (ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة) بضم الباء على التصغير قال القاضي وروينا في غير مسلم البحيرة مكبرة وكلاهما بمعنى وأصلها القرية والمراد بها هنا مدينة النبي (صلى الله عليه وسلم) قوله [ (ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة) معناه اتفقوا على أن يجعلوه ملكهم
[ 159 ]
وكان من عادتهم إذا ملكوا إنسانا أن يتوجوه ويعصبوا ] قوله [ (شرق بذلك) ] بكسر الراء أي [ غص ومعناه حسد النبي (صلى الله عليه وسلم) وكان ذلك بسبب نفاقه عفانا الله الكريم ] قوله (وذلك قبل أن يسلم عبد الله) معناه قبل أن يظهر الإسلام وإلا فقد كان كافرا منافقا ظاهر النفاق قوله (وهي أرض سبخة) هي بفتح السين والباء وهي الأرض التي لا تنبت لملوحة أرضها وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) من الحلم والصفح والصبر على الأذى في الله تعالى ودوام الدعاء إلى الله تعالى وتألف قلوبهم والله أعلم
[ 160 ]
باب قتل أبي جهل قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (من ينظر إلينا ما صنع أبو جهل) سبب السؤال عنه أن يعرف أنه مات ليستبشر المسلمون بذلك وينكف شره عنهم ] قوله (ضربه ابنا عفراء حتى برك) هكذا هو في بعض النسخ برك بالكاف وفي بعضها برد بالدال فمعناه بالكاف سقط إلى الأرض وبالدال مات يقال برد إذا مات قال القاضي رواية الجمهور برد ورواه بعضهم بالكاف قال والأول هو المعروف هذا كلام القاضي واختار جماعة محققون الكاف وأن ابني عفراء تركاه عفيرا وبهذا كلم ابن مسعود كما ذكره مسلم وله معه كلام آخر كثير مذكور في غير مسلم وابن مسعود هو الذي أجهز عليه واحتز رأسه [ قوله (وهو فوق رجل قتلتموه) أي لا عار علي في قتلكم إياي قوله (لو غير أكار قتلني) الأكار الزراع والفلاح وهو عند العرب ناقص وأشار أبو جهل إلى ابني عفراء اللذين قتلاه وهما من الأنصار وهم أصحاب زرع ونخيل ومعناه لو كان الذي قتلني غير أكار . لكان أحب إلى وأعظم لشأني ولم يكن علي نقص في ذلك ] باب قتل كعب بن الأشر فطاغوت اليهود [ ذكر مسلم فيه قصة محمد بن مسلمة مع كعب بن الأشرف بالحيلة التي ذكرها من مخادعته واختلف العلماء في سبب ذلك وجوابه فقال الإمام المازري إنما قتله كذلك لأنه نقض عهد النبي
[ 161 ]
(صلى الله عليه وسلم) وهجاه وسبه وكان عاهده أن لا يعين عليه أحدا ثم جاء مع أهل الحرب معينا عليه قال وقد أشكل قتله على هذا الوجه على بعضهم ولم يعرف الجواب الذي ذكرناه قال القاضي قيل هذا الجواب وقيل لأن محمد بن مسلمة لم يصرح له بأمان في شئ من كلامه وإنما كلمه في أمر البيع والشراء واشتكى إليه وليس في كلامه عهد ولا أمان قال ولا يحل لأحد أن يقول أن قتله كان غدرا وقد قال ذلك إنسان في مجلس علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمر به علي فضرب عنقه وإنما يكون الغدر بعد أمان موجود وكان كعب قد نقض عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ورفقته ولكنه استأنس بهم فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان وأما ترجمة البخاري على هذا الحديث بباب الفتك في الحرب فليس معناه الحرب بل الفتك هو القتل على غرة وغفلة والغيلة نحوه وقد استدل بهذا الحديث بعضهم على جواز اغتيال من بلغته الدعوة من الكفار وتبييته من غير دعاء إلى الإسلام قوله (ائذن لي فلأقل) معناه ائذن لي أن أقول عني وعنك ما رأيته مصلحة من التعريض وغيره ففيه دليل على جواز التعريض وهو أن يأتي بكلام باطنه صحيح ويفهم منه المخاطب غير ذلك فهذا جائز في الحرب وغيرها ما لم يمنع به حقا شرعيا قوله (وقد عنانا) هذا من التعريض الجائز بل المستحب لأن معناه في الباطن أنه أدبنا بآداب الشرع التي فيها تعب لكنه تعب في مرضات الله تعالى فهو محبوب لنا والذي فهم المخاطب منه العناء الذي ليس بمحبوب قوله (وأيضا والله لتملنه) هو بفتح التاء والميم أي يتضجرن منه أكثر من
[ 162 ]
هذا الضجر ] قوله (يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسقين من تمر) هكذا هو في الروايات المعروفة في مسلم وغيره يسب بضم الياء وفتح السين المهملة من السب وحكى القاضي عن رواية بعض رواة كتاب مسلم يشب بفتح الياء وكسر الشين المعجمة من الشباب والصواب الأول والوسق بفتح الواو وكسرها وأصله الحمل قوله (نرهنك اللأمة) هي بالهمز وفسرها في الكتاب بأنها السلاح وهو كما قال قوله (وواعده أن يأتيه بالحارث وأبو عبس بن جبر وعباد بن بشر) أما الحارث فهو الحارث بن أوس بن أخي سعد بن عبادة وأما أبو عبس فاسمه عبد الرحمن وقيل عبد الله والصحيح الأول وهو جبر بفتح الجيم واسكان الباء كما ذكره في الكتاب ويقال ابن جابر وهو أنصارى من كبار الصحابة شهد بدرا وسائر المشاهد وكان اسمه في الجاهلية عبد العزى وهو وقع في معظم النسخ وأبو عبس بالواو وفي بعضها وأبي عبس بالياء وهذا ظاهر والأول صحيح أيضا ويكون معطوفا على الضمير في يأتيه قوله (كأنه صوت دم أي صو ت طالب أو سوط سافك دم) هكذا فسروه قوله (فقال إنما هذا محمد ورضيعه وأبو نائلة) هكذا هو في جميع النسخ قال القاضي رحمه الله تعالى قال لنا شيخنا للقاضي الشهيد صوابه أن يقال إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة وكذا ذكر أهل السير أن أبا نائلة كان رضيعا لمحمد بن مسلمة ووقع في صحيح البخاري ورضيعي أبو نائلة قال وهذا عندي له وجه أن صح أنه كان رضيعا لمحمد والله أعلم
[ 163 ]
باب غزوة خيبر قوله (فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس) فيه استحباب التبكير بالصلاة أول وقت وأنه لا يكره تسمية صلاة الصبح غداة فيكون ردا على من قال من أصحابنا أنه مكروه وقد سبق شرح حديث أنس هذا في كتاب المساقاه وذكرنا أن فيه جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة وأن اجراء الفرس والاغارة ليس بنقص ولا هادم للمروءة بل هو سنة وفضيلة وهو من مقاصد القتال قوله (وانحسر الازار عن فخذ نبي الله (صلى الله عليه وسلم) فإني لأرى بياض فخذ نبي الله (صلى الله عليه وسلم)) هذا مما استدل به أصحاب مالك ومن وافقهم على أن الفخذ ليست عورة من الرجل ومذهبنا ومذهب آخرين أنها عورة وقد جاءت بكونها عورة أحاديث كثيرة مشهورة وتأول أصحابنا حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا على أنه انحسر بغير اختياره لضرورة الاغارة والاجراء وليس فيه أنه أستدام كشف الفخذ مع امكان الستر وأما قول أنس فإني لأرى بياض
[ 164 ]
فخذه (صلى الله عليه وسلم) فمحمول على أنه وقع بصره عليه فجأة لا أنه تعمده وأما رواية البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حسر الأزار فمحمولة على أنه انحسر كما في رواية مسلم وأجاب بعض أصحاب مالك عن هذا فقال هو (صلى الله عليه وسلم) أكرم على الله تعالى من أن يبتليه بإنكشاف عورته وأصحابنا يجيبون عن هذا بأنه إذا كان بغير اختيار الإنسان فلا نقص عليه فيه ولا يمتنع مثله قوله (الله اكبر خربت خيبر) فيه استحباب التكبير عند اللقاء قال القاضي قيل تفاءل بخرابها بما رآه في أيديهم من آلات الخراب من الفوس والمساحي وغيرها وقيل أخذه من اسمها والأصح أنه أعلمه الله تعالى بذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) (أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) الساحة الفناء واصلها الفضاء بين المنازل ففيه جواز الاستشهاد في مثل هذا السياق بالقرآن في الأمور المحققة وقد جاء لهذا نظائر كثيرة كما سبق قريبا في فتح مكة أنه (صلى الله عليه وسلم) جعل يطعن في الأصنام ويقول جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد جاء الحق وزهق الباطل قال العلماء يكره من ذلك ما كان على ضرب الأمثال في المحاورات والمزح ولغو الحديث فيكره في كل ذلك تعظيما لكتاب الله تعالى قوله (محمد والخميس) هو الجيش وقد فسره بذلك في رواية البخاري قالوا سمى خميسا لأنه خمسة أقسام ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلب قال القاضي ورويناه برفع الخميس عطفا على قوله محمد وبنصبها على أنه مفعول معه قوله (أصبناها عنوة) هي بفتح العين أي قهرا لا صلحا قال القاضي قال المازري ظاهر هذا أنها كلها فتحت عنوة وقد روى مالك عن ابن شهاب أن بعضها فتح عنوة وبعضها صلحا قال وقد يشكل ما روى في سنن أبي داود أنه قسمها نصفين نصفا لنوائبه وحاجته ونصفا للمسلمين
[ 165 ]
قال وجوابه ما قال بعضهم أنه كان حولها ضياع وقرى أجلى عنها أهلها فكانت خالصة للنبي (صلى الله عليه وسلم) وما سواها للغانمين فكان قدر الذي خلوا عنه النصف فلهذا قسم نصفين قال القاضي في هذا الحديث أن الاغارة على العدو يستحب كونها أول النهار عند الصبح لأنه وقت غرتهم وغفلة أكثرهم ثم يضئ لهم النهار لما يحتاج إليه بخلاف ملاقاة الجيوش ومصاففتهم ومناصبة الحصون فإن هذا يستحب كونه بعد الزوال ليدوم النشاط ببرد الوقت بخلاف ضده قوله (وخرجوا بفؤسهم ومكاتلهم ومرورهم) الفؤس بالهمزة جمع فأس بالهمزة كرأس ورؤس والمكاتل جمع مكتل بكسر الميم وهو القفة يقال له مكتل وقفة وزبيل وزنبل وزنبيل وعرق وسفيفة بالسين المهملة وبفاءين والمرور جمع مر بفتح الميم وهي المساحى قال القاضي قيل هي حبالهم التي يصعدون بها إلى النخل واحدها مر ومر وقيل مساحيهم واحدها مر لا غير قوله (ألا تسمعنا من هنياتك) وفي
[ 166 ]
بعض النسخ من هنيهاتك أي أراجيزك والهنة يقع على كل شئ وفيه جواز إنشاء الأراجيز وغيرها من الشعر وسماعها ما لم يكن فيه كلام مذموم والشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح قوله (فنزل يحدو بالقوم) فيه استحباب الحدا في الأسفار لتنشط النفوس والدواب على قطع الطريق واشتغالها بسماعة عن الاحساس بألم السير قوله (اللهم لولا أنت ما اهتدينا) كذا الرواية قالوا وصوابه في الوزن لاهم أو تالله أو والله لولا أنت كما في الحديث الآخر فوالله لولا الله قوله (فاغفر فداء لك ما اقتفينا) قال المازري هذه اللفظة مشكلة فإنه لا يقال فدى الباري سبحانه وتعالى ولا يقال له سبحانه فديتك لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه قال ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه كما يقال قاتله الله ولا يراد بذلك حقيقة الدعاء عليه وكقوله (صلى الله عليه وسلم) تربت يداك وتربت يمينك وويل أمه وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن الفادي مبالغ في طلب رضى المفدي حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه فكان مراد الشاعر أني أبذل نفسي في رضاك وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فاطلاق اللفظ واستعارته والتجوز به يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه قال وقد يكون المراد بقوله فدا لك رجلا يخاطبه وفصل بين الكلام فكأنه قال فاغفر ثم دعا إلى رجل ينبهه فقال فدالك ثم عاد إلى تمام الكلام الأول فقال ما اقتفينا قال وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا اضطرنا إليه تصحيح الكلام وقد يقع في كلام العرب من الفصل بين الجمل المعلق بعضها ببعض ما يسهل هذا التأويل قوله (إذا صيح بنا أتينا) هكذا هو في نسخ بلادنا أتينا بالمثناة في أوله وذكر القاضي أنه روى بالمثناة وبالموحدة فمعنى المثناة إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكارم أتينا ومعنى الموحدة أبينا الفرار والامتناع قال القاضي رحمه الله تعالى قوله فداء لك بالمد والقصر والفاء مكسورة حكاه الأصمعي وغيره فأما في المصدر
[ 167 ]
فالمد لا غير قال وحكى الفراء فدى لك مفتوح مقصور قال ورويناه هنا فداء لك بالرفع على أنه مبتدأ وخبره أي لك نفسي فداء أو نفسي فداء لك وبالنصب على المصدر ومعنى اقتفينا اكتسبنا وأصله الاتباع قوله (وبالصياح عولوا علينا) استغاثوا بنا واستفزعونا للقتال قيل هي من التعويل على الشئ وهو الاعتماد عليه وقيل من العويل وهو الصوت قوله (صلى الله عليه وسلم) (من هذا السائق قالوا عامر قال يرحمه الله قال رجل من القوم وجبت يا رسول الله لولا أمتعتنا به) معنى وجبت أي ثبتت له الشهادة وسيقع قريبا وكان هذا معلوما عندهم أن من دعا له النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا الدعاء في هذا الموطن استشهد فقالوا هلا أمتعتنا به أي وددنا أنك لو أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة قوله (أصابتنا مخمصة شديدة) أي جوع شديد قوله (لحم حمر الأنسية) هكذا هو حمر الأنسية بإضافة حمر وهو من إضافة الموصوف إلى صفته وسبق بيانه مرات فعلى هذا قول الكوفيين هو على ظاهره وعند البصريين تقديره حمر الحيوانات الأنسية وأما الأنسية ففيها لغتان وروايتان حكاهما القاضي عياض وآخرون أشهرهما كسر الهمزة واسكان النون قال القاضي هذه رواية أكثر الشيوخ والثانية فتحهما جميعا وهما جميعا نسبة إلى الأنس وهم الناس لاختلاطها بالناس
[ 168 ]
بخلاف حمر الوحش قوله (صلى الله عليه وسلم) (أهريقوها واكسروها) هذا يدل على نجاسة لحوم الحمر الأهلية هو مذهبنا ومذهب الجمهور وقد سبق بيان هذا الحديث وشرحه مع بيان هذه المسألة في كتاب النكاح ومختصر الأمر باراقته أن السبب الصحيح فيه أنه أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة والثاني أنه نهى للحاجة إليها والثالث لأنها أخذوها قبل القسمة وهذان التأويلان هما لأصحاب مالك القائلين بإباحة لحومها والصواب ما قدمناه وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (اكسروها فقال رجل أو يهريقوها ويغسلوها قال أو ذاك) فهذا محمول على أنه (صلى الله عليه وسلم) اجتهد في ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده أو أوحى إليه بغسلها قوله (صلى الله عليه وسلم) (أن له لأجران) هكذا هو في معظم النسخ لأجران بالألف وفي بعضها لأجرين بالياء وهما صحيحان لكن الثاني هو الأشهر الأفصح والأول لغة أربع قبائل من العرب ومنها قوله تعالى إن هذان لساحران وقد سبق بيانها مرات ويحتمل ان الأجرين ثبتا له لأنه جاهد مجاهد كما سنوضحه في شرحه فله أجر بكونه جاهدا أي مجتهدا في طاعة الله تعالى شديد الاعتناء بها وله أجر آخر بكونه مجاهدا في سبيل الله فلما قام بوصفين كان له أجران قوله (صلى الله عليه وسلم) (أنه لجاهد مجاهد) هكذا رواه الجمهور من المتقدمين والمتأخرين لجاهد بكسر الهاء وتنوين الدال مجاهد بضم الميم وتنوين الدال أيضا وفسروا لجاهد بالجاد في علمه وعمله أي أنه
[ 169 ]
لجاد في طاعة الله والمجاهد في سبيل الله وهو الغازي وقال القاضي فيه وجه آخر أنه جمع اللفظين توكيدا قال ابن الأنباري العرب إذا بالغت في تعظيم شئ اشتقت له من لفظه لفظا آخر على غير بنائه زيادة في التوكيد وأعربوه بإعرابه فيقولون جاد مجد وليل لائل وشعر شاعر ونحو ذلك قال القاضي ورواه بعض رواة البخاري وبعض رواة مسلم لجاهد بفتح الهاء والدال على أنه فعل ماض مجاهد بفتح الميم ونصب الدال بلا تنوين قال والأول هو الصواب والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (قل عربي مشى بها مثله) ضبطنا هذه اللفظة هنا في مسلم بوجهين وذكرهما القاضي أيضا الصحيح المشهور الذي عليه جماهير رواة البخاري ومسلم مشى بها بفتح الميم وبعد الشين ياء وهو فعل ما ض من المشى وبها جار ومجرور ومعناه مشى بالأرض أو في الحرب والثاني مشابها بضم الميم وتنوين الهاء من المشابهة أي مشابها لصفات الكمال في القتال أو غيره مثله ويكون مشابها منصوبا بفعل محذوف أي رأيته مشابها ومعناه قل عربي يشبهه في جميع صفات الكمال وضبطه بعض رواة البخاري نشأ بها بالنون والهمز أي شب وكبر والهاء عائدة إلى الحرب أو الأرض أو بلاد العرب قال القاضي هذه أوجه الروايات قوله (وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الرحمن ونسبه غير ابن وهب فقال ابن عبد الله بن كعب بن مالك أن سلمة بن الأكوع قال) هكذا هو في جميع نسخ صحيح
[ 170 ]
مسلم وهو صحيح وهذا من فضائل مسلم ودقيق نظره وحسن خبرته وعظيم اتقانه وسبب هذا ان أبا داود والنسائي وغيرهما من الائمة رووا هذا الحديث بهذا الاسناد عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الرحمن وعبد الله بن كعب بن مالك عن سلمة قال أبو داود قال أحمد بن صالح الصواب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب وأحمد بن صالح هذا هو شيخ أبي داود في هذا الحديث وغيره وهو رواية عن ابن وهب قال الحفاظ والوهم في هذا من ابن وهب فجعل عبد الله بن كعب راويا عن سلمة وجعل عبد الرحمن راويا عن عبد الله وليس هو كذلك بل عبد الرحمن يرويه عن سلمة وإنما عبد الله والده فذكر في نسبه لأن له رواية في هذا الحديث فاحتاط مسلم رضي الله تعالى عنه
[ 171 ]
فلم يذكر في روايته عبد الرحمن وعبد الله كما رواه ابن وهب بل اقتصر على عبد الرحمن ولم ينسبه لأن ابن وهب لم ينسبه وأراد مسلم تعريفه فقال قال غير ابن وهب هو عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب فحصل تعريفه من غير إضافة للتعريف إلى ابن وهب وحذف مسلم ذكر عبد الله من رواية ابن وهب وهذا جائز فقد اتفق العلماء على أنه إذا كان الحديث عن رجلين كان له حذف أحدهما والاقتصار على الآخر فأجازوا هذا الكلام إذا لم يكن عذر فإذا كان عذر بأن كان ذكر ذلك المحذوف غلطا كما في هذه الصورة كان الجواز أولى باب غزوة الأحزاب وهي الخندق قوله (الملأ قد أبو علينا) هم أشراف القوم وقيل هم الرجال ليس فيهم نساء وهو مهموز مقصور كما جاء به القرآن ومعنى أبوا علينا امتنعوا من إجابتنا إلى الإسلام وفي هذا الحديث استحباب الرجز ونحوه من الكلام في حال البناء ونحوه وفيه عمل الفضلاء في بناء المساجد ونحوها ومساعدتهم في أعمال
[ 172 ]
البر قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا عيش إلا عيش الآخرة) أي لا عيش باق أو لا عيش مطلوب والله أعلم
[ 173 ]
باب غزوة ذي قرد وغيرها قوله [ (كانت لقاح النبي (صلى الله عليه وسلم) ترعى بذي قرد) ] هو بفتح القاف والراء بالدال المهملة [ وهو ماء على نحو يوم من المدينة مما يلي بلاد غطفان واللقاح جمع لقحة بكسر اللام وفتحها وهي ذات اللبن قريبة العهد بالولادة وسبق بيانها قوله (فصرخت ثلاث صرخات يا صباحاه) فيه جواز مثله للإنذار بالعدو ونحوه ] قوله (فجعلت أرميهم وأقول
[ 174 ]
أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فيه جواز قول مثل هذا الكلام في القتال وتعريف الإنسان بنفسه إذا كان شجاعا ليرعب خصمه وأما قوله اليوم يوم الرضع قالوا معناه اليوم يوم هلاك اللئام وهم الرضع من قولهم لئيم راضع أي رضع اللؤم في بطن امه وقيل لأنه يمص حلمة الشاة والناقة لئلا يسمع السؤال والضيفان صوت الحلاب فيقصدوه وقيل لأنه يرضع طرف الخلال الذي يخلل به أسنانه ويمص ما يتعلق به وقيل معناه اليوم يعرف من رضع كريمة فأنجبته أو لئيمة فهجنته وقيل معناه اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها ويعرف غيره قوله (حميت القوم الماء) أي منعتهم إياه قوله (صلى الله عليه وسلم) (ملكت فأسجح) ] هو بهمزة قطع ثم سين مهملة ساكنة ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة [ ومعناه فأحسن وارفق والسجاحة السهولة أي لا تأخذ بالشدة بل ارفق فقد حصلت النكابة في العدو ولله الحمد ] قوله (قدمنا المدينة ونحن أربع عشرة مائة) هذا هو الأشهر وفي
[ 175 ]
رواية ثلاث عشرة مائة وفي رواية خمس عشرة مائة قوله (فقعد النبي (صلى الله عليه وسلم) على جبا الركية) الجبا بفتح الجيم وتخفيف الباء الموحدة مقصور وهي ما حول البئر وأما الركى فهو البئر والمشهور في اللغة ركى بغير هاء ووقع هنا الركية بالهاء وهي لغة حكاها الأصمعي وغيره قوله (فإما دعا وإما بصق فيها فجاشت فسقينا واستقينا) هكذا هو في النسخ بسق بالسين وهي صحيحة يقال بزق وبصق وبسق ثلاث لغات بمعنى والسين قليلة الاستعمال وجاشت أي ارتفعت وفاضت يقال جاش الشئ يجيش جيشانا إذا ارتفع وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد سبق مرارا كثيرة التنبيه على نظائرها قوله (ورآني عزلا) ضبطوه بوجهين أحدهما فتح العين مع كسر الزاي والثاني ضمهما وقد فسره في الكتاب بالذي لا سلاح معه ويقال له أيضا أعزل وهو أشهر استعمالا قوله (حجفة أو درقة) هما شبيهتان بالترس قوله (اللهم
[ 176 ]
ابغني حبيبا) أي أعطني قوله (ثم أن المشركين راسلونا الصلح) هكذا هو في أكثر النسخ راسلونا من المراسلة وفي بعضها راسونا بضم السين المهملة المشددة وحكى القاضي فتحها أيضا وهما بمعنى راسلونا مأخوذ من قولهم رس الحديث يرسه إذا ابتدأه وقيل من رس بينهم أي أصلح وقيل معناه فاتحونا من قولهم بلغني رس من الخبر أي أوله ووقع في بعض النسخ واسونا بالواو أي اتفقنا نحن وهم على الصلح والواو فيه بدل من الهمزة وهو من الأسوة قوله (كنت تبعا لطلحة) أي خادما اتبعه قوله (أسقى فرسه وأحسه) أي أحك ظهره بالمحسة لأزيل عنه الغبار ونحوه قوله (أتيت شجرة فكسحت شوكها) أي كنست ما تحتها من الشوك قوله (قتل ابن زنيم) هو بضم الزاي وفتح النون قوله (فاخترطت سيفي) أي سللته قوله (وأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدي) الضغث الحزمة قوله (جاء رجل من العبلات يقال له مكرز) هو بميم مكسورة ثم كاف ثم راء مكسورة ثم زاي والعبلات بفتح العين المهملة
[ 177 ]
والباء الموحدة قال الجوهري في الصحاح العبلات بفتح العين والباء من قريش وهم أمية الصغرى والنسبة إليهم عبلى ترده إلى الواحد قال لأن اسم أمهم عبلة قال القاضي أمية الأصغر وأخواه نوفل وعبد الله بن عبد شمس بن عبد مناف نسبوا إلى أم لهم من بني تميم اسمها عبلة بنت عبيد قوله (على فرس مجفف) هو بفتح الجيم وفتح الفاء الأولى المشددة أي عليه تجفاف بكسر التاء وهو ثوب كالجل يلبسه الفرس ليقيه من السلاح وجمعه تجافيف قوله (صلى الله عليه وسلم) (دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه) أما البدء فبفتح الباء واسكان الدال وبالهمز أي ابتداؤه وأما ثناه فوقع في أكثر النسخ ثناه بثاء مثلثة مكسورة وفي بعضها ثنياه بضم الثاء وبياء مثناة تحت بعد النون ورواهما جميعا القاضي وذكر الثاني عن رواية ابن ماهان والأول عن غيره قال وهو الصواب أي عودة ثانية قوله (بني لحيان) بكسر اللام وفتحها لغتان قوله (لمن رقى الجبل وقوله بعده (فرقيت) كلاهما بكسر القاف قوله (فنزلنا منزلا بيننا وبين بني لحيان جبل وهم المشركون) هذه اللفظة ضبطوها بوجهين ذكرهما القاضي وغيره أحدهما وهم المشركون بضم الهاء على
[ 178 ]
الابتداء والخبر والثاني بفتح الهاء وتشديد الميم أي هموا النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وخافوا عائلتهم يقال همني الأمر وأهمني وقيل همني إذا بني وأهمني اغمني قوله (وخرجت بفرس لطلحة أنديه) هكذا ضبطناه أنديه بهمزة مضمومة ثم نون مفتوحة ثم دال مكسورة مشددة ولم يذكر القاضي في الشرح عن أحد من رواة مسلم غير هذا ونقله في المشارق عن جماهير الرواة قال ورواه بعضهم عن أبي الحذاء في مسلم أبدية بالباء الموحدة بدل النون وكذا قاله ابن قتيبة أي أخرجه إلى البادية وأبرزه إلى موضع الكلأ وكل شئ أظهرته فقد أبديته والصواب رواية الجمهور بالنون وهي رواية جميع المحدثين وقول الأصمعي وأبي عبيد في غريبه والأزهري وجماهير أهل اللغة والغريب ومعناه أن يورد الماشية الماء فتسقى قليلا ثم ترسل في المرعى ثم ترد الماء فترد قليلا ثم ترد إلى المرعى قال الأزهري أنكر ابن قتيبة على أبي عبيد والأصمعي كونها جعلاه بالنون وزعم ان الصواب بالباء قال الأزهري أخطأ ابن قتيبة والصواب قول الأصمعي قوله (فأصك سهما في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه) هكذا هو في معظم الأصول المعتمدة رحلة بالحاء وكتفه بالتاء بعدها فاء وكذا نقله صاحب المشارق والمطالع وكذا هو في أكثر الروايات
[ 179 ]
والأول هو الأظهر وفي بعضها رجله بالجيم وكعبه بالعين ثم الباء الموحدة قالوا والصحيح الأول لقوله في الرواية الأخرى فأصكه بسهم في نغض كتفه قال القاضي في الشرح هذه رواية شيوخنا وهو أشبه بالمعنى لأنه يمكن أن يصيب أعلى مؤخرة فيصيب حينئذ إذا أنفذ كتفه ومعنى أصك أضرب قوله (فما زلت أرميهم وأعقر بهم) أي أعقر خيلهم ومعنى أرميهم أي بالنبل قال القاضي ورواه بعضهم هنا أرديهم بالدال قوله (فجعلت أرديهم بالحجارة) أي أرميهم بالحجارة التي تسقطهم وتنزلهم قوله (جعلت عليهم آراما من الحجارة) هو بهمزة ممدودة ثم راء مفتوحة وهي الأعلام وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة يهتدي بها واحدها أرم كعنب وأعناب قوله (وجلست على رأس القرن) هو بفتح القاف وإسكان الراء وهو كل جبصغير منقطع عن الجبل الكبير قوله (لقينا من هذا البرح) هو بفتح الباء واسكان الراء أي شدة قوله (يتخللون الشجر)
[ 180 ]
أي يدخلون من خلالها أي بينها قوله (ماء يقال له ذا قرد) كذا هو في أكثر النسخ المعتمدة ذا بالف وفي بعضها ذو قرد بالواو وهو الوجه قوله (فحليتهم عنه) هو بحاء مهملة ولام مشددة غير مهموزة أي طردتهم عنه وقد فسره في الحديث بقوله يعني أجليتهم عنه بالجيم قال
[ 181 ]
القاضي كذا روايتنا فيه هنا غير مهموز قال وأصله الهمز فسهله وقد جاء مهموزا بعد هذا في هذا الحديث قوله (فأصكه بسهم في نغض كتفه) هو بنون مضمومة ثم غيرن معجمة ساكنة ثم ضاد معجمة وهو العظم الرقيق على طرف الكتف سمي بذلك لكثرة تحركه وهو الناغض أيضا قوله (يا ثكلته أمه أكوعه بكرة قلت نعم) معنى ثكلته أمه فقدته وقوله أكوعه هو برفع العين أي أنت الأكوع الذي كنت بكرة هذا النهار ولهذا قال نعم وبكرة منصوب غير منون قال أهل العربية يقال أتيته بكرة بالتنوين إذا أردت أنك لقيته باكرا في يوم غير معين قالوا وإن أردت بكرة يوم بعينه قلت أتيته بكرة غير مصروف لأنها من الظروف غير المتمكنة قوله (وأردوا فرسين على ثنية) قال القاضي رواية الجمهور بالدال المهملة ورواه بعضهم بالمعجمة قال وكلاهما متقارب المعنى فبالمعجمة معناه خلفوهما والرذي الضعيف من كل شئ وبالمهملة معناه أهلكوهما وأتعبوهما حتى أسقطوهما تركوهما ومنه التردية وأردت الفرس الفارس أسقطته قوله ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن السطيحة اناء من جلود سطح بعضها على بعض والمذقة بفتح الميم واسكان الذال المعجمة قليل من لبن ممزوج بماء قوله (وهو على الماء الذي حلأتهم عنه) كذا هو في أكثر النسخ حلأتهم بالحاء المهملة والهمز وفي بعضها حليتهم عنه بلام مشددة غير مهموز وقد سبق بيانه قريبا قوله (نحو ناقة من
[ 182 ]
الإبل الذي استنفذت من القوم) كذا في أكثر النسخ الذي وفي بعضها التي وهو أوجه لأن الإبل مؤنثة وكذا أسماء الجموع من غير الآدميين والأول صحيح أيضا وأعاد الضمير إلى الغنيمة لا إلى لفظ الإبل قوله (ضحك حتى بدت نواجذه) بالذال المعجمة أي أنيابه وقيل أضراسه والصحيح الأول وسبق بيانه في كتاب الصيام قوله (صلى الله عليه وسلم) (كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة) هذا فيه استحباب الثناء على الشجعان وسائر أهل الفضائل لا سيما عند صنيعهم الجميل لما فيه من الترغيب لهم ولغيرهم في الاكثار من ذلك الجميل وهذا كله في حق من يأمن الفتنة عليه بإعجاب ونحوه قوله (ثم أعطاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لي) هذا محمول على أن الزائد على سهم الراجل كان نفلا
[ 183 ]
وهو حقيق باستحقاق النفل رضي الله عنه لبديع صنعه في هذه الغزوة قوله (وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا) يعني عدوا على الرجلين قوله (فطفرت) أي وثبت وقفزت قوله (فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي) معنى ربطت حبست نفسي عن الجري الشديد والشرف ما ارتفع من الأرض وقوله أستبقي نفسي بفتح الفاء أي لئلا يقطعني البهر وفي هذا دليل لجواز المسابقة على الأقدام وهو جائز بلا خلاف إذا تسابقا بلا عوض فإن تسابقا على عوض ففي صحتها خلاف الأصح عند أصحابنا لا تصح قوله (فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم)
[ 184 ]
هكذا قال هنا عمي وقد سبق في حديث أبي الطاهر عن ابن وهب أنه قال أخي فلعله كان أخاه من الرضاعة وكان عمه من النسب قوله (يخطر بسيفه) هو بكسر الطاء أي يرفعه مرة ويضعه أخرى ومثله خطر البعير بذنبه يخطر بالكسر إذا رفعه مرة ووضعه مرة قوله (شاك السلاح) أي تام السلاح يقال رجل شاكي السلاح وشاك السلاح وشاك في السلاح من الشوكة وهي القوة والشوكة أيضا السلاح ومنه قوله تعالى وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم قوله (بطل مجرب) هو بفتح الراء أي مجرب بالشجاعة وقهر الفرسان والبطل الشجاع يقال بطل الرجل بضم الطاء يبطل بطالة وبطولة أي صار شجاعا قوله (بطل مغامر) بالغين المعجمة أي يركب غمرات الحرب وشدائدها ويلقي نفسه فيها قوله (وذهب عامر يسفل له) أي
[ 185 ]
يضربه من أسفله هو بفتح الياء واسكان السين وضم الفاء قوله (وهو أرمد) قال أهل اللغة يقال رمد الإنسان بكسر الميم يرمد بفتحها رمدا فهو رمد وأرمد إذ هاجت عينه قوله (أنا الذي سمتني أمي حيدرة) حيدرة اسم للأسد وكان علي رضي الله عنه قد سمى أسدا في أول ولادته وكان مرحب قد رأى في المنام أن أسدا يقتله فذكره علي (صلى الله عليه وسلم) ذلك ليخيفه ويضعف نفسه قالوا وكانت أم علي سمته أول ولادته أسدا باسم جده لأمه أسد بن هشام بن عبد مناف وكان أبو طالب غائبا فلما قدم سماه عليا وسمي الأسد حيدرة لغلظه والحادر الغليظ القوي ومراده أنا الأسد على جرأته وإقدامه وقوته قوله (أو فيهم بالصاع كيل السندرة) معناه
[ 186 ]
أقتل الأعداء قتلا واسعا ذريعا والسندرة مكيال واسع وقيل هي العجلة أي أقتلهم عاجلا وقيل مأخوذ من السندرة وهي شجرة الصنوبر يعمل منها النبل والقسى قوله (فضرب رأس مرحب) يعني عليا فقتله هذا هو الأصح أن عليا هو قاتل مرحب وقيل أن قاتل مرحب هو محمد بن مسلمة قال ابن عبد البر في كتابه الدرر في مختصر السير قال محمد بن اسحق ان محمد بن مسلمة هو قاتله قال وقال غيره إنما كان قاتله عليا قال ابن عبد البر هذا هو الصحيح عندنا ثم روى ذلك بإسناده عن سلمة وبريدة قال ابن الأثير الصحيح الذي عليه أكثر أهل الحديث وأهل السير أن عليا هو قاتله والله أعلم واعلم أن في هذا الحديث أنواعا من العلم سوى ما سبق التنبيه عليه منها أربع معجزات لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) إحداها تكثير ماء الحديبية والثانية إبراء عين علي رضي الله عنه والثالثة الإخبار بأنه يفتح الله على يديه وقد جاء التصريح به في رواية غير مسلم هذه والرابعة إخباره (صلى الله عليه وسلم) بأنهم يقرون في غطفان وكان كذلك ومنها جواز الصلح مع العدو ومنها بعث الطلائع وجواز المسابقة على الأرجل بلا عوض وفضيلة الشجاعة والقوة ومنها مناقب سلمة بن الأكوع وأبي قتادة والأحزم السعدي رضي الله عنهم ومنها جواز الثناء على من فعل جميلا واستحباب ذلك إذا ترتب عليه مصلحة كما أوضحناه قريبا ومنها جواز عقر خيل العدو في القتال واسحباب الرجز في الحرب وجواز قول الرامي والطاعن والضارب خذها وأنا فلان أو ابن فلان ومنها جواز الأكل من الغنيمة واستحباب التنفيل منها لمن صنع صنيعا جميلا في الحرب وجواز الأردا ف على الدابة المطيقة وجواز المبارزة بغير إذن الإمام كما بارز عامر ومنها ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من حب الشهادة والحرص عليها ومنها القاء
[ 187 ]
النفس في غمرات القتال وقد اتفقوا على جواز التغرير بالنفس في الجهاد في المبارزة ونحوها ومنها أن من مات في حرب الكفار بسبب القتال يكون شهيدا سواء مات بسلاحهم أو رمته دابة أو غيرها أو عاد عليه سلاحه كما جرى لعامر ومنها تفقد الإمام الجيش ومن رآه بلا سلاح أعطاه سلاحا باب قول الله تعالى وهو الذي كف أيديهم عنكم الآية قوله (يريدون غرته) أي غفلته قوله (فأخذهم سلما) ضبطوه بوجهين أحدهما بفتح السين واللام والثاني باسكان اللام مع كسر السين وفتحها قال الحميدي ومعناه الصلح قال القاضي في المشارق هكذا ضبطه الأكثرون قال فيه وفي الشرح الرواية الأولى أظهر ومعناها أسرهم والسلم الأسر وجزم الخطابي بفتح اللام والسين قال والمراد به الاستسلام والاذعان كقوله تعالى إليكم السلم أي الانقياد وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع قال ابن الأثير هذا هو الأشبه بالقصة فإنهم لم يؤخذوا صلحا وإنما أخذوا قهرا وأسلموا أنفسهم عجزا قال وللقول الآخر وجه وهو أنه لما لم يجر معهم قتال بل عجزوا عن دفعهم والنجاة منهم فرضوا بالأسر فكأنهم قد صولحوا على ذلك باب غزوة النساء مع الرجال قوله (أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا) هكذا هو في النسخ المعتمدة يوم حنين بضم الحاء
[ 188 ]
المهملة وبالنونين وفي بعضها يوم خيبر بفتح الخاء المعجمة والأول هو الصواب والخنجر بكسر الخاء وفتحها ولم يذكر القاضي في الشرح إلا الفتح وذكرهما معا في المشارق ورجح الفتح ولم يذكر الجوهري غير الكسر فهما لغتان وهي سكين كبيرة ذات حدين [ وفي هذا الغزو بالنساء وهو مجمع عليه قولها (بقرت بطنه) أي شققته ] قولها * (أقتل من بعدنا من الطلقاء)) * هو بضم الطاء وفتح اللام [ وهم الذي أسلموا من أهل مكة يوم الفتح سموا بذلك لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) من عليهم وأطلقهم وكان في إسلامهم ضعف فاعتقدت أم سليم أنهم منافقون وأنهم استحقوا القتل بانهزامهم وغيره ] وقولها من بعدنا أي من سوانا [ قوله (كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يغزو بالنساء فيسقين الماء ويداوين الجرحى) فيه خروج النساء في الغزو والانتفاع بهن في السقي والمداواة ونحوهما وهذه المداواة لمحارمهن وأزواجهن وما كان منها لغيرهم لا يكون فيه
[ 189 ]
مس بشرة إلا في موضع الحاجة ] قوله (أبو معمر المنقري) هو بكسر الميم واسكان النون وفتح القاف منسوب إلى منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة ابن تميم بن مرة بن أد بن طلحة بن الياس بن مضر بن نذار بن معد بن عدنان قوله (مجوب عليه بحجفه) أي مترس عنه ليقيه سلاح الكفار قوله (كان أبو طلحة راميا شديد النزع) أي شديد الرمي قوله (الجعبة) بفتح الجيم [ قوله (أرى خدم سوقها) ] هو بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة الواحدة [ خدمة وهي الخلخال وأما السوق فجمع ساق وهذه الرواية للخدم لم يكن فيها نهي لأن هذا كان يوم أحد قبل أمر النساء بالحجاب وتحريم النظر إليهن ولأنه لم يذكر هنا أنه تعمد النظر إلى نفس الساق فهو محمول على أنه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد ولم يستدمها ] قوله (نحري دون نحرك) هذا من مناقب أبي طلحة الفاخرة [ قوله (على متونهما) أي على
[ 190 ]
ظهورهما وفي هذا الحديث اختلاط النساء في الغزو برجالهن في حال القتال لسقي الماء ونحوه ] باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم (والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب) قوله [ (فقال ابن عباس لولا أن أكتم علما ما كتبت إليه) يعني إلى نجدة الحروري من الخوارج معناه أن ابن عباس يكره نجدة لبدعته وهي كونه من الخوارج الذين يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ولكن لما سأله عن العلم لم يمكنه كتمه فاضطر إلى جوابه ] وقال لولا أن أكتم علما ما كتبت إليه أي لولا أني إذا تركت الكتابة أصير كاتما للعلم مستحقا لوعيد كاتمه لما كتبت إليه قوله (كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة) وأما بسهم فلم يضرب لهن فيه حضور النساء الغزو ومداواتهن الجرحى كما سبق في الباب قبله * (وقوله يحذين) * هو بضم الياء واسكان الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة * (أي يعطين تلك العطية وتسمى الرضخ وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ ولا تستحق السهم وبهذا قال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي وجماهير العلماء) * وقال الأوزاعي تستحق السهم إن كانت تقاتل أو تداوي الجرحى وقال مالك لا رضخ لها وهذان المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح قوله بعد هذا (وسألت
[ 191 ]
عن المرأة والعبد هل كان لهم سهم معلوم إذا حضروا البأس وأنهم لم يكن لهم سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم) فيه أن العبد يرضخ له ولا يسهم له وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء وقال مالك لا رضخ له كما قال في المرأة وقال الحسن وابن سيرين والنخعي والحكم إن قاتل أسهم له [ قوله (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان) فيه النهي عن قتل صبيان أهل الحرب وهو حرام إذا لم يقاتلوا وكذلك النساء فإن قاتلوا أجاز قتلهم ] قوله [ (وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم فلعمري أن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم) معنى هذا متى ينقضي حكم اليتم ويستقل بالتصرف في ماله وأما نفس اليتم فينقضي بالبلوغ وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لا يتم بعد الحلم وفي هذا دليل للشافعي ومالك وجماهير العلماء أن حكم اليتم لا ينقطع بمجرد البلوغ ولا بعلو السن بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله ] وقال أبو حنيفة إذا بلغ خمسا وعشرين سنة زال عنه حكم الصبيان وصار رشيدا يتصرف في ماله ويجب تسليمه إليه وإن كان غير ضابط له وأما الكبير إذا طرأ تبذيره فمذهب مالك وجماهير العلماء وجوب الحجر عليه وقال أبو حنيفة لا يحجر قال ابن القصار وغيره الصحيح الأول وكأنه اجماع [ قوله (وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو وإنا كنا نقول هو لنا فأبى علينا قومنا ذاك) معناه خمس خمس الغنيمة الذي جعله الله لذوي القربى وقد اختلف العلماء فيه فقال الشافعي مثل قول ابن عباس وهو أن خمس الخمس من الفئ والغنيمة يكون لذوي القربى وهم عند الشافعي والأكثرين ينو هاشم وبنو المطلب وقوله (أبي علينا قومنا ذاك) أي رأوا أنه لا يتعين صرفه
[ 192 ]
إلينا بل يصرفونه في المصالح وأراد بقومه ولاة الأمر من بني أمية ] وقد صرح في سنن أبي داود وفي رواية له بأن سؤال نجدة لابن عباس عن هذه المسائل كان في فتنة ابن الزبير وكانت فتنة ابن الزبير بعد بضع وستين سنة من الهجرة * (وقد قال الشافعي رحمه الله يجوز أن ابن عباس اراد بقوله أبي ذلك علينا قومنا من بعد الصحابة وهم يزيد بن معاوية والله أعلم) * قوله (فلا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علمنه الخضر من الصبي الذي قتل) معناه أن الصبيان لا يحل قتلهم ولا يحل لك أن تتعلق بقصة الخضر وقتله صبيا فإن الخضر ما قتله إلا بأمر الله تعالى له على التعيين كما قال في آخر القصة وما فعلته عن أمري فإن كنت أنت تعلم من صبي ذلك فاقتله ومعلوم أنه لا علم له بذلك فلا يجوز له القتل قوله (وتميز المؤمن فتقتل الكافر وتدع المؤمن) معناه من يكون إذا عاش إلى البلوغ مؤمنا ومن يكون إذا عاش كافرا فمن علمت أنه يبلغ كافرا فاقتله كما علم الخضر أن ذلك الصبي لو بلغ لكان كافرا وأعلمه الله تعالى ذلك ومعلوم أنك أنت لا تعلم ذلك فلا تقتل
[ 193 ]
صبيا قوله (لولا أن يقع في أحموقة ما كتبت إليه) هي بضم الهمزة والميم يعني فعلا من أفعال الحمقى ويرى رأيا كرأيهم ومثله قوله في الرواية الأخرى والله لولا أن أرده عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه يعني بالنتن الفعل القبيح وكل مستقبح يقال له النتن والخبيث والرجس والقذر والقاذورة قوله (لا ينقطع عنه إسم اليتم حتى يبلغ ويؤنس منه رشد) يعني لا ينقطع عنه حكم اليتم كما سبق وأراد بالاسم الحكم قوله (ولا نعمة عين) هو بضم النون وفتحها أي مسرة
[ 194 ]
عين ومعناه لا تسر عينه يقال نعمة عين ونعمة عين ونعامة عين ونعمى عين نعما ونعيم عين ونعام عين بمعنى وأنعم الله عينك أي أقرها فلا يعرض لك نكد في شئ من الأمور قوله (إذا حصروا البأس) بالباء الموحدة وهو الشدة والمراد هنا الحرب
[ 195 ]
با ب عدد غزوات النبي (صلى الله عليه وسلم) ذكر في الباب من رواية زيد بن أرقم وجابر وبريدة أن رسوالله (صلى الله عليه وسلم) غزا تسع عشرة غزوة [ وفي رواية بريدة قاتل في ثمان منهن قد اختلف أهل المغازي في عدد غزواته (صلى الله عليه وسلم) وسراياه فذكر ابن سعد وغيره عددهن مفصلات على ترتيبهن فبلغت سبعا وعشرين غزاة وستا وخمسين سرية قالوا قاتل في تسع من غزواته وهي بدر وأحد والمريسيع والخندق وقريظة وخيبر والفتح وحنين والطائف هكذا عدوا الفتح فيها وهذا على قول من يقول فتحت مكة عنوة وقد قدمنا بيان الخلاف فيها ولعل بريدة أراد بقوله قاتل في ثمان اسقاط غزاة الفتح ويكون مذهبه أنها فتحت صلحا كما قاله الشافعي وموافقوه ] قوله (قلت فما أول غزوة غزاها قال ذات العسير أو العشير) هكذا في جميع نسخ صحيح مسلم [ العسير أو العشير ] العين مضمومة والأول بالسين المهملة والثاني بالمعجمة وقال القاضي في المشارق هي ذات العشيرة بضم العين وفتح الشين المعجمة قال وجاء في كتاب المغازي يعني من صحيح البخاري عسير بفتح العين وكسر السين المهملة بحذف الهاء قال والمعروف فيها العشيرة مصغرة بالشين المعجمة والهاء قال وكذا ذكرها أبو اسحق * (وهي من أر ض مذحج) * قوله (وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة يحيى بن آدم حدثنا وهيب عن أبي اسحق عن زيد بن أرقم)
[ 196 ]
هكذا هو في أكثر نسخ بلادنا وهيب عن أبي اسحق وفي بعضها زهير عن أبي اسحق ونقل القاضي أيضا الاختلاف فيه قال وقال عبد الغني الصواب زهير وأما وهيب فخطأ قال لأن وهيبا لم يلق أبا اسحق وذكر خلف في الأطراف فقال زهير ولم يذكر وهيبا قوله (عن جابر لم أشهد بدرا ولا أحدا) قال القاضي كذا في رواية مسلم أن جابرا لم يشهدهما وقد ذكر أبو عبيد أنه شهد بدرا قال ابن عبد البر الصحيح أنه لم يشهدهما وقد ذكر ابن الكلبي أنه شهد أحدا قوله (عجابر قال غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تسع عشرة غزوة ولم أشهد أحدا ولا بدرا) هذا صريح منه بأن غزوات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم تكن منحصرة في تسع عشرة بل زائدة وإنما مراد زيد بن أرقم وبريدة بقولهما تسع عشرة أن منها تسع عشرة كما صرح به جابر فقد أخبر جابر أنها أحدى وعشرون كما ترى وقد قدمنا أنها سبع وعشرون وأما قوله في الرواية الأخرى عن بريدة ست عشرة غزوة فليس فيه نفي الزيادة
[ 197 ]
باب غزوة ذات الرقاع قوله (ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه) أي يركبه كل واحد منانوبة فيه جواز مثل هذا إذا لم يضر بالمركوب قوله [ فنقبت أقدامنا ] هو بفتح النون وكسر القاف [ أي قرحت من الحفاء ] قوله (فسميت ذات الرقاع لذلك) هذا هو الصحيح في سبب تسميتها وقال سميت بذلك بجبل هناك فيه بياض وسواد وحمرة وقيل سميت باسم شجرة هناك وقيل لأنه كان في ألويتهم رقاع ويحتمل أنها سميت بالمجموع * (قوله (وكره أن يكون شيئا من عمله أفشاه) فيه استحباب اخفاء
[ 198 ]
الأعمال الصالحة وما يكابده العبد من المشاق في طاعة الله تعالى ولا يظهر شيئا من ذلك إلا لمصلحة مثل بيان حكم ذلك الشئ والتنبيه على الاقتداء به فيه ونحو ذلك وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الأخبار بذلك) * باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر إلا لحاجة (أو كونه حسن الرأي في المسلمين) قوله (عن عائشة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خرج قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة) هكذا ضبطناه بفتح البا وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم قال وضبطه بعضهم باسكانها وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة قوله (صلى الله عليه وسلم) (فارجع فلن أستعين بمشرك) [ وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استعان بصفوان بن أمية قبل
[ 199 ]
إسلامه فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه وقال الشافعي وآخرون إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره وحمل الحديثين على هذين الحالين وإذ حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم له هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والجمهور وقال الزهري والأوزاعي يسهم له والله أعلم ] قوله [ (عن عائشة قالت ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل) هكذا هو في النسخ حتى إذا كنا [ فيحتمل أن عائشة كانت مع المودعين فرأت ذلك ويحتمل أنها أرادت بقولها كنا كان المسلمون والله أعلم ] كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش قوله (صلى الله عليه وسلم) (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم) وفي رواية الناس تبع لقريش في الخير والشر وفي رواية لا يزال هذا
[ 200 ]
الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان وفي رواية البخاري ما بقي منهم اثنان [ هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم وعلى هذا انعقد الاجماع في زمن الصحابة فكذلك بعدهم ومن خالف فيه من أهل البدع أو عرض بخلاف من غيرهم فهو محجوج باجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة قال القاضي اشتراط كونه قرشيا هو مذهب العلماء كافة قال وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهم على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد قال القاضي وقد عدها العلماء في مسائل الاجماع ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا ] وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار قال ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش ولا بسخافة ضرار بن عمرو في قوله أن غير القرشي من النبط وغيرهم يقدم على القرشي لهو أن خلعه إن عرض منه أمر وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه مع ما هو عليه من مخالفة اجماع المسلمين والله أعلم [ وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) الناس تبع لقريش في الخير والشر فمعناه في الإسلام والجاهلية كما هو مصرح به في الرواية الأولى لأنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب وأصحاب حرم الله وأهل حج بيت الله وكانت العرب تنظر إسلامهم فلما أسلموا وفتحت مكة تبعهم الناس وجاءت وفود العرب من كل جهة ودخل الناس في دين الله أفواجا وكذلك في الإسلام هم أصحاب الخلافة والناس تبع لهم وبين (صلى الله عليه وسلم) أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا ما بقي من الناس اثنان وقد ظهر
[ 201 ]
ما قاله (صلى الله عليه وسلم) فمن زمنه (صلى الله عليه وسلم) إلى الآن الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم فيها وتبقى كذلك ما بقي اثنان كما قاله (صلى الله عليه وسلم) ] قال القاضي عياض استدل أصحاب الشافعي بهذا الحديث على فضيلة الشافعي قال ولا دلالة فيه لهم لأن المراد تقديم قريش في الخلافة فقط قلت هو حجة في مزية قريش على غيرهم والشافعي قرشي قوله (صلى الله عليه وسلم) (أن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) وفي رواية لا يزال أمر الناس ماضيا ماوليهم اثنا عشر رجلا كلهم من قريش [ وفي رواية لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة كلهم من قريش قال القاضي قد توجه هنا سؤالان أحدهما أنه قد جاء في الحديث الآخر الخلافة بعدى ثلاثون سنة ثم تكون ملكا وهذا مخالف لحديث اثنى عشر خليفة فإنه لم يكن في ثلاثين سنة إلا الخلفاء الراشدون الأربعة والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي قال والجواب عن هذا أن المراد في حديث الخلافة ثلاثون سنة خلافة النبوة وقد جاء مفسرا في بعض الروايات خلافة النبوة بعدى ثلاثون سنة ثم تكون ملكا ولم يشترط هذا في الاثنى عشر السؤال الثاني أنه قد ولى أكثر من هذا العدد قال وهذا اعتراض باطل لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يقل لا يلي إلا اثنى عشر خليفة وإنما قال يلي وقد ولي هذا العدد ولا يضر كونه وجد بعدهم غيرهم
[ 202 ]
هذا إن جعل المراد باللفظ كل وال ويحتمل أن يكون المراد مستحق الخلافة العادلين وقد مضى منهم من علم ولا بد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة قال وقيل إن معناه أنهم يكونون في عصواحد يتبع كل واحد منهم طائفة قال القاضي ولا يبعد أن يكون هذا قد وجد إذا تتبعت التواريخ فقد كان بالأندلس وحدها منهم في عصر واحد بعد أربعمائة وثلاثين سنة ثلاثة كلهم يدعيها ويلقب بها وكان حينئذ في مصر آخر وكان خليفة الجماعة العباسية ببغداد سوى من كان يدعي ذلك في ذلك الوقت في أقطار الأرض قال ويعضد هذا التأويل قوله في كتاب مسلم بعد هذا ستكون خلفاء فيكثرون قالوا فما تأمرنا قال فوا بيعة الأول فالأول قال ويحتمل أن المراد
[ 203 ]
من يعز الإسلام في زمنه ويجتمع المسلمون عليه كما جاء في سنن أبي داود كلهم تجتمع عليه الأمة وهذا قد وجد قبل اضطراب أمر بني أمية واختلافهم في زمن يزيد بن الوليد وخرج عليه بنو العباس ويحتمل أوجها أخر والله أعلم بمراد نبيه (صلى الله عليه وسلم) ] قوله (فقال كلمة ضمنها الناس) هو بفتح الصاد وتشديد الميم المفتوحة أي أصموني عنها فلم أسمعها لكثرة الكلام ووقع في بعض النسخ صمتنيها الناس أي سكتوني عن السؤال عنها [ قوله (صلى الله عليه وسلم) (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى) هذا من المعجزات الظاهرة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد فتحوه بحمد الله في زمن عمر بن الخطاب
[ 204 ]
رضي الله عنه ] والعصيبة تصغير عصبة وهي الجماعة وكسرى بكسر الكاف وفتحها قوله (صلى الله عليه وسلم) (إذا أعطى الله أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه) هو مثل حديث ابدأ بنفسك ثم بمن تعول قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (أنا الفرط على الحوض) الفرط بفتح الراء ومعناه السابق إليه والمنتظر لسقيكم منه والفرط والفارط هو الذي يتقدم القوم إلى الماء ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه ] قوله (عن عامر بن سعد أنه أرسل إلى ابن سمرة العدوي) كذا هو في جميع النسخ العدوى قال القاضي هذا تصحيف فليس هو بعدوي إنما هو عامري من بني عامر بن صعصعة فيصحف بالعدوى والله أعلم باب الاستخلاف وتركه [ قوله (راعب وراهب) أي راج وخائف ومعناه الناس صنفان أحدهما يرجو والثاني يخاف أي راغب في حصول شئ مما عندي أو راهب مني وقيل أراد أني راغب فيما عند الله تعالى وراهب من عذابه فلا أعول على ما أتيتم به علي وقيل المراد الخلافة أي الناس فيها ضربان راغب فيها فلا أحب
[ 205 ]
تقديمه لرغبته وكاره لها فأخشى عجزه عنها قوله (إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني إلى آخره) حاصله أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه فإن تركه فقد اقتدى بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا وإلا فقد اقتدى بأبي بكر وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بن جماعة كما فعل عمر بالستة وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل ] وأما ما حكى عن الأصم أنه قال لا يجب وعن غيره أنه يجب بالعقل لا بالشرع فباطلان أما الأصم فمحجوج باجماع من قبله ولا حجة له في بقاء الصحابة بلا خليفة في مدة التشاور يوم السقيغة وأيام الشورى بعد وفاة عمر رضي الله عنه لأنهم لم يكونوا تاركين لنصب الخليفة بل كانوا ساعين في النظر في أممن يعقد له وأما القائل الآخر ففساد قوله ظاهر لأن العقل لا يوجب شيئا ولا يحسنه ولا يقبحه وإنما يقع ذلك بحسب العادة لا بذاته [ وفي هذا الحديث دليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم ينص على خليفة
[ 206 ]
وهو اجماع أهل السنة وغيرهم ] قال القاضي وخالف في ذلك بكر بن أخت عبد الواحد فزعم أنه نص على أبي بكر وقال ابن راوندي نص علي العباس وقالت الشيعة والرافضة على علي وهذه دعاوي باطلة وجسارة على الافتراء ووقاحة في مكابرة الحس وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر وعلى تنفيذ عهد عمر بالشورى ولم يخالف في شئ من هذا أحد ولم يدع علي ولا العباس ولا أبو بكر وصية في وقت من الأوقات وقد اتفق علي والعباس على جميع هذا من غير ضرورة مانعة من ذكر وصية لو كانت فمن زعم أنه كان لأحد منهم وصية فقد نسب الأمة إلى اجتماعها على الخطأ واستمرارها عليه وكيف يحل لأحد من أهل القبلة أن ينسب الصحابة إلى المواطأ على الباطل في كل هذه الأحوال ولو كان شئ لنقل فإنه من الأمور المهمة [ قوله (آليت أن أقولها) أي حلفت ]
[ 207 ]
باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) هكذا هو في كثير من النسخ أو أكثرها أكلت بالهمز وفي بعضها وكلت قال القاضي هو في أكثرها بالهمز قال والصواب بالواو أي أسلمت إليها ولم يكن معك إعانة بخلاف ما إذا حصلت بغير مسألة قوله (صلى الله عليه وسلم) (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا أحدا حرص عليه) يقال حرص بفتح الراء وكسرها والفتح أفصح وبه جاء القرآن قال الله تعالى وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ قال العلماء والحكمة في أنه لا يولى من سأل الولاية أنه يوكل إليها ولا
[ 208 ]
تكون معه إعانة كما صرح به في حديث عبد الرحمن بن سمرة السابق وإذا لم تكن معه إعانة لم يكن كفئا ولا يولى غيرالكفء ولأن فيه تهمة للطالب والحريض والله أعلم ] قوله [ (وألقى له وسادة فيه أكرام الضيف بهذا ] ونحوه [ قوله في اليهودي الذي أسلم (ثم ارتد فقال لا أجلس حتى يقتل فأمر به فقتل) فيه وجوب قتل المرتد وقد أجمعوا على قتله لكن اختلفوا في استتابته هل هي واجبة أم مستحبة وفي قدرها وفي قبول توبته وفي أن المرأة كالرجل في ذلك أم لا فقال مالك والشافعي وأحمد والجماهير من السلف والخلف يستتاب ونقل ابن القصار المالكي اجماع الصحابة عليه وقال طاوس والحسن والماجشون المالكي وأبو يوسف وأهل الظاهر لا يستتاب ولو تاب نفعته توبته عند الله تعالى ولا يسقط قتله لقوله (صلى الله عليه وسلم) من بدل دينه فاقتلوه ] وقال عطاء إن كان ولد مسلما لم يستتب وإن كان ولد كافرا فأسلم ثم ارتد يستتاب واختلفوا في أن الاستتابة واجبة أم مستحبة والأصح عند الشافعي وأصحابه أنها واجبة وأنها في الحال وله قول أنها ثلاثة أيام وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد واسحاق وعن علي أيضا أنه يستتاب شهرا قال الجمهور
[ 209 ]
والمرأة كالرجل في أنها تقتل إذا لم تتب ولا يجوز استرقاقها هذا مذهب الشافعي ومالك والجماهير وقال أبو حنيفة وطائفة تسجن المرأة ولا تقتل وعن الحسن وقتادة أنها تسترق وروى عن علي قال القاضي عياض وفيه أن لأمراء الأمصار إقامة الحدود في القتل وغيره وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والعلماء كافة وقال الكوفيون لا يقيمه إلا فقهاء الأمصار ولا يقيمه عامل السواد قال [ واختلفوا في القضاء إذا كانت ولايتهم مطلقة ليست مختبصة بنوع من الأحكام فقال جمهور العلماء تقيم القضاة الحدود وينظرون في جميع الأشياء إلا ما يختص بضبط البيضة من اعداد الجيوش وجباية الخراج ] وقال أبو حنيفة لا ولاية في إقامة الحدود قوله (أما أنا فأنام وأقوم وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي) معناه أني أنام بنية القوة واجماع النفس للعبادة وتنشيطها للطاعة فأرجو في ذلك الأجر كما أرجو في قومتي أي صلواتي باب كراهة الإمارة بغير ضرورة قوله (حدثني الليث بن سعد حدثني يزيد بن أبي حبيب عن بكر بن عمرو عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن ابن حجيرة الأكبر عن أبي ذر) هكذا وقع هذا الاسناد في جميع نسخ بلادنا يزيد ابن أبي حبيب عن بكر وكذا نقله القاضي عن نسخة الجلودي التي هي طريق بلادنا قال ووقع عند ابن ماهان حدثني يزيد بن أبي حبيب وبكر بواو العطف والأول هو الصواب قاله عند الغني قلت
[ 210 ]
ولم يذكر خلف الواسطي في الأطراف غيره واسم ابن حجيرة عبد الرحمن وهو بحاء مهملة مضمومة ثم جيم مفتوحة واسم أبي حبيب سويد وفي هذا الاسناد أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض وهم يزيد والثلاثة بعده قوله في الاسناد الذي بعده (حدثنا زهير بن حرب واسحق ابن إبراهيم كلاهما عن المقرى قال زهير حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر القرشي عن سالم بن أبي سالم الجيشاني عن أبيه عن أبي ذر) قال الدارقطني في كتابه اختلف في هذا الحديث على عبيد الله بن أبي جعفر في هذا الاسناد فرواه سعيد بن أبي أيوب عنه كما سبق ورواه ابن لهيعة عنه عن مسلم بن أبي مريم عن أبي سالم الجيشاني عن أبي ذر ولم يحكم الدارقطني فيه بشئ فالحديث صحيح اسنادا ومتنا وسعيد بن أبي أيوب أحفظ من ابن لهيعة وأما المقرئ المذكور في الاسناد فهو عبد الله بن يزيد المذكور عقبه واسم أبي أيوب والد سعيد المذكور مقلاص الخزاعي المصري واسم أبي سالم الجيشاني سفيان بن هانئ منسوب إلى جبشان بفتح الجيم قبيلة من اليمن قوله (صلى الله عليه وسلم) (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) وفي الرواية الأخرى يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم [ هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلا لها أو كان أهلا ولم يعدل فيها فيخزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه ويندم على ما فرط وأما من كان أهلا للولاية وعدل فيها فله فضل عظيم تظاهرت به
[ 211 ]
الأحاديث الصحيحة كحديث سبعة يظلهم الله والحديث المذكور هنا عقب هذا أن المقسطين على منابر من نور وغير ذلك واجماع المسلمين منعقد عليه ومع هذا فلكثرة الخطر فيها حذره (صلى الله عليه وسلم) منها وكذا حذر العلماء وامتنع منها خلائق من السلف وصبروا على الأذى حين امتنعوا ] باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق (بالرعية والنهي عن ادخال المشقة عليهم) قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) أما قوله ولوا فبفتح الواو وضوء اللام المخففة أي كانت لهم عليه ولاية والمقسطون هم العادلون وقد فسره في آخر الحديث والأقساط والقسط بكسر القاف العدل ] يقال أقسط أقساطا فهو مقسط إذا عدل قال الله تعالى وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ويقال قسط يقسط بفتح الياء وكسر السين قسوطا وقسطا بفتح القاف فهو قاسط وهم [ قاسطون إذا جاروا ] قال الله تعالى القاسطون فكانوا لجهنم حطبا [ وأما المنابر فجمع منبر سمي به لارتفاعه قال القاضي يحتمل أن يكونوا على منابر حقيقة على ظاهر الحديث ويحتمل أن يكون كناية عن المنازل الرفيعة قلت الظاهر الأول ويكون متضمنا للمنازل الرفيعة فهم على منابر حقيقة ومنازلهم رفيعة أما قوله (صلى الله عليه وسلم) عن يمين الرحمن فهو من أحاديث الصفات وقد سبق في أول هذا الشرح بيان اختلاف العلماء فيها وأن منهم من قال نؤمن بها ولا نتكلم في تأويله ولا نعرف معناه لكن نعتقد أن ظاهرها غير مراد وأن لها معنى يليق بالله تعالى وهذا مذهب جماهير
[ 212 ]
السلف وطوائف من المتكلمين والثاني أنها تؤول على ما يليق بها وهذا قول أكثر المتكلمين وعلى هذا قال القاضي عياض رضي الله عنه المراد بكونهم عن اليمين الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة ] قال قال ابن عرفة يقال أتاه عن يمينه إذا جاءه من الجهة المحمودة [ والعرب تنسب الفعل المحمود والاحسان إلى اليمين وضده إلى اليسار قالوا واليمين مأخوذة من اليمن وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) وكلتا يديه يمين فتنبيه على أنه ليس المراد باليمين جارحة تعالى الله عن ذلك فإنها مستحيلة في حقه سبحانه وتعالى ] وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا فمعناه أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما تقلده من خلافة أو إمارة أو قضاء أو حسبة أو نظر على يتيم أو صدقة أو وقف وفيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك والله أعلم قوله (عن عبد الرحمن بن شماسة) هو بفتح الشين وضمها وسبق بيانه في كتاب الإيمان قوله (ما نقمنا منه شيئا) أي ما كرهنا وهو بفتح القاف وكسرها قولها (أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك) فيه أنه ينبغي أن يذكر فضل أهل الفضل ولا يمتنع منه لسبب عداوة ونحوها واختلفوا في صفة قتل محمد هذا قيل في المعركة وقيل بل قتل أسيرا بعدها وقيل وجد بعدها في خربة في جوف حمار ميت فأحرقوه قوله (صلى الله عليه وسلم) (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به)
[ 213 ]
[ هذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس وأعظم الحث على الرفق بهم وقد تظاهرت الأحاديث بهذا المعنى ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) [ قال العلماء الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره ففيه أن كل من كان تحت نظره شئ فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته ] قوله
[ 214 ]
(صلى الله عليه وسلم) (ما من عيد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو عاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) [ هذا الحديث والذي بعده سبق شرحهما في كتاب الإيمان وحاصله أنه يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مستحلا لغشهم فتحرم عليه الجنة ويخلد في النار والثاني
[ 215 ]
أنه لا يستحله فيمتنع من دخولها أول وهلة مع الفائزين وهو معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) في الرواية الثانية لم يدخل معهم الجنة أي وقت دخولهم بل يؤخر عنهم عقوبة له إما في النار وإما في الحساب وإما في غير ذلك وفي هذه الأحاديث وجوب النصيحة على الوالي لرعيته والاجتهاد في مصالحهم والنصيحة لهم في دينهم ودنياهم وفي قوله (صلى الله عليه وسلم) يموت يوم يموت وهو غاش دليل على أن التوبة قبل حالة الموت نافعة ] قوله (لو علمت أن بي حياة ما حدثتك) وفي الرواية الأخرى لولا أني في الموت لم أحدثك به يحتمل أنه كان يخافه على نفسه
[ 216 ]
قبل هذا الحال ورأى وجوب تبليغ العلم الذي عنده قبل موته لئلا يكون مضيعا له وقد أمرنا كلنا بالتبليغ [ قوله (انما انت من نخالتهم) يعني لست من فضلائهم وعلمائهم وأهل المراتب منهم بل من سقطهم والنخالة هنا استعارة من نخالة الدقيق وهي قشورة والنخالة والحقالة والحثالة بمعنى واحد قوله (وهل كانت لهم نخالة إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم) هذا من جزل الكلام وفصيحه وصدقه الذي ينقاد له كل مسلم فإن الصحابة رضي الله عنهم كلهم هم صفوة الناس وسادات الأمه وأفضل ممن بعدهم وكلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم وإنما جاء التخليط ممن بعدهم وفيمن بعدهم كانت النخالة قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن شر الرعاء الحطمة) قالوا هو العنيف في رعيته لا يرفق بها في سوقها ومرعاها بل يحطمها في ذلك وفي سقيها وغيره ويزحم بعضها ببعض بحيث يؤذيها ويحطمها ] باب غلظ تحريم الغلول [ قوله (ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الغلول فعظمه وعظم أمره) هذا تصريح بغلظ تحريم الغلول وأصل الغلول الخيانة مطلقا ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة ] قال نفطويه [ سمى بذلك لأن الأيدي مغلولة عنه أي محبوسة يقال غل غلولاوأغل أغلالا ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء) هكذا ضبطناه ألفين بضم الهمزة وبالفاء المكسورة أي لاأجدن احدكم على هذه الصفة ومعناه لا تعملوا عملا أجدكم بسببه على هذه الصفة قال القاضي ووقع في رواية العذري لا القين بفتح الهمزة والقاف وله وجه كحنو ما سبق لكن المشهور الأول [ والرغاء بالمد صوت البعيد وكذا المذكورات بعد وصف
[ 217 ]
كل شئ بصوته والصامت الذهب والفضة ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا أملك لك من الله شيئا) قال القاضي معناه من المغفرة والشفاعة إلا بإذن الله تعالى قال ويكون ذلك أولا غضبا عليه لمخالفته ثم يشفع في جميع الموحدين بعد ذلك كما سبق في كتاب الإيمان في شفاعات النبي (صلى الله عليه وسلم) [ واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على وجوب زكاه العروض والخيل ولا دلالة فيه لواحد منهما لأن هذا الحديث ورد في الغلول وأخذ الأموال غصبا فلا تعلق له بالزكاة وأجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول وأنه من الكبائر وأجمعوا على أن عليه رد ما غله فإن تفرق الجيش وتعذر إيصال حق كل واحد إليه ففيه خلاف للعلماء ] قال الشافعي وطائفة يجب تسليمه إلى الأمام أو الحاكم كسائر الأموال الضائعة وقال ابن مسعود وابن عباس ومعاوية والحسن والزهري والأوزاعي ومالك والثوري والليث وأحمد والجمهور يدفع خمسة إلى الإمام ويتصدق بالباقي واختلفوا في صفة عقوبة الغال فقال جمهور العلماء وأئمة الأمصار يعزر على
[ 218 ]
حسب ما يراه الإمام ولا يحرق متاعه وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة ومن لا يحصى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقال مكحول والحسن والأوزاعي يحرق رحله ومتاعه كله قال الأوزاعي إلا سلاحه وثيابه التي عليه وقال الحسن إلا الحيوان والمصحف واحتجوا بحديث عبد الله بن عمر في تحريق رحله قال الجمهور وهذا حديث ضعيف لإنه مما انفرد به صالح بن محمد عن سالم وهو ضعيف قال الطحاوي ولو صح يحمل على أنه كان إذا كانت العقوبة بالأموال كأخذ شطر المال من مانع الزكاة وضالة الإبل وسارق التمر وكل ذلك منسوخ والله أعلم باب تحريم هدايا العمال قوله (استعمل النبي (صلى الله عليه وسلم) رجلا من الأسد يقال له ابن اللتبية) أما الأسد فبإسكان
[ 219 ]
السين ويقال له الأزدي من أزد شنوءة ويقال لهم الأزد والأسد وقد ذكره مسلم في الرواية الثانية وأما اللتبية فبضم اللام واسكان التاء ومنهم من فتحها قالوا وهو خطأ ومنهم من يقول بفتحها وكذا وقع في مسلم في رواية أبي كريب المذكورة بعد هذا قالوا وهو خطأ أيضا والصواب اللتبية بإسكانها نسبة إلى بني لتب قبيلة معروفة وإسم ابن اللتبية هذا عبد الله [ وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول لأنه خان في ولايته وأمانته ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أهدى إليه يوم القيامة كما ذكر مثله في الغال وقد بين (صلى الله عليه وسلم) في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل فإنها مستحبة وقد سبق بيان حكم ما يقبضه العالم ونحوه بإسم الهدية وأنه يرده إلى مهديه فإن تعذر فإلى بيت المال ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (أو شاة تيعر) هو بمثناة فوق مفتوحة ثم مثناة تحت ساكنة ثم عين مهملة مكسورة ومفتوحة ومعناه تصيح واليعار صوت الشاة قوله (ثم رفع يديه حتى رأينا عقرتي ابطيه) ثم بضم العين المهملة وفتحها والفاء ساكنة فيهما وممن ذكر اللغتين في العين القاضي هنا وفي المشارق وصاحب المطالع والأشهر الضم قال الأصمعي وآخرون [ عقرة الإبط هي البياض ليس بالناصع
[ 220 ]
بل فيه شئ كلون الأرض قالوا وهو مأخوذ من عفر الأرض بفتح العين والفاء وهو وجهها قوله (فلما جاء حاسبه) فيه محاسبة العمال ليعلم ما قبضوه وما صرفوا ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (فلأعرفن أحدا منكم لقى الله يحمل بعيرا) هكذا هو ببعض النسخ فلا عرفن وفي بعضها لا أعرفن بالألف على النفي قال القاضي هذا أشهر قال والأول هو رواية أكثر رواة صحيح مسلم [ قوله (بصر عيني وسمع أذني) معناه أعلم هذا الكلام يقينا وأبصرت عيني النبي (صلى الله عليه وسلم) حين
[ 221 ]
تكلم به وسمعته أذني فلا شك في علمي به ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (والله الذي نفسي بيده) فيه توكيد اليمين بذكر اسمين أو أكثر من أسماء الله تعالى [ قوله (وسلوا زيد بن ثابت فإنه كان حاضرا معي) فيه استشهاد الراوي والقائل بقول من يوافقه ليكون أوقع في نفس السامع وأبلغ في طمأنينته ] قوله (وحدثناه اسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن الشيباني عن عبد الله ابن ذكوان عن عروة بن الزبير أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استعمل رجلا على الصدقة إلى قوله قال عروة فقلت لأبي حميد أسمعته من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال من فيه إلى أذني) هكذا هو في أكثر النسخ عن عروة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يذكر أبا حميد وكذا نقله القاضي هنا عن رواية الجمهور ووقع في جماعة من النسخ عن عروة بن الزبير عن أبي حميد وهذا واضح وأما الأول فهو متصل أيضا لقوله قال عروة فقلت لأبي حميد أسمعته من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال من فيه إلى أذني فهذا تصريح من عروة بأنه سمعه من أبي حميد فاتصل الحديث ومع هذا فهو متصل بالطرق الكثيرة السابقة قوله (فجاء بسواد كثير) أي بأشياء كثيرة وأشخاص بارزة من حيوان وغيره والسواد يقع على كل شخص
[ 222 ]
قوله (صلى الله عليه وسلم) (كتمنا مخيطا) هو بكسر الميم واسكان الخاء وهو الإبرة قوله (عدي بن عميرة) بفتح العين قال القاضي ولا يعرف من الرجال أحد يقال له عميرة بالضم بل كلهم بالفتح ووقع في النسائي الأمران باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (وتحريمها في المعصية) أجمع العلماء على وجوبها في غير معصية وعلى تحريمها في المعصية نقل الاجماع على هذا القاضي
[ 223 ]
عياض وآخرون [ قوله (نزل قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم في عبد الله بن حذافة أمير السرية قال العلماء المراد بأولي الأمر من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم وقيل هو العلماء وقيل الأمراء والعلماء ] وأما من قال الصحابة خاصة فقط فقد أخطأ قوله (صلى الله عليه وسلم) (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد
[ 224 ]
أطاعني) وقال في المعصية مثله لأن الله تعالى أمر بطاعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأمر هو (صلى الله عليه وسلم) بطاعة الأمير فتلازمت الطاعة قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك) قال العلماء معناه تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية فإن كانت لمعصية فلا سمع ولا طاعة كما صربه في الأحاديث الباقية فتحمل هذه الأحاديث المطلقة لوجوب طاعة ولاة
[ 225 ]
الأمور على موافقة تلك الأحاديث المصرحة بأنه لا سمع ولا طاعة في المعصية ] والأثرة بفتح الهمزة والثاء ويقال بضم الهمزة واسكان الثاء وبكسر الهمزة واسكان الثاء ثلاث لغات حكاهن في المشارق وغيره وهي الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم ] أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال وسببها اجتماع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أجوالهم في دينهم ودنياهم قوله (إن خليلي (صلى الله عليه وسلم) أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف) بعني مقطوعها والمراد أخس العبيد أي أسمع وأطيع للأمير وإن كان دنئ النسب حتى لو كان عبدا أسود مقطوع الأطراف فطاعته واجبة وتتصور إمارة العبد إذا ولاه بعض الأئمة أو إذا تغلب على البلاد بشوكته وأتباعه ولا يجوز ابتداء عقد الولاية له مع الاختيار بل شرطها
[ 226 ]
الحرية ] قوله (إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث جيشا وأمر عليهم رجلا فأوقد نارا وقال
[ 227 ]
ادخلوها إلى قوله لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف) هذا موافق للأحاديث الباقية أنه لا طاعة في معصية إنما هي في المعروف [ وهذا الذي فعله هذا الأمير قيل أراد امتحانهم وقيل كان مازحا ] قيل إن هذا الرجل عبد الله بن حذافة السهمي وهذا ضعيف لأنه قال في الرواية التي بعدها أنه رجل من الأنصار فدل على أنه غيره قوله (صلى الله عليه وسلم) (لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة) هذا مما علمه (صلى الله عليه وسلم) بالوحي وهذا التقييد بيوم القيامة مبين
[ 228 ]
للرواية المطلقة بأنهم لا يخرجون منها لو دخلوها قوله (صلى الله عليه وسلم) (إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان) هكذا هو لمعظم الرواة وفي معظم النسخ بواحا بالواو وفي بعضها
[ 229 ]
براحا والباء مفتوحة فيهما [ ومعناهما كفرا ظاهرا والمراد بالكفر هنا المعاصي ومعنى عندكم من الله فيه برهان أي تعلمونه من دين الله تعالى ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام فإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكى عن المعتزلة أيضا فغلط من قائله مخالف للإجماع قال العلماء وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن واراقة الدماء وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه قال القاضي عياض أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل قال وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها قال وكذلك عند جمهورهم البدعة قال وقال بعض البصريين تنعقد له وتستدام له لأنه متأول قال القاضي فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب أمام عادل أن أمكنهم ذلك فإن لم يقع ذلك الا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن تحققوا العجز لم يجب القيام وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه قال ولا تنعقد لفاسق ابتداء فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك قال القاضي وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الاجماع وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث وتأول هذا القائل قوله أن لا ننازع الأمر أهله في أئمة العدل وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق بل لما غير من الشرع وظاهر من الكفر قال القاضي وقيل أن هذا الخلاف كان أولا ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم والله اعلم ] قوله (بايعنا على السمع) المراد بالمبايعة المعاهدة وهي مأخوذة من البيع لأن كل واحد من المتبايعين كان يمد يده إلى صاحبه وكذا هذه البيعة
[ 230 ]
تكون بأخذ الكف وقيل سميت مبايعة لما فيها من المعاوضة لما وعدهم الله تعالى من عظيم الجزاء قال الله تعالى الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية ] قوله (وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم معناه نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان الكبار والصفار لا نداهن فيه أحدا ولا نخافه هو ولا نلتفت إلى الأئمة ففيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأجمع العلماء على أنه فرض كفاية فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره سقط الانكار بيده ولسانه ووجبت كراهته بقلبه هذا مذهبنا ومذهب الجماهير وحكى القاضي هنا في بعضهم أنه ذهب إلى الإنكار مطلقا في هذه الحالة وغيرها وقد سبق في باب الأمر بالمعروف في كتاب الإيمان وبسطته بسطا شافيا باب الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به قوله (حدثنا إبراهيم عن مسلم حدثني زهير بن حرب حدثنا شبابة حدثني ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال إنما الإمام حنة يقاتل من ورائه ويتقي به) هذا الحديث أول الفوات الثالث الذي لم يسمعه إبراهيم بن سفيان عن مسلم بل رواه عنه بالاجازة ولهذا قال عن مسلم وقد قدمنا بيانه في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (الإمام جنة) أي كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام ويتقيه الناس ويخافون سطوته ومعنى يقاتل من ورائه أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقا ] والتاء في يتقي مبدلة من الواو
[ 231 ]
باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول [ قوله (صلى الله عليه وسلم) (كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي) أي يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية والسياسة القيام على الشئ بما يصلحه وفي هذا الحديث جواز قول هلك فلان إذا مات وقد كثرت الأحاديث به وجاء في القرآن العزيز قوله تعالى حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (وتكون خلفاء فتكثر قالوا فما تأمرنا قال فوابيعة الأول فالأول) قوله فتكثر بالثاء المثلثة من الكثرة هذا هو الصواب المعروف قال القاضي وضبطه بعضهم فتكبر بالباء الموحدة كأنه من أكبار قبيح أفعالهم وهذا تصحيف وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) [ ومعنى هذا الحديث إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها ويحرم عليه طلبها وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول جاهلين وسواء كانا في بلدين أو بلد أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل
[ 232 ]
والآخر في غيره هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء وقيل تكون لمن عقدت له في بلد الإمام وقيل يقرع بينهم وهذان فاسدان واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد سواء اتسعت دار الإسلام أم لا ] وقال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد قال أصحابنا لا يجوز عقدها شخصين قال وعندي أنه لا يجوز عقدها لإثنين في صقع واحد وهذا مجمع عليه قال فإن بعد ما بين الإمامين وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال قال وهو خارج من القواطع وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل وأراد به إمام الحرمين وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف ولظواهر إطلاق الأحاديث والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم) هذا من معجزات النبوة وقد وقع هذا الإخبار متكررا ووجد مخبره متكررا وفيه الحث على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالما عسوفا فيعطى حقه من و الطاعة ولا يخرج عليه ولا يخلع بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه ودفع شره وإصلاحه ] وتقدم قريبا ذكر اللغات الثلاث في الأثرة وتفسيرها [ والمراد بها هنا استئثار الأمراء بأموال بيت المال والله أعلم ] قوله
[ 233 ]
[ (ومنا من ينتضل) هو من المناضلة وهي المراماة بالنشاب قوله (ومنا من هو في جشره) هو بفتح الجيم والشين وهي الدواب التي ترعى وتبيت مكانها ] قوله (الصلاة جامعة) هو بنصب الصلاة على الاغراء وجامعة على الحال قوله (صلى الله عليه وسلم) (وتجئ فتنة فيرقق بعضها بعضا) هذه اللفظة رويت على أوجه أحدهما وهو الذي نقله القاضي عن جمهور الرواة يرقق بضم الياء وفتح الراء وبقافين أي يصير بعضها رقيقا أي خفيفا لعظم ما بعده فالثاني يجعل الأول رقيقا وقيل معناه يشبه بعضها بعضا وقيل يدور بعضها في بعض ض ويذهب ويجئ وقيل معناه يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها والوجه الثاني فيرفق بفتح الياء وإسكان الراء وبعدها فاء مضمومة والثالث فيدفق بالدال المهملة الساكنة وبالفاء المكسورة أي يدفع ويصب والدفق الصب [ قوله (صلى الله عليه وسلم) (وليأت إلى الناس الذي يجب أن يؤتى إليه) هذا من جوامع كلمه (صلى الله عليه وسلم) وبديع حكمه وهذه قاعدة مهمة فينبغي الاعتناء بها وأن الإنسان يلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه قوله (صلى الله عليه وسلم)
[ 234 ]
(فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) معناه ادفعوا الثاني فإنه خارج على الإمام فإن لم يندفع إلا بحرب وقتال فقاتلوه فإن دعت المقاتلة إلى قتله جاز قتله ولا ضمان فيه لأنه ظالم متعد في قتاله ] قوله (فقلت له هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله تعالى يقول ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلى آخره) المقصود بهذا الكلام أن هذا القائل لما سمع كلام عبد الله بن عمرو بن العاص وذكر الحديث في تحريم منازعة الخليفة الأول وأن الثاني يقتل فاعتقد هذا القائل هذا الوصف في معاوية لمنازعته عليا رضي الله عنه وكانت قد سبقت بيعة علي فرأى هذا أن نفقة معاوية على أجناده وأتباعه في حرب علي ومنازعته ومقاتلته إياه من أكل المال بالباطل ومن قتل النفس لأنه قتال بغير حق فلا يستحق أحد مالا في مقاتلته قوله (أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله) هذا فيه دليل لوجوب طاعة المتولين للإمامة بالقهر من غير إجماع ولا عهد قوله (عن عبد الرحمن بن عبد رب
[ 235 ]
الكعبة الصائدي) هكذا هو في جميع النسخ بالصاد والدال المهملة وكذا نقله القاضي عياض عن جميع النسخ قال وهو غلط وصوابه العائذي بالعين والذال المعجمة قاله ابن الحباب والنسابة هذا كلام القاضي وقد ذكره البخاري في تاريخه والسمعاني في الأنساب فقالا هو الصائدي ولم يذكرا غير ذلك فقد اجتمع مسلم والبخاري والسمعاني على الصائدي قال السمعاني هو منسوب إلى صائد بطن من همدان قال وصائد اسم كعب بن شرحبيل بن شراحبيل بن عمرو بن حشم ابن حاسد بن حشيم بن حوان بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن سهلان بن سلمة بن ربيعة ابن أحبار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم تقدم شرح أحاديثه في الأبواب قبله وحاصله الصبر على ظلمهم وأنه لا تسقط طاعتهم بظلمهم والله أعلم
[ 236 ]
باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (وفي كل حال وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة) قوله (قلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر قال نعم فقلت فهل بعد ذاك الشر من خير قال نعم وفيه دخن) قال أبو عبيد وغيره [ الدخن ] بفتح الدال المهملة والخاء المعجمة أصله [ أن تكون في لون الدابة كدورة إلى سواد ] قالوا [ والمراد
[ 237 ]
هنا أن لا تصفو القلوب بعضها لبعض ولا يزول خبثها ولا ترجع إلى ما كانت عليه من الصفا ] قال القاضي قيل المراد بالخير بعد الشر أيام عمر بن عبد العزير رضي الله عنه قوله بعده تعرف منهم وتنكر المراد الأمر بعد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (ويهتدون بغير هديي) الهدى الهيئة والسيرة والطريقة ] قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) قال العلماء هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج والقزامطة وأصحاب المحنة وفي حديث حذيفة هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ووجوب طاعته وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك فتجب طاعته في غير معصية وفيه معجزات لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي هذه الأمور التي أخبر بها وقد وقعت كلها ] قوله (عن أبي سلام قال قال حذيفة بن اليمان) قال الدارقطني هذا عندي مرسل لأن أبا سلام لم يمسح حذيفة وهو كما قال الدارقطني لكن المتن صحيح متصل بالطريق
[ 238 ]
الأول وإنما أتى مسلم بهذا متابعة كما ترى وقد قدمنا في الفصول وغيرها أن الحديث المرسل إذا روى من طريق آخر متصلا تبيانا به صحة المرسل وجاز الاحتجاج به ويصير في المسألة حديثان صحيحان قوله (عن أبي قيس بن رباح) هو بكسر الراء وبالمثناة وهو زياد بن رباح القيسي المذكور في الأسناد بعده وقاله البخاري بالمثناة وبالموحدة وقاله الجماهير بالمثناة لا غير [ قوله (صلى الله عليه وسلم) (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية) هي بكسر الميم أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (ومن قاتل تحت راية عمية) هي بضم العين وكسرها لغتان مشهورتان والميم مكسورة مشددة والياء مشددة أيضا قالوا هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور قال اسحاق ابن راهوية هذا كتقاتل القوم للعصبية قوله (صلى الله عليه وسلم) (يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة) هذه الألفاظ الثلاثة بالعين والصاد المهملتين هذا هو الصواب المعروف في نسخ بلادنا وغيرها وحكى القاضي عن رواية العذري بالغين والضاد المعجمتين
[ 239 ]
في الألفاظ الثلاثة ومعناها أنه يقاتل لشهوة نفسه وغضبه لها ويؤيد الرواية الأولى الحديث المذكور بعدها يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة ومعناه إنما يقاتل عصبية لقومه وهواه ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها وفي بعض النسخ يتحاشى بالياء ومعناه لا يكترث بما يفعله فيها ولا يخاف وباله
[ 240 ]
وعقوبته [ قوله (صلى الله عليه وسلم) (من خلع يدا من طاعة لقى الله تعالى يوم القيامة) لا حجة له) أي لاحجة له في فعله ولا عذر له بنفعه ]
[ 241 ]
باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع [ قوله (صلى الله عليه وسلم) (ستكون هنات وهنات) الهنات جمع هنة وتطلق على كل شئ والمراد بها هنا الفتن والأمور الحادثة ] قوله (صلى الله عليه وسلم) (فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان) فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك وينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتل
[ 242 ]
كان هدرا فقوله (صلى الله عليه وسلم) فاضربوه بالسيف وفي الرواية الأخرى فاقتلوه معناه إذا لم يندفع إلا بذلك وقوله (صلى الله عليه وسلم) [ (يريد أن يشق عصاكم) معناه يفرق جماعتكم كما تفرق العصاة المشقوقة وهو عبارة عن اختلاف الكلمة وتنافر النفوس ] باب إذا بويع لخليفتين قوله (صلى الله عليه وسلم) (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) هذا محمول على ما إذا لم يندفع إلا بقتله وقد سبق إيضاح هذا في الأبواب السابقة وفيه أنه لا يجوز عقدها لخليفتين وقد سبق قريبا نقل الاجماع فيه واحتمال إمام الحرمين باب وجوب الانكار على الأمراء فيما يخالف الشرع (وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك) قوله (صلى الله عليه وسلم) [ (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف فقد برئ ومن أنكر
[ 243 ]
سلم ولكن من رضي وتابع قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا) هذا الحديث فيه معجزة ظاهرة بالإخبار بالمستقبل ووقع ذلك كما أخبر (صلى الله عليه وسلم) وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فمن عرف فقد برئ وفي الرواية التي بعدها فمن كره فقد برئ فأما رواية من روى فمن كره فقد برئ فظاهرة ومعناه من كره ذلك المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته وهذا في حق من لا يستطيع إنكاره بيده ولا لسانه فليكرهه بقلبه وليبرأ وأما من روى فمن عرف فقد برئ فمعناه والله أعلم فمن عرف المنكر ولم يشتبه عليه فقد صارت له طريق إلى البراءة من اثمه وعقوبته بأن يغيره بيديه أو بلسانه فإن عجز فليكرهه بقلبه وقوله (صلى الله عليه وسلم) ولكن من رضي وتابع معناه ولكن الإثم والعقوبة على من رضي وتابع وفيه دليل على أن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت بل إنما يأثم بالرضى به أو بأن لا يكرهه بقلبه أو بالمتابعة عليه وأما قوله أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا ففيه معنى ما سبق أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء
[ 244 ]
بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام ] باب خيار الأئمة وشرارهم وعقوبته بأن يغيره بيديه أو بلسانه فإن عجز فليكرهه بقلبه وقوله (صلى الله عليه وسلم) ولكن من رضي وتابع معناه ولكن الإثم والعقوبة على من رضي وتابع وفيه دليل على أن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت بل إنما يأثم بالرضى به أو بأن لا يكرهه بقلبه أو بالمتابعة عليه وأما قوله أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا ففيه معنى ما سبق أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء
[ 244 ]
بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام ] باب خيار الأئمة وشرارهم قوله (عن رزيق بن حيان اختلفوا في تقديم الراء على الزاي وتأخيرها على وجهين) ذكره البخاري وابن أبي حاتم والدارقطني وعبد الغني بن سعيد المصري وابن ماكولا وغيرهم من أصحاب المؤتلف بتقديم الراء المهملة وهو الموجود في معظم نسخ صحيح مسلم وقال أبو زرعة الرازي والدمشقي بتقديم الزاي المعجمة والله أعلم قوله (عن مسلم بن قرظة) بفتح القاف والراء وبالظاء المعجمة وقد سبق في الباب قبله شرح هذه الأحاديث قوله (صلى الله عليه وسلم) (خيار أئمتكم الذين تحبونهم
[ 245 ]
ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم) معنى يصلون أي يدعون قوله (فجثا على ركبتيه واستقبل القبلة) هكذا هو في أكثر النسخ فجثا بالثاء المثلثة وفي بعضها فجذا بالذال المعجمة وكلاهما صحيح فأما بالثاء فيقال منه جثا على ركبتيه يحثو وجثا يجثى جثوا وجثيا فيهما وأجثاه غيره وتجاثوا على الركب حثى وجثى بضم الجيم وكسرها وأما جذا فهو الجلوس على أطراف أصابع الرجلين ناصب القدمين وهو الجاذي والجمع جذا مثل نائم ونيام قال الجمهور الجاذي أشد استيفازا من الجاثي وقال أبو عمرو هما لغتان (تم الجزء الثاني عشر) ويليه الجزء الثالث عشر وأوله باب استحباب مبايعة الامام الجيش عند إرادة القتال وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة) .