شرح مسلم
النووي ج 11

[ 1 ]
صحيح مسلم بشرح النووي الجزء الحادي عشر الناشر دار الكتب العربي بيروت - لبنان 1407 ه‍ . 1987 م
[ 2 ]
بسم الله الرحمن الرحيم باب تحريم بيع الخمر قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن الله يعرض بالخمر ولعل الله سينزل فيها أمرا فمن كان عنده منها شئ فليبعه ولينتفع به) قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شئ فيشرب ولا يبع قال فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها) يعني راقوها وفي هذا الحديث دليل على أن الأشياء قبل ورود الشرع لا تكليف فيها بتحريم ولا غيره وفي المسألة خلاف مشهور للأصوليين الأصح أنه لا حكم ولا تكليف قبل ورود الشرع لقوله تعالى كنا معذبين حتى نبعث رسولا
[ 3 ]
والثاني أن أصلها على التحريم حتى يرد الشرع بغير ذلك والثالث على الاباحة والرابع على الوقف وهذا الخلاف في غير التنفس ونحوه من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها فإنها ليست محرمة بلا خلاف الا على قول من يجوز تكليف ما لا يطاق وفي هذا الحديث أيضا بذل النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم لأنه (صلى الله عليه وسلم) نصحهم في تعجيل الانتفاع بها ما دامت حلالا قوله (صلى الله عليه وسلم) (فلا يشرب ولا يبع) وفي الرواية الأخرى إن الذي حرم شربها حرم بيعها فيه تحريم بيع الخمر وهو مجمع عليه والعلة فيها عند الشافعي وموافقيه كونها نجسة أو ليس فيها منفعة مباحة مقصودة فيلحق بها جميع النجاسات كالسرجين وذرق الحمام وغيره وكذلك يلحق بها ما ليس فيه منفعة مقصودة كالسباع التي لا تصلح للاصطياد والحشرات والحبة الواحدة من الحنطة ونحو ذلك فلا يجوز بيع شئ من ذلك وأما الحديث المشهور في كتب السنن عن أبن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال إن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه فمحمول على ما المقصود منه الأكل بخلاف ما المقصود منه غير ذلك كالعبد والبغل والحمار الأهلي فإن أكلها حرام وبيعها جائز بالاجماع قوله (صلى الله عليه وسلم) (فمن أدركته هذه الآية) أي أدركته حيا وبلغت والمراد بالآية قوله تعالى إنما الخمر والميسر الآية قوله (فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها) هذا دليل على تحريم تخليلها ووجوب المبادرة باراقتها وتحريم امساكها ولو جاز التخليل لبينه النبي (صلى الله عليه وسلم) لهم ونهاهم عن اضاعتها كما نصحهم وحثهم على الانتفاع بها قبل تحريمها حين توقع نزول تحريمها وكما نبه أهل الشاة الميتة على دباغ جلدها والانتفاع به وممن قال بتحريم تخليلها وأنها لا تطهر بذلك الشافعي وأحمد والثوري ومالك في أصح الروايتين عنه وجوزه الأوزاعي والليبث وأبو حنيفة ومالك في رواية عنه وأما إذا انقلبت بنفسها خلا فيظهر عند جميعهم الا ما حكي عن سحنون المالكي أنه قال لا يطهر قوله
[ 4 ]
(عن عبد الرحمن بن وعلة السبئى) هو بسين مهملة مفتوحة ثم باء موحدة ثم همزة منسوب إلى سبأ وأما وعلة فبفتح الواو واسكان العين المهملة وسبق بيانه في آخر كتاب الطهارة في حديث الدباغ قوله (صلى الله عليه وسلم) للذي أهدى إليه الخمر (هل علمت أن الله قد حرمها قال لا) لعل السؤال كان ليعرف حاله فإن كان عالما بتحريمها أنكر عليه هديتها وامساكها وحملها وعزره على ذلك فلما أخبره أنه كان جاهلا بذلك عذره والظاهر أن هذه القضية كانت على قرب تحريم الخمر قبل اشتهار ذلك وفي هذا أن من ارتكب معصية جاهلا تحريمها لا إثم عليه ولا تعزيز قوله (فسار أنسانا فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بم ساررته فقال أمرته ببيعها) المسارر الذي خاطبه النبي (صلى الله عليه وسلم) هو الرجل الذي أهدى الزاوية كذا جاء مبينا في غير هذه الرواية وأنه رجل من دوس قا القاضي وغلط بعض الشارحين فظن أنه رجل آخر وفيه دليل لجواز سؤال الانسان عن بعض أسرار الانسان فإن كان مما يجب كتمانه كتمه والا فيذكره قوله (ففتح المزاد) هكذا وقع في أكثر النسخ المزاد بحذف الهاء في آخرها وفي بعضها المزادة بالهاء وقال في أول الحديث أهدى راوية وهي مي قال أبو عبيد هما بمعنى وقال ابن السكيت إنما يقال لها مزادة وأما الراوية فإسم للبعير خاصة والمختار قول أبي عبيد وهذا الحديث يدل لأبي عبيد فإنه سماها راوية ومزاده قالوا سميت راوية لأنها تروى صاحبها ومن معه والمزادة لأنه يتزود فيها الماء
[ 5 ]
في السفر وغيره وقيل لأنه يزاد فيها جلد ليتسع وفي قوله ففتح المراد دليل لمذهب الشافعي والجمهور أن أواني الخمر لا تكسر ولا تشق بل يراق ما فيها وعن مالك روايتان احداهما كالجمهور والثانية يكسر الاناء ويشق السقاء وهذا ضعيف لا أصل له وأما حديث أبي طلحة أنهم كسروا الدنان فإنما فعلوا ذلك بأنفسهم من غير أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) قولها (لما أنزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاقترأهن على الناس ثم حرم التجارة في الخمر) قال القاضي وغيره تحريم الخمر هو فس سورة المائدة وهي نزلت قبل آية الربا بمدة طويلة فإن آية الربا آخر ما نزل أو من آخر ما نزل فيحتمل أن يكون هذا النهي عن التجارة متأخرا عن تحريمها ويحتمل أنه أخبر بتحريم التجارة حين حرمت الخمر ثم أخبر به مرة أخرى بعد نزول آية الربا توكيدا ومبالغة في اشاعته ولعله حضر المجلس من لم يكن لغة تحريم التجارة فيها قبل ذلك والله أعلم
[ 6 ]
باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قوله (عن جابر أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول عام الفتح وهو بمكة أن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والاصنام فقال يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو حرام ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها آجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) يقال أجمل الشحم وجمله أي أذابه وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) لا هو حرام فمعناه لا تبيعوها فإن بيعها حرام والضمير في هو يعود إلى البيع لا إلى الانتفاع هذا هو الصحيح عند الشافعي وأصحابه أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة في طلى السفن والاستصباح بها وغير ذلك مما ليس بأكل ولا في بدن الآدمي وبهذا قال أيضا عطاء بن أبي رباح ومحمد بن جرير الطبري وقال الجمهور لا يجوز الانتفاع به في شئ أصلا لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة الا ما خص وهو الجلد المدبوغ وأما الزيت والسمن ونحوهما من الأدهان التي أصابتها نجاسة فهل يجوز الاستصباح بها ونحوه من الاستعمال في غير الأكل وغير البدن أو يجعل من الزيت صابون أو يطعم العسل المتنجس للنحل أو يطعم الميتة لكلابه أو يطعم الطعام النجس لدوابه
[ 7 ]
فيه خلاف بين السلف الصحيح من مذهبنا جواز جميع ذلك ونقله القاضي عياض عن مالك وكثير من الصحابة والشافعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والليث بن سعد قال وروى نحوه عن علي وابن عمر وأبي موسى والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر قال واجاز أبو حنيفة وأصحابه والليث وغيرهم بيع الزيت النجس إذا بينه وقال عبد الملك بن الماجشون وأحمد بن حنبل وأحمد بن صالح لا يجوز الانتفاع بشئ من ذلك كله في شئ من الأشياء والله أعلم قال العلماء وفي عموم تحريم بيع الميتة أنه يحرم بيع جثة الكافر إذا قتلناه وطلب الكفار شراءه أ دفع عوض عنه وقد جاء في الحديث أن نوفل بن عبد الله المخزومي قتله المسلمون يوم الخندق فبذل الكفار في جسده عشرة آلاف درهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) فلم يأخذها ودفعه إليهم وذكر الترمذي حديثا نحو هذا قال أصحابنا العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النجاسة فيتعدى إلى كل نجاسة والعلة في الأصنام كونها ليس فيها منفعة مباحة فإن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برضاضها
[ 8 ]
ففي صحة بيعها خلاف مشهور لأصحابنا منهم من منعه لظاهر النهى واطلاقه ومنهم من جوزه اعتمادا على الانتفاع وتأول الحديث على ما لم ينتفع برضاضه أو على كراهة التنزيه في الأصنام خاصة وأما الميتة والخمر والخنزير فأجمع المسلمون على تحريم بيع كل واحد منها والله أعلم قال القاضي تضمن هذا الحديث أن مالا يحل أكله والانتفاع به لا يجوز بيعه ولا يحل أكل ثمنه كما في الشحوم المذكورة في الحديث فاعترض بعض اليهود والملاحدة بأن الابن إذا ورث من أبيه جارية كان الأب وطئها فإنها تحرم على الابن ويحل له بيعها بالإجماع وأكل ثمنها قال القاضي وهذا تمويه على من لا علم عنده لأن جارية الأب لم يحرم على الابن منها غير الإستمتاع على هذا الولد دون غير من الناس ويحل لهذا الابن الانتفاع بها في جميع الأشياء سوى الاستمتاع ويحل لغيره الاستمتاع وغيره بخلاف الشحوم فإنها محرمة المقصود منها وهو الأكل منها على جميع اليهود وكذلك شحوم الميتة محرمة الاكل على كل أحد وكان ما عدا الأكل تابعا له بخلاف موطوت الأب والله أعلم باب الربا مقصور وهو من ربا يربو فيكتب بالألف وتثنيته ربوان وأجاز الكوفيون كتبه وتثنيته بالياء لسبب الكسرة في أوله وغلطهم البصريون قال العلماء وقد كتبوه في المصحف بالواو وقال الفراء إنما كتبوه بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربو فعلموهم صورة الخط ع لى لغتهم قال وكذا قرأها أبو سماك العدوى بالواو وقرأ حمزة والكسائي بالامالة بسبب كسرة الراء وقرأ الباقون بالتفخيم لفتحة الياء قال ويجوز كتبه بالألف والواو والياء وقال أهل اللغة
[ 9 ]
والرماء بالميم والمد هو الربا وكذلك الربية بضم الراء والتخفيف لغة في الربا وأصل الربا الزيادة يقال ربا الشئ يربو إذا زاد وأربى الرجل وأرمى عامل بالربا وقد أجمع المسلمون على تحريم الربا في الجملة وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه قال الله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا والأحاديث فيه كثيرة مشهورة ونص النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الأحاديث على تحريم الربا في ستة أشياء الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فقال أهل الظاهر لا ربا في غير هذه الستة بناء على أصلهم في نفي القياس قال جميع العلماء سواهم لا يختص بالستة بل يتعدى إلى ما في معناها وهو ما يشاركها في العلة واختلفوا في العلة التي هي سبب تحريم الربا في الستة فقال الشافعي العلة في الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان فلا يتعدى الربا منهما إلى غيرهما من الموزونات وغيرها لعدم المشاركة قال والعلة في الاربعة الباقية كونها مطعومة فيتعدى الربا منها إلى كل مطعوم وأما مالك فقال في الذهب والفضة كقول الشافعي رضي الله عنه وقال في الأربعة العلة فيها كونها تدخر للقوت وتصلح له فعداه إلى الزبيب لأنه كالتمر وإلى القطنية لأنها في معنى البر والشعير وأما أبو حنيفة فقال العلة في الذهب والفضة الوزن وفي الأربعة الكيل فيتعدى إلى كل موزون من نحاس وحديد وغيرهما وإلى كل مكيل كالجص والأشنان وغيرهما وقال سعيد بن المسيب ب وأحمد والشافعي في القديم العلة في الاربعة كونها مطعومة موزونة أو مكيلة بشرط الأمرين فعلى هذا لا ربا في البطيخ والسفرجل ونحوه مما لا يكال ولا يوزن وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلا ومؤجلا وذلك كبيع الذهب بالحنطة وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالا كالذهب بالذهب وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدا بيد كصاع حنظة بصاعي شعير ولا خلاف بين العلماء في شئ من هذا إلا ما سنذكره إن شاء الله تعالى عن ابن عباس في تخصيص الربا بالنسيئة قال العلماء وإذا بيع الذهب بذهب أو الفضة بفضة سميت مراطلة وإذا بيعت الفضة بذهب سمى
[ 10 ]
صرفا لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز الفاضل والتفرق قبل القبض والتأجيل وقيل من صريفهما وهو تصويتهما في الميزان والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا سواء بسواء) قال العلماء هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد وردئ وصحيح ومكسور وحلى وتبر وغير ذلك وسواء الخالص والمخلوط بغيره وهذا كله مجمع عليه قوله (صلى الله عليه وسلم) (ولا تشفوا بعضها على بعض) هو بضم التاء وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء أي لا تفضلوا والشف بكسر الشين ويطلق أيضا على النقصان فهو من الأضداد يقال شف الدرهم بفتح الشين يشف بكسرها إذا زاد وإذا نقص وأشفه غيره يشفه قوله (صلى الله عليه وسلم) (ولا تبيعوا منها غائبا بناجز) المراد بالناجز الحاضر وبالغائب المؤجل وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلا وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا أما إذا باع دينارا بدينار كلاهما في الذمة ثم أخرج كل واحد الدينار أو بعث من أحضر له دينارا من بيته وتقابضا في المجلس فيجوز
[ 11 ]
بلا خلاف عند أصحابنا لأن الشرط أن لا يتفرقا بلا قبض وقد حصل ولهذا قال (صلى الله عليه وسلم) في الرواية التي بعد هذه ولا تبيعوا شيئا غائبا منها بناجز إلا يدا بيد وأما قول القاضي عياض أنفق العلماء على أنه لا يجوز بيع أحدهما بالآخر إذا كان أحدهما مؤجلا أو غاب عن المجلس فليس كما قال فإن الشافعي وأصحابه وغيرهم متفقون على جواز الصور التي ذكرتها والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء) يحتمل أن يكون الجمع بين هذه
[ 12 ]
الألفاظ توكيدا ومبالغة في الايضاح قوله (صلى الله عليه وسلم) (الورق بالذهب ربا إلا هاء وهاء) فيه لغتان المد والقصر والمد أفصح وأشهر وأصله هاك فأبدلت المدة من الكاف ومعناه خذ هذا ويقول صاحبه مثله والمدة مفتوحة ويقال بالكسر أيضا ومن قصره قال وزنه وزن خف يقال للواحد هاكخف والاثنين هاءا كخافا وللجمع هاؤا كخافوا والمؤنثة هاك ومنهم من لا يثنى ولايجمع على هذه اللغة ولا يغيرها في التأنيث بل يقول في الجميع ها قال السيرافي كأنهم جعلوها صوتا كصه ومن ثنى وجمع قال للمؤنثة هاك وها لغتان ويقال في لغة هاء بالمد وكسر الهمزة للذكر وللأنثى هاتي بزيادة ثاء وأكثر أهل اللغة ينكرون ها بالقصر وغلط الخطابي وغيره المحدثين في رواية القصر وقال الصواب المد والفتح وليست بغلط بل هي صحيحة كما ذكرنا وإن كانت قليلة قال القاضي وفيه لغة أخرى هاءك المد والكاف قال العلماء ومعناه التقابض
[ 13 ]
ففيه اشتراط التقابض في بيع الربوي بالربوي إذا اتفقا في علة الربا سواء اتفق جنسهما كذهب بذهب ام اختلف كذهب بفضة ونبه (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث بمختلف الجنس على متفقه واستدل أصحاب مالك بهذا على أنه يشترط التقابض عقب العقد حتى لو أخره عن العقد وقبض في المجلس لا يصح عندهم ومذهبنا صحة القبض في المجلس وأن تأخر عن العقد يوما أو أياما واكثر ما لم يتفرقا وبه قال أبو حنيفة وآخرون وليس في هذا الحديث حجة لاصحاب مالك وأما ما ذكره في هذا الحديث أن طلحة بن عبد الله رضي الله عند اراد أن يصارف صاحب الذهب فيأخذ الذهب ويؤخر دفع الدراهم إلى مجئ الخادم فإنما قاله لانه ظن جوازه كسائر البياعات وما كان بلغة حكم المسألة فأبلغه اياه عمر رضي الله عنه فترك المصارفة قوله (صلى الله عليه وسلم) (البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد) فإذا اختلفت هذه الاصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد هذا دليل ظاهر في أن البر والشعير صنفان وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة والثوري وفقهاء المحدثين وآخرين وقال مالك والليث والاوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام من المتقدمين أنها صنف واحد وهو محكى عن عمر وسعيد وغيرهما من السلف رضي الله عنهم واتفقوا على أن الدخن صنف والذرة صنف والارز صنف الا الليث ابن سعد وابن وهب فقالا هذه الثلاثة صنف واحد قوله (صلى الله عليه وسلم) (فمن زاد أو ازداد فقد أربى) معناه فقد فعل الربا المحرم فدافع الزيادة وآخذها عاصيان مربيان قوله (فرد الناس) ما أخذوا هذا دليل على أن البيع المذكور باطل قوله (أن عبادة بن الصامت قال لنحدثن بما سمعنا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإن كره معاوية) أو قال وأن رغم يقال رغم
[ 14 ]
بكسر الغين وفتحها ومعناه ذلك وصار كاللاصق بالرغام وهو التراب وفي هذا الاهتمام بتبليغ السنن ونشر العلم وان كرهه من كرهه لمعنى وفيه القول بالحق وان كان المقول له كبيرا قوله (صلى الله عليه وسلم) وسلم (يدا بيد) حجة للعلماء كافة في وجوب التقابض وان اختلف الجنس وجوز إسماعيل بن عليه التقرق عند اختلاف الجنس وهو محجوج بالأحاديث والاجماع ولعله لم يبلغه الحديث فلو بلغه
[ 15 ]
لما خالفه قوله (أخبرنا سليمان الربعي) هو بفتح الراء والباء الموحدة منسوب إلى بنى ربيعة قوله (صلى الله عليه وسلم) (إلا ما اختلفت ألوانه) يعنى أجناسه كما صرح به في الأحاديث الباقية
[ 16 ]
قوله (نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن بيع الورق بالذهب دينا) يعني مؤجلا أما إذا باعه بعوض في الذمة حال فيجوز كما سبق قوله (أمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا) يعني سواء ومتفاضلا وشرطه أن يكون حالا ويتقايضا في المجلس
[ 17 ]
قوله (سمع علي بن رباح) هو بضم العين على المشهور وقيل بفتحها وقيل يقال بالوجهين فالفتح إسم والضم لقب قوله (عن فضالة بن عبيد قال اشتريت يوم خيبر قلادة باثنى عشر دينارا فيها ذهب وحرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثنى عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لا تباع حتى تفصل) هكذا هو في نسخ معتمدة قلادة باثنى عشر دينارا وفي كثير من النسخ قلادة فيها اثنى عشر دينارا ونقل القاضي أنه وقع لمعظم شيوخهم قلادة فيها اثنى عشر دينارا وأنه وجده عند أصحاب الحافظ ابي على الغساني مصلحة قلادة باثنى عشر دينارا قال وهذا له وجه حسن وبه يصح الكلام هذا كلام القاضي والصواب ما ذكرناه أولا باثنى عشر وهو الذي أصلحه صاحب أبي علي الغساني واستحسنه القاضي والله أعلم وفي هذا الحديث انه لا يجوز بيع ذهب مع غيره بذهب حتى يفصل فيباع الذهب بوزنه ذهبا ويباع الآخر بما أراد وكذا لا تباع فضة مع غيرها
[ 18 ]
بفضة وكذا الحنطة مع غيرها بحنظة والملح مع غيره بملح وكذا سائر الربويات بل لا بد من فصلها وسواء كان الذهب في الصورة المذكورة أولا قليلا أو كثيرا وكذلك باقي الربويات وهذه هي المسألة المشهورة في كتب الشافعي وأصحابه وغيرهم المعروفة بمسألة مدعجوة وصورتها باع مدعجوة ودرهما بمدى عجوة أو بدرهمين لا يجوز لهذا الحديث وهذا منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابنه وجماعة من السلف وهو مذهب الشافعي وأحمد واسحق ومحمد بن عبد الحكم المالكي وقال أبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح يجوز بيعه باكثر مما فيه من الذهب ولا يجوز بمثله ولا بدونه وقال مالك وأصحابه وآخرون يجوز بيع السيف المحلي بذهب وغيره مما هو في معناه مما فيه ذهب فيجوز بيعه بالذهب إذا كان الذهب في المبيع تابعا لغيره وقدروه بأن يكون الثلث فما دونه وقال حماد بن أبي سليمان يجوز بيعه بالذهب مطلقا سواء باعه بمثله من الذهب أو أقل أو أكثر وهذا غلط مخالف لصريح الحديث واحتج أصحابنا بحديث القلادة وأجابت الحنفية بأن الذهب كان فيها أكثر من أثنى عشر دينارا وقد اشتراها باثنى عشر دينارا قالوا ونحن لا نجيز هذا وإنما نجيز البيع إذا باعها بذهب أكثر مما فيها فيكون ما زاد من الذهب المنفرد في مقابلة الخرز ونحوه مما هو مع الذهب المبيع فيصير كعقدين وأجاب الطحاوي بأنه إنما نهى عنه لأنه كان في بيع الغنائم لئلا يغبن المسلمون في بيعها قال أصحابنا وهذان الجوابان ضعيفان لا سيما جواب الطحاوي فإنه دعوى مجردة قال أصحابنا ودليل صحة قولنا وفساد التأويلين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لا يباع حتى يفصل وهذا صريح في اشتراط فصل احدهما عن الآخر في البيع وانه لافرق بين ان يكون الذهب المبيع قليلا أو كثيرا وأنه لا فر بين بيع الغنائم وغيرها والله أعلم قوله (عن الجلاح أبي كثير) هو بضم الجيم وتخفيف اللام وآخره حاء مهملة قوله (كنا
[ 19 ]
نبايع اليهود الأوقية الذهب بالدينارين والثلاثة فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن) يحتمل أن مراده كانوا يتبايعون الأوقية من ذهب وخرز وغيره بدينارين أو ثلاث وإلا فالأوقية وزن أربعين درهما ومعلوم أن أحدا لا يبتاع هذا القدر من ذهب خالص بدينارين أو ثلاثة وهذا سبب مبايعة الصحابة على هذا الوجه ظنوا جوازه لاختلاط الذهب بغيره فبين النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه حرام حتى يميز ويباع الذهب بوزنه ذهبا ووقع هنا في النسخ الوقية الذهب وهي لغة قليلة والأشهر الأوقية بالهمز في أوله وسبق بيانها مرات قوله (فطارت لي ولأصحابي قلادة) أي حصلت لنا من الغنيمة قوله (واجعل ذهبك في كفة) هي بكسر الكاف قال أهل اللغة كفة الميزان وكل مستدير بكسر الكاف وكفة الثوب والصائد بضمها وكذلك كل مستطيل وقيل بالوجهين فيهما معا
[ 20 ]
قوله (ان معمر بن عبد الله أرسل غلامه بصاع قمح ليبيعه ويشتري بثمنه شعيرا فباعه بصاع وزيادة فقال له معمر رده ولا تأخذه إلا مثلا بمثل واحتج بقوله (صلى الله عليه وسلم) الطعام مثلا يمثل قال وكان طعامنا يومئذ الشعير فقيل له أنه ليس بمثله فقال أني أخاف أن يضارع) معنى يضارع يشابه ويشارك ومعناه أخاف أن يكون في معنى المماثل فيكون له حكمه في تحريم الربا واحتج مالك بهذا الحديث فكون الحنطة والشعير صنفا واحدا لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ومذهبنا ومذهب الجمهور أنهما صنفان يجوز التفاضل بينهما كالحنطة مع الأرز ودليلنا ما سبق عند قوله (صلى الله عليه وسلم) فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم مع ما رواه أبو داود والنسائي في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما حديث معمر هذا فلا حجة فيه لأنه يصرح بأنهما جنس واحد وإنما خاف من ذلك فتورع عنه احتياطا قوله (قدم بتمر جنيب فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اكل تمر خيبر هكذا قال لا والله يارسول الله انا لنشتري الصاع
[ 21 ]
بالصاعين من الجمع فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان) أما الجنيب فبجيم مفتوحة ثم نون مكسورة ثم مثناة تحت ثم موحدة وهو نوع من التمر من أعلاه وأما الجمع فبفتح الجيم واسكان الميم وهو تمر ردئ وقد فسره في الرواية الأخيرة بأنه الخلط من التمر ومعناه مجموع من أنواع مختلفة وهذا الحديث محمول على أن هذا العامل الذي باع صاعا بصاعين لم يعلم تحريم هذا لكونه كان في أوائل تحريم الربا أو لغير ذلك واحتج بهذا الحديث أصحابنا وموافقوهم في أن مسألة العينة ليست بحرام وهي الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلا إلى مقصود الربا بأن يريد أن يعطيه مائة درهم بمائتين فيبيعه ثوبا بمائتين ثم يشتريه منه بمائة وموضع الدلالة من هذا الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ولم يفرق يبن أن يشتري من المشتري أو من غيره فدل على أنه لا فرق وهذا كله ليس بحرام عند الشافعي وآخرين وقال مالك وأحمد هو حرام وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) وكذا الميزان فيستدل به الحنفية لأنه ذكر في هذا الحديث الكيل والميزان وأجاب أصحابنا وموافقوهم بأ معناه
[ 22 ]
وكذلك الميزان لا يجوز التفاصل فيه فيما كان ربويا موزونا قوله (صلى الله عليه وسلم) (أوه عين الربا) قال أهل اللغة هي كلمة توجع وتحزن ومعنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم وفي هذه الكلمة لغات الفصيحة المشهورة في الروايات أوه بهمزة مفتوحة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة ويقال بنصب الهاء منونة ويقال أوه باسكان الواو وكسر الهاء منونة وغير منونة ويقال أو بتشديد الواو مكسورة منونة بلا هاء ويقال آه بمد الهمزة وتنوين الهاء ساكنه من غير واو قوله (صلى الله عليه وسلم) في حديث أبي سعيد لمن اشترى صاعا بصاعين (هذا الربا فردوه) هذا دليل على أن المقبو ض ببيع فاسد يجب رده على بائعه وإذا رده استرد الثمن فإن قيل فلم يذكر في الحديث السابق أنه (صلى الله عليه وسلم) أمر برده فالجواب أن الظاهر أنها قضية واحدة وأمر فيها برده فبعض الرواة حفظ ذلك وبعضهم لم يحفظه فقبلنا زيادة الثقة ولو ثبت أنهما قضيتان لحملت الأولى على أنه أيضا أمر به وإن لم يبلغنا ذلك ولو ثبت أنه لم يأمر به مع أنهما قضيتان لحملناها على أنه جهل بائعه ولا يمكن معرفته فصار مالا صائعا لمن عليه دين بقيمته وهو
[ 23 ]
التمر الذي قبضه عوضا فحصل أنه لا اشكال في الحديث ولله الحمد قوله (سألت ابن عباس عن الصرف فقال أيدا بيد قلت نعم قال لا بأس به) وفي رواية سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا قال فسألت أبا سعيد الخدري فقال ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما فذكر أبو سعيد حديث نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن بيع صاعين بصاع وذكرت رجوع ابن عمر وابن عباس عن إباحته إلى منعه وفي الحديث الذي بعده أن ابن عباس قال حدثني أسامة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال الربا في النسيئة وفي رواية إنما الربا في النسيئة وفي رواية لا ربا فيما كان يدا بيد معنى ما ذكره أولا عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يعتقدان أنه لا ربا فيما كان يدا بيد وأنه يجوز بيع درهم بدرهمين ودينار بدينارين وصاع تمر بصاعين من التمر وكذا الحنظة وسائر الربويات كانا يريان جواز بيع الجنس بعضه ببعض متفاضلا وأن الربا لا يحرم
[ 24 ]
في شئ من الأشياء إلا إذا كان نسيئة وهذا معنى قوله أنه سألهما عن الصرف فلم يريا به بأسا يعني الصرف متفاضلا كدرهم بدرهمين وكان معتمدهما حديث أسامة بن زيد إنما الربا في النسيئة ثم رجع ابن عمر وابن عباس عن ذلك وقالا بتحريم بيع الجنس بعضه ببعض متفاضلا حين بلغهما حديث أبي سعيد كما ذكره مسلم من رجوعهما صريحا وهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم تدل على أن ابن عمر وابن عباس لم يكن بلغهما حديث النهي عن التفاضل في غير النسيئة فلما بلغهما
[ 25 ]
رجعا إليه وأما حديث أسامة لا ربا إلا في النسيئة فقد قال قائلون بأنه منسوخ بهذه الأحاديث وقد أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره وهذا يدل على نسخه وتأوله آخرون تأويلات أحدها أنه محمول على غير الربويات وهو كبيع الدين بالدين مؤجلا بأن يكون له عنده ثوب موصوف فيبيعه بعبد موصوف مؤجلا فإن باعه به حالا جاز الثاني أنه محمول على الأجناس المختلفة فإنه لاربا فيها من حيث التفاضل بل يجوز تفاضلها يدا بيد الثالث أنه مجمل وحديث عبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وغيرهما مبين فوجب العمل بالمبين وتنزيل المجمل عليه هذا جواب الشافعي
[ 26 ]
رحمه الله قوله (حدثنا هقل) هو بكسر الهاء واسكان القاف قوله (سأل شباك ابراهيم) هو بشين معجمة مكسورة ثم باء موحدة مخففة قوله (لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما وفيه تحريم الاعانة على الباطل والله أعلم
[ 27 ]
باب أخذ الحلال وترك الشبهات قوله (صلى الله عليه وسلم) (الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس الى آخره) أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام قال جماعة هو ثلث الإسلام وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث الأعمال بالنية وحديث من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه وقال أبو داود السختياني يدور على أربعة أحاديث هذه الثلاثة وحديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وقيل حديث ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد ما في ايدي الناس يحبك الناس قال العلماء وسبب عظم موقعه أنه (صلى الله عليه وسلم) نبه فيه على اصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه وحذر من مواقعة الشبهات وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى ثم بين أهم الأمور وهو مراعاة القلب فقال (صلى الله عليه وسلم) ألا وان في الجسد مضغة إلى آخره فبين (صلى الله عليه وسلم) أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد وبفساده يغسد باقيه وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) الحلال بين والحرام بين فمعناه أن الأشياء ثلاثة أقسام حلال بين واضح لا يخفى حله كالخبز والفواكه والزيت والعسل والسمن ولبن مأكول اللحم وبيضه وغير ذلك من المطعومات وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات فيها حلال بين واضح لا شك في حله وأما الحرام البين فكالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك وأما المشتبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة فلهذا لا يعرفها كثير من الناس ولا يعلمون حكمها وأما العلماء
[ 28 ]
فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك فإذا تردد الشئ بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي فإذا الحقه به صار حلالا وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال البين فيكون الورع ترك ويكون داخلا في قوله (صلى الله عليه وسلم) فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه وما لم يظهر للمجتهد فيه شئ وهو مشتبه فهل يؤخذ بحله أم بحرمته أم يتوقف فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض وغيره والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع وفيه أربعة مذاهب الأصح أنه لا يحكم بحل ولا حرمه ولا إباحة ولا غيرها لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع والثاني أن حكمها التحريم والثالث الإباحة والرابع التوقف والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (فقد استبرأ لدينه وعرضه) أي حصل له البراءة لدينة من الذم الشرعي وصان عرضه عن كلام الناس فيه قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه) معناه أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم يحميه عن الناس ويمنعهم دخوله فمن دخله أوقع به العقوبة ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفا من الوقوع فيه ولله تعالى أيضا حمى وهي محارمه وأي المعاصي التي حرمها الله كالقتل والزنا والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة واكل المال بالباطل وأشباه ذلك فكل هذا حمى الله تعالى من دخله بارتكابه شيئا من المعاصي استحق العقوبة ومن قاربه يوشك أن يقع فيه فمن احتاط لنفسه لم يقاربه ولا يتعلق بشئ يقربه من المعصية فلا يدخل في شئ من الشبهات قوله (صلى الله عليه وسلم) (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) قال أهل اللغة يقال صلح الشئ
[ 29 ]
وفسد بفتح اللام والسين وضمهما والفتح أفصح وأشهر والمضغة القطعة من اللحم سميت بذلك لأنها تمضغ في الفم لصغرها قالوا المراد تصغير القلب بالنسبة إلى باقي الجسد مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب وفي هذا الحديث التأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد واحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس وفيه خلاف مشهور مذهب أصحابنا وجماهير المتكلمين أنه في القلب وقال أبو حنيفة هو في الدماغ وقد يقال في الرأس وحكوا الأول أيضا عن الفلاسفة والثاني عن الأطباء قال المازري واحتج القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقوله تعالى في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وبهذا الحديث فإنه (صلى الله عليه وسلم) جعل صلاح الجسد وفساده تابعا للقلب مع أن الدماغ من جملة الجسد فيكون صلاحه وفساده تابعا للقلب فعلم أنه ليس محلا للعقل واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم ولا حجة لهم في ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه ولا امتناع من ذلك قال المازري لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكا والله أعلم قوله (عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه) هذا تصريح بسماع النعمان عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذا هو الصواب الذي قاله أهل العراق وجماهير العلماء قال القاضي وقال يحيى بن معين أن أهل المدينة لا يصحون سماع النعمان من النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذه حكاية ضعيفة أو باطلة والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) يحتمل وجهين أحدهما أنه من كثرة تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وان لم يتعمده وقد يأثم بذلك ك إذا نسب إلى تقصير والثاني أنه يعتاد التساهل ويتمرن عليه ويجسر على شبهة ثم شبهه أغلظ منها ثم أخرى اغلظ وهكذا حتى يقع في الحرام عمدا وهذا نحو قول السلف المعاصي بريد الكفر أي تسوق إليه عافانا الله تعالى من الشر قوله (صلى الله عليه وسلم) (يوشك أن يقع فيه) يقال أوشك يوشك بضم الياء وكسر الشين أي
[ 30 ]
يسرع ويقرب قوله أتم من حديثهم وأكبر هو بالباء الموحدة وفي كثير من النسخ بالمثلثة والله أعلم باب بيع البعير واستثناء ركوبه فيه حديث جابر وهو حديث مشهور احتج به أحمد ومن وافقه في جواز بيع الدابة ويشترط البائع لنفسه ركوبها وقال مالك يجوز ذلك إذا كانت مسافة الركوب قريبة وحمل هذا الحديث على هذا وقال الشافعي وابو حنيفة وآخرون لا يجوز ذلك سواء قلت المسافة أو كثرت ولا ينعقد البيع واحتجوا بالحديث السابق في النهي عن بيع الثنيا وبالحديث الآخر في النهي عن بيع وشرط وأجابوا عن حديث جابر بأنها قضية عين تتطرق إليها احتمالات قالوا ولأن النبي (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يعطيه الثمن ولم يرد حقيقة البيع قالوا ويحتمل أن الشرط لم يكن
[ 31 ]
في نفس العقد وإنما يضر الشرط إذا كان في نفس العقد ولعل الشرط كان سابقا فلم يؤثر ثم تبرع (صلى الله عليه وسلم) باركابه قوله (صلى الله عليه وسلم) (بعينه بوقيه) هكذا هو في النسخ بوقيه وهي لغة صحيحة سبقت مرارا ويقال أوقية وهي أشهر وفيه أنه لا بأس بطلب البيع من مالك السلعة وإن لم يعرضها للبيع قوله (واستثنيت عليه حملانه) هو بضم الحاء أي الحمل عليه قوله (صلى الله عليه وسلم) (أتراني ما كستك) قال أهل اللغة المماكسة هي المكالمة في النقص من الثمن وأصلها النقص ومنه مكس الظلم وهو ما ينتقصه ويأخذه من أموال الناس قوله (فبعته بوقية) وفي رواية بخمس أواق وزادني أوقية وفي بعضها بأوقيتين ودرهم أو درهمين وفي بعضها بأوقية ذهب وفي بعضها بأربعة دنانير وذكر البخاري أيضا اختلاف الروايات وزاد بثمانمائة درهم وفي رواية بعشرين دينارا وفي رواية أحسبه بأربع أواق قال البخاري وقول الشعبي بوقية أكثر قال القاضي عياض قال أبو جعفر الداودي أوقية الذهب قدرها معلوم وأوقية الفضة
[ 32 ]
أربعون درهما قال وسبب اختلاف هذه الروايات أنهم رووا بالمعنى وهو جائز فالمراد وقية ذهب كما فسره في رواية سالم بن أبي الجعد عن جابر ويحمل عليها رواية من روى أوقية مطلقة وأما من روى خمس أواق فالمراد خمس أواق من الفضة وهي بقدر قيمة أوقية الذهب في ذلك الوقت فيكون الاخبار بأوقية الذهب عما وقع به العقد وعن أواق الفضة عما حصل به الايفاء ولا يتغير الحكم ويحتمل أن يكون هذا كله زيادة على الأوقية كما قال فما زال يزيدني وأما رواية أربعة دنانير فموافقة أيضا لأنه يحتمل أن تكون أوقية الذهب حينئذ وزن أربعة دنانير وأما رواية أوقيتين فيحتمل أن احداهما وقع بها البيع والأخرى زيادة كما قال وزادني أوقية وقوله ودرهم أو درهمين موافق لقوله وزادني قيراطا وأما رواية عشرين دينارا فمحمولة على دنانير صغار كانت لهم ورواية أربع أواق شك فيها الراوي فلا اعتبار بها والله أعلم قوله (على أن لي فقار ظهره) هو بفاء مفتوحة ثم قاف وهي خرازاته أي مفاصل عظامه واحدتها فقارة قوله (فقلت له يا رسول الله اني عروس) هكذا يقال للرجل عروس كما يقال ذلك للمرأة لفظها واحد لكن يختلفان في الجمع فيقال رجل عروس ورجال عرس بضم العين والراء وامرأة عروس ونسوة عرائس قوله (صلى الله عليه وسلم) (أفلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك)
[ 33 ]
سبق شرحه في كتاب النكاح وضبط لفظه والخلاف في معناه مع شرح ما يتعلق به قوله (فإن لرجل على أوقية ذهب فهو لك بها قال قد أخذته به) هذا قد يحتج به أصحابنا في اشتراط الايجاب والقبول في البيع وأنه لا ينعقد بالمعاطاة ولكن الأصح المختار انعقاده بالمعاطاة وهذا لا يمنع انعقاده بالمعاطاة فإنه لم ينه فيه عن المعاطاة والقائل بالمعاطاة يجوز هذا فلا يرد عليه ولأن المعاطاة إنما تكون إذا حضر العوضان فاعطى وأخذ فأما إذا لم يحضر العوضان أو أحدهما فلا بد من لفظ وفي هذا دليل لأصح الوجهين عند أصحابنا وهو انعقاد البيع بالكناية لقوله (صلى الله عليه وسلم) قد أخذته به مع قول جابر هو لك وهذان اللفظان كناية قوله (صلى الله عليه وسلم) لبلال (أعطه أوقية من ذهب وزده) فيه جواز الوكالة في قضاء الديون وأداء الحقوق وفيه استحباب الزيادة في أداء الدين وارجاح الوزن قوله (فأخذه أهل الشام يوم الحرة) يعني حرة المدينة كان قتال ونهب من أهل الشام هناك سنة ثلاث وستين من الهجرة
[ 34 ]
قوله (فبعته منه بخمس أواق) هكذا هو في جميع النسخ فبعته منه وهو صحيح جائز في العربية يقال بعته وبعت منه وقد كثر ذكر نظائره في الحديث وقد أوضحته في تهذيب اللغات قوله (حدثنا عقبة بن مكرم العمى) هو مكرم بضم الميم واسكان الكاف وفتح الراء وأما العمى فبتشديد الميم منسوب إلى بني العم من تميم قوله (عن أبي المتوكل الناجي) هو بالنون والجيم
[ 35 ]
منسوب إلى بني ناجية وهم من بني أسامة بن لؤي وقال أبو علي الغساني هم اولاد ناجية امرأة كانت تحت أسامة بن لؤي قوله (فلما قدم صرار) هو بصاد مهملة مفتوحة ومكسورة والكسر أفصح واشهر ولم يذكر الا كثرون غيره قال القاضوهو عند الدارقطني والخطابي وغيرهما وعند أكثر شيوخنا صرار بصاد مهملة مكسور وتخفيف الراء وهو موضع قريب من المدينة قال وقال الخطابي هي بئر قديمة على الثلاثة اميال من المدينة على طريق العراق قال القاضي والاشبه عندي أنه موضع لا بئرقال وضبطه بعض الرواة في مسلم وبعضهم في البخاري ضرار بكسر الضاد المعجمة وهو خطأ ووقع في بعض النسخ المعتمدة فلما قدم صرار غير مصروف والمشهور صرفه قوله (أمر ببقرة فذبحت) فيه أن السنة في البقر الذبح لا النحر ولو عكس جاز وأما قوله في الرواية الأخرى امر ببقرة فنحرت فالمراد بالنحر الذبح جمعا بن الروايتين قوله (أمرني أن آتي المسجد فأصلى ركعتين) فيه أنه يستحب للقادم من السفر أن يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين وفيه أن نافلة النهار يستحب كونها ركعتين ركعتين كصلاة الليل وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وسبق بيانه في كتاب الصلاة واعلم أن في حديث جابر هذا فوائد كثيرة احداها هذه المعجزة الظاهرة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في انبعاث جمل جابر واسراعه بعد اعيائه الثانية جواز طلب البيع ممن لم يعرض سلعته للبيع الثالثة جاز المماكسة في البيع وسبق تفسيرها الرابعة استحباب سؤال الرجل الكبير أصحابه عن أحوالهم والإشارة عليهم بمصالحهم الخامسة استحباب نكاح البكر السادسة استحباب ملاعبة الزوجين السابعة
[ 36 ]
فضيلة جابر في أنه ترك حظ نفسه من نكاح البكر واختار مصلحة اخواته بنكاح ثيب تقوم بمصالحهن الثامنة استحباب الابتداء بالمسجد وصلاة ركعتين فيه عند القدوم من السفر التاسعة استحبا ب الدلالة على الخير العاشرة استحباب ارجاح الميزان فيما يدفعه الحادية عشر أن أجرة وزن الثمن على البائع الثانية عشرة التبرك بآثار الصالحين لقوله لا تفارقه زيادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الثالثة عشرة جواز تقدم بعض الجيش الراجعين باذن الأمير الرابعة عشرة جواز الوكالة في أداء الحقوق ونحوها وفيه غير ذلك مما سبق والله أعلم باب جواز اقتراض الحيوان واستحباب توفيته خيرا مما عليه قوله (عن أبي رافع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه ابل من ابل الصدقة فأمرأبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال ما أجد فيها الا خيارا رباعيا فقال أعطه اياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء) وفي رواية أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لهم اشتروا له سنا فاعطوه اياه فقالوا انا لا نجد الا سنه هو خير من سنة قال فاشتروه فأعطوه اياه فإن من خيركم أو خيركم أحسنكم قضاء وفي رواية له استقرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سنا فأعطاه سنا
[ 37 ]
فوقه وقال خياركم محاسنكم قضاء أما البكر من الابل فبفتح الباء وهو الصغير كالغلام من الآدميين والأنثى بكرة وقلوص وهي الصغيرة كالجارية فإذا استكمل ست سنين ودخل في السابعة والقى رباعية بتخفيف الياء فهر رباع الأنثى رباعية بتخفيف الياء وأعطاه رباعيا بتخفيفها وقوله (صلى الله عليه وسلم) خياركم محاسنكم قضاء قالوا معناه ذوو المحاسن سماهم بالصفة قال القاضي وقيل هو جمع محسن بفتح الميم وأكثر ما يجئ أحاسنكم جمع أحسن وفي هذا الحديث جواز الاقتراض والاستدانة وإنما اقترض النبي (صلى الله عليه وسلم) للحاجة وكان (صلى الله عليه وسلم) يستعيذ بالله من المغرم وهو الدين وفيه جواز اقتراض الحيوان وفيه ثلاثة مذاهب الشافعي ومالك وجماهير العلماء من السلف والخلف أنه يجوز قرض جميع الحيوان الا الجارية لمن يملك وطأها فإنه لا يجوز ويجوز اقراضها لمن لا يملك وطأها كمحارمها والمرأة والخنثى والمذهب الثاني مذهب المزني وابن جرير وداود أنه يجوز قرض الجارية وسائر الحيوان لكل واحد والثالث مذهب أبي حنيفة والكوفيين أنه لا يجوز قرض شئ من الحيوان وهذه الأحاديث ترد عليهم ولا تقبل دعواهم النسخ بغير دليل وفي هذه الأحاديث جواز السلم في الحيوان وحكمه حكم القرض وفيها أنه يستحب لمن عليه دين من قرض وغيره أن يرد أجود من الذي عليه وهذا من السنة ومكارم الأخلاق وليس هو من قرض جر منفعة فإنه منهي عنه لأن المنهي عنه ما كان مشروطا في عقد القرض ومذهبنا أنه يستحب الزيادة في الآداء عما عليه ويجوز للمقرض أخذها سواء زاد في الصفة أو في العدد بأن أقرضه عشرة فأعطاه أحد عشر ومذهب مالك أن الريادة في العدد منهي عنها وحجة أصحابنا عموم قوله (صلى الله عليه وسلم) خيركم أحسنكم قضاء قوله (فقدمت عليه ابل الصدقة إلى آخره) هذا مما يستشكل فيقال فكيف قضى من ابل الصدقة أجود من الذي يستحقه الغريم مع أن الناظر في الصدقات لا يجوز تبرعه منها والجواب أنه (صلى الله عليه وسلم)
[ 38 ]
اقترض لنفسه فلما جاءت ابل الصدقة اشترى منها بعيرا رباعيا ممن استحقه فملكه النبي (صلى الله عليه وسلم) بثمنه وأوفاه متبرعا بالزيادة من ماله ويدل على ما ذكرناه رواية أبي هريرة التي قدمناها أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال اشتروا له سنا فهذا هو الجواب المعتمد وقد قيل فيه أجوبة غيره منها أن المقترض كان بعض المحتاجين إقترض لنفسه فأعطاه من الصدقة حين جاءت وأمره بالقضاء قوله (كان لرجل على النبي (صلى الله عليه وسلم) حق فأغلظ له فهم به أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) أن لصاحب الحق مقالا) فيه أنه يحتمل من صاحب الدين الكلام المعتاد في المطالبة وهذا الاغلاظ المذكور محمول على تشدد في المطالبة ونحو ذلك من غير كلام فيه قدح أو غيره مما يقتضي الكفر ويحتمل أن القائل الذي له الدين كان كافرا من اليهود أو غيرهم والله أعلم
[ 39 ]
باب جواز بيع الحيوان بالحيوان من جنسه متفاضلا قوله (جاء عبد فبايع النبي (صلى الله عليه وسلم) على الهجرة ولم يشعر أنه عبد فجاء سيده يريده فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) بعنيه فاشتراه بعبدين أسودين ثم لم يبايع أحدا بعد حتى يسأله أعبد هو) هذا محمول على أن سيده كان مسلما ولهذا باعه بالعبدين الأسودين والظاهر أنهما كانا مسلمين ولا يجوز بيع العبد المسلم لكافر ويحتمل أنه كان كافرا أو أنها كانا كافرين ولا بد من ثبوت ملكه للعبد الذي بايع على الهجرة أما بينة وأما بتصديق العبد قبل اقراره بالحرية وفيه ما كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) من مكارم الأخلاق والاحسان العام فإنه كره أن يرد ذلك العبد خائبا بما قصده من الهجرة وملازمة الصحبة فاشتراه ليتم له ما أراد وفيه جواز بيع عبد بعبدين سواء كانت القيمة متفقة أو مختلفة وهذا مجمع عليه إذا بيع نقدا وكذا حكم سائر الحيوان فإن باع عبدا بعبدين أو بعيرا ببعيرين إلى أجل فمذهب الشافعي والجمهور جوازه وقال أبو حنيفة والكوفيون لا يجوز وفيه مذاهب لغيرهم والله أعلم باب الرهن وجوازه في الحضر كالسفر في الباب حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي (صلى الله عليه وسلم) اشترى من يهودي طعاما
[ 40 ]
إلى أجل ورهنه درعا له من حديد) فيه جواز معاملة أهل الذمة والحكم بثبوت املاكهم على ما في أيديهم وفيه بيان ما كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) من التقلل من الدنيا وملازمة الفقر وفيه جواز الرهن وجواز رهن آلة الحرب عند أهل الذمة وجواز الرهن في الحضر وبه قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة الا مجاهدا وداود فقالا لا يجوز الا في السغر تعلقا بقوله تعالى وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة واحتج الجمهور بهذا الحديث وهو مقدم على دليل خطاب الآية وأما اشتراء النبي (صلى الله عليه وسلم) الطعام من اليهودي ورهنه عنده دون الصحابة فقيل فعله بيانا لجواز ذلك وقيل لأنه لم يكن هناك طعام فاضل عن حاجة صاحبه الا عنده وقيل لأن الصحابة لا يأخذون رهنه (صلى الله عليه وسلم) ولا يقبضون منه الثمن فعدل إلى معاملة اليهودي لئلا يضيق على أحد من أصحابه وقد أجمع المسلمون على جواز معاملة أهل الذمة وغيرهم من الكفار إذا لم يتحقق تحريم ما معه لكن لا يجوز للمسلم أن يبيع أهل الحرب سلاحا وآلة حرب ولا يستعينون به في اقامة دينهم ولا بيع مصحف ولا العبد المسلم لكافر مطلقا والله أعلم
[ 41 ]
باب السلم قال أهل اللغة يقال السلم والسلف وأسلم وسلم وأسلف وسلف ويكون السلف أيضا قرضا ويقال استسلف قال أصحابنا ويشترك السلم والقرض في أن كلا منهما اثبات مال في الذمة بمبذول في الحال وذكروا في حد السلم عبارات أحسنها أنه عقد على موصوف في الذمة ببذل يعطى عاجلا سمى سلما لتسليم رأس المال في المجلس وسمى سلفا لتقديم رأس المال وأجمع المسلمون على جواز السلم قوله (صلى الله عليه وسلم) من سلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) فيه جواز السلم وأنه يشترط أن يكون قدره معلوما بكيل أو وزن أو غيرهما مما يضبط به فإن كان مذروعا كالثوب اشترط ذكر ذرعان معلومة وإن كان معدودا كالحيوان اشترط ذكر عدد معلوم ومعنى الحديث أنه أن أسلكم في مكيل فليكن كيله معلوما وإن كان في موزون فليكن وزنا معلوما وإن كان مؤجلا فليكن أجله معلوما ولا يلزم من هذا اشتراط كون السلم مؤجلا بل يجوز حالا لأنه إذا جاز مؤجلا مع الغرر فجراز الحال أولى لأنه أبعد من الغرر وليس ذكر الأجل في الحديث لاشتراط الأجل بل معناه إن كان أجل فليكن معلوما كما أن الكيل ليس بشرط بل يجوز السلم في الثياب بالذرع وإنما ذكر الكيل بمعنى أنه أن أسلم في مكيل فليكن كيلا معلوما أو في موزون فليكن وزنا معلوما وقد اختلف العلماء في جواز السلم الحال مع اجماعهم على جواز المؤجل فجوز الحال الشافعي وآخرون ومنعه مالك وأبو حينفة وآخرون وأجمعوا على اشتراط وصفه بما يضبط به قوله (صلى الله عليه وسلم) (من سلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم) هكذا هو في أكثر الأصول تمر بالمثناة وفي بعضها تمر
[ 42 ]
بالمثلثة وهو أعم وهكذا في جميع النسخ ووزن معلوم بالواو لا بأو ومعناه أن اسلم كيلا أو وزنا فليكن معلوما وفيه دليل لجواز السلم في المكيل وزنا وهو جائز بلا خلاف وفي جواز السلم في الموزون كيلا وجهان لأصحابنا أصحهما جوازه كعكسه قوله (حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة واسماعيل ين سالم جميعا عن ابن عيينه) هكذا هو في نسخ بلادنا عن ابن عيينة وكذا وقع في رواية أبي أحمد الجلودي ووقع في رواية اين ماهان عن مسلم عن شيوخه هؤلاء الثلاثة عن ابن علية وهو إسماعيل ابن إبراهيم قال أبو علي الغساني وآخرون من الحفاظ والصواب رواية ابن ماهان قالوا ومن تأمل الباب عرف ذلك قال القاضي لأن مسلما ذكر أولا حديث ابن عيينه عن ابن أبي نجيح وفيه ذكر الأجل ثم ذكر حديث عبد الوارث عن ابن أبي نجيح وليس فيه ذكر الأجل ثم ذكر حديث ابن علية عن ابن أبي نجيح وقال بمثل حديث عبد الوارث ولم يذكر إلى أجل معلوم ثم ذكر حديث سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح وقال بمثل حديث ابن عيينة يذكر فيه الأجل
[ 43 ]
باب تحريم الاحتكار في الأقوات قوله (صلى الله عليه وسلم) (من احتكر فهو خاطئ) وفي رواية لا يحتكر إلا خاطئ قال أهل اللغة الخاطئ بالهمز هو العاصي الآثم وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار قال أصحابنا الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلوا ثمنه فأما إذا جاء من قريته أو اشتراه في وقت الرخص وادخره أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار ولا تحريم فيه وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال هذا تفصيل مذهبنا قال العلماء والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند انسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعا للضرر عن الناس وأما ما ذكر في الكتاب عن سعيد بن المسيب ومعمر راوي الحديث أنهما كانا يحتكران فقال ابن عبد البر وآخرون إنما كان يحتكران الزيت وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء وكذا حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون وهو الصحيح قول مسلم (وحدثني بعض أصحابنا عن عمرو بن عون قال حدثنا خالد بن
[ 44 ]
عبد الله عن عمر بن يحيى عن محمد بن عمرو عن سعيد بن المسيب) قال الغساني وغيره هذا أحد الأحاديث الأربعة عشر المقطوعة في صحيح مسلم قال القاضي قد قدمنا أن هذا لا يسمى مقطوعا إنما هو من رواية المجهول وهو كما قال القاضي ولا يضر هذا الحديث لأنه أتى به متابعة وقد ذكره مسلم من طرق متصلة برواية من سماهم من الثقات وأما المجهول فقد جاء مسمى في رواية أبي داود وغيره فرواه أبو داود في سننه عن وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله بن عمر بن يحيى باسناده والله أعلم باب النهي عن الحلف في البيع قوله (صلى الله عليه وسلم) (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للربح) وفي رواية اياكم وكثرة الحلف في اليبع فإنه ينفق ثم يمحق المنفقة والممحقة بفتح أولهما وثالثهما واسكان ثانيهما وفيه النهي عن كثرة الحلف في البيع فإن الحلف من غير حاجة مكروه وينضم إليه هنا ترويج السلعة وربما
[ 45 ]
اغتر المشتري باليمين والله أعلم باب الشفعة قوله ((صلى الله عليه وسلم) من كان له شريك في ربعة أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضى أخذ وان كره ترك) وفي رواية قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذ شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به وفي رواية قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه قال أهل اللغة الشفعة من شفعت الشئ إذا ضممته وثنيته ومنه شفع الأذان وسميت شفعة لضم نصيب إلى نصيب والربعة والربع بفتح الراء واسكان الباء والربع الدار والمسكن ومطلق الأرض وأصله المنزل الذي كانوا يرتبعون فيه والربعة تأنيث الربع وقيل واحدة والجمع الذي هو اسم الجنس ربع كثمرة وتمر واجمع المسلون على ثبوت الشفعة للشريك في العقار ما لم يقسم قال العلماء الحكمة في ثبوت الشفعة إزالة الضرر عن الشريك وحصت بالعقار لأنه أكثر الأنواع ضررا واتفقوا على أنه لا شفعة في الحيوان والثياب والأمتعة وسائر المنقول قال القاضي وشذ بعض الناس فأثبت الشفعة في العروض وهي
[ 46 ]
رواية عن عطاء وتثبت في كل شئ حتى في الثوب وكذا حكاها عنه ابن المنذر وعن أحمد رواية أنها تثبت في الحيوان والبناء المنفرد وأما المقسوم فهل تثبت فيه الشفعة بالجواز فيه خلاف مذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء لا تثبت بالجوار وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز والزهري ويحيى الأنصاري وأبي الزياد وربيعة ومالك والأوزاعي والمغيرة بن عبد الرحمن وأحمد واسحاق وأبي ثور وقال أبو حنيفة والثوري تثبت بالجوار والله أعلم واستسدل أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أن الشفعة لا تثبت إلا في عقار محتمل للقسمة بخلاف الحمام الصغير والرحى ونحو ذلك واستدل له أيضا من يقول بالشفعة فيما لا يحتمل القسمة وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فمن كان له شريك فهو عام يتناول المسلم والكافر والذمي فتثبت للذمي الشفعة على المسلم كما تثبت للمسلم على الذمي هذا قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة والجمهور وقال الشعبي والحسن وأحمد رضي الله عنهم لا شفعة للذمي على المسلم وفيه ثبوت الشفعة للأعرابي كثبوتها للمقيم في البلدويه قال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد واسحاق وابن المنذر والجمهور وقال الشعبي لا شفعة لمن لا يسكن بالمصر وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضي أخذ وان كره ترك وفي الرواية الأخرى لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فهو محمول عند أصحابنا على الندب إلى اعلامه وكراهة بيعه قبل اعلامه كراهة تنزيه وليس بحرام ويتأولون الحديث على هذا ويصدق على المكروه أنه ليس بحلال ويكون الحلال بمعنى المباح وهو مستوى الطرفين والمكروه ليس بمباح مستوى الطرفين بل هو راجح الترك واختلف العلماء فيما لو أعلم الشريك
[ 47 ]
بالبيع فأذن فيه فباع ثم أراد الشريك أن يأخذ بالشفعة فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة واصحابهم وعثمان البتي وابن أبي ليلى وغيرهم له أن يأخذ بالشفعة وقال الحكم والثوري وأبو عبيد وطائفة من أهل الحديث ليس له الأخذ وعن أحمد روايتان كالمذهبين والله أعلم باب غرز الخشب في جدار الجار قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره ثم يقول أبو هريرة مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم) قال القاضي روينا قوله خشبة في صحيح مسلم وغيره من الأصول والمصنفات خشبة بالإفراد وخشبة بالجمع قال وقال الطحاوي عن روح بن الفرج سألت أبا زيد والحرث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى عنه فقالوا كلهم خشبة بالتنوين على الإفراد قال عبد الغني بن سعيد كل الناس يقولونه بالجمع إلا الطحاوي وقوله بين أكتافكم هو بالتاء المثناة فوق أي بينكم قال القاضي قد رواه بعض رواة الموطأ أكنافكم بالنون ومعناه أيضا بينكم والكنف الجانب ومعنى الأول أنى أصرح بها بينكم وأوجعكم بالتقريع بها كما يضرب الإنسان بالشئ بين كتفيه قوله مالي أراكم عنها معرضين أي عن هذه السنة والخصلة والموعظة أو الكلمات وجاء في رواية ابي داود فنكسوا رؤوسهم فقال مالي أراكم أعرضتم واختلف العلماء في معنى هذا الحديث هل هو على الندب إلى تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره أم على الايجا ب وفيه قولان للشافعي وأصحاب مالك أصحهما في المذهبين الندب وبه قال أبو حنيفة والكوفيون والثاني الإيجاب وبه قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الحديث وهو ظاهر الحديث ومن
[ 48 ]
قال بالندب قال ظاهر الحديث أنهم توقفوا عن العمل فلهذا قال مالي أراكم عنها معرضين وهذا يدل على أنهم فهموا منه الندب لا الإيجاب ولو كان واجبا لما أطبقوا على الاعراض عنه والله أعلم باب تحريم الظلم وغصب الأر ض وغيرها قوله (صلى الله عليه وسلم) (من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة مسبع أرضين) وفي رواية من أخذ شبرا من الأرض بغير حق طوقه الله في سبع أرضين يوم القيامة قال أهل اللغة الأرضون بفتح الراء وفيها لغة قليلة باسكانها حكاها الجوهري وغيره قال العلماء هذا تصريح بأن الأرضين سبع طبقات وهو موافق لقول الله تعالى سبع سموات ومن الأرض مثلهن وأما تأويل المماثلة على الهيئة والشكل فخلاف الظاهر وكذا قول من قال المراد بالحديث سبع أرضين من سبع أقاليم لأن الأرضين سبع طباق وهذا تأويل باطل أبطله العلماء بأنه لو كان كذلك لم يطوق الظالم بشبر من هذا الاقليم شيئا من إقليم آخر بخلاف طباق الأرض فإنها تابعة لهذا الشبر في الملك فمن ملك شيئا من هذه الأرض ملكه وما تحته من الطباق قال القاضي وقد جاء في غلظ الأرضين وطباقهن وما بينهن حديث ليس بثابت وأما التطويق المذكور في الحديث فقالوا يحتمل أن معناه أنه يحمل مثله من سبع أرضين ويكلف إطاقة ذلك ويحتمل أن يكون يجعل
[ 49 ]
له كالطوق في عنقه كما قال سبحانه وتعالى سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة وقيل معناه أنه يطوق إثم ذلك ويلزمه كلزوم الطوق بعنقه وعلى تقدير التطويق في عنقه يطول الله تعالى عنقه كما جاء في غلظ جلد الكافر وعظم ضرسه وفي هذه الأحاديث تحريم الظلم وتحريم الغصب وتغليظ عقوبته وفيه امكان غصب الأرض وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يتصور
[ 50 ]
غصب الأرض وقوله (صلى الله عليه وسلم) (من ظلم قيد شبر من الأرض) هو بكسر القاف واسكان الياء أي قدر شبر من الأرض يقال قيد وقاد وقيس وقاس بمعنى واحد وفي الباب حبان ابن هلال بفتح الحاء وفي حديث سعيد بن زيد رضي الله عنهما منقبة له وقبول دعائه وجواز الدعاء على الظالم ومستدل أهل الفضل والله أعلم
[ 51 ]
باب قدر الطريق إذا اختلفوا فيه قوله (صلى الله عليه وسلم) (إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبع أذرع) هكذا هو في أكثر النسخ سبع أذرع وفي بعضها سبعة أذرع وهما صحيحان والذراع يذكر ويؤنث والتأنيث أفصح وأما قدر الطريق فإن جعل الرجل بعض أرضه المملوك طريقا مسبلة للمارين فقدرها إلى خيرته والأفضل توسيعها وليست هذه الصورة مرادة الحديث وإن كان الطريق بين أرض لقوم وأرادوا احياءها فإن اتفقوا على شئ فذاك وان اختلفوا في قدره جعل سبع أذرع وهذا مراد الحديث أما إذا وجدنا طريقا مسلوكا وهو أكثر من سبعة أذرع فلا يجوز لأحد أن يستولي على شئ منه وإن قل لكن له عمارة ما حواليه من الموات ويملكه بالاحياء بحيث لا يضر المارين قال أصحابنا ومتى وجدنا جادة مستطرقة ومسلكا مشروعا نافذا حكمنا باستحقاق الاستطراق فيه بظاهر الحال ولا يعتبر مبتدأ مصيره شارعا قال امام الحرمين وغيره ولا يحتاج ما يجعله شارعا إلى لفظ في مصيره شارعا ومسبلا هذا ما ذكره أصحابنا فيما يتعلق بهذا الحديث وقال آخرون هذا في الأفنية إذا أراد أهلها البنيان فيجعل طريقهم عرضه سبعة أذرع لدخول الأحمال والأثقال ومخرجها وتلاقيها قال القاضي هذا كله عند الاختلاف كما نص عليه في الحديث فأما إذا اتفق أهل الأرض على قسمتها واخراج طريق منها كيف شاؤا فلهم ذلك ولا اعتراض عليهم لأنها ملكهم والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب كتاب الفرائض هي جمع فريضة من الفرض وهو التقدير لأن سهمان الفروض مقدرة ويقال للعالم بالفرائض
[ 52 ]
فرضى وفارض وفريض كعالم وعليم حكاه المبرد وأما الإرث في الميراث فقال المبرد أصله العاقبة ومعناه الانتقال من واحد إلى آخر قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم) وفي بعض النسخ ولا الكافر المسلم بحذف لفظة يرث أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم وأما المسلم فلا يرث الكافر أيضا عند جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وذهبت طائفة إلى توريث المسلم من الكافر وهو مذهب معاذ بن جبل ومعاوية وسعيد ابن المسيب ومسروق وغيرهم وروى أيضا عن أبي الدرداء والشعبي والزهري والنخعي نحوه على خلاف بينهم في ذلك والصحيح عن هؤلاء كقول الجمهور واحتجوا بحديث الاسلام يعلو ولا يعلى عليه وحجة الجمهور هنا الحديث الصحيح الصريح ولا حجة في حديث الاسلام يعلوا ولا يعلى عليه لأن المراد به فضل الاسلام على غيره ولم يتعرض فيه لميراث فكيف يترك به نص حديث لا يرث المسلم الكافر ولعل هذه الطائفة لم يبلغها هذا الحديث وأما المرتد فلا يرث المسلم بالإجماع وأما المسلم فلا يرث المرتد عند الشافعي ومالك وربيعة وابن أبي ليلى وغيرهم بل يكون ماله فيئا للمسلمين وقال أبو حنيفة والكوفيون والأوزاعي واسحاق يرثه ورثته من المسلمين وروى ذلك عن على وابن مسعود وجماعة من السلف لكن قال الثوري وأبو حنيفة ما كسبه في ردته فهر للمسلمين وقال الآخرون الجميع لورثته من المسلمين وأما توريث الكفار بعضهم من
[ 53 ]
بعض كاليهودي من النصراني وعكسه والمجوسي منهما وهما منه فقال به الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما وآخرون ومنعه مالك قال الشافعي لكن لا يرث حربي من ذمي ولا دمي من حربي قال أصحابنا وكذا لو كانا حربيين في بلدين متحاربين لم يتوارثا والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فهو لأولى رجل ذكر) وفي رواية فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر وفي رواية اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر قال العلماء المراد بأولى رجل أقرب رجل مأخوذ من الولي باسكان اللام على وزن الرمى وهو القرب وليس المراد بأولى هنا أحق بخلاف قولهم الرجل أولى بماله لأنه لو حمل هنا على أحق لخلى عن الفائدة لأنا لا ندري من هو الأحق قوله (صلى الله عليه وسلم) رجل ذكر وصف الرجل بأنه ذكر تنبيها على سبب استحقاقه وهو الذكورة التي هي سبب العصوبة وسبب الترجيح في الإرث ولهذا جعل للذكر مثل حظ الأنثيين وحكمته أن الرجال تلحقهم مؤن كثيرة بالقيام بالعيال والضيفان والأرقاء والقاصدين ومواساة السائلين وتحمل الغرامات وغير ذلك والله أعلم وهذا الحديث في توريث العصبات وقد أجمع المسلمون على أن ما بقى بعد الفروض فهو للعصبات يقدم الأقرب فالأقرب فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب فإذا
[ 54 ]
خلف بنتا وأخا وعما فللبنت النصف فرضا والباقي للأخ وشئ للعم قال أصحابنا والعصبة ثلاثة أقسام عصبة بنفسه كالابن وابنه والأخ وابنة العم وابنة وعم الأب والجد وابنهما ونحوهم وقد يكون الأب والجد عصبة وقد يكون لهما فرض فمتى كان للبنت ابن أو ابن ابن لم يرث الأب إلا السدس فرضا ومتى لم يكن ولد ولا ولد ابن ورث بالتعصيب فقط ومتى كانت بنت أو بنت ابن أو بنتان أبنتا ابن أخذ البنات فرضهن وللأب من الباقي السدس فرضا والباقي بالتعصيب هذا أحد الأقسام وهو العصبة بنفسه القسم الثاني العصبة بغيره وهو البنات بالبنين وبنات الابن ببني الابن والأخوات بالأخوة والثالث العصبة مع غيره وهو الأخوات للأبوين أو للأب مع البنات وبنات الابن فإذا خلف بنتا وأختا لأبوين أو لأب فللبنت النصف فرضا والباقي للأخت بالتعصيب وأن خلف بنتا وبنت ابن وأختا لأبوين أو أختا لأب فللبنت النصف ولبنت الابن السدس والباقي للأخت وأن خلف بنتين وبنتي ابن وأختا لأبوين أو لأب فللبنتين الثلثان والباقي للأخت ولا شئ لبنتي الابن لأنه لم يبق شئ من فرض جنس البنات وهو الثلثان قال أصحابنا وحيث أطلق العصبة فالمراد به العصبة بنفسه وهو كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى ومتى انفرد العصبة أخذ جميع المال ومتى كان مع أصحاب فروض مستغرقة فلا شئ له وان لم يستغرقوا كان له الباقي بعد فروضهم وأقرب العصبات البنون ثم بنوهم ثم الأب ثم الجد ان لم يكن أخ والأخ ان لم يكن جد فإن كان جد وأخ ففيها خلاف مشهور ثم بنو الأخوة ثم بنوهم وان سفلوا ثم أعمام الأب ثم بنوهم وان سفلوا ثم أعمام الجد ثم بنوهم ثم أعمام جد الأب ثم بنوهم وهكذا ومن أدلى بأبوين يقدم على من يدلى بأب فيقدم أخ من أبوين على أخ من أب ويقدم عم لأبوين على عم باب وكذا الباقي ويقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين لأن جهة الأخوة أقوى وأقرب ويقدم ابن أخ لأب على عم لأبوين ويقدم عم لأب على بان ابن لأبوين وكذا الباقي والله أعلم ولو خلف بنتا وأختا لأبوين وأخا لأب فمذهبنا ومذهب الجمهور أن للبنت النصف والباقي للأخت ولا شئ للأخ وقال ابن عباس رضي الله عنهما للبنت النصف والباقي للأخ دون الأخت وهذا
[ 55 ]
الحديث المذكور في الباب ظاهر في الدلالة لمذهبه والله أعلم قوله (عن جابر مرضت فأتاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر يعوداني ماشيان) هكذا هو في أكثر النسخ ماشيان وفي بعضها ماشيين وهذا ظاهر والأول صحيح أيضا وتقديره وهما ماشيان وفيه فضيلة عيادة المريض واستحباب المشي فيها قوله (فأغمى على فتوضأ ثم صب على من وضوئه فأفقت) الوضوء هنا بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به وفيه التبرك بآثار الصالحين وفضل طعامهم وشرابهم ونحوهما وفضل مؤاكلتهم ومشاربتهم ونحو ذلك وفيه ظهور آثار بركة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واستدل أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على طهارة الماء المستعمل في الوضوء والغسل ردا على أبي يوسف القائل بنجاسته وهي رواية عن أبي حنيفة وفي الاستدلال به نظر لأنه يحتمل أنه صب من الماء الباقي في الاناء ولكقد يقال البركة العظمى فيما لاقى أعضاءه (صلى الله عليه وسلم) في الوضوء والله أعلم قوله (قلت يارسول الله كيف أقضي في مالي فلم يرد علي شيئا حتى نزلت آية الميراث قل الليفتيكم في الكلالة أو وفي رواية فنزلت يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين وفي رواية نزلت آية الميراث فيه جواز وصية المريض وان كان يذهب عقله في بعض أوقاته بشرط أن تكون الوصية في حال افاقته وحضور عقله وقد يستدل بهذا
[ 56 ]
الحديث من لا يجوز الاجتهاد في الأحكام للنبي (صلى الله عليه وسلم) والجمهور على جوازه وقد سبق بيانه مرات ويتأولون هذا الحديث وشبهه على أنه لم يظهر له بالاجتهاد شئ فلهذا لم يرد
[ 57 ]
عليه شيئا رجاء أن ينزل الوحي قوله (أن عمر رضي الله عنه قال اني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شئ ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي في شئ ما أغلط لي فيه حتى طعن بأصبعيه في صدري وقال يا عمر الا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وأني أن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن) أما آية الصيف فلأنها نزلت في الصيف وأما قوله وأني أن أعش إلى آخره هذا من كلام عمر لا من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) وإنما أخر القضاء فيها لأنه لم يظهر له في ذلك الوقت ظهورا يحكم به فأخره حتى يتم اجتهاده فيه ويستوفي نظره ويتقرر عنده حكمه ثم يقضي به ويشيعه بين الناس ولعل النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما أغلظ له لخوفه من اتكاله واتكال غيره على ما نص عليه صريحا وتركهم الاستنباط من النصوص وقد قال الله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة فإذا أهمل الاستنباط فات القضاء في
[ 58 ]
معظم الأحكام النازلة أو في بعضها والله أعلم واختلفوا في اشتقاق الكلالة فقال الأكثرون مشتقة من التكلل وهو التطرف فابن العم مثلا يقال له كلالة لأنه ليس على عمود النسب بل على طرفه وقيل من الاحاطة ومنه الاكليل وهو شبه عصابة تزين بالجوهر فسموا كلالة لإحاطتهم بالميت من جوانبه وقيل مشتقة من كل الشئ إذا بعد وانقطع ومنه قولهم كلت الرحم إذا بعدت وطال انتسابها ومنه كل في مشيه إذا انقطع لبعد مسافته واختلف العلماء في المراد بالكلالة في الآية على أقوال أحدهما المراد الوراثة إذا لم يكن للميت ولد ولا والد وتكون الكلالة منصوبة على تقدير يورث وراثة كلالة والثاني أنه إسم للميت الذي ليس له ولد ولا والد ذكرا كان الميت أو أنثى كما يقال رجل عقيم وامرأة عقيم وتقديره يورث كما يورث في حال كونه كلالة وممن روى عنه هذا أبو بكر الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين والثالث أنه اسم للورثة الذين ليس فيهم ولد ولا والد احتجوا بقول جابر رضي الله عنه إنما يرئني كلالة ولم يكن ولد ولا والد والرابع أنه إسم للمال الموروث قال الشيعة الكلالة من ليس له ولد وان كان له أب أو جد فورثوا الأخوة مع الأب قال القاضي وروى ذلك عن ابن عباس قال وهي رواية باطلة لا تصح عنه بل الصحيح عنه ما عليه جماعة العلماء قال وذكر بعض العلماء على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد قال وقد اختلفوا في الورثة إذا كان فيهم جد هل الورثة كلالة أم لا فمن قال ليس الجد أبا جعلها كلالة ومن جعله أبا لم يجعلها كلالة قال القاضي وإذا كان في الورثة بنت فالورثة كلالة عند جماهير العلماء لأن الأخوة والأخوات وغيرهم من العصبات يرثون مع البنت وقال ابن عباس لا ترث
[ 59 ]
الأخت مع البنت شيئا لقول الله تعالى ليس له ولد وله أخت وبه قال داود وقالت الشيعة البنت تمنع كون الورثة كلالة لأنهم لا يورثون الأخ والأخت مع البنت شيئا ويعطون البنت كل المال وتعلقوا بقوله تعالى امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ومذهب الجمهور أن معنى الآية الكريمة أن توريث النصف للأخت بالفرض لا يكون إلا إذا لم يكن ولد فعدم الولد شرط لتوريثها النصف فرضا لا لأجل توريثها وإنما لم يذكر عدم الأب في الآية كما ذكر عدم الولد مع أن الأخ والأخرت لا يرثان مع الأب لأنه معلوم من قاعدة أصل الفرائض أن من أدلى بشخص لا ير ث مع وجوده إلا أولاد الأم فيرثون معها وأجمع المسلمون على أن المراد بالأخوة والأخوات في الآية التي في آخر سورة النساء من كان من أبوين أو من أب عند عدم الذين من أبوين وأجمعوا على أن المراد بالذين في أولها الأخوة والأخوات من الأم في قوله تعالى كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت قوله (عن مالك بمغول) هو بكسر الميم واسكان الغين المعجمة قوله (عن أبي السفر) هو
[ 60 ]
بفتح الفاء على المشهور وقيل باسكانها حكاه القاضي عن أكثر شيوخهم قوله (إن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان في أول الأمر لا يصلي على ميت عليه دين إلا وفاه له) إنما كان يترك الصلاة عليه ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي (صلى الله عليه وسلم) فلما فتح الله عليه عاد يصلي عليهم ويقضي دين من لم يخلف وفاء قوله (صلى الله عليه وسلم) (صلوا على صاحبكم) فيه الأمر بصلاة الجنازة وهي فر ض كفاية قوله (صلى الله عليه وسلم) (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلى قضاؤه ومن ترك مالا فهو لورثته) قيل إنه (صلى الله عليه وسلم) كان يقضيه من مال مصالح المسلمين وقيل من خالص مال نفسه وقيل كان هذا القضاء واجبا عليه (صلى الله عليه وسلم) وقيل تبرع منه والخلاف وجهان لأصحابنا وغيرهم واختلف أصحابنا في قضاء دين من مات وعليه دين فقيل يجب ب قضاؤه من بيت المال وقيل لا يجب ومعنى هذا الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال أنا قائم بمصالحكم حياة أحدكم وموته وأنا وليه في الحالين فإن كان عليه دين قضيته من عندي إن لم يخلف وفاء
[ 61 ]
وإن كان له مال فهو لورثته لا آخذ منه شيئا وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين فليأتوا إلي فعلي نفقتهم ومؤنتهم قوله (صلى الله عليه وسلم) (فأيكم ما تر ك دينا أو ضياعا فأنا مولاه وأيكم ترك مالا فالي العصبة من كان) وفي رواية دينا أضيعة وفي رواية من ترك كلا فالينا أما الضياع والضيعة فبفتح الضاد والمراد عيال محتاجون ضائعون قال الخطابي الضياع والضيعة هنا وصف لورثة الميت بالمصدر أي ترك أولادا أو عيالا ذوي ضياع أي لا شئ لهم والضياع في الأصل مصدر ما ضاع ثم جعل اسما لكل ما يعرض للضياع وأما الكل فبفتح الكاف قال الخطابي وغيره المراد به ههنا العيال وأصله الثقل ومعنى انا مولاه أي وليه وناصره والله أعلم
[ 62 ]
كتاب الهبات باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه قوله (حملت على فرس عتيق في سبيل الله) معناه تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله والعتيق الفرس النفيس الجواد السابق قوله (فاضاعه صاحبه) أي قصر في القيام بعلفه أو مؤنته قوله (صلى الله عليه وسلم) 0 لا تبتعه ولا تعد في صدقتك) هذا نهي تنزيه لا تحريم فيكره لمن تصدق بشئ أو أخرجه في زكاة أو كفارة أو نذر ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه أو يهبه أو يتملكه باختياره منه فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه وقد سبق بيانه في كتاب الزكاة وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقام جماعة من العلماء النهي عن شراء صدقته للتحريم والله أعلم
[ 64 ]
باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض (إلا ما وهبه لولده وأن سفل) قوله (صلى الله عليه وسلم) (مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقئ ثم يعود في قيئه فيأكله) هذا ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد اقباضهما وهو محمول على هبة الأجنبي أم إذا وهب لولده وأن سفل فله الرجوع فيه كما صرح به في حديث النعمان بن بشير ولا رجوع في
[ 65 ]
هبة الأخوة والأعمام وغيرهم في ذوي الأرحام هذا مذهب الشافعي وبه قال مالك والأوزاعي وقال أبو حنيفة وآخرون يرجع كل واهب إلا الولد وكل ذي رحم محرم باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة قوله (عن النعمان ابن بشير أن أباه أتى به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال أني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول اللص أكل ولدك نحلته مثل هذا فقال لا فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فارجعه) وفي رواية قال فاردده وفي رواية فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفعلت هذا بولدك كلهم قال لا قال اتقوا الله واعدلوا في أولادكم قال فرجع أبي فرد تلك الصدقة وفي رواية قال فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور وفي رواية لا تشهدني على جور
[ 66 ]
وفي رواية قال فأشهد على هذا غيري وفي رواية قال فإني لا أشهد وفي رواية قال فليس يصلح هذا وأني لا أشهد إلا على حق أما قوله نحلت فمعناه وهبت وفي هذا الحديث أنه ينبغي أن يسوى بين أولاده في الهبة ويهب لكل واحد منهم مثل الآخر ولا يفضل ويسوى بين الذكر والانثى وقال بعض أصحابنا يكون للذكر مثل حظ الأنثيين والصحيح المشهور أنه يسوي بينهما لظاهر الحديث فلو فضل بعضهم أو وهب لبعضهم دون بعض فمذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة أنه مكروه وليس بحرام والهبة صحيحة وقال طاوس وعروة ومجاهد والثوري وأحمد واسحاق وداود هو حرام واحتجوا برواية لا أشهد على جور وبغيرها من ألفاظ الحديث واحتج الشافعي وموافقوه بقوله (صلى الله عليه وسلم) فأشهد على هذا غيري قالوا ولو كان حراما أو باطلا لما قال هذا الكلام فإن قيل قاله تهديدا قلنا الاصفي كلام الشارع غير هذا ويحتمل عند اطلاقه صيغة أفعل على الوجوب أو الندب فإن تعذر ذلك فعلى الاباحة وأما قوله (صلى الله عليه وسلم)
[ 67 ]
لا أشهد على جور فليس فيه أنه حرام لأن الجور هو الميل عن الاستواء والاعتدال وكل ما خرج عن الاعتدال فهو جور سواء كان حراما أو مكروها وقد وضح بما قدمناه أن قوله (صلى الله عليه وسلم) أشهد على هذا غيري يدل على أنه ليس بحرام فيجب تأويل الجور على أنه مكروه كراهة تنزيه وفي هذا الحديث أن هبة بعض الأولاد دون بعض صحيحة وأنه أن لم يهب الباقين مثل هذا استحب رد الأول قال أصحابنا يستحب أن يهب الباقين مثل الأول فإن لم يفعل استحب رد الأول ولا يجب وفيه جواز رجوع الوالد في هبته للولد والله أعلم قوله (سألت أباه بعض الموهوبة) هكذا هو في معظم النسخ وفي بعضها بعض الموهبة وكلاهما صحيح وتقدير الأول بعض الأشياء الموهوبة قوله (فالتوي بها سنة) أي مطلها
[ 69 ]
قوله (صلى الله عليه وسلم) (قاربوا بين أولادكم) قال القاضي رويناه قاربوا بالباء من المقاربة وبالنون من القران ومعناهما صحيح أي سووا بينهم في أصل العطاء وفي قدره قولها (انحل ابني غلامك) هو بفتح الحاء يقال نحل ينحل كذهب يذهب باب العمرى قوله (صلى الله عليه وسلم) (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) وفي رواية من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر ولعقبه وفي رواية قال جابر إنما العمرى التي أجاز رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى
[ 70 ]
صاحبها وفي رواية عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال العمرى لمن وهبت له وفي رواية العمرى جائزة وفي رواية العمرى ميراث قال أصحابنا وغيرهم من العلماء العمرى قوله أعمرتك هذه الدار مئلا أجعلتها لك عمرك أو حياتك أو ما عشت أو حييت أو بقيت أو ما يفيد هذا المعنى وأما عقب الرجل فبكسر القاف ويجور اسكانها مع فتح العين ومع كسرها كما في نظائره والعقب هم أولاد الإنسان ما تناسلوا قال أصحابنا العمرى ثلاثة أحوال أحدهما أن يقول أعمرتك هذه الدار فإذا مت فهي لورثتك أو لعقبك فتصح بلا خلاف ويملك بهذا اللفظ رقبة الدار وهي هبة لكنها بعبارة طويلة فإذا مات فالدار لورثته فإن لم يكن له وارث فلبيت المال ولا تعود إلى الواهب بحال خلافا لمالك الحال الثاني أن يقتصر على قوله جعلتها لك عمرك ولا يتعرض لما سواه ففي صحة هذا العقد قولان للشافعي أصحهما وهو الجديد صحته وله حكم الحال الأول والثاني وهو القديم أنه باطل وقال بعض أصحابنا إنما القول القديم أن الدار تكون للمعمر حياته فإذا مات عادت إلى الواهب أو ورثته لأنه خصه بها حياته فقط وقال بعضهم القديم أنها
[ 71 ]
عارية يستردها الواهب متى شاء فإذا مات عادت إلى ورثته الثالث أن يقول جعلتها لك عمرك فإذا مت عادت إلى أو إلى ورثتي أن كنت مت ففي صحته خلاف عند أصحابنا منهم من أبطله والأصح عندهم صحته ويكون له حكم الحال الأول واعتمدوا على الأحاديث الصحيحة المطلقة العمرى جائزة وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة والأصح الصحة في جميع الاحوال وأن الموهوب له يملكها ملكا تاما يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات هذا مذهبنا وقال أحمد تصح العمرى المطلقة دون المؤقتة وقال مالك في أشهر الروايات عنه العمرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الدار مثلا ولا يملك فيها رقبة الدار بحال وقال أبو حنيفة بالصحة كنحو مذهبنا وبه قال الثوري والحسن بن صالح وأبو عبيدة وحجة الشافعي وموافقيه هذه الأحاديث الصحيحة والله أعلم قوله (فهي له بتلة) أي عطية ماضية غير راجعة إلى الواهب قوله (صلى الله عليه وسلم)
[ 72 ]
(أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها إلى آخره) المراد به اعلامهم أن العمرى هبة صحيحة ماضية يملكها الموهوب له ملكا تاما لا يعود إلى الواهب أبدا فإذا علموا ذلك فمن شاء أعمر ودخل على بصيرة ومن شاء ترك لأنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية ويرجع فيها وهذا دليل للشافعي وموافقيه والله أعلم
[ 73 ]
قوله (اختصموا إلى طارق مولى عثمان) هو طارق بن عمرو ولاه عبد الملك بن مروان المدينة بعد امارة ابن الزبير
[ 74 ]
كتاب الوصية قال الأزهري هي مشتقة من وصيت الشئ أوصيه إذا وصلته وسميت وصية لأنه وصل ما كان في حياته بما بعده ويقال وصى واوصى ايصاء والإسم الوصية والوصاة واعلم أن أول كتاب الوصية هو ابتداء الفوات الثاني من المواضع الثلاثة التي فاتت ابراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم فلم يسمعها من مسلم وقد سبق بيان هذه المواضع الثلاثة التي فاتت ابراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم فلم يسمعها من مسلم وقد سبق بيان هذه المواضع في الفصول التي في أول هذا الشرح وسبق أحد المواضع في كتبا الحج وهذا أول الثاني وهو قول مسلم حديثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ومحمد بن المثنى العنزي واللفظ لابن مثنى قالا حدثنا يحيى وهو ابن سعيد القطان عن عبيد الله قال اخبرني نافع عن ابن عمر قوله (صلى الله عليه وسلم) (ما حق امرئ مسلم له شئ يريد أن يوصى فيه يبيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده) وفي رواية ثلاث ليال فيه الحث على الوصية وقد أجمع المسلمون على الأمر بها لكن مذهبنا ومذهب الجماهير أنها مندوبة لا واجبة وقال داود وغيره من أهل الظاهر هي واجبة لهذا الحديث ولا دلالة لهم فيه فليس فيه تصريح بايجابها لكن إن
[ 75 ]
كان على الإنسان دين أو حق أو عنده وديعة ونحوها لزمه الايصاء بذلك قال الشافعي رحمه الله معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده ويستحب تعجيلها وأن يكتبها في صحته ويشهد عليه فيها يكتب فيها ما يحتاج إليه فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به الحقه بها قالوا ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجزيئات الأمور المتكررة وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) ووصيته مكتوبة عنده فمعناه مكتوبة وقد أشهد
[ 76 ]
عليه بها لا أنه يقتصر على الكتابة بل لا يعمل بها ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليه بها هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال الإمام محمد بن نصر المروزي من أصحابنا يكفي الكتاب من غير اشهاد لظاهر الحديث والله أعلم قوله في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (عادني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من وجع أشفيت منه على الموت) فيه استحباب عيادة المريض وأنها مستحبة للإمام كاستحبابها لآحاد الناس ومعنى أشفيت على الموت أي قاربته واشرفت عليه يقال أشفى عليه وأشاف قاله الهروي وقال ابن قتيبة لا يقال اشفى إلا في الشر قال إبراهيم الحربي الوجع إسم لكل مرض وفيه جواز ذكر المريض ما يجده لغرض صحيح من مداواة أو دعاء صالح أو وصية أو استفتاء عن حاله ونحو ذلك وإنما يكره من ذلك ما كان على سبيل التسخط ونحوه فإنه قادح في أجر مرضه قوله (وأنا ذو مال) دليل على إباحة جمع المال لأن هذه الصيغة لا تستعمل في العرف الا لمال كثير قوله (ولا يرثني إلا ابنة لي) أي ولا يرثني من الولد وخواص الورثة وإلا فقد كان له عصبة وقيل معناه لا يرثني من أصحاب الفروض قوله (أفأتصدق بثلثي مالي قال لا قلت أفأتصدق بشطره قال لا الثلث والثلث كثير) بالمثلثة وفي بعض بالموحدة وكلاما صحيح قال القاضي يجوز نصب الثلث الأول ورفعه أما النصب فعلى الإغراء أو على تقدير فعل أي اعط الثلث وأما الرفع فعلى أنه فاعل أي يكفيك الثلث أو أنه
[ 77 ]
مبتدأ وحذف خبره أو خبر محذوف المبتدأ وفي هذا الحديث مراعاة العدل بين الورثة والوصية قال أصحابنا وغيرهم من العلماء إن كانت الورثة أغنياء استحب أن يوصى بالثلث تبرعا وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص من الثلث وأجمع العلماء فهذه الأعصار على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بزيادة على الثلث إلا باجازته وأجمعوا على نفوذها باجازته في جميع المال وأما من لا وارث له فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث وجوزه أبو حنيفة وأصحابه واسحق وأحمد في إحدى الروايتين عنه وروى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وأما قوله أفأتصدق بثلثي مالي يحتمل أنه أراد بالصدقة الوصية ويحتمل أنه أراد الصدقة المنجزة وهما عندنا وعند العلماء كافة سواء لا ينفذ ما زاد على الثلث إلا برضا الوارث وخالف أهل الظاهر فقالوا للمريض مرض الموت أن يتصدق بكل ماله ويتبرع به كالصحيح ودليل الجمهور ظاهر حديث الثلث كثير مع حديث الذي أعتق ستة أعبد في مرضه فأعتق النبي (صلى الله عليه وسلم) اثنين وأرق أربعة قوله (صلى الله عليه وسلم) (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) العالة الفقراء ويتكففون يسألون الناس في أكفهم قال القاضي رحمه الله روينا قوله إن تذر ورثتك بفتح الهمزة وكسرها وكلاهما صحيح وفي هذا الحديث حث على صلة الأرحام والاحسان إلى الأقارب والشفقة على الورثة وأن صلة القريب الأقرب والاحسان إليه أفضل من الأبعد واستدل به بعضهم على ترجيح الغني على الفقير قوله (صلى الله عليه وسلم) (ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك) فيه استحباب الانفاق في وجوه الخير وفيه أن الأعمال بالنيات وأنه إنما يثاب على عمله بنيته وفيه أن الانفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد به وجه الله تعالى وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة ويثاب عليه وقد نبه (صلى الله عليه وسلم) على هذا بقوله (صلى الله عليه وسلم) حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة
[ 78 ]
وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة ومع هذا فأخبر (صلى الله عليه وسلم) أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئا أصله على الإباحة وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه وذلك كالأكل بنية التقوى على طاقة الله تعالى والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطا والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكف نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام وليقضي حقها وليحصل ولدا صالحا وهذا معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) وفي بضع أحدكم صدقة والله أعلم قوله (قلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي قال إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله تعالى إلا ازددت به درجة ورفعة) فقال القاضي معناه أخلف بمكة بعد أصحابي فقاله إما إشفاقا من موته بمكة لكونه هاجر منها وتركها لله تعالى فخشى أن يقدح ذلك في هجرته أو في ثوابه عليها أو خشى بقاءه بمكة بعد انصراف النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه إلى المدينة وتخلفه عنهم بسبب المرض وكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه لله تعالى ولهذا جاء في رواية أخرى أخلف عن هجرته قال القاضي قيل كان حكم الهجرة باقيا بعد الفتح لهذا الحديث وقيل إنما كان ذلك لمن كان هاجر قبل الفتح فأما من هاجر بعده فلا وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) إنك لن تخلف فتعمل عملا فالمراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه وفي هذا الحديث فضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح والحث على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال والله تعالى أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام ويضر بك آخرون) وفي بعض النسخ ينتفع بزيادة التاء وهذا الحديث من المعجزات فإن سعدا رضي الله عنه عاش حتى فتح العراق وغيره وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم فإنه قتلوا وصاروا إلى جهنم وسبيت نساؤهم وأولادهم وغنمت أموالهم وديارهم وولى العراق فاهتدى
[ 79 ]
على يديه خلائق وتضرر به خلائق باقامته الحق فيهم من الكفار ونحوهم قال القاضي قيل لا يحبط أجر هجرة المهاجر بقاؤه بمكة وموته بها إذا كان لضرورة وإنما كان يحبطه ما كان بالاختيار قال وقال قوم موت المهاجر بمكة محبط هجرته كيفما ما كان قال وقيل لم تفرض الهجرة إلا على أهل مكة خاصة قوله (صلى الله عليه وسلم) (اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم) قال القاضي استدل به بعضهم على أن بقاء المهاجر بمكة كيف كان قادح في هجرته قال ولا دليل فيه عندي لأنه يحتمل أنه دعا لهم دعاء عاما ومعنى امض لأصحابي هجرتهم أي أتممها ولا تبطلها ولا تردهم على أعقابهم بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية قوله (صلى الله عليه وسلم) (لكن البائس سعد بن خولة) البائس هو الذي عليه أثر البؤس وهو الفقر والقلة قوله (يرثي له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن مات بمكة) قال العلماء هذا من كلام الراوي وليس هو من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) بل انتهى كلامه (صلى الله عليه وسلم) بقوله لكن البائس سعد بن خولة فقال الراوي تفسير المعنى هذا الكلا أنه يرثيه النبي (صلى الله عليه وسلم) ويتوجع له ويرق عليه لكونه مات بمكة واختلفوا في قائل هذا الكلام من هو فقيل هو سعد بن أبي وقاص وقد جاء مفسرا في بعض الروايات قال القاضي وأكثر ما جاء أنه من كلام الزهري قال واختلفوا في قصة سعد بن خولة فقيل لم يهاجر من مكة حتى مات بها قال عيسى بن دينار وغيره وذكر البخاري أنه هاجر وشهد بدرا ثم انصرف إلى مكة ومات بها وقال ابن هشام انه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد بدار وغيرها وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر وقيل توفي بها ستة سبع في الهدنة خرج مجتازا من المدينة فعلى هذا
[ 80 ]
وعلى قول عيسى بن دينار سبب بؤسه سقوط هجرته لرجوعه مختارا وموته بها وعلى قول الآخرين سبب بؤسه موته مكة على أي حال كان وإن لم يكن باختياره لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته والغربة عن وطنه إلى هجرة الله تعالى قال القاضي وقد روى في هذا الحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلا وقال له أن توفي بمكة فلا تدفنه بها وقد ذكر مسلم في الرواية الأخرى أنه كان يكره أن يموت في الأرض التي هاجر منها وفي رواية أخرى لمسلم قال سعد بن أبي وقاص خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة وسعد بن خولة هذا هو زوج سبيعة الأسلمية وفي حديث سعد هذا جواز تخصيص عموم الوصية المذكورة في القرآن بالسنة وهو قول جمهور الأصوليين وهو الصحيح قوله (حدثنا أبو داود الحفري) هو بحاء مهملة ثم فاء مفتوحتين منسوب إلى الحفر بفتح الحاء والفاء وهي محلة بالكوفة كان أبو داود يسكنها هكذا ذكره أبو حاتم بن حبان وأبو سعد السمعاني وغيرهما وإسم أبي داود هذا عمرو بن سعد الثقة الزاهد الصالح العابد قال علي المديني ما أعلم أني
[ 81 ]
رأيت بالكوفة أعبد من أبي داود الحفري وقال وكيع أن كان يدفع بأحد في زماننا يعني البلاء والنوازل فبأبي داود توفي سنة ثلاث وقيل سنة ست ومائتين رحمه الله قوله (عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدثه عن أبيه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دخل على سعد يعوده بمكة) وفي الرواية الأخرى عن حميد عن ثلاثة من ولد سعد قالوا مرض سعد بمكة فأتاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعوده فهذه الرواية مرسلة والأولى متصلة لأن أولاد سعد تابعيون وإنما ذكر مسلم هذه الروايات المختلفة في وصله وارساله ليبين اختلاف الرواة في ذلك قال القاضي وهذا وشبهه من العلل التي وعد مسلم في خطبة كتابه أنه يذكرها في مواضعها فظن ظانون أنه يأتي بها مفردة وأنه توفي قبل ذكرها والصواب أنه ذكرها في تضاعيف كتابه كما أوضحناه في أول هذا الشرح ولا بقدح هذا الخلاف في صحة هذه الرواية ولا في صحة اصل الحديث لأن أصل الحديث ثابت من طرق من غير جهة حميد عن أولاد سعد وثبت وصله عنهم في بعض الطرق التي ذكرها مسلم
[ 82 ]
وقد قدمنا في أول هذا الشرح أن الحديث إذا روى متصلا ومرسلا فالصحيح الذي عليه المحققون أنه محكوم باتصاله لأنها زيادة ثقة وقد عرض الدار قطني بتضعيف هذه الرواية وقد سبق الجواب عن اعتراضه الآن وفي مواضع نحو هذا والله أعلم قوله (عن ابن عباس قال لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع قإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال الثلث والثلث كثير)
[ 83 ]
قوله غضوا بالغين والضاد المعجمتين أي نقصوا وفيه استحباب النقص عن الثلث وبه قال جمهور العلماء مطلقا ومذهبنا أنه إن كان ورثته أغنياء استحب الايصاء بالثلث والا فيستحب النقص منه وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس وعن علي رضي الله عنه نحوه وعن ابن عمر واسحاق بالربع وقال آخرون بالسدس وآخرون بدونه وقال آخرون بالعشر وقال ابراهيم النخعي رحمه الله تعالى كانوا يكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة وروى عن علي وابن عباس وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم أنه يستحب لمن له ورثة ومال قليل ترك الوصية قوله في اسناد هذا الحديث وحدثنا أبو كريب قال حدثنا ابن نمير كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عباس هكذا هو في نسخ بلادنا وهي من رواية الجلودي ففي جميعها أبو كريب وذكر القاضي أنه وقع في نسخة ابن ماهان أبو كريب كما ذكرناه وفي نسخة الجلودي أبو بكر ابن أبي شيبة بدل أبي كريب والصواب ما قدمناه والله أعلم باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت قوله (إن أبي مات وترك مالا ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه قال نعم) وفي رواية أن أمي افتلتت
[ 84 ]
نفسها وإني أظنها لو تكلمت تصدقت فلى أجر أن أتصدق عنها قال نعم قوله (افتلتت) بالفاء وضم التاء أي ماتت بغتة وفجأة والفلتة والافتلات ما كان بغتة وقوله نفسها برفع السين ونصبها هكذا ضبطوه وهما صحيحان الرفع على ما لم يسم فاعله والنصب على المفعول الثاني وأما قوله أظنها لو تكلمت تصدقت معناه لما علمه من حرصها على الخير أو لما علمه من رغبتها في الوصية وفي هذا الحديث 1 جواز الصدقة على الميت 2 واستحبابها 3 وأن ثوابها يصله وينفعه 4 وينفع المتصدق أيضا وهذا كله أجمع عليه المسلمون وسبقت المسألة في أول هذا الشرح في شرح مقدمة صحيح مسلم 5 وهذه الأحاديث مخصصة لعموم قوله تعالى ليس للإنسان إلا ما سعى وأجمع المسلمون على أنه لا يجب على الوارث التصدق عن ميته صدقة التطوع بل هي مستحبة وأما الحقوق المالية الثابتة على الميت فإن كان له تركة وجب فضاؤها منها سواء أوصى بها الميت أم لا ويكون ذلك من رأس المال سواء ديون الله تعالى كالزكاة والحج والنذر والكفارة وبدل الصوم ونحو ذلك ودين الآدمي فإن لم يكن للميت تركة لم يلزم الوارث قضاء دينه لكن يستحب له ولغيره قضاؤه قوله
[ 85 ]
فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه أي هل تكفر صدقتي عنه سيئاته والله أعلم باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته قوله (صلى الله عليه وسلم) (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) قال العلماء معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها فإن الولد من كسبه وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح وقد سبق بيان اختلاف أحوال الناس فيه وأوضحنا ذلك في كتاب النكاح وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه وبيان فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع وفيه أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت وكذلك الصدقة وهما مجمع عليهما وكذلك قضاء الدين كما سبق وأما الحج فيجزي عن الميت عند الشافعي وموافقيه وهذا داخل في قضاء الدين إن كان حجا واجبا وأن كان تطوعا وصى به فهو من باب الوصايا وأما إذا مات وعليه صيام فالصحيح أن الولي يصوم عنه وسقت المسألة في كتاب الصيام وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت والصلاة عنه ونحوهما فمذهب الشافعي والجمهور أنها لا تلحق الميت وفيها خلاف وسبق إيضاحه في أول هذا الشرح في شرح مقدمة صحيح مسلم
[ 86 ]
باب الوقف قوله (اصاب عمر أرضا بخيبر فأتي النبي (صلى الله عليه وسلم) يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب قال فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضعيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه) وفي رواية غير متأثل مالا أما قوله هو أنفس فمعناه أجود والنفيس الجيد وقد نفس بفتح النون وضم الفاء نفاسة وإسم هذا المال الذي وقفه عمر ثمغ بثاء مثلثة مفتوحة ثم ميم ساكنة ثم غين معجمة وأما قوله غير متأثل فمعناه غير جامع وكل شئ له أصل قديم أو جمع حتى يصير له اصل فهو مؤثل ومنه مجد مؤثل أي قديم واثلة الشئ أصله وفي هذا الحديث دليل على صحة أصل الوقف وأنه مخالف لشوائب الجاهلية وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير ويدل عليه أيضا اجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايات وفيه أن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث إنما يتبع فيه شرط الواقف وفيه صحة شروط الواقف وفيه فضيلة الوقف وهي الصدقة الجارية وفيه فضيلة الانفاق مما يحب وفيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه وفيه مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير وفيه أن خيبر فتحت
[ 87 ]
عنوة وأن الغانمين ملكوها واقتسموها واستقرت أملاكهم على حصصهم ونفذت تصرفاتهم فيها وفيه فضيلة صلة الأرحام والوقف عليهم وأما قوله يأكل منها بالمعروف فمعناه يأكل المعتاد ولا يتجاوزه والله أعلم باب ترك الوصية لمن ليس له شئ يوصى فيه قوله (عن طلحة بن مصرف) هو بضم الميم وفتح الصاد وكسر الراء المشددة وحكى فتح الراء والصواب المشهور كسرها قوله (سألت عبد الله بن أبي أوفى هل أوصى الرسول (صلى الله عليه وسلم)
[ 88 ]
فقال لا قلت فلم كتب على المسلمين الوصية أو فلم أمروا بالوصية قال أوصى بكتاب الله تعالى) وفي رواية عائشة رضي الله عنها ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى به وفي رواية قال ذكروا عند عائشة رضي الله عنها أن عليا رضي الله عنه كان وصيا فقالت متى أوصى إليه فقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجري فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه مات فمتى أوصى أما قولها انخنث فمعناه مال وسقط وأما حجر الإنسان وهو حجر توبه فبفتح الحاء وكسرها وأما قوله لم يوص فمعناه لم يوص بثلث ماله ولا غيره إذ لم يكن له مال ولا أوصى إلى علي رضي الله عنه ولا إلى غيره بخلاف ما يزعمه الشيعة وأما الأرض التي كانت له (صلى الله عليه وسلم) بخيبر وفدك فقد سلبها (صلى الله عليه وسلم) في حياته ونجز الصدقة بها على المسلمين وأما الأحاديث الصحيحة في وصيته (صلى الله عليه وسلم) بكتاب الله ووصيته بأهل بيته ووصيته باخراج المشركين من جزيرة العرب وباجاز الوفد فليست مرادة بقوله لم يوص إنما المراد به ما قدمناه وهو مقصود السائل عن الوصية فلا مناقضة بين الأحاديث وقوله أوصى بكتاب الله أي بالعمل بما فيه وققال الله تعالى فرطنا في الكتاب من شئ ومعناه أن من الأشياء ما يعلم منه نصا ومنها ما يحصل بالاستنباط وأما قول السائل فلم كتب على المسلمين الوصية فمراده قوله تعالى عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية وهذه الآية منسوخة عند الجمهور ويحتمل أن السائل أراد بكتب الوصية الندب إليها
[ 89 ]
والله أعلم قوله (عن ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس) معناه تفخيم أمره في الشدة والمكروه فيما يعتقده ابن عباس وهو امتناع الكتاب ولهذا قال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين أن يكتب هذا الكتاب هذا مراد ابن عباس وإن كان الصواب ترك الكتاب كما سنذكره إن شاء الله تعالى قوله (صلى الله عليه وسلم) حين اشتد وجعه (ائتوني الكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فقالوا إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يهجر) وفي رواية فقال عمر رضي الله عنه
[ 90 ]
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا ثم ذكر أن بعضهم أراد الكتاب وبعضهم وافق عمر وأنه لما أكثروا اللغو والاختلاف قال النبي (صلى الله عليه وسلم) قوموا أعلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) معصومن الكذب ومن تغيير شئ من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه وليس معصوما من الأمراض والاسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته وقد سحر (صلى الله عليه وسلم) حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يكن فعله ولم يصدر منه (صلى الله عليه وسلم) وفي هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام التي قررها فإذا علمت ما ذكرناه فقد اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي (صلى الله عليه وسلم) به فقيل أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن وقيل أراد كتابا يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحى إليه بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحى إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشى أن يكتب (صلى الله عليه وسلم) أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر حسبنا كتاب الله لقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شئ وقوله اليوم أكملت لكم دينكم فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقة قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في أواخر كتابه دلائل النبوة إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين عليه الوجع ولو كان مراده (صلى الله عليه وسلم) أن يكتب مالا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى به ما أنزل إليك كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في ذلك الحال باخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكر في الحديث قال البيهقي وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه ثم ترك ذلك اعتمادا على ما علمه من تقدير الله
[ 91 ]
تعالى ذلك كما هم بالكتاب في أول مرضه حين قال وارأساه ثم ترك الكتاب وقال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة قال البيهقي وإن كان المراد بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك لقوله تعالى أكملت لكم دينكم وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب أو السنة بيانها نصا أو دلالة وفي تكلم ف النبي (صلى الله عليه وسلم) في مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة ورأى عمر الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصا أو دلالة تخفيفا عليه ولئلا يفسد باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط والحاق الفروع بالأصول وقد كان سبق قوله (صلى الله عليه وسلم) إذا اجتهد الحاكم فأصا ب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وهذا دليل على أنه وكل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء جعل لهم الأجر على الإجتهاد فرأى عمر الصواب تركهم على هذه الجملة لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد مع التخفيف عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وفي تركه (صلى الله عليه وسلم) الانكار على عمر دليل على استصوابه قال الخطابي ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فتجد المنافقون بذلك سبيلا إلى الكلام في الدين وقد كان أصحابه (صلى الله عليه وسلم) يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف وفي كتاب الصلح بينه وبين قريش فأما إذا أمر بالشئ أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم قال وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه وقد أجمعوا كلهم على أنه لا يقر عليه قال ومعلوم أنه (صلى الله عليه وسلم) وإن كان الله تعالى قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم ينزهه عن سمات الحدث والعوارض البشرية وقد سهى في الصلاة فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه فيتوقف في مثل هذا الحال حتى تتبين حقيقته فلهذه المعاني وشبهها راجعه عمر رضي الله عنه قال الخطابي وقد روى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال اختلاف أمتي رحمة فاستصوب عمر ما قاله قال وقد اعترض على حديث اختلاف أمتي رحمة رجلان أحدهما مغموض عليه في دينه وهو عمرو بن بحر الجاحظ والآخر معروف بالسخف والخلاعة وهو أسحق بن ابراهيم الموصلي فإنه لما
[ 92 ]
وضع كتابه في الأغاني وأمكن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزود من اثمها حتى صدر كتابه بذم أصحاب الحديث وزعم أنهم يروون مالا يدرون وقال هو والجاحظ لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا ثم زعم أنه إنما كان اختلاف الأمة رحمة في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) خاصة فإذا اختلفوا سألوه فبين لهم والجواب عن هذا الاعتراض الفاسد أنه لا يلزم من كون الشئ رحمة أن يكون ضده عذابا ولا يلتزم هذا ويذكره الا جاهل أو متجاهل وقد قال الله تعالى رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه فسمى الليل رحمة ولم يلزم من ذلك أن يكون النهار عذابا وهو ظاهر لا شك فيه قال الخطابي والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام أحدها في اثبات الصانع ووحدانيته وانكار ذلك كفر والثاني في صفاته ومشيئته وانكارها بدعة والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوها فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة هذا آخر كلام الخطابي رحمة الله وقال المازري أن قيل كيف جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع قوله (صلى الله عليه وسلم) ائتوني أكتب وكيف عصوه في أمره فالجواب أنه لا خلاف أن الأوامر تقارنها قرائن تنقلها من الندب إلى الوجوب عند من قال أصلها للندب ومن الوجوب إلى الندب عند من قال أصلها للوجوب وتنقل القرائن أيضا صيغة أفعل إلى الإباحة وإلى التخبير وإلى غير ذلك من ضروب المعاني فلعله ظهر منه (صلى الله عليه وسلم) من القرائن مادل على أنه لم يوجب عليهم بل جعله إلى اختيارهم فاختلف اختيارهم بحسب اجتهادهم وهو دليل على رجوعهم إلى الاجتهاد في الشرعيات فإدى عمر رضي الله عنه اجتهاده إلى الامتناع من هذا ولعله اعتقد أن ذلك صدر منه (صلى الله عليه وسلم) من غير قصد جازم وهو المراد بقولهم هجر وبقول عمر غلب عليه الوجع وما قارنه من القرائن الدالة على ذلك على نحو ما يعهدونه من أصوله (صلى الله عليه وسلم) في تبليغ الشريعة وأنه يجري مجرى غيره من طرق التبليغ المعتادة منه (صلى الله عليه وسلم) فظهر ذلك لعمر دون غيره فخالفوه ولعل عمر خاف أن المنافقين قد يتطرقون إلى القدح فيما اشتهر من قواعد الإسلام وبلغه (صلى الله عليه وسلم) الناس بكتاب في خلوة وآحاد يضيفون إليه شيئا لشبهوا به على الذين في قلوبهم مرض ولهذا قال عندكم القرآن حسبنا كتا ب الله وقال القاضي عياض وقوله أهجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هكذا هو في صحيح مسلم وغير أهجر على الاستفهام وهو
[ 93 ]
أصح من رواية من روى هجر ويهجر لأن هذا كله لا يصح منه (صلى الله عليه وسلم) لأن معنى هجر هذي وإنما جاء هذا من قائلة استفهاما للإنكار على من قال لا تكتبوا أي لا تتركوا أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه لأنه (صلى الله عليه وسلم) لا يهجر وإن صحت الروايات الأخرى كانت خطأ من قائلها قالها بغير تحقيق بل لما أصابه من الحيرة والدهشة لعظيم ما شاهده من النبي (صلى الله عليه وسلم) من هذه الحالة الدالة على وفاته وعظيم المصاب به وخوف الفتن والضلال بعده وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع وقول عمر رضي الله عنه حسبنا كتاب الله رد على من نازعه لا على أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (دعوني فالذي أنا فيه خير) معناه دعوني من النزاع واللغط الذي شرعتم فيه فالذي أنا فيه من مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه والفكر في ذلك ونحوه أفضل مما أنتم فيه قوله (صلى الله عليه وسلم) (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) قال أبو عبيد قال الأصمعي جزيرة العرب ما بين أقصى عدن اليمن إلى ريف العراق في الطول وأما في العرض فمن جدة وما والاها إلى أطراف الشام وقال أبو عبيدة هي ما بين حفر أبي موسى إلى اقصى اليمن في الطول وأما في العرض فما بين رمل يرين إلى منقطع السماوة وقوله حفر أبي موسى هو بفتح الحاء المهملة وفتح الفاء أيضا قالوا وسميت جزيرة لاحاطة البحار بها من نواحيها وانقطاعها عن المياه العظيمة وأصل الجزر في اللغة القطع وأضيفت إلى العرب لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإسلام وديارهم التي هي أوطانهم وأوطان أسلافهم وحكى الهروي عن مالك أن جزيرة العرب هي المجينة والصحيح المعروف عن مالك أنها مكة والمدينة واليمامة واليمامة واليمن وأخذ بهذا الحديث مالك والشافعي وغيرهما من العلماء فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب وقالوا لا يجوز تمكينهم من سكناها ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو الحجاز وهو عنده مكة والمدينة والميامة واعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب بدليل آخر مشهور
[ 94 ]
في كتبه وكتب أصحابه قال العلماء ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز ولا يمكنون من الاقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام قال الشافعي وموافقوه إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال فإن دخله في خفية وجب إخراجه فإن مات ودفن فيه نبش وأخرج ما لم يتغير هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم وحجة الجماهير قول الله تعالى المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) قال العلماء هذا أمر منه (صلى الله عليه وسلم) بإجازة لوعود وضيافتهم واكرامهم تطبيبا لنفوسهم وترغيبا لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم وإعانة على سفرهم قال القاضي عياض قال العلماء سواء كان الوفد مسلمين أو كفارا لأن الكافر إنما يفد غالبا فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم قوله (وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها) الساكت ابن عباس والناسي سعيد بن جبير قال المهلب الثالثة هي تجهيز جيش أسامة رضي الله عنه قال القاضي عياض ويحتمل أنها قوله (صلى الله عليه وسلم) لا تتخذوا قبري وثنا يعبد فقد ذكر مالك في الموطأ معناه مع إجلاء اليهود من حديث عمر رضي الله عنه وفي هذا الحديث فوائد سوى ما ذكرناه منها جواز كتابة العلم وقد سبق بيان هذه المسألة مرات وذكرنا أنه جاء فيها حديثان مختلفان فإن السلف اختلفوا فيها ثم أجمع من بعدهم على جوازها وبينا تأويل حديث المنع ومنها جواز استعمال المجاز لقوله (صلى الله عليه وسلم) أكتب لكم أي آمر بالكتابة ومنها أن الأمراض ونحوها لا تنافي النبوة ولا تدل على سوء الحال قوله (قال أبو اسحق ابراهيم حدثنا الحسن بن بشر حدثنا سفيان بهذا الحديث) معناه أن أبا اسحق
[ 95 ]
صاحب مسلم ساوى مسلما في رواية هذا الحديث عن واحد عن سفيان بن عيينة فعلا هذا الحديث لأبي اسحاق برجل قوله (من اختلافهم ولغطهم) هو بفتح الغين المعجمة واسكانها والله أعلم
[ 96 ]
كتاب النذر قوله (استفتى سعد بن عبادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاقضه عنها) أجمع المسلمون على صحة النذر ووجو ب الوفاء به إذا كان الملتزم طاقة فإن نذر معصية أو مباحا كدخول السوق لم ينعقد نذره ولا كفارة عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال أحمد وطائفة فيه كفارة يمين وقوله (صلى الله عليه وسلم) فاقضه عنها دليل لقضاء الحقوق الواجبة على الميت فأما الحقوق المالية فمجمع عليها وأما البدنية ففيها خلاف قدمناه في مواضع من هذا الكتاب ثم مذهب الشافعي وطائفة أن الحقوق المالية
[ 97 ]
الواجبة على الميت من زكاة وكفارة ونذر يجب قضاؤها سواء أوصى بها أم لا كديون الآدمي وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما لا يجب قضاء شئ من ذلك إلى أن يوصى به ولأصحاب مالك خلاف في الزكاة إذا لم يوص بها والله أعلم قال القاضي عياض واختلفوا في نذر أم سعد هذا فقيل كان نذرا مطلقا وقيل كان صوما وقيل كان عتقا وقيل صدقة واستدل كل قائل بأحاديث جاءت في قصة أم سعد قال القاضي ويحتمل أن النذر كان غير ما ورد في تلك الأحاديث قال والأظهر أنه كان نذرا في المال أو نذرا مبهما ويعضده ما رواه الدارقطني من حديث مالك فقال له يعني النبي صلى الله عليه وسلم اسق عنها الماء وأما أحاديث الصوم عنها فقد علله أهل الصنعة للاختلاف بين رواته في سنده ومتنه وكثرة اضطرابه وأما رواية من روى أفأعتق عنها فموافقة أيضا لأن العتق من الأموال وليس فيه قطع بأنه كان عليها عتق والله أعلم وأعلم أن مذهبنا ومذهب الجمهور أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب على الميت إذا كان غير مالي ولا إذا كان ماليا ولم يخلف تركة لكن يستحب له ذلك وقال أهل الظاهر يلزمه ذلك لحديث سعد هذا ودليلنا أن الوارث لم يلتزمه فلا يلزم وحديث سعد يحتمل أنه قضاه من تركتها أو تبرع به وليس في الحديث تصريح بالزامه ذلك والله أعلم قوله (أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوما ينهانا عن النذر ويقول أنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من الشحيح) وفي رواية عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن النذر وقال أنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل
[ 98 ]
وفي رواية أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل وفي رواية أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن النذر وقال أنه لا يرد من القدر شيئا قال المازري يحتمل أن يكون سبب النهي عن النذر كون الناذر يصير ملتزما له فيأتي به تكلفا بغير نشاط قال ويحتمل أن يكون سببه كونه يأتي بالقربة التي التزمها
[ 99 ]
في نذره على صورة المعاوضة للأمر الذي طلبه فينقص أجره وشأن العبادة أن تكون متمحضة لله تعالى قال القاضي عياض ويحتمل أن النهي لكونه قد يظن بعض الجهلة أن النذر يرد القدر ويمنع من حصول المقدر فنهى عنه خوفا من جاهل يعتقد ذلك وسياق الحديث يؤيد هذا والله أعلم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) أنه لا يأتي بخير فمعناه أنه لا يرد شيئا من القدر كما بينه في الروايات الباقية وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) يستخرج به من البخيل فمعناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدأ وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المريض وغيره مما تعلق النذر عليه ويقال نذر ينذر وينذر بكسر الذال في المضارع وضمها لغتان قوله (عن أبي المهلب) هو بضم الميم وفتح الهاء واللام المشددة اسمه عبد الرحمن بن عمرو وقيل معاوية بن عمرو
[ 100 ]
وقيل عمرو بن معاوية وقيل النضر بن عمرو الحرمي البصري والله أعلم قوله (سابقة الحاج) يعني ناقته العضباء وسبق في كتاب الحج بيان العضباء والقصوى والجدعاء وهل هن ثلاث أم واحدة قوله (صلى الله عليه وسلم) (أخذتك بحريرة حلفائك) أي بجنايتهم قوله (صلى الله عليه وسلم) للأسير حين قال إني مسلم (لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) إلى قوله ففدى بالرجلين معناه لو قلت كلمة الاسلام قبل الأسر حين كنت مالك أمرك أفلحت كل الفلاح لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر فكنت فزت بالإسلام وبالسلامة من الأسر ومن اغتنام مالك وأما إذا أسلمت بعد الأسر فيسقط الخيار في قتلك ويبقى الخيار بين الاسترقاق والمن والفداء وفي هذا جواز المفاداة وأن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر وليس في هذا الحديث أنه حين أسلم وفادى به رجع إلى دار الكفر ولو ثبت رجوعه إلى دارهم وهو قادر على اظهار دينه لقوة شوكة عشيرته أو نحو ذلك لم يحرم ذلك فلا اشكال في الحديث وقد استشكله المازري وقال كيف يرد المسلم إلى دار الكفر وهذا الاشكال باطل مردود بما ذكرته قوله (وأسرت امرأة من الأنصار) هي امرأة أبي ذر رضي الله عنه قوله ناقة منوقة) هي بضم الميم
[ 101 ]
وفتح النون والواو المشددة أي مذللة قوله (ونذروا بها) هو بفتح النون وكسر الذال أي علموا قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد) وفي رواية لا نذر في معصية الله تعالى في هذا دليل على أن من نذر معصية كشرب الخمر ونحو ذلك فنذره باطل لا ينعقد ولا تلزمه كفاريمين ولا غيرها وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وداود وجمهور العلماء وقا أحمد تجب فيه كفارة اليمين بالحديث المروي عن عمر أن بن الحصين وعن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين واحتج الجمهور بحديث عمران بن حصين المذكور في الكتاب وأما حديث كفارته كفارة يمين فضعيف باتفاق المحدثين وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) ولا فيما لا يملك العبد فهو محمول على ما إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان أو أتصدق بثوبه أو بداره أو نحو ذلك فأما إذا التزم في الذمة شيئا لا يملكه فيصح نذره مثاله قال إن شفى الله مريضي فلله علي عتق رقبة وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها فيصح نذره وان شفي المريض ثبت العتق في ذمته
[ 102 ]
قوله (ناقة ذلول مجرسة) وفي رواية مدربة إما المجرسة فبضم الميم وفتح الجيم والراء المشددة وأما المدربة فبفتح الدال المهملة وبالباء الموحدة والمجرسة والمدربة والمنوقة والذلول كله بمعنى واحد وفي هذا الحديث جواز سفر المرأة وحدها بلا زوج ولا محرم ولا غيرهما إذا كان سفر ضرورة كالهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام وكالهرب ممن يريد منها فاحشة ونحو ذلك والنهي عن سفرها وحدها محمول على غير الضرورة وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن الكفار إذا غنموا مالا للمسلم لا يملكونه وقال أبو حنيفة وآخرون يملكونه إذا حازوه إلى دار الحرب وحجة الشافعي وموافقيه هذا الحديث وموضع الدلالة منه ظاهر والله أعلم قوله (أن النبي (صلى الله عليه وسلم) رأى شيخا يهادي بين ابنيه فقال ما بال هذا قالوا نذر أن يمشي قال إن الله عز وجل عن تعذيب هذا نفسه لغى وأمره أن يركب) وفي رواية يمشي بين ابنيه متوكئا عليهما وهو معنى يهادي وفي حديث عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن استفتي لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاستفتيته فقال لتمش ولتركب أما الحديث الأول فمحمول على العاجز عن المشي فله الركوب وعليه دم وأما حديث أخت عقبة فمعناه تمشي في وقت قدرتها على المشي وتركب إذا عجزت عن المشي أو لحقتها مشقة ظاهرة فتركب وعليها دم وهذا الذي ذكرناه من وجوب الدم في الصورتين هو راجح القولين للشافعي وبه قال جماعة والقول
[ 103 ]
الثاني لا د عليه بل يستحب الدم وأما المشي حافيا فلا يلزمه الحفاء بل له لبس النعلين وقد جاء حديث أخت عقبة في سنن أبي داود مبينا أنها ركبت للعجز قال إن أختي نذرت أن تحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن الله غني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة
[ 104 ]
قوله (صلى الله عليه وسلم) (كفارة النذر كفارة اليمين) اختلف العلماء في المراد به فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج وهو أن يقول انسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا إن كلمت زيدا مثلا فلله علي حجة أو غيرها فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه هذا هو الصحيح في مذهبنا وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله على نذر وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية كمن نذر أن يشرب الخمر وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر وقالوا هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة يمين والله أعلم كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله
[ 105 ]
أو ليصمت) وفي رواية لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم قال العلماء الحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى فلا يضاهي به غيره وقد جاء عن ابن عباس لأن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر فإن قيل الحديث مخالف لقوله (صلى الله عليه وسلم) أفلح وأبيه إن صدق فجوابه أن هذه كلمة تجري على اللسان لا تقصد بها اليمين فإن قيل فقد أقسم الله تعالى بمخلوقاته كقوله تعالى والصافات والذاريات والطور والنجم فالجواب أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته تنبيها على شرفه قوله (ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا) معنى ذاكرا قائلا لها من قبل نفسي ولا آثرا بالمد أي
[ 106 ]
حالفا عن غيري وفي هذا الحديث إباحة الحلف بالله تعالى وصفاته كلها وهذا مجمع عليه وفيه النهي عن الحلف بغير أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته وهو عند أصحابنا مكروه ليس بحرام قوله (صلى الله عليه وسلم) (من حلف منكم فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله) إنما أمر
[ 107 ]
بقوله لا إله إلا الله لأنه تعاطى تعظيم صورة الأصنام حين حلف بها قال أصحابنا إذا حلف باللات والعزى وغيرهما من الأصنام أو قال إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو برئ من الإسلام أو برئ من النبي (صلى الله عليه وسلم) أو نحو ذلك لم نعقد يمينه بل عليه أن يستغفر الله تعالى ويقول لا إله إلا الله ولا كفارة عليه سواء فعله أم لا هذا مذهب الشافعي ومالك وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة تجب الكفارة في كل ذلك إلى في قوله أنا مبتدع أو برئ من النبي (صلى الله عليه وسلم) أو واليهودية واحتج بأن الله تعالى أوجب على المظاهر الكفارة لأنه منكر من القول وزور والحلف بهذه الأشياء منكر وزور واحتج أصحابنا والجمهور بظاهر هذا الحديث فإنه (صلى الله عليه وسلم) إنما أمره بقول لا إله إلا الله ولم يذكر كفارة ولأن الأصل عدمها حتى يثبت فيها شرع وأما قياسهم على الظهار فينتقض بما استثنوه والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق) قال العلماء أمر بالصدقة تكفيرا لخطيئته في كلامه بهذه المعصية قال الخطابي معناه فليتصدق بمقدار ما أمر أن يقامر به والصواب الذي عليه المحققون وهو ظاهر الحديث أنه لا يختص بذلك المقدار بل يتصدق بما تيسر مما ينطلق عليه إسم الصدقة ويؤيده رواية معمر التي ذكرها مسلم فليتصدق بشئ قال القاضي ففي هذا الحديث دلالة لمذهب الجمهور أن العزم على المعصية إذا استقر
[ 108 ]
في القلب كان ذنبا يكتب عليه بخلاف الخاطر الذي لا يستقر في القلب وقد سبقت المسألة واضحة في أول الكتاب قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم) هذا الحديث مثل الحديث السابق في النهي عن الحلف باللات والعزى قال أهل اللغة والغريب الطواغي هي الاصنام واحدها طاغية ومنه هذه طاغية دوس أي صنمهم ومعبودهم سمى بإسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته لأنه سبب طغيانهم وكفرهم وكل ما جاوز الحد في تعظيم أو غيره فقد طغى فالطغيان المجاوزة للحد ومنه قوله تعالى طغى الماء أي جاوز الحد وقيل يجوز أن يكون المراد بالطواغي هنا من طغى من الكفار وجاوز القدر المعتاد في الشر وهم عظماؤهم وروى هذا الحديث في غير مسلم لا تحلفوا بالطواغيت وهو جمع طاغوت وهو الصنم ويطلق على الشيطان أيضا ويكون الطاغوت واحدا وجمعا ومذكرا ومؤنثا قال الله تعالى الطاغوت أن يعبدوها وقال تعالى أن يتحاكموا إلى الطاغو ت الآية يكفروا به باب ندب من حلف يمينا فرأي غيرها خيرا منها أن يأتي (الذي هو خير ويكفر عن يمينه) قوله (صلى الله عليه وسلم) (إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم ارى خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) وفي الحديث الآخر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وفي رواية إذا حلف أحدكم على اليمين فرأي خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير في هذه الأحاديث دلالة على من حلف على فعل شئ أو تركه وكان الحنث خيرا من التماد على اليمين استحب له الحنث وتلزمه الكفارة وهذا
[ 109 ]
متفق عليه وأجمعوا على أنه لا تجب عليه الكفارة قبل الحنث وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين واختلفوا في جوازها بعد اليمين وقبل الحنث فجوزها مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأربعة عشر صحابيا وجماعات من التابعين وهو قول جماهير العلماء لكن قالوا يستحب كونها بعد الحنث واستثنى الشافعي التكفير بالصوم فقال لا يجوز قبل الحنث لأنه عبادة بدنية فلا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة وصوم رمضان وأما التكفير بالمال فيجوز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة واستثنى بعض أصحابنا حنث المعصية فقال لا يجوز تقديم كفارته لأفيه إعانة على المعصية والجمهور على اجزائها كغير المعصية وقال أبو حنيفة وأصحابه وأشهب المالكي لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث بكل حال ودليل الجمهور ظواهر هذه الأحاديث والقياس على تعجيل الزكاة قوله (أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) في رهط من الأشعريين نستحمله) أي نطلب منه ما يحملنا من الابل أثقالنا قوله فأمر لنا بثلاث ذود غر الذري وفي رواية بخمس ذود وفي رواية بثلاثة ذود بقع الذري أما الذري فبضم الذال وكسرها وفتح الراء المخففة جمع ذروة بكسر الذال وضمها وذروة كل شئ أعلاه والمراد هنا الأسنمة وأما الغر فهي البيض وكذلك البقع المراد بها البيض وأصلها ما كان فيه بياض وسواد ومعناه أمر لنا بإبل بيض الأسنمة وأما قوله بثلاث ذود فهو من إضافة الشئ إلى نفسه وقد يحتج به من يطلق الذود على الواحد وسبق إيضاحه في كتاب الزكاة وأما قوله بثلاث وفي رواية بخمس فلا منافاة بينهما إذ ليس في ذكر الثلاث نفي للخمس والزيادة مقبولة ووقع في الرواية الرواية الأخيرة بثلاثة ذود بإثبات الهاء وهو صحيح يعود إلى معنى الإبل وهو
[ 110 ]
إلا بعرة والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم) ترجم البخاري لهذا الحديث قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون وأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وهذا مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة وقال الماوردي معناه أن الله تعالى آتاني ما حملتكم عليه ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه قال القاضي ويجوز أن يكون أوحى إليه أن يحملهم أو يكون المراد دخولهم في عموم من أمر الله تعالى بالقسم فيهم والله أعلم قوله (أسأله لهم الحملان) بضم الحاء أي الحمل قوله (صلى الله عليه وسلم) (خذ هذين القرينين) أي البعيرين
[ 111 ]
المقرون أحدهما بصاحبه قوله (عن زهدم الجرمي) هو بزاي مفتوحة ثم هاء ساكنة ثم دال مهملة مفتوحة قوله (في لحم الدجاج رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأكل منه) فيه إباحة لحم الدجاج وملاذ الأطعمة ويقع إسم الدجاج على الذكور والإناث وهو
[ 112 ]
بكسر الدال وفتحها قوله (بنهب إبل) قال أهل اللغة النهب الغنيمة وهو بفتح النون وجمعه نهاب بكسرها ونهوب بضمها وهو مصدر بمعنى المنهوب كالخلق بمعنى المخلوق قوله (أغفلنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمينه) هو بإسكان اللام أي جعلناه غافلا معناه كنا سبب غفلته عن يمينه ونسيانه إياها وما ذكرناه إياها أي أخذنا منه ما أخذنا وهو ذاهل عن يمينه قوله (حدثنا الصعق يعني ابن حزن قال حدثنا مطر الوراق عن زهدم) هو الصعق بفتح الصاد
[ 113 ]
وبكسر العين وإسكانها والكسر أشهر قال الدار قطني الصعق ومطر ليساقويين ولم يسمعه مطر من زهدم وإنما رواه عن القاسم عنه فاستدركه الدارقطني على مسلم وهذا الاستدلال فاسد لأن مسلما لم يذكره متاصلا وإنما ذكره متابعة للطرق الصحيحة السابقة وقد سبق أن المتابعات يحتمل فيها الضعف لأن الاعتماد على ما قبلها وقد سبق ذكر مسلم لهذه المسألة في أول خطبة كتابه وشرحناه هناك وأنه يذكر بعض الأحاديث الضعيفة متابعة للصحيحة وأما قوله إنهما ليساقويين فقد خالفه الأكثرون فقال يحي ابن معين وأبو زرعة هو ثقة في الصعق وقال أبو حاتم ما به بأس وقال هؤلاء الثلاث في مطر الوراق هو صالح وإنما ضعفوا روايته عن عطاء خاصة قوله (عن ضريب بن نقير) أما ضريب فبضاد معجمة مصغر ونقير بضم النون وفتح القاف وآخره راء هذا هو المشهور المعروف عن أكثر الرواة في كتب الأسماء ورواه بعضهم بالفاء وقيل نفيل بالفاء وآخره لام قوله (حدثنا أيو السليل) هو بفتح السين المهملة
[ 115 ]
وكسر اللام وهو ضريب بن نفير المذكور في الرواية الأولى قوله (صلى الله عليه وسلم) (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله فليأت التقوى) هو بمعنى الروايات السابقة فرأى خيرا منها فليأت الذي
[ 116 ]
هو خير قوله (صلى الله عليه وسلم) (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) هكذا هو في أكثر النسخ وكلت إليها وفي بعضها أكلت إليها بالهمزة وفي هذا الحديث فوائد منها كراهة سؤال الولاية سواء ولاية الإمارة والقضاء والحسبة وغيرها ومنها بيان أن من سأل الولاية لا يكون معه إعانة من الله تعالى ولا تكون فيه كفاية لذلك العمل فينبغي أن لا يولى ولهذ قال (صلى الله عليه وسلم) لا نولي عملنا من طلبه أو حر (صلى الله عليه وسلم) عليه قوله (حدثنا شيبان بن فروح حدثنا جرير إلى آخره) وقع في بعض النسخ في آخر هذا الحديث قال أبو أحمد الجلودي حدثنا أبو العباس الماسرجسي
[ 117 ]
قال حدثنا شيبان بهذا ومراده أنه علا برجل باب اليمين على نية المستحلف قوله (صلى الله عليه وسلم) (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) وفي رواية اليمين على نية المستحلف بكسر اللام وهذا الحديث محمول على الحلف باستحلاف القاضي فإذا ادعى رجل على رجل حقا فحلفه القاضي فحلف وورى فنوى غير ما نوى القاضي انعقدت يمينه على ما نواه القاضي ولا تنفعه التورية وهذا مجمع عليه ودليله هذا الحديث والإجماع فأما إذا حلف بغير استحلاف القاضي وورى تنفعه التورية ولا يحنث سواء حلف ابتداء من غير تحليف أو حلفه غير القاضي وغير نائبه في ذلك ولا اعتبار بنية المستحلف غير القاضي وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه فدعوى توجهت عليه فتكون على نية المستحلف وهو مراد الحديث أما إذا حلف عند القاضي من غير إستحلاف القاضي في دعوى فالإعتبار بنية الحالف وسواء في هذا كله اليمين بالله تعالى أو بالطلاق والعتاق إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق تنفعه التورية ويكون الإعتبار بنية الحالف لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق وإنما يستحلف بالله تعالى وأعلم أن التورية وإن كان لا يحنث بها فلا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق مستحق وهذا مجمع عليه هذا تفصيل مذهب الشافعي وأصحابه ونقل القاضي عياض عن مالك وأصحابه في ذلك إختلافا وتفصيلا فقال لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير إستحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته ويقبل قوله وأما إذا حلف لغيره في حق أو وثيقة متبرعا أو بقضاء عليه فلا خلاف أنه بحكم عليه بظاهر يمينه سواء حلف
[ 118 ]
متبرعا باليمين أو بإستحلاف وأما فيما بينه وبين الله تعالى فقيل اليمين على نية المحلوف له وقيل على نية الحالف وقيل أن كان مستحلفا فعلى نية المحلوف له وإن كان متبرعا باليمين فعلى نية الحالف وهذا قول عبد الملك وسحنون وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم وقيل عكسه وهي رواية يحيى عن ابن القاسم وقيل تنفعه نيته فيما لا يقضي به عليه ويفترق التبرع وغيره فيما يقضي به عليه وهذا مروي عن ابن القاسم أيضا وحكى عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه آثم حانث وما كان على وجه العذر فلا بأس به وقال ابن حبيب عن مالك ما كان على وجه المكر والخديعة فله نيته وما كان في حق فهو على نية المحلوف له قال القاضي ولا خلاف في إثم الحالف بما يقع به حق غيره وإن ورى والله أعلم باب الإستثناء في اليمين وغيرها ذكر في البا ب حديث سليمان بن داود عليه السلام وفيه فوائد منها أنه يستحب للإنسان إذا قال سأفعل كذا أن يقول إن شاء الله تعالى لقوله تعالى ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ولهذا الحديث ومنها أنه إذا حلف وقال متصلا بيمينه إن شاء الله تعالى لم يحنث بفعله المحلوف عليه وإن الإستثناء يمنع إنعقاد اليمين لقوله (صلى الله عليه وسلم) في هذا الحديث لو
[ 119 ]
قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته ويشترط لصحة هذا الإستثناء شرطان أحدهما أن يقوله متصلا باليمين والثاني أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول إن شاء الله تعالى قال القاضي أجمع المسلمون على أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا قال ولو جاز منفصلا كما روى عن بعض السلف لم يحنث أحد قط في يمين ولم يحتج إلى كفارة قال واختلفوا في الإتصال فقال مالك والأوزاعي والشافعي والجمهور هو أن يكون قوله إن شاء الله متصلا باليمين من غير سكوت بينهما ولا تضر سكتة النفس وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين أن له الإستثناء ما لم يقم من مجلسه وقال قتادة ما لم يقم أو يتكلم وقال عطاء قدر حلبة ناقة وقال سعيد بن جبير بعد أربعة أشهر وعن ابن عباس له الإستثناء أبدا متى تذكره وتأول بعضهم هذا المنقول عن هؤلاء على أن مرادهم أنه يستحب له قول إن شاء الله تبركا قال تعالى واذكر ربك إذا نسيت ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى فقال أنت طالق إن شاء الله تعالى أو أنت حر إن شاء الله تعالى أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله تعالى أو لزيد في ذمتي ألف درهم إن شاء الله أو إن شفى مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله أو ما أشبه ذلك فمذهب الشافعي والكوفيين وابي ثور وغيرهم صحة الإستثناء في جميع الأشياء كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى فلا يحنث في طلاق ولا عتق ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قوله إن شاء الله وقال مالك والأوزاعي لا يصح الإستثناء في شئ من ذلك إلا اليمين بالله تعالى وقوله (صلى الله عليه وسلم) لو قال إن شاء الله لم يحنث فيه إشارة إلى أن الإستثناء يكون بالقول ولا تكفي فيه النية وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك
[ 120 ]
وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكى عن بعض المالكية أن قياس قول مالك صحة الإستثناء بالنية من غير لفظ قوله (صلى الله عليه وسلم) (فقال له صاحبه قل إن شاء الله) قد يحتج به من يقول بجواز انفصال الإستثناء واجاب الجمهور عنه بأنه يحتمل أن يكون صاحبه قال له ذلك وهو بعد في أثناء اليمين أو أن الذي جرى منه ليس بيمين فإنه ليس في الحديث تصريح بيمين والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (لأطوفن) وفي بعض النسخ لا طيفن الليلة هما لغتان فصيحتان طاف بالشئ وأطاف به إذا دار حوله وتكرر عليه فهو طائف ومطيف وهو هنا كناية عن الجماع قوله (صلى الله عليه وسلم) (كان لسليمان ستون امرأة) وفي رواية سبعون وفي رواية تسعون وفي غير صحيح مسلم تسع و تسعون وفي رواية مائة هذا كله ليس بمتعارض لأنه ليس س في ذكر القليل نفي الكثير وقد سبق بيان هذا مرات وهو من مفهوم العدد ولا يعمل به عند جماهير الأصوليين وفي هذا بيان ما خص به الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم من القوة على اطاقة هذا في ليلة واحدة وكان نبيا (صلى الله عليه وسلم) يطوف على إحدى عشرة امرأة له في الساعة الواحدة كما ثبت في الصحيح وهذا كله من زيادة القوة والله اعلم قوله (فتحمل كل واحدة منهن فتلد كل واحدة منهن غلاما فارسا يقاتل في سبيل الله) هذا قاله على سبيل التمني للخير وقصد به الآخرة والجهاد في سبيل الله تعالى لا لغرض الدنيا قوله (صلى الله عليه وسلم) (فلم تحمل منهن إلا واحدة فولدت نصف إنسان) وفي رواية جاءت بشق غلام قيل هو الجسد الذي ذكره الله تعالى أنه ألقى على كرسيه قوله (صلى الله عليه وسلم) (لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلاما فارسا يقاتل في سبيل الله تعالى) هذا محمول على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أوحى إليه بذلك في حق سليمان لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا قوله (صلى الله عليه وسلم) (فقال له صاحبه أو الملك قل إن شاء الله فلم يقل ونسى) قيل المراد بصاحبه الملك وهو الظاهر من لفظه وقيل القرين وقيل صاحب له آدمي وقوله نسى ضبطه بعض الأئمة
[ 121 ]
بضم النون وتشديد السين وهو ظاهر حسن والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (وكان دركا له في حاجته) هو بفتح الإدراك إسم من الإدارك أي لحاقا قال الله تعالى لا تخاف دركا قوله (صلى الله عليه وسلم) (وايم الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله) فيه جواز اليمين بهذا اللفظ وهوايم الله وايمن الله واختلف العلماء في ذلك فقال مالك وأبو حنيفة هو يمين وقال أصحابنا أن نوى به اليمين فهو يمين وإلا فلا قوله (صلى الله عليه وسلم) (لو قال إن شاء الله لجاهدوا) فيه جواز قول لو ولولا قال القاضي عياض هذا يستدل به على جواز قول لو ولولا
[ 122 ]
قال وقد جاء في القرآن كثيرا وفي كلام الصحابة والسلف وترجم البخاري على هذا باب ما يجوز من اللو وأدخل فيه قول لوط (صلى الله عليه وسلم) لو أن لي بكم قوة وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه ولو مدلى الشهر لواصلت ولولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد ابراهيم ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار وأمثال هذا قال والذي ينفهم من ترجمة البخاري وما ذكره في الباب من القرآن والآثار أنه يجوز استعمال لو ولولا فيما يكون للإستقبال مما امتنع من فعله لإمتناع غيره وهو من باب الممتنع من فعله لوجود غيره وهو من با ب لولا لأنه لم يدخل في الباب سوى ما هو للإستقبال أو ما هو حق صحيح متيقن كحديث لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار دون الماضي والمنقضي أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق وقد ثبت في الحديث الآخر في صحيح مسلم قوله (صلى الله عليه وسلم) وإن أصابك شئ فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل قال القاضي قال بعض العلماء هذا إذا قاله على جهة الحتم والقطع بالغيب أنه لو كان كذا لكان كذا من غير ذكر مشيئة الله تعالى والنظر إلى سابق قدره وخفى علمه علينا فأما من قاله على التسليم ورد الأمر إلى المشيئة فلا كراهة فيه قال القاضي وأشار بعضهم إلى أن لولا بخلاف لو قال القاضي والذي عندي أنهما سواء إذا استعملتا فيما لم يحط به الإنسان علما ولا هو داخل تحت مقدور قائلهما مما هو تحكم على الغيب واعتراض على القدر كما نبه عليه في الحديث ومثل قول المنافقين لو أطاعونا ما قتلوا لو كان عندنا ما ماتوا وما قتلوا ولو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا فرد الله تعالى عليهم باطلهم فقال فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين فمثل هذا هو المنهي عنه وأما هذا الحديث الذي نحن فيه فإنما أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) فيه عن يقين نفسه أن سليمان لو قال إن شاء الله لجاهدوا إذ ليس هذا مما يدرك بالظن والإجتهاد وإنما أخبر عن حقيقة أعلمه الله تعالى بها وهو نحو قوله (صلى الله عليه وسلم) لولا بنو اسرائيل لم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها فلا معارضة بين هذا وبين حديث النهي عن لو وقد قال الله تعالى لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ولو ردوا لعادوا
[ 123 ]
لما نهوا عنه وكذلك ما جاء من لولا كقوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا ولولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه لأن الله تعالى مخبر في كل ذلك عما مضى أو يأتي عن علم خبرا قطعيا وكل ما يكون من لو ولولا مما يخبر به الإنسان عن علة امتناعه من فعله مما يكون فعله في قدرته فلا كراهة فيه لأنه اخبار حقيقة عن امتناع شئ لسبب شئ وحصول شئ لامتناع شئ وتأتي لو غالبا لبيان السبب الموجب أو النافي فلا كراهة في كل ما كان من هذا إلا أن يكون كاذبا في ذلك كقول المنافقين لو نعلم قتالا لاتبعناكم والله أعلم باب النهي عن الإصرار على اليمين فيما (يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام) قوله (صلى الله عليه وسلم) (لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله) أما قوله (صلى الله عليه وسلم) لأن فبفتح اللام وهو لام القسم وقوله (صلى الله عليه وسلم) يلج هو بفتح الياء واللام وتشديد الجيم وآثم بهمزة ممدودة وثاء مثلثة أي أكثر إثما ومعنى الحديث أنه إذا حلف يمينا تتعلق بأهله ويتضررون بعدم حنثه ويكون الحنث ليس بمعصية فينبغي له أن يحنث فيفعل ذلك الشئ ويكفر عن يمينه فإن قال لا أحنث بل أتورع عن إرتكاب الحنث وأخاف الإثم فيه فهو مخطئ بهذا القول بل استمراره في عدم الحنث وادامة الضرر على أهله أكثر إثما من الحنث واللجاج في اللغة هو الإصرار على الشئ فهذا مختصر بيان معنى الحديث ولا بد من تنزيله على ما إذا كان الحنث ليس بمعصية كما ذكرنا وأما قوله (صلى الله عليه وسلم)
[ 124 ]
آثم فخرج على لفظ المفاعلة المقتضية للإشتراك في الإثم لأنه قصد مقابلة اللفظ على زعم الحالف وتوهمه فإنه يتوهم أن عليه إثما في الحنث مع أنه لا إثم عليه فقال (صلى الله عليه وسلم) الإثم عليه في اللجاج أكثر لو ثبت الإثم والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم فيه حديث عمر رضي الله عنه أنه نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية وفي رواية نذر اعتكاف يوفقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) أوف بنذرك اختلف العلماء في صحة نذر الكافر فقال مالك و أبو حنيفة وسائر الكوفيين وجمهور أصحابنا لا يصح وقال المغيرة المخزومي وأبو ثور والبخاري و ابن جرير وبعض أصحابنا يصح وحجتهم ظاهر حديث عمر وأجاب الأولون عنه أنه محمول على الإستحباب أي يستحب لك أن تفعل الآن مثل ذلك الذي نذرته في الجاهلية وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في صحة الاعتكاف بغير صوم وفي صحته الليل كما يصح بالنهار سواء كانت ليلة واحدة أو بعضها أو أكثر ودليله حديث عمر هذا وأما الرواية التي فيها اعتكاف يوم فلا تخالف رواية اعتكاف ليلة لأنه يحتمل أنه سأله عن اعتكاف ليلة وسأله عن اعتكاف يوم فأمره بالوفاء بما نذر فحصل منه صحة اعتكاف الليل وحده ويؤيده روابه نافع عن ابن عمر أن عمر نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فسأل رسول (صلى الله عليه وسلم)
[ 125 ]
فقال له أوف بنذرك فاعتكف عمر ليلة رواه الدارقطني وقال اسناده ثابت هذا مذهب الشافعي
[ 126 ]
وبه قال الحسن البصري وأبو ثور وداود وابن المنذر وهو أصح الروايتين عن أحمد قال ابن المنذر وهو مروى عن علي وابن مسعود وقال ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير والزهري ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد واسحق في رواية عنهما لا يصح إلا بصوم وهو قول أكثر العلماء قوله (ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الجعرانه فقال لم يعتمر منها) هذا محمول على نفي علمه أي أنه لم يعلم ذلك وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وسلم) اعتمر من الجعرانة والإثبات على النفي لما فيه من زيادة العلم وقد ذكر مسلم في كتاب الحج إعتمار النبي (صلى الله عليه وسلم) من الجعرانة عام حنين من رواية أنس رضي الله عنه والله أعلم
[ 127 ]
باب صحبة المماليك قوله (صلى الله عليه وسلم) (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه) قال العلماء في هذا الحديث الرفق بالمماليك وحسن صحبتهم وكف الأذى عنهم وكذلك في الأحاديث بعده وأجمع المسلمون على أن عتقه بهذا ليس واجبا وإنما هو مندوب رجاء كفارة ذنبه فيه إزالة إثم ظلمه ومما استدلوا به لعدم وجو ب اعتاقه حديث سويد بن مقرن بعده أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمرهم حين لطم أحدهم خادمهم بعتقها قالوا ليس لنا خادم غيرها قال فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها قال القاضي عياض وأجمع العلماء أنه لا يجب إعتاق العبد لشئ مما يفعله به مولاه مثل هذا الأمر الخفيف قال واختلفوا فيما كثر من ذلك وشنع من ضرب مبرح منهك لغير موجب لذلك أو حرقه بنار أو قطع عضوا له أو أفسده أو نحو ذلك مما فيه مثلة فذهب مالك وأصحابه والليث إلى عتق العبد على سيده بذلك ويكون ولاؤه له ويعاقبه السلطان على فعله وقال سائر العلماء لا يعتق عليه واختلف أصحاب مالك فيما لو حلق رأس الأمة أو لحية العبد واحتج مالك بحديث ابن عمرو بن العاص في الذي جب عبده فأعتقه (صلى الله عليه وسلم) قوله (صلى الله عليه وسلم) (من ضرب غلاما له حدا لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه هذه الرواية مبينة أن المراد بالأولى من ضربه بلا ذنب ولا
[ 128 ]
على سبيل التعليم والأدب قوله (أن ابن عمر أعتق مملوكا فأخذ من الأرض عودا أو شيئا فقال ما فيها من الأجر ما يسوي هذا إلا أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه) هكذا وقع في معظم النسخ ما يسوى وفي بعضها ما يساوى بالألف وهذه هي اللغة الصحيحة المعروفة والأولى عدها أهل اللغة في لحن العوام وأجاب بعض العلماء عن هذه اللفظة بأنها تغيير من بعض الرواة لا أن ابن عمر نطق بها ومعنى كلام ابن عمر أنه ليس في اعتاقه أجر المعتق تبرعا وإنما عتقه كفارة لضربه وقيل هو إستثناء منقطع وقيل بل هو متصل ومعناه ما أعتقته إلا لأني سمعت كذا قوله (لطمت مولى لنا فهربت ثم جئت قبيل الظهر ف لب خلف أبي فدعاه ودعاني ثم قال امتثل منه فعفا) قوله امتثل قيل معناه عاقبه قصاصا وقيل افعل به مثل ما فعل بك وهذا محمول على تطييب نفس المولى المضروب وإلا فلا يجب القصاص في الله ونحوها وإنما واجبه التعزيز لكنه تبرع فأمكنه من القصاص فيه وفيه الرفق بالموالي واستعمال التواضع قوله (ليس لنا إلا خادم واحدة) هكذا هو في جمع النسخ والخادم بلا هاء
[ 129 ]
يطلق عل الجارية كما يطلق على الرجل ولا يقال خادمة بالهاء إلا في لغة شاذة قليلة أو صحتها في تهذيب الأسماء واللغات قوله (هلال بن يساف) هو بفتح الياء وكسرها ويقال أيضا أساف قوله (عجز عليك إلا حر وجهها) معناه عجزت ولم تجد أن تضرب إلا حر وجهها وحر الوجه صفحته ومارق من بشرته وحر كل شئ أفضله وأرفعه قيل ويحتمل أن يكون مراده بقوله عجز عليك أي امتنع عليك وعجز بفتح الجيم على اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ويقال بكسرها قوله (فأمرنا رسول (صلى الله عليه وسلم) أن نعتقها) هذا محمول على أنهم كلهم رضوا بعتقها وتبرعوا به وإلا فاللطمة إنما كانت من واحد منهم فسمحوا له بعتقها تكفيرا لذنبه قوله (أما علمت أن الصورة محرمة) فيه إشارة إلى ما صرح به في الحديث الآخر إذا ضرب أحدكم العبد فليجتنب الوجه اكراما له لأن فيه محاسن الإنسان
[ 130 ]
وأعضاءه اللطيفة وإذا حصل فيه شين أو أثر كان أقبح قوله في حديث أبي مسعود (أنه ضرب غلامه بالسوط فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) أعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام) فيه الحث على الرفق بالمملوك والوعظ والتنبيه على إستعمال العفو وكظم الغيظ والحكم كما يحكم الله على عباده قوله (حدثنا محمد بن حميد المعمري) هو بفتح الميم واسكان العين قيل
[ 131 ]
له المعمري لأنه رحل إلى معمر بن راشد وقيل لأنه كان يتبع أحاديث معمر قوله (عن أبي مسعود أنه كان يضرب غلامه فجعل يقول أعوذ بالله فجعل يضربه فقال أعوذ برسول الله فتركه) قال العلماء لعله لم يسمع إستعاذته الأولى لشدة غضبه كما لم يسمع نداء النبي (صلى الله عليه وسلم) أو يكون لما إستعاذ برسول الله (صلى الله عليه وسلم) تنبه لمكانه قوله (صلى الله عليه وسلم) (من قذف مملوكا بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال) فيه إشارة إلى أنه
[ 132 ]
لا حد على قاذف العبد في الدنيا وهذا مجمع عليه لكن يعزر قاذفه لأن العبد ليس بمحصن وسواء في هذا كله من هو كامل الرق وليس فيه سبب حرية والمدبر والمكاتب وأم الولد ومن بعضه حر هذا في حكم الدنيا أما في حكم الآخرة فيستوفي له الحد من قاذفه لاستواء الأحرار والعبيد في الآخرة قوله (سمعت أبا القاسم نبي التوبة) قال القاضي وسمى بذلك لأنه بعث (صلى الله عليه وسلم) بقبول التوبة بالقول والإعتقاد وكانت توبة من قبلنا بقتل أنفسهم قال ويحتمل أن يكون المراد بالتوبة الإيمان والرجوع عن الكفر إلى الإسلام وأصل التوبة الرجوع قوله عن المعرور ابن سويد هو بالعين المهملة وبالراء المكررة قوله لو جمعت بينهما كانت حلة انما قال ذلك لأن الحلة عند العرب ثوبان ولا تطلق على ثوب واحد قوله في حديث أبي ذر (كان بيني وبين رجل من اخواني كلام وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه فلقيت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) أما قوله رجل من اخواني فمعناه رجل من المسلمين والظاهر أنه كان عبدا وإنما قال من اخواني لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له أخوانكم خولكم فمن كان أخوه تحت يده قوله (صلى الله عليه وسلم) فيك جاهلية أي هذا التعيير من أخلاق الجاهلية ففيك خلق من أخلاقهم وينبغي للمسلم أن لا يكون فيه شئ من أخلاقهم ففيه النهي عن التعيير
[ 133 ]
تنقيص الآباء والأمهات وأنه من أخلاق الجاهلية قوله (قلت يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه قال يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) معنى كلام أبي ذر الإعتذار عن سبه أم ذلك الإنسان يعني أنه سبني ومن سب إنسانا سب ذلك الإنسان أبا الساب وأمه فأنكر عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال هذا من أخلاق الجاهلية وإنما يباح للمسبوب أن يسب الساب نفسه بقدر ما سبه ولا يتعرض لأبيه ولا لأميه قوله (صلى الله عليه وسلم) (هم أخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم) الضمير في هم أخوانكم يعود إلى المماليك والأمر بإطعامهم مما يأكل السيد والباسهم مما يلبس محمول على الإستحباب لا على الإيجاب وهذا باجماع المسلمين وأما فعل أبي ذر في كسوة غلامه مثل كسوته فعمل بالمستحب وإنما يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص سواء كان من جنس نفقة السيد ولباسه أو دونه أو فوقه حتى لو قتر السيد على نفسه تقتيرا خارجا عن عادة أمثاله إما زهدا وإما شحا لا يحل له التقتير على المملوك والزامه وموافقته إلا برضاه وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل مالا يطيقه فإن كان ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره قوله (فإن كلفة ما يغلبه فليبعه) وفي رواية فليعنه عليه وهذه
[ 134 ]
الثانية هي الصواب الموافقة لباقي الروايات وقد قيل أن هذا الرجل المسبوب هو بلال المؤذن قوله (صلى الله عليه وسلم) (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق) هو موافق لحديث أبي ذر وقد شرحناه والكسوة بكسر الكاف وضمها لغتان الكسر أفصح وبه جاء القرآن ونبه بالطعام والكسوة على سائر المؤن التي يحتاج إليها العبد والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به وقد ولى حره ودخانه فليقعده معه
[ 135 ]
فليأكل فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين) قال داود يعني لقمة أو لقمتين أما الأكلة فبضم الهمزة وهي اللقمة كما فسره وأما المشفوه فهو القليل لأن الشفاه كثرت عليه حتى صار قليلا قوله (صلى الله عليه وسلم) مشفوها قليلا أي قليلا بالنسبة إلى من اجتمع عليه وفي هذا الحديث الحث على مكارم الأخلاق والمواساة في الطعام لا سيما في حق من صنعه أو حمله لأنه ولى حره ودخانه وتعلقت به نفسه وشم رائحته وهذا كله محمول على الإستحباب قوله (صلى الله عليه وسلم) (العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين) وفي الرواية الأخرى للعبد المملوك المصلح أجران فيه فضيلة ظاهرة للمملوك المصلح وهو الناصح لسيده والقائم بعبادة ربه المتوجهة عليه وأن له أجرين لقيامه
[ 136 ]
بالحقين ولانكساره بالرق وأما قول أبي هريرة في هذا الحديث لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك ففيه أن المملوك لا جهاد عليه ولا حج لأنه غير مستطيع وأراد ببر أمه القيام بمصلحتها في النفقة والمؤن والخدمة ونحو ذلك مما لا يمكن فعله من الرقيق قوله (وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها) المراد به حج التطوع لأنه قد كان حج حجة الإسلام في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) فقدم بر الأم على حج التطوع لأن برها فرض فقدم على التطوع ومذهبنا ومذهب مالك أن للأب والأم منع الولد من حجة التطوع دون حجة الفرض قوله (قال كعب ليس عليه حساب ولا على مؤمن مزهد) المزهد بضم الميم واسكان الزاي ومعناه قليل المال والمراد بهذا الكلام أن العبد إذا أدى حق الله تعالى وحق مواليه فليس عليه حساب لكثرة أجره وعدم معصيته وهذا الذي قاله كعب يحتمل أنه أخذه بتوقيف ويحتمل أنه بالإجتهاد لأن من رجحت حسناته وأوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله
[ 137 ]
مسرورا قوله (صلى الله عليه وسلم) (نعما للملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده) أما نعما ففيها ثلاث لغات قرئ بهن في السبع إحداها كسر النون مع إسكان العين والثانية كسرهما والثالثة فتح النون مع كسر العين والميم مشددة في جميع ذلك أي نعم شئ هو ومعناه نعم ما هو فأدغمت الميم في الميم قال القاضي ورواه العذري نعما بضم النون منونا وهو صحيح أي له مسرة وقرة عين يقال نعما له ونعمة له قوله (صلى الله عليه وسلم) (يحسن عبادة الله) هو بضم أول يحسن وعبادة منصوبة والصحابة هنا بمعنى الصحبة قوله (صلى الله عليه وسلم) (من أعتق شركا له من مملوك فعليه عتقه كله) وذكر حديث الإستسعاء وقد سبقت هذه الأحاديث
[ 138 ]
في كتاب العتق مبسوطة بطرقها وعجب من إعادة مسلم لها ههنا على خلاف عادته من غير ضرورة إلى إعادتها وسبق هناك شرحها قوله (صلى الله عليه وسلم) (قوم عليه في ماله قيمة عدل لا وكس ولا شطط) قال العلماء الوكس الغش والبخس وأما الشطط فهو الجور يقال شط الرجل وأشط واستشط إذا جار وأفرط وأبعد في مجاوزة الحد والمراد يقوم بقيمة عدل لا ينقص
[ 139 ]
ولا بزيادة قوله (صلى الله عليه وسلم) (من أعتق شقيصا من مملوك) هكذا هو في معظم النسخ شقيصا بالياء وفي بعضها شقصا بحذفها وكذا سبق كتاب العتق وهما لغتان شقص وشقيص كنصف ونصيف أي نصيب قوله (إن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم
[ 140 ]
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (فجزأهم أثلاثا ثم اقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا) وفي رواية أن رجلا من الأنصار أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين قوله فجزأهم هو بتشديد الزاي وتخفيفها لغتان مشهورتان ذكرهما ابن السكيت وغيره ومعناه قسمهم وأما قوله وقال له قولا شديدا فمعناه قال في شأنه قولا شديدا كراهية لفعله وتغليظا عليه وقد جاء في رواية أخرى تفسير هذا القول الشديد قال لو علمنا ما صلينا عليه وهذا محمول على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وحده كان يترك الصلاة عليه تغليظا وزجرا لغيره على مثل فعله وأما أصل الصلاة عليه فلا بد من وجودها من بعض الصحابة وفي هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد واسحق وداود وابن جرير والجمهور في إثبات القرعة في العتق ونحوه وأنه إذا أعتق عبيدا في مرض موته أو أوصى بعتقهم ولا يخرجون من الثلث أقرع بينهم فيعتق ثلثهم بالقرعة وقال أبو حنيفة القرعة باطلة لا مدخل لها في ذلك بل يعتق من كل واحد قسطه ويستسعى في الباقي لأنها خطر وهذا مردود بهذا الحديث الصحيح وأحاديث كثيرة وقوله في الحديث فأعتق اثنين وارق أربعة صريح في الرد على أبي حنيفة وقد قال بقول أبي حنيفة الشعبي والنخعي وشريح والحسن وحكى أيضا عن ابن المسيب قوله في الطريق الأخير (حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم فقال لم يسمعه ابن سيرين من عمران فيما يقال وإنما سمعه من خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب
[ 141 ]
عن عمران قاله ابن المديني قلت وليس في هذا تصريح بأن ابن سيرين لم يسمع من عمران ولو ثبت عدم سماعه منه لم يقدح ذلك في صحة هذا الحديث ولم يتوجه على الأمام مسلم فيه عتب لأنه إنما ذكره متابعة بعد ذكره الطرق الصحيحة الواضحة وقد سبق لهذا نظائر والله أعلم بالصواب باب جواز بيع المدبر قوله (إن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه) معنى أعتقه عن دبر أي دبره فقال له أنت حر بعد موتي وسمى هذا تدبيرا لأنه يحصل العتق فيه في دبر الحياة وأما هذا الرجل الأنصاري فيقال له أبو مذكور وإسم الغلام المدبر يعقوب وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يجوز بيع المدبر قبل موت سيده لهذا الحديث قياسا على الموصى بعتقه فإنه يجوز بيع بالإجماع وممن جوزه عائشة وطاوس وعطاء والحسن ومجاهد وأحمد واسحاق وأبو ثور وداود رضي الله عنهم وقال أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما وجمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين رحمهم الله تعالى لا يجوز بيع المدبر قالوا وإنما باعه النبي (صلى الله عليه وسلم) في دين كان على سيده وقد جاء في رواية للنسائي والدار قطني أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال له أقض به دينك قالوا وإنما دفع إليه ثمنه ليقضي به دينه وتأوله بعض المالكية على أنه لم يكن له مال غيره فرد تصرفه قال هذا القائل وكذلك يرد تصر ف من تصدق بكل ماله وهذا ضعيف بل باطل والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله وقا القاضي عياض رحمه الله تعالى الأشبه عندي أنه فعل ذلك نظرا له إذا لم يتر ك لنفسه مالا والصحيح ما قدمناه أن يحدث الحديث
[ 142 ]
على ظاهره وأنه يجوز بيع المدبر بكل حال ما لم يمت السيد والله أعلم وأجمع المسلمون على صحة التدبير ثم مذهب الشافعي ومالك والجمهور أنه يحسب عتقه من الثلث وقال الليث وزفر رحمهما الله تعالى هو من رأس المال وفي هذا الحديث نظر الإمام في مصالح رعيته وأمره أياهم بما فيه الرفق بهم وبأبطالهم ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها وفيه جواز البيع فيمن يدبر وهو مجمع عليه الآن وقد كان فيه خلاف ضعيف لبعض السلف قوله (واشتراه نعيم بن عبد الله) وفي رواية فاشتراه ابن النحام بالنون المفتوحة والحاء المهملة المشددة هكذا هو في جمع النسخ ابن النحام بالنون قالوا وهو غلط وصوابه فاشتراه النحام فإن المشتري هو نعيم وهو النحام سمي بذلك لقول النبي (صلى الله عليه وسلم)
[ 143 ]
دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة لنعيم والنحمة الصوت وقيل هي السلعة وقيل النحنحة والله أعلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات باب القسامة ذكر مسلم حديث حويصة ومحيصة باختلاف ألفاظه وطرقه حين وجد محيصة ابن عمه عبد الله بن سهل قتيلا بخيبر فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لأوليائه تحلفون خمسين يمينا وتستحقون صاحبكم أو قاتلكم وفي رواية تستحقون قاتلكم أو صاحبكم أما حويصة ومحيصة فبتشديد الياء فيهما وبتخفيفها لغتان مشهورتان وقد ذكرهما القاضي أشهرهما التشديد قال القاضي حديث القسامة أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم رحمهم الله تعالى وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به وروى عن جماعة أبطال القسامة وأنه لا حكم لها ولا عمل بها وممن قال بهذا سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وقتادة وأبو قلابة ومسلم بن خالد وابن علية والبخاري وغيرهم وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمدا هل يجب القصاص بها فقال معظم الحجازيين يجب وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث
[ 144 ]
والأوزاعي وأحمد واسحاق وأبي ثور وداود وهو قول الشافعي في القديم وروى عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز قال أبو الزناد قلنا بها وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) متوافرون أني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان وقال الكوفيون والشافعي رضي الله عنه في أصح قولية لا يجب بها القصاص وإنما تجب الدية وهو مروي عن الحسن البصري والشعبي والنخعي وعثمان الليثي والحسن بن صالح وروى أيضا عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم واختلفوا فيمن يحلف في القسامة فقال مالك والشافعي والجمهور يحلف الورثة ويجب الحق بحلفهم خمسين يمينا واحتجوا بهذا الحديث الصحيح وفيه التصريح بالإبتداء بيمين المدعي وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح لا تندفع قال مالك الذي أجمعت عليه الأئمة قديما وحديثا أن المدعين يبدؤن في القسامة ولأن جنبة المدعي صارت قوية باللوث قال القاضي وضعف هؤلاء رواية من روى الإبتداء بيمين المدعى عليهم قال أهل الحديث هذه الرواية وهم من الراوين لأنه أسقط الإبتداء بيمين المدعي ولم يذكر رد اليمين ولأن من روى الإبتداء بالمدعين معه زيادة ورواياتها صحاح من طرق كثيرة مشهورة فوجب العمل بها ولا تعارضها رواية من نسى وقال كل من لم يوجب القصاص واقتصر على الدية يبدأ بيمين المدعي عليهم إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور أنه يبدأ بيمين المدعي فإن نكل ردت على المدعي عليه وأجمع العلماء على أنه لا يجب قصاص ولا دية بمجرد الدعوى حتى تقترن بها شبهة يغلب الظن بها واختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة ولها سبع صور الأولى أن يقول المقتول في حياته دمي عند فلان وهو قتلني أو ضربني وإن لم يكن به أثر أو فعل بي هذا من إنفاذ مقاتلي أو جرحني ويذكر العمد فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث وادعى مالك رضي الله عنه أنه مما أجمع عليه الأئمة قديما وحديثا قال القاضي ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما ولا روى عن غيرهما وخالف في ذلك العلماء كافة فلم ير أحد غيرهما في هذا أقسامه واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة واحتج
[ 145 ]
مالك في ذلك بقضية بني إسرائيل وقوله تعالى اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى قالوا فحيي الرجل فأخبر بقاتله واحتج أصحاب مالك أيضا بأن تلك حالة يطلب بها غفلة الناس فلو شرطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالبا قالوا ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق ويتجنب الكذب والمعاصي ويتزود البر والتقوى فوجب قبول قوله واختلف المالكية في أنه هل يكتفي في الشهادة على قوله بشاهد أم لابد من اثنين الثانية اللوث من غير بينة على معاينة القتل وبهذا قال مالك والليث والشافعي ومن اللوث شهادة العدل وحده وكذا قول جماعة ليسوا عدولا الثالثة إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أياما ثم مات قبل أن يفيق منه قال مالك والليث هو لوث وقال الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنه لاقسامة هنا بل يجب القصاص بشهادة العدلين الرابعة يوجد المتهم عند المقتول أو قريبا منه أو آتيا من جهته ومعه آلة القتل وعليه أثره من لطخ دم وغيره وليس هناك سبع ولا غيره مما يمكن إحالة القتل عليه أو تفرق جماعة عن قتيل فهذا لوث موجب للقسامة عند مالك والشافعي الخامسة أن يقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل ففيه القسامة عند مالك والشافعي وأحمو إسحاق وعن مالك رواية لإقسامه بل فيه دية على الطائفة الأخرى إن كان من أحد الطائفتين وإن كان من غيرهما فعلى الطائفتين ديته السادسة يوجد الميت في زحمة الناس قال الشافعي تثبت فيه القسامة وتجب بها الدية وقال مالك هو هدر وقا الثوري واسحاق تجب دية في بيت المال وروى مثله عن عمر وعلى السابعة أن يوجد في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم لا يثبت بمجرد هذا قسامة بل القتل هدر لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محله طائفة لينسب إليهم قال الشافعي ألا أن يكون في محلة أعدائه لا يغالطهم غيرهم فيكون كالقصة التي جرت بخيبر فحكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالقسامة لورثة القتيل لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة ولم يكن هناك سواهم وعن أحمد نحو قول الشافعي وقال أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة ولا تثبت القسامة عندهم في شئ من الصور السبع السابقة إلا هنا لأنها عندهم هي الصورة التي حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) فيها بالقسامة ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر قالوا فإن وجد القتيل في المسجد حلف أهل المحلة ووجبت الدية في بيت المال وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة وقال الأوزاعي وجود
[ 146 ]
القتيل في المحلة يوجب القسامة وإن لم يكن عليه أثر ونحوه عن داود هذا آخر كلام القاضي والله أعلم قوله (فذهب عبد الرحمن بتكلم قبل صاحبه فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كبر الكبر في السن فضمت وتكلم صاحباه وتكلم معهما) معنى هذا أن المقتول هو عبد الله وله أخ اسمه عبد الرحمن ولهما ابنا عم وهما محيصة وحويصة وهما أكبر سنا من عبد الرحمن فلما أراد عبد الرحمن أخو القتيل أن يتكلم قال له النبي (صلى الله عليه وسلم) كبر أي يتكلم أكبر منك واعلم أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه عبد الرحمن لا حق فيها لإبني عمه وإنما أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يتكلم الأكبر وهو حويصة لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع صورة القصة وكيف جرت فإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها ويحتمل أن عبد الرحمن وكل حويصة في الدعوى ومساعدته أو أمر بتوكيله وفي هذا فضيلة السن عند التساوي في الفضائل ولهذا نظائر فإنه يقدم بها في الإمامة وفي ولاية النكاح ندبا وغير ذلك وقوله الكبر في السن معناه يريد الكبر في السن والكبر منصوب باضمار يريد ونحوها وفي بعض النسخ للكبر باللام وهو صحيح قوله (صلى الله عليه وسلم) (أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم) قد يقال كيف عرضت اليمين على الثلاثة وإنما يكون اليمين للوارث خاصة والوارث عبد الرحمن خاصة وهو أخو القتيل وأما الآخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ والجواب أنه كان معلوما عندهم أن اليمين تختص بالوارث فأطلق الخطاب لهم والمراد من تختص به اليمين واحتمل ذلك لكونه معلوما للمخاطبين كما سمع كلام الجميع في صورة قتله وكيفية ما جرى له وإن كانت حقيقة الدعوى وقت الحاجة مختصة بالوارثة وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) فتستحقون
[ 147 ]
قاتلكم أو صاحبكم فمعناه يثبت حقكم على من حلفتم عليه وهل ذلك الحق قصاص أو دية فيه الخلاف السابق بين العلماء واعلم أنهم إنما يجوز لهم الحلف إذا علموا أو ظنوا ذلك وإنما عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم اليمين أن وجد فيهم هذا الشرط وليس المراد الإذن لهم في الحلف من غير ظن ولهذا قالوا كيف نحلف ولم نشهد قوله (صلى الله عليه وسلم) (فتبرئكم يهود بخمسين يمينا) أي تبرأ إليكم من دعواكم بخمسين يمينا وقيل معناه بخلصونكم من اليمين بأن يحلفوا فإذا حلفوا انتهت الخصومة ولم يثبت عليهم شئ وخلصتم أنتم من اليمين وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق ويهود مرفوع غير منون لا ينصرف لأنه إسم للقبيلة والطائفة ففيه التأنيث والعلمية قوله (إن النبي (صلى الله عليه وسلم) أعطى عقله) أي ديته في الرواية الأخرى فوداه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قبله وفي رواية من عنده فقوله وداه يتخفيف الدال أي دفع ديته وفي رواية فكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة إنما وداه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قطعا للنزاع واصلاحا لذات البين فإن أهل القتيل لا يستحقون إلا أن يحلفوا أو يستحلفوا المدعى عليهم وقد امتنعوا من الأمرين وهم مكسورون بقتل صاحبهم فأراد (صلى الله عليه وسلم) جبرهم وقطع المنازعة واصلاح ذات البين
[ 148 ]
بدفع ديته من عنده وقوله فوداه من عنده يحتمل أن يكون من خالص ماله في بعض الأحوال صادف ذلك عنده ويحتمل أنه من مال بيت المال ومصالح المسلمين وأما قوله في الرواية الأخيرة من ابل الصدقة فقد قال بعض العلماء أنها غلط من الرواة لأن الصدقة المفروضة لا تصرف هذا المصرف بل هي لأصناف سماهم الله تعالى وقال الإمام أبو اسحاق المروزي من أصحابنا يجوز صرفها من ابل الزكاة لهذا الحديث فأخذ بظاهره وقال جمهور أصحابتنا وغيرهم معناه اشتراه من أهل الصدقات بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعا إلى أهل القتيل وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في مصالح العامة وتأول هذا الحديث عليه وتأوله بعضهم على أن أولياء القتيل كانوا محتاجين ممن تباح لهم الزكاة وهذا تأويل باطل لأن هذا قدر كثير لا يدفع إلى الواحد الحامل من الزكاة بخلاف أشراف القبائل ولأنه سماه دية وتأوله بعضهم على أنه دفعه من سهم المؤلفة من الزكاة استئلافا لليهود لعلهم يسلمون وهذا ضعيف لأن الزكاة لا يجوز صرفها إلى كافر فالمختار ما حكيناه عن الجمهور أنه اشتراها من ابل الصدقة وفي هذا الحديث أنه ينبغي للإمام مراعاة المصالح العامة والإهتمام باصلاح ذات البين وفيه اثبات القسامة وفيه الإبتداء بيمين المدعي في القسامة وفيه رد اليمين على المدعى عليه إذا نكل المدعى في القسامة وفيه جواز الحكم على الغائب وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم وفيه جواز اليمين بالظن وإن لم يتيقن وفيه أن الحكم بين المسلم والكافر يكون بحكم الإسلام قوله (صلى الله عليه وسلم) (يقسم خمسون منكم على رجل منهم) هذا مما يجب تأويله لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة وتأويله عند أصحابنا أن معناه يؤخذ منكم خمسون يمينا والحالف هم الورثة فلا يحلف أحد من الأقارب غير الورثة يحلف كل الورثة ذكورا كانوا أو إناثا سواء كان القتل عمدا أو خطأ هذا مذهب الشافعي وبه قال أبو ثور وابن المنذر ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ وأما في العمد فقال يحلف الأقارب خمسين يمينا ولا تحلف النساء ولا الصبيان ووافقه ربيعة والليث والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر واحتج الشافعي بقوله (صلى الله عليه وسلم) تحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص ومعلوم أن غير الوارث
[ 149 ]
لا يستحق شيئا فدل أن المراد على حلف من يستحق الدية قوله (صلى الله عليه وسلم) (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته) الرمة بضم الراء الحبل والمراد هنا الحبل الذي يربط في رقبة القاتل ويسلم فيه إلى ولي القتيل وفي هذا دليل لمن قال أن القسامة يثبت فيها القصاص وقد سبق بيان مذهب العلماء فيه وتأوله القائلون لا قصاص بأن المراد أن يسلم ليستوفى منه الدية لكونها ثبتت عليه وفيه أن القسامة إنما تكون على واحد وبه قال مالك وأحمد وقال أشهب وغيره يحلف الأولياء على ما شاء وأولا يقتلوا إلا واحدا وقال الشافعي رضي الله عنه أن ادعوا على جماعة حلفوا عليهم وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعي وعلى قول أنه يجب القصاص عليهم وإن حلفوا على واحدا استحقوا عليه وحده قوله (فدخلت مربدا لهم يوما فركضتني ناقة من تلك الابل ركضة برجلها) المربد بكسر الميم وفتح الباء هو الموضع الذي يجتمع فيه الابل وتحبس والربد الحبس ومعنى ركضتني رفستني وأراد بهذا الكلام أنه ضبط الحديث
[ 150 ]
وحفظه حفظا بليغا قوله (فوجد في شربة) بفتح الشين المعجمة والراء وهو حوض يكون في أصل النخلة وجمعه شرب كثمرة وثمر قوله (لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض) المراد بالفريضة هنا الناقة من تلك النوق المفروضة في الدية وتسمى المدفوعة في الزكاة أو في الدية فريضة لأنها مفروضة أي مقدرة بالسن والعدد وأما قول المازري أن المراد بالفريضة هنا
[ 151 ]
الناقة الهرمة فقل غلط فيه والله أعلم قوله (فكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يبطل دمه فوداه ماء من ابل الصدقة) هذا آخر الفوات الذي لم يسمعه ابراهيم بن سفيان من مسلم وقد قدمنا بيان أوله وقوله عقيب هذا حدثني اسحق بن منصور قال أخبرنا بشر بن عمر قال سمعت ت مالك بن أنس يقول حدثني أبو ليلى هو أول سماع ابراهيم بن سفيان من مسلم من هذ الموضع هكذا هو في معظم النسخ وفي نسخة الحافظ ابن عساكر أن آخر الفوات آخر ديث اسحق بن منصور هذا الذي ذكرناه وأول السماع قوله عقبه حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى والأول أصح قوله (وطرح في عين أو فقير) الفقير هنا على لفظ الفقير في الآدميين والفقير
[ 152 ]
هنا البئر القريبة القعر الواسعة الفم وقيل هو الحفيرة التي تكون حول النخل قوله (صلى الله عليه وسلم) (إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب) معناه أن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فأما أن يدوا صاحبكم أي دفعوا إليكم ديته وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا فينتقض
[ 153 ]
عهدهم ويصير حربا لنا وفيه دليل لمن يقول الواجب بالقسامة الدية دون القصاص قوله خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم هو بفتح الجيم وهو الشدة والمشقة والله أعلم باب حكم المحاربين والمرتدين فيه حديث العرنيين أنهم قدموا المدينة وأسلموا واستوخموها وسقمت أجسامهم فأمرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخروج إلى ابل الصدقة فخرجوا فصحوا فقتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام وساقوا الذود فبعث النبي (صلى الله عليه وسلم) في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين وهو موافق لقول الله تعالى إنما جزاالذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقط أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض واختلف العلماء في المراد بهذه الآية الكريمة فقال مالك هي على التخيير فيخير الإمام بين هذه الأمور إلا أن يكون المحارب قد قتل فيتحتم قتله وقال أبو حنيفة وأبو مصعب المالكي الإمام بالخيار وإن قتلوا وقال الشافعي وآخرون هي على التقسيم فإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف فإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئا ولم يقتلوا طلبوا حتى يعزروا وهو المراد بالنفي عندنا قال أصحابنا لأن ضرر هذه الأفعال مختلف فكانت عقوباتها مختلفة ولم تكن للتخيير وتثبت أحكام المحاربة في الصحراء وهل تثبت في الأمصار فيه خلاف قال أبو حنيفة لا تثبت وقال مالك والشافعي تثبت قال القاضي عياض رضي الله عنه واختلف العلماء في معنى حديث العرنيين هذا فقال بعض السلف كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربة والنهي عن المثلة فهو منسوخ وقيل ليس منسوخا وفيهم نزلت آية المحاربة وإنما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) بهم ما فعل قصاصا لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك وقد رواه مسلم في بعض طرقه ورواه ابن اسحق وموسى
[ 154 ]
ابن عقبه وأهل السير والترمذي وقال بعضهم النهي عن المثلة نهى تنزيه ليس بحرام وأما قوله يستسقون فلا يسقون فليس فيه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر بذلك ولا نهى عن سقيهم قال القاضي وقد أجمع المسلمون على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع الماء قصدا فيجمع عليه عذابان قلت قد ذكر في هذا الحديث الصحيح أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإسلام وحينئذ لا يبقى لهم حرمة في سقى الماء ولا غيره وقد قال أصحابنا لا يجوز لمن معه من الماء ما يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه لمرتد يخاف الموت من العطش ويتيمم ولو كان ذميا أو يهيمة وجب سقيه ولم يجز الوضوء به حينئذ والله أعلم قوله (أن ناسا من عرينة) هي بضم العين المهملة وفتح الراء وآخرها نون ثم هاء وهي قبيلة معروفة قوله (قدموا المدينة فاجتووها) هي بالجيم والمثناة فوق ومعناه استوخموها كما فسره في الرواية الأخرى أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم قالوا وهو مشتق من الجوى وهو داء في الجوف قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن شئتم أن تخرجوا إلى ابل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا فصحوا) في هذا الحديث أنها ابل الصدقة وفي غير مسلم أنها لقاح النبي (صلى الله عليه وسلم) وكلاهما صحيح فكان بعض الابل للصدقة وبعضها للنبي (صلى الله عليه وسلم) واستدل أصحاب مالك وأحمد بهذا الحديث أن بول ما يؤكل لحمة وروثه طاهران وأجاب أصحابنا وغيرهم من القائلين بنجاستهما بأن شربهم الأبوال كان للتداوي وهو جائز بكل النجاسات سوى الخمر والمسكرات فإن قيل كيف أذن لهم في شرب لبن الصدقة فالجواب أن البانها للمحتاجين من المسلمين وهؤلاء إذ ذاك منهم قوله (ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم) وفي بعض الأصول المعتمدة الرعاء وهما لغتان يقال راع ورعاه كقاض وقضاة وراع وزعاء بكسر الراء
[ 155 ]
وبالمد مثل صاحب وصحاب قوله (وسمل أعينهم) هكذا هو في معظم النسخ سمل باللام وفي بعضها سمر بالراء والميم مخففة وضبطناه في بعض المواضع في البخاري سمر بتشديد الميم ومعنى سمل باللام نقاها وأذهب ما فيها ومعنى سمر بالراء كحلها بمسامير محمية وقيل هما بمعنى قوله (لهم بلقاح)
[ 156 ]
هي جمع لقحة بكسر اللام وفتحها وهي الناقة ذات الدر قوله (ولم يحسمهم) أي ولم يكوهم والحسم في اللغة كي العرق بالنار لينقطع الدم قوله (وقع بالمدينة الموم وهو البرسام) الموم بضم الميم واسكان الواو وأما البرسام فبكسر الباء وهو نوع من اختلاف العقل ويطلق على ورم الرأس
[ 157 ]
وورم الصدر وهو معرب وأصل اللفظة سريانية قوله (وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم) القائف هو الذي يتتبع الآثار وغيرها باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره (من المحددات والمثقلات وقتل الرجل بالمرأة) قوله (أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتلها بحجر فجئ بها إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وبها رمق فقيل لها أقتلك فلان فأشارت برأسها أن لا ثم قال لها الثانية فأشارت برأسها أن لا ثم سألها الثالثة فقالت نعم وأشارت برأسها فقتله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين حجرين)
[ 158 ]
وفي رواية قتل جارية من الأنصار على حلى لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة فأمر به (صلى الله عليه وسلم) أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات وفي رواية أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك فلان فلان حتى ذكروا اليهودي فأومت برأسها فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يرض رأسه بالحجارة أما الأوضاح بالضاد المعجمة فهي قطع فضة كما فسره في الرواية الأخرى قوله (وبها رمق) هو بقية الحياة والروح والقليب البئر وقوله رضخه بين حجرين ورضه بالحجارة ورجمه بالحجارة هذه الألفاظ معناها واحد لأنه إذا وضع رأسه على حجر ورمى بحجر آخر فقد رجم وقد رض وقد رضخ وقد يحتمل أنه رجمها الرجم المعروف مع الرضخ لقوله ثم ألقاها في قليب وفي هذا الحديث فوائد منها قتل الرجل بالمرأة وهو اجماع من يعتد به ومنها أن الجاني عمدا يقتل قصاصا على الصفة التي قتل فإن قتل بسيف قتل هو بالسيف وإن قتل بحجر أو خشب أو نحوهما قتل بمثله لأن اليهودي رضخها فرضخ هو ومنها ثبوت القصاص في القبل بالمثقلات ولا يختص بالمحددات وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا قصاص إلا في القتل بمحدد من حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بقتل الناس بالمنجنيق أو الإلقاء في النار
[ 159 ]
واختلفت الرواية عنه في مثقل الحديد كالدبوس أما إذا كانت الجناية شبه عمد بأن قتل بما لا يقصد به القتل غالبا فتعمد القتل به كالعصا والسوط واللطمة والقضيب والبندقة ونحوها فقال مالك والليث يجب فيه القود وقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد واسحق وأبو ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم لا قصاص فيه والله أعلم ومنها وجوب القصاص على الذي يقتل المسلم ومنها جواز سؤال الجريح من جرحك وفائدة السؤال أن يعرف المتهم ليطالب فإن أقر ثبت عليه القتل وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه شئ بمجرد قول المجروح هذا مذهبنا ومذهب الجماهير وقد سبق في باب القسامة وأن مذهب مالك ثبوت القتل على المتهم بمجر قول المجروح وتعلقوا بهذا الحديث وهذا تعلق باطل لأن اليهودي اعترف كما صرح به مسلم في أحد رواياته التي ذكرناها فإنما قتل باعترافه والله أعلم باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه (فاتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه) قوله (قاتل يعلى بن منية أو ابن أمية رجلا فعض أحدهما صاحبه فانتزع يده من فيه فنزع ثنيته
[ 160 ]
فاختصما إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال أيعض أحدكم كما يعض الفحل لادية له) وفي رواية أن أجيرا ليعلى عض رجل ذراعه أما منية فبضم الميم وإسكان النون وبعدها ياء مثناة تحت وهي أم يعلى وقيل جدته وأما أمية فهو أبوه فيصح أن يقال يعلى بن أمية ويعلى بن منية وأما قوله أن يعلى هو المعضوض وفي الرواية الثانية والثالثة أن المعضوض هو أجير يعلى لا يعلى فقال الحفاظ الصحيح المعروف أنه أجير يعلى لا يعلى ويحتمل انهما قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين وقوله (صلى الله عليه وسلم) (كما يضع الفحل) هو بالحاء أي الفحل من الابل وغيرها وهو اشارة إلى تحريم ذلك وهذا الحديث دلالة لمن قال أنه إذا عض رجل يد غيره فنزع المعضوض يده فسقطت أسنان العاض أو فك لحيته لا ضمان عليه وهذا مذهب الشافعي وابي حنيفة وكثيرين أو الأكثرين رضي الله عنهم وقال مالك يضمن قوله (صلى الله عليه وسلم) (يقضمها كما يقضم الفحل) هو بفتح الضاد فيهما على اللغة الفصيحة ومعناه يعضها قال أهل
[ 161 ]
اللغة القضم بأطراف الأسنان قوله (صلى الله عليه وسلم) (ما تأمرني تأمرني أن آمره أن يضع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها) ليس المراد بهذا أمره بدفع يده ليعضها وإنما معناه الإنكار عليه أي أنك لا تدع يدك في فيه يعضها فكيف تنكر عليه أن ينتزع يده من فيك وتطالبه بما جنى في جذبه لذلك قال القاضي وهذا الباب مما تتبعه الدارقطني على مسلم لأنه ذكر أولا حديث شعبة عن قتادة عن زرارة عن عمران بن حصين قال قاتل يعلى وذكر مثله عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة ثم عن شعبة عن قتادة عن عطاء عن ابن يعلى ثم عن همام عن عطاء عن ابن يعلى ثم حديث ابن جريح عن عطاء عن ابن يعلى ثم حديث معاذ عن أبيه عن قتادة عن بديل عن عطاء بن صفوان بن يعلى وهذا اختلاف على عطاء وذكر أيضا حديث قريش بن يونس عن ابن عون عن اين سيرين عن عمران ولم يذكر فيه سماعا منه ولا من ابن سيرين من عمران ولم يخرج البخاري لابن سيرين عن عمران شيئا والله أعلم
[ 162 ]
قلت الإنكار على مسلم في هذين الوجهين أحدهما لا يلزم من الإختلاف على عطاء ضعف الحديث ولا من كون ابن سيرين لم يصرح بالسماع من عمران ولا روى له البخاري عنه شيئا أن لا يكون سمع منه بل هو معدود فيمن سمع منه والثاني لو ثبت ضعف هذا الطريق لم يلزم منه ضعف المتن فإنه صحيح بالطرق الباقية التي ذكرها مسلم وقد سبق مرات أن مسلما يذكر في المتابعات من هو دون شرط الصحيح والله أعلم باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها قوله (عن أنس أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال رسوالله (صلى الله عليه وسلم) القصاص القصاص فقالت أم الربيع يا رسول الله أيقتص من فلانة والللا يقتص منها فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله
[ 163 ]
قالت لا والله لا يقتص منها أبدا قال فما زالت حتى قبلوا الدية فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره هذه رواية مسلم وخالفه البخاري في روايته فقال عن أنس ابن مالك أن عمته الربيع كسرت ثنية حارثة وطلبوا إليها العفو فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأبوا إلا القصاص فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقصاص فقال أنس بن النضر يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كتاب الله القصاص فرضى القوم فعفوا فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره هذا لفظ رواية البخاري فحصل الإختلاف في الروايتين من وجهين أحدهما أن في رواية مسلم أن الجارية أخت الربيع وفي رواية البخاري أنها الربيع بنفسها والثاني أن في رواية مسلم أن الحالف لا تكسر ثنيتها هي أم الربيع بفتح الراء وفي رواية البخاري أنه أنس بن النضر قال العلماء المعروف في الروايات رواياة البخاري وقد ذكرها من طرقه الصحيحة كما ذكرنا عنه وكذا رواه أصحاب كتب السنن قلت إنهما قضيتان أما الربيع الجارحة في رواية البخاري وأخت الجارحة في رواية مسلم فهي بضم الراء وفتح الباء وتشديد الياء وأما أم الربيع الحالفة في رواية مسلم فبفتح الراء وكسر الباء وتخفيف الياء وقوله (صلى الله عليه وسلم) في الرواية الأولى (القصاص القصاص) هما منصوبان أي أدوا القصاص وسلموه إلى مستحقه وقوله (صلى الله عليه وسلم) (كتاب الله القصاص) أي حكم كتاب الله وجوب القصاص في السن وهو قوله والسن بالسن وأما قوله والله لا يقتص منها فليس معناه رد حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو وإلى النبي (صلى الله عليه وسلم) في الشفاعة إليهم في العفو وإنما حلف ثقة بهم أن لا يحنثوه أو ثقة بفضل الله ولطفه أن لا يحنثه بل يلهمهم العفو وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) أن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره معناه لا يحنثه لكرامته عليه وفي هذا الحديث فوائد 1 جواز الحلف فيما يظنه الإنسان ومنها جواز الثناء على من يخاف الفتنة بذلك وقد سبق بيان هذا مرات 2 منها استحباب العفو عن القصاص ومنها إستحباب الشفاعة في العفو 4 ومنها أن الخبرة في القصاص والدية إلى
[ 164 ]
مستحقه لا إلى المستحق عليه ومنها إثبات القصاص بين الرجل والمرأة وفيه ثلاثة مذاهب أحدها مذهب عطاء والحسن انه لا قصاص بينهما في نفس ولا طرف بل تتعين دية الجناية تعلقا بقوله تعالى بالأنثى الثاني وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ثبوت القصاص بينهما في النفس وفيما دونها مما يقبل القصاص واحتجوا بقوله تعالى النفس بالنفس إلى آخرها وهذا إن كان شرعا لمن قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف مشهور للأصوليين فإنما الخلاف إذا لم يرد شرعنا بتقريره وموافقته فإن ورد كان شرعا لنا بلا خلاف وقد ورد شرعنا بتقريره في حديث أنس هذا والله أعلم والثالث وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه يجب القصاص بين الرجال والنساء في النفس ولا يجب فيما دونها ومنها وجوب القصاص في السن وهو مجمع عليه إذا أقلها كلها فإن كسر بعضها ففيه وفي كسر سائر العظام خلاف مشهور للعلماء والأكثرون على أنه لا قصاص والله أعلم باب ما يباح به دم المسلم قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا باحدى ثلاث الثيب الزان والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) هكذا هو في النسخ الزان من غير ياء بعد النون وهي لغة صحيحة قرئ بها في السبع كما في قوله تعالى الكبير المتعال وغيره والأشهر في اللغة اثبات الياء في كل هذا وفي هذا الحديث اثبات قتل الزاني المحصن والمراد
[ 165 ]
رجمه بالحجارة حتى يموت وهذا باجماع المسلمين وسيأتي ايضاحه وبيان شروطه في بابه إن شاء الله تعالى وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (والنفس بالنفس فالمراد به القصاص بشرطه وقد يستدل به أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم في قولهم يقتل المسلم بالذمي ويقتل الحر بالعبد وجمهور العلماء على خلافه منهم مالك والشافعي والليث وأحمد وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) والتارك لدينه المفارق للجماعة فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام قال العلماء ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما وكذا الخوارج والله أعلم وأعلم أن هذا عام يخص منه الصائل ونحوه فيباح قتله في الدفع وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله قصدا لا في هذه الثلاثة والله أعلم
[ 166 ]
باب ببان إثم من سن القتل قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه كان أول من سن القتل) الكفل بكسر الكاف الجزء والنصيب وقال الخليل هو الضعف وهذا الحديث من قواعد الإسلام وهو أن كل من ابتدع شيئا من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل مثل عمله إلى يوم القيامة ومثله من ابتدع شيأ من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوالقيامة وهو موافق للحديث الصحيح من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة وللحديث الصحيح من دل على خير فله مثل أجر فاعله وللحديث الصحيح ما من داع يدعو إلى هدى وما من داع يدعو إلى ضلالة والله أعلم
[ 167 ]
باب المجازاة بالدماء في الآخرة وأنها أول (ما يقضي فيه بين الناس يوم القيامة) قوله (صلى الله عليه وسلم) (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) فيه تغليظ أمر الدماء وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة وهذا لعظم أمرها وكثير خطرها وليس هذا الحديث مخالفا للحديث المشهور في السنن أول ما يحاسب به العبد صلاته لأن هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى وأما حديث الباب فهو فيما بين العباد والله أعلم بالصواب باب تغليظ تحريم الدماء والاعراض والأموال قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنى عشر شهرامنها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب شهر مضر
[ 168 ]
الذي بين جمادي وشعبان) أما ذو القعدة فبفتح القاف وذو الحجة بكسر الحاء هذه اللغة المشهورة ويجوز في لغة قليلة كسر القاف وفتح الحاء وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث ولكن اختلفوا في الأد ب المستحب في كيفية عدها فقالت طائفة من أهل الكوفة وأهل الأدب يقال المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ليكون الاربعة من سنة واحدة وقال علماء المدينة والبصرة وجماهير العلماء هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ثلاثة سرد وواحد فرد وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة منها هذا الحديث الذي نحن فيه وعلى هذا الإستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان وإنما قيده هذا التقييد مبالغة في إيضاحه وإزالة للبس عنه قالوا وقد كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب فكانت مضر تجعل رجبا هذا الشهر المعروف الآن وهو الذي بين جمادى وشعبان وكانت ربيعة تجعله رمضان فلهذا اضافه النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى مضر وقيل لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم وقيل ان العرب كانت تسمى رجبا وشعبان الرجبين وقيل كانت تسمى جمادى ورجبا جمادين وتسمى شعبان رجبا وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض فقال العلماء معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة ابراهيم عليه السلام في تحريم الأشهر الحرم وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده وهو صفر ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة حتى اختلط عليهم الأمر وصادفت حجة النبي (صلى الله عليه وسلم) تحريمهم وقد تطابق الشرع وكانوا في تلك السنة قد حرموا ذا الحجة لموافقة الحساب الذي ذكرناه فاخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الاستدارة صادفت ما حكم الله تعالى به يوم خلق السموات والأرض وقال أبو عبيد كانوا ينسؤن أي يؤخرون وهو الذي قال الله تعالى فيه إنما النسئ زيادة في الكفر فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم فيؤخرون تحريمه إلى صفر ثم يؤخرون صفرفي سنة أخرى فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه وذكر القاضي
[ 169 ]
رجوها أخر في بيان معنى هذا الحديث ليست بواضحة وينكر بعضها قوله (ثم قال أي شهر هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى طننا أنه سيسميه بغير إسمه قال أليس ذا الحجة قلنا بلى قال فأي بلد هذا قلنا الله ورسوله أعلم إلى آخره) هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم وقولهم الله ورسوله أعلم هذا من حسن أدبهم وأنهم علموا أنه (صلى الله عليه وسلم) لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون قوله (صلى الله عليه وسلم) (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) المراد بهذا كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدما والأعراض والتحذير من ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) (فلا ترجعن بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض) هذا الحديث سبق شرحه في كتاب الإيمان في أول الكتاب وذكر بيان إعرابه وأنه لا حجة فيه لمن يقول بالتكفير بالمعاصي بل المراد به كفران النعم أو هو محمول على من استحل قتال المسلمين بلا شبهة قوله (صلى الله عليه وسلم) (ليبلغ الشاهد الغائب) فيه وجوب تبليغ العلم وهو فرض كفاية فيجب تبليغه بحيث ينتشر قوله
[ 170 ]
(صلى الله عليه وسلم) (فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه) احتج به العلماء لجواز رواية الفضلاء وغيرهم من الشيوخ الذين لا علم لهم عندهم ولا فقه إذا ضبط ما يحدث به قوله (قعد على بعيره وأخذ إنسان بخطامه) إنما أخذ بخطامه ليصون البعير من الاضطراب على صاحبه والتهويش على راكبه وفيه دليل على استحباب الخطبة على موضع عال من منبر وغيره سواء خطبة الجمعة والعيد وغيرهما وحكمته أنه كلما ارتفع كان أبلغ في إسماعه الناس ورؤيتهم إياه ووقوع كلامه في نفوسهم قوله (انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما وإلى جزيعة من الغنم فقسمها بيننا) انكفأ بهمز آخره أي انقلب والأملح هو الذي فيه بياض
[ 171 ]
وسواد والبياض أكثر وقوله جزيعة بضم الجيم وفتح الزاي ورواه بعضهم جزيعة بفتح الجيم وكسر الزاي وكلاهما صحيح والأول هو المشهور في رواية المحدثين وهو الذي ضبطه الجوهري وغيره من أهل اللغة وهي القطعة من الغنم تصغير جزعة بكسر الجيم وهي القليل من الشئ يقال جزع له من ماله أي قطع وبالثاني ضبطه ابن فارس في المجمل قال وهي القطعة من الغنم وكأنها فعيلة بمعنى مفعولة كضفيرة بمعنى مضفورة قال القاضي قال الدارقطني قوله ثم انكفأ إلى آخر الحديث وهم من ابن عون فيما قيل وإنما رواه ابن سيرين عن أنس فأدرجه ابن عون هنا في هذا الحديث فرواه عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال القاضي وقد روى البخاري هذا الحديث عن ابن عون فلم يذكر فيه هذا الكلام فلعله تركه عمدا وقد رواه أيوب عدة عن ابن سيرين في كتاب مسلم في هذا الباب ولم يذكروا فيه هذه الزيادة قال القاضي والأشبه أن هذه الزيادة إنما هي في حديث آخر في خطبة عيد الأضحى فوهم فيها الراوي فذكرها مضمومة إلى خطبة الحجة أوهما حديثان ضم أحدهما إلى
[ 172 ]
الآخر وقد ذكر مسلم هذا بعد هذا في كتاب الضحايا من حديث أيوب وهشام عن ابن سيرين عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى ثم خطب فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ثم قال في آخر الحديث فانكفأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى كبشين أملحين فذبحهما فقال النا س إلى غنيمة فتوزعوها فهذا هو الصحيح وهو دافع للإشكال باب صحة الإقرار بالقتل (وتمكين ولي القتيل من القصاص واستحباب طلب العفو منه) قوله (جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال يا رسول الله هذا قتل أخي فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقتلته فقال إنلو لم يعترف أقمت عليه البينة قال نعم قتلته قال كيف قتلته قال كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته) أما النسعة فبنون مكسورة ثم سين ساكنة ثم عين مهملة وهي حبل من جلود مضفورة وقرنه جانب رأسه وقوله (يختبط) أي يجمع الخيط وهو ورق الثمر بأن يضرب الشجر بالعصا فيسقط ورقه فيجمعه
[ 173 ]
علفا وفي هذا الحديث الأغلاظ على الجناة وربطهم واحضارهم إلى ولي الأمر وفيه سؤال المدعى عليه عن جواب الدعوى فلعله يقر فيستغني المدعى والقاضي عن التعب في احضار الشهود وتعديلهم ولأن الحكم بالإقرار حكم بيقين وبالبينة حكم بالظن وفيه سؤال الحاكم وغيره الولي عن العفو عن الجاني وفيه جواز العفو بعد بلوغ الأمر إلى الحاكم وفيه جواز أخذ الدية في قتل العمد لقوله (صلى الله عليه وسلم) في تمام الحديث هل لك من شئ تؤديه عن نفسك وفيه قبول الإقرار بقتل العمد قوله (فانطلق به الرجل فلما ولى قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن قتله فهو مثله فرجع فقال يرسول الله بلغني أنك قلت إن قتله فهو مثله وأخذته بأمرك فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك قال يا نبي الله لعله قال بلى قال فإن ذا ك كذاك قال فرمى بنسعته وخلى سبيله) وفي الرواية الأخرى أنه انطلق به فلما أدبر قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) القاتل والمقتول في النار أما قوله (صلى الله عليه وسلم) إن قتله فهو مثله فالصحيح في تأويله أنه مثله في أنه لا فضل ولا منة لأحدهما على الآخر لأنه استوفى حقه منه بخلاف ما لو عفى عنه فإنه كان له الفضل والمنة وجزيل ثواب الآخرة وجميل الثناء في الدنيا وقيل فهو مثله في أنه قاتل وإن اختلفا في التحريم والإباحة لكنهما استويا في طاعتهما الغضب ومتابعة الهوى لا سيما وقد طلب النبي (صلى الله عليه وسلم) منه العفو وإنما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ما قال بهذا اللفظ الذي هو صادق فيه لا يهام لمقصود صحيح وهو أن الولى ربما خاف فعفا والعفو مصلحة للولى والمقتول في ديتهما لقوله (صلى الله عليه وسلم) يبوء بإثمك وإثم صاحبك وفيه مصلحة للجاني وهو انقاذه من القتل فلما كان العفو مصلحة توصل
[ 174 ]
إليه بالتعريض وقد قال الضمري وغيره من علما أصحابنا وغيرهم يستحب للفتى إذا رأى مصلحة في التعريض للمستفتي أن يعرض تعريضا يحصل به المقصود مع أنه صادق فيه قالوا ومثاله أن يسأله إنسان عن القاتل هل له توبة ويظهر للمفتي بقرينة أنه إن أفتى بأن له توبة ترتب عليه مفسدة وهي أن الصائل يستهون القتل لكونه يجد بعد ذلك منه مخرجا فيقول المفتى الحالة هذه صح عن ابن عباس أنه قال لا توبة لقاتل فهو صادق في أنه صح عن ابن عباس وإن كان المفتى لا يعتقد ذلك ولا يوافق ابن عباس في هذه المسألة لكن السائل إنما يفهم منها موافقته ابن عباس فيكون سببا لزجره فهكذا وما أشبه ذلك كمن يسأل عن الغيبة في الصوم هل يفطر بها فيقول جاء في الحديث العيبة تفطر الصائم والله أعلم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) القاتل والمقتول في النار فليس المراد به في هذين فكيف تصح ارادتهما مع أنه إنما أخذه ليقتله بأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بل المراد غيرهما وهو إذا التقى المسلمان بسيفيهما في المقاتلة المحرمة كالقتال عصبية ونحو ذلك فالقاتل والمقتول في النار والمراد به التعريض كما ذكرناه وسبب قوله ما قدمناه لكون الولى يفهم منه دخوله في معناه ولهذا ترك قتله فحصل المقصود والله أعلم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (أما تريد أن يبوء باثمك وإثم صاحبك) فقيل معناه يتحمل إثم المقتول باتلافه مهمته وإثم الولى لكونه فجعه في أخيه ويكون قد أوحى إليه (صلى الله عليه وسلم)
[ 175 ]
بذلك في هذا الرجل خاصة ويحتمل أن معناه يكون عفوك عنه سببا لسقوط إثمك وإثم أخيك المقتول والمراد اثمهما السابق بمعاص لهما متقدمة لا تعلق لها بهذا القاتل فيكون معنى يبوء يسقط وأطلق هذا اللفظ عليه مجازا قال القاضي وفي هذا الحديث أن قتل القصا (صلى الله عليه وسلم) لا يكفر ذنب القاتل بالكلية وإن كفرها يبنه وبين الله تعالى كما جاء في الحديث الآخر فهو كفارة له ويبقى حق المقتول والله أعلم باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ (وشبه العمد على عاقلة الجاني) قوله (إن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بغرة عبد أو أمة) وفي رواية أنها ضربتها بعمود فسطاط وهي حبلى فقتلتها أما قوله بغرة عبد فضبطناه على شيوخنا في الحديث والفقه بغرة بالتنوين وهكذا قيده جماهير العلماء في كتبهم وفي مصنفاتهم في هذا وفي شروحهم وقال القاضي عياض الرواية فيه بغرة بالتنوين وما بعده بدل منه قال ورواه بعضهم بالإضافة قال والأول أوجه وأقيس وذكر صاحب المطالع الوجهين ثم قال الصواب رواية التنوين قلنا ومما يؤيده ويوضحه رواية البخاري في صحيحه في كتاب الديات في باب دية جنين المرأة عن المغيرة بن شعبة قال قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالغرة عبدا أو أمة وقد فسر الغرة في الحديث بعبد أو أمة قال العلماء وأو هنا للتقسيم لا للشك والمراد بالغرة عبد أو أمة وهو إسم لكل واحد منهما قال الجوهري كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا أعتق رقبة وأصل الغرة بياض في الوجه ولهذا قال أبو عمرو المراد بالغرة الأبيض منهما خاصة قال ولا يجزي الأسود قال ولولا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أراد
[ 176 ]
بالغرة معنى زائدا على شخص العبد والأمة لما ذكرها ولاقتصر على قوله عبد أو أمة هذا قول أبي عمرو وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء أنه تجزي فيها السوداء ولا تتعين البيضاء وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم أو نصف عشر دية الأب قال أهل اللغة الغرة عند العرب أنفس الشئ وأطلقت هنا على الإنسان لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم وأما ما جاء في بعض الروايات في غير الصحيح بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل فرواية باطلة وقد أخذ بها بعض السلف وحكى عن طاوس وعطاء ومجاهد أنها عبد أو أمة أو فرس وقال داود كل ما وقع عليه إسم الغرة يجزى واتفق العلماء على أن دية الجنين هي الغرة سواء كان الجنين ذكرا أو أنثى قال العلماء وإنما كان كذلك لأنه قد يخفى فيكثر فيه النزاع فضبطه الشرع بضابط يقطع النزاع وسواء كان خلقه كامل الأعضاء أم ناقصها أو كان مضغة تصور فيها خلق آدمي ففي كل ذلك الغرة بالإجماع ثم الغرة تكون لورثته على مواريثهم الشرعية وهذا شخص يورث ولا يرث ولا يعرف له نظير إلا من بعضه حر وبعضه رقيق فإنه رقيق لا يرث عندنا وهل يورث فيه قولان أصحهما ورث وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير وحكى القاضي عن بعض العلماء أن الجنين كعضو من أعضاء الأم فتكون ديته لها خاصة واعلم أن المراد بهذا كله إذا انفصل الجنين ميتا أما إذا انفصل حيا ثم مات فيجب فيه كمال دية الكبير فإن كان ذكرا وجب مائة بعير وإن كان أنثى فخمسون وهذا مجمع عليه وسواء في هذا كله العمد والخطأ ومتى وجبت الغرة فهي على العاقلة لا على الجاني هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين رضي الله عنهم وقال مالك والبصريون تجب على الجاني وقال الشافعي وآخرون يلزم الجاني الكفارة وقال بعضهم لا كفارة عليه وهو مذهب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما والله أعلم قوله (قضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ثم أن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها)
[ 177 ]
قال العلماء هذا الكلام قد يوهم خلاف مراده فالصواب أن المرأة التي ماتت هي المجني عليها أم الجنين لا الجانية وقد صرح به في الحديث بعده بقوله فقتلتها وما في بطنها فيكون المراد بقول التي قضى عليها بالغرة أي التي قضى لها بالغرة فعبر بعليها عن لها وأما قوله والعقل على عصبتها فالمراد عصبة القاتلة قوله (فرمت احداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بدية المرأة على عاقلتها) وفي الرواية الأخرى أنها ضربتها بعمود فسطاط هذا محمول على حجر صغير وعمود صغير لا يقصد به القتل غالبا فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة ولا يجب فيه قصاص ولا دية على الجاني وهذا مذهب الشافعي والجماهير قوله (فقال حمل بن النابغة الهذلي يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما هذا من اخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع) أما قوله حمل بن النابغة فنسبه إلى جده وهو حمل بن مالك بن
[ 178 ]
النابغة وحمل بفتح الحاء المهملة والميم وأما قوله فمثل ذلك يطل فروى في الصحيحين وغيرهما بوجهين أحدهما يطل بضم الياء المثناة وتشديد اللام ومعناه يهدر ويلغى ولا يضمن والثاني بطل بفتح الباء الموحدة وتخفيف اللام على أنه فعل ماض من البطلان وهو بمعنى الملغى أيضا وأكثر نسخ بلادنا بالمثناة ونقل القاضي أن جمهور الرواة في صحيح مسلم ضبطوه بالموحدة قال أهل اللغة يقال طل دمه بضم الطاء وأطل أي أهدر وأطله الحاكم وطله أهدره وجوز بعضهم طل دمه بفتح الطاء في اللازم وأباها الأكثرون وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) إنما هذا من أخوان الكهان من أجل سجعه وفي الرواية الأخرى سجع كسجع الأعراب فقال العلماء إنما ذم سجعه لوجهين أحدهما أنه عارض به حكم الشرع ورام ابطاله والثاني أنه تكلفه في مخاطبته وهذان الوجهان من السجع مذمومان وأما السجع الذي كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقوله في بعض الأوقات وهو مشهور في الحديث فليسمن هذا لأنه لا يعارض به حكم الشرع ولا يتكلفه فلا نهى فيه بل هو حسن ويؤيد ما ذكرنا من التأويل قوله (صلى الله عليه وسلم) كسجع الأعراب فأشار إلى أن بعض السجع هو المذموم والله أعلم (إن امرأتين من هذيل) وفي رواية امرأة من بني لحيان المشهور كسر اللام في لحيان وروى فتحها ولحيان بطن من هذيل قوله (ضربت امرأة ضرتها) قال أهل اللغة كل واحدة من زوجتي الرجل ضرة للأخرى سميت بذلك لحصول المضارة بينهما في العادة تضرر كل واحدة بالأخرى قوله (فجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دية المقتولة على
[ 179 ]
عصبة القاتلة) هذا دليل لما قاله الفقهاء أن دية الخطأ على العاقلة إنما تختص بعصبات القاتل سوى أبنائه وآبائه قوله (استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في ملاص المرأة) في
[ 180 ]
جميع نسخ مسلم ملاص بكسر الميم وتخفيف اللام وبصاد مهملة وهو جنين المرأة والمعروف في اللغة املاص المرأة بهمزة مكسورة قال اهل اللغة يقال أملصت به وأزلقت به وأمهلت به وأخطأت به كله بمعنى وهو إذا وضعته قبل أوانه وكل ما زلق من اليد فقد ملص بفتح الميم وكسر اللام ملصا بفتحها وأملص أيضا لغتان وأملصته أنا وقد ذكر الحميدي هذا الحديث في الجمع بين الصحيحين فقال املاص بالهمزة كما هو المعروف في اللغة قال القاضي قد جاء ملص الشئ إذا أفلت فإن أريد به الجنين صح ملاص مثل لزم لزاما والله أعلم قوله (حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة قال استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في ملاص المرأة) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم فقال وهم وكيع في هذا الحديث وخالفه أصحاب هشام فلم يذكروافيه المسور وهو الصواب ولم يذكر مسلم غير حديث وكيع وذكر البخاري حديث مخلافه وهو الصواب هذا قول الدارقطني وفي البخاري عن هشام عن أبيه عن المغيرة أن عمر رضي الله عنه سأل عن املاص المرأة ولا بد من ذكر المسور وعروة ليتصل الحديث فإن عروة لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاب الحدود باب حد السرقة ونصابها قال القاضي عياض رضي الله عنه صان الله تعالى الأموال بايجاب القطع على السارق ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغضب لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة ولأنه
[ 181 ]
يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة فإنه تندر إقامة البينة عليها فعظم أمرها واشتدت عقوبتها ليكون أبلغ في الزجر عنها وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة وإن اختلفوا في فروع منه قوله (عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا) وفي رواية قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا وفي رواية لا تقطع اليس إلا في ربع دينار فما فوقه وفي رواية لم تقطع يد السارق في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أقل من ثمن المجن وفي رواية اين عمر رضي الله عنه قال قطع النبي (صلى الله عليه وسلم) سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم وفي رواية أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده أجمع العلماء على قطع يد السارق كما سبق واختلفوا في اشتراط النصاب وقدره فقال أهل الظاهر لا يشترط نصاب بل يقطع في القليل والكثير وبه قال بان بنت الشافعي من أصحابنا وحكاه القاضي عياض عن الحسن البصري والخوارج وأهل الظاهر واحتجوا بعموم قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ولم يخصوا الآية وقال جماهير العلماء ولا تقطع إلا في نصاب لهذه الأحاديث
[ 182 ]
الصحيحة ثم اختلفوا في قدر النصاب فقال الشافعي النصاب ربع دينار ذهبا أو ما قيمته ربع دينار سواء كان قيمته ثلاثة دراهم أو أقل أو أكثر ولا يقطع في أقل منه وبهذا قال كثيرون أو الأكثرون وهو قول عائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث وأبي ثور واسحق وغيرهم وروى أيضا عن داود وقال مالك وأحمد واسحق في رواية تقطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما قيمته أحدهما ولا قطع فيما دون ذلك وقال سليمان بن يسار وابن شبرمة وابن أبي ليلى والحسن في رواية عنه لا تقطع إلا في خمسة دراهم وهو مروى عن عمر بن الخطاب وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تقطع إلا في عشرة دراهم أو ما قيمته ذلك وحكى القاضي عن بعض الصحابة أن النصاب أربعة دراهم وعن عثمان البتي أنه درهم وعن الحسن أنه درهمان وعن النخعي أنه أربعون درهما أو أربعة دنانير والصحيح ما قاله الشافعي وموافقوه لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) صرح ببيان النصاب في هذه الأحاديث من لفظه وأنه ربع دينار وأما باقي التقديرات فمردودة لا أصل لها مع مخالفتها لصريح لهذه الأحاديث وأما رواية أنه (صلى الله عليه وسلم) قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم فمحمولة على أن هذا القدر كان ربع دينار فصاعدا وهي قضية عين لا عموم لها فلا يجوز ترك صريح لفظه (صلى الله عليه وسلم) في تحديد النصاب لهذه الرواية المحتملة بل يجب حملها على موافقة لفظة وكذا الرواية الأخرى لم يقطع
[ 183 ]
يد السارق في أقل من ثمن المجن محمولة على أنه كان ربع دينار ولا بد من هذا التأويل ليوافق صريح تقديره (صلى الله عليه وسلم) وأما ما يحتج به بعض الحنفية وغيرهم من رواية جاءت قطع في مجن قيمته عشرة دراهم وفي رواية خمسة فهي رواية ضعيفة لا يعمل بها لو انفردت فكيف وهي مخالفة لصريح الأحاديث الصحيحة الصريحة في التقدير بربع دينار مع أنه يمكن حملها على أنه كانت قيمته عشرة دراهم اتفاقا لا أنه شرط ذلك في قطع السارق وليس في لفظها ما يدل على تقدير النصاب بذلك وأما رواية لعن الله السارق يسرق البيضة أو الحبل فتقطع يده فقال جماعة المراد بها بيضة الحديد وحبل السفينة وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار وأنكر المحققون هذا وضعفوه فقالوا بيضة الحديد وحبل السفينة لهما قيمة ظاهرة وليس هذا السياق موضع استعمالهما بل بلاغة الكلام تأباه ولأنه لا يذم في العادة من خاطر بيده في شئ له قدر وإنما يذم من خاطر بها فيما لا قدر له فهو موضع تقليل لا تكثير والصواب ان المراد التنبيه على عظيم ما خسر وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة أو أراد جنس البيض وجنس الحبال أو أنه إذا سرق البيضة فلم يقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع فكانت سرقة البيضة هي سبب قطعه أو أن المراد به قد يسرق البيضة أو الحبل فيقطعه بعض الولاه سياسة لا قطعا جائزا شرعا وقيل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال هذا عند نزول آية السرقة مجملة من غير بيان نصاب فقاله على ظاهر اللفظ والله أعلم قوله (ثمن المجن حجفة أو ترس وكلاهما ذو ثمن) المجن بكسر الميم وفتح الجيم وهو إسم لكل
[ 184 ]
ما يستجن به أي يستتر والحجفة بحاء مهملة ثم جيم مفتوحتين هي الدرقة وهي معروفة وقوله حجفة أو ترس هما مجروران بدل من المجن وقوله وكلاهما ذو ثمن إشارة إلى أن القطع لا يكون
[ 185 ]
فيما قل بل يختص بما له ثمن ظاهر وهو ربع دينار كما صرح به في الروايات قوله (صلى الله عليه وسلم) (لعن الله السارق) هذا دليل لجواز لعن غير المعين من العصاة لأنه لعن للجنس لا لمعين ولعن الجنس جائز كما قال الله تعالى لعنة الله على الظالمين وأما المعين فلا يجوز لعنه قال القاضي وأجاء بعضهم ل لعن المعين ما لم يحد فإذا حد لم يجز لعنه فإن الحدود كفارات لأهلها قال القاضي وهذا التأويل باطل للأحاديث الصحيحة في النهي عن اللعن فيجب حمل النهي على المعين ليجمع بين الأحاديث والله أعلم قال العلماء والحرز مشروط فلا قطع إلا فيما سرق من حرز والمعتبر فيه العرف مما عده أهل العر ف حرز لذلك الشئ فهو حرز له ومالا فلا وخالفهم داود فلم يشترط الحرز قالوا ويشترط أن يكون للسارق في المسروق شبهة فإن كانت لم يقطع ويشترط أن يطالب المسروق منه بالمال وأجمعوا على أنه إذا سرق أولا قطعت يده اليمنى قال الشافعي ومالك وأهل المدينة والزهري وأحمد وأبو ثور وغيرهم فإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإذ سرق ثالثا قطعت يده اليسرى فإن سرق رابعا قطعت رجله اليمنى فإن سرق بعد ذلك عزر ثم كلما سرق عزر قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك والجماهير تقطع اليد من الرسغ وهو المفصل بين الكف والذراع وتقطع الرجل من المفصل بين الساق والقدم وقال علي رضي الله عنه تقطع الرجل من شطر القدم وبه قال أحمد وأبو ثور وقال بعض السلف تقطع اليد من المرفق وقال بعضهم من المنكب والله أعلم
[ 186 ]
باب قطع السارق الشريف وغيره (والنهي عن الشفاعة في الحدود) ذكر مسلم رضي الله عنه في الباب الأحاديث في النهي عن الشفاعة في الحدود وأن ذلك هو سبب هلاك بني إسرائيل وقد أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام لهذه الأحاديث وعلى أنه يحرم التشفيع فيه فأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس فإن كان لم يشفع فيه وأما المعاصي التي لا حد فيها وواجبها التعزيز فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها سواء بلغت الإمام أم لا لأنها أهون ثم الشفاعة فيها مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب أذى ونحوه قوله (ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) هو بكسر الحاء أي محبوبه ومعنى يجترئ يتجاسر عليه بطريق الا دلال وفي هذا منقبة ظاهرة لأسامة رضي الله عنه قوله (صلى الله عليه وسلم) (وايم الله لو أن فاطمة) فيه دليل لجواز الحلف من غير استحلاف وهو مستحب إذا كان فيه تفخيم
[ 187 ]
لأمر مطلوب كما في الحديث وقد كثرت نظائره في الحديث وسبق في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في الحلف باسم الله قوله (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلموه) الحديث قال العلماء المراد أنها
[ 188 ]
قطعت بالسرقة وإنما ذكرت العارية تعريفا لها ووصفا لها لا أنها سبب القطع وقد ذكر مسلم هذا الحديث في سائر الطرق المصرحة بأنها سرقت وقطعت بسبب السرقة فيتعين حمل هذه الرواية على ذلك جمعا بين الروايات فإنها قضية واحدة مع أن جماعة من الأئمة قالوا هذه الرواية شاذة فإنها مخالفة لجماهير الرواة والشاذة لا يعمل بها قال العلماء وإنما لم يذكر السرقة في هذه الرواية لأن المقصود منها عند الراوي ذكر منع الشفاعة في الحدود لا الاخبار عن السرقة قال جماهير العلماء وفقهاء الأمصار لا قطع على من جحد العارية وتأولوا هذا الحديث بنحو ما ذكرته وقال أحمد وإسحق يجب القطع في ذلك باب حد الزنا قوله (صلى الله عليه وسلم) (خذوا عني خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) أما قوله (صلى الله عليه وسلم) فقد جعل الله لهن سبيلا فإشارة إلى قوله تعالى فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا
[ 189 ]
فبين النبي (صلى الله عليه وسلم) أن هذا هو ذلك السبيل واختلف العلماء في هذه الآية فقيل هي محكمة وهذا الحديث مفسر لها وقيل منسوخة بالآية التي في أول سورة النور وقيل أن آية النور في البكرين وهذه الآية في الثيبين وأجمع العلماء على وجوب جلد الزاني البكر مائة ورجم المحصن وهو الثيب ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة إلا ما حكى القاضي عياض وغيره عن الخوارج وبعض العتزلة كالنظام وأصحابه فإنهم لم يقولوا بالرجم واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم فقالت طائفة يجب الجمع بينهما فيجلد ثم يرجم وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري وإسحق بن راهويه وداود وأهل الظاهر وبعض أصحاب الشافعي وقال جماهير العلماء الواجب الرجم وحده وحكى القاضي عن طائفة من أهل الحديث أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخا ثيبا فإن كان شابا ثيبا اقتصر على الرجم وهذا مذهب باطل لا أصل له وحجة الجمهور ان النبي (صلى الله عليه وسلم) اقتصر على رجم الثيب في احاديث كثيرة منها قصة ماعز وقصة المرأة الغامدية وفي قوله (صلى الله عليه وسلم) واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها قالوا وحديث الجمع بين الجلد والرجم منسوخ فإنه كان في أول الأمر وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) في البكر ونفي سنة ففيه حجة للشافعي والجماهير أنه يجب نفيه سنة رجلا كان أو امرأة وقال الحسن لا يجب النفي وقال مالك والأوزاعي لا نفي على النساء وروى مثله عن علي رضي الله عنه وقالوا لأنها عورة وفي نفيها تضييع لها وتعريض لها للفتنة ولهذا نهيت عن المسافرة إلا مع محرم وحجة الشافعي قوله (صلى الله عليه وسلم) البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي أحدها يغرب كل واحد منهما سنة لظاهر الحديث وبهذا قال سفيان الثوري وأبو ثور وداود وابن جرير والثاني يغرب نصف سنة لقوله تعالى إذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وهذا أصح الأقوال عند أصحابنا وهذه الآية مخصصة لعموم الحديث والصحيح عند الأصوليين جواز تخصيص السنة بالكتاب لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب فتخصيص السنة باولى والثالث لا يغرب المملوك اصلا وبه قال الحسن البصري وحماد ومالك وأحمد وإسحق لقوله (صلى الله عليه وسلم) في الأمة إذا زنت فليجلدها ولم يذكر النفي ولأن نفيه يضر سيده مع أنه لا جناية من سيده وأجاب أصحاب الشافعي عن حديث الأمة إذا زنت أنه ليس فيه تعرض للنفي والآية ظاهرة في وجوب النفي فوجب العمل بها وحمل الحديث على موافقتها
[ 190 ]
والله أعلم وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (البكر بالبكر والثيب بالثيب) فليس هو على سبيل الإشتراط بل حد البكر الجلد والتغريب سواء زنى ببكر أم بثيب وحد الثيب الرجم سواء زنى بثيب أم ببكر فهو شبيه بالتقييد الذي يخرج على الغالب وأعلم أن المراد بالبكر من الرجال والنساء من لم يجامع في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل سواء كان جامع بوطء شبهة أو نكاح فاسد أو غيرهما أم لا والمراد بالثيب من جامع في دهره مرة من نكاح صحيح وهو بالغ عاقل حر والرجل والمرأة في هذا سواء والله أعلم وسواء في كل هذا المسلم والكافر والرشيد والمحجور عليه لسفه والله أعلم قوله (حدثنا عمرو الناقد حدثنا هشيم أخبرنا منصور بهذا الإسناد) في هذا الكلام فائدتان احداهما بيان أن الحديث روى من طريق آخر فيزداد قوة والثانية أن هشيما مدلس وقد قال في الرواية الاولى وعن منصور بين في الثانية أنه سمعه من منصور وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات قوله (كان نبي الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه) هو بضم الكاف وكسر الراء وتربد وجهه) هو بضم الكاف أي علته غبرة والربد تغير البياض إلى السواد وإنما حصل له ذلك لعظم موقع الوحي قال الله تعالى سنلقي عليك قولا ثقيلا قوله (صلى الله عليه وسلم) (ثم رجم بالحجارة) التقيد بالحجارة للإستحباب ولو رجم بغيرها جاز
[ 191 ]
وهو شبيه بالتقييد بها في الاستنجاء قوله (فكان مما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناه) أراد بآية الرجم الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة وهذا مما نسخ لفظه وبقي حكمه وقد وقع نسخ حكم دون اللفظ وقد وقع نسخهما جميعا فما نسخ لفظه ليس له حكم القرأن في تحريمه على الجنب ونحو ذلك وفي ترك الصحابة كتابة هذه الآية دلالة ظاهرة أن المنسوخ لا يكتب في المصحف وفي إعلان عمر بالرجم وهو على المنبر وسكوت الصحابة وغيرهم من الحاضرين عن مخالفته بالانكار دليل على ثبوت الرجم وقد يستدل به على أنه لا يجلد مع الرجم وقد تمتنع دلالته لأنه لم يتعرض للجلد وقد ثبت في القرآن والسنة قوله (فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة) هذا الذي خشيه قد وقع من الخوارج ومن وافقهم كما سبق بيانه وهذا من كرامات عمر رضي الله عنه
[ 192 ]
ويحتمل أنه علم ذلك من جهة النبي (صلى الله عليه وسلم) قوله (وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا على من زنى وهو محصن وسبق بيان صفة المحصن وأجمعوا على أنه إذا قامت البينة بزناه وهو محصن يرجم وأجمعوا على أن البينة أربعة شهداء ذكور عدول هذا إذا شهدوا على نفس الزنا ولا يقبل دون الأربعة وإن اختلفوا في صفاتهم وأجمعوا على وجوب الرجم على من اعترف بالزنا وهو محصن يصح إقراره بالحد واختلفوا في اشتراط تكرار إقراره أربع مرات وسنذكره قريبا إن شاء الله تعالى وأما الحبل وحده فمذهب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وجوب الحد به إذا لم يكن لها زوج ولا سيد وتابعه مالك وأصحابه فقالوا إذا حبلت ولم يعلم لها زوج ولا سيد ولا عرفنا اكراهها لزمها الحد إلا أن تكون غريبة طارئة وتدعى أنه من زوج أو سيد قالوا ولا تقبل دعواها إلا كراه إذا لم تقم بذلك مستغيثة عند الإكراه قبل ظهور الحمل وقال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء لا حد عليها بمجرد الحبل سواء كان لها زوج أو سيد أم لا سواء الغريبة وغيرها وسواء ادعت الإكراه أم سكتت فلا حد عليها مطلقا إلا ببينة أو اعتراف لأن الحدود تسقط بالشبهات قوله في الرجل الذي اعترف بالزنا فأعرض عنه النبي (صلى الله عليه وسلم) فجاءه من جوانبه حتى أقر أربع مرات فسأله النبي (صلى الله عليه وسلم) هل به جنون فقال لا فقال هل أحصنت قال نعم فقال اذهبوا به فارجموه احتج به أبو حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وموافقوهما في أن الاقرار
[ 193 ]
بالزنا لا يثبت ويرجم به المقر حتى يقر أربع مرات وقال مالك والشافعي وآخرون يثبت الاقرار به بمرة واحدة ويرجم واحتجوا بقوله (صلى الله عليه وسلم) واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يشترط عددا وحديث الغامدية ليس فيه اقرارها أربع مرات واشترط ابن أبي ليلى وغيره من العلماء اقراره أربع مرات في أربع مجالس قوله (صلى الله عليه وسلم) (أبك جنون) إنما قاله ليتحقق حاله فإن الغالب أن الإنسان لا يصر على الاقرار بما يقتضي قتله من غير سؤال مع أن له طريقا إلى سقوط الإثم بالتوبة وفي الرواية الأخرى أنه سأل قومه عنه فقالوا ما نعلم به بأسا وهذا مبالغة في تحقق حاله وفي صيانة دم المسلم وفيه إشارة إلى أن اقرار المجنون باطل وأن الحدود لا تجب عليه وهذا كله مجمع عليه قوله (صلى الله عليه وسلم) (هل أحصنت) فيه أن الإمام يسأل عن شروط الرجم من الاحصان وغيره سواء ثبت بالاقرار أم بالبينة وفيه مؤاخذة الإنسان باقراره قوله (حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات) هو بتخفيف النون أي كرره أربع مرات وفيه التعريض للمقر بالزنا بأن يرجع ويقبل رجوعه بلا خلاف قوله (صلى الله عليه وسلم) (اذهبوا به فارجموه) فيه جوار استنابة الإمام من يقيم الحد قال العلماء لا يستوفي الحد إلا الإمام أو من فوض ذلك إليه وفيه دليل على أنه يكفي الرجم ولا يجلد معه وقد سبق بيان الخلاف في هذا قوله (فرجمناه
[ 194 ]
بالمصلى) قال البخاري وغيره من العلماء فيه دليل على أن مصلى الجنائز والأعياد إذا لم يكن قد وقف مسجدا لا يثبت أم حكم المسجد إذ لو كان له حكم المسجد تجنب الرجم فيه وتلطخه بالدماء والميتة قالوا والمراد بالمصلى هنا مصلى الجنائز ولهذا قال في الرواية الأخرى في بقيع الغرقد وهو موضع الجنائز بالمدينة وذكر الدارمي من أصحابنا أن المصلى الذي للعيد ولغيره إذا لم يكن مسجدا هل يثبت له حكم المسجد فيه وجهان أصحهما ليس له حكم المسجد والله أعلم قوله (فلما أذلقته الحجارة هرب) هو بالذال المعجمة وبالقاف أي أصابته بحدها قوله (فأدركناه بالحرة فرجمناه) اختلف العلماء في المحصن إذا اقر بالزنا فشرعوا في رجمه ثم هرب هل يترك أم يتبع ليقام عليه الحد فقال الشافعي وأحمد وغيرهما يترك ولا يتبع لكي أن يقال له بعد ذلك فإن رجع عن الاقرار ترك وإن أعاد رجم وقال مالك في رواية وغيره أنه يتبع ويرجم واحتج الشافعي وموافقوه بما جاء في رواية أبي داود أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال ألا تركتموه حتى أنظر في شأنه وفي رواية هلا تركتموه فلعله يتوب فيتوب الله عليه واحتج الآخرون بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يلزمهم
[ 195 ]
ذنبه مع أنهم قتلوه بعد هربه وأجاب الشافعي وموافقوه عن هذا بأنه لم يصرح بالرجوع وقد ثبت اقراره فلا يتركه حتى يصرح بالرجوع قالوا وإنما قلنا لا يتبع في هربه لعله يريد الرجوع ولم نقل أنه سقط الرجم بمجرد الهر ب والله أعلم قوله (رجل قصير أعضل) هو بالضاد المعجمة أي مشتد الخلق قوله (صلى الله عليه وسلم) فلعلك قال لا والله إنه قد زنى الأخر) معنى هذا الكلام الإشارة إلى تلقينه الرجوع عن الاقرار بالزنا واعتذاره بشبهة يتعلق بها كما جاء في الرواية الأخرى لعلك قبلت أو غمزت فاقتصر في هذه الرواية على لعلك اختصارا وتنبيها واكتفاء بدلالة الكلام والحال على المحذوف أي لعلك قبلت أو نحو ذلك ففيه استحباب تلقين المقر بحد الزنا والسرقة وغيرهما من حدود الله تعالى وأنه يقبل رجوعه عن ذلك لأن الحدود مبنية على المساهلة والدرء بخلاف حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى المالية كالزكاة والكفارة وغيرهما لا يجوز التلقين فيها ولو رجع لم يقبل رجوعه وقد جاء تلقين الرجوع عن الاقرار بالحدود عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم واتفق العلماء عليه قوله (إنه قد زنى الأخر) هو بهمزة مقصورة وخاء مكسورة ومعناه الأرذل والأبعد والأدنى وقيل اللئيم وقيل الشقي وكله متقارب ومراده نفسه فحقرها وعابها لا سيما وقد فعل هذه الفاحشة وقيل إنها كناية يكنى بها عن نفسه وعن غيره إذا أخبر عنه بما يستقبح قوله (صلى الله عليه وسلم) (ألا كلما نفرنا في سبيل الله خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح أحدهم الكثبة) وفي بعض النسخ أحداهن بدل أحدهم ونبيب التيس صوته عند السفاد ويمنح بفتح الياء والنون أي يعطى والكثبة بضم الكاف واسكان
[ 196 ]
المثلثة القليل من اللبن وغيره قوله (أتى برجل قصير أشعث ذي عضلات) هو بفتح العين والضاد قال أهل اللغة العضلة كل لحمة صلبة مكتنزة قوله (تخلف أحدكم ينب) هو بفتح الياء وكسر النون وتشديد الباء الموحدة قوله (صلى الله عليه وسلم) (ألا جعلته نكالا) أي عظة وعبرة لمن بعده بما أصبته منه من العقوبة ليمتنعوا من تلك الفاحشة قوله (صلى الله عليه وسلم) لماعز (أحق ما بلغني عنك قال وما بلغك عني قال بلغني عنك أنك وقعت بجارية آل فلان قال نعم فشهد أربع شهادات ثم أمر به فرجم) هكذا وقع في هذه الرواية المشهورة في باقي الروايات أنه
[ 197 ]
أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال طهرني قال العلماء لا تناقض بين الروايات فيكون قد جئ به إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) من غير استدعاء من النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد جاء في غير مسلم أن قومه أرسلوه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) للذي أرسله لو سترته بثوبك يا هزال لكان خيرا لك وكان ماعز عند هزال فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لماعز بعد أن ذكر له الذين حضروا معه ما جرى له أحق ما بلغني عنك إلى آخره قوله (فما أوثقناه ولا حفرنا له) وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم وذكر بعده في حديث الغامدية ثم أمر بها فحفر لها إلى صدر هو أمر الناس فرجموها أما قوله فما أوثقناه فهكذا الحكم عند الفقهاء وأما الحفظ للمرجوم والمرجومة ففيه مذاهب للعلماء قال مالك وأبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهم في المشهور عنهم لا يحفر لواحد منهما وقال قتادة وأبو ثور وأبو يوسف وأبو حنيفة في رواية يحفر لهما وقال بعض المالكية يحفر لمن يرجم بالبينة لا من يرجم بالاقرار وأما أصحابنا فقالوا لا يحفر للرجل سواء ثبت زناه بالبينة أم بالاقرار وأما المرأة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا أحدها يستحب الحفر لها إلى صدرها ليكون أستر لها والثاني لا يستحب ولا يكره بل هو إلى خيرة الإمام والثالث وهو الأصح أن ثبت زناها بالبينة استحب وإن ثبت بالاقرار فلا ليمكنها الهرب أن رجعت فمن قابالحفر لهما احتج بأنه حفر للغامدية وكذا لماعز في رواية ويجيب هؤلاء عن الرواية الأخرى في ماعز أنه لم يحفر له أن المراد حفيرة عظيمة أو غير ذلك من تخصيص الحفيرة وأما من قال لا يحفر فاحتج برواية من روى فما أوثقناه ولا حفرنا له وهذا المذهب ضعيف لأنه
[ 198 ]
منابذ لحديث الغامدية ولرواية الحفر لماعز وأما من قال بالنحيير فظاهر وأما من فرق بين الرجل والمرأة فيحمل رواية الحفر لماعز على أنه لبيان الجواز وهذا تأويل ضعيف ومما احتج به من ترك الحفر حديث اليهوديين المذكور بعد هذا وقوله جعل يجنأ عليها ولو حفر لهما لم يجنأ عليها واحتجوا أيضا بقوله في حديث ماعز فلما أذلقته الحجارة هرب وهذا ظاهر في أنه لم تكن حفرة والله أعلم قوله (فر مبناه بالعظام والمدر والخزف) هذا دليل لما اتفق عليه العلماء أن الرجم يحصل بالحجر أو المدر أو العظام أو الخزف أو الخشب وغير ذلك مما يحصل به القتل ولا تتعين الاحجار وقد قدمنا أن قوله (صلى الله عليه وسلم) ثم رجما بالحجارة ليس هو للاشتراط قال أهل اللغة الخزف قطع الفخار المنكسر قوله (حتى أتي عرض الحرة) هو بضم العين أي جانبها قوله (فرميناه بجلاميد أي الحجارة الكبار واحدها جلد بفتح الجيم والميم وجلودها بضم الجيم قوله حتى سكت) هو بالتاء في آخره هذا هو المشهور في الروايات قال القاضي ورواه بعضهم سكن بالنون والأول الصواب ومعناهما مات قوله (فما استغفر له ولا سبه) أما عدم السب فلأن الحد كفارة له مطهرة له من معصيته وأما عدم الاستغفار
[ 199 ]
فلئلا يغتر غيره فيقع في الزنا اتكالا على استغفاره (صلى الله عليه وسلم) قوله (جاء ماعز بن مالك إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني إلى آخره) ومثله في حديث الغامدية قالت طهرني قال ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه هذا دليل على أن الحد يكفر ذنب المعصية التي حد لها وقد جاء ذلك صريحا في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عند وهو قوله (صلى الله عليه وسلم) من فعل شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارته ولا نعلم في هذا خلافا وفي هذا الحديث دليل على سقوط إثم المعاصي الكبائر بالتوبة وهو بإجماع المسلمين إلا ما قدمناه عن ابن عباس في توبة القاتل خاصة والله أعلم فإن قيل فما بال ماعز والغامدية لم يقنعا بالتوبة وهي محصلة لغرضهما وهو سقوط الإثم بل أصر على الاقرار واختارا الرجم فالجواب أن تحصيل البراءة بالحدود وسقوط الإثم متيقن على كل حال لا سيما وإقامة الحد بأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) وأما التوبة فيخاف أن لا تكون نصوحا وأن يخل بشئ من شروطها فتبقى المعصية وإثمها دائما عليه فأرادا حصول البراءة بطريق متيقن دون ما يتطرق إليه احتمال والله أعلم وروينا عن الحسن البصري قال ويح كلمة رحمة والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم)
[ 200 ]
(فيم أطهرك قال من الزنا) هكذا هو في جميع النسخ فيم بالفاء والياء وهو صحيح وتكون في هنا للسببية أي بسبب ماذا أطهرك قوله في اسناد هذا الحديث (حدثنا محمد بن العلاء الهمداني قال حدثنا يحيى بن يعلى وهو ابن الحارث المحاربي عن غيلان وهو ابن جامع المحاربي عن علقمة) هكذا في النسخ عن يحيى بن يعلى عن غيلان قال القاضي والصواب ما وقع في نسخة الدمشقي عن يحيى بن يعلى عن أبيه عن غيلان فزاد في الاسناد عن أبيه وكذا أخرجه أبو داود في كتاب السنن والنسائي من حديث يحيى بن يعلى عن أبيه عن غيلان وهو الصواب وقد نبه عبد الغني على الساقط من هذا الاسناد في نسخة أبي العلاء بن ماهان ووقع في كتاب الزكاة من السنن لأبي داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى حدثنا أبي حدثنا غيلان عن جعفر عن مجاهد عن ابن عباس قال لما نزلت يكنزون الذهب والفضة الآية فهذا السند يشهد بصحة ما تقدم قال البخاري في تاريخ يحيى بن يعلى سمع أباه وزائدة بن قدامة هذا آخر كلام القاضي وهو صحيح كما قال ولم يذكر أحد سماعا ليحيى بن يعلى هذا من غيلان بل قالوا سمع أباه وزائدة قوله (فقال أشرب خمرا فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر) مذهبنا الصحيح المشهور صحة اقرار السكران ونفوذ أقواله فيما له وعليه والسؤال عن شربه الخمر محمو عندنا أنه لو كان سكران لم يقم عليه الحد ومعنى استنكهه أي شم رائحة فمه واحتج أصحاب مالك وجمهور الحجازيين أنه يحد من وجد منه ريح الخمر وإن لم تقم عليه بينة بشربها ولا أقر به ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما لا يحد بمجرد ريحها بل لا بد من بينة على شربه أو اقراره وليس
[ 201 ]
في هذا الحديث دلالة لأصحاب مالك قوله (جاءت امرأة من غامد) هي بغين معجمة ودال مهملة وهي بطن من جهينة قوله (فقال لها حتى تضعي ما في بطنك) فيه أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع سواء كان حملها من زنا أو غيره وهذا مجمع عليه لئلا يقتل جنينها وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل لم تجلد بالاجماع حتى تضع وفيه أن المرأة ترجم إذا زنت وهي محصنة كما يرجم الرجل وهذا الحديث محمول على أنها كانت محصنة لأن الأحاديث الصحيحة والاجماع متطابقان على أنه لا يرجم غير المحصن وفيه أن من وجب عليها قصاص وهي حامل لا يقتص منها حتى تضع وهذا مجمع عليه ثم لا ترجم الحامل الزانية ولا يقتص منها بعد وضعها حتى تسقي ولدها اللبأ ويستغنى عنه بلبن غيرها وفيه أن الحمل يعرف ويحكم به وهذا هو الصحيح في مذهبنا قوله (فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت) أي قام بمؤنتها ومصالحها وليس هو من الكفالة التي هي بمعنى الضمان لأن هذا لا يجوز في الحدود التي لله تعالى قوله (لما وضعت قيل قد وضعت الغامدية فقال
[ 202 ]
النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال الى رضاعه يا نبي الله قال فرجمها) وفي الرواية الأخرى أنها لما ولدت جاءت بالصبي في خرقة قالت هذا قد ولدته قال فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت يا نبي الله هذا قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فرجموها فهاتان الروايتان ظاهرهما الإختلاف فإن الثانية صريحة في أن رجمها كان بعد فطامه وأكله الخبز والأولى ظاهرها أنه رجمها عقب الولادة ويجب تأويل الأولى وحملها على وفق الثانية لأنها قضية واحدة والروايتان صحيحتان والثانية منهما صريحة لا يمكن تأويلها والأولى ليست صريحة فيتعين تأويل الأولى ويكون قوله في الرواية الأولى قام رجل من الأنصار فقال إلى رضاعه إنما قاله بعد الفطام وأراد بالرضاعة كفالته وتربيته وسماه رضاعا مجازا وأعلم أن مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والمشهور من مذهب مالك أنها لا ترجم حتى تجد من ترضعه فإن لم تجد أرضعته حتى تفطمه ثم رجمت وقال أبو حنيفة ومالك في رواية عنه إذا وضعت رجمت ولا ينتظر حصول مرضعة وأما هذا الأنصاري الذي كفلها فقصد مصلحة وهو الرفق بها ومساعدتها على تعجيل طهارتها بالحد لما رأى بها من الحرص
[ 203 ]
التام على تعجيل ذلك قال أهل اللغة الفطام قطع الإرضاع لاستغناء الولد عنه قوله (قال مالا فاذهبي حتى تلدي) هو بكسر الهمرة من أما وتشديد الميم وبالإمالة ومعناه إذا أبيت أن تستري على نفسك وتتوبي وترجعي عن قولك فاذهبي حتى تلدي فترجمين بعد ذلك وقد سبق شرح هذه اللفظة مبسوطا قوله (فتنضح الدم على وجه خالد) روى بالحاء المهملة وبالمعجمة والأكثرون على المهملة ومعناه ترشش وانصب قوله (صلى الله عليه وسلم) (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له) فيه أن المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده وتكرر ذلك منه وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها وصرفها في غير وجهها وفيه أن توبة الزاني لا تسقط عنه حد الزنا وكذا حكم حد السرقة والشرب
[ 204 ]
هذا أصح القولين في مذهبنا ومذهب مالك والثاني أنها تسقط ذلك وأما توبة المحارب قبل القدرة عليه فتسقط حد المحاربة بلا خلاف عندنا وعند ابن عباس وغيره لا تسقط قوله (ثم أمر بها فصلى عليها ثم دفنت) وفي الرواية الثانية أمر بها النبي (صلى الله عليه وسلم) فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر تصلى عليها يا نبي الله وقد زنت أما الرواية الثانية فصريحة في أن النبي (صلى الله عليه وسلم) صلى عليها وأما الرواية الأولى فقال القاضي عياض رضي الله عنه هي بفتح الصاد واللام عند جماهير رواة صحيح مسلم قال وعند الطبري بضم الصاد قال وكذا هو في رواية ابن أبي شيبة وأبي داود قال وفي رواية لأبي داود ثم أمرهم أن يصلوا عليها قال القاضي ولم يذكر مسلم صلاته (صلى الله عليه وسلم) على ماعز وقد ذكرها البخاري وقد اختلف العلماء في الصلاة على المرجوم فكرهها مالك وأحمد للإمام ولأهل الفضل دون باقي الناس ويصلي عليه غير الإمام وأهل الفضل قال الشافعي وآخرون يصل عليه الإمام وأهل الفضل وغيرهم والخلاف بين الشافعي ومالك إنما هو في الإمام وأهل الفضل وأما غيرهم فاتفقا على أنه يصلي وبه قال جماهير العلماء قالوا فيصلى على الفساق والمقتولين في الحدود والمحاربة وغيرهم وقال الزهري لا يصلى أحد على المرجوم وقاتل نفسه وقال قتادة لا يصلي على ولد الزنا واحتج الجمهور بهذا الحديث وفيه دلالة للشافعي أن الإمام وأهل الفضل يصلون على المرجوم كما يصلي عليه غيرهم وأجاب أصحاب مالك عنه بجوابين أحدهما أنهم ضعفوا رواية الصلاة لكون أكثر الرواة لم يذكروها والثاني تأولوها على أنه (صلى الله عليه وسلم) أمر بالصلاة أو دعا فسمى صلاة على مقتضاها في اللغة وهذان الجوابان فاسدان أما الأول فإن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح وزيادة الثقة مقبولة وأما الثاني فهذا التأويل مردود لأن التأويل إنما يصار إليه إذا اضطربت الأدلة الشرعية إلى ارتكابه وليس هنا شئ من ذلك فوجب حمله على ظاهره والله
[ 205 ]
أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم) لولي الغامدية (أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها) هذا الإحسان له سببان أحدهما الخوف عليها من أقاربها أن تحملهم الغيرة ولحوق العار بهم أن يؤذوها فأوصى بالإحسان إليها تحذيرا لهم من ذلك والثاني أمر به رحمة لها إذ قد ثابت وحرص على الإحسان إليها لما في نفو س الناس من النفرة من مثلها واسماعها الكلام المؤذي ونحو ذلك فنهى عن هذا كله قوله (فأمر بها فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت) هكذا هو في معظم النسخ فشكت وفي بعضها فشدت بالدال بدل الكاف وهو معنى الأول وفي هذا استحباب جمع أثوابها عليها وشدها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلبها وتكرار اضطرابها واتفق العلماء على أنه لا ترجم إلا قاعدة وأما الرجل فجمهورهم على أنه يرجم قائما وقال مالك قاعدا وقال غيره يخير الإمام بينهما قوله في بعض الروايات (فأمر بها فرجمت) وفي بعضها وأمر الناس فرجموها وفي حديث ماعز أمرنا أن نرجمه ونحو ذلك فيها كلها دلالة لمذهب الشافعي ومالك وموافقيهما أنه لا يلزم الإمام حضور الرجم وكذا لو ثبت بشهود لم يلزمه الحضور وقال أبو حنيفة
[ 206 ]
وأحمد يحضر الإمام مطلقا وكذا الشهود أن ثبت ببينة ويبدأ الإمام بالرجم إن ثبت بالاقرار وإن ثبت بالشهود بدأ الشهود وحجة الشافعي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يحضر أحدا ممن رجم والله أعلم قوله (أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله) معنى أنشدك أسألك رافعا نشيدي وهو صوتي وهو بفتح الهمزة وضم الشين وقوله بكتاب الله أي بما تضمنه كتاب الله وفيه أنه يستحب للقاضي أن يصبر على من يقول من جفاة الخصوم أحكم بالحق بيننا ونحو ذلك قوله (فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه) قال العلماء يجوزأن يكون أراد انه بالإضافة أكثر فقها منه ويحتمل أن المراد أفقه منه في هذه القضية لوصفه إياها على وجهها ويحتمل أنه لأدبه واستئذانه في الكلام وحذره من الوقوع في النهي في قوله تعالى تقدموا بين يدي الله ورسوله بخلاف خطاب الأول في قوله أنشدك الله إلى آخره فإنه من جفاء الأعراب قوله (إنا إن ابني كان عسيفا على هذا) هو بالعين والسين المهملتين أي أجيرا وجمعه عسفاء كأجير وأجراء وفقيه وفقهاء قوله (صلى الله عليه وسلم) (لأقضين بينكما بكتاب الله) يحتمل أن المراد بحكم الله وقيل هو إشارة إلى قوله تعالى يجعل الله لهن سبيلا وفسر النبي (صلى الله عليه وسلم) السبيل بالرجم في حق المحصن كما سبق في حديث عبادة بن الصامت وقيل هو إشارة إلى آية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما وقد سبق أنه مما نسخت تلاوته وبقى حكمه فعلى هذا يكون الجلد قد أخذه من قوله تعالى الزانية والزاني وقيل المراد نقض صلحهما الباطل على الغنم والوليدة قوله (فسألت أهل العلم) فيه جواز استفتاء غير النبي (صلى الله عليه وسلم) في زمنه لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم ينكر
[ 207 ]
ذلك عليه وفيه جواز استفتاء المفضول مع وجود أفضل منه قوله (صلى الله عليه وسلم) (الوليده والغنم رد) أي مردودة ومعناه يجب ردها اليك وفي هذا أن الصلح الفاسد يرد وأن أخذ المال فيه باطل يجب رده وأن الحدود لاتقبل الفداء قوله (صلى الله عليه وسلم) (وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام) هذا محمول على أن الابن كان بكرا وعلى أنه اعترف وإلا فإقرار الأب عليه لا يقبل أو يكون هذا إفتاء أي إن كان ابنك زنى وهو بكر فعليه جلد مائة وتغريب عام قوله (صلى الله عليه وسلم) (واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فأمر بها فرجمت) أنيس هذا صحابي مشهور وهو أنيس بن الضحاك الأسلمي معدود في الشاميين وقال ابن عبد البر هو أنيس بن مرثد والأول هو الصحيح المشهور وأنه أسلمي والمرأة أيضا أسلمية واعلم أن بعث أنيس محمول عند العلماء من أصحابنا وغيرهم على إعلام المرأة بأن هذا الرجل قذفها بابنه فيعرفها بأن لها عنده حد القذف فتطالب به أو تعفو عنه إلا أن تعترف بالزنا فلا يجب عليه حد القذف بل يجب عليها حد الزنا وهو الرجم لأنها كانت محصنة فذهب إليها أنيس فاعترفت بالزنا فأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) برجمها فرجمت ولا بد من هذا التأويل لأن ظاهره أنه بعث لإقامة حد الزنا وهذا غير مراد لأن حد الزنا لا يحتاج له بالتجسس والتفتيش ش عنه بل لو أقر به الزاني استحب ان يلقن الرجوع كما سبق فحينئذ يتعين التأويل الذي ذكرناه وقد اختلف أصحابنا
[ 208 ]
في هذا البعث هل يجب على القاضي إذا قذف إنسان معين في مجلسه أن يبعث إليه ليعرفه بحقه من حد القذف أم لا يجب والأصح وجوبه وفي هذا الحديث أن المحصن يرجم ولا يجلد مع الرجم وقد سبق بيان الخلاف فيه قوله (إن النبي (صلى الله عليه وسلم) أتي بيهودي ويهودية قد زنيا إلى قوله فرجما) في هذا دليل لوجوب حد الزنا على الكافر وأنه يصح نكاحه لأنه لا يجب الرجم إلا على حصن فلو لم يصح نكاحه لم يثبت إحصانه ولم يرجم وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع وهو الصحيح وقيل لا يخاطبون بها وقيل أنهم مخاطبون بالنهي دون الأمر وفيه أن الكفار إذا تحاكموا إلينا حكم القاضي بينهم بحكم شرعنا وقال مالك لا يصح إحصان الكافر قال وإنما رجمهما لأنهما لم يكونا أهل ذمة وهذا تأويل باطل لأنهمكانا من أهل العهد ولأنه رجم المرأة والنساء لا يجوز قتلهن مطلقا قوله (صلى الله عليه وسلم) (فقال ما تجدون في التوراة) قال العلماء هذا السؤال ليس لتقليدهم ولا لمعرفة الحكم منهم فإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم ولعله (صلى الله عليه وسلم) قد أوحى إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيروا أشياء أو أنه أخبره بذلك من أسلم منهم ولهذا لم يخف ذلك عليه حين كتموه قوله (نسود وجوههما ونحملهما) هكذا هو في أكثر النسخ نحملهما بالحاء واللام وفي بعضها نجملهما بالجيم وفي بعضها نحممهما بميمين وكله متقارب فمعنى الأول نحملهما على الحمل ومعنى الثاني نجملهما جميعا على الجمل ومعنى الثالث نسود وجوههما بالحمم بضم الحاء وفتح الميم وهو الفحم وهذا الثالث ضعيف لأنه قال قبله نسود وجوههما فإن قيل كيف رجم اليهوديان
[ 209 ]
بالبينة أم بالاقرار قلنا الظاهر أنه بالاقرار وقد جاء في سنن أبي داود وغيره أنه شهد عليهما أربعة
[ 210 ]
أنهم رأوا ذكره في فرجها فإن صح هذا فإن كان الشهود مسلمين فظاهر وإن كانوا كفارا فلا اعتبار بشهادتهم ويتعين أنهما أقرا بالزنا قوله (رجم رجلا من اليهود وامرأته) أي صاحبته التي زنا
[ 211 ]
بها ولم يرد زوجته وفي رواية وامرأة قوله (صلى الله عليه وسلم) (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها) التثريب التوبيخ واللوم على الذنب ومعنى تبين زناها تحققه أما بالبينة وأما برؤية أو علم عند من يجوز القضاء بالعلم في الحدود وفي هذا الحديث دليل على وجوب حد الزنا على الاماء والعبيد وفيه أن السيد يقيم الحد على عبده وأمته وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وقال أبو حنيفة رضي الله عنه في طائفة ليس له ذلك وهذا الحديث صريح في الدلالة للجمهور وفيه دليل على أن العبد والأمة لا يرجمان سواء كانا مزوجين أم لا لقوله (صلى الله عليه وسلم) فليجلدها الحد ولم يفرق بين مزوجة وغيرها وفيه أنه لا يوبخ الزاني بل يقام عليه الحد فقط قوله (صلى الله عليه وسلم) (إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) فيه أن الزاني إذا حد ثم زنى ثانيا يلزمه حد آخر فإن زنى ثالثة لزمه حد آخر فإن حد ثم زنا لزمه حد آخر وهكذا أبدا فأما إذا زنى مرات ولم يحد لواحدة منهن فيكفيه حد واحد للجميع وفيه
[ 212 ]
ترك مخالطة الفساق وأهل المعاصي وفراقهم وهذا البيع المأمور به مستحب ليس بواجب عندنا وعند الجمهور وقال داود وأهل الظاهر هو واجب وفيه جواز بيع الشئ النفيس بثمن حقير وهذا مجمع عليه إذا كان البائع عالما به فإن كان جاهلا فكذلك عندنا وعند الجمهور ولأصحاب مالك فيه خلاف والله أعلم وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب فإن قيل كيف يكره شيئا ويرتضيه لأخيه المسلم فالجواب لعلها تستعف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالاحسان إليها والتوسعة عليها أو يزوجها أو غير ذلك والله أعلم قوله (قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها) وفي
[ 213 ]
الحديث الآخر أن عليا رضي الله تعالى عنه خطب فقال يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن قال الطحاوي وفي الرواية الأولى لم يذكر أحد من الرواة قوله ولم يحصن غير مالك وأشار بذلك إلى تضعيفها وأنكر الحفاظ هذا على الطحاوي قالوا بل روى هذه اللفظة أيضا ابن عيينة ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب كما قال مالك فحصل أن هذه اللفظة صحيحة وليس فيها حكم مخالف لأن الأمة تجلد نصف جلد الحرة سواء كانت الأمة محصنة بالتزويج أم لا وفي هذا الحديث بيان من لم يحصن وقوله تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فيه بيان من أحصنت فحصل من الآية الكريمة والحديث بيان أن الأمة المحصنة بالتزويج وغير المحصنة تجلد وهو معنى ماقاله علي رضي الله تعالى عنه وخطب الناس به فإن قيل فما الحكمة في التقييد في قوله تعالى فإذا أحصن مع أن عليها نصف جلده الحرة سواء كانت الأمة محصنة أم لا فالجواب أن الآية نبهت على أن الأمة وإن كانت مزوجة لا يجب عليها إلا نصف جلد الحرة لأنه الذي ينتصف وأما الرجم فلا ينتصف
[ 214 ]
فليس مرادا في الآية بلا شك فليس للأمة المزوجة الموطوءة في النكاح حكم الحرة الموطوءة في النكاح فبينت الآية هذا لئلا يتوهم أن الأمة المزوجة ترجم وقد أجمعوا على أنها لا ترجم وأما غير المزوجة فقد علمنا أن عليها نصف جلد المزوجة بالأحاديث الصحيحة منها حديث مالك هذا وباقي الروايات المطلقة إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها وهذا يتناول المزوجة وغيرها وهذا الذي ذكرناه من وجوب نصف الجلد على الأمة سواء كانت مزوجة أم لا هو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وجماهير علماء الأمة وقال جماعة من السلف لا حد على من لم تكن مزوجة من الإماء والعبيد ممن قاله ابن عباس وطاوس وعطاء وابن جريج وأبو عبيدة قوله (قال علي زنت أمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديث عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أأقتلها فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقال أحسنت) فيه أن الجلد واجب على الأمة الزانية وأن النفساء والمريضة ونحوهما يؤخر جلدها إلى البرء والله أعلم
[ 215 ]
باب حد الخمر قوله (إن النبي (صلى الله عليه وسلم) أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر) وفي رواية جلد النبي (صلى الله عليه وسلم) في الخمر بالجريد والنعال ثم جلد أبو بكر أربعين فلما كان عمر ودنا الناس من الريف قال ما ترون في جلد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف أرى أن تجعلها كأخف الحدود قال فجلد عمر ثمانين وفي رواية أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين وفي حديث علي رضي الله عنه أنه جلد أربعين ثم قال للجلاد أمسك ثم قال جلد النبي (صلى الله عليه وسلم) أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلى أما قوله في الرواية الأولى فقال عبد الرحمن أخف الحدود فهو بنصب أخف وهو منصوب بفعل محذوف أي اجلده كأخف الحدود أو اجعله كأخف الحدود كما صرح به في الرواية الأخرى وقوله (أرى أن تجعلها) يعني العقوبة التي هي حد الخمر وقوله اخف الحدود يعني
[ 216 ]
المنصوص عليها في القرآن وفي حد السرقة بقطع اليد وحد الزنا جلد مائة وحد القذف ثمانين فاجعلها ثمانين كأخف هذه الحدود وفي هذا جواز القياس واستحباب مشاورة القاضي والمفتي أصحابه وحاضري مجلسه في الأحكام قوله (وكل سنة) معناه أن فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر سنة يعمل بها وكذا فعل عمر ولكن فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر
[ 217 ]
أحب إلي قوله (وهذا أحب إلي) إشارة إلى الأربعين التي كان جلدها وقال للجلاد أمسك ومعناه هذا الذي قد جلدته وهو الأربعون أحب إلي من الثمانين وفيه أن فعل الصحابي سنة يعمل بها وهو موافق لقوله (صلى الله عليه وسلم) فعليكم بسنتي وسنة الخفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ والله أعلم وأما الخمر فقد أجمع المسلمون على تحريم شرب الخمر وأجمعوا على وجوب الحد على شاربها سواء شرب قليلا أو كثيرا وأجمعوا على أنه لا يقتل لشربها وإن تكرر ذلك منه هكذا حكى الاجماع فيه الترمذي وخلائق وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى عن طائفة شاذة أنهم قالوا يقتل بعد جلده أربع مرات للحديث الوارد في ذلك وهذا القول باطل مخالف لاجماع الصحابة فمن بعدهم على أنه لا يقتل وإن تكرر منه أكثر من أربع مرات وهذا الحديث منسوخ قال جماعة دل الاجماع على نسخه وقال بعضهم نسخه قوله (صلى الله عليه وسلم) لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة واختلف العلماء في قدر حد الخمر فقال الشافعي وأبو ثور وداود وأهل الظاهر وآخرون حده أربعون قال الشافعي رضي الله عنه وللإمام أن يبلغ به ثمانين وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات على تسببه في إزالة عقله وفي تعرضه للقذف والقتل وانواع الإيذاء وترك الصلاة وغير ذلك ونقل القاضي عن الجمهور من السلف والفقهاء منهم مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى أنهم قالوا حده ثمانون واحتجوا بأنه الذي استقر عليه إجماع الصحابة وأن فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن للتحديد ولهذا قال في الرواية الأولى نحو أربعين وحجة الشافعي وموافقيه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما جلد أربعين كما صرح به في الرواية الثانية وأما زيادة عمر فهي تعزيرات والتعزير إلى رأي الإمام إن شاء فعله وإن شاء تركه بحسب المصلحة في فعله وتركه فرآه عمر ففعله ولم يره النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا أبو بكر ولا علي فتركوه وهكذا يقول الشافعي رضي الله عنه أن الزيادة إلى رأي الإمام وأما الأربعون فهي الحد المقدر الذي لا بد منه ولو كانت الزيادة حدا لم يتركها النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر رضي الله عنه ولم تركها علي رضي الله عنه بعد فعل عمر ولهذا قال علي رضي الله عنه وكل سنة معناها الاقتصار
[ 218 ]
على الأربعين وبلوغ الثمانين فهذا الذي قاله الشافعي رضي الله عنه هو الظاهر الذي تقتضيه هذه الأحاديث ولا يشكل شئ منها ثم هذا الذي ذكرناه هو حد الحر فأما العبد فعلى النصف من الحر كما في الزنا والقذف والله أعلم وأجمعت الأمة على أن الشارب يحد سواء سكر أم لا واختلف العلماء في من شرب النبيذ وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة فقال الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله تعالى وجماهير العلماء من السلف والخلف هو حرام يجلد فيه كجلد شارب الخمر الذي هو عصير العنب سواء كان يعتقد اباحته أو تحريمه وقال أبو حنيفة والكوفيون رحمهم الله تعالى لا يحرم ولا يحد شاربه وقال أبو ثور هو حرام يجلد بشربه من يعتقد تحريمه دون من يعتقد إباحته والله أعلم قوله (جلده بجريدتين نحو أربعين) اختلفوا في معناه فأصحابنا يقولون معناه أن الجريدتين كانتا مفردتين جلد بكل واحدة منهما عددا حتى كمل من الجميع أربعون وقال آخرون ممن يقول جلد الخمر ثمانون معناه أنه جمعهما وجلده بهما أربعين جلدة فيكون المبلغ ثمانين وتأويل أصحابنا أظهر لأن الرواية الأخرى مبينة لهذه وأيضا فحديث علي رضي الله عنه مبين لها قوله (ضربه بجريدتين) وفي رواية بالجريد والنعال أجمع العلماء على حصول حد الخمر بالجلد بالجريد والنعال وأطرا ف الثياب واختلفوا في جوازه بالسوط وهما وجهان لأصحابنا الأصح الجواز وشذ بعض أصحابنا فشرط فيه السوط وقال لا يجوز بالثياب والنعال وهذا غلط فاحش مردود على قائله لمنابذته لهذه الأحاديث الصحيحة قال أصحابنا وإذا ضربه بالسوط يكون سوطا معتدلا في الحجم بين القضيب والعصا فإن ضربه بجريده فلتكن خفيفة بين اليابسة والرطبة ويضربه ضربا بين ضربين فلا يرفع يده فوق رأسه ولا يكتفي بالوضع بل يرفع ذراعه رفعا معتدلا قوله (فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى الريف المواضع التي فيها المياه أو هي قريبة منها ومعناه لما كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتحت الشام والعراق وسكن الناس في الريف ومواضع الخصب وسعة العيش وكثرة الأعناب والثمار أكثروا من شرب الخمر فزاد عمر في حد الخمر تغليظا عليهم وزجرا لهم عنها قوله (فلما كان عمر رضي الله عنه استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود) هكذا هو في مسلم وغيره أن عبد الرحمن بن عوف هو الذي أشار بهذا وفي الموطأ وغيره أنه على بن أبي طالب رضي الله عنه وكلاهما صحيح وأشارا جميعا ولعل عبد الرحمن بدا بهذا القول فوافقه
[ 219 ]
علي وغيره فنسب ذلك في رواية إلى عبد الرحمن رضي الله عنه لسبقه به ونسبه في رواية إلى علي رضي الله عنه لفضيلته وكثرة علمه ورجحانه علي عبد الرحمن رضي الله عنه قوله (عن عبد الله الداناج) هو بالدال المهملة والنون والجيم ويقال له أيضا الدانا بحذف الجيم والداناه بالهاء ومعناه بالفارسية العالم قوله (حدثنا حضين بن المنذر) هو بالضاد المعجمة وقد سبق أنه ليس في الصحيحين حضين بالمعجمة غيره قوله (فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيأ فقال عثمان رضي الله عنه أنه لم يتقيأ حتى شربها ثم جلده) هذا دليل لمالك وموافقيه في أن من تقيأ الخمر يحد حد الشارب ومذهبنا أنه لا يحد بمجرد ذلك لإحتمال أنه شربها جاهلا كونها خمرا أو مكرها عليها أو غير ذلك من الأعذار المسقطة للحدود ودليل مالك هنا قوي لأن الصحابة اتفقوا على جلد الوليد بن عقبة المذكور في هذا الحديث وقد يجيب أصحابنا عن هذا بأن عثمان رضي الله عنه علم شرب الوليد فقضى بعلمه في الحدود وهذا تأويل ضعيف وظاهر كلام عثمان يرد على هذا التأويل والله أعلم قوله (أن عثمان رضي الله عنه قال يا علي قم فاجلده فقال علي قم يا حسن فاجلده فقال حسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك) معنى هذا الحديث أنه لما ثبت الحد على الوليد بن عقبة قال عثمان رضي الله عنه وهو الإمام لعلي على سبيل التكرم له وتفويض الأمر إليه في استيفاء الحد قم فأجلده أي أقم عليه الحد بأن تأمر من ترى بذلك فقبل علي رضي الله عنه ذلك فقال للحسن قم فاجلده فامتنع الحسن فقال لابن جعفر فقبل فجلده وكان علي مأذونا له في التفويض إلى من رأى كما ذكرناه وقوله وجد عليه أي غضب عليه وقوله ول حارها من تولى قارها الحار الشديد المكروه والقار البارد الهنئ الطيب وهذا مثل من أمثال العرب قال الأصمعي وغيره معناه ول شدتها وأوساخها من تولى هنيئها ولذاتها والضمير عائد إلى الخلافة والولاية أي كما أن عثمان وأقاربه يتولون هنئ الخلافة ويختصون به يتولون نكدها وقاذوراتها ومعناه ليتول هذا الجلد عثمان بنفسه أو بضع خاصة أقاربه الأدنين والله أعلم قوله (قال أمسك ثم قال وكل سنة) هذا دليل على أن عليا رضي الله عنه كان معظما لآثار عمر وأن حكمه وقوله سنة وأمره حق وكذلك أبو بكر رضي الله عنه خلاف ما يكذبه الشيعة عليه واعلم أنه وقع هنا في مسلم ما ظاهره أن عليا جلد
[ 220 ]
الوليد بن عقبة أربعين ووقع في صحيح البخاري من رواية عبد الله بن عدي بن الخيار أن عليا جلد ثمانين وهي قضية واحدة قال القاضي عياض المعروف من مذهب علي رضي الله عنه الجلد في الخمر ثمانين ومنه قوله في قليل الخمر وكثيرها ثمانون جلدة وروى عنه أنه جلد المعروف بالنجاشي ثمانين قال والمشهور أن عليا رضي الله عنه هو الذي أشار على عمر بإقامة الحد ثمانين كما سبق عن رواية الموطأ وغيره قال وهذا كله يرجح رواية من روى أنه جلد الوليد ثمانين قال ويجمع بينه وبين ما ذكره مسلم من رواية الاربعين بما روى أنه جلده بسوط له رأسان فضربه برأسه أربعين فتكون جملتها ثمانين قال ويحتمل أن يكون قوله وهذا أحب إلى عائد إلى الثمانين إلى فعلها عمر رضي الله عنه فهذا كلام القاضي وقد قدمنا ما يخالف بعض ما قاله وذكرنا تأويله والله أعلم قوله (عن أبي حصين عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال ما كنت أقيم على أحد حدا فيموت فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر لأنه إن مات وديته لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يسنه) أما أبو حصين هذا فهو بحاء مفتوحة وصاد مكسورة واسمه عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي وأما عمير بن سعيد فهكذا هو في جميع نسخ مسلم عمير بن سعيد بالياء في عمير وفي سعيد وهكذا هو في صحيح البخاري وجميع كتب الحديث والأسماء ولا خلاف فيه ووقع في الجمع بين الصحيحين عمير بن سعد بحذف الياء من سعيد وهو غلط وتصحيف إما من الحميدي وأما من بعض الناقلين عنه ووقع في المهذب من أصحابنا في المذهب في باب التعزيز عمر بن سعد بحذف الياء من الأثنين وهو غلط فاحش والصواب
[ 221 ]
اثبات الياء فيهما كما سبق وأما قوله (إن مات وديته) فهو بتخفيف الدال أي غرمت ديته قال بعض العلماء وجه الكلام أن يقال فإنه إن مات وديته بالفاء لا باللام وهكذا هو في رواية البخاري بالفاء وقوله (إن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يسنه) معناه لم يقدر فيه حدا مضبوطا وقد أجمع العلماء على أن من وجب عليه الحد فجلده الإمام أو جلاده الحد الشرعي فمات فلا دية فيه ولا كفارة لا على الإمام ولا على جلاده ولا في بيت المال وأما من مات من التعزير فمذهبنا وجوب ضمانه بالدية والكفارة وفي محل ضمانه قولان للشافعي أصحهما تجب ديته على عاقلة الإمام والكفارة في مال الإمام والثاني تجب الدية في بيت المال وفي الكفارة على هذا وجهان لأصحابنا أحدهما في بيت المال أيضا والثاني في مال الإمام هذا مذهبنا وقال جماهير العلماء لا ضمان فيه لا على الإمام ولا على عاقلته ولا في بيت المال والله أعلم باب قدر أسواط التعزير قوله (صلى الله عليه وسلم) (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله عز وجل) ضبطوه يجلد بوجهين أحدهما بفتح الياء وكسر اللام والثاني بضم الياء وفتح اللام وكلاهما صحيح واختلف العلماء في التعزير هل يقتصر فيه على عشرة أسواط فما دونها ولا تجوز الزيادة أم تجوز الزيادة فقال أحمد بن حنل وأشهب المالكي وبعض أصحابنا لا تجوز الزيادة على عشرة أسواط وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى جواز الزيادة ثم اختلف هؤلاء فقال مالك وأصحابه وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور والطحاوي لا ضبط لعدد الضربات بل ذلك إلى رأي الإمام وله أن يزيد على قدر الحدود قالوا لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب
[ 222 ]
من نقش على خاتمه مائة وضب صبيا أكثر من الحد وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يبلغ به أربعين وقال ابن أبي ليلى خمسة وسبعون وهي رواية عن مالك وأبي يوسف وعن عمر لا يجاوز به ثمانين وعن ابن أبي ليلى رواية أخرى هو دون المائة وهو قول ابن شبرمة وقال ابن أبي ذئب وابن أبي يحيى لا يضرب أكثر من ثلاثة في الأدب وقال الشافعي وجهور أصحابه لا يبلغ بتعزير كل انسان أدنى حدوده فلا يبلغ بتعزير العبد عشرين ولا بتعزير الحر أربعين وقال بعض أصحابنا لا يبلغ بواحد منهما أربعين وقال بعضهم لا يبلغ بواحد منهما عشرين وأجاب أصحابنا عن الحديث بأنه منسوخ واستدلوا بأن الصحابة رضي الله عنهم جاوزوا عشرة أسواط وتأوله أصحاب مالك على أنه كان ذلك مختصا بزمن النبي (صلى الله عليه وسلم) لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر وهذا التأويل ضعيف والله أعلم قوله (في اسناد هذا الحديث) أخبرني عمرو يعني ابن الحارث عن بكير بن الأشج قال حدثنا سليمان بن بشار قال حدثني عبد الرحمن بن جابر عن أبيه عن أبي برده قال الدارقطني تابع عمرو بن الحارث أسامة بن زيد عن بكير عن سليمان وخالفهما الليث وسعيد ابن أبي أيوب وابن لهيعة فرووه عن بكير عن سليمان عن عبد الرحمن بن جابر عن أبي بردة لم يذكروا عن أبيه واختلف فيه على مسلم بن ابراهيم فقال ابن جريج عنه عن عبد الرحمن بن جابر عن رجل من الأنصار عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال حفص بن ميسرة عنه عن جابر عن أبيه قال الدارقطني في كتاب العلل قول الليث ومن تابعه عن بكير وقال في كتاب البيع قول عمرو صحيح والله أعلم باب الحدود كفارات لأهلها قوله (صلى الله عليه وسلم) (تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا
[ 223 ]
النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفي منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقت به فهو كفارة له ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) وفي الرواية الأخرى ولاي يعضه بعضنا بعضا فمن وفى منكم فأجره على الله من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته ومن ستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإ شاء غفر له وفي الرواية الأخرى بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نزني ولا نسرق ولا نقتل النفس التي حرم الله ولا ننتهب ولا نعصي فالجنة إن فعلنا ذلك فإن غشينا من ذلك شيئا كان قضاء ذلك الله تعالى أما قوله (صلى الله عليه وسلم) فمن وفى فبتخفيف الفاء وقوله ولا يعضه هو بفتح الياء والضاد والمعجمة أي لا يستحب وقيل لا يأتي ببهتان وقل لا يأتي بنميمة وأعلم أن هذا الحديث عام مخصوص وموضع التخصيص قوله (صلى الله عليه وسلم) ومن أصاب شيئا من ذلك إلى آخره المراد به ما سوى الشرك وإلا فالشرك لا يغفر له وتكون عقوبته كفارة له وفي هذا الحديث فوائد منها تحريم هذه المذكورا ت وما في معناها ومنها الدلالة لمذهب أهل الحق أن
[ 224 ]
المعاصي غير الكفر لا يقطع لصاحبها بالنار إذا مات ولم يتب منها بل هو بمشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه خلافا للخوارج والمعتزلة فإن الخوارج يكفرون بالمعاصي والمعتزلة يقولون لا يكفر ولكن يخلد في النار وسبقت المسألة في كتاب الإيمان مبسوطة بدلائلها ومنها أن من ارتكب ذنبا يوجب الحد فحد سقط عنه الإثم قال القاضي عيا ض قال أكثر العلماء الحدود كفارة استدلالا بهذا الحديث قال ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لا أدري الحدود كفارة قال ولكن حديث عبادة الذي نحن فيه أصح إسنادا ولا تعارض بين الحديثين فيحتمل أن حديث أبي هريرة قبل حديث عبادة فلم يعلم ثم علم قال المازري ومن نفيس الكلام وجزله قوله ولا نعصي فالجنة إن فعلنا ذلك وقال في الرواية الأولى فمن وفي منكم فأجره على الله ولم يقل فالجنة لأنه لم يقل في الرواية الأولى ولا نعصي وقد يعصي الإنسان بغير الذنوب المذكورة في هذا الحديث كشرب الخمر وأكل الربا وشهادة الزور وقد يتجنب المعاصي المذكورة في الحديث ويعطي أجره على ذلك وتكون له معاص غير ذلك فيجازى بها والله أعلم
[ 225 ]
باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار أي هدر قوله (صلى الله عليه وسلم) (العجماء جرحها جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس س) العجماء بالمدهى كل الحيوان سوى الآدمي وسميت البهيمة عجماء لأنها لا تتكلم والجبار بضم الجيم وتخفيف الباء الهدر فأما قوله (صلى الله عليه وسلم) العجماء جرحها جبار فمحمول على ما إذا أتلفت شيئا بالنهار أو أتلفت بالليل بغير تفريط من مالكها أو أتلفت سيئا وليس معها أحد فهذا غير مضمون وهو مراد الحديث فأما إذا كان معها سائق أو قائد أو راكب فأتلفت بيدها أو برجلها أو فمها ونحوه وجب ضمانه في مال الذي هو معها سواء كان مالكا أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا أو مودعا أو وكيلا أو غيره إلا أن تتلف آدميا فتجب ديته على عاقلة الذي معها والكفارة في ماله والمراد بجرح العجماء اتلافها سواء كان بجرح أو غيره قال القاضي أجمع العلماء على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها إذا لم يكن معها أحد فإن كان معها راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفته وقال داود وأهل الظاهر لا ضمان بكل حال إلا أن يحملها الذي هو معها على ذلك أو يقصده وجمهورهم على أن الضارية من الدواب كغيرها على ما ذكرناه وقال مالك وأصحابه يضمن مالكها ما أتلفت وكذا قال أصحاب الشافعي يضمن إذا كانت معروفة بالإفساد لأن علي ربطها والحالة هذه وأما إذا أتلفت ليلا فقال مالك يضمن صاحبها ما أتلفته
[ 226 ]
وقال الشافعي وأصحابه يضمن إن فرط في حفظها وإلا فلا وقال أبو حنيفة لا ضمان فيما أتلفته البهائم لا في ليل ولا في نهار وجمهورهم على أنه لا ضمان فيما رعته نهارا وقال الليث وسحنون يضمن وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (والمعدن جبار) فمعناه أن الرجل يحفر معدنا في ملكه أو في موات فيمر بها مار فيسقط فيها فيموت أو يستأجر اجراء يعملون فيها فيقع عليهم مستعيرا أو غاصبا أو مودعا أو وكيلا أو غيره إلا أن تتلف آدميا فتجب ديته على عاقلة الذي معها والكفارة في ماله والمراد بجرح العجماء اتلافها سواء كان بجرح أو غيره قال القاضي أجمع العلماء على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها إذا لم يكن معها أحد فإن كان معها راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفته وقال داود وأهل الظاهر لا ضمان بكل حال إلا أن يحملها الذي هو معها على ذلك أو يقصده وجمهورهم على أن الضارية من الدواب كغيرها على ما ذكرناه وقال مالك وأصحابه يضمن مالكها ما أتلفت وكذا قال أصحاب الشافعي يضمن إذا كانت معروفة بالإفساد لأن علي ربطها والحالة هذه وأما إذا أتلفت ليلا فقال مالك يضمن صاحبها ما أتلفته
[ 226 ]
وقال الشافعي وأصحابه يضمن إن فرط في حفظها وإلا فلا وقال أبو حنيفة لا ضمان فيما أتلفته البهائم لا في ليل ولا في نهار وجمهورهم على أنه لا ضمان فيما رعته نهارا وقال الليث وسحنون يضمن وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (والمعدن جبار) فمعناه أن الرجل يحفر معدنا في ملكه أو في موات فيمر بها مار فيسقط فيها فيموت أو يستأجر اجراء يعملون فيها فيقع عليهم فيموتون فلا ضمان في ذلك وكذا البئر جبار معناه أنه يحفرها في ملكه أو في موات فيقع فيها انسان أو غيره ويتلف فلا ضمان وكذا لو استأجره لحفرها فوقعت عليه فمات فلا ضمان فأما إذا حفر البئر في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير اذنه فتلف فيها انسان فيجب ضمانه على عاقلة حافرها والكفارة في مال الحافر وإن تلف بها غير الآدمي وجب ضمانه في مال الحافر وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) (وفي الركاز الخمس) ففيه تصريح بوجوب الخمس فيه وهو زكاة عندنا والركاز هو دفين الجاهلية وهذا مذهبنا ومذهب أهل الحجاز وجمهور العلماء وقال أبو حنيفة وغيره من أهل العراق هو المعدن وهما عندهم لفظان مترادفان وهذا الحديث يرد عليهم لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) فرق بينهما وعطف أحدهما على الآخر وأصل الركاز في اللفة الثبوت والله أعلم (تم الجزء الحادي عشر ويليه الجزء الثاني عشر وأوله كتاب الاقضية)