شرح مسلم
النووي ج 9

[ 1 ]
صحيح مسلم بشرح النووي الجزء التاسع الناشر دار الكتاب العربي بيروت لبنان الطبعة الاولى 1407 ه‍ . 1987 .
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[ 2 ]
فضل العمرة في رمضان قولها (لم يكن لنا الا ناضحان) أي بعيران نستقي بهما قوله (ننضح عليه) بكسر الضاد قوله صلى (فإن عمرة فيه) أي في رمضان (تعدل حجة) وفي الرواية الأخرى تقضى حجة أي تقوم مقامها في الثواب لا أنها تعدلها في كل شئ فإنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجة قوله (ناضحان كانا لأبي فلان زوجها حج هو وابنه على أحدهما وكان الآخر يسقى غلامنا) هكذا هو في نسخ بلادنا وكذا نقله القاضي عياض عن رواية عبد الغافر الفارسي
[ 3 ]
وغيره قال وفي رواية ابن ماهان يسقى عليه غلامنا قال القاضي عياض وأرى هذا كله تغييرا وصوابه نسقى عليه نخلا لنا فتصحف منه غلامنا وكذا جاء في البخاري على الصواب ويدل على صحته قوله في الرواية الأولى ننضح عليه وهو بمعنى نسقى عليه هذا كلام القاضي والمختار أن الرواية صحيحة وتكون الزيادة التي ذكرها القاضي محذوفة مقدرة وهذا كثير في الكلام والله أعلم استحباب دخول مكة من الثنية العليا (والخروج منها من الثنية السفلى ودخول بلدة من طريق غير التي خرج منها) قوله (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ص = كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس وإذا دخل مكة دخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى) قيل انما فعل النبي ص = هذه المخالفة في طريقه داخلا وخارجا تفاؤلا بتغير الحال الى أكمل منه كما فعل في العيد وليشهد له الطريقان وليتبرك به أهلهما ومذهبنا أنه يستحب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من السفلى لهذا الحديث ولا فرق بين أن تكون هذه الثنية على طريقة كالمدني والشامي أو تكون كاليمني فيستحب لليمني وغيره أن يستدير ويدخل مكة من الثنية العليا وقال بعض أصحابنا انما فعلها النبي ص = لأنها كانت على طريقه ولا يستحب لمن ليست على طريقه كاليمني وهذا ضعيف والصواب الأول وهكذا
[ 4 ]
يستحب له أن يخرج من بلده من طريق ويرجع من أخرى لهذا الحديث وقوله المعرس هو بضم الميم وفتح العين المهملة والراء المشددة وهو موضع معروف بقرب المدينة على ستة أميال منها قوله (العليا التي بالبطحاء) هي بالمد ويقال لها البطحاء والأبطح وهي بجنب المحصب وهذه الثنية ينحدر منها الى مقابر مكة قوله (في حديث عائشة أن رسول ص دخل عام الفتح من كداء من أعلى مكة) هكذا ضبطناه بفتح الكاف وبالمد وهكذا هفي نسخ بلادنا وهذا نقله القاضي عياض عن رواية الجمهور قال وضبطه السمرقندي بفتح الكاف والقصر قوله (قال هشام يعنى ابن عروة فكان أبي يدخل منهما كليهما وكاأبي أكثر ما يدخل من كداء) اختلفوا في ضبط كداء هذه قال جمهور العلماء بهذا الفن كداء بفتح الكاف وبالمد هي الثنية التي بأعلى مكة وكدا بضم الكاف وبالقصر هي التي بأسفل مكة وكان عروة يدخل من كليهما وأكثر دخوله من كداء بفتح الكاف فهذا أشهر وقيل بالضم ولم يذكر القاضي عياض غيره وأما كدى بضم الكاف وتشديد الياء فهو في طريق الخارج إلى اليمن وليس من هذين الطريقين في شئ هذا قول الجمهور والله أعلم
[ 5 ]
استحباب المبيت بذى طوى عند ارادة دخول مكة &(والاغتسال لدخولها ودخولها نهارا) قوله (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ص = بات بذى طوى حتى أصبح ثم دخل مكة وكان ابن عمر يفعل ذلك) وفي رواية حتى صلى الصبح وفي رواية عن نافع عن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذى طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا ويذكر عن النبي ص أنه فعله في هذه الروايات فعوائد منها الاغتسال لدخول مكة وأنه يكون بذى طوى لمن كانت في طريقه ويكون بقدر بعدها لمن لم تكن في طريقه قال أصحابنا وهذا الغسل سنة فإن عجز عنه تيمم ومنها المبيت بذى طوى وهو مستحب لمن هو على طريقه وهو
[ 6 ]
موضع معروف بقرب مكة يقال بفتح الطاء وضمها وكسرها والفتح أفصح وأشهر ويصرف ولا يصرف ومنها استحبا ب دخول مكة نهارا وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم أن دخولها نهارا أفضل من الليل وقال بعض أصحابنا وجماعة من السلف الليل والنهار في ذلك سواء ولا فضيلة لأحدهما على الآخر وقد ثبت أن النبي ص = دخلها محرما بعمرة الجعرانة ليلا ومن قال بالأول حمله على بيان الجواز والله أعلم قوله (استقبل فرضتي الجبل) هو بفاء مضمومة ثم راء ساكنة ثم ضاد معجمة مفتوحة وهما تثنية فرضة وهي الثنية المرتفعة من الجبل قوله (عشرة أذرع) كذا في بعض النسخ وفي بعضها عشر بحذف الهاء وهما لغتان في الذراع التذكير والتأنيث وهو الأفصح الأشهر والله أعلم استحباب الرمل في الطواف والعمرة (وفي الطواف الأول في الحج) قوله (أن رسول الله ص = كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاث ومشى
[ 7 ]
أربعا) قوله (خب) هو الرمل بفتح الراء والميم فالرمل والخبب معنى واحد وهو اسراع المشى مع تقارب الخطا ولا يثب وثبا والرمل مستحب في الطوفات الثلاث الأول من السبع ولا يسن ذلك الا في طواف العمرة وفي طواف واحد في الحج واختلفوا في ذلك الطواف وهما قولان للشافعي أصحهما أنه انما يشرع في طواف يعقبه سعى ويتصور ذلك في طواف القدوم ويتصور في طواف الافاضة ولا يتصور في طواف الوداع لأن شرط طواف الوداع أن يكون قد طاف للإفاضة فعلى هذا القول إذا طاف للقدوم وفي نيته أنه يسعى بعده استحب الرمل فيه وإن لم يكن هذا في نيته لم يرمل فيه بل يرمل في طواف الإفاضة والقول الثاني أنه يرمل في طواف القدوم سواء أراد السعي بعده أم لا والله أعلم قال أصحابنا فلو أخل بالرمل في الثلاث الأول من السبع لم يأت به في الأربع الأواخر لأن السنة في الأربع الأخيرة المشى على العادة فلا يغيره ولو لم يمكنه الرمل للرحمة أشار في هيئة مشيه إلى صفة الرمل ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة للرحمة وأمكنه إذا تباعد عنها فالأولى أن يتباعد ويرمل لأن فضيلة الرمل هيئة للعبادة في نفسها والقرب من الكعبة هيئة في موضع العبادة لا في نفسها فكان تقديم ما تعلق بنفسها أولى والله أعلم واتفق العلماء على أن الرمل لا يشرع للنساء كما لا يشرع لهن شدة السعي بين الصفا والمروة ولو ترك الرجل الرمل حيث شرع له فهو تارك سنة ولا شئ عليه هذا مذهبنا واختلف أصحاب مالك فقال بعضهم عليه دم وقال بعضهم لادم كمذهبنا قوله (وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة) هذا مجمع على استحبابه وهو أنه إذا سعى بين الصفا والمروة استحب أن يكون سعيه شديدا في بطن المسيل وهو قدر معروف وهو من قبل وصوله الى الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد الى أن يحاذي الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين بفناء المسجد ودار العباس والله أعلم قوله
[ 8 ]
(ان رسول الله ص = كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ثم يمشى أربعا ثم يصلى سجدتين ثم يطوف بين الصفا والمروة) أما قوله أول ما يقدم فتصريح بأن الرمل أول ما يشرع في طواف العمرة أو في طواف القدوم في الحج وأما قوله يسعى ثلاثة أطواف فمراده يرمل وسماه سعيا مجازا لكونه يشارك السعي في أصل الاسراع وإن اختلفت صفتهما وأما قوله ثلاثة وأربعة فمجمع عليه وهو أن الرمل لا يكون الا في الثلاثة الأول من السبع وأما قوله ثم يصلى سجدتين فالمراد ركعتين وهما سنة على المشهور من مذهبنا وفي قول واجبتان وسماهما سجدتين مجازا كما سبق تقريره في كتاب الصلاة وأما قوله ثم يطوف بين الصفا والمروة ففيه دليل على وجوب الترتيب بين الطواف والسعى وأنه يشترك تقدم الطواف على السعي فلو قدم السعي لم يصح السعي وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور وفيه خلاف ضعيف لبعض السلف والله أعلم قوله (رأيت رسول الله ص = حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف) الى آخره فيه استحباب استلام الحج الأسود في ابتداء الطواف وهو سنة من سنن الطواف بلا خلاف وقد استدل به القاضي أبو الطيب من أصحابنا في قوله أنه يستحب أن يستلم الحجر الأسود وأن يستلم معه الركن الذي هو فيه فيجمع في استلامه بين الحجر والركن جميعا واقتصر جمهور أصحابنا على أنه يستلم الحجر وأما الاسلام فهو المسح باليد عليه وهو مأخوذ من السلام بكسر السين وهي الحجارة وقيل من
[ 9 ]
السلام بفتح السين الذي هو التحية قوله (رمل رسول الله ص = من الحجر الى الحجر ثلاثا ومشى أربعا) فيه بيان أن الرمل يشرع في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر وأما حديث ابن عباس المذكور بعد هذا بقليل قال وأمرهم النبي ص = أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين فمنسوخ بالحديث الأول لأن حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء سنة سبع قبل فتح مكة وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم وإنما رملوا اظهارا للقوة واحتاجوا الى ذلك في غير ما بين الركنين اليمانيين لأن المشركين كانوا جلوسا في الحجر وكانوا لا يرونهم بين هذين الركنين ويرونهم فيما سوى ذلك فلما حج النبي ص = حجة الوداع سنة عشر رمل من الحجر الى الحجر فوجب الأخذ بهذا المتأخر قوله (حدثنا سليم ابن الأخضر) هو بضم السين وأخضر بالخاء والضاد المعجمتين قوله في رواية أبي الطاهر باسناده عن جابر (رمل الثلاثة أطواف) هكذا هو في معظم النسخ المعتمدة وفي نادر منها الثلاثة
[ 10 ]
الأطواف وفي أندر منه ثلاثة أطواف فأما ثلاثة أطواف فلا شك في جوازه وفصاحته وأما الثلاثة الأطواف بالألف واللام فيهما ففيه خلاف مشهور بين النحويين منعه البصريون وجوزه الكوفيون وأما الثلاثة أطواف بتعريف الأو وتنكير الثاني كما وقع في معظم النسخ فمنعه جمهور النحويين وهذا الحديث يدل لمن جوزه وقد سبق مثله في رواية سهل بن سعد في صفة منبر النبي ص = قال فعمل هذه الثلاث درجات وقد رواه مسلم هكذا في كتاب الصلاة وقد سبق التنبيه عليه قوله (قلت لابن عباس أرأيت هذا الرمل بالبيت ثلاثة أطواف ومشى أربعة أطواف أسنة هو فإن قومك يزعمون أنه سنة فقال صدقوا وكذبوا) الى آخره يعني صدقوا في أن النبي ص = فعله وكذبوا في قولهم انه سنة مقصودة متأكدة لأن النبي ص = لم يجعله سنة مطلوبة دائما على تكرر السنين وإنما أمر به تلك السنة لاظهار القوة عند الكفار وقد زال ذلك المعنى هذا معنى كلام ابن عباس وهذا الذي قاله من كون الرمل ليس سنة مقصودة هو مذهبه وخالفه جميع العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم فقالوا هو سنة في الطوفات الثلاث من السبع فإن تركه فقد ترك سنة وفاتته فضيلة ويصح طوافه ولادم عليه وقال عبد الله بن الزبير يسن في الطوفات السبع وقال الحسن البصري والثوري وعبد الملك بن الماجشون المالكي إذا ترك الرمل لزمه دم وكان مالك يقول به ثم رجع عنه دليل الجمهور أن النبي ص = رمل في حجة الوداع في الطوفات الثلاث الأول ومشى في الأربع ثم قال ص = بعد ذلك لتأخذو مناسككم عني والله أعلم
[ 11 ]
قوله (قلت له أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا أسنة هو فإن قومك يزعمون أنه سنة قال صدقوا وكذبوا) الى آخره يعني صدقوا في أنه طاف راكبا وكذبوا في أن الركوب أفضل بل المشي أفضل وإنما ركب النبي صلى الله عليه وسلم للعذر الذي ذكره وهذا الذي قال ابن عباس مجمع عليه أجمعوا على أن الركوب في السعي بين الصفا والمروة جائز وأن المشي أفضل منه الا لعذر والله أعلم قوله (لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزل) هكذا هو في معظم النسخ الهزل بضم الهاء واسكان الزاي وهكذا حكاه القاضي في المشارق وصاحب المطالع عن رواية بعضهم قالا وهو وهم والصواب الهزال بضم الهاء وزيادة الألف قلت وللأول وجه وهو أن يكون بفتح الهاء لأن الهزل بالفتح مصدر هزلته هزلا كضربته ضربا وتقديره لا يستطيعون يطوفون لأن الله تعالى هزلهم والله أعلم قوله (حتى خرج العواتق من البيوت) هو جمع عاتق وهي البكر البالغة أو المقاربة للبلوغ وقيل التي تتزوج سميت بذلك لأنها عتقت من استخدام أبويها وابتذالها في
[ 12 ]
الخروج والتصرف التي تفعله الطفلة الصغيرة وقد سبق بيان هذا في صلاة العيد قوله (أنهم كانوا لا يدعون عنه ولا يكرهون) أما يدعون فبضم الياء وفتح الدال وضم العين المشددة أي يدفعون ومنه قوله تعالى يوم يدعون إلى نار جهنم دعا وقوله تعالى فذلك الذي يدع اليتيم وأما قوله يكرهون ففي بعض الأصول من صحيح مسلم يكرهون كما ذكرناه من الاكراه وفي بعضها يكرهون بتقديم الهاء من الكهر وهو الانتهار قال القاضي هذا أصوب وقال وهو رواية الفارسي والأول رواية ابن ماهان والعذري قوله (وهنتهم حمى يثرب) هو بتخفيف الهاء أي أضعفتهم قال الفراء وغيره يقال وهنته الحمى وغيرها وأوهنته لغتان وأما يثرب فهو الاسم الذي كان للمدينة في الجاهلية وسميت في الاسلام المدينة فطيبة فطابة قال الله تعالى ماكان لاهل المدينة ومن أهل المدينة يقولون لئن رجعنا الى المدينة وسيأتي بسط ذلك في آخر كتاب الحج حيث ذكر مسلم أحاديث المدينة وتسميتها ان شاء الله تعالى قوله (وأمرهم النبي ص = أن يرملوا ثلاثة أشواط) هذا تصريح بجواز تسمية الرمل شوطا وقد نقل أصحابنا أن مجاهدا والشافعي كرها
[ 13 ]
تسميته شوطا أو دورا بل يسمى طوفة وهذا الحديث ظاهر في أنه لا كراهة في تسميته شوطا فالصحيح أنه لا كراهة فيه قوله (ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الاشواط كلها الا الابقاء عليهم) الابقاء بكسر الهمزة وبالباء والموحدة والمدى أي الرفق بهم استحباب استلام الركنين اليمانيين (في الطواف دون الركنين الآخرين) قوله (لم أر رسول الله ص = يمسح من البيت الا الركنين اليمانيين) وفي الرواية الاخرى لم يكن رسول الله ص = يستلم من أركان البيت الا الركن الأسود والذي يليه من
[ 14 ]
نحو دور الجمحيين وفي الرواية الأخرى لا يستلم الا الحجر والركن اليماني هذه الروايات متفقة فالركنان اليمانيان هما الركن الأسود والركن اليماني وإنما قيل لهما اليمانيان للتغليب كما قيل في الأب والأم الأبوان وفي الشمس والقمر القمران وفي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما العمران وفي الماء والتمر الأسودان ونظائره مشهورة واليمانيان بتخفيف الياء هذه اللغة الفصيحة المشهورة وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما فيها لغة أخرى بالتشديد فمن خفف قال هذه نسبة الى اليمن فالألف عوض من احدى ياءى النسب فتبقى الياء الأخرى مخففة ولو شددناها لكان جمعا بين العوض والمعوض وذلك ممتنع ومن شدد قال الالف في اليماني زائدة وأصله اليمنى فتبقى الياء مشددة وتكون الالف زائدة كما زيدت النون في صنعاني ورقبانى ونظائر ذلك والله أعلم وأما قوله (يمسح) فمراده يستلم وسبق بيان الاستلام وأعلم أن للبيت أربعة أركان الركن الأسود والركن اليماني ويقال لهما اليمانيان كمسبق وأما الركنان الآخران فيقال لهما الشاميان فالركن الأسود فيه فضيلتان احداهما كونه على قواعد ابراهيم ص = والثانية كونه فيه الحجر الأسود وأما اليماني ففيه فضيلة واحدة وهى كونه على قواعد ابراهيم وأما الركنان الآخران فليس فيهما شئ من هاتين الفضيلتين فلهذا خص الحجر الأسود بشيئين الاستلام والتقبيل للفضيلتين وأما اليماني فيستلمه ولا يقبله لأن فيه فضيلة واحدة وأما الركنان الآخران فلا يقبلان ولا يستلمان والله أعلم وقد أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين واتفق الجماهير على أنه لا يمسح الركنين الآخرين واستحبه بعض السلف وممن كان يقول باستلامهما الحسن والحسين ابنا علي وابن الزبير وجابر ابن عبد الله وأنس بن مالك وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد رضي الله عنهم قال القاضي أبو الطيب أجمعت أئمة الأمصار والفقهاء على أنهما لا يستلمان قال وإنما كان فيه خلاف لبعض الصحابة والتابعين وانقرض الخلاف وأجمعوا على أنهما لا يستلمان والله أعلم قوله (أن رسول الله ص = كان لا يستلم الا الحجر الأسود والركن اليماني) يحتج به الجمهور
[ 15 ]
في أنه يقتصر بالاستلام في الحجر الأسود عليه دون الركن الذي هو فيه وقد سبق قريبا في خلاف القاضي أبي الطيب قوله (رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله ص = يفعله) فيه استحباب تقبيل اليد بعد استلام الحجر الأسود إذا عجز عن تقيبل الحجر وهذا الحديث محمول على من عجز عن تقبيل الحجر وإلا فالقادر يقبل الحجر ولا يقتصر في اليد على الاستلام بها وهذا الذي ذكرناه من استحباب تقبيل اليد بعد الاستلام للعاجز هو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال القاسم بن محمد التابعي المشهور لا يستحب التقبيل وبه قال مالك في أحد قوليه والله أعلم
[ 16 ]
استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف قوله (قبل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال أم والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله ص = يقبلك ما قبلتك) وفي الرواية الأخرى وإني لأعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع هذا الحديث فيه فوائد منها استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف بعد استلامه وكذا يستحب السجود على الحجر أيضا بأن يضع جبهته عليه فيستحب أن يستلمه ثم يقبله ثم يضع جبهته عليه هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وحكاه أبن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وطاوس والشافعي وأحمد قال وبه أقول قال وقد روينا فيه عن النبي ص = وانفرد مالك عن العلماء فقال السجود عليه بدعه واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك في هذه المسألة عن العلماء وأما الركن اليماني فيستلمه ويقبله بل يقبل اليد بعد استلامه هذا مذهبنا وبه قال جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وقال أبو حنيفة لا يستلمه وقال مالك وأحمد يستلمه ولا يقبل اليد بعده وعن مالك رواية أنه يقبله وعن أحمد رواية أنه يقبله والله أعلم وأما قول عمر رضي الله عنه لقد علمت أنك حجر وأنى لأعلم أنك حجر وأنت لا تضر ولا تنفع فأراد به بيان الحث على الاقتداء برسول الله ص = في تقبيله ونبه على أنه أولا الاقتداء به لما فعله وإنما قال وأنك لا تضر ولا تنفع لئلا يغتر بعض قربى
[ 17 ]
العهد بالاسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيما ورجاء نفعها وخوف الضر بالتقصير في تعظيمها وكان العهد قريبا بذلك فخاف عمر رضي الله عنه أن يراه بعضهم يقبله ويعتنى به فيشتبه عليه فبين أنه لا يضر ولا ينفع بذاته وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب فمعناه أنه لا قدرة له على نفع ولا ضر وأنه حجر مخلوق كباقي المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع وأشاع عمر هذا في الموسم ليشهد في البلدان ويحفظه عنه أهل الموسم المختلفوا الأوطان والله أعلم قوله (رأيت الأصلع) وفي رواية الأصيلع يعني عمر رضي الله عنه فيه أنه لا بأس بذكر الانسان بلقبه ووصفه الذي يكرهه وإن كان قد يكره غيره مثله قوله (رأيت عمر رضي الله عنه قبل الحجر والتزمه وقال رأيت رسول الله ص = بك حفيا) يعني معتنيا
[ 18 ]
وجمعه أحفياء قوله والتزمه فيه اشارة الى ما قدمنا من استحباب السجود عليه والله أعلم جواز الطواف على بعير وغيره واستلام) (الحجر بمحجن ونحوه للراكب) قوله (أن رسول الله ص = طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن) المحجن بكسر الميمي وإسكان الحاء وفتح الجيم وهو عصا معقفة يتناول بها الراكب ما سقط له ويحرك بطرفها بعيره للمشي وفي هذا الحديث جواز الطواف راكبا واستحباب استلام الحجر وأنه إذا عجز عن استلامه بيده استلمه بعود وفيه جواز قول حجة الوداع وقد قدمنا أن بعض العلماء كره أن يقال لها حجة الوداع وهو غلو الصواب جواز قول حجة الوداع والله أعلم واستدل به أصحاب مالك وأحمد على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه لأنه لا يؤمن ذلك من البعير فلو كان نجسا لما عر ض المسجد له ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة وآخرين نجاسة ذلك وهذا الحديث لا دلالة فيه لأنه ليس من ضرورته أن يبول أو يروث في حال الطواف وإنما هو محتمل وعلى تقدير حصوله ينظف المسجد منه كما أنه صلى الله عليه وسلم أقر ادخال الصبيان الأطفال المسجد مع أنه لا يؤمن بولهم بل قد وجد ذلك ولأنه لو كان ذلك محققا لنزه المسجد منه سواء كان نجسا أو طاهرا لأنه مستقذر قوله في طوافه ص =
[ 19 ]
راكبا (لأن يراه الناس ويشرف وليسألوه) هذا بيان لعلة ركوبة ص = وقيل أيضا لبيان الجواز وجاء في سنن أبي داود أنه كان ص = وقيل أيضا لبيان الجواز وجاء في سنن أبي داود أنه كان ص = في طوافه هذا مريضا وإلى هذا المعنى أشار البخاري وترجم عليه باب المريض يطوف راكبا فيحتمل أنه ص = طاف راكبا لهذا كله قوله (فإن الناس غشوه) هو بتخفيف الشين أي ازدحموا عليه قولها (كراهية أن يضرب عنه الناس) هكذا هو في معظم النسخ يضرب بالباء وفي بعضها يصرف بالصاد المهملة والفاء وكلاهما صحيح قوله (حدثني الحكم بن موسى القنطرى) هو بفتح القاف قال السمعاني هو من قنطرة بردان وهي محلة من بغداد قوله (وحدثنا معروف بن خربوذ) هو بخاء معجمة مفتوحة ومضمومة الفتح أشهر وممن حكاهما القاضي عياض في المشارق والقائل بالضم هو أبو الوليد الباجي وقال الجمهور بالفتح وبعد الخاء مفتوحة مشددة ثم باء موحدة مضمومة ثم واو ثم ذال معجمة
[ 20 ]
قوله (رأيت رسول ص = يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن) فيه دليل على استحباب استلام الحجر الأسود وأنه إذا عجز عن استلامه بيده بأن كان راكبا أو غيره استلمه بعصا ونحوها ثم قبل ما استلم به وهذا مذهبنا قوله ص = (طوفى من وراء الناس وأنت راكبة قالت فطفت ورسول الله ص = حينئذ يصلى الى جنب البيت وهو يقرأ الطور وكتاب مسطور انما أمرها ص = بالطواف من وراء الناس لشيئين أحدهما أن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف والثاني أن قربها يخاف منه تأذى الناس بدابتها وكذا إذا طاف الرجل راكبا وإنما طافت في حال صلاة النبي ص = ليكون أستر لها وكانت هذه الصلاة صلاة الصبح والله أعلم بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج الا به مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج لا يصح الا به ولا يجبر بدم ولا غيره وممن قال بهذا مالك والشافعي وأحمد واسحاق وأبو ثور وقال بعض السلف هو تطوع وقال أبو حنيفة هو واجب فإن تركه عصى وجبره
[ 21 ]
بالدم وصح حجه دليل الجمهور أن النبي ص سعى وقال خذوا عني مناسككم والمشروع سعى واحد والأفضل أن يكون بعد طواف القدوم ويجوز تأخيره الى ما بعد طواف الافاضة قوله (عن عروة أنه قال ما معناه ان السعي ليس بواجب لأن الله تعالى قال فلا جناح عيه أن يطوف بهما وأن عائشة أنكرت عليه وقالت لا يتم الحج الا به ولو كان كما تقول يا عروة لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) قال العلماء هذا من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ لأن الآية الكريمة انما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه فأخبرته عائشة رضي الله عنها أن الآية ليست فيها دلالة للوجوب ولا لعدمه وبينت السبب في نزولها والحكمة في نظمها وأنها نزلت في الانصار حين تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة في الاسلام وأنها لو كانت كما يقول عروة لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما وقد يكون الفعل واجبا ويعتقد انسان انه يمنع ايقاعه على صفة مخصوصة وذلك كما عليه صلاة الظهر وظن أنه لا يجرز فعلها عند غروب الشمس فسأل عن ذلك فيقال في جوابه لا جناح عليك أن صليتها في هذا الوقت فيكون جوابا صحيحا ولا يقتضى نفي وجوب صلاة الظهر قولها (وهل تدري فيما كان ذلك انما كان ذلك لأن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يقال لهما اساف ونائلة) قال القاضي عياض هكذا وقع في هذه الرواية قال وهو غلط والصواب ما جاء في الروايات الأخر في الباب يهلون لمناة وفي الرواية الأخرى لمناة الطاغية التي بالمشلل وقال وهذا
[ 22 ]
هو المعروف ومناة صنم كان نصبهم عمره بن لحى في جهة البحر بالمشلل مما يلي قديدا وكذا جاء مفسرا في هذا الحديث في الموطأ وكانت الأزد وغسان تهل له بالحج وقال ابن الكلبي مناة صخرة لهذيل بقديد وأما اساف ونائلة فلم يكونا قط في ناحية البحر وإنما كانا فيما يقال رجلا وامرأة فالرجل اسمه اساف بن بقاء ويقال ابن عمرو والمرأة اسمها نائلة بنت ذئب ويقال بنت سهل قيل كانا من جرهم فزنيا داخل الكعبة فمسخهما الله حجرين فنصبا عند الكعبة وقيل على الصفا والمروة ليعتبر الناس بهما ويتعظوا ثم حولهما قصى بن كلاب فجعل أحدهما ملاصق الكعبة والآخر بزمزم وقيل جعلهما بزمزم ونحر عندهما وأمر
[ 23 ]
بعبادتهما فلما فتح النبي ص = مكة كسرهما هذا آخر كلام القاضي عياض قوله في حديث عمر والناقد وابن أبي عمر (بئس س ما قلت يا ابن أختي) هكذا هو في أكثر النسخ بالتاء وفي بعضها أخي بحذف التاء وكلاهما صحيح والأول أصح وأشهر وهو المعروف في غير هذه الرواية قوله (فأعجبوقال ان هذا العلم) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا قال القاضي وروى أن هذا لعلم بالتنوين وكلاهما صحيح ومعنى الأول ان هذا هو العلم المتقن ومعناه استحسان قول عائشة رضي الله عنها وبلاغتها في تفسير الآية الكريمة قوله (فأراها قد نزلت في هؤلاء) ضبطوه بضم الهمزة من أراها وفتحها والضم أحسن وأشهر
[ 24 ]
قولها (قد سن رسول الله ص = الطواف بينهما) يعنى شرعه وجعله ركنا والله أعلم بيان أن السعي لا يكرر قوله (لم يطف النبي ص = ولا أصحابه بين الصفا والمروة الا طوافا واحدا) طوافه
[ 25 ]
الأول فيه دليل على أن السعي في الحج أو العمرة لا يكرر بل يقتصر منه على مرة واحدة ويكره تكراره لأنه بدعة وفيه دليل لما قدمناه أن النبي ص = كان قارنا وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعى واحد وقد سبق خلاف أبي حنيفة وغيره في المسألة والله أعلم باب استحباب ادامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمى جمرة العقبة يوم النحر قوله في حديث أسامة (ردفت رسول الله ص = من عرفات) هذا دليل على استحباب الركوب في الدفع من عرفات وعلى جواز الارداف على الدابة إذا كانت مطيقة وعلى جواز الارتداف مع اهل الفضل ولا يكون ذلك خلاف الادب قوله (فصببت عليه الوضوء فتوضأ وضوءا خفيفا) فقوله فصببت عليه الوضوء الوضوء هنا بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به وسبق فيه لغة أنه يقال بالضم وليست بشئ وقوله (فتوضأ وضوءا خفيفا) يعني توضأ وضوء الصلاة وخففه بأن توضأ مرة مرة وخفف استعمال الماء بالنسبة الى غالب عادته ص = وهذا معنى قوله في الرواية الأخرى فلم يسبغ الوضوء أي لم يفعله على
[ 26 ]
العادة وفيه دليل على جواز الاستعانة في الوضوء قال أصحابنا الاستعانة فيه ثلاثة أقسام أحدها أن يستعين في احضار الماء من البئر والبيت ونحوهما وتقديمه إليه وهذا جائز ولا يقاأنه خلاف الأولى والثاني أن يستعين بمن يغسل الاعضاء فهذا مكروه كراهة تنزيه الا أن يكون معذورا بمرض أو غيره والثالث أن يستعين بمن يصب عليه فإن كان لعذر فبأس وإلا فهو خلاف الأولى وهل يسمى مكروها فيه وجهان لاصحابنا أصحهما ليس بمكرو لأنه لم يثبت فيه نهى وأما استعانة النبي ص = بأسامة والمغيرة بن شعبة في غزوة تبوك وبالربيع بنت معوذ فلبيان الجواز ويكون أفضل في حقه حينئذ لأنه مأمور بالبيان والله أعلم قوله (قلت الصلاة يا رسول الله فقال الصلاة أمامك) معناه أن أسامة ذكره بصلاة المغرب وظن أن النبي ص = نسيها حيث أخرها عن العادة المعروفة في غير هذه الليلة فقال له النبي ص = الصلاة أمامك أي ان الصلاة في هذه الليلة مشروعه فيما بين يديك أي في المزدلفة ففيه استحباب تذكير التابع المتبوع بما تركه خلاف العادة ليفعله أو يعتذر عنه أو يبين له وجه صوابه وإن مخالفته للعادة سببها كذا وكذا وأما قوله ص = الصلاة أمامك ففيه أن السنة في هذا الموضع في هذه الليلة تأخير المغرب الى العشاء والجمع بينهما في المزدلفة وهو كذلك بإجماع المسلمين وليس هو بواجب بل سنة فلو صلاهما في طريقه أو صلى كل واحدة في وقتها جاز وقال بعض أصحاب مالك ان صلى المغرب في وقتها لزمه اعادتها وهذا شاذ ضعيف قوله (لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة) دليل على أنه يستديم التلبية حتى يشرع في رمى جمرة العقبة غداة يوم النحر وهذا مذهب الشافعي
[ 27 ]
وسفيان والثوري وأبي حنفية وأبي ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ومن بعدهم وقال الحسن البصري يلبي حتى يصلي الصبح يوم عرفة ثم يقطع وحكى عن علي وابن عمر وعائشة ومالك وجمهور فقهاء المدينة أنه يلبي حتى نزول الشمس يوم عرفة ولا يلبي بعد الشروع في الوقوف وقال أحمد وإسحاق وبعض السلف يلبي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة ودليل الشافعي والجمهور هذا الحديث الصحيح مع الأحاديث بعده ولا حجة للآخرين في مخالفتها فيتعين اتباع السنة وأما قوله في الرواية الأخرى (لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) فقد يحتج به أحمد وإسحاق لمذهبهما ويجيب الجمهور عنه بأن المراد حتى شرع في الرمي ليجمع بين الروايتين قوله (غداة جمع) هي بفتح الجيم وإسكان الميم وهم المزدلفة وسبق بيانها قوله ص = (عليكم بالسكينة) هذا إرشاد إلى الأدب والسنة في السير لك الليلة ويلحق بها سائر مواضع الزحام قوله (وهو كاف ناقته) أي يمنعها الاسراع قوله (دخل محسرا وهو من منى) الخ أما محسر فسبق ضبطه وبيانه في حديث جابر في صفة حجة النبي ص = وأما قوله ص (بحصى الخذف) قال العلماء هو نحو حبة الباقلا قال أصحابنا ولو رمى بأكبر منها أو
[ 28 ]
أصغر جاز وكان مكروها وأما قوله (يشير بيده كما يخذف الانسان) فالمراد به الايضاح وزيادة البيان لحصى الخذف وليس المراد أن الرمي يكون على هيئة الخذف وإن كان بعض أصحابنا قد قال باستحباب ذلك لكنه غلط والصواب أنه لا يستحب كون الرمي على هيئة الخذف فقد ثبت حديث عبد الله بن المغفل عن النبي ص = في النهي عن الخذف وإنما معنى هذه الاشارة ما قدمناه والله أعلم قوله (قال عبد الله ونحن بجمع سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المقام لبيك اللهم لبيك) فيه دليل على استحباب إدامة التلبية بعد الوقوف بعرفات وهو مذهب الجمهور كما سبق وفيه دليل على جواز قول سورة البقرة وسورة النساء وشبه ذلك وكره ذلك بعض الأوائل وقال إنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة والسورة التي تذكر فيها النساء وشبه ذلك والصواب جواز قول سورة البقرة وسورة النساء وسورة المائدة وغيرها وبهذا قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة
[ 29 ]
من كلام النبي ص = والصحابة رضي الله عنهم كحديث من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فقي ليلة كفتاه والله أعلم وأما قول عبد الله بن مسعود سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة فإنما خص البقرة لأن معظم أحكام المناسك فيها فكأنه قال هذا مقام من أنزلت عليه المناسك وأخذ عنه الشرع وبين الأحكام فاعتمدوه وأراد بذلك الرد على من يقول بقطع التلبية من الوقوف بعرفا ت وهذا معنى قوله في الرواية الثانية أن عبد الله لبى حين أفاض من جمع فقيل أعرابي هذا فقال ابن مسعود ما قال إنكارا على المعترض وردا عليه والله أعلم التلبية والتكبير في الذهاب من منى الى عرفات في يوم عرفة قوله (غدونا مع رسول الله ص من منى الى عرفات منا الملبي ومنا المكبر) وفي
[ 30 ]
الرواية (الأخرى يهلل المهلل فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه) فيه دليل على استحبابهما في الذهاب من منى إلى عرفات يوم عرفة والتلبية أفضل وفيه رد على من قال بقطع التلبية بعد صبح يوم عرفة والله أعلم الافاضة من عرفات إلى المزدلفة (واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جمعا بالمزدلفة في هذه الليلة) فيه حديث أسامة وسبق بيان شرحه في الباب الذي قبل هذا وفيه الجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء في هذه الليلة في المزدلفة وهذا مجمع عليه لكن اختلفوا في حكمه فمذهبنا أنه على الاستحباب فلو صلاهما في وقت المغرب أو في الطريق أو كل واحدة في وقتها جاز وفاتته
[ 31 ]
الفضيلة وقد سبق بيان المسألة في الباب المذكور قوله (أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل انسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا) وفي الرواية الأخرى في آخر الباب أنه صلاهما بغقامة واحدة وقد سبق في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي ص = أنه أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين وهذه الرواية مقدمة على الروايتين الأوليين لأن مع جابر زيادة علم وزيادة الثقة مقبولة ولأن جابر اعتنى الحديث ونقل حجة النبي ص = مستقصاة فهو أولى بالاعتماد وهذا هو الصحيح من مذهبنا انه يستحب الأذان للأولى منهما ويقيم لكل واحدة اقامة فيصليهما بأذان وإقامتين ويتأول حديث اقامة واحدة أن كل صلاة له اقامة ولا بد من هذا ليجمع بينه وبين الرواية الأولى وبينه ايضا وبين رواية جابر وقد سبق إيضاح المسألة في حديث جابر والله أعلم قوله (فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل انسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا) وفيه دليل على استحباب المبادرة بصلاتي المغرب والعشاء أول قدومه المزدلفة ويجوز تأخيرهما الى قبيل طلوع الفجر وفيه أنه لا يضر الفصل بين الصلاتين المجموعتين إذا كان الجمع في وقت الثانية لقوله ثم أناخ كل انسان بعيره في منزله وأما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فلا يجوز الفصل بينهما فإن فصل بطل الجمع ولم تصح الصلاة الثانية الا في وقتها الأصلي وأما قوله (ولم يصل بينهما شيئا) ففيه أنه لا يصلى بين المجموعتين شيئا ومذهبنا استحباب السنن الراتبة لكن يفعلها بعدهما لا بينهما ويفعل سنة الظهر التي قبلها قبل الصلاتين والله أعلم قوله (نزل قبال) ولم يقل أسامة أراق الماء فيه أداء الرواية بحروفها وفيه استعمال صرائح الألفاظ التي قد تستبشع ولا يكنى عنها إذا دعت الحاجة الى التصريح بأن خيف لبس المعنى أو اشتباه الألفاظ أو غير ذلك قوله
[ 32 ]
(وما قال اهراق الماء) هو بفتح الهاء قوله (حتى أقام العشاء الآخرة) فيه دليل لصحة
[ 33 ]
اطلاق العشاء الآخرة وأما انكار الاصمعي وغيره ذلك وقولهم انه من لحن العوام ومحال كلامهم وأن صوابه العشاء فقط ولا يجوز وصفها بالآخرة فغلط منهم بل الصواب جوازه وهذا الحديث صريح فيه وقد تظاهرت به أحاديث كثيرة وقد سبق بيانه واضحا في مواضع كثيرة من كتاب الصلاة قوله (لما أتى النقب) هو بفتح النون واسكان القاف وهو الطريق في الجبل وقيل الفرجة بين جبلين قوله (عن الزهري عن عطاء مولى سباع عن أسامة بن زيد) هكذا وقع في معظم النسخ عطاء مولى سباع وفي بعض النسخ مولى أم سباع وكلاهما خلاف المعروف فيه وإنما المشهور عطاء مولى بنى سباع هكذا ذكره البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل وخلف الواسطي في الأطراف والحميدي في الجمع بين الصحيحين والسمعاني في الأنساب وغيرهم وهو عطاء بن يعقوب وقيل عطاء بن نافع وممن ذكر الوجهين في اسم أبيه البخاري وخلف والحميدي واقتصر ابن أبي حاتم والسمعاني وغيرهما على أن عطاء ابن يعقوب قالوا كلهم وهو عطاء الكيخاراني بفتح الكاف واسكان المثناة من تحت وبالخاء المعجمة ويقال فيه أيضا الكوخاراني واتفقوا على أنها نسبة الى موضع باليمن هكذا قاله الجمهور قال أبو
[ 34 ]
سعد السمعاني هي قرية باليمن يقال لها كيخران قال يحيى بن معين عطاء هذا ثقة والله أعلم قوله (فما زال يسير على هيئته) هو بهاء مفتوحة وبعد الياء همزة هكذا هو في معظم النسخ وفي بعضها هينته بكسر الهاء وبالنون وكلاهما صحيح المعنى قوله (كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص) وفي الرواية الأخرى قال هشام والنص فوق العنق أما العنق فبفتح العين والنون والنص بفتح النون وتشديد الصاد المهملة وهما نوعا من اسراع السير وفي العنق نوع من الرفق والفجوة بفتح الفاء المكان المتسع
[ 35 ]
ورواه بعض الرواة في الموطأ فرجة بضم الفاء وفتحها وهي بمعنى الفجوة وفيه من الفقه استحباب الرفق في السير في حال الزحام فإذا وجد فرجة استحب الاسراع ليبادر الى المناسك وليتسع الوقت ليمكنه الرفق في حال الزحمة والله أعلم قوله (جمع رسول الله ص = بين المغرب والعشاء بجمع ليس بينهما سجدة) يعني بالسجدة صلاة النافلة أي لم يصل بينهما نافلة وقد جاءت السجدة بمعنى النافلة وبمعنى الصلاة قوله (وصلى المغرب ثلاث ركعات وصلى العشاء ركعتين) فيه دليل على أن المغرب لا يقصر بل يصلي ثلاثا أبدا وكذلك أجمع عليه المسلمون وفيه أن القصر في العشاء
[ 36 ]
وغيرها من الرباعيات أفضل والله أعلم قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله ابن نمير قال حدثنا اسماعيل بن أبي خالد عن أبي اسحق قال قال سعيد بن جبير افضلنا مع ابن عمر إلى آخره) هذا من الأحاديث التي استدركها الدار قطني فقال هذا عندي وهم من اسماعيل وقد خالفه جماعة منهم شعبة والثوري واسرائيل وغيرهم فرووه عن أبي اسحاق عن عبد الله ابن مالك عن ابن عمر قال واسماعيل وإن كان ثقة فهؤلاء أقوم بحديث أبي اسحق منه هذا كلامه وجوابه ما سبق بيانه مرات في نظائره أنه يجوز أن أبا اسحق سمعه بالطريقين فرواه بالوجهين وكيف كان فالمتن صحيح لا مقدح فيه والله أعلم استحباب زيادة التغليس بصلاة الصبح يوم النحر (بالمزدلفة والمبالغة فيه بعد تحقيق طلوع الفجر) قوله عن عبد الله بن مسعود (ما رأيت رسول الله ص = صلى صلاة الا لميقاتها
[ 37 ]
الا صلاتين المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها) معناه أنه صلى المغرب في وقت العشاء بجمع التي هي المزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها) معناه أنه صلى المغرب في وقت العشاء بجمع التي هي المزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها المعتاد ولكن بعد تحقق طلوع الفجر فقوله قبل وقتها المراد قبل وقتها المعتاد لا قبل طلوع الفجر لأن ذلك ليس بجائز بإجماع المسلمين فيتعين تأويله على ما ذكرته وقد ثبت في صحيح البخاري في هذا الحديث في بعض رواياته ان ابن مسعود صلى الفجر حين طلع الفجر بالمزدلفة ثم قال أن رسول الله صلى الفجر هذه الساعة وفي رواية فلما طلع الفجر قال ان رسول الله ص كان لا يصلي هذه الساعة الا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم والله أعلم وفي هذه الروايات كلها حجة لأبي حنيفة في استحباب الصلاة في آخر الوقت في غير هذا اليوم ومذهبنا ومذهب الجمهور استحباب الصلاة في أول الوقت في كل الأيام ولكن في هذا اليوم أشد استحبابا وقد سبق في كتاب الصلاايضاح المسألة بدلائلها وتسن زيادة التبكير في هذا اليوم وأجاب أصحابنا عن هذا الروايات بأن معناها أنه ص = كان في غير هذا اليوم يتأخر عن أول طلوع الفجر لحظة إلى أن يأتيه بلال وفي هذا اليوم لم يتأخر لكثرة المناسك فيه فيحتاج الى المبالغة في التبكير ليتسع الوقت لفعل المناسك والله أعلم وقد يحتج أصحاب أبي حنيفة بهذا الحديث على منع الجمع بين الصلاتين في السفر لأن ابن مسعود من ملازمنتى لنبي ص وقد أخبر أنهما ما رآه يجمع الا في هذه المسألة ومذهبنا ومذهب الجمهور جواز الجمع في جميع الاسفار المباحة التي يجوز فيها القصر وقد سبقت المسألة في كتاب الصلاة بأدلتها والجواب عن هذا الحديث أنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول بالمفهوم ولكن إذا عارضه منطوق قدمناه على المفهوم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بجواز الجمع ثم هو متروك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات والله أعلم
[ 38 ]
استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة (إلى منى في أواخر الليل قبل زحمة الناس واستحباب المكث) (لغيرهم حتى يصلوا الصبح بمزدلفة) قوله (وكانت امرأة ثبطة) هي بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة وإسكانها وفسره في الكتاب بأنها الثقيلة أي ثقيلة الحركة بطيئة من التثبيط وهو التعويق قوله (قبل حطمة الناس) بفتح الحاء أي زحمتهم قوله (ان سودة استأذنت رسول الله ص = أن تفيض من جمع بليل فأذن لها) فيه دليل لجواز الدفع من مزدلفة قبل الفجر قال الشافعي وأصحابه يجوز قبل نصف الليل ويجوز رمي جمرة العقبة بعد نصف الليل واستدلوا بهذا الحديث واختلف العلماء في مبيت الحاج بالمزدلفة ليلة النحر والصحيح من مذهب الشافعي أنه واجب من تركه لزمه دم وصح حجه وبه قال
[ 39 ]
فقهاء الكوفة وأصحاب الحديث وقالت طائفة هو سنة ان تركه فاتته الفضيلة ولا اثم عليه ولا دم ولا غيره وهو قول للشافعي وبه قال جماعة وقالت طائفة لا يصح حجه وهو محكى عن النخعي وغيره وبه قال امامان كبيران من اصحابنا وهما أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي وأبو بكر من خزيمة وحكى عن عطاء والأوزاعي أن المبيت بالمزدلفة في هذه الليلة ليس بركن ولا واجب ولا سنة ولا فضيلة فيه بل هو منزل كسائر المنازل ان شاء تركه وإن شاء لم يتركه ولا فضيلة فيه وهذا قول باطل واختلفوا في قدر المبيت الواجب فالصحيح عند الشافعي أنه ساعة في النصف الثاني من الليل وفي قوله له ساعة من النصف الثاني أو ما بعده الى طلوع الشمس وفي قول ثالث له أنه معظم الليل وعن مالك ثلاث روايات أحداها كل الليل والثاني معظمه والثالث أقل زمان قوله (ياهنتاه) أي يا هذه هو بفتح الهاء وبعدها نون ساكنه ومفتوحة وإسكانها أشهر ثم تاء مثناة
[ 40 ]
من فوق قال ابن الأثير وتسكن الهاء التي في آخرها وتضم وفي التثنية ياهنتان وفي الجمع باهنات وهنوات وفي المذكر هن وهنان وهنون قوله (لقد غلسنا قالت كلا) أي لقد تقدمنا على الوقت المشروع قالت لا قولها (أن النبي ص = أذن للظعن) هو بضم الظاء والعين وبإسكان العين ايضا وهن النساء الواحدة ظعينة كسفينة وسفن وأصل الظعينة الهودج الذي تكون فيه المرأة على البعير فسميت المرأة به مجازا واشتهر هذا المجاز حتى غلب وخفيت الحقيقة وظعينة الرجل امرأته قوله (بعثني رسول الله ص = في الثقل) هو بفتح الثاء والقاف
[ 41 ]
وهو المتاع ونحوه قوله (ان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقدم ضعفة أهله فيقفون بالمزدلفة عند المشعر الحرام بليل فيذكرون الله ما بدالهم ثم يدفعون) قد سبق بيان المشعر الحرام وذكر الخلاف فيه وأن مذهب الفقهاء أنه اسم لقزح خاصة وهو جبل بالمزدلفة ومذهب المفسرين ومذهب أهل السير أنه جميع المزدلفة وقد جاء في الأحاديث ما يدل لكلا المذهبين وهذا الحديث دليل لمذهب الفقهاء وقد سبق أن المشهور فتح الميم من المشعر الحرام وقيل بكسرها وفيه استحباب الوقوف عند المشعر الحرام بالدعاء والذكر وقوله ما بدا لهم هو بلا همز أي ما أرادوا
[ 42 ]
رمي جمرة العقبة من بطن الوادي (وتكون مكة عن يساره ويكبره مع كل حصاة قوله (رمى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة قال فقيل له ان ناسا يرمونها من فوقها فقال عبد الله بن مسعود هذا والذي لاإله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) فيه فوائد منها اثبات رمي جمرة العقبة يوم النحر وهو مجمع عليه وهو واجب وهو أحد أسباب التحلل وهي ثلاثة رمى جمرة العقبة يوم النحر فطواف الافاضة مع سعيه ان لم يكن سعى والثالث الحلق عند من يقول انه نسك وهو الصحيح فلو ترك رمى جمرة العقبة حتى فاتت أيام التشريق فحجة صحيح وعليه دم هذا قول الشافعي والجمهور وقال بعض أصحاب مالك الرمى ركن لا يصح الحج الا به وحكى ابن جرير عن بعض الناس أن رمى الجمار إنما شرع حفظا للتكبير ولو تركه وكبر أجزأه ونحوه عن عائشة رضي الله عنها والصحيح المشهور ما قدمناه ومنها كون الرمي سبع حصيات وهو مجمع عليه ومنها استحباب التكبير مع كل حصاة وهو مذهبنا ومذهب مالك والعلماء كافة قال القاضي وأجمعوا على أنه لو ترك التكبير لا شئ عليه ومنها استحباب كون الرمى من بطن الوادي فيستحب أن يقف تحتها في بطن الوادي فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبل العقبة والجمرة ويرميها بالحصيات السبع وهذا هو الصحيح في مذهبنا وبه قال جمهور العلماء وقال بعض أصحابنا يستحب أن يقف مستقبل الجمرة مستدبرا مكة وقال بعض أصحابنا يستحب أن يقف مستقبل الكعبة وتكون الجمرة عن يمينه والصحيح الأول وأجمعوا على أنه من حيث رماها جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو عن يساره أو رماها من فوقها أو أسفلها أو وقف في
[ 43 ]
وسطها ورماها وأما رمى باقي الجمرات في أيام التشريق فيستحب من فوقها وأما قوله هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة فسبق شرحه قريبا والله أعلم (عن الأعمش سمعت الحجاج بن يوسف يقول وهو يخطب على المنبر ألفوا القرآن كما ألفه جبريل السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها النساء والسورة التي يذكر فيها آل عمران فلقيت ابراهيم فأخبرته بقوله فسبه) قال القاضي عياض ان كان الحجاج أراد بقوله كما ألفه جبريل تأليف الآى في كل سورة ونظمها على ما هي عليه الآن في المصحف فهو اجماع المسلمين وأجمعوا أن ذلك تأليف النبي ص = وإن كان يريد تأليف السورة بعضها في أثر بعض فهو قول بعض الفقهاء والقراء وخالفهم المحققون وقالوا بل هو اجتهاد من الائمة وليس بتوقيف قال القاضي وتقديمه هنا النساء على آل عمران دليل على أنه لم يرد الا نظم الآى لأن الحجاج انما كان يتبع مصحف عثمان رضي الله عنه ولا يخالفه
[ 44 ]
والظاهر أنه أراد ترتيب الآى لا ترتيب السور قوله (وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه) هذا دليل للمذهب الصحيح الذي قدمناه في الموقف المستحب للرمي قوله (حدثنا أبو المحياة) هو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة تحت والله أعلم استحباب رمى جمرة العقبة يوم النحر راكبا (وبيان قوله ص = لتأخذوا مناسككم) قوله (أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول رأيت رسول الله ص يرمى على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي
[ 45 ]
هذه) فيه دلالة لما قاله الشافعي وموافقوه أنه يستحب لمن وصل منى راكبا أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا ولو رماها ماشيا جاز وأما من وصلها ماشيا فيرميها ماشيا وهذا في يوم النحر وأما اليومان الأولان من أيام التشريق فالسنة أن يرمي فيه مجميع الجمرات ماشيا وفي اليوم الثالث يرمي راكبا وينفر هذه كله مذهب مالك والشافعي وغيرهما وقال أحمد واسحاق يستحب يوم النحر أن يرمي ماشيا قال ابن المنذر وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمون مشاة قال وأجمعوا على أن الرمي يجزيه على أي حال رماه إذا وقع في المرمى وأما قوله ص = (لتأخذو مناسككم (فهذه اللام لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم وهكذا وقع في رواية غير مسلم وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها وحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله ص في الصلاة صلوا كما رأيتموني أصلي وقوله ص = (لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) فيه اشارة الى توديعهم واعلامهم بقرب وفاته ص = وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين وبهذا سميت حجة الوداع والله أعلم قولها (حججت مع رسول الله ص = حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامه أحدهما يقود به راحلته والآخر يرفع ثوبه على رأس رسول الله ص من الشمس) فيه جواز تسميتها حجة الوداع وقد سبق أن من الناس من أنكر
[ 46 ]
ذلك وكرهه وهو غلط وسبق بيان ابطاله وفيه الرمى راكبا كما سبق وفيه جواز تظليل المحرم على رأسه بثوب وغيره وهو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء سواء كان راكبا أو نازلا وقال مالك وأحمد لا يجوز وإن فعل لزمته الفدية وعن أحمد رواية أنه لافدية وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز ووافقونا على أنه إذا كان الزمان يسيرا في المحمل لافدية وكذا لو استظل بيده وقد يحتجون بحديث عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال صحبت عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فما رأيته مضربا فسطاطا حتى رجع رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه أبصر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال اضح لمن أحرمت له رواه البيهقي بإسناد صحيح وعن جابر عن النبي ص = قال ما من محرم يضحى للشمس حتى تغرب الا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه رواه البيهقي وضعفه واحتج الجمهور بحديث أم الحصين وهذا المذكور في مسلم ولأنه لا يسمى لبسا وأما حديث جابر فضعيف كما ذكرنا مع أنه ليس فيه نهي وكذا فعل عمر وقول ابن عمر ليس فيه نهولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه والله أعلم قولها (سمعته يقول أن أمر عليكم عبد مجدع حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا) المجدع بفتح الجيم والدال المهملة المشددة والجدع القطع من أصل العضو ومقصودة التنبيه على نهاية خسته فإن العبد خسيس في العادة ثم سواده نقص آخر وجدعه نقص آخر وفي الحديث الآخر كأن رأسه زبيبة ومن هذه الصفات مجموعة فيه فهو في نهاية الخسة والعادة أن يكون ممتهنا في أرذل الأعمال فأمر
[ 47 ]
ص بطاعة ولي الأمر ولو كان بهذه الخساسة ما دام يقودنا بكتاب الله تعالى قال العلماء معناه ما داموا متمسكين بالاسلام والدعاء الى كتاب الله تعالى على أي حال كانوا في أنفسهم وأديانهم وأخلاقهم ولا يشق عليهم العصا بل إذا ظهرت منهم المنكرات وعظوا وذكروا فإن قيل كيف يؤمر بالسمع والطاعة للعبد مع أن شرط الخليفة كونه قرشيا فالجواب من وجهين أحدهما أن المراد بعض الولاة الذين يوليهم الخليفة ونوابه لا أن الخليفة يكون عبدا والثاني ان المراد لو قهر عبد مسلم واستولى بالقهر نفذت أحكامه ووجبت طاعته ولم يجز شق العصا عليه والله أعلم استحباب كون حصى الجمار بقدر حصى الخذف قوله (رأيت رسول الله ص = رمى الجمرة بمثل حصى الخذف) فيه دليل على استحباب كون الحصى في هذا القدر وهو كقدر حبة الباقلا ولو رمى بأكبر أو أصغر جاز مع الكراهية وقد سبقت المسألة مستوفاة قريبا في باب استحباب ادامة التلبية الى رمى الجمرة بيان وقت استحباب الرمى) قوله (رمى رسول الله ص الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس)
[ 48 ]
المراد بيوم النحر جمرة العقبة فإنه لا يشرع فيه غيرها بالاجماع وأما أيام التشريق الثلاثة فيرمى كل يوم منها بعد الزوال وهذا المذكور في جمرة يوم النحر سنة باتفاقهم وعندنا يجوز تقديمه من نصف ليلة النحر وأما أيام التشريق فمذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء أنه لا يجوز الرمى في الأيام الثلاثة الا بعد الزوال لهذا الحديث الصحيح وقال طاوس وعطاء يجزئه في الأيام الثلاثة قبل الزوال وقال أبو حنيفة واسحاق بن راهويه يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال دليلنا أنه ص = رمى كما ذكرنا وقال ص = لتأخذوا مناسككم واعلم أن رمى جمار أيام التشريق يشترط فيه الترتيب وهو أن يبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ويستحب أن يقف عقب رمى الأولى عندها مستقبل القبلة زمانا طويلا يدعو ويذكر الله ويقف كذلك عن الثانية ولا يقف عند الثالثة ثبت معنى ذلك في صحيح البخاري من رواية ابن عمر عن النبي ص = ويستحب هذا في كل يوم من الأيام الثلاثة والله أعلم ويستحب رفع اليدين في هذا الدعاء عندنا وبه قال جمهور علماء وثبت في صحيح البخاري من رواية ابن عمر في حديثه الذي قدمناه واختلف قول مالك في ذلك وأجمعوا على أنه لو ترك هذا الوقوف للدعاء فلا شئ عليه الا ما حكى عن الثوري أنه قال يطعم شيئا أو يهريق دما بيان أن حصى الجمار سبع قوله ص = (الاستجمار تو ورمى الجمار تو والسعى بين الصفا والمروة تو والطواف
[ 49 ]
تو وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو) التو بفتح التاء المثناة فوق وتشديد الواو وهو الوتر والمراد بالاستجمار الاستنجاء قال القاضي وقوله في آخر الحديث وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو ليس للتكرار بل المراد بالأول الفعل وبالثاني عدد الاحجار والمراد بالتو في الجمار سبع سبع وفي الطواف سبع وفي السعي سبع وفي الاستنجاء ثلاث فإن لم يحصل الانقاء بثلاث وجبت الزيادة حتى ينقى فإن حصل الانقاء بوتر فلا زيادة وان حصل بشفع استحب زياده مسحه للايتار وفيه وجه أنه واجب قال بعض أصحابنا وقال به جماعة من العلماء والمشهور الاستحباب والله أعلم تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير قوله (حلق رسول الله ص = وحلق طائفة من أصحاب وقصر بعضهم) وذكر الأحاديث في دعائه ص = للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين مرة بعد ذلك هذا كله تصريح بجواز الاقتصار على أحد الأمرين ان شاء اقتصر على الحلق وإن شاء على التقصير وتصريح بتفضيل الحلق وقد أجمع العلماء على ان الحلق أفضل من التقصير وعلى ان التقصير يجزى الا ما حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري أنه كان يقول يلزمه الحلق في أول حجة ولا يجزئه التقصير وهذا ان صح عنه
[ 50 ]
مردود بالنصوص وإجماع من قبله ومذهبنا المشهور ان الحلق أو التقصير نسك من مناسك الحج والعمرة وركن من أركانهما لا يحصل واحد منهما الا به وبهذا قال العلماء كافة وللشافعي قول شاذ ضعيف أنه استباحة محظور كالطيب واللباس وليس بنسك والصواب الأول وأقل ما يجزى من الحلق والتقصير عند الشافعي ثلاث شعرات وعند أبي حنيفة ربع الرأس وعند أبي يوسف نصف الرأس وعند مالك وأحمد أكثر الرأس وعن مالك رواية أنه كل الرأس وأجمعوا أن الأفضل حلق جميعه أو تقصير جميعه ويستحب أن لا ينقص في التقصير عن قدر الأنملة من أطراف الشعر فإن قصر دونها جاز لحصول اسم التقصير والمشروع في حق النساء التقصير ويكره لهن الحلق فلو حلقن حصل النسك ويقوم مقام الحلق والتقصير النتف والاحراق والقص وغير ذلك من أنواع ازالة الشعر واعلم أن قوله حلق رسول الله ص = وطائفة من أصحابه وقصر بعضهم ودعاؤه ص = للمحلقين ثلاثا ثم للمقصرين مرة كل هذا كان في حجة الوداع هذا هو الصحيح المشهور وحكى القاضى عياض عن بعضهم أن هذا كان يوم الحديبية حين أمرهم بالحلق فما فعله أحد لطمعهم بدخول مكة في ذلك الوقت وذكر عن ابن عباس رضى الله عنهما قال حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله ص = اللهم ارحم المحلقين ثلاثا قيل يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم قال لأنهم لم يشكوا قال ابن عبد البر
[ 51 ]
وكونه في الحديبية هو المحفوظ قال القاضى قد ذكر مسلم في الباب خلاف ما قالوه وإن كانت أحاديثه جاءت مجملة غير مفسرة موطن ذلك لأنه ذكر من رواية ابن أبى شيبة ووكيع في حديث يحيى بن الحصين عن جدته أنها سمعت النبي ص = دعا في حجة الوداع في رمى جمرة العقبة يوم النحر حديث يحيى بن الحصين عن جدته هذه أم الحصين قالت حججت مع النبي ص = قاله في الموضعين ووجه فضيلة الحلق على التقصير أنه أبلغ في العبادة وأدل على صدق النية في التذلل لله تعالى ولأن المقصر مبق على نفسه الشعر الذى هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر والله أعلم واتفق العلماء على أن الأفضل في الحلق والتقصير أن يكون بعد رمى جمرة العقبة وبعد ذبح الهدى ان كان معه وقبل طواف الافاضة وسواء كان قارنا أو مفردا وقال ابن الجهم المالكى لا يحلق القارن حتى يطوف ويسعى وهذا باطل مردود بالنصوص واجماع من قبله وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي ص حلق قبل طواف الافاضة وقد قدمنا أنه ص = كان قارنا في آخر
[ 52 ]
أمره ولو لبد المحرم رأسه فالصحيح المشهور من مذهبنا أنه يستحب له حلقه في وقت الحلق ولا يلزمه ذلك وقال جمهور العلماء يلزمه حلقه (فصل) قدمنا في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح ان إبراهيم بن سفيان صاحب مسلم فاته من سماع هذا الكتاب من مسلم ثلاثة مواضع أولها في كتاب الحج وهذا موضعه وقد سبق التنبيه على أوله وآخره هناك وأن ابراهيم يقول من هنا عن مسلم ولا يقول أخبرنا كما يقول في باقى الكتاب وأول هذا قول الجلودى حدثنا ابراهيم عن مسلم حدثنا ابن نمير حدثنا أبى حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ص قال رحم الله المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله الى آخره باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمى ثم ينحر ثم يحلق (والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس المحلوق) قوله (أن رسول الله ص = أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلقا خذ وأشار الى جانبه الايمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس) هذا الحديث فيه فوائد
[ 53 ]
ثيرة منها بيان السنة في أعمال الحج يوم النحر بعد الدفع من مزدلفة وهي أربعة أعمال رمى جمرة العقبة ثم نحر الهدى أو ذبحه ثم الحلق أو التقصير ثم دخوله الى مكة فيطوف طواف الافاضة ويسعى بعده ان لم يكن سعى بعد طواف القدوم فإن كان سعى بعده كرهت اعادته والسنة في هذه الآعمال الأربعة أن تكون مرتبة كما ذكرنا لهذا الحديث الصحيح فإن خالف ترتيبها فقد مؤخرا أو أخر مقدما جاز للاحاديث الصحيحة التي ذكرها مسلم بعد هذا افعل ولا خرج ومنها أنه يستحب إذا قدم منى أن لا يعرج على شئ قبل الرمى بل يأتي الجمرة راكبا كما هو فيرميها ثم يذهب فينزل حيث شاء من منى ومنها استحباب نحر الهدى وأنه يكون بمنى ويجوز حيث شاء من بقاع الحرم ومنها أن الحلق نسك وأنه أفضل من التقصير وأنه يستحب فيه البداءة بالجانب الأيمن من رأس المحلوق وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أبو حنيفة يبدأ بجانبه الأيسر ومنها طهارة شعر الآدمى وهو الصحيح من مذهبنا وبه قال جماهير العلماء
[ 54 ]
ومنها التبرك بشعر ص = وجواز اقتنائه للتبرك ومنها مواساة الامام والكبير بين أصحابه وأتباعه فيما يفرقه عليهم من عطاء وهدية ونحوها والله أعلم واختلفوا في اسم هذا الرجل الذي حلق رأس رسول الله ص = في حجة الوداع فالصحيح المشهور أنه معمر بن عبد الله العدوى وفي صحيح البخاري قال زعموا أنه معمر بن عبد الله وقيل اسمه خراش بن أمية بن ربيعة الكلبي بضم الكاف منسوب الى كليب بن حبشية والله أعلم جواز تقديم الذبح على الرمى والحلق على الذبح وعلى الرمى (وتقديم الطواف عليها كلها) قوله (يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل ان أنحر فقال اذبح ولا حرج ثم جاءه رجل آخر فقال يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمى فقال ارم ولا حرج فما سئل رسول الله ص =
[ 55 ]
عن شئ قدم ولا أخر الا قال افعل ولا حرج) وفي رواية فما سمعته سئل يؤمئذ عن أمر مما ينسى المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها الا قال رسول الله ص = افعلوا ذلك ولا حرج وفي رواية حلقت قبل أن أرمى قال ارم ولا حرج وفي رواية قيل له في الذبح والحلق والرمى والتقديم والتأخير فقال لا حرج قد سبق في الباب قبله أن أفعال يوم النحر أربعة رمى جمرة العقبة ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الافاضة وأن السنة ترتيبها هكذا فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز ولا فدية عليه لهذه الأحاديث وبهذا قال جماعة من السلف وهو مذهبنا وللشافعي قول ضعيف أنه إذا قدم الحلق على الرمى والطواف لزمه الدم بناء على قوله الضعيف أن الحلق ليس بنسك وبهذا القول هنا قال أبو حنيفة ومالك وعن سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي وقتادة ورواية شاذة عن ابن عباس أنه من قدم بعضها على بعض لزمه دم وهم محجوجون بهذه الاحاديث فإن تأولوها على أن المراد نفى الاثم وادعوا أن تأخير بيان الدم يجوز قلنا ظاهر قوله ص = لا حرج أنه لا شئ عليك مطلقا وقد صرح في بعضها بتقديم الحلق على الرمى كم اقدمناه وأجمعوا على أنه لو نحر قبل الرمى لا شئ عليه واتفقوا على أنه لا فرق بين العامد والساهي في ذلك في وجوب الفدية وعدمها وإنما يختلفان في الاثم عند من يمنع التقديم والله أعلم قوله ص = اذبح ولا حرج ارم ولا حرج معناه افعل ما بقى عليك وقد أجزأك ما فعلته ولا حرج عليك في التقديم والتأخير قوله (وقف رسول الله ص = على راحلته فطفق ناس يسألونه) هذا دليل لجواز القعود على الراحلة للحاجة قوله (فما سئل الله ص = عن شئ قدم أو أخر) يعنى من هذه
[ 56 ]
الأمور الأربعة قوله (أن النبي ص = بينا هو يخطب يوم النحر فقام إليه رجل) وفي رواية وقف رسول الله ص = في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاء رجل وفي رواية
[ 57 ]
وقف على راحلته فطفق ناس يسألونه وفي رواية وهو واقف عند الجمرة قال القاضي عياض قال بعضهم الجمع بين هذه الروايات أنه موقف واحد ومعنى خطب علمهم قال القاضي ويحتمل أن ذلك في موضعين أحدهما وقف على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا خطب وإنما فيه أنه وقف وسئل والثاني بعد صلاة الظهر يوم النحر وقف للخطبة فخطب وهي احدى خطب الحج المشروعة يعلمهم فيما ما بين أيديهم من المناسك هذا كلام القاضي وهذا الاحتمال الثاني هو الصواب وخطب الحج المشروعة عندنا اربع أولها بمكه عند الكعبة في اليوم السابع من ذي الحجة والثانية بنمرة يوم عرفة والثالثة بمنى يوم النحر والرابعة بمنى في الثاني من أيام التشريق وكلها خطبة فردة وبعد صلاة الظهر الا التي بنمرة فإنها خطبتان وقبل صلاة الظهر وبعد
[ 58 ]
الزوال وقد ذكرت أدلتها كلها من الأحاديث الصحيحة في شرح المهذب والله أعلم استحباب طواف الافاضة يوم النحر قوله (ان رسول الله ص أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) هكذا صح هذا من رواية ابن عمر رضي الله عنه وقد سبق في باب صفة حجة النبي ص = في حديث جابر الطويل أنه ص = أفاض إلى البيت يوم النحر فصلى بمكة الظهر وذكرنا هناك الجمع بين الروايات والله أعلم وفي هذا الحديث إثبات طواف الافاضة وأنه يستحب فعله يوم النحر وأول النهار وقد أجمع العلماء على أن هذا الطواف وهو طواف الافاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج الا به واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمى والنحر والحلق فإن اخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالاجماع فان أخره إلى ما بعد أيام التشريق وأتى به بعدها أجزأه ولا شئ عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال مالك وأبو حنيفة إذا تطاول لزمه معه دم والله أعلم
[ 59 ]
استحباب نزول المحصب يوم النفر (وصلاة الظهر وما بعدها به) ذكر مسلم في هذا الباب الأحاديث في نزول النبي ص بالأبطح يوم النفر وهو المحصب وأن أبا بكر وعمر وابن عمر والخلفاء رضي الله عنهم كانوا يفعلونه وأن عائشة وابن عباس كانلا ينزلان به ويقولان هو منزل اتفاقي لا مقصود فحصل خلاف بين الصحابة رضي الله عنه ومذهب الشافعي ومالك والجمهور واستحبابه اقتداء برسول الله ص = والخلفاء الراشدين وغيرهم وأجمعوا على أن من تركه لا شئ عليه ويستحب أن يصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل أو كله اقتداء برسول الله ص = والمحصب بفتح الحاء والصاد المهملتين والحصبة بفتح الحاء وإسكان الصاد والأبطح والبطحاء وخيف بنى كنانة اسم لشئ واحد وأصل الخيف كلما انحدر عن الجبل وارتفع عن الميل قوله (يوم الترويه) هو الثامن من ذي الحجة وسبق بيانه مرات قوله (أسمح لخروجه) أي أسهل
[ 60 ]
لخروجه راجعا الى المدينة قوله (حدثنا قتيبه وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة قال زهير حدثنا سفيان بن عيينه عن صالح بن كيسان عن سليمان بن يسار ثم قال قال أبو بكر في رواية صالح قاسمعت سليمان بن يسار) كذا هو في معظم النسخ ومعناه أن الرواية الأولى وهي رواية قتيبة وزهير قالا فيها عن ابن عيينه عن صالح عن سليمان وأما رواية أبي بكر ففيها عن ابن عيينة عن صالح قال سمعت سليمان وهذه الرواية أكمل من رواية عن لان السماع يحتج به بالاجماع وفي العنعنة خلاف ضعيف وإن كان قائلها غير مدلس وقد سبقت المسألة ووقع في بعض النسخ قال أبو بكر في رواية صالح وفي بعضها قال أبو بكر في رواية عن صالح قال سمعت
[ 61 ]
سليمان والصواب الرواية الأولى وكذا نقلها القاضي عن رواية الجمهور وقال هي الصواب قوله (وكان على ثقل النبي ص) هو بفتح الثاء والقاف وهو متاع المسافر وما يحمله على دوابه ومنه قوله تعالى وتحمل أثقالكم قوله ص = (ننزل إن شاء الله غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر) اما الخيف فسبق بيانه وضبطه وإنما قال النبي ص = إن شاء الله امتثالا لقوله تعالى ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ومعنى تقاسموا على الكفر تحالفوا وتعاهدوا عليه وهو تحالفهم على إخراج النبي ص = وبنى هاشم وبنى المطلب من مكة إلى هذا الشعب وهو خيف بني كنانة وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة وكتبوا فيها أنواعا من الباطل وقطيعة الرحم والكفر فأرسل الله تعالى عليها الأرضة فأكلت كل ما فيها من كفر وقطيعة رحم وباطل وتركت ما فيها من ذكر الله تعالى فأخبر
[ 62 ]
جبريل النبي ص = بذلك فأخبر به النبي ص = عمه أبا طالب فجاء إليهم أبو طالب فأخبرهم عن النبي ص = بذلك فوجدوه كما أخبر والقصة مشهورة قال بعض العلماء وكان نزوله ص = هنا شكرا لله تعالى على الظهور بعد الاختفاء وعلى اظهار دين الله تعالى والله أعلم وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق (والترخيص في تركه لأهل السقاية) قوله (وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير وأبو أسامة قالا حدثنا عبد الله عن نافع) هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا أو كلها ووقع في بعض نسخ المغاربة وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زهير وأبو أسامة فجعل زهير أبدل ابن نمير قال أبو علي الغساني والقاضي وقع في رواية ابن ماهان عن ابن سفيان عن مسلم قال ووقع في رواية أبي أحمد الجلودي عن ابن سفيان عن زهير قالا وهذا وهم والصواب ابن نمير قالا وكذا أخرجه أبو بكر بن أبي شيبه في مسنده هذا كلامهما وإنما ذكر خلف الواسطي في كتابه الأطراف حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير وأبو أسامة ولم يذكر زهيرا قوله (استأذن العباس رسول الله ص = أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له) هذا يدل المسئلتين
[ 63 ]
احداهما أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق مأمور به وهذا متفق عليه لكن اختلفوا هل هو واجب أم سنة وللشافعي فيه قولان أصحهما واجب وبه قال مالك وأحمد والثاني سنة وبه قال ابن عباس والحسن وأبو حنيفة فمن أوجبه أوجب الدم في تركه وإن قلنا سنة لم يجب الدم بتركه لكن يستحب وفي قدر الواجب من هذا المبيت قولان للشافعي أصحهما الواجب معظم الليل والثاني ساعة المسألة الثانية يجوز لأهل السقاية أن يتركوا هذا المبيت ويذهبوا الى مكة ليستقوا بالليل الماء من زمزم ويجعلوه في الحياض مسبلا للشاربين وغيرهم ولا يختص ذلك عند الشافعي بآل العباس رضي الله عنه بل كل من تولى السقاية كان له هذا وكذا لو أحدثت سقاية اخرى كان للقائم بشأنها ترك المبيت هذا هو الصحيح وقال بعض أصحابنا تختص الرخصة بسقاية العباس وقال بعضهم تختص بآل عباس وقال بعضهم تختص ببني هاشم من آل العباس وغيرهم فهذه أربعة أوجه لأصحابنا أصحهما الأول والله أعلم وأعلم أن سقاية العباس حق لآل العباس كانت للعباس في الجاهلية وأقرها النبي ص = له فهي لآل العباس أبدا
[ 64 ]
فضل القيام بالسقاية والثناء على أهلها (واستحباب الشرب منها) قوله (قدم النبي ص = على راحلته وخلفه أسامة فاستقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة وقال أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا) هذا الحديث فيه دليل للمسائل التي ترجمت عليها وقد اتفق أصحابنا على أنه يستحب أن يشرب الحاج وغيره من نبيذ سقاية العباس لهذا الحديث وهذا النبيذ ماء محلى بزبيب أو غيره بحيث يطيب طعمه ولا يكون مسكرا فأما إذا طال زمنه وصار مسكرا فهو حرام وقوله ص = (أحسنتم وأجملتم) معناه فعلتم الحسن الجميل فيؤخذ منه استحباب الثناء على أصحاب السقايا وكل صانع جميل والله أعلم الصدقة بلحوم الهدايا وجلودها وجلالها (ولا يعطى الجزار منها شيئا وجواز الاستنابة في القيام عليها) قوله (عن علي رضي الله عنه قال أمرني رسول الله ص = أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطى الجزار منها شيئا وقال نحن نعطيه من عندنا)
[ 65 ]
قال أهل اللغة سميت البدنه لعظمها ويطلق على الذكر والأنثى ويطلق على الابل والبقر والغنم هذا قول أكثر أهل اللغة ولكن معظم استعمالها في الأحاديث وكتب الفقه في الابل خاصة وفي هذا الحديث فوائد كثيرة منها استحباب سوق الهدى وجواز النيابة في نحره والقيام عليه وتفرقته وأنه يتصدق بلحومها وجلودها وجلالها وأنها تجلل واستحبوا أن يكون جلا حسنا وأن لا يعطى الجزار منها لأن عطيته عوض عن عمله فيكون في معنى بيع جزء منها وذلك لا يجوز فيه جواز الاستئجار على النحر ونحوه ومذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الهدى ولا الأضحية ولا شئ من أجزائهما لأنها لا ينتفع بها في البيت ولا بغيره سواء كان تطوعا أو واجبتين لكن ان كانا تطوعا فلا الانتفاع بالجلد وغيره باللبس وغيره ولا يجوز اعطاء الجزار منها شيئا بسبب جزارته هذا مذهبنا وبه قال عطاء والنخعي ومالك وأحمد واسحق وحكى ابن المنذر عن ابن عمر وأحمد واسحق أنه لا بأس ببيع جلد هديه ويتصدق بثمنه قال ورخص في بيعه أبو ثور وقال النخعي والأوزاعي لا بأس أن يشتري به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها وقال الحسن البصري يجوز أن يعطى الجزار جلدها وهذا منابذ للسنة والله أعلم قال القاضي التجليل سنة وهو عند العلماء مختص بالإبل وهو مما اشتهر من عمل السلف قال وممن رآه مالك والشافعي وأبو ثور واسحاق قالوا ويكون بعد الاشعار لئلا يتلطخ بالدم قالوا ويستحب أن تكون قيمتها ونفاستها بحسب حال المهدى وكان بعض السلف يحلل بالوشى وبعضهم بالحيرة وبعضهم بالقباطي
[ 66 ]
والملاحف والأزر قال مالك وتشق على الأسنمة أن كانت قليلة الثمن لئلا تسقط قال مالك وما علمت من ترك ذلك الا ابن عمر استبقاء للثياب لأنه كان يجلل الجلال المرتفعة من الانماط والبرود والحبر قال وكان لا يجلل حتى يغدو من منى الى عرفات قال وروى عنه أنه كان يجلل من ذي الحليفة وكان يعقد أطراف الجلال على أذنابها فإذا مشى ليلة نزعها فإذا كان يوم عرفة جللها فإذا كان عند النحر نزعها لئلا يصيبها الدم قال مالك أما الجل فينزع في الليل لئلا يخرقها الشوك قال واستحب أن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقها وأن لا يجللها حتى يغدو الى عرفات فإن كانت بثمن يسير فمن حين يحرم يشق ويجلل قال القاضي وفي شق الجلال على الأسمنة فائدة أخرى وهي اظهار الاشعار لئلا يستتر تحتها وفي هذا الحديث الصدقة بالجلال وهكذا قاله العلماء وكان ابن عمر أولا يكسوها الكعبة فلما كسيت الكعبة تصدق بها والله أعلم جواز الاشتراك في الهدى وأجزاء البدنة والبقرة (كل واحدة منهما عن سبعة) قوله (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نحرنا مع رسول الله ص = عام
[ 67 ]
الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) وفي الرواية الأخرى خرجنا مع رسول الله ص = مهلين بالحج فأمرنا رسول الله ص = أن نشترك في الابل والبقر كل سبعة منا في بدنه وفي الرواية الاخرى اشتركنا مع النبي ص = في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة في هذه الاحاديث دلالة لجواز الاشتراك في الهدى وفي المسألة خلاف بين العلماء فمذهب الشافعي جواز الاشتراك في الهدى سواء كان تطوعا أو واجبا وسواء كانوا كلهم متقربين أو بعضهم يريد القربة وبعضهم يريد اللحم ودليله هذه الأحاديث وبهذا قال أحمد وجمهور العلماء وقال داود وبعض المالكية يجوز الاشتراك في هدى التطوع دون الواجب وقال مالك لا يجوز مطلقا وقال أبو حنيفة يجوز ان كانوا كلهم متقربين والا فلا وأجمعوا على أن الشاة لا يجوز الاشتراك فيها وفي هذه الاحاديث أن البدنة تجزى عن سبعة والبقرة عن سبعة وتقوم كل واحدة مقام سبع شياه حتى لو كان على المحرم سبعة دماء بغير جزاء الصيد وذبح عنها بدنة أو بقرة أجزأه عن الجميع قوله (فقال رجل لجابر أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور قال ما هي
[ 68 ]
الا من البدن) قال العلماء الجزور بفتح الجيم وهي البعير قال القاضي وفرق هنا بين البدنة والجزور لأن البدنة والهدى ما ابتدي اهداؤه عند الاحرام والجزور ما اشترى بعد ذلك لينحر مكانها فتوهم السائل أن هذا أحق في الاشتراك فقال في جوابه الجزور لما اشتريت للنسك صار حكمها كالبدن وقوله (ما يشترك في الجزور) هكذا في النسخ ما يشترك وهو صحيح ويكون ما بمعنى من وقد جاز ذلك في القرآن وغيره ويجوز أن تكون مصدرية أي اشتراكا كالاشتراك في الجزور قوله (فأمرنا إذا حللنا أن نهدى ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم) في هذا فوائد منها وجوب الهدى على المتمتع وجواز الاشتراك في البدنة الواجبة لان دم التمتع واجب وهذا الحديث صريح في الاشتراك في الواجب خلاف ما قاله مالك كما قدمناه عنه قريبا وفيه دليل لجواز ذبح هدى التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الاحرام بالحج وفي المسألة خلاف وتفصيل فمذهبنا أن دم التمتع انما يجب إذا فرغ من العمرة ثم أحرم بالحج فباحرام الحج يجب الدم وفي وقت جوازه ثلاثة أوجه الصحيح الذي عليه الجمهور أنه يجوز بعد فراغ العمرة وقبل الاحرام بالحج والثاني لا يجوز حتى يحرم بالحج والثالث يجوز بعد الاحرام بالعمرة والله أعلم قوله (عن جابر بن عبد الله قال كنا نتمتع مع رسول الله ص =
[ 69 ]
بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة) هذا فيه دليل للمذهب الصحيح عند الاصوليين أن لفظ كان لا يقتضي التكرار لأن احرامهم بالتمتع بالعمرة الى الحج مع النبي ص انما وجد مرة واحدة وهي حجة الوداع والله سبحانه وتعالى أعلم استحباب نحر الابل قياما معقولة قوله (ابعثها قياما مقيدة سنة نبيكم ص =) أي المقيدة المعقولة فيستحب نحر الابل وهي قائمة معقولة اليد اليسرى صح في سنن أبي داود عن جابر رضي الله عنه أن النبي ص وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقى من قوائمها اسناده على شرط مسلم أما البقر والغنم فيستحب أن تذبح مضجعة على جنبها الايسر وتترك رجلها اليمنى وتشد قوائمها الثلاث وهذا الذي ذكرنا من استحباب نحرها قياما معقولة هو مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور وقال أبو حنيفة والثوري يستوى نحرها قائمة وباركة في الفضيلة وحكى القاضي عن طاوس أن نحرها باركة أفضل وهذا مخالف للسنة والله أعلم
[ 70 ]
استحباب بعث الهدى الى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه (واستحباب تقليده وفتل القلائد وأن باعثه لا يصير محرما) (ولا يحرم عليه شئ بسبب ذلك) قولها (كان رسول الله ص = يهدى من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنب المحرم) فيه دليل على استحباب الهدى الى المحرم وأن من لم يذهب إليه يستحب له بعثه مع غيره واستحباب تقليده وإشعاره كما جاء في الرواية الأخرى بعد هذه وقد سبق ذكر الخلاف بين العلماء في الاشعار ومذهبنا ومذهب الجمهور استحباب الاشعار والتقليد في الابل والبقر وأما الغنم فيستحب فيها التقليد وحده وفيه استحباب قتل القلائد وفيه أن من بعث هديه لا يصير محرما ولا يحرم عليه شئ مما يحرم على المحرم وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا حكاية رويت عن ابن عباس وابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وحكاها الخطابي عن
[ 71 ]
أهل الرأي أيضا أنه إذا فعله لزمه اجتناب ما يجتنبه ولا يصير محرما من غير نية الاحرام والصحيح ما قاله الجمهور لهذه الأحاديث الصحيحة قولها (فتلت قلائد بدن رسول الله ص = بيدى ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها الى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عيه شئ كان له حلالا) فيه دليل على استحباب الجمع بين الاشعار والتقليد في البدن وكذلك البقر وفيه أنه إذا أرسل هدية أشعره وقلده من بلده ولو أخذه معه أخر التقليد والاشعار الى حين يحرم من الميقات أو من غيره قولها (أنا فتلت تلك القلائد من عهن) هو الصوف وقيل الصوف المصبوغ ألوانا قولها
[ 72 ]
(أهدى رسول الله ص مرة الى البيت غنما فقلدها) فيه دلالة لمذهبنا ومذهب الكثيرين أنه يستحب تقليد الغنم وقال مالك وأبو حنيفة لا يستحب بل خصا التقليد بالابل والبقر وهذا الحديث صريح في الدلالة عليهما قوله (حدثنا محمد بن جحاده) هو بجيم مضمومة ثم حاء مهملة مخففة قوله (عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته ان ابن زياد كتب الى عائشة أن عبد الله ابن عباس قال من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج) هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم أن ابن زياد قال أبو على الغساني والمازري والقاضي وجميع المتكلمين على صحيح مسلم هذا غلط
[ 73 ]
وصوابه أن زياد بن أبي سفيان وهو المعروف زباد بن أبيه وهكذا وقع على الصواب في صحيح البخاري والموطأ وسنن أبي داود وغيرها من الكتب المعتمدة ولأن ابن زياد لم يدرك عائشة والله أعلم جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها قوله (ان رسول الله ص = رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها قال يا رسول الله انها بدنة قال اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة) وفي الرواية الأخرى ويلك اركبها ويلك اركبها
[ 74 ]
وفي رواية جابر اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا هذا دليل على ركوب البدنة المهداة وفيه مذاهب مذهب الشافعي أنه يركبها إذا احتاج ولا يركبها من غير حاجة وانما يركبها بالمعروف من غير اضرار وبهذا قال ابن المنذر وجماعة وهو رواية عن مالك وقال عروة ابن الزبير ومالك في الرواية الأخرى وأحمد واسحاق له ركوبها من غير حاجة بحيث لا يضرها وبه قال أهل الظاهر وقال أبو حنيفة لا يركبها إلا أن لا يجد منه بدا وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه أوجب ركوبها المطلق لأمر ولمخالفة ما كانت الجاهلية عليه من اكرام البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي واهمالها بلا ركوب دليل الجمهور أن رسول الله ص = أهدى ولم يركب هديه ولم يأمر الناس بركوب الهدايا ودليلنا على عروة وموفقيه رواية جابر املذكورة والله أعلم وأما قوله ص = (ويلك اركبها) فهذه الكلمة أصلها لمن وقع في هلكة فقيل لأنه كان محتاجا قد وقع في تعب وجهد وقيل هي كلمة تجرى على اللسان وتستعمل من غير قصد الى ما وضعت له أولا بل تدعم بها العرب كلامها كقولهم لا أم له لا أب له تربت يداه قاتله الله ما أشجعه وعقرى حلقى وما أشبه ذلك وقد سبقت هذه اللفظة مستوفاة في كتاب الطهارة في تربت يداك قوله (حدثنا هشيم قال أخبرنا حميد عن ثابت عن أنس قال وأظنني قد سمعته من أنس) القائل وأظنني قد سمعته من أنس هو حميد ووقع في أكثر النسخ وأظنني بنونين وفيه بعضها وأظني بنون واحدة
[ 75 ]
وهي لغة قوله (قال انها بدنه أو هدية فقال وان) هكذا هو في جميع النسخ وإن فقط أي وإن كانت بدنة والله أعلم ما يفعل بالهدى إذا عطب في الطريق قوله (عن أبي التياح الضبعى) التياح بمثناة فوق ثم مثناة تحت وبحاء مهملة والضبعي بضاد
[ 76 ]
معجمة مضمومة وباء موحدة مفتوحة اسمه يزيد بن حميد البصري منسوب الى بني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن رعمى ابن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان قال السمعاني نزل أكثر هذه القبيلة البصرة وكانت بها محلة تنسب إليهم قوله (وانطلق ببدنة يسوقها فأزحفت عليه) هو بفتح الهمزة وإسكان الزاي وفتح الحاء المهملة هذا رواية المحدثين لا خلاف بينهم فيه قال الخطابي كذا بقوله المحدثون قال وصوابه والأجود فأزحفت بضم الهمزة يقال زحف البعير إذا قام وأزحفه وقال الهروي وغيره يقال أزحف البعير وأزحفه السير بالألف فيهما وكذا قال الجوهري وغيره يقال زحف البعير وأزحف لغتان وأزحفه السير وأزحف الرجل وقف بعيره فحصل أن انكار الخطابى ليس بمقبول بل الجميع جائز ومعنى أزحف وقف من الكلال والاعياء قوله (فعي بشأنها أن هي أبدعت كيف يأتي بها) أما قوله فعي فذكر صاحب المشارق والمطالع أنه روى على ثلاثة أوجه أحدها وهي رواية الجمهور فعي بياءين من الاعياء وهو العجز ومعناه عجز عن معرفة حكمها لو عطبت عليه في الطريق كيف يعمل بها والوجه الثاني فعي بياء واحدة مشددة وهي لغة بمعنى الأولى والوجه الثالث فعنى بضم العين وكسر النون من العناية بالشئ والاهتمام به وأما قوله أبدعت فبضم الهمزة وكسر الدال وفتح العين واسكان التاء ومعناه كلت وأعيت ووقفت قال أبى عبيد قال بعض الاعراب لا يكون الابداع الا بظلع وأما قوله (كيف يأتي لها) ففي بعض الأصول لها وفي بعضها بها وكلاهما صحيح قوله (لئن قدمت البلد لأستحفين عذلك) وقع في معظم النسخ قدمت البلد وفي بعضها قدمت الليلة وكلاهما صحيح وفي بعض النسخ عن ذلك وفي بعضها عن ذاك بغير لام وقوله لاستحفين بالحاء المهملة وبالفاء ومعناه لأسألن سؤالا بليغا عن ذلك يقال أحفى في المسألة إذا ألح فيها وأكثر منها قوله (فأضحيت) هو بالضاد المعجمة وبعد الحاء ياء مثناة تحت قال صاحب المطالع معناه صرت في وقت الضحى قوله أن ابن عباس حين
[ 77 ]
سألوه (قال على الخبير سقطت) فيه دليل لجواز ذكر الانسان بعض ممادحته للحاجة وإنما ذكر ابن عباس ذلك ترغيبا للسامع في الاعتناء بخبره وحثا له على الاستماع له وأنه علم محقق قوله (يا رسول الله كيف أصنع بما أبدع على منها قال انحرها ثم أصبع نعليها في دمها ثم اجعله على صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك) فيه فوائد منها أنه إذا عطب الهدى وجب ذبحه وتخليته للمساكين ويحرم الأكل منها عليه وعلى رفقته الذين معه في الركب سواء كان الرفيق مخالطا له أو في جملة الناس من غير مخالطة والسبب في نهيهم قطع الذريعة لئلا يتوصل بعض الناس الى نحره أو تعيينه قبل أوانه واختلف العلماء في الأكل من الهدى إذا عطب فنحره فقال الشافعي ان كان هدى تطوع كان له أن يفعل فيه ما شاء من بيع وذبح وأكل واطعام وغير ذلك وله تركه ولا شئ عليه في كل ذلك لأنه ملكه وإن كان هديا منذورا لزمه ذبحه فإن تركه حتى هلك لزمه ضمانه كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت فإذا ذبحه غمس نعله التي قلده اياها في دمه وضرب بها صفحة سنامه وتركه موضعه ليعلم من مر به أنه هدى فيأكله ولا يجوز للمهدى ولا لسائق هذا الهدى وقائده الأكل مه ولا يجوز للأغنياء الأكل منه مطلقا لأن الهدى مستحق للمساكين فلا يحوز لغيرهم ويجوز للفقراء من غير أهل هذه الرفقة ولا يجوز لفقراء الرفقة وفي المراد بالرفقة وجهان لأصحابنا أحدهما أنهم الذين يخالطون المهدى في الأكل وغيره دون باقي القافلة والثاني وهو الأصح وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث وظاهر نص الشافعي وكلام جمهور أصحابنا أن المراد بالرفقة جميع القافلة لأن السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه وهذا موجود في جميع القافلة فإن قيل إذا لم تجوزوا لأهل القافلة أكله وترك في البرية كان طعمة للسباع وهذا
[ 78 ]
إضاعة مال قلنا ليس فيه إضاعة بل العادة الغالبة أن سكان البوادي وغيرهم يتبعون منازل الحج لالتقاط ساقطة ونحوه وقد تأتى قافلة في اثر قافلة والله أعلم والرفقة بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنه (بعث رسول الله ص = بست عشرة بدنه) وفي الرواية الأخرى بثمان عشرة بدنة يجوز أنهما قضيتان ويجوز أن تكون قضية واحدة والمراد ثمان عشرة وليس في قوله ست عشرة نفى الزيادة لأنه مفهوم عدد ولا عمل عليه والله أعلم وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض قوله ص = (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) فيه دلالة لمن قال
[ 79 ]
بوجوب طواف الوداع وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح في مذهبنا وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وقال مالك وداود وابن المنذر هو سنة لا شئ في تركه وعن مجاهد روايتان كالمذهبين قوله (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) هذا دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض وسقوطه عنها ولا يلزمها دم بتركه هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم أمروها بالمقام لطواف الوداع دليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية المذكور بعده قوله (فقال ابن عباس اما لا فسل فلانة الأنصارية) هو بكسر الهمزة وفتح اللام وبالإمالة الخفيفة هذا هو الصواب المشهور وقال القاضي ضبطه الطبري والأصيلي أمالي بكسر اللام قال والمعروف في كلام العرب فتحها إلا أن تكون على لغة من يميل قال المازري قال ابن الأنباري قولهم افعل هذا أما لا فمعناه أفعله إن كنت لا تفعل غيره فدخلت ما زائدة لأن كما قال الله تعالى فما ترين
[ 80 ]
من البشر أحدا فاكتفوا بلا عن الفعل كما تقول العرب إن زارك فزره وإلا فلا هذا ما ذكره القاضي وقال ابن الأثير في نهاية الغريب اصل هذه الكلمة ان وما فادغمت النون في الميم وما زائدة في اللفظ لا حكم لها وقد أمالت العرب لا امالة خفيفة قال والعوام يشبعون امالتها فتصير ألفها ياء وهو خطأ ومعناه إن لم تفعل هذا فليكن هذا والله أعلم قولها (صفية بنت حي) بضم الحاء وكسرها الضم أشهر وفي حديثها دليل لسقوط طوا ف الوداع عن الحائض وإن طواف الافاضة ركن لا بد منه وأنه لا يسقط عن الحائض ولاغيرها وأن الحائض تقيم له حتى تطهر فان
[ 81 ]
ذهبت إلى وطنها قبل طواف الافاضة بقيت محرمة وقد سبق حديث صفية هذا وبيان إحرامه وضبطه ومعناه وفقهه من أوائل كتاب الحج في باب بيان وجوه الاحرام بالحج قوله (حدثني الحكم بن موسى حدثنا يحيى بن حمزة عن الأوزاعي لعله قال عن يحيى بن أبي كثير عن محمد ابن ابراهيم التيمي عن أبي سلمة عن عائشة) هكذا وقع في معظم النسخ وكذا نقله القاضي عن معظم النسخ قال وسقط عند الطبري قوله لعله قال عن يحيى بن أبي كثير قال وسقط لعله قال فقط لابن الحذاء قال القاضي وأظن أن الاسم كله سقط من كتب بعضهم أوشك فيه فألحقه على المحفوظ الصواب ونبه على الحاقه بقوله لعله قوله (قالوا يا رسول الله انها قد زارت يوم النحر) فيه دليل لمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأهل العراق أنه لا يكره أن يقال لطواف الافاضة طواف الزيارة وقال مالك يكره وليس للكراهة حجة تعتمد قولها (تنفر) بكسر الفاء وضمها الكسر أفصح
[ 82 ]
وبه جاء القرآن والله أعلم استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره (والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها) ذكر مسلم رحمة الله في الباب بأسانيد عن بلال رضي الله عنه (أن النبي ص دخل الكعبة وصلى فيها بين العمودين) وبإسناده عن أسامة رضي الله عنه (أنه ص = دعا في نواحيها ولم يضل) وأجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم فواجب ترجيحه والمراد الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود ولهذا قال ابن عمر ونسيت أن أسأله كم صلى وأما نفى أسامة فسببه أنهم لما دخولوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي ص = يدعو ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية من نواحى البيت والنبي ص = في ناحية أخرى وبلال قريب منه ثم صلى النبي ص = فرآه بلال لقربه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله وكانت صلاة خفيفة فلم يرها أسامة لاغلاق الباب مع
[ 83 ]
بعده واشتغاله بالدعاء وجاز له نفيها عملا بظنه وأما بلال فحققها فأخبر بها والله أعلم واختلف العلماء في الصلاة في الكعبة إذا صلى متوجها الى جدار منها أو الى الباب وهو مردود فقال الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد والجمهور تصح فيها صلاة النفل وصلاة الفرض وقال مالك تصح فيها صلاة النفل المطلق ولا يصح الفرض ولا الوتر ولا ركعتا الفجر ولا ركعتا الطواف وقال محمد بن جرير وأصبغ المالكي وبعض أهل الظاهر لا تصح فيها صلاة أبدا لا فريضة ولا نافلة وحكاه القاضي عن ابن عباس أيضا ودليل الجمهور حديث بلا وإذا صحت النافلة صحت الفريضة لأنهما في الموضع سواء في الاستقبال في حال النزول وإنما يختلفان في الاستقبال في حال السير في السفر والله أعلم قوله (وعثمان بن طلحة الحجبي) هو بفتح الحاء والجيم م نسوب الى حجابة الكعبة وهي ولايتها وفتحها واغلاقها وخدمتها ويقال له ولأقاربه الحجيبون وهو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان ابن عبد الدار بن قصى القرشي العبدرى أسلم مع خالد بن الوليد وعمر بن العاص في هدنة الحديبية وشهد فتح مكة ودفع النبي ص = مفتاح الكعبة إليه وأبي شيبة بن عثمان ابن أبي طلحة وقال خذوها يا بنى طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم الا ظالم ثم نزل المدينة فأقام به الى وفاة النبي ص = ثم تحول الى مكة فأقام بها حتى توفي سنة اثنتين وأربعين وقيل أنه استشهد يوم اجنادين بفتح الدال وكسرها وهي موضع بقرب بيت المقدس كانت غزوته في أوائل خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وثبت في الصحيح قوله ص = كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمى الا سقاية الحاج وسدانة البيت قال القاضي عياض
[ 84 ]
قال العلماء لا يجوز لأحد أن ينزعها منهم قال وهي ولاية لهم عليها من رسول الله ص = فتبقى دائمة لهم ولذرياتهم أبدا ولا ينازعون فيها ولا يشاركون ما داموا موجودين صالحين لذلك والله أعلم قوله (دخل الكعبة فأغلقها عليه انما أغلقها عليه ص = ليكون أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه ولئلا يجتمع الناس ويدخلوا ويزدحموا فينالهم ضرر ويتهوش عليه الحال بسبب لغطهم والله أعلم قوله (جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه) هكذا هو هنا وفي رواية للبخاري عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره وهكذا هو في الموطأ وفي سنن أبي داود وكله من رواية مالكوفي رواية للبخاري عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره قوله (قدم رسول الله ص = يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة) هذا دليل على أن هذا المذكور في أحاديث الباب من دخوله ص = الكعبة وصلاته فيها كان يوم الفتح وهذا لا خلاف فيه ولم يكن يوم حجة الوداع وفناء الكعبة بكسر الفاء وبالمد جانبها وحريمها والله أعلم قوله (فجاء بالمفتح) هو بكسر الميم وفي الرواية الأخرى المفتاح وهما لغتان قوله (فلبثو فيه مليا) أي طويلا قوله (ونسيت أن أساله كم صلى) هكذا ثبت في الصحيحين من رواية ابن عمر وجاء في سنن أبي داود بإسناد فيه ضعف عن عبد الرحمن بن صفوان قاقلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف صنع رسول الله ص = حين
[ 85 ]
دخل الكعبة قال صلى ركعتين قوله (فأجافوا عليهم الباب) أي أغلقوه قوله (وحدثني حميد بن مسعده حدثنا خالد يعنى ابن الحرث حدثنا عبد الله بن عون عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه انتهى الى الكعبة وقد دخلها النبي ص = وبلال وأسامة وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب قال ومكثوا فيه مليا ثم فتح الباب فخرج النبي ص = فرقيت
[ 86 ]
الدرجة فدخلت البيت فقلت أين صلى النبي ص = قالوا ههنا ونسيت أن أسألهم كم صلى) هكذا وقعت هذه الرواية هنا وظاهرة أن ابن عمر سأل بلالا وأسامة وعثمان جميعهم قال القاضي عياض ولكن أهل الحديث وهنوا هذا لرواية فقال الدار قطني وهم ابن عون هنا وخالفه غيره فأسندوه عن بلال وحده قال القاضي وهذا هو الذي ذكره مسلم في باقي الطرق فسألت بلال فقال الا أنه وقع في رواية حرملة عن ابن وهب فأخبرني بلال وعثمان بن طلحة أن رسول الله ص = صلى في جوف الكعبة هكذا هو عند عامة شيوخنا وفي بعض النسخ وعثمان بن أبي طلحة قال وهذا يعضد رواية بن عون والمشهور انفراد بلال برواية ذلك والله أعلم
[ 87 ]
قوله (فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين وقال هذه القبلة) قوله قبل البيت هو بضم القاف والباء ويجوز اسكان الباء كما في نظائره قيل معناه ما استقبلك منها وقيل مقابلها وفي رواية في الصحيح فصلى ركعتين في وجه الكعبة وهذا هو المراد بقبلها ومعناه عند بابها وأما قوله ركع في قبل البيت فمعناه صلى وقوله ركعتين دليل لمذهب الشافعي والجمهور أن تطوع النهار يستحب أن يكون مثنى وقال أبو حنيفة أربعا وسبقت المسألة في كتاب الصلاة وأما قوله ص = هذه القبلة فقال الخطابي معناه أمر القبلة قد استقر على استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم فصلوا إليه أبدا قال ويحتمل أنه علمهم سنة موقف الامام وأنه يقف في وجهها دون أركانها وجوانبها وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزئة هذا كلام الخطابي ويحتمل معنى ثالثا وهو أن معناه هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله لاكل الحرم ولا مكة ولا كل المسجد الذي حول الكعبة بل هي الكعبة نفسها والله أعلم قوله (أدخل النبي ص =
[ 88 ]
البيت في عمرته قال لا) هذا مما اتفقوا عليه قال العلماء والمراد به عمرة القضاء التي كانت سنة سبع من الهجرة قبل فتح مكة قال العلماء وسبب عدم دخوله ص = ما كان في البيت من الأصنام والصور ولم يكن المشركون يتركونه لتغييرها فلما فتح الله تعالى عليه مكة دخل البيت وصلى فيه وأزال الصور قبل دخوله والله أعلم نقض الكعبة وبنائها قوله ص = (لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس ابراهيم فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا) وفي الرواية الأخرى اقتصروا
[ 89 ]
عن قواعد ابراهيم وفي الاخرى فإن قريشا اقتصرتها وفي الاخرى استقصروا من بنيان البيت وفي الاخرى قصروا في البناء وفي الأخرى قصرت بهم النفقة قال العلماء هذه الروايات كلها بمعنى واحد ومعنى استقصرت قصرت عن تمام بنائها واقتصرت على هذا لاقدر لقصور النفقة بهم عن تمامها وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم لان النبي ص = أخبر أن نقض الكعبة وردها الى ما كانت عليه من قواعد ابراهيم ص = مصلحة ولكن تعارضه مفسده أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيما فتركها ص = ومنها فكر ولي الأمر في مصالح رعيته واجتنابه ما يخاف منه تولد ضرر عليهم في دين أو دنيا الا الأمور الشرعية كأخذ الزكاة وإقامة الحدود ونحو ذلك ومنها تألف قلوب الرعية وحسن حياطتهم وأن لا ينفروا ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي كما سبق قال العلماء بنى البيت خمس مرات بنته الملائكة ثم ابراهيم ص = ثم قريش في الجاهلية وحضر النبي ص = هذا البناء وله خمس وثلاثون سنة وقيل خمس وعشرون وفيه سقط على الأرض حين وقع ازاره ثم بناه ابن الزبير ثم الحجاج بن يوسف واستمر الى الآن على بناء الحجاج وقيل بنى مرتين آخريين أو ثلاثا وقد أوضحته في كتاب ايضاح المناسك الكبير قال العلماء ولا يغير عن هذا البناء وقد ذكروا أن هرون الرشيد سأل مالك ابن أنس عن هدمها وردها الى بناء ابن الزبير للاحاديث المذكورة في الباب فقال مالك ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تجعل هذا البيت لعبة للملوك لا يشاء أحد الا نقضه وبناه فتذهب هيبته من صدور الناس وبالله التوفيق قوله ص = (ولجعلت لها خلفا) هو بفتح الخاء المعجمة وإسكان اللام وبالفاء هذا هو الصحيح المشهور والمراد به باب من خلفها وقد جاء مفسرا في الرواية الأخرى ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا وفي صحيح البخاري قال هشام خلفا يعني بابا وفي الرواية الأخرى لمسلم بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه وفي رواية البخاري ولجعلت لهخلفين قال القاضي وقد ذكر الحربي هذا الحديث هكذا وضبطه خلفين بكسر الخاء وقال الخالفة عمود في مؤخر البيت وقال الهروي خلفين بفتح
[ 90 ]
الخاء قال القاضي وكذا ضبطناه على شيخنا أبي الحسين قال وذكر الهروي عن ابن الأعرابي أن الخلف الظهر وهذا يفسر أن المراد الباب كما فسرته الأحاديث الباقية والله أعلم قوله ص = (لولا حدثان قومك) هو بكسر الحاء واسكان الدال أي قرب عهدهم بالكفر والله أعلم قوله (فقال عبد الله بن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا) قال القاضي ليس هذا اللفظ من ابن عمر على سبيل التضعيف لروايتها والتشكيك في صدقها وحفظها فقد كانت من الحفظ والضبط بحيث لا يستراب في حديثها ولا فيا تنقله ولكن كثيرا ما يقع في كلام العرب صورة التشكيك والتقرير والمراد به اليقين كقوله تعالى وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع الى حين وقوله تعالى قل ان ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت الآية قوله ص = (لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله) فيه دليل لتقديم أهم المصالح عند تعذر جميعها كما سبق إيضاحه في أول الحديث وفيه دليل لجواز انفاق كنز الكعبة ونذورها الفاضلة عن مصالحها في سبيل الله لكن جاء في رماية لأنفقت كنز الكعبة في بنائها وبناؤها من سبيل الله فلعله المراد بقوله في الرواية الأولى في سبيل الله والله أعلم ومذهبنا أن الفاضل من وقف مسجد أو غيره لا يصر ف في مصالح مسجد آخر ولا غيره بل يحفظ دائما للمكان الموقوف عليه الذي فضل منه فربما احتاج إليه والله اعلم قوله ص =
[ 91 ]
(ولأدخلت فيها من الحجر) وفي رواية وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة وفي رواية خمس أذرع وفي رواية قريبا من سبع أذرع وفي رواية قالت عائشة سألت رسول الله ص = عن الجدار أمن البيت هو قال نعم وفي رواية لولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكره قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدار في البيت قال اصحابنا ست أذرع من الحجر مما يلي البيت محسوبة من البيت بلا خلاف وفي الزائد خلاف فإن طاف في الحجر وبينه وبين البيت أكثر من ستة أذرع ففيه وجهان لأصحابنا أحدهما يجوز لظواهر هذه الأحاديث وهذا هو الذي رجحه جماعات من أصحابنا الخراسانيين والثاني لا يصح طوافه في شئ من الحجر ولا على جداره ولا يصح حتى يطوف خارجا من جميع الحجر وهذا هو الصحيح وهو الذي نص عليه الشافعي وقطع به جماهير أصحابنا العراقيين ورجحه جمهور الأصحاب وبه قال جميع علماء المسلمين سوى ابي حنيفة فإنه قال ان طاف في الحجر وبقي في مكة أعاده وإن رجع من مكة بلا اعادة أراق دما وأجزأه طوافه واحتج الجمهور بأن النبي ص = طاف من وراء الحجر وقال لتأخذوا مناسككم ثم أطبق المسلمون عليه من زمنه ص = إلى الآن وسواء كان كله من البيت أم بعضه فالطواف يكون من ورائه كما فعل النبي ص = والله أعلم ووقع في رواية ستة أذرع بالهاء وفي رواية خمس وفي رواية قريبا من سبع بحذف الهاء وكلاهما صحيح ففي الذارع لغتان مشهورتان التأنيث والتذكير والتأنيث أفصح قوله
[ 92 ]
(لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرئهم أو يحربهم على أهل الشام) أما الحرف الأول فهو يجرثهم بالجيم والراء بعدها همزة من الجراءة أي يشجعهم على قتالهم بإظهار قبح فعالهم هذا هو المشهور في ضبطه قال القاضي ورواه العذري يجربهم بالجيم والباء الموحدة ومعناه يختبرهم وينظر ما عندهم في ذلك من حمية وغضب لله تعالى ولبيته وأما الثاني وهو قوله أو يحربهم فهو بالحاء المهملة والراء والباء الموحدة وأوله مفتوح ومعناه يغيظهم بما يرونه قد فعل بالبيت من قولهم حربت الأسد إذا أغضبته قال القاضي وقد يكون معناه يحملهم على الحرب ويحرضهم عليها ويؤكد عزائمهم لذلك قال ورواه آخرون يحزبهم بالحاء والزاي يشد قوتهم ويميلهم إليه ويجعلهم حزبا له وناصرين له على مخالفيه وحزب الرجل من مال إليه وتحازب القوم تمالوا قوله (يا أيها الناس أشيروا على في الكعبة) فيه دليل لاستحباب مشاورة الامام أهل الفضل والمعرفة في الأمور المهمة قوله (قال ابن عباس فإني قد فرق لي فيه رأي) هو بضم الفاء وكسر الراء أي كشف وبين قال الله تعالى وقرآنا فرقناه أي فصلناه وبيناه هذا هو الصواب في ضبطه هذه اللفظه ومعناها وهكذا ضبطه القاضي والمحققون وقد جعله الحميدى صاحب الجمع بين الصحيحين في كتابه غريب الصحيحين فرق بفتح الفاء بمعنى خاف وأنكروه عليه وغلطوا الحميدى في ضبطه وتفسيره قوله (فقال ابن الزبير لو كان أحدكم احترق بيته
[ 93 ]
ما رضى حتى يجده) هكذا هو في أكثر النسخ يجده بضم الياء وبدال واحدة وفي كثير منها يجدد بدالين وهما بمعنى قوله (تتابعوا فنقضوه) هكذا ضبطناه تتابعوا بياء موحدة قبل العين وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا وكذا ذكره القاضي عن رواية الأكثرين وعن أبي بحر تتابعوا وهو بمعناه الا أن أكثر ما يستعمل بالمثناة في الشر خاصة وليس هذا موضعه قوله (فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه) المقصود بهذه الأعمدة والستور أن يستقبلها المصلون في تلك الأيام ويعرفوا موضع الكعبة ولم تزل تلك الستور حتى ارتفع البناء وصار مشاهدا للناس فأزالها لحصول المقصود بالبناء المرتفع من الكعبة واستدل القاضي عياض بهذا لمذهب مالك في أن المقصود بالاستقبال البناء لا البقعة قال وقد كان ابن عباس أشار على ابا الزبير بنحو هذا وقال له إن كنت هادمها فلا تدل الناس بلا قبلة فقال له جابر صلوا إلى موضعها فهي القبلة ومذهب الشافعي وغيره جواز الصلاة إلى أرض الكعبة ويجزيه ذلك بلا خلاف عند سواء
[ 94 ]
كان بقى منها شاخص أم لا والله أعلم قوله (إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شئ) يريد بذلك سبه وعيب فعله يقال لطخته أي رميته بأمر قبيح قوله (وفد الحرث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته) هكذا هو في جميع النسخ الحرث بن عبد الله وليس في شئ منها خلاف ونسخ بلادنا هي رواية عبد الغفار بن الفارسي وادعى القاضي عياض أنه وقع هكذا لجميع الرواة سوى الفارسي فإن في روايته الحرث بن عبد الأعلى قال وهو خطأ بل الصواب الحرث بن عبد الله وهذا الذي نقله عن رواية الفارسي غير مقبول بل الصواب أنها كرواية غيره الحرث بن عبد الله ولعله وقع للقاضي نسخة عن الفارسي فيها هذه اللفظة مصحفة على الفارسي لا من الفارسى والله أعلم قوله (ما أظن أبا خبيب) هو بضم الخاء المعجمة وسبق بيانه مرات
[ 95 ]
قوله ص = (لولا حداثة عهدهم) هو بفتح الحاء أي قربه قوله ص = (فإن بدا لقومك) هو بغير همزة يقال بداله في الأمر بداء بالمد أي حدث له فيه رأي لم يكن وهو ذو بدوات أي يتغير رأيه والبداء محال على الله تعالى بخلاف النسخ قوله (فهلمى لأريك) هذا جار على إحدى اللغتين في هلم قال الجوهري تقول هلم يا رجل بفتح الميم بمعنى تعال قال الخليلي أصله لم من قولهم لم الله شعثه أي جمعه كأنه أراد لم نفسك الينا أي اقرب وها للتنبيه وحذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا إسما واحدا يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع المؤنث فيقال في الجماعة هلم هذه لغة أهل الحجاز قال الله تعالى والقائلين لاخوانهم هلم الينا وأهل نجد يصرفونها فيقولون للأثنين هلما وللجمع هلموا وللمرأة هلمى وللنساء هلمن والأول أفصح هذا كلام الجوهرى قوله ص = (حتى إذا كان أن يدخل) هكذا هو في النسخ كلها كاد أن يدخل وفيه حجة لجواز دخول أن بعد كاد وقد كثر ذلك وهي لغة فصيحة ولكن الأشهر عدمه قوله (فنكت ساعة بعصاه) أي بحث بطرفها في الأرض وهذه عادة من تفكر في أمر مهم قوله
[ 96 ]
(فقال الحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث) هذا فيه الانتصار للمظلوم ورد الغيبة وتصديق الصادق إذا كذبه إنسان والحرث هذا تابعي وهو الحرث ابن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قولها (سألت رسول الله ص عن الجدار) وفي آخر الحديث (لنظرت أن أدخل الجدر في البيت) هو بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة وهو الحجر وسبق بيان حكمه قوله ص = في حديث سعيد بن منصور
[ 97 ]
(ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية) هكذا هو في جميع النسخ في الجاهلية وهو بمعنى بالجاهلية كما في سائر الروايات والله أعلم الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت قوله (كان الفضل بن عباس رديف رسول الله ص = فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله ص = يصرف وجه الفضل الى الشق الآخر فقالت يا رسول الله ان فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا
[ 98 ]
كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع) وفي الرواية الأخرى فحجي عنه هذا الحديث فيه فوائد منها جواز الارداف على الدابة إذا كانت مطيقة وجواز سماع صوت الأجنبية عند الحاجة في الاستفتاء والمعاملة وغير ذلك ومنها تحريم النظر الى الأجنبية ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه ومنها جواز النيابة في الحج عن العاجز المأيوس منه بهرم أو زمانة أو موت ومنها جواز حج المرأة عن الرجل ومنها بر الوالدين بالقيام بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقة وحج عنهما وغير ذلك ومنها وجوب الحج على من هو عاجز بنفسه مستطيع بغيره كولده وهذا مذهبنا لأنها قالت أدركته فريضة الحج شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ومنها جواز قول حجة الوداع وأنه لا يكره ذلك وسبق بيان هذا مرات ومنها جواز حج المرأة بلا محرم إذا أمنت على نفسها وهو مذهبنا ومذهب الجمهور جواز الحج عن العاجز بموت أو عضب وهو الزمانة والهرم ونحوهما وقال مالك والليث والحسن بن صالح لا يحج أحد عن أحد الا عن ميت لم يحج حجة الاسلام قال القاضي وحكى عن النخعي وبعض السلف لا يصح الحج عن ميت ولا غيره وهي رواية عن مالك وإن أوصى به وقال الشافعي والجمهور يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره سواء أوصى به أم لا ويجزى عنه ومذهب الشافعي وغيره أن ذلك واجب في تركته وعندنا يجوز للعاجز الاستبانة في حج التطوع على أصح القولين واتفق العلماء على جواز حج المرأة عن الرجل الا الحسن بن صالح فمنعه وكذا يمنعه من منع أصل الاستبانة مطلقا والله أعلم
[ 99 ]
صحة حج الصبي وأجر من حج به قوله (لقى ركبا بالروحاء فقال من القوم فقالوا المسلمون فقالوا من أنت قال رسول الله) ص = الركب أصحاب الابل خاصة وأصله أن يستعمل في عشرة فما دونها وسبق في مسلم في الأذان أن الروحاء مكان على ستة وثلاثين ميلا من المدينة قال القاضي عياض يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلا فلم يعرفوه ص = ويحتمل كونه نهارا لكنهم لم يروه ص = قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجروا قبل ذلك قوله (فرفعت امرأة صبيا لها فقال أهذا حج قال نعم ولك أجر) فيه حجة للشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزيه عن حجة الاسلام بل يقع تطوعا وهذا الحديث صريح فيه وقال أبو حنيفة لا يصح حجة قال أصحابه وإنما فعلوه تمرينا له ليعتاده فيفعله إذا بلغ وهذا الحديث يرد عليهم قال القاضي لا خلاف بين العلماء في جواز الحج بالصبيان وإنما منعه طائفة من أهل البدع ولا يلتفت الى قولهم بل هو مردود بفعل النبي ص =
[ 100 ]
وأصحابه وإجماع الأمة وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه وتجرى عليه أحكام الحج وتجب فيه الفدية ودم الجبران وسائر أحكام البالغ فأبو حنيفة يمنع ذلك كله ويقول إنما يجب ذلك تمرينا على التعليم والجمهور يقولون تجرى عليه أحكام الحج في ذلك ويقولون حجة منعقد يقع نفلا لأن النبي ص = جعل له حجا قال القاضي وأجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الاسلام الا فرقة شذت فقالت يجزئه ولم تلتفت العلماء الى قولها قوله ص = (ولك أجر) معناه بسبب حملها وتجنيبها إياه ما يجتنبه المحرم وفعل ما يفعله المحرم والله أعلم وأما الولى الذي يحرم عن الصبي فالصحيح عند أصحابنا أنه الذي يلي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي أو القيم من جهة القاضي أو القاضي أو الامام وأما الأم فلا يصح احرامها عنه إلا أن تكون وصية أو قيمة من جهة القاضي وقيل انه يصح إحرامها وإحرام العصبة وان لم يكن لهم ولاية المال هذا كله إذا كان صغيرا لا يميز فإن كان مميزا أذن له الولى فأحرم فلو أحرم بغير إذن الولى أو أحرم الولى عنه لم ينعقد على الأصح وصفة إحرام الولى عن غير المميز أن يقول بقلبه جعلته محرما والله أعلم فرض الحج مرة في العمر قوله ص = (أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله
[ 101 ]
فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله ص = لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه) هذا الرجل السائل هو الاقرع بن حابس كذا جاء مبينا في غير هذه الرواية واختلف الأصوليون في أن الأمر هل يقتضي التكرار والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه والثاني يقتضيه والثالث يتوقف فيما زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضائه ولا يمنعه وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف لأنه سأل فقال أكل عام ولو كان مطلقه يقتضى التكرار أو عدمه لم يسأل ولقال له النبي ص = لا حاجة الى السؤال بل مطلقة محمول على كذا وقد يجيب الآخرون عنه بأنه سأل استظهارا واحتياطا وقوله ذروني ما تركتكم ظاهر في أنه لا يقتضى التكرار قال الماوردي ويحتمل أنه انما احتمل التكرار عنده من وجه آخر لأن الحج في اللغة قصد فيه تكرر فاحتمل عنده التكرار من جهة الاشتقاق لا من مطلق الأمر قال وقد تعلق بما ذكرناه عن اهل اللغة ههنا من قال بإيجاب العمرة وقال لما كان قوله تعالى ولله على الناس حج البيت يقتضى تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق وقد أجمعوا على أن الحج لا يجب الا مرة كانت العودة الأخرى الى البيت تقتضي كونها عمرة لأنه لا يجب قصده لغير حج وعمرة بأصل الشرع وأما قوله ص لو قلت نعم لوجبت ففيه دليل للمذهب الصحيح أنه ص = كان له أن يجتهد في الأحكام ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحى وقيل يشترط وهذا القائل يجيب عن هذا الحديث بأنه لعله أوحى إليه ذلك والله أعلم قوله ص = (ذروني ما تركتكم) دليل على أن الأصل عدم الوجوب وأنه لا حكم قبل ورود الشرع وهذا هو الصحيح عند محققى الأصوليين لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا قوله ص =
[ 102 ]
(فإذا أمرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم) هذا من قواعد الاسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي اعطيها ص = ويدخل فيها ما لا يحصى من الاحكام كالصلاة بأنواعها فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن وإذا وجبت إزالة منكرات أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك وأمكنه البعض فعل الممكن وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن وأشباه هذا غير منحصرة وهي مشهورة في كتب الفقه والمقصود التنبيه على أصل ذلك وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وأما قولتعالى اتقوا الله حق تقاته ففيها مذهبان أحدهما أنها منسوحة بقوله تعالى فاتقو الله ما استطعتم والثاني هوه الصحيح أو الصواب وبه جزم المحققون أنها ليست منسوخة بل قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم مفسرة لها ومبينة للمراد بها قالو وحق تقاته هو امتثال أمره واجتناب نهيه ولم يأمر سبحانه وتعالى الا بالمستطاع قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها وقال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج والله أعلم وأما قوله ص = (وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه) فهو على إطلاقه فإن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الاكراه أو التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره ونحو ذلك فهذا ليس منهيا عنه في هذا الحال والله أعلم وأجمعت الامة على أن الحج لا يجب في العمر الا مرة واحدة بأصل الشرع وقد تجب زيادة بالنذر وكذا إذا أراد دخول الحرم لحاجة لا تكرر كزيارة وتجارة على مذهب من أوجب الاحرام لذلك بحج أو عمرة وقد سبقت المسألة في أول كتاب الحج والله أعلم سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره قوله ص = (لا تسافر المرأة ثلاثا الا ومعها ذو محرم) وفي رواية فوق ثلاث
[ 103 ]
وفي رواية ثلاثة وفي رواية لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال الا ومعها ذو محرم وفي رواية لا تسافر المرأة يومين من الدهر الا ومعها ذو محرم منها أو زوجها وفي رواية نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين وفي رواية لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة الا ومعها ذو حرمة منها وفي رواية لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم الا مع ذي محرم وفي رواية مسيرة يوم وليلة وفي رواية لا تسافر امرأة الا مع ذي محرم هذه روايات مسلم وفي رواية لأبي داود ولا تسافر بريدا والبريد مسيرة نصف يوم قال العلماء اختلاف هذه الالفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد قال البيهقي كأنه ص = سئل عن المرأة تسافر ثلاثا بغير محرم فقال لا وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال لا وسئل عن سفرها يوما فقال وكذلك البريد فأدى كل منهم ما سمعه وما جاء منها مختلفا عن رواية واحد فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر ولم يرد ص = تحديد أقل ما يسمى سفرا فالحاصل أن كل ما يسمى سفرا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوما أو بريدا أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة وهي آخر روايات مسلم السابقة لا تسافر امرأة الا مع ذي
[ 104 ]
محرم وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرا والله أعلم وأجمعت الأمة على أن المرأة يلزمها حجة الاسلام إذا استطاعت لعموم قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وقوله ص بنى الاسلام على خمس الحديث واستطاعتها كاستطاعة الرجل لكن اختلفوا في اشتراط المحرم لها فأبو حنيفة يشترطه لوجوب الحج عليها الا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل ووافقه جماعة من اصحاب الحديثة وأصحاب الرأي وحكى ذلك أيضا عن الحسن البصري والنخعي وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في المشهور عنه لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها قال أصحابنا يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات ولا يلزمها الحج عندنا الا بأحد هذه الأشياء فلو وجد ت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها لكن يجوز لها الحج معها هذا هو الصحيح وقال بعض أصحابنا يلزمها بوجود نسوة أو أمرأة واحدة وقد يكثر الأمن ولا تحتاج الى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة والمشهور من نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول واختلف أصحابنا في خروجها لحج التطوع وسفر الزيارة والتجارة ونحو ذلك من الأسفار التي ليست واجبة فقال بعضهم يجوز لها الخروج فيها مع نسوة ثقات كحجة الاسلام وقال الجمهور لا يجوز الا مع زوج أو محرم وهذا هو الصحيح للأحاديث الصحيحة وقد قال القاضي واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة الا مع ذي محرم الا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على أن عليها أن تهاجر منه الى دار الاسلام وإن لم يكن معها محرم والفرق بينهما أن اقامتها في دار الكفر حرام إذا لم تستطع إظهار الدين وتخشى على دينها ونفسها وليس كذلك التأخر عن الحج فإنهم اختلفوا في الحج هل هو على الفور أم على التراخي قال القاضي عياض قال الباجى هذا عندي في الشابه وأما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر كيف شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا محرم وهذا الذي قاله الباجي لا يوافق عليه لأن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كانت
[ 105 ]
كبيرة وقد قالوا لكل ساقطة لاقطة ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وخيانته ونحو ذلك والله أعلم واستدل أصحاب أبي حنيفة برواية ثلاثة أيام لمذهبهم أن قصر الصلاة في السفر لا يجوز الا في سفر يبلغ ثلاثة أيام وهذ استدلال فاسد وقد جاءت الأحاديث بروايات مختلفة كما سبق وبينا مقصودها وأن السفر يطلق على يوم وعلى بريد وعلى دون ذلك وقد أوضحت الجواب عن شبهتهم إيضاحا بليغا في باب صلاة المسافر من شرح المهذب والله أعلم قوله ص = (الا ومعها ذو محرم) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن جميع المحارم سواء في ذلك فيجوز لها المسافرة مع محرمها بالنسب كابنها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها وعمها ومع محرمها بالرضاع كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه ونحوهم ومع محرمها من المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها ولا كراهة في شئ من ذلك وكذا يجوز لكل هؤلاء الخلوة بها والنظر إليها من غير حاجة ولكن لا يحل النظر بشهوة لأحد منهم هذا مذهب الشافعي والجمهور ووافق مالك على ذلك كله الا ابن زوجها فكره سفرها معه لفساد الناس بعد العصر الأول ولأن كثيرا من الناس لا ينفرون من زوجة الأب نفرتهم من محارم النسب قال والمرأة فتنة الا فيما جبل الله تعالى النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب وعموم هذا الحديث يرد على مالك والله أعلم وأعلم أن حقيقة المحرم من النساء التي يجوز النظر إليها والخلوة بها والمسافرة بها كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها فقولنا على التأبيد احتراز من أخت المرأة وعمتها وخالتها ونحوهن وقولنا بسبب مباح احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنهما تحرمان على التأبيد وليستا محرمين لأن وطء الشبهة لا يوصف بالاباحة لأنه ليس بفعل مكلف وقولنا لحرمتها احتراز من الملاعنة فإنها محرمة على التأبيد بسبب مباح وليست محرما لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظا والله أعلم قوله ص = (لا تشدوا الرحال الا الى ثلاثة
[ 106 ]
مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) فيه بيان عظيم فضيلة هذه المساجد الثلاثة ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولفضل الصلاة فيها ولو نذر الذهاب الى المسجد الحرام لزمه قصده لحج أو عمرة ولو نذره الى المسجدين الآخرين فقولان للشافعي أصحهما عند أصحابه يستحب قصدهما ولا يجب والثاني يجب وبه قال كثيرون من العلماء وأما باقى المساجد سوى الثلاثة فلا يجب قصدها بالنذر ولا ينعقد نذر قصدها هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا محمد بن مسلمة المالكي فقال إذا نذر قصد مسجد قباء لزمه قصده لأن النبي ص = كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا وقال الليث بسعد يلزمه قصد ذلك المسجد أي مسجد كان وعلى مذهب الجماهير لا ينعقد نذره ولا يلزمه شئ وقال أحمد يلزمه كفارة يمين واختلف العلماء في شد الرحال وأعمال المطى الى غير المساجد الثلاثة كالذهاب الى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجوينى من أصحابنا هو حرام وهو الذي أشار القاضي عياض الى اختياره والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره امام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره قالوا والمراد أن الفضلية التامة انما هي في شد الرحال الى هذه الثلاثة خاصة والله أعلم قوله (فأعجبني وآنقننى) قال القاضي معنى آنقننى أعجبنني وإنما كرر المعنى لاختلاف اللفظ والعرب تفعل ذلك كثيرا للبيان والتوكيد قال الله تعالى أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة والصلاة من الله الرحمة وقال تعالى فكلوا
[ 107 ]
مما غنمتم حلالا طيبا والطيب هو الحلال ومنه قول الحطيئة الا حبذا هند أرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد والنأي هو البعد قوله (حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك بن سعيد بن أبي سعيد المقبرى عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ص = قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة الا مع ذي محرم منها هكذا) وقع
[ 108 ]
هذا الحديث في نسخ بلادنا عن سعيد عن أبيه قال القاضي عياض وكذا وقع في النسخ عن الجلودى وأبي العلاء والكسائي وكذا رواه مسلم في الاسناد السابق قبل هذا عن قتيبة عن الليث عن سعيد عن أبيه وكذا رواه البخاري ومسلم من رواية ابن أبي ذئب عن سعيد عن أبيه قال واستدرك الدارقطني عليهما اخراجهما هذا عن ابن أبي ذئب وعلى مسلم اخراجه اياه عن الليث عن سعيد عن أبيه وقال الصواب عن سعيد عن أبي هريرة من غير ذكر أبيه واحتج بأن مالكا ويحيى بن أبي كثير وسهيلا قالوا عن سعيد المقبرى عن أبي هريرة ولم يذكروا عن أبيه قال قال والصحيح عن مسلم في حديثه هذا عن يحيى بن يحيى عن مالك عن سعيد عن أبي هريرة من غير ذكر أبيه وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقي وكذا رواه معظم رواة الموطأ عن مالك قال الدارقطني ورواه الزهراني والقروى عن مالك فقالا عن سعيد عن أبيه هذا كلام القاضي قلت وذكر خلف الواسطي في الأطراف أن مسلما رواه عن يحيى بن يحيي عن مالك عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة وكذا رواه أبو داود في كتاب الحج من سننه والترمذي في النكاح عن الحسن عن على عن بشر بن عمر عن مالك عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه أبو داود في الحج أيضا عن القعنبى والعلاء عن مالك عن يوسف
[ 109 ]
ابن موسى عن جرير كلاهما عن سهيل عن سعيد عن أبي هريرة فحصل اختلاف ظاهر بين الحافظ في ذكر أبيه فلعله سمعه من أبيه عن أبي هريرة ثم سمعه من أبي هريرة نفسه فرواه تراة كذا وتارة كذا وسماعه من أبي هريرة صحيح معروف والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يخلون رجل بامرأة أو معها ذو محرم) هذا استثناء منقطع لأنه متى كان معها محرم لم تبق خلوة فتقدير الحديث لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم وقوله ص = (ومعها ذو محرم) يحتمل أن يريد محرما لها ويحتمل أن يريد محرما لها أوله وهذا الاحتمال الثاني هو الجارى على قواعد الفقهاء فإنه لا فرق بين أن يكون معها محرم لها كأبنها وأخيها وأمها وأختها أو يكون محرما له كأخته وبنته وعمته وخالته فيجوز القعود معها في هذه الأحوال ثم إن الحديث مخصوص ايضا بالزوج فإنه لو كان معها زوجها كان كالمحرم وأولى بالجواز وأما إذا خلال الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما فهو حرام بإتفاق العلماء وكذا لو كان معهما من لا يستحى منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك فإن وجوده كالعدم وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام بخلاف ما لو اجتمع رجل بنسوة أجانب فإن الصحيح جوازه وقد أوضحت المسألة في شرح المهذب في باب صفة الأئمة في أوائل كتاب الحج والمختار أن الخلوة بالأمرد الأجنبي الحسن كالمرأة فتحرم الخلوة حيث حرمت بالمرأة إلا إذا كان في جمع من الرجال المصونين قال أصحابنا ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في صلاة أو غيرها ويستثنى من هذا كله مواضع الضرورة بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق أو نحو ذلك فيباح له استصحابها بل يلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها وهذ لا اختلاف فيه ويدل عليه حديث عائشة في قصة الافك والله أعلم قوله (فقال رجل يا رسول الله ان امرأتي خرجت
[ 110 ]
حاجة وإنى اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال انطلق فحج مع امرأتك) فيه تقديم الأهم من الأمور المتعارضة لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها لأن الغزو يقوم غيره في مقامه عنه بخلاف الحج معها قوله (وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا هشام يعنى أن سليمان المخزومي عن ابن جريج بهذا الاسناد نحوه لم يذكر ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم) هذا آخر الفوات الذي لم يسمعه أبو اسحاق إبراهيم بن سفيان من مسلم وقد سبق بيان أوله عند أحاديث رحم الله المحلقين والمقصرين ومن هنا قال أبو إسحاق حدثنا مسلم بن الحجاج قال وحدثني هارون بن عبد الله قال حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرني أبو الزبير الحديث وهو أول الباب الذي ذكره متصلا بهذا والله أعلم استحباب الذكر إذا ركب دابته متوجها لسفر حج (أو غيره وبيان الأفضل من ذلك الذكر) قوله (كان إذا استوى على بعيره خارجا الى سفر كبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا
[ 111 ]
وما كنا له مقرنين إلى آخره) معنى مقرنين مطيقين أي ما كنا نطيق قهره واستعماله لولا تسخير الله تعالى إياه لنا وفي هذا الحديث استحباب هذا الذكر عند ابتداء الأسفار كلها وقد جاءت فيه أذكار كثيرة جمعتها في كتاب الأذكار قوله ص = (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل) الوعثاء بفتح الواو وإسكان العين المهملة وبالثاء المثلثة وبالمد وهي المشقة والشدة والكآبة بفتح الكاف وبالمد وهي تغير النفس من حزن ونحوه والمنقلب بفتح اللام المرجع قوله (والحور بعد الكون) هكذا هو في معظم النسخ من صحيح مسلم بعد الكون بالنون بل لا يكاد يوجد في نسخ بلادنا إلا بالنون وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم قال القاضي وهكذا رواه الفارسى وغيره من رواة صحيح مسلم قال ورواه العذري بعد الكور بالراء قال والمعروف في رواية عاصم الذي رواه مسلم عنه بالنون قال القاضي قال إبراهيم الحربى يقال ان عاصما وهم فيه وأن صوابه الكور بالراء قلت وليس كما قال الحربي بل كلاهما روايتان وممن ذكر الروايتين جميعا الترمذي في جامعه وخلائق من المحدثين وذكرهما أبو عبيد وخلائق من أهل اللغة وغريب الحديث قال الترمذي بعد أن رواه بالنون ويروى بالراء أيضا ثم قال وكلاهما له وجه قال ويقال هو الرجوع من الايمان الى الكفر أو من الطاعة الى المعصية ومعناه الرجوع من شئ الى شئ من الشر هذا كلام
[ 112 ]
الترمذي وكذا قال غيره من العلماء معناه بالراء والنون جميعا الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص قالوا ورواية الراء مأخوذة من تكوين العمامة وهو لفها وجمعها ورواية النون مأخوذة من الكون مصدر كان يكون كونا إذا وجد واستقر قال المازرى في رواية الراء قيل أيضا أن معناه أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها يقال كار عمامته إذا لفها وحارها إذا نقضها وقيل نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس وعلى رواية النو قال أبو عبيد سئل عاصم عن معناه فقال ألم تسمع قولهم حار بعد ما كان أي أنه كان على حالة جميلة فرجع عنها والله قوله ص = (ودعوة المظلوم) أي أعوذ بك من الظلم فإنه يترتب عليه دعاء المظلوم ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ففيه التحذير من الظلم ومن التعرض لأسبابه ما يقال إذا رجع من سفر الحج وغيره قوله (قفل من الجيوش) أي رجع من الغزو وقوله (إذا أوفى على ثنية أو فدفد
[ 113 ]
كبر) معنى أو في ارتفع علا والفدفد بفائين مفتوحتين بينهما دال مهملة ساكنة وهو الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع وقيل هو الفلاة التي لا شئ فيها وقيل غليظ الأرض ذات الحصى وقيل الجلد من الأرض في ارتفاع وجمعه فدافد قوله ص = (آيبون) أي راجعون قوله ص = (صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) أي صدق وعده في إظهار الدين وكون العاقبة للمتقين وغير ذلك من وعده سبحانه إن اللا يخلف الميعاد وهزم الأحزاب وحده أي من غير قتال من الآدميين والمراد الأحزاب الذين اجتمعوا يوم الخندق وتحزبوا على رسول الله ص = فأرسل الله عليهم ريحا وجنودا لم تروها وبهذا يرتبط قوله ص = صدق الله تكذيبا لقول المنافقين والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا هذا هو المشهور أن المراد أحزاب يوم الخندق قال القاضي وقيل يحتمل أن المراد أحزاب الكفر في جميع الأيام والمواطن والله أعلم
[ 114 ]
استحباب النزول بطحاء ذي الحليفة والصلاة بها (إذا صدر من الحج والعمرة وغيرهما فمر بها) قوله ص = (أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى وكان ابن عمر يفعل ذلك) وفي
[ 115 ]
الرواية الأخرى ان النبي ص = أتى في معرسة بذي الحليفة فقيل له إنك ببطحاء مباركة قال القاضي المعرس موضع النزول قال أبو زيد عرس القوم في المنزل إذا نزلوا به أي وقت كان من ليل أو نهار وقال الخليل والأصعمي التعريس النزول في آخر الليل قال القاضي والنزول بالبطحاء بذي الحليفة في رجوع الحاج ليس من مناسك الحج وإنما فعله من فعله من أهل المدينة تبركا بآثار النبي ص = ولأنها بطحاء مباركة قال واستحب مالك النزول والصلاة فيه وأن لا يجاوز حتى يصلى فيه وإن كان في غير وقت صلاة مكث حتى يدخل وقت الصلاة فيصلى قال وقيل إنما نزل به ص = في رجوعه حتى يصبح لئلا يفجأ الناس أهاليهم ليلا كما نهى عنه صريحا في الأحاديث المشهورة والله أعلم لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (وبيان يوم الحج الأكبر) قوله (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجة التي
[ 116 ]
أمره عليها رسول الله ص = قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) قال ابن شهاب وكان حميد بن عبد الرحمن يقول يوم النحر يوم الحج الأكبر من أجل حديث أبي هريرة رضي الله عنه معنى قول حميد بن عبد الرحمن إن الله تعالى قال وأذان من الله ورسوله الى الناس يوم الحج الأكبر ففعل أبو بكر وعلي وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة هذا الأذان يوم النحر بإذن النبي ص في أصل الأذان والظاهر أنه عين لهم يوم النحر فتعين أنه يوم الحج الأكبر ولأن معظم المناسك فيه وقد اختلف العلماء في المراد بيوم الحج الأكبر فقيل يوم عرفه وقال مالك والشافعي والجمهور هو يوم النحر ونقل القاضى عياض عن الشافعي أنه يوم عرفة وهذا خلاف المعروف من مذهب الشافعي قال العلماء وقيل الحج الأكبر للاحتراز من الحج الأصغر وهو العمرة واحتج من قال هو يوم عرفة بالحديث المشهور الحج عرفة والله أعلم قوله ص = (لا يحج بعد العام مشرك) موافق لقول الله تعالى انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا والمراد بالمسجد الحرام ههنا الحرم كله فلا يمكن مشرك من دخول الحرم بحال حتى لو جاء في رسالة أو أمر مهم لا يمكن من الدخول بل يخرج إليه من يقضى الأمر المتعلق به ولو دخل خفية ومرض ومات نبش وأخرج من الحرم قوله ص = (ولا يطوف بالبيت عريان) هذا إبطال لما كانت الجاهلية عليه من الطواف بالبيت عراة واستدل به أصحابنا وغيرهم على أن الطواف يشترط له ستر العورة والله أعلم
[ 117 ]
فضل يوم عرفة قوله ص = (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وأنه ليدنو ثم يباهى بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء) هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة وهو كذلك ولو قال رجل امرأتي طالق في أفضل الأيام فلأصحابنا وجهان أحدهما تطلق يوم الجمعة لقوله ص = خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة كما سبق في صحيح مسلم وأصحهما يوم عرفة للحديث المذكور في هذا الباب ويتأول حديث يوم الجمعة على أنه أفضل أيام الأسبوع قال القاضى عياض قال المازرى معنى يدنو في هذا الحديث أي تدنو رحمته وكرامته لادنو مسافة ومماسة قال القاضي يتأول فيه ما سبق في حديث النزول الى السماء الدنيا كما جاء في الحديث الآخر من غيظ الشيطان يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة قال القاضى وقد يريد دنو الملائكة الى الأرض أو الى السماء بما ينزل معهم من الرحمة ومباهاة الملائكة بهم عن أمره سبحانه وتعالى قال وقد وقع الحديث في صحيح مسلم مختصرا وذكره عبد الرزاق في مسنده من رواية ابن عمر قال إن الله ينزل الى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة يقول هؤلاء عبادي جاؤني شعثا غبرا يرجون رحمتى ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني وذكر باقي الحديث فضل الحج والعمرة قوله ص = (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) هذا ظاهر في فضيلة العمرة
[ 118 ]
وأنها مكفرة للخطايا الواقعة بين العمرتين وسبق في كتاب الطهارة بيان هذه الخطايا وبيان الجمع بين هذا الحديث وأحاديث تكفير الوضوء للخطايا وتكفير الصلوات وصوم عرفة وعاشوراء واحتج بعضهم في نصرة مذهب الشافعي والجمهور في استحباب تكرار العمرة في السنة الواحدة مرارا وقال مالك وأكثر أصحابه يكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة قال القاضي وقال آخرون لا يعتمر في شهر أكثر من عمرة واعلم أن جميع السنة وقت للعمرة فتصح في كل وقت منها إلا في حق من هو متلبس بالحج فلا يصح اعتماره حتى يفرغ من الحج ولا تكره عندنا لغير الحاج في يوم عرفة والأضحى والتشريق وسائر السنة وبهذا قال مالك وأحمد وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة تكره في خمسة أيام يوم عرفة والنحر وأيام التشريق وقال أبو يوسف تكره في أربعة أيام وهي عرفة والتشريق واختلف العلماء في وجوب العمرة فمذهب الشافعي والجمهور أنها واجبة وممن قال به عمر وابن عمر وابن عبا س وطاوس وعطاء وابن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري ومسروق وابن سيرين والشعبي وأبو بردة ابن أبي موسى وعبد الله بن شداد والثوري وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود وقال مالك وأبو حنيفة وأبو ثور هي سنة وليست واجبة وحكى أيضا عن النخعي قوله ص (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) الأصح الأشهر أن المبرور هو الذي
[ 119 ]
لا يخالطه إثم مأخوذ من البر وهو الطاعة وقيل هو المقبول ومن علامة القبول أن يرجع خيرا مما كان ولا يعاود المعاصي وقيل هو الذي لا رياء فيه وقيل الذى لا يعقبه معصية وهما داخلان فيما قبلهما ومعنى ليس له جزاء الا الجنة أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة والله أعلم قوله ص = (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه) قال القاضى هذا من قوله تعالى فلا رفث ولا فسوق والرفث اسم للفحش من القول وقيل هو الجماع وهذا قول الجمهور في الآية قال الله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم يقال رفث ورفث بفتح الفاء وكسرها يرفث ويرفث وبرفث بضم الفاء وكسرها وفتحها ويقال أيضا أرفث بالألف وقيل الرفث التصريح بذكر الجماع قال الأزهري هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة وكان ابن عباس يخصصه بما خوطب به النساء قال ومعنى كيوم ولدته أمه أي بغير ذنب وأما الفسوق فالمعصية والله أعلم
[ 120 ]
نزول الحاج بمكة وتوريث دورها قوله (يا رسول الله أتنزل في دارك بمكة قال وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور) وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين قال القاضى عياض لعله أضاف الدار إليه ص = لسكناه إياها مع أن أصلها كان لأبي طالب لأنه الذي كفله ولأنه أكبر ولد عبد المطلب فاحتوى على أملاك عبد المطلب وحازها وحده لسنة على عادة الجاهلية قال ويحتمل أن يكون عقبل باع جميعها وأخرجها عن أملاكهم كما فعل أبو سفيان وغيره بدور من هاجر من المؤمنين قال الداودي فباع عقيل جميع ما كان للنبي ص = ولمن هاجر من بني عبد المطلب وقوله ص = وهل ترك لنا عقيل من دار فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن مكة فتحت صلحا وأن دورها مملوكة لاهلها لها حكم سائر البلدان في ذلك فتورث عنهم ويجوز لهم بيعها ورهنا وإجارتها وهبتها
[ 121 ]
والوصية بها وسائر التصرفات وقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وآخرون فتحت عنوة ولا يجوز شئ من هذه التصرفات وفيه أن المسلم لا يرث الكافر وهذا مذهب العلماء كافة الا ما روى عن اسحاق بن راهوية وبعض السلف أن المسلم يرث الكافر وأجمعوا أن الكافر لا يرث المسلم وستأتى المسألة في موضعها مبسوطة ان شاء الله تعالى والله أعلم جواز الاقامة بمكة للمهاجر منها بعد فراغ الحج (والعمرة ثلاثة أيام بلا زيادة) قوله ص = (يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا) وفي الرواية الأخرى مكث
[ 122 ]
المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وفي رواية للمهاجر اقامة ثلاث بعد الصدر بمكة كأنه يقول لا يزيد عليها معنى الحديث أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح الى رسول الله ص حرم عليهم استيطان مكة والاقامة بها ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا على الثلاثة واستد أصحابنا وغيرهم بهذا الحديث على أن إقامة ثلاثة ليس لها حكم الاقامة بل صاحبها في حكم المسافر قالوا فإذا نوى المسافر الاقامة في بلد ثلاثة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج جاز له الترخص برخص السفر من القصر والفطر وغيرهما من رخصة ولا يصير له حكم المقيم والمراد بقوله ص = (يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثة) أي بعد رجوعه من منى كما قال في الرواية الاخرى (بعد الصدر) أي الصدر من منى وهذا كله قبل طواف الوداع وفي هذا دلالة لأصح الوجهين عند أصحابنا أن طواف الوداع ليس من مناسك الحج بل هو عبادة مستقلة أمر بها من أراد الخروج من مكة لا أنه نسك من مناسك الحج ولهذا لا يؤمر به المكى ومن يقيم بها وموضع الدلالة قوله ص = بعد قضاء نسكه والمراد قبل طواف الوداع كما ذكرنا فإن طواف الوداع لا إقامة بعده ومتى أقام بعده خرج عن كونه طواف وداع فسماه قبله قاضيا لمناسكه والله أعلم قال القاضى عياض رحمه الله في هذا الحديث حجة لمن منع المهاجر قبل الفتح من المقام بمكة بعد الفتح قال وهو قول الجمهور وأجاز له جماعة بعد الفتح مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح ووجوب سكنى المدينة لنصرة
[ 123 ]
النبي ص = ومواساتهم له بأنفسهم وأما غير المهاجر ومن آمن بعد ذلك فيجوز له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق هذا كلام القاضى قوله ص (مكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا) هكذا هو في أكثر النسخ ثلاثا وفي بعضها ثلاث ووجه المنصوب أن يقدر فيه محذوف أي مكثه المباح أن يمكث ثلاثا والله أعلم تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها (ولقطتها الا لمنشد على الدوام) قوله ص = (يوم الفتح فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية) قال العلماء الهجرة من دار الحرب الى دار الاسلام باقية الى يوم القيامة وفي تأويل هذا الحديث قولان أحدهم لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار الحرب وهذا يتضمن معجزة لرسول الله ص = بأنها تبقى دار الاسلام لا يتصور منها الهجرة والثاني معناه لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح كما قال الله تعالى لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل الآية وأما قوله ص = (ولكن جهاد ونية) فمعناه ولكن لكم طريق الى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة وذلك بالجهاد ونية الخير في كل شئ قوله ص = (وإذا استنفرتم فانفروا) معناه إذا دعاكم السلطان الى غزو فاذهبوا وسيأتى بسط أحكام الجهاد وبيان الواجب منه في بابه ان شاء الله
[ 124 ]
تعالى قوله ص = (ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض) وفي الأحاديث التي ذكرها مسلم بعد هذا ان إبراهيم حرم مكة فظاهرها الاختلاف وفي المسألة خلاف مشهور ذكره الماوردى في الأحكام السلطانية وغيره من العلماء في وقت تحريم مكة فقيل أنها ما زالت محرمة من يوم خلق السموات والأرض وقيل ما زالت حلالا كغيرها الى زمن ابراهيم ص = ثم ثبت لها التحريم من زمن إبراهيم وهذا القول يوافق الحديث الثاني والقول الأول يوافق الحديث الأول وبه قال الأكثرون وأجابوا عن الحديث الثاني بأن تحريمها كان ثابتا من يوم خلق الله السموات والأرض ثم خفى تحريمها واستمر خفاؤه الى زمن ابراهيم فأظهره وأشاعه لا أنه ابتدأة ومن قال بالقول الثاني أجاب عن الحديث الأول بأن معناه ان الله كتب في اللوح المحفوظ أو في غيره يوم خلق الله تعالى السموات والأرض ان ابراهيم سيحرمكة بأمر الله تعالى والله أعلم قوله ص = (فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلى ولم يحل لي الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة) وفي رواية القتل بدل القتال وفي الرواية الأخرى لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ص فيها فقولوا له أن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم القتال بمكة قال الامام أبو الحسن الماوردى البصري صاحب الحاوي من أصحابنا في كتابه الأحكام السلطانية من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله فإن بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا الى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل قال وقال جمهور الفقهاء يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغى الا بالقتال لأن قتال البغاة من
[ 125 ]
حقوق الله التي لا يجوز إضاعتها فحفظها أولى في الحرم من إضاعتها هذا كلام الماوردى وهذا الذي نقله عن جمهور الفقهاء هو الصواب وقد نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الامام ونص عليه الشافعي أيضا في آخر كتابه المسمى بسير الواقدي من كتب الأم وقال القفال المروزى من أصحابنا في كتابه شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص لا يجوز القتال بمكة قال حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها وهذا الذي قاله القفال غلط نبهت عليه حتى لا يغتر به وأما الجواب عن الأحاديث المذكورة هنا فهو ما أجاب به الشافعي في كتابه سير الواقدي أن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما إذا تحصن الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شئ والله أعلم قوله ص = (لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاها) وفي رواية لا تعضد بها شجرة وفي رواية لا يختلي شوكها وفي رواية لا يخبط شوكها قال أهل اللغة العضد القطع والخلا بفتح الخاء المعجمة مقصور هو الرطب من الكلأ قالوا الخلا والعشب اسم للرطب منه والحشيش والهشيم اسم لليابس منه والكلأ مهموز يقع على الرطب واليابس وعد ابن مكى وغيره من لحن العوام اطلاقهم اسم الحشيش على الرطب بل هو مختص باليابس ومعنى يختلي يؤخذ ويقطع ومعنى يخبط يضرب بالعصا ونحوها ليسقط ورقه واتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لا يستنبتها الآدميون في العادة وعلى تحريم قطع خلاها واختلفوا فيهما ينبته الآدميون واختلفوا في ضمان الشجر إذا قطعه فقال مالك يأثم ولا فدية عليه وقال الشافعي وأبو حنيفة عليه الفدية واختلفا فيها فقال الشافعي في الشجرة الكبيرة بقرة وفي الصغيرة شاه وكذا جاء عن ابن عباس وابن الزبير وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة الواجب في الجميع القيمة قال الشافعي ويضمن الخلا بالقيمة ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعى البهائم في كلأ الحرم وقال أبو حنيفة وأحمد ومحمد لا يجوز وأما صيد الحرم فحرام بالاجماع على الحلال والمحرم فإن قتله فعليه الجزاء عند العلماء كافة إلا داود فقال يأثم ولا جزاء عليه
[ 126 ]
ولو دخل صيد من الحل الى الحرم فله ذبحه وأكله وسائر أنواع التصرف فيه هذا مذهبنا ومذهب مالك وداود وقال أبو حنيفة وأحمد لا يجوز ذبحه ولا التصرف فيه بل يلزمه إرساله قالا فإن أدخله مذبوحا جاز أكله وقاسوه على المحرم واحتج أصحابنا والجمهور بحديث يا أبا عمير ما فعل النغير وبالقياس على ما إذا دخل من الحل شجرة أو كلأولأنه ليس بصيد حرم قوله ص = (لا يعضد شوكه) فيه دلالة لمن يقول بتحريم جميع نبات الحرم من الشجر والكلأ سواء الشوك المؤذى وغيره وهو الذي اختاره المتولي من أصحابنا وقال جمهور أصحابنا لا يحرم الشوك لأنه مؤذ فأشبه الفواسق الخمس ويخصون الحديث بالقياس والصحيح ما اختاره المتولي والله أعلم قوله ص = (وإنه لم يحل القتال فيه لأحد من قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار) هذا مما يحتج بمن يقول أن مكة فتحت عنوة وهو مذهب أبي حنيفة وكثيرين أو الأكثرين وقال الشافعي وغيره فتحت صلحا وتأولوا هذا الحديث على أن القتال كان جائزا له ص = في مكة ولو احتاج إليه لفعله ولكن ما احتاج إليه والله أعلم قوله ص = (ولا ينفر صيده) تصريح بتحريم التنفير وهو الازعاج وتنحيته من موضعه فإن نفره عصى سواء تلف أم لا لكن إن تلف في نفاره قبل سكون نفاره ضمنه المنفر وإلا فلا ضمان قال العلماء ونبه ص = بالتنفير على الاتلاف ونحوه لأنه إذا حرم التنفير فالاتلاف أولى قوله ص = (ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها) وفي رواية لا تحل لقطتها إلا لمنشد المنشد هو المعرف وأما طالبها فيقال له ناشد وأصل النشد والانشاد رفع الصوت ومعنى الحديث لا تحل لقطتها لمن يريد أن يعرفها سنة ثم يتملكها كما في باقي البلاد بل لا تحل إلا لمن يعرفها أبدا ولا يتملكها وبهذا قال الشافعي وعبد الرحمن بن مهدى وأبو عبيد وغيرهم وقال مالك يجوز تملكها بعد تعرفها سنة كما في سائر البلاد وبه قال بعض أصحاب الشافعي
[ 127 ]
ويتأولون الحديث تأويلات ضعيفة واللقطة بفتح القاف على اللغة المشهورة وقيل بإسكانها وهي الملقوط قوله (الا الاذخر) هو نبت معروف طيب الرائحة هو بكسر الهمزة والخاء قوله (فانه لقينهم وبيوتهم) وفي رواية نجعله في قبورنا وبيوتنا قينهم بفتح القاف هو الحداد والصائغ ومعناه يحتاج إليه القين في وقود النار ويحتاج إليه في القبور لتسد به فرج اللحد المتخللة بين اللبنات ويحتاج إليه في سقوف البيوت يجعل فوق الخشب قوله (فقال رسول الله ص (الا الأذخر) هذا محمول على أنه ص = أوحى إليه في الحال باستثناء الأذخر وتخصيصه من العموم أو أوحى إليه قبل ذلك أنه إذا طلب أحد استثناء شئ فاستثنه أو أنه اجتهد في الجميع والله أعلم قوله (عن أبي شريح العدوى) هكذا ثبت في الصحيحين العدوى في هذا الحديث ويقال له أيضا الكعبي والخزاعي قيل اسمه خويلد بن عمرو وقيل عمرو بن خويلد وقيل عبد الرحمن بن عمرو وقيل هانئ بن عمرو أسلم قبل فتح مكة وتوفى بالمدينة سنة ثمان وستين قوله (وهو يبعث البعوث الى مكة) يعنى لقتال ابن الزبير قوله (سمعته أذناى ووعاه قلبى وأبصرته عيناى) أراد بهذا كله المبالغة في تحقيق حفظه إياه وتيقنه زمانه ومكانه ولفظه قول ص = (ان مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس) معناه أن تحريمها بوحي الله تعالى لا أنها اصطلح الناس على تحريمها بغير أمر الله قوله ص = (ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة) هذا قد يحتج به من يقول الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الاسلام والصحيح عندنا وعند آخرين أنهم مخاطبون بها كما هم مخاطبون بأصوله وإنما قال ص =
[ 128 ]
فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم والآخر لأن المؤمن هو الذي ينقاد لاحكامنا وينزجر عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه فجعل الكلام فيه وليس فيه أن غير المؤمن ليس مخاطبا بالفروع قوله (يسفك) بكسر الفاء على المشهور وحكى ضمها أي يسيله قوله ص (فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ص = إلى آخره) فيه دلالة لمن يقول فتحت مكة عنوة وقد سبق في هذا الباب بيان الخلاف فيه وتأويل الحديث عند من يقول ف تحت صلحا أن معناه دخلها متأهبا للقتال لو احتاج إليه فهو دليل الجواز له تلك الساعة قوله ص = (وليبلغ الشاهد الغائب) هذا اللفظ قد جاءت به أحاديث كثيرة وفيه التصريح بوجوب نقل العلم وإشاعة السنن والأحكام قوله (لا يعيذ عاصيا) أي لا يعصمه قوله (ولا فارا بخربة) هي بفتح الخاء المعجمة وإسكان الراء هذا هو المشهور ويقال بضم الخاء أيضا حكاها القاضى وصاحب المطالع وآخرون وأصلها سرقة الابل وتطلق على كل خيانة وفي صحيح البخاري
[ 129 ]
إنها البلية وقال الخليل هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض وقيل هي العيب قوله ص = (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما ان يفدى وإما ان يقتل) معناه ولي المقتول بالخياران شاء قتل القاتل وان شاء أخذ فداءه وهي الدية وهذا تصريح بالحجة للشافعي وموافقيه ان الولي بالخيار بين أخذ الدية وبين القتل وإن له أجبار الجاني على أي الأمرين شاء ولي القتيل وبه قال سعيد بن المسيب وابن سيرين وأحمد واسحاق وأبو ثور وقال مالك ليس للولي الا القتل أو العفو وليس له الدية الا برضى الجاني وهذا خلاف نص هذا الحديث وفيه أيضا دلالة لمن يقول القاتل عمدا يجب عليه أحد الأمرين القصاص أو الدية وهو أحد القولين للشافعي والثاني أن الواجب القصاص لا غير وإنما تجب الدية بالاختيار وتظهر فائدة الخلاف في صور منها لو عفا الولي عن القصاص ان قلنا الواجب أحد الأمرين وسقط القصاص ووجبت الدية وإن قلنا الواجب القصاص بعينه لم يجب قصاص ولا دية وهذا الحديث محمول على القتل عمدا فإنه لا يجب القصاص في غير العمد قوله (فقام أبو شاه) هو بهاء تكون هاء في الوقف والدرج ولا يقال بالتاء قالوا ولا يعرف اسم أبي شاه هذا وإنما يعرف بكنيته قوله ص = (اكتبوا لأبي شاه) هذا تصريح بجوار كتابه العلم غير القرآن ومثله حديث علي رضي الله عنه ما عنده الا ما في هذه الصحيفة ومثله حديث أبي هريرة كان عبد الله بن عمر يكتب ولا أكتب وجاءت أحاديث بالنهي عن كتابة غير القرآن فمن السلف من منع كتابة العلم وقال جمهور السلف بجوازه ثم أجمعت الأمة
[ 130 ]
بعدهم على استحبابه وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين أحدهما أنها منسوخة وكان النهي في أول الأمر قبل اشتهار القرآن لكل أحد فنهى عن كتابة غيره خوفا من اختلاطه واشتباهه فلما اشتهر وأمنت تلك المفسدة أذن فيه والثاني أن النهي نهى تنزيه لمن وثق بحفظه وخيف اتكاله على الكتابة والاذن لمن لم يوثق بحفظه والله أعلم النهى عن حمل السلاح بمكة من غير حاجة قوله ص = (لا يحل لأحدكم أن يحمل السلاح بمكة) هذا النهي إذا لم تكن حاجة
[ 131 ]
إن كانت جاز هذا مذهبنا ومذهب الجماهير قال القاضي عياض هذا محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة فإن كانت جاز قال القاضي وهذا مذهب مالك والشافعي وعطاء قال وكرهه الحسن البصري تمسكا بظاهر هذه الحديث وحجة الجمهور دخول النبي ص = عام عمرة القضاء بما شرطه من السلاح في القراب ودخوله ص = عام الفتح متأهبا للقتال قال وشذ عكرمة عن الجماعة فقال إذا احتاج إليه حمله وعليه الفدية ولعله أراد إذا كان محرما ولبس المغفر والدرع ونحوهما فلا يكون مخالفا للجماعة والله أعلم جواز دخول مكة بغير احرام قوله (أن النبي ص = دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر) وفي رواية وعليه عمامة سوداء بغير احرام وفي رواية خطب الناس وعليه عمامة سوداء قال القاضي وجه الجمع بينهما أن أول دخوله كان رأسه المغفر ثم بعد لللك كان على رأسه العمامة بعد ازالة المغفر بدليل قوله خطب الناس وعليه عمامة سوداء لأن الخطبة انما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة وقوله دخل مكة بغير احرام هذا دليل لمن يقول بجواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد نسكا سواء كان دخوله لحاجة تكرر كالخطاب والحشاش والسقاء والصياد وغيرهم أم لم تتكرر كالتاجر والزائر وغيرهما سواء كان آمنا أو خائفا وهذا أصح القولين للشافعي وبه يفتى أصحابه والقول الثاني لا يجوز دخولها بغير إحرام ان كانت حاجته لا تكرر الا أن يكون مقاتلا أو خائفا من قتال أو خائفا من ظالم لو ظهر ونقل القاضي نحو هذا عن اكثر العلماء قوله (جاءه رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه) قال العلماء انما قتله لأنه كان قد ارتد عن الاسلام
[ 132 ]
وقتل مسلما كان يخدمه وكان يهجو النبي ص = ويسبه وكانت له قينتان تغنيان بهجاء النبي ص = والمسلمين فإن قيل ففي الحديث الآخر من دخل المسجد فهو آمن فكيف قتله وهو متعلق بالأستار فالجواب أنه لم يدخل في الأمان بل استثناه هو وابن أبي سرح والقينتين وأمر بقتله وإن وجد متعلقا بأستار الكعبة كما جاء مصرحا به في أحاديث اخر وقيل لأنه ممن لم يف بالشرط بل قاتل بعد ذلك وفي هذا الحديث حجة لمالك والشافعي وموافقيهما في جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة وقال أبو حنيفة لا يجوز وتأولوا هذا الحديث على أنه قتله في الساعة التي أبيحت له وأجاب أصحابنا بأنها انما أبيحت ساعة الدخول حتى استولى عليها واذعن له اهلها وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك والله أعلم واسم ابن خطل عبد العزى وقال محمد بن إسحاق اسمه عبد الله وقال الكلبي اسمه غالب بن عبد الله بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كثير بن تيم ابن غالب وخطل بخاء معجمه وطاء مهملة مفتوحتين قال أهل السير وقيل سعد بن حريث والله أعلم قوله (قرأت على مالك بن أنس) وفي رواية قلت لمالك حدثك ابن شهاب عن أنس ثم قال في آخر الحديث فقال نعم يعنى فقال مالك نعم ومعناه أحدثك ابن شهاب عن أنس بكذا فقال مالك نعم حدثنى به وقد جاء في الصحيحين في مواضع كثيرة مثل هذه العبارة ولا يقول في آخره قال نعم واختلف العلماء في اشتراط قوله نعم في آخر مثل هذه الصورة وهي إذا قرأ على الشيخ قائلا أخبرك فلان أو نحوه والشيخ مصغ له فاهم لما يقرأ غير منكر فقال بعض الشافعيين وبعض أهل الظاهر لا يصح السماع إلا بها فإن لم ينطق بها لم يصح السماع وقال جماهير العلماء من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول يستحب قوله نعم ولا يشترط نطقه بشئ بل يصح السماع مع سكوته والحالة هذه إكتفاء بظاهر الحال فإنه لا يجوز لمكلف أن يقر على الخطأ في مثل هذه الحالة قال القاضي هذا مذهب العلماء كافة ومن قال من السلف نعم إنما قاله توكيدا واحتياطا لا إشتراطا قوله (معاوية بن عمار الدهني) هو بضم الدال المهملة وإسكان الهاء وبالنون منسوب الى دهن وهم
[ 133 ]
بطن من بجيلة وهذا الذي ذكرناه من كونه بإسكان الهاء هو المشهور ويقال بفتحها وممن حكى الفتح أبو سعيد السمعاني في الأنساب والحافظ عبد الغني المقدسي قوله (وعليه عمامة سوداء) فيه جواز لباس الثياب السود وفي الرواية الأخرى خطب الناس وعليه عمامة سوداء فيه جواز لباس الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه كما ثبت في الحديث الصحيح خير ثيابكم البياض وأما لباس الخطباء السواد في حال الخطبة فجائز ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بيانا للجواز والله أعلم قوله (كأنى أنظر إلى رسول الله ص = وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وغيرها بالتثنية وكذا هو في الجمع بين الصحيحين للحميدي وذكر القاضي عيا ض أن
[ 134 ]
الصواب المعروف طرفها بالافراد وأن بعضهم رواه طرفيها بالتثنية والله أعلم وسيأتى بسط حكم إرخاء العمامة في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى فضل المدينة ودعاء النبي ص = فيها بالبركة (وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها) قوله ص = (ان ابراهيم حرم مكة) هذا دليل لمن يقول ان تحريم مكة إنما هو كان في زمن إبراهيم ص = والصحيح أنه كان يوم خلق الله السموات والأرض وقد سبقت المسألة مستوفاة قريبا وذكروا في تحريم إبراهيم احتمالين أحدهما أنه حرمها بأمر الله تعالى له بذلك لا باجتهاده فلهذا أضاف التحريم إليه تارة والى الله تعالى والثاني أنه دعا لها فحرمها الله تعالى بدعوته فأضيف التحريم إليه لذلك قوله ص = (وإني حرمت المدينة كما حرم ابراهيم مكة وذكر مسلم الأحاديث التي بعده بمعناه هذه الأحاديث حجة ظاهرة للشافعي ومالك وموافقيهما في تحريم صيد المدينة وشجرها وأباح أبو حنيفة ذلك واحتج له بحديث يا أبا عمير ما فعل النغير وأجاب أصحابنا بجوابين أحدهما انه يحتمل أن حديث النغير كان قبل تحريم المدينة والثاني يحتمل أنه صاده من الحل لا من حرم المدينة وهذا الجواب لا يلزمهم على أصولهم لأن مذهب الحنفية أن صيد الحل إذا أدخله الحلال الى الحرم ثبت له حكم الحرم ولكن أصلهم هذا ضعيف فيرد عليه بدليلة والمشهور من مذهب مالك والشافعي والجمهور أنه لا ضمان في صيد المدينة وشجرها بل هو حرام بلا ضمان وقال ابن أبي ذئب وابن أبى ليلى يجب فيه الجزاء كحرم مكة وبه قال بعض المالكية وللشافعي قول قديم أنه يسلب القاتل لحديث سعد بن أبي وقاص الذي ذكره مسلم بعد هذا قال القاضي عياض لم يقل بهذا القول أحد بعد الصحابة الا الشافعي في قوله القديم والله أعلم قوله ص =
[ 135 ]
(ان ابراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها) يريد المدينة قال أهل اللغة وغريب الحديث اللابتان الحرتان واحدتهما لابة وهي الأرض الملبسة حجارة سوداء وللمدينة لابتان شرقية وغربية وهي بينهما ويقال لابة ولوبة ونوبة بالنون ثلاث لغات مشهورات وجمع اللابة في القلة لابات وفي الكثرة لاب ولوب وقوله ص = (وإني أحرم ما بين لابتيها
[ 136 ]
معناه اللابتان وما بينهما والمراد تحريم المدينة ولا بتيها قوله ص = (لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها) صريح في الدلالة لمذهب الجمهور في تحريم صيد المدينة وشجرها وسبق خلاف أبي حنيفة والعضاه بالقصر وكسر العين وتخفيف الضاد المعجمة كل شجر فيه شوك واحدتها عضاهة وعضيهة والله أعلم قوله ص = (ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها الا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة) قال أهل اللغة اللاواء بالمد الشدة والجوع وأما الجهد فهو المشقة وهو بفتح الجيم وفي لغة قليلة بضمها وأما الجهد بمعنى الطاقة فبضمها على المشهور وحكى فتحها وأما قوله ص = الا كنت له شفيعا أو شهيدا فقال القاضى عياض رحمه الله سألت قديما عن معنى هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته وادخاره اياها لأمته قال وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه قال واذكر منه هنا لمعاص تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والاظهر عندنا أنها ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد
[ 137 ]
وأبو هريرة واسماء بنت عميس وصفية بنت ابي عبيد عن النبي ص = بهذا اللفظ ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الاظهر أنه قاله ص = هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن يكون أو للتقسيم ويكون شهيدا لبعض أهل المدينة وشفيعا لبقيتهم اما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين وإما شهيدا لمن مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده أو غير ذلك قال القاضي وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين في القيمة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال ص = في شهداء أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزيد أو زيادة منزلة وحظة قال وقد يكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعا وشهيدا قال وقد روى الا كنت له شهيدا أوله شفيعا قال وإذا جعلنا أو للشك كما قاله المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شفيعا فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لاخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم منها بشفاعته ص = في القيامة وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات أو تخفيف الحساب أو بما شاء الله من ذلك أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم الى ظل العرش أو كونهم في روح وعلى منابر أو الاسراع بهم الى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض والله أعلم قوله ص = (لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه) قال القاضي اختلفوا في هذا فقيل هو مختص بمدة حياته ص = وقال آخرون هو عام ابدا وهذا اصح قوله ص = (ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء الا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء) قال القاضي هذه الزيادة وهي قوله في
[ 138 ]
النار تدفع أشكال الاحاديث التي لم تذكر فيها هذه الزيادة وتبين أن هذا حكمه في الآخرة قال وقد يكون المراد به من أرادها في حياة النبي ص = كفى المسلمون أمره واضمحل كيده كما يضمحل الرصاص في النار قال وقد يكون في اللفظ تأخير وتقديم أي اذابة الله ذوب الرصاص في النار ويكون ذلك لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطان بل يذهبه عن قرب كما انقضى شأن من حاربها أيام بنى أمية مثل مسلم بن عقبة فإنه هلك في منصرفه عنها ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك وغيرهما ممن صنع صنيعهما قال وقيل قد يكون المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها في غفلة فلا يتم له أمره بخلاف من أتى ذلك جهارا كأمراء استباحوها قوله (ان سعدا ركب الى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه على أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذه من غلامهم فقال معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله ص وأبى أن يرد عليهم) هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجماهير في تحريم صيد المدينة وشجرها كما سبق وخالف فيه أبو حنيفة كما قدمناه عنه وقد ذكر هنا مسلم في صحيحه تحريمها مرفوعا عن النبي ص = من رواية علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وجابر ابن عبد الله وأبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن زيد ورافع بن خديج وسهل بن حنيف وذكر
[ 139 ]
غيره من رواية غيرهم أيضا فلا يلتفت الى من خالف هذه الأحاديث الصحيحة المستفيضة وفي هذا الحديث دلالة لقول الشافعي القديم أن من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها أخذ سلبه وبهذا قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة قال القاضي عياض ولم يقل به أحد بعد الصحابة الا الشافعي في قوله القديم وخالفه أئمة الأمصار قلت ولا تضر مخالفتهم إذا كانت السنة معه وهذا القول القديم هو المختار لثبوت الحديث فيه وعمل الصحابة على وفقه ولم يثبت له دافع قال أصحابنا فإذا قلنا بالقديم ففي كيفية الضمان وجهان أحدهما يضمن الصيد والشجر كضمان حرم مكة وأصحهما وبه قطع جمهور المفرعين على هذا القديم أنه يسلب الصائد وقاطع الشجر والكلأ وعلى هذا فالمراد بالسلب وجهان أحدهما أنه ثيابه فقط وأصحهما وبه قطع الجمهور أنه كسلب القتيل من الكفار فيدخل فيه فرسه وسلاحه ونفقته وغير ذلك مما يدخل في سلب القتيل وفي مصرف السلب ثلاثة أوجه لأصحابنا أصحهما أنه للسالب وهو الموافق لحديث سعد والثاني أنه لمساكين المدينة والثالث لبيت المال وإذا سلب أخذ جميع ما عليه الا ساتر العورة وقيل يؤخذ ساتر العورة أيضا قال أصحابنا ويسلب بمجرد الاصطياد سواء اتلف الصيد أم لا والله أعلم قوله (حتى إذا بداله أحد قال هذا جبل يحبنا ونحبه) الصحيح المختار أن معناه أن أحدا يحبنا حقيقه جعل الله تعالى فيه تمييزا يحب به كما قال سبحانه وتعالى وإن منها لما يهبط
[ 140 ]
من خشية الله وكما حن الجذع اليابس وكما سبح الحصى وكما فر الحجر بثوب موسى ص وكما قال نبينا ص = انى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على وكما دعا الشجرتين المفترقتين فاجتمعا وكما رجف حراء فقال اسكن حراء فليس عليك الا نبي أو صديق الحديث وكما كلمه ذراع الشاة وكما قال سبحانه وتعالى وإن من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم والصحيح في معنى هذه الآية أن كل شئ يسبح حقيقة بحسب حاله ولكن لا نفقهه وهذا وما أشبهه شواهد لما اخترناه واختاره المحققون في معنى الحديث وأن أحدا يحبنا حقيقة وقيل المراد يحبنا أهله فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والله أعلم قوله (من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) قال القاضي معناه من أتى فيها آثما أو آوى من أتاه وضمه إليه وحماه قال ويقال أوى وآوى بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعا لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح والمد في المتعدى أشهر وأفصح قلت وبالأفصح جاء القرآن العزيز في الموضعين قال الله تعالى أرأيت إذ أوينا الى الصخرة وقال في المتعدى وآويناهما الى ربوة قال القاضي ولم يرو هذا الحرف الا محدثا بكسر الدال ثم قال وقال الامام المازرى روى بوجهين كسر الدال وفتحها قال فمن فتح اراد الاحداث نفسه ومن كسر أراد فاعل الحدث وقوله عليه لعنة الله الى آخره هذه وعيد شديد لمن ارتكب هذا قال القاضي واستدلوا بهذا على أن ذلك من الكبائر لأن اللعنة لا تكون الا في الكبيرة ومعناه أن الله تعالى يلعنه وكذا يلعنه الملائكة والناس أجمعون وهذا مبالغة في ابعاده عن رحمة الله تعالى فإن اللعن في اللغة هو الطرد
[ 141 ]
والابعاد قالوا والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه والطرد عن الجنة أول الأمر وليست هي كلعنة الكفار الذين يبعدون من رحمة الله تعالى كل الابعاد والله أعلم قوله (لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا قال القاضي قال المازرى اختلفوا في تفسيرهما فقيل الصرف الفريضة والعدل النافلة وقال الحسن البصري الصرف النافلة والعدل الفريضة عكس قول الجمهور وقال الأصمعى الصرف التوبة والعدل الفدية وروى ذلك عن النبي ص وقال يونس الصرف الاكتساب والعدل الفدية وقال أبو عبيدة العدل الحيلة وقيل العدل المثل وقيل الصرف الدية والعدل الزيادة قال القاضي وقيل المعنى لا تقبل فريضته ولا نافلته قبول رضا وإن قبلت قبول جزاء وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما قال وقد يكون معنى الفدية هنا أنه لا يجد في القيمة فداء يفتدى به بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله عز وجل على من يشاء منهم بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما ثبت في الصحيح قوله في آخر هذا الحديث (فقال ابن أنس أو آوى محدثا) كذا وقع في أكثر النسخ فقال ابن انس ووقع في بعضها فقال أنس بحذف لفظة ابن قال القاضى ووقع عند عامة شيوخنا فقال ابن أنس باثبات ابن قال وهو الصحيح وكان ابن أنس ذكر أباه هذه الزيادة لأن سياق هذا الحديث من أوله الى آخره من كلام أنس فلا وجه لاستدراك أنس بنفسه مع أن هذه اللفظه قد وقعت في أول
[ 142 ]
الحديث في سياق كلام أنس في أكثر الروايات قال وسقطت عند السمرقندي قال وسقوطها هناك يشبه أن يكون هو الصحيح ولهذا استدركت في آخر الحديث هذا آخر كلام القاضى قوله ص = (اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم وبارك لهم في مدهم) قال القاضي البركة هنا بمعنى النمو والزيادة وتكون بمعنى الثبات واللزوم قال فقيل يحتمل أن تكون هذه البركة دينية وهي ما تتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في الزكاة والكفارات فتكون بمعنى الثبات والبقاء لها كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير الكيل والقدر بهذه الاكيال حتى يكفى منه ما لا يكفى من غيره في غير المدينة أو ترجع البركة الى التصرف بها في التجارة وأرباحها والى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها أو تكون الزيادة فيما يكال بها لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه لما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم وملكهم من بلاد الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها حتى كثر الحمل الى المدينة واتسع عيشهم حتى صارت هذه البركة في الكيل نفسه فزاد مدهم وصار هاشميا مثل مد النبي ص = مرتين أو مرة ونصفا وفي هذا كله ظهور اجابة دعوته ص = وقبولها هذا آخر كلام القاضى والظاهر من هذا كله أن البركة في نفس المكيل في المدينة بحيث يكفى المد فيها لمن لا يكفيه في غيرها والله أعلم قوله (ابراهيم بن محمد السلمى) هو بالسين المهملة قوله (خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله
[ 143 ]
تعالى عنه فقال من زعم أن عندنا شيئا نقرأه اكتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب) هذا تصريح من علي رضي الله تعالى عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم ان عليا رضي الله تعالى عنه أوصى إليه النبي ص = بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة وأنه ص = خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفى في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا وفيه دليل على جواز كتابة العلم وقد سبق بيانه قريبا قوله ص = (المدينة حرم ما بين عير الى ثور) أما عير فبفتح العين المهملة وإسكان المثناة تحت وهو جبل معروف قال القاضي عياض قال مصعب ابن الزبير وغيره ليس بالمدينة عير ولا ثور قالوا وإنما ثور بمكة قال وقال الزبير غير جبل بناحية المدينة قال القاضي اكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا ومنهم من ترك مكانه بياضا لأنهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ قال المازرى قال بعض العلماء ثور هنا وهم من الراوي وإنما ثور بمكة قال والصحيح الى أحد قال القاضى وكذا قال أبو عبيد أصل الحديث من عير الى أحد هذا ما حكاه القاضى وكذا قال أبو بكر الحازمي الحافظ وغيره من الأئمة أن أصله من عير الى أحد قلت ويحتمل أن ثورا كان اسما لجبل هناك اما أحدوإما غيره فخفي اسمه والله أعلم وأعلم أنه جاء في هذه الرواية ما بين عير الى ثور أو الى أحد على ما سبق وفي رواية أنس السابقة اللهم انى أحرم ما بين جبليهاوفي الروايات السابقة ما بين لابتيها والمراد باللابتين الحرتان كما سبق وهذا الاحاديث كلها متفقة فما بين لابتيها بيان لحد حرمها من جهتي المشرق والمغرب وما بين جبليها بيان لحده من جهة الجنوب والشمال والله أعلم قوله ص = (وذمة المسلمين
[ 144 ]
واحدة يسعى بها أدناهم) المراد بالذمة هنا الأمان معناه أن أمان المسلمين للكافر صحيح فإذا أمنه به أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له ما دام في أمان المسلم وللأمان شروط معروفة وقوله ص = يسعى بها أدناهم فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن أمان المرأة والعبد صحيح لأنهما أدنى من الذكور الأحرار قوله ص = (ومن ادعى الى غير أبيه أو انتمى الى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين) هذا صريح في غلط تحريم انتماء الانسان الى غير أبيه أو انتماء العتيق الى ولاء غير مواليه لما فيه من كفر النعمة وتضييع حقوق الارث والولاء والعقل وغير ذلك مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق قوله ص = (فمن أخفر مسلما فعليه لعنه الله) معناه من نقض أمان مسلم فتعرض لكافر أمنه مسلم قال أهل اللغة يقال أخفرت
[ 145 ]
الرجل إذا نقضت عهده وخفرته إذا أمنته قوله (لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها) معنى ترتع ترعى وقيل معناه تسعى وتبسط ومعنى ذعرتها أفزعتها وقيل نفرتها
[ 146 ]
قوله (كان الناس إذا رأوا الثمر جاؤا به الى رسول الله ص = فإذا أخذه رسول الله ص = قال اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا) الى آخره قال العلماء كانوا يفعلوا ذلك رغبة في دعائه ص = في الثمر وللمدينة والصاع والمد واعلاما له ص = بابتداء صلاحها لما يتعلق بها من الزكاة وغيرها وتوجيه الخارصين قوله (ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان) فيه بيان ما كان عليه ص = من مكارم الاخلاق وكمال الشفقة والرحمة وملاطفة الكبار والصغار وخص بهذا الصغير لكونه أرغب فيه وأكثر تطلعا إليه وحرصا عليه قوله (فأردت أن أنقل عيالي الى بعض الريف) قال أهل اللغة الريف بكسر الراء هو
[ 147 ]
الأرض التي تزرع فيها زرع وخصب وجمعه أرياف ويقال أريفنا صرنا الى الريف وأرافت الأرض أخصبت فهي ريفة قوله (وإن عيالنا لخلوف) هو بضم الخاء أي ليس عندهم رجال ولا من يحميهم قوله ص = (لآمرن بناقتي ترحل) هو بإسكان الراء وتخفيف الحاء أي يشد عليها رحلها قوله ص = (ثم لا أحل لها عقدة حتى اقدم المدينة) معناه أواصل السير ولا أحل عن راحلتي عقدة من عقد حملها ورحلها حتى أصل المدينة لمبالغتي في الاسراع الى المدينة قوله ص = (وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها) المازم بهمزة بعد الميم وبكسر الزاي وهو الجبل وقيل المضيق بين الجبلين ونحوه والأول هو الصواب هنا ومعناه ما بين جبليها كما سبق في حديث أنس وغيره والله أعلم قوله ص = (ولا يخبط فيها شجرة الا لعلف) هو بإسكان اللام وهو مصدر علفت علفا وأما العلف بفتح اللام فاسم الحشيش والتبن والشعير ونحوهما وفيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف وهو المراد هنا
[ 148 ]
بخلاف خبط الأغصان وقطعها فإنه حرام قوله ص = ما من المدينة شعب ولا نقب الا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها فيه بيان فضيلة المدينة وحراستها في زمنه ص = وكثرة الحراس واستيعابهم الشعاب زيادة في الكرامة لرسول ص = قال أهل اللغة الشعب بكسر الشين هو الفرجة النافذة بين الجبلين وقال ابن السكيت هو الطريق في الجبل والنقب بفتح النون على المشهور وحكى القاضي ضمها أيضا وهو مثل الشعب وقيل هو الطريق في الجبل قال الأخفش أنقاب المدينة وطرقها وفجاجها قوله فما وضعنا رحالنا حين دخلنا المدينة حتى أغار علينا بنو عبد الله بن غطفان وما يهيجهم قبل ذلك شئ معناه أن المدينة في حال غيبتهم كانت محمية محروسة كما أخبر النبي ص حتى أن بني عبد الله بن غطفان أغاروا عليها حين قدمنا ولم يكن قبل ذلك يمنعهم من الاغارة عليها مانع ظاهر ولا كان لهم عدو يهيجهم ويشتغلون به بل سبب منعهم قبل قدومنا حراسة الملائكة كما أخبر النبي ص = قال أهل اللغة يقال هاج الشر وهاجت الحرب وهاجها الناس أي تحركت وحركوها وهجت زيدا حركته للأمر كله ثلاثي وأما قوله بنو عبد الله فهكذا وقع في بعض النسخ عبد الله بفتح العين مكبر ووقع في أكثرها عبيد الله بضم العين مصغر والأول هو الصواب بلا خلاف بين أهل هذا الفن قال القاضي عياض حدثنا به مكبرا أبو
[ 149 ]
إحمد الخشني عن الطبري عن الفارسي بنو عبد الله على الصواب قال ووقع عند شيوخنا في نسخ مسلم من طريق ابن ماهان ومن طريق الجلودي بنو عبيد الله مصغر وهو خطأ قال وكان يقال لهم في الجاهلية بنو عبد العزى فسماهم النبي ص = بني عبد الله فسمنهم العرب بني محولة لتحويل اسمهم والله أعلم قوله جاء أبو سعيد الخدري ليالى الحرة يعني الفتنة المشهورة التي نهبت فيها المدينة ثلاث وستين قوله فاستشاره في الجلاء هو بفتح الجيم والمد وهو الفرار من بلد الي غيره قوله ص = في المدينة
[ 150 ]
(انها حرم أمن) فهي دلالة لمذهب الجمهور في تحريم صيدها وشجرها وقد سبقت المسألة قولها (قدمنا المدينة وهي بيئة) هي بهمزة ممدودة يعنى ذات وباء بالمد والقصر وهو الموت الذريع هذا أصله ويطلق ايضا على الأرض الوخمة التي تكثر بها الأمراض لا سيما للغرباء الذين ليسوا مستوطنيها فإن قيل كيف قدموا على الوباء وفي الحديث الآخر في الصحيح النهي عن القدوم عليه فالجواب من وجهين ذكرهما القاضي أحدهما أن هذه القدوم كان قبل النهي لأن النهي كان في المدينة بعد استيطانها والثاني أن المنهي عنه هو القدوم على الوباء الذريع والطاعون وأما هذا الذي كان في المدينة بعد استيطانها والثاني أن المنهي عنه هو القدوم على الوباء الذريع والطاعون وأما هذا الذي كان في المدينة فإنما كان وخما يمرض بسببه كثير من الغرباء والله أعلم قوله ص = (وحول حماها الى الجحفة) قال الخطابى وغيره كان ساكنوا الجحفة في ذلك الوقت يهودا ففيه دليل للدعاء على الكفار بالأمراض والاسقام والهلاك وفيه الدعاء للمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها وكشف الضر والشدائد عنهم وهذا مذهب العلماء كافة قال القاضى وهذا خلاف قول بعض المتصوفة ان الدعاء قدح في التوكل والرضا وأنه ينبغى تركه وخلاف قول المعتزلة أنه لا فائده في الدعاء مع سبق القدر ومذهب العلماء كافة أن الدعاء عبادة مستقلة ولا يستجاب منه الا ما سبق به القدر والله أعلم وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوة نبينا ص = فإن الجحفة من يومئذ مجتنبة ولا يشرب أحد من مائها الاحم
[ 151 ]
الترغيب في سكنى المدينة (وفضل الصبر على لأوائها وشدتها) قوله (عن يحنس مولى الزبير) هو بضم المثناة تحت وفتح الحاء المهملة وكسر النون وفتحها وجهان مشهوران والسين مهملة وفي الرواية الأخرى يحنس مولى مصعب بن الزبير هو لأحدهما حقيقة وللآخرين مجازا قوله (ان ابن عمر قال لمولاته اقعدي لكاع) هي بفتح اللام وأما العين فمبنية على الكسر قال أهل اللغة يقال امرأة لكاع ورجل لكع بضم اللام وفتح الكاف ويطلق ذلك على اللئيم وعلى العبد وعلى الغبي الذي لا يهتدى لكلام غيره وعلى الصغير وخاطبها ابن عمر بهذا انكارا عليها لا دلالة عليها لكونها ممن ينتمي إليه ويتعلق به وحثها على سكنى المدينة لما فيه من الفضل قال العلماء وفي هذه الأحاديث المذكورة في الباب مع ما سبق وما بعدها دلالات ظاهرة على فضل سكنى المدينة والصبر على شدائدها وضيق العيش فيها وأن هذا الفضل باق مستمر الى يوم القيامة وقد اختلف العلماء في المجاورة بمكة والمدينة فقال أبو حنيفة وطائفة تكره المجاورة بمكة وقال احمد بن حنبل وطائفة لا تكره المجاورة بمكة بل تستحب وإنما
[ 152 ]
كرهها من كرهها لأمور منها خوف الملل وقلة الحرمة للانس وخوف ملابسة الذنوب فإن الذنب فيها اقبح منه في غيرها كما أن الحسنة فيها أعظم منها في غيرها واحتج من استحبها بما يحصل فيها من الطاعات التي لا تحصل بغيرها وتضعيف الصلوات والحسنات وغير ذلك والمختار أن المجاورة بهما جميعا مستحبة الا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة وغيرها وقد جاورتهما خلائق لا يحصون من سلف الأمة وخلفها ممن يقتدى به وينبغى للمجاورة الاحتراز من المحذورات وأسبابها والله أعلم
[ 153 ]
صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها قوله ص = (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) أما الانقاب فسبق شرحها قريبا وفي هذا الحديث فضيلة المدينة وفضيلة سكناها وحمايتها من الطاعون والدجال المدينة تنفى خبثها وتسمى طابة وطيبة قوله ص = (في المدينة انها تنفى خبثها وشرارها كما ينفى الكير خبث الحديد وفي الرواية الأخرى كما تنفى النار خبث الفضة قال العلماء خبث الحديد والفضة هو وسخها وقذرها
[ 154 ]
الذي تخرجه النار منهما قال القاضي الاظهر أن هذا مختص بزمن النبي ص = لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه الا من ثبت ايمانه وأما المنافقون وجهلة الاعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الاجر في ذلك كما قال ذلك الاعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي هذا كلام القاضي وهذا الذى ادعى أنه الاظهر ليس بالأظهر لأن هذا الحديث الأول في صحيح مسلم أنه ص = قال لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد وهذا والله أعلم في زمن الدجال كما جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره مسلم في أواخر الكتاب في أحاديث الدجال أنه يقصد المدينة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله بها منها كل كافر ومنافق فيحتمل أنه مختص بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة والله أعلم قوله ص = (أمرت بقرية تأكل القرى) معناه أمرت بالهجرة إليها واستيطانها وذكروا في معنى أكلها القرى وجهين أحدهما أنها مركز جيوش الاسلام في أول الأمر فمنها فتحت القرى وغنمت أموالها وسباياها والثاني معناه أن أكلها وميرتها تكون من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها قوله ص = (يقولون يثرب وهي المدينة) يعنى أن بعض الناس من المنافقين وغيرهم يسمونها يثرب وإنما اسمها المدينة وطابة وطيبة ففي هذا كراهة تسميتها يثرب وقد جاء في مسند أحمد بن حنبل حديث عن النبي ص = في كراهة تسميتها يثرب وحكى عن عيسي بن دينار أنه قال من سماها يثرب كتبت عليه خطيئة قالوا وسبب كراهة تسميتها يثرب لفظ التثريب الذي هو التوبيخ والملامة وسميت طيبة وطابة لحسن لفظهما
[ 155 ]
وكان ص = يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هو حكاية عن قول المنافقين والذين في قلوبهم مرض قال العلماء ولمدينة النبي ص = أسماء المدينة قال الله تعالى ما كان لأهل المدينة وقال تعالى ومن أهل المدينة وطابة وطيبة والدار فأما الدار فلأمنها والاستقرار بها وأما طابة وطيبة فمن الطيب وهو الرائحة الحسنة والطاب والطيب لغتان وقيل من الطيب بفتح الطاء وتشديد الياء وهو الطاهر لخلوصها من الشرك وطهارتها وقيل من طيب العيش بها وأما المدينة ففيها قولان لأهل العربية أحدهما وبه جزم قطرب وابن فارس وغيرهما أنها مشتقة من دان إذا أطاع والدين والطاعة والثاني أنها مشتقة من مدن بالمكان إذا أقام به وجمع المدينة مدن ومدن بإسكان الدال وضمها ومدائن بالهمز وتركه والهمز أفصح وبه جاء القرآن العزيز والله أعلم قوله (أن اعرابيا بايع النبي ص = فأصاب الاعرابي وعك بالمدينة فأتى النبي ص = فقال يا محمد أقلنى بيعتى فأبى رسول الله ص = ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبي ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبي فخرج الاعرابي فقال رسول الله ص = إنما المدينة كالكير تنفى خبثها قال العلماء إنما لم يقله النبي ص = بيعته لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الاسلام ولا لمن هاجر الى النبي ص
[ 156 ]
للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب الى وطنه أو غيره قالوا وهذا الاعرابي كان ممن هاجر وبايع النبي ص = على المقام معه قال القاضي ويحتمل أن بيعة هذا الاعرابي كانت بعد فتح مكة وسقوط الهجرة إليه ص = وإنما بايع على الاسلام وطلب الاقالة منه فلم يقله والصحيح الأول والله أعلم قوله (فأصاب الاعرابي وعك) هو بفتح العين وهو مغث الحمى وألمها ووعك كل شئ معظمه وشدته قوله ص = (إنما المدينة كالكير تنفى خبثها وينصع طيبها) هو بفتح الياء والصاد المهملة أي يصفو ويخلص ويتميز والناصع الصافي الخالص ومنه قولهم ناصع اللون أي صافية وخالصة ومعنى احديث أنه يخرج من المدينة من لم يخلص ايمانه ويبقى فيها من خلص ايمانه قال أهل اللغة يقال نصع الشئ ينصع بفتح الصاد فيهما نصوعا إذا خلص ووضح والناصع الخالص من كل شئ قوله (وحدثنا قتيبة بن سعيد وهناد بن السرى وأبو كريب وأبو بكر بن أبي شيبة) هكذا وقع في بعض النسخ ووقع في أكثرها بحذف ذكر أبي كريب قوله ص = (ان الله سمى المدينة طابة هذا) فيه استحباب تسميتها طابة وليس فيها أنها لا تسمى بغيره فقد سماها الله تعالى المدينة في مواضع من القرآن وسماها النبي ص = طيبة في الحديث الذي قبل هذا من هذا الباب وقد سبق ايضاح الجميع في هذا الباب والله أعلم تحريم ارادة أهل المدينة بسوء وأن من أرادهم به أذابه الله قوله (أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس عن أبي عبد الله القراظ) هكذا صوابه أخبرني
[ 157 ]
عبد الله بفتح العين مكبر وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا ومعظم نسخ المغاربة ووقع في بعضها عبيد الله بضم العين مصغر وهو غلط ويحنس بكسر النون وفتحها سبق بيانه قريبا في بباب الترغيب في سكنى المدينة والقراظ بالظاء المعجمة منسوب الى القرظ الذي يدبغ به قال ابن أبي حاتم لأنه كان يبيعه واسم أبى عبد الله القراظ هذا دينار وقد سماه في الرواية التي بعد هذه في حديثه عن سعد بن ابي وقاص رضى الله عنه قوله ص = (من أراد أهل هذه البلدة بسوء) يعنى المدينة اذابة الله كما يذوب الملح في الماء قيل يحتمل أن المراد من أرادها غازيا مغيرا عليها
[ 158 ]
ويحتمل غير ذلك وقد سبق بيان هذا الحديث قريبا في الأبواب السابقة قوله (غير أنه قال بدهم أو بسوء) هو بفتح الدال المهملة وإسكان الهاء أي بغائلة وأمر عظيم والله أعلم ترغيب الناس في سكنى المدينة عند فتح الأمصار قوله ص = (تفتح الشام فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) قال اهل اللغة يبسون بفتح الياء المثناة من تحت وبعدها باء موحدة تضم وتكسر ويقال أيضا بضم المثناة مع كسر الموحدة فتكون اللفظة ثلاثية ورباعية فحصل في ضبطه ثلاثة أوجه ومعناه يتحملون بأهليهم وقيل معناه يدعون الناس الى بلاد الخصب وهو قول ابراهيم
[ 159 ]
الحربى وقال أبو عبيد معناه يسوقون والبس سوق الابل وقال ابن وهب معناه يزينون لهم البلاد ويحببونها إليهم ويدعون الى الرحيل إليها ونحوه في الحديث السابق يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم الى الرخاء وقال الداودى معناه يزجرون الدواب الى المدينة فيبسون ما يطوون من الأرض ويفتونه فيصير غبارا ويفتنون من بها لما يصفون لهم من رغد العيش وهذا ضعيف أو باطل بل الصواب الذي عليه المحققون أن معناه الاخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله باسا في سيره مسرعا الى الرخاء في الأمصار التي أخبر النبي ص بفتحها قال العلماء في هذا الحديث معجزات لرسول الله ص = لأنه أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس يتحملون بأهليهم إليها ويتركون المدينة وأن هذه الاقاليم تفتح على هذا الترتيب ووجد جميع ذلك كذلك بحمد الله وفضله وفيه فضيلة سكنى المدينة والصبر على شدتها وضيق العيش بها والله أعلم اخباره ص = بترك الناس المدينة على خير ما كانت قوله ص = للمدينة (ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي) يعنى السباع
[ 160 ]
والطيروفي الرواية الثانية يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي يريد عوافي السباع والطير ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمها فيجدانها وحشا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما أما العوافي فقد فسرها في الحديث بالسباع والطير وهو صحيح في اللغة مأخوذ من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه وأما معنى الحديث فالظاهر المختار أن هذا الترك للمدينة يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة وتوضحه قصة الراعبين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما ثبت في صحيح البخاري فهذا هو الظاهر المختار وقال القاضي عياض هذا فما جرى في العصر الأول وانقضى قال وهذا من معجزاته ص = فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة عنها الى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت الدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء وكمالهم وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافى وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها قال وحالها اليوم قريب من هذا وقد خرجت أطرافها هذا كلام القاضى والله أعلم ومعنى ينعقان بغنمهما يصيحان قوله ص = (فيجدانها وحشا) وفي رواية البخاري
[ 161 ]
وحوشا قيل معناها يجدانها خلاء أي خالية ليس بها أحد قال إبراهيم الحربي الوحش من الأرض هو الخلاء والصحيح أن معناها يجدانها ذات وحوش كما في رواية البخاري وكما قال ص لا يغشاها الى العوافي ويكون وحشا بمعنى وحوشا وأصل الوحش كل شئ توحش من الحيوان وجمعه وحوش وقد يعبر بواحدة عن جمعه كم في غيره وحكى القاضي عن ابن المرابط أن معناها أن غنمها تصير وحوشا إما أن تنقلب ذاتها فتصير وحوشا وإما أن تتوحش وتنفر من أصواتها وأنكر القاضي هذا واختار أن الضمير في يجدانها عائد الى المدينة لا الى الغنم وهذا هو الصواب وقول ابن المرابط غلط والله أعلم فضل ما بين قبره ص =) (وفضل موضع منبره) قوله ص = (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ذكروا في معناه قولين أحدهما أن ذلك الموضع بعينه ينقل الى الجنة والثاني أن العبادة فيه تؤدى الى الجنة قال الطبري في المراد بيتى هنا قولان أحدهما القبر قاله زيد بن اسلم كما روي مفسرا بين قبري ومنبر والثاني المراد بيت سكناه على ظاهرة وروى ما بين حجرتي ومنبرى قال الطبري والقولان متفقان
[ 162 ]
لأن قبره في حجرته وهي بيته قوله ص = (ومنبري على حوضي) قال القاضي قال أكثر العلماء المراد منبره الذي كان في الدنيا قال وهذا هو الأظهر قال وأنكر كثير منهم غيره قال وقيل ان له هناك منبرا على حوضه وقيل معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه الحوض ويقتضي شربه منه والله أعلم فضل أحد قوله ص = (ان أحدا جبل يحبنا ونحبه) قيل معناه يحبنا أهله وهم أهل المدينة
[ 163 ]
ونحبهم والصحيح أنه على ظاهره وأن معناه يحبنا هو نفسه وقد جعل الله فيه تمييزا وقد سبق بيان هذا الحديث قريبا والله أعلم فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة قوله ص = (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه الا المسجد الحرام) اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيتهما أفضل ومذهب الشافعي وجماهير العلماء أن مكة أفضل من المدينة وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة وعكسه مالك وطائفة فعند الشافعي والجمهور ومعناه الا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي وعند مالك وموافقيه الا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف قال القاضي عياض أجمعوا على أن موضع قبره ص = أفضل بقاع الأرض وأن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض واختلفوا
[ 164 ]
في أفضلهما ما عدا موضع قبره ص = فقال عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين المدينة أفضل وقال أهل مكة والكوفة والشافعي وابن وهب وابن حبيب المالكيان مكة أفضل قلب ومما احتج به أصحابنا لتفضيل مكة حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه أن سمع النبي ص = وهو واقف على راحلته بمكة يقول والله انك لخير أرض الله وأحب أرض الله الى الله ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح وعند عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال قال رسول الله ص = صلاة في مسجدي هذا افضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي حديث حسن رواه أحمد بن حنبل في مسنده والبيهقي وغيرهما بإسناد حسن والله أعلم وأعلم أن مذهبنا أنه لا يختص هذا التفضيل بالصلاة في هذين المسجدين بالفريضة بل يعم الفرض والنفل جميعا وبه قال مطرف من أصحاب مالك وقال الطحاوي يختص بالفرض وهذا مخالف اطلاق هذه الأحاديث الصحيحة والله أعلم واعلم أن الصلاة في مسجد المدينة تزيد على فضيلة الألف فيما سواه الا المسجد الحرام لأنها تعادل الألف بل هي زائدة على الألف كما صرحت به هذه الاحاديث
[ 165 ]
أفضل من ألف صلاة وخير من ألف صلاة ونحوه قال العلماء وهذا فيما يرجع الى الثواب
[ 166 ]
فثواب صلاة فيه يزيد على ثواب ألف فيما سواه ولا يتعدي ذلك الا الاجزاء عن الفوائت حتى لو كان عليه صلاتان فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزئه عنهما وهذا لا خلاف فيه والله أعلم وأعلم أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده ص = الذي كان في زمانه دون ما يزيد فيه بعده فينبغي أن يحرص المصلي على ذلك ويتفطن لما ذكرته وقد نبهت على هذا في كتاب المناسك والله أعلم قوله (وحدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح جميعا عن الليث بن سعد قال قتيبة حدثنا ليث عن نافع عن ابراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس أنه قال ان مرأة اشتكت شكوى فقالت ان شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس وذكر الحديث الى أن قال قالت ميمونة سمعت رسول الله ص = يقول صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا مسجد الكعبة) هذا الحديث مما أنكر على مسلم بسبب اسناده قال الحفاظ ذكر ابن عباس فيه وهم وصوابه عن ابراهيم بن عبد الله عن ميمونة هكذا هو المحفوظ من رواية الليث وابن جريج عن نافع عن ابراهيم عن عبد الله عن ميمونة من غير ذكر ابن عباس وكذلك رواه البخاري في صحيحه عن الليث عن نافع عن ابراهيم عن ميمونة ولم يذكر ابن عباس قال الدارقطني في كتاب العلل وقد رواه بعضهم عن ابن عباس عن ميمونة وليس يثبت وقال البخاري في تاريخه الكبير ابراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب عن أبيه وميمونة وذكر حديثه هذا من طريق الليث وابن جريج ولم يذكر فيه ابن عباس ثم قال وقال لنا المكي عن ابن جريج أنه سمع نافعا قال ان ابراهيم بن معبد حدث ان ابن عباس حدثه عن ميمونة قال البخاري ولا يصح فيه ابن عباس قال القاضي عياض قال بعضهم صوابه ابراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس أنه قال
[ 167 ]
ان امرأة اشتكت قال القاضي وقد ذكره مسلم قبل هذا في هذا الباب حديث عبد الله عن نافع عن ابن عمر وحديث موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر وحديث أيوب عن نافع عن ابن عمر وهذا مما استدركه الدار قطني عن مسلم وقال ليس بمحفوظ عن أيوب وعلل الحديث عن نافع بذلك وقال قد خالفهم الليث وابن جريج فروياه عن ابراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة وقد ذكر مسلم الروايتين ولم يذكر البخار في صحيحه رواية نافع بوجه وقد ذكر البخاري في تاريخه رواية عبد الله وموسى عن نافع قال والأول أصح يعنى رواية ابراهيم بن عبد الله عن ميمونة كما قال الدار قطني والله أعلم قلت ويحتمل صحة الروايتين جميعا كما فعله مسلم وليس هذا الاختلاف المذكور نافعا من ذلك ومع هذا فالمتن صحيح بلا خلاف والله أعلم قوله (عن ميمونة رضى الله عنها أنها أفتت امرأة نذرت الصلاة في بيت المقدس أن تصلي في مسجد النبي ص واستدلت بالحديث) هذه الدلالة ظاهرة وهذا حجة لأصح الأقوال في مذهبنا في هذه المسألة فإنه إذا نذر صلاة في مسجد المدينة أو الأقصى هل تتعين فيه قولان الأصح تتعين فلا تجزئه تلك الصلاة في غيره والثاني لا تتعين بل تجزئه تلك الصلاة حيث صلى فإذا قلنا تتعين فنذرها في أحد هذين المسجدين ثم أراد أن يصليها في الآخر ففيه ثلاثة أقوال أحدها يجوز والثاني لا يجوز والثالث وهو الأصح أن نذرها في الأقصى جاز العدول الى مسجد المدينة دون عكسه والله أعلم فضل المساجد الثلاثة قوله ص = (لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام
[ 168 ]
ومسجد الأقصى وفي رواية ومسجد إيلياء) هكذا وقع في صحيح مسلم هنا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى وهو من اضافة الموصوف الى صفته وقد أجازه النحويون الكوفيون وتأوله البصريون على أن فيه محذوفا تقديره مسجد المكان الحرام والمكان الأقصى ومنه قوله تعالى وما كنت بجانب الغربي أي المكان الغربي ونظائره وأما ايلياء فهو بيت المقدس وفيه ثلاث لغات أفصحهن وأشهرهن هذه الواقعة هنا ايلياء بكسر الهمزة واللام وبالمد والثانية كذلك الا أنه مقصور والثالثة الياء بحذف الياء وبالمد وسمي الأقصى لبعده من المسجد الحرام وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد الثلاثة وفضيلة شد الرحال إليها لأن معناه عند جمهور العلماء لا فضيلة في شد الرحال الى مسجد غيرها وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا يحرم شد الرحال الى غيرها وهو غلط وقد سبق بيان هذا الحديث وشرحه قبل هذا بقليل في باب سفر المرأة مع محرم الى الحج وغيره
[ 169 ]
بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى (هو مسجد النبي ص = بالمدينة) قوله ص = (وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال هو مسجدكم هذا لمسجد المدينة) هذا نص بأنه المسجد الذي أسس على التقوى المذكور في القرآن ورد لما يقول بعض المفسرين أنه مسجد قباء وأما أخذه ص = الحصباء وضربه في الأرض فالمراد به المبالغة في الايضاح لبيان أنه مسجد المدينة والحصباء بالمد الحصى الصغار فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته قوله (أن رسول الله ص = كان يزور قباء ماشيا وراكبا) وفي رواية أنه كان يأتي مسجد
[ 170 ]
قباء راكبا وماشيا فيصلي ركعتين وفي رواية أن ابن عمر كان يأتي مسجد قباء كل سبت وكان يقول رأيت النبي ص = يأتيه كل سبت أما قباء فالصحيح المشهور فيه المد والتذكير والصرف وفي لغة مقصور وفي لغة مؤنث وفي لغة مذكر غير مصروف وهو قريب من المدينة من عواليها وفي هذه الأحاديث بيان فضله وفضل مسجده والصلاة فيه وفضيلة زيارته وأنه تجوز زيارته راكبا وماشيا وهكذا جميع المواضع الفاضلة تجوز زيارتها راكبا وماشيا وفيه أنه يستحب أن تكون صلاة
[ 171 ]
النفل بالنهار ركعتين كصلاة الليل وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وفيه خلاف أبي حنيفة وسبقت المسألة في كتاب الصلاة وقوله كل سبت فيه جواز تخصيص بعض الأيام بالزيارة وهذا هو الصواب وقول الجمهور وكراه ابن مسلمة المالكي ذلك قالوا لعله لم تبلغه هذه الأحاديث والله أعلم ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة بسم الله الرحمن الرحيم كتاب النكاح هو في اللغة الضم ويطلق على العقد وعلى الوطء قال الامام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري قال الأزهري أصل النكاح في كلام العرب الوطء وقيل للتزويج نكاح لأنه سبب الوطء يقال نكح المنظر الأرض ونكح النعاس عينه أصابها قال الواحدي وقال أبو القسم الزجاجي النكاح في كلام العرب الوطء والعقد جميعا قال وموضع ن ك ح على هذا الترتيب في كلام العرب للزوم الشئ الشئ راكبا عليه هذا كلام العرب الصحيح فإذا قالوا نكح فلان فلانة ينكحها نكحا ونكاحا أرادوا تزوجها وقال أبو علي الفارسي فرقت العرب بينهما فرقا لطيفا فإذا قالوا نكح فلانه بنت فلان أو أخته أرادوا عقد عليها وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا الا الوطء لأن بذكر
[ 172 ]
امرأته وزوجته يستغني عن ذكر العقد قال الفراء العرب تقول نكح المرأة بضم النون بضعها وهو كناية عن الفرج فإذا قالوا نكحها أرادوا نكحها وهو فرجها وقل ما يقال ناكحها كما يقال باضعها هذا آخر ما نقله الواحدي وقال ابن فارس والجوهري وغيرهما من أهل اللغة النكاح الوطء وقد يكون العقد ويقال نكحتها ونكحت هي أي تزوجت وأنكحته زوجته وهي ناكح أي ذات زوج واستنكحها تزوجها هذا كلام أهل اللغة وأما حقيقة النكاح عند الفقهاء ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا حكاها القاضي حسين من اصحابنا في تعليقه أصحها أنها حقيقة في العقد مجاز في الوطء وهذا هو الذي صححه القاضي أبو الطيب وأطنب في الاستدلال له وبه قطع المتولي وغيره وبه جاء القرآن العزيز والأحاديث والثاني أنها حقيقة في الوطء مجاز في العقد وبه قال أبو حنيفة والثالث حقيقة فيهما بالاشتراك والله أعلم استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم) قوله ص = (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) قال أهل اللغة المعشر هم الطائفة
[ 173 ]
الذين يشملهم وصف فالشباب معشر والشيوخ معشر والأنبياء معشر والنساء معشر فكذا ما أشبهه والشباب جمع شاب ويجمع على شبان وشيبة والشاب عند أصحابنا هو من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنة وأما الباءة ففيها أربع لغات حكاها القاضى عياض الفصيحة المشهورة الباءة بالمد والهاء والثانية الباة بلا مد والثالثة الباء بالمد بلا هاء والرابعة الباهة بهاءين بلا مد وأصلها في اللغة الجماع مشتقة من المباءة وهي المنزل ومنه مباءة الابل وهي مواطنها ثم قيل لعقد النكاح باءة لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان الى معنى واحد صحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشبان الذين هم مظنه شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبا والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سميت باسم ما يلازمها وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطعها فليصم ليدفع شهوته والذي حمل القائلين بهذا على هذا أنهم قالوا قوله ص = ومن لم يستطع فعليه بالصوم قالوا والعاجز عن الجماع لا يحتاج الى الصوم دفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن وأجاب الأولون بما قدمناه في القول الأول وهو أن تقديره من لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه وهو محتاج الى الجماع فعليه بالصوم والله أعلم وأما الوجاء فبكسر الواو وبالمد وهو رض الخصيتين والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المنى كما يفعله الوجاء وفي هذا الحديث الأمر بالنكاح لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه وهذا مجمع عليه لكنه عندنا وعند العلماء كافة أمر ندب لا إيجاب فلا يلزم التزوج ولا التسرى سواء خاف العنت أم لا هذا مذهب العلماء كافة ولا يعلم أحد أوجبه الا داود ومن وافقه من اهل الظاهر ورواية عن أحمد فإنهم قالوا يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى قالوا وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم حوف العنت قال أهل الظاهر إنما يلزمه التزويج فقط ولا يلزمه الوطء وتعلقوا بظاهر الأمر في هذا الحديث مع غيره من الأحاديث مع القرآن قال الله فانحكوا ما طاب لكم من النساء وغيرها من الآيات واجتج الجمهور بقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء الى قوله تعالى وما ملكت أيمانكم فخيره سبحانه وتعالى بين النكاح والتسرى قال الامام المازرى هذا حجة للجمهور لأنه سبحانه وتعالى خيره بين
[ 174 ]
النكاح والتسرى بالإتفاق ولو كان النكاح واجبا لما خيره بينه وبين التسرى لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب وغيره لأنه الى ابطال حقية الواجب وأن تاركه لا يكون آثما وأما قوله ص = فمن رغب عن سنتي فليس مني فمعناه من رغب عنها اعراضا عنها غير معتقد على ما هي والله أعلم أما الأفضل من النكاح وتركه فقال أصحابنا الناس فيه أربعة أقسام قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح وقسم لا تتوق ولا يجد الؤن فيكره له وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان وقسم يجد المؤن ولا تتوق فمذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أن ترك النكاح لهذا والتخلي للعبادة أفضل ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك أن النكاح له أفضل والله أعلم قوله (ان عثمان بن عفان قال لعبد الله بن مسعود ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك) فيه استحباب عرض الصاحب هذا على صاحبه الذي ليست له زوجه بهذه الصفة وهو صالح لزواجها على ما سبق تفصيله قريبا وفيه استحباب نكاح الشابة لأنها المحصلة لمقاصد النكاح فانها ألذ استمتاعا وأطيب نكهة وأرغب في الاستمتاع الذي هو مقصود النكاح وأحسن عشرة وأفكه محادثة وأجمل منظرا وألين ملمسا وأقرب الى أن يعودها زوجها الأخلاق التي يرتضيها وقوله تذكرك بعض ما مضى من زمانك معناه تتذكر بها بعض ما مضى من نشاطك وقوة شبابك فإن ذلك ينعش البدن قوله (ان عثمان دعا ابن مسعود واستخلاه فقال له) هذا الكلام دليل على استحباب الاسرار بمثل هذا فإنه مما يستحي من ذكره بين الناس وقوله ألا نزوجك جارية بكرا دليل على استحباب البكر وتفضيلها على الثيب وكذا
[ 175 ]
قال أصحابنا لما قدمناه قريبا في قوله جارية شابة قوله (عن عبد الرحمن بن يزيد دخلت أنا وعمي علقمة والأسود على عبد الله بن مسعود) هكذا هو في جميع النسخ وهو الصواب قال القاضي ووقع في بعض الروايات أنا وعماى علقمة والاسود وهو غلط ظاهر لأن الاسود أو عبد الرحمن ابن يزيد لاعمه وعلقمة عمهما جميعا وهو علقمة بن قيس قوله (فذكر حديثا رئيت أنه حدث به من أجلى) هكذا هو في كثير من النسخ وفي بعضها رأيت وهما صحيحان
[ 176 ]
الأول من الظن والثانى من العلم قوله ص = (فمن رغب عن سنتي فليس مني) سبق تأويله وأن معناه من تركها اعراضا عنها غير معتقد لها على ما هي عليه أما من ترك النكاح على الصفة التى يستحب له تركه كما سبق أو ترك النوم على الفرا ش لعجزه عنه أو لاشتغاله بعبادة مأذون فيها أو نحو ذلك فلا يتناوله هذا الذم والنهقوله (أن النبي ص = حمد الله تعالى وأثنى عليه فقال ما بال أقوام قالوا كذوكذا) هو موافق للمعروف من خطبه ص = في مثل هذا أنه إذا كره شيئا فخطب له ذكر كراهيته ولا يعين فاعله وهذا من عظيم خلقه ص = فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ قوله (رد رسول الله ص = على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا) قال العلماء التبتل هو الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعا الى عبادة الله وأصل التبتل القطع ومنه مريم البتول وفاطمة البتول لانقطاعهما عن نساء زمانهما دينا وفضلا ورغبة في الآخرة ومنه صدقة بتلة أي منقطعة عن تصرف مالكها قال الطبري التبتل هو ترك الذات الدنيا وشهواتها والانقطاع الى الله تعالى بالتفرغ لعبادته وقوله رد عليه التبتل معناه نهاه عنه وهذا عند أصحاب محمول على من تاقت نفسه الى النكاح ووجد مؤنة كما سبق ايضاحه وعلى من أضربه التبتل بالعبادات الكثيرة الشاقة أما الاعراض
[ 177 ]
عن الشهوات واللذات من غير أضرار بنفسه ولا تفويت حق لزوجة ولا غيرها ففضيلة للمنع منها بل مأمور به وأما قوله لو أذن له لا ختصينا فمعناه لو أذن له في الانقطاع عن النساء وغيرهن من ملاذ الدنيا لاختصينا لدفع شهوة النساء ليمكنا التبتل وهذا محمول على أنهم كانوا يظنون جواز الاختصاء باجتهادهم ولم يكن ظنهم هذا موافقا فإن الاختصاء في الآدمى حرام صغيرا كان أو كبيرا قال البغوي وكذا يحرم خصاء كل حيوان لا يؤكل وأما المأكول فيجوز خصاؤه في صغره ويحرم في كبره والله اعلم باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه الى أن يأتي امرأته (أو جاريته فيواقعها) قوله ص = (أن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم
[ 178 ]
امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه) وفي الرواية الأخرى إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد الى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه هذه الرواية الثانية مبينة للأولى ومعنى الحديث أنه يستحب لمن رأى امرأة فتحركت شهوته أن يأتي امرأته أو جاريته ان كانت له فليواقعها ليدفع شهوته وتسكن نفسه ويجمع قلبه على ما هو بصدده قوله ص = (ان المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان) قال العلماء معناه الاشارة الى الهوى والدعاء الى الفتنة بها لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل الى النساء والالتذاذ بنظرهن وما يتعلق بهن في شبيهة بالشيطان في دعائه الى الشر بوسوسته وتزيينه له ويستنبط من هذا أنه ينبغى لها أن لا تخرج بين الرجال الا لضرورة وأنه ينبغى للرجل الغض عن ثيابها والاعراض عنها مطلقا قوله (تمعس منيئة) قال أهل اللغة المعس بالعين المهملة الدلك والمنيئة بميم مفتوحة ثم نون مكسورة ثم همزة ممدودة ثم تاء تكتب هاء وهي على وزن صغيرة وكبيرة وذبيحة قال اهل اللغة هي الجلد أول ما يوضع في الدباغ وقال الكسائي يسمي منيئة ثم أفيق بفتح الهمزة وسر الفاء وجمعه أفق كفقيز وقفز ثم أديم عبيده هو في أول الدباغ منيئة ثم أفيق بفتح الهمزة وكسر الفاء وجمعه أفق كقفيز وقفز ثم أديم والله أعلم قوله (أن النبي ص = رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها فقضى حاجته ثم خرج الى أصحابه فقال ان المرأة تقبل في صورة شيطان) الى آخره قال
[ 179 ]
العلماء انما فعل هذا بيانا لهم وارشادا لما ينبغى لهم أن يفعلوه فعلمهم بفعله وقوله وفيه أنه لا بأس بطلب الرجل امرأته الى الوقاع في النهار وغيره وإن كانت مشتغلة بما يمكن تركه لأنه ربما غلبت على الرجل شهوة يتضرر بالتأخير في بدنه أو في قلبه وبصره والله أعلم نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ (واستقر تحريمه الى يوم القيامة) اعلم أن القاضي عياض بسط شرح هذا الباب بسطا بليغا وأتى فيه بأشياء نفيسة وأشياء يخالف فيها فالوجه أن ننقل ما ذكره مختصرا ثم نذكر ما ينكر عليه ويخالف فيه وننبه على المختار قال المازرى ثبت أن نكاح المتعة كان جائزا في أول الاسلام ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة المذكورة ه نا أنه نسخ وانعقد الاجماع على تحريمه ولم يخالف فيه الا طائفة المستبدعة وتعلقوا بالأحاديث الواردة في ذلك وقد ذكرنا أنها منسوخة فلا دلالة لهم فيها وتعلقوا بقوله تعالى ف ما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن الأصح تتعين فلا فما استمتعتم به منهن الى أجل وقراءة ابن مسعود هذه شاذة لا يحتج بها قرآنا ولا خبرا ولا يلزم العمل بها قال وقال زفر من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه وكأنه جعل ذلك التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح فإنها تلغى ويصح النكاح قال المازرى واختلفت الرواية في صحيح مسلم في النهى عن المتعة ففيه أنه ص = نهى عنها يوم خيبر وفيه أنه نهى عنها يوم فتح مكة فإن تعلق بهذا من أجاز نكاح المتعة وزعم أن الاحاديث تعارضت وأن هذا الاختلاف قادح فيها قلنا هذا الزعم خطأ وليس هذا تناقضا لأنه يصح أن ينهى عنه في زمن ثم ينهى عنه في زمن آخر توكيدا أو ليشتهر النهى ويسمعه من لم يكن سمعه أولا فسمع بعض الرواة النهى في زمن وسمعه آخرون في زمن آخر فنقل كل منهم ما سمعه وأضافه الى زمان سماعه هذا كلام المازرى قال القاضي عياض روى حديث اباحة المتعة جماعة من الصحابة فذكره مسلم من رواية ابن مسعود وابن عباس وجابر وسلمة بن الأكوع وسيرة بن معبد الجهنى وليس في هذه الاحاديث كلها أنها كانت في
[ 180 ]
الحضر وإنما كانت في أسفارهم في الغزو عند ضرورتهم وعدم النساء مع أن بلادهم حارة وصبرهم عنهن قليل وقد ذكر في حديث ابن أبي عمر أنها كانت رخصة في أول الاسلام لمن اضطر إليها كالميتة ونحوها وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه وذكر مسلم عن سلمة بن الأكوع اباحتها يوم أوطلس ومن رواية سبرة اباحتها يوم الفتح وهما واحد ثم حرمت يومئذ وفي حديث على تحريمها يوم خيبر وهو قبل الفتح وذكر غير مسلم عن على أن النبي ص = نهى عنها في غزوة تبوك من رواية اسحاق بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عنه علي ولم يتابعه أحد على هذا وهو غلط منه وهذا الحديث رواه مالك في الموطأ وسفيان بن عيينه والعمري ويونس وغيرهم عن الزهري وفيه يوم خيبر وكذا ذكره مسلم عن جماعة عن الزهري وهذا هو الصحيح وقد روى أبو داود من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه النهي عنها في حجة الوداع قال أبو داود وهذا أصح ما روى في ذلك وقد روى عن سبرة أيضا اباحتها في حجة الوداع ثم نهى النبي ص = عنها حينئذ الى يوم القيامة وروى عن الحسن البصري أنها ما حلت قط الا في عمرة القضاء وروى هذا عن سبرة الجهني أيضا ولم يذكر مسلم في روايات حديث سبرة تعيين وقت الا في واية محمد بن سعيد الدرامي ورواية اسحاق ابن ابراهيم ورواية يحيى بن يحيى فإنه ذكر فيها يوم فتح مكة قالوا وذكر الرواية بإباحتها يوم حجة الوداع خطأ لأنه لم يكن يؤمئذ ضرورة ولا عزوبة وأكثرهم حجوا بنسائهم والصحيح أن الذى جرى في حجة الوداع مجرد النهي كما جاء في غير رواية ويكون تجديده ص = النهى عنها يومئذ لاجتماع الناس وليبلغ الشاهد الغائب ولتمام الدين وتقرر الشريعة كما قرر غير شئ وبين الحلال والحرام يومئذ وبت تحريم المتعة حينئذ لقوله الى يوم القيامة قال القاضي ويحتمل ما جاء من تحريم المتعة يوم خيبر وفي عمرة القضاء ويوم الفتح ويوم أوطاس أنه جدد النهي عنها في هذه المواطن لأن حديث تحريمها يوم خيبر صحيح لا مطعن فيه بل هو ثابت من رواية الثقات الاثبات لكن في رواية سفيان أنه نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر فقال بعضهم هذا الكلام فيه انفصال ومعناه أنه حرم المتعة ولم يبين زمن تحريمها ثم قال ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر يكون يوم خيبر لتحريم الحمر خاصة ولم يبين وقت تحريم المتعة ليجمع بين الروايات قال هذا القائل وهذا هو الأشبه أن تحريم المتعة كان بمكة وأما لحوم الحمر فبخيبر بلا شك قال
[ 181 ]
القاضى وهذا أحسن لو ساعده سائر الروايات عن غير سفيان قال والأولى ما قلناه أنه قرر التحريم لكن يبقى بعد هذا ما جاء من ذكر إباحته في عمرة القضاء يوم الفتح ويوم أوطاس فتحتمل أن النبي ص = أباحها لهم للضرورة بعد التحريم ثم حرمها تحريما مؤبدا فيكون حرمها يوم خيبر وفي عمرة القضاء ثم أباحها يوم الفتح للضرورة ثم حرمها يوم الفتح أيضا تحريما مؤبدا وتسقط رواية اباحتها يوم حجة الوداع لأنها مروية عن سبرة الجهني وإنما روى الثقات الاثبات عنه الاباحة يوم فتح مكة والذي في حجة الوداع إنما هو التحريم فيؤخذ من حديثه ماالتفق عليه جمهور الرواة ووافقه عليه غيره من الصحابة رضى الله عنهم من النهى عنها يوم الفتح ويكون تحريمها يوم حجة الوداع تأكيدا وإشاعة له كما سبق وأما قول الحسن إنما كانت في عمرة القضاء لا قبلها ولا بعدها فترده الأحاديث الثابتة في تحريمها يوم خيبر وهي قبل عمرة القضاء وما جاء من اباحتها يوم فتح مكة ويوم أوطاس مع أن الرواية بهذا إنما جاءت عن سبرة الجهني وهو راوي الروايات الأخر وهي أصح فيترك ما خالف الصحيح وقد قال بعضهم هذا مما تداوله التحريم والاباحة والنسخ مرتين والله أعلم هذا آخر كلام القاضي والصواب المختار أن التحريم والاباحة كانا مرتين وكانت حلالا قبل خيبر ثم حرمت يوم خبير ثم أبيحتت يوم مفتح مكة وهو يوم أوطاس لا تصالهما ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريمها مؤبدا الى يوم القيامة واستمر التحريم ولا يجوز أن يقال ان الاباحة مختصة بما قبل خيبر والتحريم يوم خيبر للتأبيد وأن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم اباحة يوم الفتح كما اختاره المازرى والقاضي لأن الروايات التي ذكرها مسلم في الاباحة يوم الفتح صريحة في ذلك فلا يجوز إسقاطها ولا مانع يمنع تكرير الاباحة والله أعلم قال القاضي واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحا الى أجل لا ميراث فيها وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ووقع الاجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء الا الروافض وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول بإباحتها وروى عنه أنه رجع عنه قال وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن حكم ببطلانه سواء كان قبل الدخول أو بعده الا ما سبق عن زفر واختلف أصحاب مالك هل يحد الواطئ فيه ومذهبنا أنه لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف ومأخذ الخلاف اختلاف الأصوليين في أن الاجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف ويصير المسألة عليها والأصح عند أصحابنا أنه لا يرفعه بل يدوم
[ 182 ]
الخلاف ولا يصير المسألة بعد ذلك مجمعا عليها أبدا وبه قال القاضي أبو بكر الباقلان قال القاضي وأجمعوا على أن من نكح نكاحا مطلقا ونيته أن لا يمكث معها الا مدة نواها فنكاحه صحيح حلال وليس نكاح متعة وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور ولكن قال مالك ليس هذا من أخلاق الناس وشذ الأوزاعي فقال هو نكاح متعة ولا خير فيه والله أعلم قوله (فقلنا ألا نستخصي فنهانا عن ذلك) فيه موافقة لما قدمناه في الباب السابق من تحريم الخصي لما فيه من تغيير خلق الله ولما فيه من قطع النسل وتعذيب الحيوان والله أعلم قوله (رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب) أي بالثوب وغيره ممنتراضى به قوله (ثم قرأ عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) فيه اشارة الى أنه كان يعتقد اباحتها كقول ابن عباس وأنه لم يبلغه نسخها قوله (وحدثني أمية بن بسطام العيشى حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح وهو ابن القاسم عن
[ 183 ]
عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد عن سلمة بن الأكوع وجابر هكذا هو في بعض النسخ وسقط في بعضها ذكر الحسن بن محمد بل قال عن عمرو بن دينار عن سلمة وجابر وذكر المازرى أيضا أن النسخ اختلف فيه وأنه ثبت ذكر الحسن فرواية ابن ماهان وسقط في رواية الجلودي وسبق بيان أمية بن بسطام وأنه يجوز صر ف بسطام وترك صرفه وأن الباء تكسر وقد تفتح والعيشي بالشين المعجمة قوله (عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا خرج علينا منادي رسول الله ص = فقال قد أذن لكم أن تستمتعوا) وفى الرواية الثانية عن سلمة وجابر أن رسول الله ص = أتانا فأذن لنا في المتعة فقوله في الثانية أتانا يحتمل أتانا رسوله ومناديه كما صرح به في الرواية الأولى ويحتمل أنه ص = مر عليهم فقال لهم ذلك بلسانه قوله (استمتعنا على عهد رسول الله ص = وأبى بكر وعمر) هذا محمول على أن الذي استمتع في عهد أبى بكر وعمر لم يبلغه النسخ وقوله (حتى نهانا عنه عمر) يعنى حين بلغه النسخ وقد سبق إيضاح هذا قوله (كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق) القبضة بضم القاف وفتحها والضم أفصح قال الجوهري القبضة بالضم ما قبضت عليه من الشئ يقال أعطاه قبضة من سويق
[ 184 ]
أو تمر قال وربما فتح قوله (حدثنا حامد بن عمر البكراوي) ذكرنا مرات انه منسوب الى جده الأعلى أبى بكر الصحابي قوله (رخص رسول الله ص = عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها) هذا تصريح بأنها أبيحت يوم فتح مكة وهو ويوم أوطاس شئ واحد وأوطاس واد بالطائف ويصرف ولا يصرف فمن صرفه أراد الوادي والمكان ومن لم يصرفه أراد البقعة كما في نظائره وأكثر استعمالهم له غير مصروف قوله (الربيع بن سبرة) هو بفتح السين المهملة وإسكان الباء الموحدة قوله (فانطلقت أنا ورجل الى إمرأة من بنى عامر كأنها بكرة عيطاء) أما البكرة فهى الفتية من الابل أي الشابة القوية وأما العيطاء فبفتح العين المهملة وإسكان الباء
[ 185 ]
المثناة تحت وبطاء مهملة وبالمد وهي الطويلة العنق في اعتدال وحسن قوام والعيط بفتح العين والياء طول العنق قوله ص = (من كان عنده شئ من هذه النساء التى يتمتع فليخل سبيلها) هكذا هو في جميع النسخ التى يتمتع فليخل أي يتمتع بها فحذف بها الدلالة الكلام عليه أو أوقع يتمتع موقع يباشر أي يباشرها وحذف المفعول قوله (وهو قريب من الدمامة) هي بفتح الدال المهملة وهى القبح في الصورة قوله (فبردي خلق) هو بفتح اللام أي قريب من البالي قوله (فتلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطة) هي بعين مهملة مفتوحة وبنونين الأولى مفتوحة وبطاءين مهملتين وهى كالعيطاء وسبق بيانها وقيل هي الطويلة فقط والمشهور الاول قوله (ينظر الى عطفها) هو بكسر العين أي جانبها وقيل من رأسها الى وركها وفى هذا الحديث دليل على
[ 186 ]
أنه لم يكن في نكاح المتعة ولي ولا شهود قوله (ان برد هذا خلق مح) هو بميم مفتوحة وحاء مهملة مشددة وهو البالي ومنه مح الكتاب إذا بلى ودرس قوله ص = (قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وأن الله قد حرم ذلك الى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شئ فليخل سبيلها ولا تأخذا مما آتيتموهن شيئا) وهي هذا الحديث التصريح بالنسوخ والناسخ في حديث واحد من كلام رسول الله ص = كحديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وفيه التصريح بتحريم نكاح المتعة الى يوم القيامة وأنه يتعين تأويل قوله في الحديث السابق أنهم كانوا يتمتعون الى عهد أبي بكر وعمر وعلي أنه لم يبلغهم الناسخ كما سبق وفيه أن المهر الذي كان أعطاها يستقر لها ولا يحل أخذ شئ منه وأن فارقها قبل الأجل المسمى كما أنه
[ 187 ]
يستقر في النكاح المعروف المهر المسمى بالوطء ولا يسقط منه شئ بالفرقة بعد قوله (فأمر نفسها ساعة) هو بهمزة ممدودة أي شاورت نفسها وأفكرت في ذلك ومنه قوله تعالى أن الملأ
[ 188 ]
يأتمرون بك قوله (ان ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل) يعنى يعرض بابن عباس قوله (انك لجلف جاف) الجلف بكسر الجيم قال ابن السكيت وغيره الجلف هو الجافي وعلى هذا قيل انما جمع بينهما توكيدا لاختلاف اللفظ والجافي هو الغليظ الطبع القليل الفهم والعلم والأدب لبعده عن أهل ذلك (فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك) هذا محمول على أنه أبلغه الناسخ لها وأنه لم يبق شك في تحريمها فقال ان فعلتها بعد ذلك ووطئت فيها كنت زانيا ورجمتك بالأحجار التي يرجم بها الزاني قوله (فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله) سيف الله هو خالد بن الوليد المخزومي سمابذلك رسول الله ص = لأنه ينكا في أعداء الله
[ 189 ]
قوله (نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الانسية) قوله الأنسية ضبطوه بوجهين أحدهما كسر الهمزة وإسكان النون والثاني فتحهما جميعا وصرح القاضي بترجيح الفتح وأنه رواية الأكثرين وفي هذا تحريم لحوم الأنسية وهو مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا طائفة يسيرة من السلف فقد روى عن ابن عباس وعائشة وبعض السلف اباحته وروى عنهم تحريمه وروى عن مالك كراهته وتحريمه قوله (انك رجل تائه) هو الحائر الذاهب عن الطريق المستقيم والله أعلم
[ 190 ]
تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح قوله ص = (لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) وفي رواية لا تنكح العمة على بنت الأخ ولا ابنة الأخت على الخالة هذا دليل لمذاهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها سواء كانت عمة وخالة حقيقة وهي أخت الأب وأخت الأم
[ 191 ]
أو مجازية وهي أخت أبى الأب وأبى الجد وإن علا أو أخت ام الأم وأم الجدة من جهتى الأم والأب وإن علت فكلهن بإجماع العلماء يحرم الجمع بينهما وقالت طائفة من الخوارج والشيعة يجوز واحتجوا بقوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم واحتج الجمهور بهذه الأحاديث خصوا بها الآية والصحيح الذي عليه جمهور الأصوليين جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لأنه ص = مبين للناس ما أنزل إليهم من كتاب الله وأما الجمع بينهما في الوطء بملك اليمين كالنكاح فهو حرام عند العلماء كافة وعند الشيعة مباح قالوا ويباح أيضا الجمع بين الأختين بملك اليمين قالوا وقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إنما هو في النكاح قال وقال العلماء كافة هو حرام
[ 192 ]
كالنكاح لعموم قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين وقولهم انه مختص بالنكاح لا يقبل بل جميع المذكورات في الآية محرمات بالنكاح وبملك اليمين جميعا ومما يدل عليه قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فإن معناه أن ملك اليمين يحل وطؤها بملك اليمين لإنكاحها فإن عقد النكاح عليها لا يجوز لسيدها والله أعلم وأما باقي الأقارب كالجمع بين بنتي العم أو بنتي الخالة أو نحوهما فجائز عندنا وعند العلماء كافة الا ما حكاه القاضي عبعض السلف أنه حرمه دليل الجمهور قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم والله أعلم وأما الجمع بين زوجة الرجل وبنته من غيرها فجائز عندنا وعند مالك وأبي حنيفة والجمهور وقال الحسن وعكرمة وابن أبي ليلى لا يجوز دليل الجمهور قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم وقوله ص = لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ظاهر في أنه لا فرق بين أن ينكح البنتين معا أو تقدم هذه أو هذه فالجمع بينهما حرام كيف كان وقد جاء في رواية أي داود وغيره لا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى لكن إن عقد عليهما معا بعقد واحد فنكاحهما باطل وان عقد على أحداهما ثم الأخرى فنكاح الأولى صحيح ونكاح الثانية باطل والله أعلم قوله ص = (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه) هكذا هو في جميع النسخ ولا يسوم بالواو وهكذا يخطب مرفوع وكلاهما لفظه لفظ الخبر والمراد به النهى وهو أبلغ في النهى لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافة والنهى قد تقع مخالفته فكان المعنى عاملوا هذا النهى معاملة الخبر المتحتم وأما حكم الخطبة فسيأتي في بابها قريبا ان شاء الله تعالى وكذلك السوم في كتاب البيع قوله ص = (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما كتب الله لها) يجوز في تسأل الرفع والكسر الأول على الخبر الذي يراد به النهى وهو المناسب لقوله ص = قبله لا يخطب ولا يسوم والثاني على النهى الحقيقي ومعنى هذا
[ 193 ]
الحديث نهى المرأة الأجنبية أن تسأل الزوج طلاق زوجته وأن ينكحها ويصير لها من نفقته ومعروفة ومعاشرته ونحوها ما كان للمطلقة فعبر عن ذلك باكتفاء ما في الصحفة مجازا قال الكسائي وأكفأت الاناء كببته وكفأته وأكفأته أملته والمراد بأختها غيرها سواء كانت أختها من النسب أو أختها في الاسلام أو كافرة تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته قوله ص = (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) ثم ذكر مسلم الاختلاف أن
[ 194 ]
النبي ص = تزوج ميمونة وهو محرم أو وهو حلال فاختلف العلماء بسبب ذلك في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم لا يصح نكاح المحرم واعتمدوا أحاديث الباب وقال أبو حنيفة والكوفيون يصح نكاحه لحديث قصة ميمونة وأجاب الجمهور عن حديث ميمونة بأجوبة أصحها أن النبي ص = انما تزوجها حلالا هكذا رواه أكثر الصحابة قال القاضي وغيره ولم يرو أنه تزوجها محرما الا ابن عباس وحده وروت ميمونة وأبو رافع وغيرهما أنه تزوجها حلالا وهم أعرف بالقضية لنعلقهم به خلاف ابن عباس ولأنهم أضبط من ابن عباس وأكثر الجواب الثاني تأويل حديث ابن عباس على أنه تزوجها في الحرم وهو حلال ويقال لمن هو في الحرم محرم وإن كان حلالا وهي لغة شائعة معروفة ومنه البيت المشهور قتلوا ابن عفان الخليفة محرما أي في حرم المدينة والثالث أنه تعارض القول والفعل والصحيح حينئذ عند الأصوليين ترجيح القول لأنه يتعدى الى الغير والفعل قد يكون مقصورا عليه والرابع جواب جماعة من أصحابنا أن النبي ص = كان له أن يتزوفي حال الاحرام وهو مما خص به دون الامة وهذا أصح الوجهين عند أصحابنا والوجه الثاني أنه حرام في حقه كغيره وليس من الخصائص وأما قوله ص =
[ 195 ]
وينكح فمعناه لا يزوج امرأة بولاية ولا وكالة قال العلماء سببه أنه لما منع في مدة الاحرام من العقد لنفسه صار كالمرأة فلا يعقد لنفسه ولا لغيره وظاهر هذا العموم أنه لا فرق بين أن يزوج بولاية خاصة كالاب والأخ والعم ونحوهم أو بولاية عامة وهو السلطان والقاضي ونائبه وهذا هو الصحيح عندنا وبه قال جمهور أصحابنا وقال بعض أصحابنا يجوز أن يزوج المحرم بالولاية العامة لأنها يستفاد بها ما لا يستفاد بالخاصة ولهذا يجوز للمسلم تزويج الذمية بالولاية العامة دون الخاصة وأعلم أن النهى عن النكاح والانكاح في حال الاحرام نهى تحريم فلو عقد لم ينعقد سواء كان المحرم هو الزوج والزوجة أو العاقد لهما بولاية أو وكالة فالنكاح باطل في كل ذلك حتى لو كان الزوجان والولي محلين ووكل الولي أو الزوج محرما في العقد لم ينعقد وأما قوله ص = ولا يخطب فهو نهى تنزيه ليس بحرام وكذلك يكره للمحرم أن يكون شاهدا في نكاح عقده المحلون وقال بعض أصحابنا لا ينعقد بشهادته لأن الشاهد ركن في عقد النكاح كالولي والصحيح الذي عليه الجمهور انعقاده قوله (حدثنا يحيى بن يحيى عن مالك عن نافع عن بينه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يتزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير) ثم ذكره بعد ذلك من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن نبيه قال بعثني عمر بن عبيد الله بن معمر وكان يخطب بنت شيبة بن عثمان عن ابنه هكذا قال أحمد عن أيوب في رواية بنت شيبة بن
[ 196 ]
عثمان وكذا قال محمد بن راشد بن عثمان بن عمرو القرشي وزعم أبو داود في سننه أن الصواب وأن مالكا وهم فيه وقال الجمهور بل قول مالك هو الصواب فإنها بنت شيبة بن جبير بن عثمان الحجبي كذا حكاه الدارقطني عن رواية الأكثرين قال القاضى ولعل من قال شيببن عثمان نسبه الى جده فلا يكون خطأ بل الروايتان صحيحتان أحداهما حقيقة والأخر مجاز وذكر الزبير بن بكار أن هذه البنت تسمى أمة الحميد وأعلم أنه وقع في اسناد رواية حماد عن أيوب رواية أربعة تابعيين بعضهم على بعض وهم أيوب السختيانى ونافع ونبيه وأبان بن عثمان وقد نبهت على نظائر كثيرة لهذا سبقت في هذا الكتاب وقد افردتها في جزء من رباعيات الصحابة رضي الله عنهم قوله (فقال له أبا أن لا أراك عراقيا جافيا) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا عراقيا وذكر القاضي أنه وقع في بعض الروايات عراقيا وفي بعضها أعرابيا قال وهو الصواب أي جاهلا بالسنة والاعرابي
[ 197 ]
هو ساكن البادية قال وعراقيا هنا خطأ الا أن يكون قد عرف من مذهب أهل الكوفة حينئذ جواز نكاح المحرم فيصح عراقيا أي آخذا بمذهبهم في هذا جاهلا بالسنة والله أعلم تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك قوله ص = (لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض) وفي رواية لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه الا أن يأذن له وفي رواية المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر هذه الاحاديث ظاهرة في تحريم الخطبة على خطبة أخيه وأجمعوا على تحريمها إذا كان قد صرح للخاطب بالاجابة ولم يأذن ولم يترك فلو خطب على خطبته وتزوج والحالة هذه عصى وصح النكاح ولم يفسخ هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال داود يفسخ النكاح وعن مالك روايتان كالمذهبين وقال جماعة من أصحاب مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده اما إذا عرض له بالاجابة ولم يصرح ففي تحريم الخطبة على خطبته قولان للشافعي أصحهما لا يحرم وقال بعض المالكية لا يحرم حتى يرضوا بالزوج المهر واستدلوا لما ذكرناه من أن التحريم انما هو إذا حصلت الاجابة بحديث فاطمة بنت قيس فانها قالت خطبني
[ 198 ]
أبو جهم ومعاوية فلم ينكر النبي ص = خطبة بعضهم على بعض بل خطبها لأسامة وقد يعترض على هذا الدليل فيقال لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول وأما النبي ص فأشار بأسامة لا أنه خطب له واتفقوا على أنه إذا ترك الخطبة رغبة عنها وأذن فيها جازت الخطبة على خطبته وقد صرح بذلك في هذه الاحاديث وقوله ص = (على خطبة أخيه) قال الخطابى وغيره ظاهرة اختصاص التحريم بما إذا كان الخاطب مسلما فان كان كافرا فلا تحريم وبه قال الاوزاعي وقال جمهور العلماء تحرم الخطبة على ى خطبة الكافر أيضا ولهم أن يجيبوا عن الحديث بأن التقييد بأخيه خرج على الغالب فلا يكون له مفهوم يعمل به كما في قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم من إملاق وقوله تعالى وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم ونظائره وأعلم ان الصحيح الذي تقتضيه الاحاديث وعمومها أنه لا فرق بين الخاطب الفاسق وغيره وقال ابن القاسم المالكي تجوز الخطبة على خطبة الفاسق والخطبة في هذا كله
[ 199 ]
بكسر الخاء وأما الخطبة في الجمعة والعيد والحج وغير ذلك وبين يدي عقد النكاح فبضمها وأما قوله ص = (ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يسم على سوم أخيه ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد) فسيأتي شرحها في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى قوله (حدثنا شعبة عن العلاء وسهيل عن أبيهما) هكذا صورته في جميع النسخ وأبو العلاء غير أبي سهيل فلا يجوز أن يقال عن أبيهما قالوا وصوابه أبويهما قال القاضي وغيره ويصح أن يقال عن أبيهما بفتح الباء على لغة من قال في تثنية الاب أبان كما قال في تثنية اليد يدان فتكون الرواية صحيحة لكن الباء مفتوحة والله أعلم
[ 200 ]
تحريم نكاح الشغار وبطلانه قوله (ان رسول الله ص = نهى عن الشغار) والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق وفي الرواية الأخرى بيان أن تفسير الشغار من كلام نافع وفي الأخرى ابنته أو أخته قال العلماء الشغار بكسر الشين المعجمة وبالغين المعجمة أصله في اللغة الرفع يقال شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول كأنه قال لا ترفع رجل بنتي حتى ارفع رجل بنتك وقيل هو مشغر البلد إذا خلا لخلوه عن الصداق ويقال شغرت المرأة إذا رفعت رجلها عند الجماع
[ 201 ]
قال ابن قتيبة كل واحد منهما يشغر عن الجماع وكان الشغار من نكاح الجاهلية وأجمع العلماء على أنه منهي عنه لكن اختلفوا هل هو نهي يقتضى ابطال النكاح أم لا فعند الشافعية يقتضى إبطاله وحكاه الخطابي عن أحمد واسحق وأبي عبيد وقال مالك يفسخ قبل الدخول وبعده وفي رواية عنه قبله لا بعده وقال جماعة يصح بمهر المثل وهو مذهب أبي حنيفة وحكى عن عطاء والزهري والليث وهو رواية عن أحمد واسحق وبه قال أبو ثور وابن جرير وأجمعوا على أن غير البنات من الاخوات وبنات الأخ والعمات وبنات الأعمام والاماء كالبنات في هذا وصورته الواضحة زوجتك بنتي على ان تزوجني بنتك ويضع كل واحدة صداقا للأخرى فيقول قبلت والله أعلم الوفاء بالشرط في النكاح قوله ص (إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) قال
[ 202 ]
الشافعي وأكثر العلماء أن هذا محمول على شروط لا تنافي مقتضي النكاح بل تكون من مقتضياته ومقاصده كاشتراك العشرة بالمعروف والانفاق عليها وكسوتها وسكناها بالمعروف وأنه لا يقصر في شئ من حقوقها ويقسم لها كغيرها وأنها لا تخرج من بيته إلا بإذنه ولا تنشز عليه ولا تصوم تطوعا بغير إذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ولا تتصرف في متاعه الا برضاه ونحو ذلك وأما شرط يخالف مقتضاه كشرط أن لا يقسم لها ولا يتسرى عليه ولا ينفق عليها ولا يسافر بها ونحو ذلك فلا يجب الوفاء به بل يلغو الشرط ويصح النكاح بمهر المثل لقوله ص = كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وقال أحمد وجماعة يجب الوفاء بالشرط مطلقا لحديث أن أحق الشروط والله أعلم استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت قوله ص = (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا
[ 203 ]
يا رسول الله وكيف اذنها قال أن تسكت) وفي رواية الايم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها وفي رواية الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وأذنها سكوتها وفي رواية والبكر يستأذنها أبوها في نفسها وأذنها صماتها قال العلماء الايم هنا الثيب كم فسرته الرواية الأخرى التي ذكرنا وللأيم معان أخر والصمات بضم الصاد هو السكوت قال القاضي اختلف العلماء في المراد بالأيم هنا مع اتفاق أهل اللغة على أنها تطلق على امرأة لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا قال ابراهيم الحربي واسماعيل القاضي وغيرهما والأيمة في اللغة العزوبة ورجل أيم وامرأة أيم وحكى أبو عبيد أنه أيمة أيضا قال القاضي ثم اختلف العلماء في المراد بها هنا فقال علماء الحجاز والفقهاء كافة المراد بالثيب واستدلوا بأنه جاء مفسرا في الرواية الاخرى بالثيب كما ذكرناه وبأنها جعلت مقابلة للبكر وبأن أكثر استعمالها في اللغة للثيب وقال الكوفيون وزفر الايم هنا كل امرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا كما هو مقتضاه في اللغة قالوا فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها وعقدها على نفسها النكاح صحيح وبه قال الشعبي والزهري قالوا وليس الولى من أركان صحة النكاح بل من تمامه وقال الاوزاعي وأبو يوسف ومحمد تتوقف صحة النكاح على اجازة الولي قال القاضي واختلفوا أيضا في قوله ص = أحق من وليها هل هي أحق بالإذن فقط أو بالإذن والعقد على نفسها فعند الجمهور بالاذن فقط وعند هؤلاء بهما جميعا وقوله ص أحق بنفسها يحتمل من حيث اللفظ أن المراد أحق من وليها في كل شئ من عقد وغيره كما قاله أبو حنيفة وداود ويحتمل أنها أحق بالرضا
[ 204 ]
أي لا تزوج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر ولكن لما صح قوله ص = لا نكاح الا بولي مع غيره من الأحاديث الدالة على اشتراط الولي تعين الاحتمال الثاني وأعلم أن لفظة أحق هنا للمشاركة معناه أن لها في نفسها في النكاح حقا ولوليها حقا وحقها أوكد من حقه فإنه لو أراد تزويجها كفؤا وامتنعت لم تجبر ولو أرادت أن تتزوج كفؤا فامتنع الولي أجبر فإن أصر زوجها القاضي فدل على تأكيد حقها ورجحانه وأما قوله ص = في البكر ولا تنكح البكر حتى تستأمر فاختلفوا في معناه فقال الشافعي وابن ابي ليلى وأحمد واسحق وغيرهم الاستئذان في البكر مأمور به فإن كالولي أبا أو جدا كان الاستئذان مندوبا إليه ولو زوجها بغير استئذانها صح لكمال شفقته وإن كان غيرهما من الأولياء وجب الاستئذان ولم يصح إنكاحها قبله وقال الاوزاعي وأبو حنيفة وغيرهما من الكوفيين يجب الاستئذان في كل بكر بالغة وأما قوله ص = في البكر اذنها صماتها فظاهره العموم في كل بكر ولك ولي وأن سكوتها يكفي مطلقا وهذا هو الصحيح وقال بعض أصحابنا ان كان الولي أبا أو جدا فاستئذانه مستحب ويكفى فيه سكوتها وان كان غيرهما فلا بد من نطقها لأنها تستحي من الأب والجد أكثر من غيرهما والصحيح الذي عليه الجمهور أن السكوت كاف في جميع الأولياء لعموم الحديث لوجود الحياء وأما الثيب فلا بد فيها من النطق بلا خلاف سواء كان الولي أبا أو غيره لأنه زال كمال حيائها بممارسة الرجال وسواء زالت بكارتها بنكاح صحيح أو فاسد أو بوطء شبهة أو بزنا ولو زالت بكارتها بوثبة أو بإصبع أو بطول المكث أو وطئت في دبرها
[ 205 ]
حكم البكر والله أعلم ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يشترط اعلام البكر بأن سكوتها اذن وشرطه بعض المالكية واتفق عليه أصحاب مالك على استحابه واختلف العلماء في اشتراط الولي في صحة النكاح فقال مالك والشافعي يشترط ولا يصح نكاح الا بولي وقال أبو حنيفة لا يشترط في الثيب ولا في البكر البالغة بل لها أن تزوج نفسها بغير اذن وليها وقال أبو ثور يجوز أن تزوج نفسها بإذن وليها ولا يجوز بغير اذنه وقال داود يشترط الولي في تزويج البكر دون الثيب واحتج مالك والشافعي بالحديث المشهور لا نكاح إلا بولي وهذا يقتضى نفي الصحة واحتج داود بأن الحديث المذكور في مسلم صريح في الفرق بين البكر والثيب وأن الثيب أحق بنفسها والبكر تستأذن وأجاب أصحابنا عنه بأنها أحق أي شريكة في الحق بمعنى أنها لا تجبر وهي أيضا أحق في تعيين الزوج واحتج أبو حنيفة بالقياس على البيع وغيره فإنها تستقل فيه بلا ولي وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولى على الأمة والصغيرة وخص عمومها بهذا القياس وتخصيص العموم بالقياس جائز عند كثيرين من أهل الأصول واحتج أبو ثور بالحديث المشهور ايما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل ولأن الولي انما يراد ليختار كفؤا لدفع العار وذلك يحصل بإذنه قال العلماء ناقض داود مذهبه في شرط الولي في البكر دون الثيب لأنه احداث قول في مسألة مختلف فيها ولم يسبق إليه ومذهبه أنه لا يجوز احداث مثل هذا والله أعلم
[ 206 ]
جواز تزويج الأب البكر الصغيرة فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت (تزوجني رسول الله ص = لست سنين وبنى بي وأنا بنت تسع سنين) وفي رواية تزوجها وهي بنت سبع سنين هذا صريح في جواز تزويج الأب الصغيرة بغير اذنها لأنه لا اذن لها والجد كالأب عندنا وقد سبق في الباب الماضي بسط الاختلاف في اشتراط الولي وأجمع المسلمون على جواز تزويجه بنته البكر الصغيرة لهذا الحديث وإذا بلغت فلا خيار لها في فسخه عند مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز وقال أهل العراق لها الخيار إذا بلغت أما غير الأب والجد من الأولياء فلا يجوز أن يزوجها عند الشافعي والثوري ومالك وابن أبي ليلى وأحمد وأبي ثور وأبي عبيد والجمهور قالوا فإن زوجها لم يصح وقال الاوزاعي وأبو حنيفة وآخرون من السلف يجوز لجميع الأولياء ويصح ولها الخيار إذا بلغت الا أبا يوسف فقال لا خيار لها واتفق الجماهير على أن الوصي الاجنبي لا يزوجها وجوز شريح وعروة وحماد له تزويجها قبل البلوغ وحكاه الخطابي عن مالك ايضا والله أعلم وأعلم أن الشافعي وأصحابه قالوا يستحب أن لا يزوج الأب والجد البكر حتى تبلغ ويستأذنها لئلا يوقعها في أسر الزوج وهي كارهة وهذا الذي قالوه لا يخالف حديث عائشة لان مرادهم أنه لا يزوجها قبل البلوغ إذا لم تكن مصلحة ظاهرة يخاف فوتها بالتأخير كحديث عائشة فيستحب تحصيل ذلك الزوج لأن الأب مأمور بمصلحة ولده فلا يفوتها والله أعلم وأما وقت زفاف الصغيرة المزوجة والدخول بها فإن اتفق الزوج والولي على شئ لا ضرر فيه على الصغيرة عمل به وإن اختلفا فقال أحمد وأبو عبيد تجبر على ذلك بنت تسع سنين دون غيرها وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة حد ذلك أن تطيق الجماع ويختلف ذلك باختلافهن ولا يضبط بسن وهذا هو الصحيح وليس في حديث عائشة تحديد ولا المنع من ذلك فيمن أطاقته قبل تسع ولا الإذن فيه لمن لم تطقه وقد بلغت تسعا قال الداودي وكانت عائشة قد شبت شبابا حسا رضى الله
[ 207 ]
عنها وأما قولها في رواية تزوجني وأنا بنت سبع وفي أكثر الروايات بنت ست فالجمع بينهما أنه كان لها ست وكسر ففي رواية اقتصرت على السنين وفي رواية عدت السنة التي دخلت فيها والله أعلم قوله (وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال وجدت في كتابي عن أبي أسامة هذا) معناه أنه وجد في كتابه ولم يذكر أنه سمعه ومثل هذا تجوز روايته على الصحيح وقول الجمهور ومع هذا فلم يقتصر مسلم عليه بل ذكره متابعة لغيره قولها (فوعكت شهرا فوفى شعرى جميمة) الوعك ألم الحمى ووفى أي كمل وجميمة تصغير جمة وهي الشعر النازل الى الأذنين ونحوهما أي صار إلى هذا الحد بعد أن كان قد ذهب بالمرض قولها (فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحة) أم رومان هي أم عائشة وهي بضم الراء وإسكان الواو وهذا هو المشهور ولم يذكر الجمهور غيره وحكى ابن عبد البر في الاستيعاب ضم الراء وفتحها ورجح الفتح وليس هو براجح والارجوحة بضم الهمزة هي خشبة يلعب عليها الصبيان والجواري الصغار يكون وسطها على مكان مرتفع ويجلسون على طرفيها ويحركونها فيرتفع جانب منها وينزل جانب قولها (فقلت هه هه حتى ذهب نفسي) هو بفتح الفاء هذه كلمة يقولها المبهور حتى يتراجع الى حال شكونه وهي بإسكان الهاء الثانية فهي هاء السكت قولها (فإذا نسوة من الأنصار فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر) النسوة بكسر النون وضمها لغتان الكسر أفصح وأشهر والطائر الحظ يطلق على الحظ من الخير والشر والمراد هنا على أفضل حظ وبركة وفيه استحباب الدعاء بالخير والبركة لكل واحد من الزوجين ومثله في حديث عبد الرحمن بن عوف بارك الله لك قولها (فغسلن رأسي وأصلحنني)
[ 208 ]
فيه استحباب تنظيف العروس وتزيينها لزوجها واستحباب اجتماع النساء لذلك ولأنه يتضمن إعلان النكاح ولأنهن يؤانسنها ويؤدبنها ويعلمنها آدابها حال الزفاف وحال لقائها الزوج قولها (فلم يرعنى الا ورسول الله ص = ضحى فأسلمني إليه) أي لم يفجأني ويأتني بغتة إلا هذا وفيه جواز الزفاف والدخول بالعروس نهارا وهو جائز ليلا ونهارا واحتج به البخاري في الدخول نهارا وترجم عليه بابا قوله (وزفت إليه وهي ابنة تسع سنين ولعبها معها (المراد هذه اللعب المسماة بالبنات التي تلعب بها الجواري الصغار ومعناه التنبية على صغر سنها قال القاضي وفيه جواز اتخاذ اللعب وإباحة لعب الجواري بهن وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي ص = رأى ذلك فلم ينكره قالوا وسببه تدريبهن لتربية الاولاد واصلاح شأنهن وبيوتهن هذا كلام القاضي ويحتمل أن يكون مخصوصا من أحاديث النهى عن اتخاذ الصور لما ذكره
[ 209 ]
من المصلحة ويحتمل أن يكون هذا منهيا عنه وكانت قصة عائشة هذه ولعبها في أول الهجرة قبل تحريم الصور والله أعلم استحباب التزوج والتزويج في شوال (واستحباب الدخول فيه) قوله (عن عائشة رضي الله عنها قالت تزوجني رسول الله ص = في شوال وبنى بي في شوال فأي نساء رسول الله ص = كان أحظى عنده منى قال وكانت عائشة تستحب أن تدخل نسائها في شوال) فيه استحباب التزويج والتزوج والدخول في شوال وقد نص أصحابنا على استحبابه واستدلوا بهذا الحديث وقصدت عائشة بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه وما يتخيله بعض العوام اليوم من كراهة التزوج والتزويج والدخول في شوال وهذا باطل لا أصل له وهو من آثار الجاهلية كانوا يتطيرون بذلك لما في اسم شوال من الاشالة والرفع
[ 210 ]
ندب من أراد نكاح امرأة الى أن ينظر الى وجهها (وكفيها قبل خطبتها) قوله ص = للمتزوج امرأة من الانصار (أنظرت إليها قال لا قال فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الانصار شيئا) هكذا الرواية شيئا بالهمز وهو واحد الأشياء قيل المراد صغر وقيل ز رقة وفي هذا دلالة لجواز ذكر مثل هذه للنصيحة وفيه استحباب النظر الى وجه من يريد تزوجها وهو مذهبنا ومذهب مالك وأبى حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وجماهير العلماء وحكى القاضي عن قوم كراهته وهذا خطأ مخالف لصريح هذا الحديث ومخالف لاجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها ثم انه انما يباح له النظر الى وجهها وكفيها فقط لأنهما ليسا بعورة ولأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها هذا مذهبنا ومذهب الأكثرين وقال الأوزاعي ينظر الى مواضع اللحم وقال داود ينظر الى جميع بدنها وهذا خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والاجماع ثم مذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور أنه لا يشترط في جواز هذا النظر رضاها بل له ذلك في غفلتها ومن غير تقدم إعلام لكن قال مالك أكره نظرة في غفلتها مخافة من وقوع نظرة على عورة وعن مالك رواية ضعيفة أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها وهذا ضعيف لأن النبي ص = قد اذن في ذلك مطلقا ولم يشترط استئذانها ولأنها تستحي غالبا من الإذن ولأن في ذلك تغريرا فربما رآها
[ 211 ]
فلم تعجبه فيتركها فتنكسر وتتأذى ولهذا قال أصحابنا يستحب أن يكون نظره إليها قبل الخطبة حتى ان كرهها تركها من غير ايذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة والله أعلم قال أصحابنا وإذا لم يمكنه النظر استحب له أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره ويكون ذلك قبل الخطبة لما ذكرناه قوله ص = (كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل) العرض بضم العين وإسكان الراء هو الجانب والناحية وتنحتون بكسر الحاء أي تقشرون وتقطعون ومعنى هذا الكلام كراهة اكثار المهر بالنسبة الى حال الزوج الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد (وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به) قوله (حدثنا يعقوب) يعنى ابن عبد الرحمن القارئ هو القارئ بتشديد الياء منسوب الى القارة قبيلة معروفة وسبق بيانه قولها (جئت أهب لك نفسي) مع سكوته ص فيه دليل لجواز هبة المرأة نكاحها له كما قال الله وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها النبي ان أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قال أصحابنا هذه الاية وهذا الحديث
[ 212 ]
دليلان لذلك فإذا وهبت امرأة نفسها له ص = فتزوجها بلا مهر حل له ذلك ولا يجب عليه بعد ذلك مهرها بالدخول ولا بالوفاة ولا بغير ذلك بخلاف غيره فإنه لا يخلو نكاحه وجوب مهر اما مسمى وأما مهر المثل وفي انعقاد نكاح النبي ص بلفظ الهبة وجهان لاصحابنا أحدهما ينعقد لظاهر الأية وهذا الحديث والثاني لا ينعقد بلفظ الهبة بل لا ينعقد الا بلفظ التزويج أو الانكاح كغيره من الأمة فإنه لا ينعقد الا بأحد هذين اللفظين عندنا بلا خلاف ويحمل هذا القائل الآية والحديث على أن المراد بالهبة أنه لا مهر لأجل العقد بلفظ الهبة وقال أبو حنيفة ينعقد نكاح كل أحد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد وبمثل مذهبنا قال الثوري وأبو ثور وكثيرون من أصحاب مالك وغيرهم وهو احدى الروايتين عن مالك والرواية الاخرى عنه أنه ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع إذا قصد به النكاح سواء ذكر الصداق أم لا ولا يصح بلفظ الرهن والاجارة والوصية ومن أصحاب مالك من صححه بلفظ الاحلال والاباحة حكاه القاضي عياض قوله (فنظر إليها رسول الله ص = فصعد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ) أما صعد بتشديد العين أي رفع وأما صوب فبتشديد الواو أي خفض وفي دليل لجواز النظر لمن أراد أن يتزوج امرأة وتأمله إياها وفيه استحباب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح ليتزوجها وفيه أنه يستحب لمن طلبت منه حاجه لا يمكنه قضاؤها أن يسكت سكوتا يفهم السائل منه ذلك لا يخجله بالمنع الا إذا لم يحصل الفهم الا بصريح المنع فيصرح قال الخطابي وفيه جواز نكاح المرأة من غير أن تسأل هل هي في عدة أم لا حملا على ظاهر الحال قال وعادة الحكام ى بحثون عن ذلك احتياطا قلت قال الشافعي لا يزوج القاضي من جاءته لطلب الزواج حتى
[ 213 ]
يشهد عدلان أنه ليس لها ولي خاص وليست في زوجيه ولا عدة فمن اصحابنا من قال هذا شرط واجب والأصح عندهم أنه استحباب واحتياط وليس بشرط قوله ص = (انظر ولو خاتم من حديد) هكذا هو في النسخ خاتم من حديد وفي بعض النسخ خاتما وهذا واضح والأول صحيح أيضا أي ولو حضر خاتم من حديد وفيه دليل على أنه يستحب أن لا ينعقد النكاح الا بصداق لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة من حيث أنه لو حصل طلاق قبل الدخول وجب نصفه المسمى فلو لم تكن تسمية لم يجب صداق بل تجب المتعة فلو عقد النكاح بلا صداق صح قال الله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسهوهن أو تفرضوا لهن فريضة فهذا تصريح بصحة النكاح والطلاق من غير مهر ثم يجب لها المهر وهل يجب بالعقد أم بالدخول فيه خلاف مشهور وهما قولان للشافعي أصحهما بالدخول وهو ظاهر هذه الاية وفي هذا الحديث أنه يجوز أن يكون الصداق قليلا وكثيرا مما يتمول إذا تراضى به الزوجان لأن خاتم الحديد في نهاية من القلة وهذا مذهب الشافعي وهو مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وبه قال ربيعة وأبو الزناد وابن أبي ذئب ويحيى بن سعيد والليث بن سعد والثوري والأوزاعي ومسلم بن خالد الزنجي وابن أبي ليلى وداود وفقهاء أهل الحديث وابن وهب من أصحاب مالك قال القاضي هو مذهب العلماء كافة من الحجازيين والبصريين والكوفيين والشاميين وغيرهم أنه يجوز ما تراضى به الزوجان من قليل وكثير كالسوط والنعل وخاتم الحديد ونحوه وقال مالك أقله ربع دينار كنصاب السرقة قال القاضى هذا مما انفرد به مالك وقال أبو حنيفة وأصحابه أقله عشر دراهم وقال ابن شبرمة أقله خمسة دراهم اعتبارا بنصاب القطع في السرقة عندهما وكره النخعي أن يتزوج بأقل من أربعين درهما وقال مرة عشرة وهذه المذاهب سوى مذهب الجمهور مخالفة للسنة وهم محجوبون بهذا الحديث الصحيح الصريح وفي هذا الحديث جواز اتخاذ خاتم الحديد وفيه خلاف للسلف حكاه القاضي ولأصحابنا في كراهته وجهان أصحهما لا يكره لأن الحديث في النهي عنه ضعيف وقد أوضحت المسألة في شرح المهذب وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر إليها قوله (لا والله يا رسول الله ولا خاتم من حديد) فيه جواز الحلف من غير استحلاف ولا ضرورة لكن قال اصحابنا يكره من
[ 214 ]
غير حاجة وهذا كان محتاجا ليؤكد قوله وفيه جواز تزويج المعسر وتزوجه قوله (ولكن هذا ازاري فقال رسول الله ص = ما تصنع بإزارك ان لبسته لم يكن عليها منه شئ وإن لبسته لم يكن عليك منه شئ) فيه دليل على نظر كبير القوم في مصالحهم وهدايته اياهم الى ما فيه الرفق بهم وفيه جواز لبس الرجل ثوب امرأته إذا رضيت أو غلب على ظنه رضاها وهو المراد في هذا الحديث قوله ص = (اذهب فقد ملكتها بما معك) هكذا هو في معظم النسخ وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين ملكتها بضم الميم وكسر اللام المشددة على ما لم ى سم فاعله وفي بعض النسخ ملكتكها بكافين وكذا رواه البخاري وفي الرواية الاخرى زوجتكها قال القاضي قال الدارقطني رواية من روى ملكتها وهم قال والصواب رواة من روى زوجتكها قال وهم أكثر وأحفظ قلت ويحتمل صحة اللفظين ويكون جرى لفظ التزويج أولا فملكها ثم قال له اذهب فقد ملكتها بالتزويج السابق والله أعلم وفي هذا الحديث دليل لجواز كون الصداق تعليم القرآن وجواز الاستئجار لتعليم القرآن وكلاهما جائز عند الشافعي وبه قال عطاء والحسن بن صالح ومالك واسحاق وغيرهم ومنعه جماعة منهم الزهري وأبو حنيفة وهذا الحديث مع الحديث الصحيح إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله يردان قول ممنع ذلك ونقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن
[ 215 ]
العلماء كافة سوي أبي حنيفة قولها (كان صداق رسول الله ص = لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا قالت أتدري ما النش قلت لا قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم) أما الأوقية فبضم الهمزة وتشديد الياء والمراد أوقية الحجاز وهي أربعون درهما وأما النش فبنون مفتوحة ثم شين معجمة مشددة واستدل أصحابنا بهذا الحديث على أنه يستحب كون الصداق خمسمائة درهم والمراد في حق من يحتمل ذلك فإن قيل فصداق أم حبيبة زوج النبي ص = كان أربعة آلاف درهم وأربعمائة دينار فالجواب أن هذا القدر تبرع به النجاشي من ماله اكراما
[ 216 ]
للنبي ص = لا أن النبي ص = أداه أو عقد به والله أعلم قوله (ان النبي ص = رأى على عبد الرحمن أثر صفرة قال ما هذا) فيه أنه يستحب للامام والفاضل تفقد أصحابه والسؤال عما يختلف من أحوالهم وقوله (أثر صفرة) وفي رواية في غير كتاب مسلم رأى عليه صفرة وفي رواية ردع من زعفران والردع براء ودال وعين مهملات هو أثر الطيب والصحيح في معنى هذا الحديث أنه تعلق به أثر من الزعفران وغيره من طيب العروس ولم يقصده ولا تعمد التزعفر فقد ثبت في الصحيح النهى عن التزعفر للرجال وكذا نهى الرجال عن الخلوق لأنه شعار النساء وقد نهى الرجال عن التشبه بالنساء فهذا هو الصحيح في معنى الحديث وهو الذي اختاره القاضي والمحققون قال القاضي وقيل أنه يرخص في ذلك للرجل العروس وقد جاء ذلك في أثر ذكره أبو عبيد أنهم كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه قال وقيل لعله كان يسيرا فلم ينكر قال وقيل كان في اول الاسلام من تزوج لبس ثوبا مصبوغا علامة لسروره وزواجه قال وهذا غير معروف وقيل يحتمل أنه كان في ثيابه دون بدنه ومذهب مالك وأصحابه جواز لبس الثياب المزعفرة وحكاه مالك عن العلماء المدينة وهذا مذهب ابن عمر وغيره وقال الشافعي وأبو حنيفة لا يجوز ذلك للرجل قوله (تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب) قال القاضي قال الخطابي النواة اسم لقدر معروف عندهم فسروها بخمسة دراهم من ذهب قال القاضي كذا فسرها أكثر العلماء وقال أحمد بن حنبل هي ثلاثة دراهم وثلث وقيل المراد نواة التمر أي وزنها من ذهب والصحيح الأول وقال بعض المالكية النواة ربع دينار عند أهل المدينة وظاهر كلام أبي عبيد أنه دفع خمسة دراهم قال ولم يكن هناك ذهب انما هي خمسة دراهم تسمى نواة كما تسمى الأربعون أوقية قوله ص = (فبارك الله لك) فيه استحباب الدعاء للمتزوج وأن يقال بارك الله لك أو نحوه وسبق في الباب قبله ايضاحه قوله ص = (أو لم ولو بشاة) قال العلماء من أهل اللغة والفقهاء وغيرهم الوليمة الطعام المتخذ للعرس مشتقة
[ 217 ]
من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان قاله الأزهري وغيره وقال الأنباري أصلها تمام الشئ واجتماعه والفعل منا أو لم قال أصحابنا وغيرهم الضيافات ثمانية أنواع الوليمة للعرس والخرس بضم الخاء المعجمة ويقال الخرص أيضا بالصاد المهملة للولادة والاعذار بكسر الهمزة وبالعين المهملة والذال المعجمة للختان والوكيزة للبناء والنقيعة لقدوم المسافر مأخوذه من النقع وهو الغبار ثم قيل إن المسافر يصنع الطعام وقيل يصنعه غيره له والعقيقة يوم سابع الولادة والوضيمة بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة الطعام عند المصيبة والمأدبة بضم الدال وفتحها الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب والله أعلم واختلف العلماء في وليمة العرس هل هي واجبة أم مستحبة والأصح عند أصحابنا أنها سنة مستحبة ويحملون هذا الأمر في هذا الحديث على الندب وبه قال مالك وغيره وأوجبها داود وغيره واختلف العلماء في وقت فعلها فحكى القاضي أن الأصح عند مالك وغيره أنه يستحب فعلها بعد الدخول وعن جماعة من المالكية استحبابها عند العقد وعن ابن حبيب المالكي استحبابها عند العقد وعند الدخول وقوله ص
[ 218 ]
ص = أولم ولو بشاة دليل على انه يستحب للموسر أن لا ينقص عن شاة ونقل القاضي الاجماع على أنه لا حد لقدرها المجزئ بل بأي شئ أولم من الطعام حصلت الوليمة وقد ذكر مسلم بعد هذا وفي وليمة عرس صفية أنها كانت بغير لحم وفي وليمة زينب أشبعنا خبزا ولحما وكل هذا جائز تحصل به الوليمة لكن يستحب أن تكون على قدر حال الزوج قال القاضي واختلف السلف في تكرارها أكثر من يومين فكرهته طائفة ولم تكرهه طائقة قال واستحب أصحاب مالك للموسر كونها أسبوعا فضيلة اعتاقه أمته ثم يتزوجها قوله (فصلينا عندها صلاة الغداة) دليل على أنه لا كراهة في تسميتها الغداة وقال بعض أصحابنا
[ 219 ]
يكره والصواب الأول قوله (وأنا رديف أبي طلحة) دليل لجواز الارداف إذا كانت الدابة مطيقة وقد كثرت الأحاديث الصحيحة بمثله قوله (فأجرى نبي الله ص = في زقاق خيبر) دليل لجواز ذلك وأنه لا يسقط المروءة ولا يخل بمراتب أهل الفضل لا سيما عند الحاجة للقتال أو رياضة الدابة أو تدريب النفس ومعاناة أسباب الشجاعة قوله (وإن ركبتي لتمس فخذ نبى الله ص = وانحسر الازار عن فخذ نبى الله ص = فإني لأري بياض فخذ نبى الله ص =) هذا مما يستدل به أصحاب مالك وغيرهم ممن يقول الفخذ ليس بعورة ومذهبنا أنه عورة ويحمل أصحابنا هذا الحديث على أن انحسار الازار وغيره كان بغير اختياره ص = فانحسر للزحمة وإجراء المركوب ووقع نظر أنس إليه فجأة لا تعمدا وكذلك مست ركبته الفخذ من غير اختيارهما بل للزحمة ولم يقل أنه تعمد ذلك ولا أنه حسر الازار بل قال انحسر بنفسه قوله (فلما دخل القرية قال الله أكبر خربت خيبر) فيه دليل الاستحباب الذكر والتكبير عند الحرب وهو موافق لقول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا ولهذا قالها ثلاث مرات ويؤخذ منه أن الثلاث كثير وأما قوله ص = خربت خيبر فذكروا فيه وجهين أحدهما أنه دعاء تقديره أسأل الله خرابها والثاني أنه اخبار بخرابها على الكفار وفتحها للمسلمين قوله (محمد والخميس) هو بالخاء المعجمة وبرفع السين
[ 220 ]
المهملة وهو الجيش قال الأزهري وغيره سمى خميسا لأنه خمسة أقسام مقدمة وساقة وميمنة وميسرة وقلب وقيل لتخميس الغنائم وأبطلوا هذا القول لأن هذا الإسم كان معروفا في الجاهلية ولم يكن لهم تخميس قوله (وأصبناها عنوة) هو بفتح العين أي قهرا لا صلحا وبعض حصون خيبر أصيب صلحا وسنوضحه في باب إن شاء الله تعالى قوله (فجاءه دحية إلى قوله فأخذ صفية بنت حي) أما دحية فبفتح الدال وكسرها وأما صفية فالصحيح أن هذا كان اسمها قبل السبي وقيل كان اسمها زينت فسميت بعد السبي والاضفاء صفية قوله (أعطيت دحية صفية بنت حيي سيد قريظة والنضير ما تصلح إلا لك قال ادعوه بها قال فجا بها فلما نظر إليها النبي ص = قال خذ جارية من السبي غيرها) قال المازرى وغيره يحتمل ما جرى مع دحية وجهين أحدهما أن يكون رد الجارية برضاه وأذن له في غيرها والثاني أنه إنما أذن له في جارية له من حشو السبي لاأفضلهن فلما رأى النبي ص = أنه أخذ أنفسهن وأجودهن نسبا وشرفا في قومها وجمالها استرجعها لأنه لم يأذن فيها ورأى في ابقائها لدحية مفسدة لتميزه بمثلها على باقي الجيش ولما فيه من انتهاكها مع مرتبتها وكونها بنت سيدهم ولما يخاف من استعلائها على دحية بسبب مرتبتها وربما ترتب على ذلك شقاق أو غيره فكان أخذه ص = إياها لنفسه قاطعا لكل هذه المفاسد المتخوفة ومع هذا فعوض دحية عنها وقوله في الرواية الأخرى انها وقعت في سهم دحية فاشتراها رسول الله ص = بسبعة أرؤس يحتمل أن المراد بقولوقعت في سهمه أي حصلت بالإذن في أخذ جارية ليوافق باقي الروايات وقوله اشتراها أي أعطاه بدلها سبعة أنفس تطيبا لقلبه لا أنه جرى عقد بيع وعلى هذا تتفق الروايات وهذا العطاء لدحية
[ 221 ]
محمول على التنفيل فعلى قول من يقول التنفيل يكون من أصل الغنيمة لا إشكال فيه وعلى قول من يقول أن التنفيل من خمس الخمس يكون هذا التنفيل من خمس الخمس بعد أن ميز أو قبله ويحسب منه فهذا الذي ذكرناه هو الصحيح المختار وحكى القاضي معنى بعضه ثم قال والأولى عندي أن تكون صفية فيئا لأنها كانت زوجة كنانة بن الربيع وهو وأهله من بني أبي الحقيق كانوا صالحوا رسول الله ص = وشرط عليهم أن لا يكتموه كنزا فإن كتموه فلا ذمة لهم وسألهم عن كنز حي بن أخطب فكتموه وقالوا أذهبته النفقات ثم عثر عليه عندهم فانتقض عهدهم فسباهم ذكر ذلك أبو عبيد وغيره فصفية من سبيهم فهى فئ لا يخمس بل يفعل فيه الامام ما رأى هذا كلام القاضي وهذا تفريغ منه على مذهبه أن الفئ لا يخمس ومذهبنا أنه يخمس كالغنيمة والله أعلم قوله (فقال له ثابت يا أبا حمزة ما أصدقها قال نفسها أعتقها وتزوجها) فيه أنه يستحب أن يعتق الأمة ويتزوجها كما قال في الحديث الذي بعده له أجران وقوله أصدقها نفسها اختلف في معناه فالصحيح الذي اختاره المحققون أنه أعتقها تبرعا بلا عوض ولا شرط ثم تزوجها برضاها بلا صداق وهذا من خصائصه ص = أنه يجوز نكاحه بلا مهر لا في الحال ولا فيما بعد بخلاف غير وقال بعض أصحابنا معناه أنه شرط عليها أن يعتقها ويتزوجها فقبلت فلزمها الوفاء به وقال بعض أصحابنا أعتقها وتزوجها على قيمتها وكانت مجهولة ولا يجوز هذا ولا الذي قبله لغيره ص = بل هما من الخصائص كما قال أصحاب القول الأول واختلف العلماء فيمن أعتق أمته على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها فقال الجمهور لا يلزمها أن تتزوج به ولا يصح هذا الشرط وممن قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وزفرقان الشافعي فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت ولا يلزمها أن تتزوجه بل له عليها قيمتها لأنه لم يرض بعتقها مجانا فإن رضيت وتزوجها على مهريتفقان عليه فله عليها القيمة ولها عليه المهر المسمى من قليل أو كثير وإن تزوجها على قيمتها فان كانت القيمة معلومة له ولها صح الصداق ولا تبقى له عليها قيمة ولا لها عليه صداق وإن كانت مجهولة ففيه وجهان لأصحابنا أحدهما يصح الصداق كما لو كانت معلومة لأن هذا العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف وأصحهما وبه قال جمهور
[ 222 ]
أصحابنا لا يصح الصداق بل يصح النكاح ويجب لها مهر المثل وقال سعيد بن المسيب والحسن والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق يجوز أن يعتقها على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق على ظاهر لفظ هذا الحديث وتأوله الآخرون بما سبق قوله (حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل فأصبح رسول الله ص = عروسا) وفي الرواية التي بعد هذه ثم دفعها الى أم سليم تصنعها وتهيئها قال وأحسبه قال وتعتد في بيتها أما قوله تعتد فمعناه تستبرئ فإنها كانت مسبية يجب استبراؤها وجعلها في مدة الاستبراء في بيت أم سليم فلما انقضى الاستبراء جهزتها أم سليم وهيأتها أي زينتها وجملتها على عادة العروس بما ليس بمنهي عنه ومن وشم ووصل وغير ذلك من المنهي عنه وقوله أهدتها أي زفتها يقال أهديت العروس الى زوجها أي زففتها والعروس يطلق على الزوج والزوجة جميعا وفي الكلام تقديم وتأخير ومعناه اعتدت أي استبرأت ثم هيأتها ثم أهدتها والواو لا تقتضي ترتيبها وفيه الزفاف بالليل وقد سبق في حديث تزوجه ص = عائشة رضي الله عنها الزفاف نهارا وذكرنا هناك جواز الأمرين والله أعلم قوله ص = (من كان عنده شئ فليجئني به) وفي بعض النسخ فليجئ به بغير نون فيه دليل لوليمة العرس وأنها بعد الدخول وقد سبق أنها تجوز قبله وبعده وفيه ادلال الكبير على أصحابه وطلب طعامهم في نحو هذا وفيه أنه يستحب لأصحاب الزوج وجيرانه مساعدته في وليمته بطعام من عندهم قوله (وبسط نطعا) فيه أربع لغات مشهورات فتح النون وكسرها مع فتح الطاء وإسكانها أفصحهن كسر النون مع فتح الطاء وجمعه نطوع وأنطاع قوله (فجعل الرجل يجئ بالإقط وجعل الرجل يجئ بالتمر وجعل الرجل يجئ بالسمن فحاسوا حيسا) الحيس هو الاقط والتمر والسمن يخلط ويعجن ومعناه جعلوا ذلك حيسا ثم أكلوه قوله ص = في الذي يعتق جاريته ثم يتزوجها له أجران هذا الحديث سبق بيانه وشرحه
[ 223 ]
واضحا في كتاب الايمان حيث ذكره مسلم وإنما أعاده هنا تنبيها على أن النبي ص = فعل ذلك في صفية لهذه الفضيلة الظاهرة قوله (حين بزغت الشمس) هو بفتح الباء والزاي ومعناه عند ابتداء طلوعها قوله (وخرجوا بفؤسهم ومكاتلهم ومرورهم) أما الفؤوس فبهمزة
[ 224 ]
ممدودة على وزن فعول جمع فأس بالهمز وهي معروفة والمكاتل جمع مكتل وهو القفة والزنبيل والمرور جمع مر بفتح الميم وهو معروف نحو المجرفة وأكبر منها يقال لها المساحي هذا هو الصحيح في معناه وحكى القاضي قولين أحدهما هذا والثاني المراد بالمرور هنا الحبال كانوا يصعدون بها الى النخيل قال وأحدها مر بفتح الميم وكسرها لأنه يمر حين يفتل قوله (فحصت الأرض أفاحيس) هو بضم الفاء وكسر الحاء المهملة المخففة أي كشف التراب من أعلاها وحفرت شيئا يسيرا ليجعل الانطاع في المحفور ويصب فيها السمن فيثبت ولا يخرج من جوانبها وأصل الفحص الكشف وفحص عن الأمر وفحص الطائر لبيضه والأفاحيص جمع أفحوص قوله (فعثرت الناقة العضباء وندر رسول الله ص = وندرت فقام فسترها) قوله عثرت بفتع
[ 225 ]
الثاء وندر بالنون أي سقط وأصل الندور الخروج والانفراد ومنه كلمة نادرة أي فردة عن النظائر قوله (فجعل يمر على نسائه فيسلم على كل واحدة منهن سلام عليكم كيف أنتم يا أهل البيت فيقولون بخير يا رسول الله كيف وجدت أهلك فيقول بخير) في هذه القطعة فوائد منها أنه يستحب للانسان إذا أتى منزله أن يسلم على امرأته وأهله وهذا مما يتكبر عنه كثير من الجاهلين المترفعين ومنها أنه إذا سلم على واحد قال سلام عليكم أو السلام عليكم بصيغة الجمع قالوا ليتناوله وملكيه ومنها سؤال الرجل أهله عن حالهم فربما كانت في نفس المرأة حاجة فتستحي أن تبتدئ بها فإذا سألها انبسطت لذكر حاجتها ومنها أنه يستحب أن يقال للرجل عقب دخوله كيف حالك ونحو هذا قوله (فلما وضع رجله في أسكفة الباب) هي بهمزة قطع مضمومة وبإسكان
[ 226 ]
السين قوله فجعل الرجل يجئ بفضل التمر وفضل السويق حتى جعلوا من ذلك سوادا حيسا السواد بفتح السين وأصل السواد الشخص ومنه في حديث الإسراء رأى آدم عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة أي أشخاصا والمراد هنا حتى جعلوا من ذلك كوما شاخصا مرتفعا فخلطوه وجعلوا حيسا قوله حتى إذا رأينا جدر المدينة هشنا إليها هكذا هو في النسخ هشنا بفتح الهاء وتشديد الشين المعجمة ثم نون وفي بعضها هششنا بشينين الأولى مكسورة مخففة ومعناهما نشطنا وخففنا وانبعثت نفوسنا إليها يقال منه هششت بكسر الشين في الماضي وفتحها في المضارع وذكر القاضي الروايتين السابقتين قال والرواية الأولى على الأدغام لالتقاء المثلين وهي لغة من قال هزت
[ 227 ]
السين وهي لغة بكر بن وائل قال ورواه بعضهم هشنا بكسر الهاء وإسكان الشين وهو من هاش يهيش بمعنى هش قوله (فخرج جواري نسائه) أي صغيرات الأسنان من نسائه قوله (يشمتن) هو بفتح الياء والميم قوله (قبل هذا ان حجبها فهي امرأته) استدلت به المالكية ومن وافقهم على أن هيصح النكاح بغير شهود إذا أعلن لأنه لو أشهد لم يخف عليهم وهذا مذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو مذهب الزهري ومالك وأهل المدينة شرطوا الاعلان دون الشهادة وقال جماعة من الصحابة ومن بعدهم تشترط الشهادة دون الاعلان وهو مذهب الأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وكل هؤلاء يشترطون شهادة عدلين الا أبا حنيفة فقال ينعقد بشهادة فاسقين وأجمعت الأمة على أنه لو عقد سرا بغير شهادة لم ينعقد وأما إذا عقد سرا بشهادة عدلين فهو صحيح عند الجماهير وقال مالك لا يصح والله أعلم زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب (واثبات وليمة العرس) قوله (قال رسول الله ص = لزيد فاذكرها على) أي فاخطبها لي من نفسها فيه دليل على أنه لا بأس أن يبعث الرجل لخطبة المرأة له من كان زوجها إذا علم أنه لا يكره ذلك كما كان حال زيد مع رسول الله ص = قوله (فلما رأيتها عظمت في صدري
[ 228 ]
حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله ص = ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبى) معناه أنه هابها واستجلها من أجل إرادة النبي ص = تزوجها فعاملها معاملة من تزوجها ص = في الاعظام والاجلال والمهابة وقوله (أن رسول الله ص = ذكرها) هو بفتح الهمزة من أن أي من أجل ذلك وقوله نكصت أي رجعت وكان جاء إليها ليخطبها وهو ينظر إليها على ما كان من عادتهم وهذا قبل زول الحجاب فلما غلب عليه الاجلال تأخر وخطبها وظهره إليها لئلا يسبقه النظر إليها قولها (ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدهم) أي موضع صلاتها من بيتها وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر سواء كان ذلك الامر ظاهر الخير أم لا وهو موافق لحديث جابر في صحيح البخاري قال كان رسول الله ص = يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها يقول إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة الى آخره ولعلها استخارت لخوفها من تقصير في حقه ص = قوله (ونزل القرآن وجاء رسول الله ص = فدخل عليها بغير إذن يعني نزل قوله تعالى فلما قضزيد منها وطرا زوجناكها فدخل عليها بغير إذن لأن الله تعالى زوجه إياها بهذه الآية قوله (ولقد رأيتنا أن رسول الله ص = أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار) هو بفتح الهمزة من أن وقوله حين امتد النهار أي ارتفع هكذا هو في النسخ حين بالنون قوله (يتتبع حجر نسائه
[ 229 ]
يسلم عليهن) إلى آخره سبق شرحه في الباب قبله قوله (أطعمهم خبزا ولحما حتى تركوه) يعنى حتى شبعوا وتركوه لشبعهم قوله (ما أولم رسول الله ص = على امرأة من نسائه أكثر أو أفضل مما أولم على زينب يحتمل أن سبب ذلك الشكر لنعمة الله في أن الله تعالى زوجه إياها بالوحى لا بولي وشهود بخلاف غيرها ومذهبنا الصحيح المشهور عند أصحابنا صحة
[ 230 ]
نكاحه ص = بلا ولي ولا شهود لعدم الحاجة الى ذلك في حقه ص وهذا لخلاف في غير زينب وأما زينب فمنصوص عليها والله أعلم قوله (حدثنا أبو مجلز) هو بكسر الميم وإسكان الجيم وفتح اللام وبعدها زاي وحكى بفتح الميم والمشهور الأول واسمه
[ 231 ]
لاحق بن حميد قيل وليس في الصحيحين من أول اسمه لام الف غيره قوله (عن أنس قال تزوج رسول الله ص = فدخل بأهله فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور فقالت يا أنس اذهب بهذا الى رسول الله ص = فقل بعثت بهذا اليك أمي وهي تقرئك السلام وتقول ان هذا لكل منا قليل يا رسول الله) فيه أنه يستحب لأصدقاء المتزوج أن يبعثوا إليه بطعام يساعدونه به على وليمته وقد سبق هذا في الباب قبله وسبق هناك بيان الحيس وفيه الاعتذار الى المبعوث إليه وقول الانسان نحو قول أم سليم هذا لك منا قليل وفيه استحباب بعث السلام الى الصاحب وإن كان أفضل من الباعث لكن هذا يحسن إذا كان بعيدا من موضعه أوله عذر في عدم الحضور بنفسه للسلام والتور بتاء مثناة فوق مفتوحة ثم واو ساكنة اناء مثل القدح سبق بيانه في باب الوضوء قوله ص = (اذهب فادع لي فلانا وفلانا ومن لقيت وسمى رجالا قال فدعوت من سمى ومن لقيت قال قلت لأنس عددكم كانوا قال زهاء ثلاثمائة) قوله زهاء بضم الزاي وفتح الهاء وبالمد ومعناه نحو ثلاثمائة وفيه أنه يجوز في الدعوة أن يأذن
[ 232 ]
المرسل في ناس معينين وفي مبهمين كقوله من لقيت من أردت وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله ص = بتكثير الطعام كما أوضحه في الكتاب قوله ص يا أنس هات التور) هو بكسر التاء من هات كسرت للأمر كما تكسر الطاء من أعط قوله (وزوجته مولية وجهها) هكذا هو في جميع النسخ وزوجته بالتاء وهي لغة قليلة تكررت في الحديث والشعر والمشهور حذفها قوله ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه) هو بضم القاف المخففة
[ 233 ]
الأمر بإجابة الداعي الى دعوة دعوة الطعام بفتح الدال ودعوة النسب بكسرها هذا قول جمهور العرب وعكسه تيم الرباب بكسر الراء فقالوا الطعام بالكسر والنسب بالفتح وأما قول قطرب في المثلث إن دعوة الطعام بالضم فغلطوه في قوله ص = (إذا دعى أحدكم الى الوليمة فليأتها) فيه الأمر
[ 234 ]
بحضورها ولا خلاف في أنه مأمور به ولكن هل هو أمر إيجاب أو ندب فيه خلاف الأصح في مذهبنا أنه فرض عين على كل من دعي لكن يسقط بأعذار سنذكرها ان شاء الله تعالى والثاني أنه فرض كفاية والثالث مندوب هذا مذهبنا في وليمة العرس وأما غيرها ففيها وجهان لأصحابنا أحدهما أنها كوليمة العرس والثاني أن الاجابة إليها ندب وإن كانت في العرس واجبة ونقل القاضي اتفاق العلماء على وجوب الاجابة في وليمة العرس قال واختلفوا فيما سواها فقال مالك والجمهور لا تجب الاجابة إليها وقال أهل الظاهر تجب الاجابة الى كدعوة من عرس وغيره وبه قال بعض السلف وأما الأعذار التي يسقط بها وجوب اجابة الدعوة أو ندبها فمنها أن يكون في الطعام شبهة أو يخص بها الأغنياء أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه أو لا تليق به مجالسته أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه أو ليعاونه على باطل وأن لا يكون هناك منكر من خمر أو لهو أو فرش حرير أو صور حيوان غير مفروشة أو آنية ذهب أو فضة فكل هذه أعذار في ترك الاجابة ومن الاعذار ان يعتذر الى الداعي فيتركه ولو دعاه ذمي لم تجب اجابته على الأصح ولو كانت الدعوة ثلاثة أيام فالأول تجب الاجابة فيه والثاني تستحب والثالث تكره قوله ص = (إذا دعى أحدكم الى وليمة عرس فليجب) قد يحتج به من يخص وجوب الاجابة بوليمة العرس ويتعلق الآخرون بالروايات المطلقة ولقوله ص = في الرواية التي بعد هذه إذا دعى أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه ويحملون هذا على الغالب أو نحوه من التأويل والعرس بإسكان الراء وضمها لغتان مشهورتان وهي مؤنثة وفيها لغة بالتذكير قوله ص =
[ 235 ]
(ان دعيتم الى كراع فأجيبوا) والمراد به عند جماهير العلماء كراع الشاة وغلطوا من حمله على كراع الغميم وهو موضع بين مكة والمدينة على مراحل من المدينة قوله ص = (إذا دعى أحدكم الى طعام فإن شاء طعم وإن شاء ترك) وفي الرواية فليجب فإن كان صائما
[ 236 ]
فليصم وإن كان مفطرا فليطعم اختلفوا في معنى فليصل قال الجمهور معناه فليدع لاهل الطاعم بالمغفرة والبركة ونحو ذلك وأصل الصلاة في اللغة الدعاء ومنه قوله تعالى وصل عليهم وقيل المراد الصلاة الشرعية بالركوع والسجود أي يشتغل بالصلاة ليحصل له فضلها ولتبرك أهل المكان والحاضرين وأما المفطر في الرواية الثانية أمره بالأكل وفي الأولى مخير واختلف العلماء في ذلك والأصح في مذهبنا أنه لا يجب الأكل في وليمة العرس ولا في غيرها فمن أوجبه اعتمد الرواية الصلاة الشرعية بالركوع والسجود أي يشتغل بالصلاة ليحصل له فضلها ولتبرك أهل المكان والحاضرين وأما المفطر في الرواية الثانية أمره بالأكل وفي الأولى مخير واختلف العلماء في ذلك والأصح في مذهبنا أنه لا يجب الأكل في وليمة العرس ولا في غيرها فمن أوجبه اعتمد الرواية الثانية وتأول الأولى على من كان صائما ومن لم يوجبه اعتمد التصريح بالتخيير في الرواية الأولى وحمل الأمر في الثانية على الندب وإذا قيل بوجوب الأكل فأقله لقمة ولا تلزمه الزيادة لأنه يسمى أكلا ولهذا لو حلف لا يأكل حنث بلقمة ولأنه قد يتخيل صاحب الطعام أن امتناعه لشبهة يعتقدها في الطعام فإذا أكل لقمة زال ذلك التخيل هكذا صرح باللقمة جماعة من أصحابنا وأما الصائم فلا خلاف أنه لا يجب عليه الاكل لكن إن كان صومه فرضا لم يجز له الأكل لان الفرض لا يجوز الخروج منه وإن كان نفلا جاز الفطر وتركه فإن كان يشق على صاحب الطعام صومه فالافضل الفطر وإلا فإتمام الصوم والله أعلم قوله (قبل هذا وكان عبد الله يعنى ابن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس ويأتيها وهو صائم) فيه أن الصوم
[ 237 ]
ليس بعذر في الاجابة وكذا قاله أصحابنا قالوا إذا دعي وهو صائم لزمه الاجابة كما يلزم المفطر ويحصل المقصود بحضوره وإن لم يأكل فقد يتبرك به أهل الطعام والحاضرون وقد يتجملون به وقد ينتفعون بدعائه أو بإشارته أو ينصانون عمالا ينصانون عنه في غيبته والله أعلم قوله (شر الطعام طعام الوليمة) ذكره مسلم موقوفا على أبي هريرة ومرفوعا إلى رسول الله ص = وقد سبق أن الحديث إذا روى موقوفا ومرفوعا حكم برفعه على المذهب الصحيح لأنها زيادة ثقة ومعنى هذا الحديث الاخبار بما يقع من الناس بعده ص = من مراعاة الأغنياء في الولائم ونحوها وتخصيصهم بالدعوة وإيثارهم بطيب الطعام ورفع مجالسهم وتقديمهم وغير ذلك مما هو الغالب في الولائم والله المستعان قوله (سمعت ثابتا الأعرج يحدث عن أبي هريرة) هو ثابت بن عياض الأعرج الأحنف القرشي العدوي مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وقيل مولى عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وقيل اسمه ثابت بن الأحنف بن عياض والله أعلم