شرح مسلم
النووي ج 8

[ 1 ]
صحيح مسلم بشرح النووي الجزء الثامن
[ 2 ]
استحباب الفطر للحاج بعرفات يوم عرفة مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وجمهور العلماء استحباب فطر يوم عرفة بعرفة للحاج وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان بن عفان وابن عمر والثوري قال وكان ابن الزبير وعائشة يصومانه وروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص وكان اسحاق يميل إليه وكان عطاء يصومه في الشتاء دون الصيف وقال قتادة لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء واحتج الجمهور بفطر النبي ص = فيه ولأنه أرفق بالحاج في آداب الوقوف ومهمات المناسك واحتج الآخرون بالأحاديث المطلقة أن صوم عرفة كفارة سنتين وحمله الجمهور على من ليس هناك قوله (ان أم الفضل امرأة العباس أرسلت الى النبي ص = بقدح لبن وهو واقف على بعير بعرفة فشربه) فيه فوائد منها استحباب الفطر للواقف بعرفة ومنها استحباب الوقوف راكبا وهو الصحيح في مذهبنا ولنا قول أن غير الركوب أفضل وقيل أنهما
[ 3 ]
سواء ومنها جواز الشرب قائما وراكبا ومنها اباحة الهدية للنبي ص = ومنها اباحة قبول هدية المرأة المزوجة الموثوق بدينها ولا يشترط أن يسأل هل هو من مالها أم من مال زوجها أو أنه أذن فيه أم لا إذا كانت موثوقا بدينها ومنها أن تصرف المرأة في مالها جائز ولا يشترط اذن الزوج سواء تصرفت في الثلث أو أكثر وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال مالك لا تتصرف فيما فوق الثلث الا باذنه وهو موضع الدلالة من الحديث أنه ص لم يسأل هل هو من مالها ويخرج من الثلث أو باذن الزوج أم لا ولو اختلف الحكم لسأل قوله (عن عمير مولى عبد الله بن عباس) وفي روايتين مولى أم الفضل وفي رواية مولى ابن عباس فالظاهر أنه مولى أم الفضل حقيقة ويقال له مولى ابن عباس وقال البخاري وغيره من الأئمة هو مولى أم الفضل حقيقة ويقال له مولى ابن عباس لملازمته له وأخذه عنه وانتمائه إليه كما قالوا في أبي مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب يقولون أيضا مولى عقيل بن أبي طالب
[ 4 ]
قالوا للزومه اياه وانتمائه إليه وقريب منه مقسم مولى ابن عباس ليس هو مولاه حقيقه وإنما قيل مولى ابن عباس للزومه اياه قوله (فأرسلت إليه ميمونه بحلاب اللبن) هو بكسر الحاء المهملة وهو الاناء الذي يحلب فيه ويقال له المحلب بكسر الميم صوم يوم عاشوراء اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنة ليس بواجب واختلفوا في حكمه في أول الاسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان فقال أبو حنيفة كان واجبا واختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين مشهورين أشهرهما عندهم أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة ولكنه كان متأكد الاستحباب فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب والثاني كان واجبا كقول أبي حنيفة وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل فأبو حنيفة لا يشترطها ويقول كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه واصحاب الشافعي يقولون كان مستحبا فصح بنية من النهار ويتمسك أبو حنيفة بقوله أمر بصيامه والأمر للوجوب وبقوله فلما فرض رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه ويحتج الشافعية بقوله هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه والمشهور في اللغة أن عاشوراء وتاسوعاء ممدودان وحكى قصرهما قوله ص = (من شاء صامه ومن شاء تركه) معناه أنه ليس متحتما
[ 5 ]
فأبو حنيفة يقدره بواجب والشافعية يقدورنه ليس متأكدا أكمل التأكيد وعلى المذهبين فهو سنة مستحبة الآن من حين قال النبي ص = هذا الكلام قال القاضي عياض وكان بعض السلف يقول كان صوم عاشوراء فرض وهو باق على فرضيته لم ينسخ قال وانقرض القائلون بهذا وحصل الاجماع على أنه ليس بفرض وانما هو مستحب وروى عن ابن عمر كراهة قصدصومه وتعيينه بالصوم والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه للاحاديث وأما قول ابن مسعود كنا نصومه ثم ترك فمعناه أنه لم يبق كما كان من الوجوب وتأكد الندب قوله في حديث قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح (ان قريشا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية ثم أمر
[ 6 ]
رسول الله ص = بصيامه حتى فرض رمضان) ضبطوا أمر هنا بوجهين أظهرهما بفتح الهمزة
[ 8 ]
والميم والثاني بضم الهمزة وكسر الميم ولم يذكر القاضي عياض غيره وأما قول معاوية (أين علماؤكم) الى آخره فظاهره أنه سمع من يوجبه أو يحرمه أو يكرهه فأراد إعلامه وإنه ليس بواجب ولا محرم ولا مكروه وخطب به في ذلك الجمع العظيم ولم ينكر عليه قوله عن معاوية (سمعت رسول الله ص = يقول لهذا اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن أحب منكم أن يصوم فليصم ومن أحب منكم أن يفطر فليفطر) هذا كله من كلام النبي ص = هكذا
[ 9 ]
جاء مبينا في رواية النسائي قوله (فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك) وفي رواية فسألهم المراد بالروايتين أمر من سألهم والحاصل من مجموع الأحاديث أن يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه وجاء الاسلام بصيامه متأكدا ثم
[ 10 ]
بقى صومه أخف من ذلك التأكد والله أعلم قوله (ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم) الشارة بالشين المعجمة بلا همز وهي الهيئة الحسنة والجمال أي يلبسونهم لباسهم الحسن الجميل ويقال لها الشارة والشورة بضم الشين وأما الحلى فقال أهل اللغة هو بفتح الحاء واسكان اللام مفرد وجمعه حلى بضم الحاء وكسرها والضم أشهر وأكثر وقد قرئ بهما في السبع وأكثرهم على الضم واللام مكسورة والياء مشددة فيهما قوله (ان النبي ص = قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء وقالوا ان موسى صامه وانه اليوم الذي نجوا فيه من فرعون وغرق فرعون فصامه النبي ص = وأمر بصيامه وقال نحن أحق بموسى منهم) قال
[ 11 ]
المازرى خبر اليهود غير مقبول فيحتمل أن النبي ص = أوحى إليه بصدقهم فيما قالوه أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم به قال القاضي عياض ردا على المازرى قد روى مسلم أن قريشا كانت تصومه فلما قدم النبي ص = المدينة صامه فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج الى الكلام عليه وانما هي صفة حال وجواب سؤال فقوله صامه ليس فيه أنه ابتدأ صومه حينئذ بقولهم ولو كان هذا لحملناه على أنه أخبر به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره قال القاضي وقد قال قال بعضهم يحتمل أنه ص = كان يصومه بمكة ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب فيه فصامه قال القاضي وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث قلت المختار قوله المازرى ومختصر ذلك أنه ص = كان يصومه كما تصومه قريش في مكه ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فصامه أيضا بوحى أو تواتر أو اجتهاد لا بمجرد أخبار آحادهم والله أعلم قوله (عن ابن عباس أن يوم عاشوراء هو تاسع المحرم وأن النبي
[ 12 ]
ص = كان يصوم التاسع) وفي الرواية الأخرى (عن ابن عباس أن النبي ص صام يوم عاشوراء فقالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول ص = فإذا كان العام المقبل ان شاء الله تعالى صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله ص =) هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم ويتأوله على أنه مأخوذ من اظماء الابل فان العرب تسمى اليوم الخامس من أيام الورد ربعا وكذا باقي الايام على هذه النسبة فيكون التاسع عشرا وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف الى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد واسحاق وخلائق وهذا ظاهر الاحاديث ومقتضى اللفظ وأما تقدير اخذه من الاظماء فبعيد ثم ان حديث ابن عباس الثاني يرد عليه لانه قال أن النبي ص = كان يصوم عاشوراء فذكروا أن اليهود والنصارى تصومه فقال أنه في العام المقبل يصوم التاسع وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع فتعين كونه العاشر قال الشافعي وأصحابه وأحمد واسحاق وآخرون يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا لأن النبي ص = صام العاشر ونوى صيام التاسع وقد سبق في
[ 13 ]
صحيح مسلم في كتاب الصلاة من رواية أبي هريرة أن النبي ص = قال أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم قال بعض العلماء ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في افراد العاشر وفي الحديث اشارة الى هذا وقيل للاحتياط في تحصيل عاشوراء والأول أولى والله أعلم قوله (من كان لم يصم فليصم ومن كان أكل فليتم صيامه الى الليل) وفي رواية من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه معنى الروايتين أن من كان نوى الصوم فليتم صومه ومن كان لم ينو الصوم ولم يأكل أو أكل فليمسك بقية يومه حرمة لليوم كما لو أصبح يوم الشك مفطرا ثم ثبت أنه من رمضان يجب امساك بقية يومه حرمة لليوم واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه أن صوم رمضان وغيره من الفرض يجوز نيته في النهار ولا يشترط تبييتها قال لأنهم نووا في النهار وأجزأهم قال الجمهور لا يجوز رمضان ولا غيره من الصوم الواجب الا بنية من الليل وأجابوا عن هذا الحديث بأن المراد امساك بقية النهار لا حقيقة
[ 14 ]
الصوم والدليل على هذا أنهم أكلوا ثم أمروا بالاتمام وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط اجزاء النية في النهار في الفرض والنفل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل أو غيره وجواب آخر أن صوم عاشوراء لم يكن واجبا عند الجمهور كما سبق في أول الباب وانما كان سنة متأكدة وجواب ثالث أنه ليس فيه أنه يجزيهم ولا يقضونه بل لعلهم قضوه وقد جاء في سنن أبي داود في هذا الحديث فأتموا بقية يوم واقضوه قوله (اللعبة من العهن) هو الصوف مطلقا وقيل الصوف المصبوغ قوله (فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها اياه عند الافطار) هكذا هو في جميع النسخ عند الافطار قال القاضي فيه محذوف وصوابه حتى يكون عند الافطار فبهذا يتم الكلام وكذا وقع في البخاري من رواية مسدد وهو معنى ما ذكره مسلم في الرواية الأخرى فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم وفي هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات وتعويدهم العبادات ولكنهم ليسوا مكلفين قال القاضي وقد روى عن عروة أنهم متى أطاقوا الصوم وجب عليهم وهذا غلط مردود بالحديث الصحيح رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يحتلم وفي رواية يبلغ والله أعلم تحريم صوم يومى العيدين فيه (عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهم أن رسول الله ص =
[ 15 ]
نهى عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى) وعن ابن عمر نحوه وقد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك ولو نذر صومهما متعمدا لعينهما قال الشافعي والجمهور لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما وقال أبو حنيفة ينعقد ويلزمه قضاؤهما قال فان صامهما أجزأه وخالف الناس كلهم في ذلك قوله (شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال أن هذين يومان نهى رسول الله ص = عن صيامهما) فيه تقديم صلاة العيد على خطبته وقد سبق بيانه واضحا في بابه وفيه تعليم الامام في خطبته ما يتعلق بذلك العيد من أحكام الشرع من مأمور به ومنهى عنه قوله (يوم فطركم) أي أحدهما يوم فطركم
[ 16 ]
قوله (جاء رجل الى ابن عمر فقال انى نذرت أن أصوم يوما فوافق يوم أضحى أو فطر فقال ابن عمر أمر الله بوفاء النذر ونهى رسول الله ص = عن صوم هذا اليوم) معناه أن ابن عمر توقف عن الجزم بجوابه لتعارض الأدلة عنده وقد اختلف العلماء فيمن نذر صوم العيد معينا كما قدمناه قريبا وأما هذا الذي نذر صوم يوم الأثنين مثلا فوافق يوم العيد فلا يجوز له صوم العيد بالاجماع وهل يلزمه قضاؤه فيه خلاف للعلماء وفيه للشافعي قولان أصحهما لا يجب قضاؤه لأن لفظه لم يتناول القضاء وانما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند الأصوليين وكذلك لو صادف أيام التشريق لا يجب قضاؤه في الأصح والله أعلم ويحتمل أن ابن عمر عرض له بأن الاحتياط لك القضاء لتجمع بين أمر الله تعالى وأمر رسوله ص =
[ 17 ]
تحريم صوم أيام التشريق (وبيان أنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) قوله ص = (أيام التشريق أيام أكل وشرب) وفي رواية وذكر لله عز وجل وفي رواية أيام منى وفيه دليل لمن قال لا يصح صومها بحال وهو اظهر القولين في مذهب الشافعي وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر وغيرهما وقال جماعة من العلماء يجوز صيامها لكل أحد تطوعا وغيره حكاه ابن المنذر عن الزبير بن العوام وابن عمر وابن سيرين وقال مالك والأوزاعي واسحاق والشافعي في أحد قوليه يجوز صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدى ولا يجوز لغيره واحتج هؤلاء بحديث البخاري في صحيحه عن ابن عمر وعائشة قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن الا لمن لم يجد الهدى وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر سميت بذلك لتشريق الناس لحوم الأضاحى فيها وهو تقديدها ونشرها في الشمس وفي الحديث استحباب الاكثار من الذكر في هذه الايام من التكبير وغيره وقوله (عن نبيشة الهذلى) هو بضم النون وفتح الباء الموحدة وبالشين المعجمة وهو نبيشة بن عمرو ابن عوف بن سلمة
[ 18 ]
كراهة افراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته قوله (سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله ص = عن صيام يوم الجمعة فقال نعم ورب هذا البيت) وفي رواية أبي هريرة (قال قال رسول الله ص = لا يصم أحدكم يوم الجمعة الا أن يصوم قبله أو يصوم بعده) وفي رواية (لا تختصوا
[ 19 ]
ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام الا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) هكذا وقع في الاصول تختصوا ليلة الجمعة ولا تخصوا يوم الجمعة باثبات تاء في الأول بين الخاء والصاد وبحذفها في الثاني وهما صحيحان وفي هذه الأحاديث الدلالة الظاهرة لقول جمهور أصحاب الشافعي وموافقيهم أنه يكره افراد يوم الجمعة بالصوم الا أن يوافق عادة له فان وصله بيوم قبله أو بعده أو وافق عادة له بأن نذر أن يصوم يوم شفاء مريضه أبدا فوافق يوم الجمعة لم يكره لهذه الأحاديث وأما قول مالك في الموطأ لم أسمع أحد امن أهل العلم والفقه ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه فهذا الذي قال هو الذي رآه وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره وقد ثبت النهى عن صوم يوم الجمعة فيتعين القول به ومالك معذور فانه لم يبلغه قال الداودى من أصحاب مالك لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه قال العلماء والحكمة في النهى عنه أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتكبير الى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة واكثار الذكر بعدها لقول الله تعالى قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا وغير ذلك من العبادات في يومها فاستحب الفطر فيه فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة فان السنة له الفطر كما سبق تقريره لهذه الحكمة فان قيل لو كان كذلك لم يزل النهى والكراهة بصوم قبله أو بعده لبقاء المعنى فالجواب أن يحصل له لفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه فهذا هو المعتمد في الحكمة في النهى عن افراد صوم الجمعة وقيل سببه خوف المبالغة في تعظيمه بحيث يفتتن به كما افتتن قوم بالسبت وهذا ضعيف منتقض بصلاة الجمعة وغيرها مما هو مشهور من وظائف يوم الجمعة وتعظيمه وقيل سبب النهى لئلا يعتقد وجوبه وهذا ضعيف منتقض بيوم الاثنين فانه يندب صومه ولا
[ 20 ]
يلتفت الى هذا الاحتمال البعيد وبيوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك فالصواب ما قدمنا والله أعلم وفى هذا الحديث النهى الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي ويومها بصوم كما تقدم وهذا متفق على كراهيته واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب قاتل الله واضعها ومخترعها فانها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة وفيها منكرات ظاهرة وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها ودلائل قبحها وبطلانها وتضلل فاعلها أكثر من أن تحصر والله أعلم بيان نسخ قول الله تعالى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين قوله (عن سلمة لما نزلت هذه الآية الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من أراد أن يفطر ويفتدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها) وفي رواية (قال كنا في رمضان على عهد رسول الله ص = من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية شهد منكم الشهر فليصمه القاضي عياض اختلف السلف في الأولى هل هي محكمة أو
[ 21 ]
مخصوصة أو منسوخة كلها أو بعضها فقال الجمهور منسوخة كقول سلمة ثم اختلفوا هل بقى منها ما لم ينسخ فروى عن ابن عمر والجمهور أن حكم الاطعام باق على من لم يطق الصوم لكبر وقال جماعة من السلف ومالك وأبو ثور وداود جميع الأطعام منسوخ وليس على الكبير إذا لم يطق الصوم اطعام واستحبه له مالك وقال قتاده كانت الرخصة لكبير يقدر على الصوم ثم نسخ فيه وبقى فيمن لا يطيق وقال ابن عباس وغيره نزلت في الكبير والمريض اللذين لا يقدران على الصوم فهي عنده محكمة لكن المريض يقضى إذا برئ وأكثر العلماء على أنه لا اطعام على المريض وقال زيد بن أسلم والزهرى ومالك هي محكمة ونزلت في المريض يفطر ثم يبرأ ولا يقضى حتى يدخل رمضان آخر فيلزمه صومه ثم يقضى بعده ما أفطر ويطعم عن كل يوم مد من حنطة فأما من اتصل مرضه برمضان الثاني فليس عليه اطعام بل عليه القضاء فقط وقال الحسن البصري وغيره والضمير في يطيقونه عائد على الاطعام لا على الصوم ثم نسخ ذلك فهي عنده عامة ثم جمهور العلماء على أن الاطعام عن كل يوم مد وقال أبو حنيفة مدان ووافقه صاحباه وقال أشهب المالكي مد وثلث لغير أهل المدينة ثم جمهور العلماء أن المرض المبيح للفطر هو ما يشق معه الصوم وأباحه بعضهم لكل مريض هذا آخر كلام القاضي جواز تأخير قضاء رمضان ما لم يجئ رمضان آخر لمن أفطر بعذر (كمرض وسفر وحيض ونحو ذلك) قوله عن عائشة رضي الله عنها قالت (كان يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه الا في
[ 22 ]
شعبان الشغل من رسول الله الله ص = أو برسول الله) وفي رواية (قالت ان كانت أحدانا لتفطر في زمان رسول الله ص = فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله ص حتى يأتي شعبان) هكذا هو في النسخ الشغل بالألف واللام مرفوع أي يمنعنى الشغل برسول الله ص = وتعنى بالشغل وبقولها في الحديث الثاني فما تقدر على أن تقضيه أن كل واحدة منهن كانت مهيئة نفسها لرسول الله ص = مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها أن أراد ذلك ولا تدرى متى يريده ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن وقد يكون له حاجة فيها فتفوتها عليه وهذا من الأدب وقد اتفق العلماء على أن المرأة لا يحل لها صوم التطوع وزوجها حاضر الا باذنه لحديث أبي هريرة السابق في صحيح مسلم في كتابه الزكاة وانما كانت تصومه في شعبان لأن النبي ص = كان يصوم معظم شعبان فلا حاجة له فيهن حينئذ في النهار ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان فانه لا يجوز تأخيره عنه ومذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير السلف والخلف أن قضاء رمضان في
[ 23 ]
حق من أفطر بعذر كحيض وسفر يجب على التراخي ولا يشترط المبادرة به في أول الامكان لكن قالوا لا يجوز تأخيره عن شعبان الآتي لأنه يؤخره حينئذ الى زمان لا يقبله وهو رمضان الآتي فصار كمن أخره الى الموت وقال داود تجب المبادرة في أول يوم بعد العيد من شوال وحديث عائشة هذا يرد عليه قال الجمهور ويستحب المبادرة به للاحتياط فيه فان أخره فالصحيح عند المحققين من الفقهاء وأهل الأصول أنه يجب العزم على فعله وكذلك القول في جميع الواجب الموسع انما يجوز تأخيره بشرط العزم على فعله حتى لو أخره بلا عزم عصى وقيل لا يشتطر العزم وأجمعوا أنه لو مات قبل خروج شعبان لزمه الفدية في تركه عن كل يوم مد من طعام هذا إذا كان تمكن من القضاء فلم يقض فأما من أفطر في رمضان بعذر ثم اتصل عجزه فلم يتمكن من الصوم حتى مات فلا صوم عليه ولا يطعم عنه ولا يصام عنه ومن أراد قضاء صوم رمضان ندب مرتبا متواليا فلو قضاه غير مرتب أو مفرقا جاز عندنا وعند الجمهور لأن اسم الصوم يقع على الجميع وقال جماعة من الصحابة والتابعين وأهل الظاهر يجب تتابعه كما يجب الأداء قضاء الصوم عن الميت قوله ص = (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) وفي رواية ابن عباس (أن أمرأة
[ 24 ]
أتت رسول الله ص = فقالت ان أمي ماتت وعليها صوم شهر فقال أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء) وفي رواية عن ابن عباس جاء رجل وذكر نحوه وفي رواية أنها قالت (ان أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها قال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها قالت نعم قال
[ 25 ]
فصومي عن أمك) وفي حديث بريدة (قال بينا أنا جالس عند رسول الله ص = إذا أتته أمرأة فقالت أني تصدقت على أمي بجارية وانها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك الميراث قالت يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجي عنها) وفي رواية صوم شهرين اختلف العلماء فيمن مات وعليه صوم واجب من رمضان أو قضاء أو نذر أو غيره هي يقضى عنه وللشافعي في المسألة قولان مشهوران أشهرهما لا يصام عنه ولا يصح عن ميت صوم أصلا والثاني يستحب لوليه أن يصوم عنه ويصح صومه عنه ويبرأ به الميت ولا يحتاج الى اطعام عنه وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده وهو الذي صححه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة وأما الحديث الوارد من مات وعليه صيام أطعم عنه فليس بثابت ولو ثبت أمكن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن يحمل على
[ 26 ]
جواز الأمرين فان من يقول بالصيام يجوز عنده الاطعام فتثبت أن الصواب المتعين تجويز الصيام وتجويز الاطعام والولى مخير بينهما والمراد بالولي القريب سواء كان عصبة أو وارثا أو غيرهما وقيل المراد الوارث وقيل العصبة والصحيح الأول ولو صام عنه أجنبي أن كان باذن الولى صح والا فلا في الأصح ولا يجب على الولى الصوم عنه لكن يستحب هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وممن قال به من السلف طاوس والحسن البصري والزهرى وقتادة وأبو ثور وبه قال الليث وأحمد واسحاق وأبو عبيد في صوم النذر دون رمضان وغيره وذهب الجمهور الى أنه لا يصام عن ميت لا نذر ولا غيره حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وعائشة ورواية عن الحسن والزهرى وبه قال مالك وأبو حنيفة قال القاضي عياض وغيره هو قول جمهور العلماء وتأولوا الحديث على أنه يطعم عنه وليه وهذا تأويل ضعيف بل باطل وأي ضرورة إليه وأي مانع يمنع من العلم بظاهره مع تظاهر الأحاديث مع عدم المعارض لها قال القاضي وأصحابنا وأجمعوا على أنه لا يصلى عنه صلاة فائتة وعلى أنه لا يصام عن أحد في حياته وانما الخلاف في الميت والله أعلم وأما قول ابن عباس أن السائل رجل وفي رواية أمرأة وفي رواية صوم شهر وفي رواية صوم شهرين فلا تعارض بينهما فسأل تارة رجل وتارة امرأة وتارة عن شهر وتارة عن شهرين وفي هذه الأحاديث جواز صوم الولى عن الميت كما ذكرنا وجواز سماع كلام المرأة الأجنبية في الاستفتاء ونحوه من مواضع الحاجة وصحة القياس لقوله ص = فدين الله أحق بالقضاء وفيها قضاء
[ 27 ]
الدين عن الميت وقد أجمعت الأمة عليه ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث أو غيره فيبرأ به بلا خلاف وفيه دليل لمن يقول إذا مات وعليه دين لله تعالى ودين لآدمي وضاق ماله قدم دين الله تعالى لقوله ص = فدين الله أحق بالقضاء وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال للشافعي أصحها تقديم دين الله تعالى لما ذكرناه والثاني تقديم دين الآدمى لأنه مبنى على الشح والمضايقة والثالث هما سواء فيقسم بينهما وفيه أنه يستحب للمفتي أن ينبه على وجه الدليل إذا كان مختصرا واضحا وبالسائل إليه حاجة أو يترتب عليه مصلحة لأنه ص قاس على دين الآدمى تنبيها على وجه الدليل وفيه أن من تصدق بشئ ثم ورثه لم يكره له أخذه والتصرف فيه بخلاف ما إذا أراد شراءه فانه يكره لحديث فرس عمر رضي الله عنه فيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي والجهور أن النيابة في الحج جائزة عن الميت والعاجز المأيوس من برئه واعتذر القاضي عياض عن مخالفة مذهبهم لهذه الأحاديث في الصوم عن الميت والحج عنه بأنه مضطرب وهذا عذر باطل وليس في الحديث اضطراب وانما فيه اختلاف جمعنا بينه كما سبق ويكفى في صحته احتجاج مسلم به في صحيحه والله أعلم قوله (من مسلم البطين) هو بفتح الباء وكسر الطاء ندب الصائم إذا دعى الى طعام ولم يرد الافطار (أو شوتم أو قوتل أن يقول إني صائم وأنه ينزه صومه عن الرفث والجهل ونحوه) فيه قوله ص = (إذا دعى أحدكم الى طعام وهو صائم فليقل أني صائم) وفي
[ 28 ]
رواية (إذا أصبح أحدكم يوما صائما فلا يرفث ولا يجهل فان امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم اني صائم) قوله ص = فيما إذا دعى وهو صائم فليقل اني صائم محمول على أنه يقول له اعتذارا له واعلاما بحاله فان سمح له ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور وان لم يسمح وطالبه بالحضور لزمه الحضور وليس الصوم عذرا في اجابة الدعوة ولكن إذا حضر لا يلزمه الأكل ويكون الصوم عذرا في ترك الأكل بخلاف المفطر فانه يلزمه الأكل على أصح الوجهين عندنا كما سيأتي واضحا ان شاء الله تعالى في بابه والفرق بين الصائم والمفطر منصوص عليه في الحديث الصحيح كما هو معروف في موضعه وأما الأفضل للصائم فقال أصحابنا أن كان يشق على صاحب الطعام صومه استحب له الفطر والا فلا هذا إذا كان صوم تطوع فان كان صوما واجبا حرم الفطر وفي هذا الحديث أنه لا بأس باظهار نوافل العبادة من الصوم والصلاة وغيرهما إذا دعت إليه حاجة والمستحب اخفاؤها إذا لم تكن حاجة وفيه الاشارة إلى حسن المعاشرة واصلاح ذات البين وتأليف القلوب وحسن الاعتذار عند سببه وأما الحديث الثاني ففيه نهى الصائم عن الرفث وهو السخف وفاحش الكلام يقال رفث بفتح الفاء يرفث بضمها وكسرها ورفث بكسرها يرفث بفتحها رفثا بسكون الفاء في المصدر ورفثا بفتحها في الاسم ويقال أرفث رباعى حكاه القاضي والجهل قريب من الرفث وهو خلاف الحكمة وخلاف الصواب من القول والفعل قوله ص = (فان امرؤ شاتمه أو قاتله) معناه شتمه متعرضا لمشاتمته ومعنى قاتله نازعه ودافعه وقوله ص = (فليقل إني صائم اني صائم) هكذا هو مرتين واختلفوا في معناه فقيل يقوله بلسانه جهرا يسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غالبا وقيل لا يقوله بلسانه بل يحدث به نفسه ليمنعها من مشاتمته ومقاتلته ومقابلته ويحرص صومه عن المكدرات ولو جمع بين الأمرين كان حسنا واعلم أن نهى الصائم عن
[ 29 ]
الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصا به بل كل أحد مثله في أصل النهى عن ذلك لكن الصائم آكد والله أعلم فضل الصيام قوله ص = (قال الله تعالى كل عمل ابن آدم له الا الصيام هو لي وأنا أجزي به) اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى فقيل سبب اضافته الى الله تعالى أنه لم يعبد أحد غير الله تعالى به فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام وان كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك وقيل لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة وقيل لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظ قال الخطابي قال وقيل ان الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى فتقرب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة وان كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شئ وقيل معناه أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه أو تضعيف حسناته وغيره من العبادات أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها وقيل هي اضافة تشريف كقوله تعالى ناقة الله مع أن العالم كله لله تعالى وفي هذا الحديث بيان عظم فضل الصوم والحث إليه وقوله تعالى وأنا أجزي به بيان لعظم فضله وكثرة ثوابه لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم قدر الجزاء وسعة العطاء قوله ص = (لخلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة) وفي رواية لخلوف هو بضم الخاء فيهما وهو تغير رائحة الفم هذا هو الصواب فيه بضم الخاء كما ذكرناه وهو الذي ذكره الخطابى وغيره من
[ 30 ]
أهل الغريب وهو المعروف في كتب اللغة وقال القاضي الرواية الصحيحة بضم الخاء قال وكثير من الشيوخ يرويه بفتحها قال الخطابي وهو خطأ قال القاضي وحكى عن الفارسي فيه الفتح والضم وقال أهل المشرق يقولونه بالوجهين والصواب الضم ويقال خلف فوه بفتح الخاء واللام يخلف بضم اللام وأخلف يخلف إذا تغير وأما معنى الحديث فقال القاضي قال المازرى هذا مجاز واستعارة لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل الى شئ فتستطيبه وتنفر من شئ فتستقذره والله تعالى متقدس عن ذلك لكن جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله تعالى قال القاضي وقيل يجازيه الله تعالى به في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما أن دم الشهيد يكون ريحه ريح المسك وقيل يحصل لصاحبه من الثواب أكثر ممن يحصل لصاحب المسك وقيل رائحته عند ملائكة الله تعالى أطيب من رائحة المسك عندنا وان كانت رائحة الخلوف عندنا خلافه والأصح ما قاله الداورى من المغاربة وقاله من قال من أصحابنا أن الخلوف أكثر ثوابا من المسك حيث ندب إليه في الجمع والأعياد ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير واحتج أصحابنا بهذا الحديث على كراهة السواك للصائم بعد الزوال لأنه يزيل الخلوف الذي هذه صفته وفضيلته وان كان السواك فيه فضل ايضا لأن فضيلة الخلوف أعظم وقالوا كما أن دم الشهداء مشهود له بالطيب ويترك له غسل الشهيد مع أن غسل الميت واجب فإذا ترك الواجب للمحافظة على بقاء الدم المشهود له بالطيب فترك السواك الذي ليس هو واجبا للمحافظة على بقاء الخلوف المشهود له بذلك أولى والله أعلم قوله ص = (الصيام جنة) هو بضم الجيم ومعناه سترة ومانع
[ 31 ]
من الرفث والآثام ومانع أيضا من النار ومنه المجن وهو الترس ومنه الجن لاستتارهم قوله ص = (فلا يرفث يومئذ ولا يسخب) هكذا هو هنا بالسين ويقال بالسين والصاد وهو الصياح وهو بمعنى الرواية الأخرى ولا يجهل ولا يرفث قال القاضي ورواه الطبري ولا يسخر بالراء قال ومعناه صحيح لأن السخرية تكون بالقول والفعل وكله من الجهل قلت وهذه الرواية تصحيف وان كان لها معنى قوله ص = (وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقى ربه فرح بصومه) قال العلماء أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه وتذكر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك وأما عند فطره فسببها تمام عبادته
[ 32 ]
وسلامتها من المفسدات وما يرجوه من ثوابها قوله (حدثنا خالد بن مخلد القطوانى) هو بفتح القاف والطاء قال البخاري والكلاباذى معناه البقال كأنهم نسبوه الى بيع القطنية قال القاضى وقال الباجي هي قرية على باب الكوفة قال وقاله أبو ذر ايضا وفي تاريخ البخاري أن قطوان موضع قوله ص = (ان في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيدخلون منه فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد) هكذا وقع في بعض الأصول فإذا دخل آخرهم وفي بعضها فإذا دخل أولهم قال القاضي وغيره وهو وهم والصواب آخرهم وفي هذا الحديث فضيلة الصيام وكرامة الصائمين
[ 33 ]
فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق قوله ص = (من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا) فيه فضيلة الصيام في سبيل الله وهو محمول على من لا يتضرر به ولا يفوت به حقا ولا يختل به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه ومعناه المباعدة عن النار والمعافاة منها والخريف السنة والمراد سبعين سنة جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال (وجواز فطر الصائم نفلا من غير عذر والأولى اتمامه) فيه حديث عائشة رضي الله عنهما (قالت قال لي رسول الله ص = ذات يوم يا عائشة هل
[ 34 ]
عندكم شئ قالت فقلت يا رسول الله ما عندنا شئ قال فانى صائم قالت فخرج ص = فأهديت لنا هدية أو جاءنا زور فلما رجع رسول الله ص = قلت يا رسول الله أهديت لنا هدية أو جاءنا زور وقد خبأت لك شيئا قال ما هو قلت حيس قال هاتيه فجئت به فاكل ثم قال قد كنت أصبحت صائما) وفي الرواية الأخرى قالت (دخل على النبي ص = ذات يوم فقال هل عندكم شئ قلنا لا قال فأني إذا صائم ثم أتانا يوما آخر فقلنا يا رسول الله أهدى لنا حيس قال أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل) الحيس بفتح الحاء المهملة هو التمر مع السمن والاقط وقال الهروي ثريدة من اخلاط والأول هو المشهور والزور بفتح الزاي الزوار ويقع الزور على الواحد
[ 35 ]
والجماعة القليلة والكثيرة وقولها جاءنا زور وقد خبأت لك معناه جاءنا زائرون ومعهم هدية خبأت لك منها أو يكون معناه جاءنا زور فأهدى لنا بسببهم هدية فخبات لك منها وهاتان الروايتان هما حديث واحد والثانية مفسرة للآولى ومبينة أن القصة في الرواية الأولى كانت في يومين لا في يوم واحد كذا قال القاضي وغيره وهو ظاهر وفيه دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس ويتأوله الآخرون على أن سؤاله ص = هل عندكم شئ لكونه ضعف عن الصوم وكان نواه من الليل فأراد الفطر للضعف وهذا تأويل فاسد وتكلف بعيد وفي الرواية الثانية التصريح بالدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في أن صوم النافلة يجوز قطعه والأكل في أثناء النهار ويبطل الصوم لانه نفل فهو الى خير الانسان في الابتداء وكذا في الدوام وممن قال بهذا جماعة من الصحابة وأحمد واسحا وآخرون ولكنهم كلهم والشافعي معهم متفقون على استحباب اتمامه وقال أبو حنيفة ومالك لا يجوز قطعة ويأثم بذلك وبه قال الحسن البصري ومكحول والنخعي وأوجبوا قضاءه على من أفطر بلا عذر قال بن عبد البر وأجمعوا على أن لا قضاء على من أفطره بعذر والله أعلم أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر قوله ص = (من نسى وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فانما أطعمه الله وسقاه) فيه دلالة لمذهب الأكثرين أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيا لا يفطر وممن قال بهذا الشافعي وأبو حنيفة وداود وآخرون وقال ربيعة ومالك يفسد صومه وعليه القضاء دون الكفارة وقال عطاء والأوزاعي والليث يجب القضاء في الجماع دون الأكل وقال أحمد يجب في الجماع القضاء والكفارة ولا شئ في الأكل
[ 36 ]
صيام النبي ص = في غير رمضان (واستحباب أن لا يخلى شهرا من صوم) فيه حديث عائشة (أن النبي ص = ما صام شهرا كله الا رمضان ولا أفطره كله حتى يصيب منه) وفي رواية يصوم منه وفي رواية كان يصوم حتى نقول قد صام قد صام ويفطر
[ 37 ]
حتى نقول قد أفطر قد أفطر وفي رواية يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان وفي رواية كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان الا قليلا في هذه الاحاديث أنه يستحب أن لا يخلى شهرا من صيام وفيها أن صوم النفل غير مختص بزمان معين بل كل السنة صالحة له الا رمضان والعيد والتشريق وقولها كان يصوم شعبان كله كان يصومه الا قليلا الثاني تفسير للاول وبيان أن قولها كله أي غالبه وقيل كان يصومه كله في وقت ويصوم بعضه في سنة أخرى وقيل كان يصوم تارة من أوله وتارة من آخره وتارة بينهما وما يخلى منه شيئا بلا صيام لكن في سنين وقيل في تخصيص شعبان بكثرة الصوم لكونه ترفع فيه أعمال العباد وقيل غير ذلك فان قيل سيأتي قريبا في الحديث الآخر ان أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم فكيف أكثر منه في شعبان دون المحرم فالجواب لعله لم يعلم فضل المحرم الا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من اكثار الصوم فيه كسفر ومرض وغيرهما قال العلماء وانما لم يستكمل غير رمضان لئلا يظن وجوبه وقوله ص =
[ 38 ]
(خذوا من الأعمال ما تطيقون) الى آخر هذا الحديث تقدم شرحه وبيانه واضحا في كتاب الصلاة قبيل كتاب القراءة وأحاديث القرآن (سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب فقال سمعت ابن عباس يقول كان رسول الله ص = يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم) الظاهر أن مراد سعيد بن جبير بهذا الاستدلال أنه لا نهى عنه ولا ندب
[ 39 ]
فيه لعينه بل له حكم باقي الشهور ولم يثبت في صوم رجب نهى ولا ندب لعينه ولكن أصل الصوم مندوب إليه وفي سنن أبي داود أن رسول الله ص = ندب الى الصوم من الأشهر الحرم ورجب أحدها والله أعلم النهى عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا (أولم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وافطار يوم) فيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وقد جمع مسلم رحمه الله طرقه فأتقنها وحاصل الحديث بيان رفق رسول الله ص = بأمته وشفقته عليهم وارشادهم الى مصالحهم وحثهم على ما يطيقون الدوام عليه ونهيهم عن التعمق والاكثار من العبادات التي يخاف عليهم الملل بسببها أو تركها أو ترك بعضها وقد بين ذلك بقوله ص = عليكم
[ 40 ]
من الأعمال ما تطيقون فان الله لا يمل حتى تملوا وبقوله ص = في هذا الباب لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل وفي الحديث الآخر أحب العمل إليه ما داوم صاحبه عليه وقد ذم الله تعالى قوما أكثروا العبادة ثم فرطوا فيها فقال تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها وفي هذه الروايات المذكورة في الباب النهى عن صيام الدهر واختلف العلماء فيه فذهب أهل الظاهر الى منع صيام الدهر نظرا لظواهر هذه الأحاديث قال القاضي وغيره وذهب جماهير العلماء إلى جوازه اذالم يصم الأيام المنهى عنها وهي العيدان والتشريق ومذهب الشافعي وأصحابه أن سر الصيام إذا أفطر العيدين والتشريق لا كراهة في بل هو مستحب بشرط أن لا يلحقه به ضرر ولا يفوت حقا فان تضرر أو فوت حقا فمكروه واستدلوا بحديث حمزة بن عمرو وقد رواه البخاري ومسلم أنه قال يا رسول الله اني أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال ان شئت فصم ولفظ رواية مسلم فأقره ص = على سرد الصيام ولو كان مكروها لم يقره لا سيما في السفر وقد ثبت عن ابن عمر بن الخطاب أنه كان يسرد الصيام وكذلك أبو طلحة وعائشة وخلائق من السلف قد ذكرت منهم جماعة في شرح المهذب في باب صوم التطوع وأجابوا عن حديث لا صام من صام الأبد بأجوبة أحدها أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين والتشريق وبهذا أجابت عائشة رضي الله عنها والثاني أنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقا ويؤيده أن النهى كان خطابا لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة قالوا فنهى ابن عمر وكان لعلمه بأنه سيعجز وأقر حمزة ابن عمرو لعلمه بقدرته بلا ضرر والثالث أن معنى لا صام أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره فيكون خبرا لا دعاء قوله ص = (فانك لا تستطيع ذلك) فيه اشارة إلى ما قدمناه أنه ص =
[ 41 ]
علم من حال عبد الله بن عمرو أنه لا يستطيع الدوام عليه بخلاف حمزة بن عمرو وأما نهيه ص = عن صلاة الليل كله فهو على اطلاقه وغير مختص به بل قال أصحابنا يكره صلاة كل الليل دائما لكل أحد وفرقوا بينه وبين صوم الدهر في حق من لا يتضرر به ولا يفوت حقا بأن في صلاة الليل كله لا بد فيه من الاضرار بنفسه وتفويت بعض الحقوق لأنه ان لم يتم بالنهار فهو ضرر ظاهر وان نام نوما ينجبر به سهره فوت بعض الحقوق بخلاف من يصلى بعض الليل فانه يستغنى بنوم باقيه وان نام معه شيئا في النهار كان يسيرا لا يفوت به حق وكذا من قام ليلة كاملة كليلة العيد أو غيرها لا دائما لا كراهة فيه لعدم الضرر والله أعلم قوله ص في صوم يوم وفطر يوم (لا أفضل من ذلك) اختلف العلماء فيه فقال المتولي من أصحابنا وغيره من العلماء هو أفضل من السرد لظاهر هذا الحديث وفي كلام غيره اشارة الى تفضيل السرد وتخصيص هذا الحديث بعبد الله بن عمرو ومن في معناه وتقديره لا أفضل من هذا في حقك ويؤيد هذا أنه ص = لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد وأرشده الى يوم ويوم ولو
[ 42 ]
كان أفضل في حق كل الناس لأرشده إليه وبينه له فان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والله أعلم قوله ص = (فان بحسبك أن تصوم) معناه يكفيك أن تصوم قوله ص (ولزورك عليك حقا) أي زائرك وقد سبق شرحه قريبا قوله ص (واقرأ القرآن في كل شهر ثم قال في كل عشرين ثم قال في كل سبع ولا تزد) هذا من نحو ما سبق من الارشاد الى الاقتصاد في العبادة والارشاد الى تدبر القرآن وقد كانت للسلف عادات مختلفة فيما يقرءون كل يوم بحسب أحوالهم وأفهامهم ووظائفهم فكان بعضهم يختم القرآن في كل شهر وبعضهم في عشرين يوما وبعضهم في عشرة أيام وبعضهم أو أكثرهم في سبعة وكثير منهم في ثلاثة وكثير في كل يوم وليلة وبعضهم في كل ليلة وبعضهم في اليوم والليلة ثلاث ختمات وبعضهم ثمان ختمات وهو
[ 43 ]
أكثر ما بلغنا وقد أوضحت هذا كله مضافا الى فاعليه وناقليه في كتاب آداب القراء مع جمل من نفائس تتعلق بذلك والمختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه ولا يعتاد الا ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل باكثار القرآن عنها فان كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك فليوظف لنفسه قراءة يمكنه المحافظة عليها مع نشاطه وغيره من غير اخلال بشئ من كمال تلك الوظيفة وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف والله أعلم قوله (وددت أني كنت قبلت رخصة رسول الله ص =) معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله ص = فشق عليه فعله ولا يمكنه تركه لأن النبي ص = قال له يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل وفي هذا الحديث وكلام ابن عمرو أنه ينبغى الدوام على ما صار عادة من الخير ولا يفرط فيه قوله ص = (وان لولدك عليك حقا) فيه
[ 44 ]
أن على الأب تأديب ولده وتعليمه ما يحتاج إليه من وظائف الدين وهذا التعليم واجب على الأب وسائبر الأولياء قبل بلوغ الصبى والصبية نص عليه الشافعي وأصحابه قال الشافعي وأصحابه وعلى الأمهات أيضا هذا التعليم إذا لم يكن أب لأنه من باب التربية ولهن مدخل في ذلك وأجرة هذا التعليم في مال الصبى فان لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته لأنه مما يحتاج إليه والله أعلم
[ 45 ]
قوله ص = في وصف داود ص = (كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى قال من لى بهذه يا نبى الله) معناه هذه الخصلة الأخيرة وهي عدم الفرار صعبة على كيف لى بتحصيلها قوله ص = (لا صام من صام الأبد لا صام من صام الأبد) سبق شرحه في هذا الباب وهكذا هو في النسخ مكرر مرتين وفي بعضها ثلاث مرات قوله ص = (هجمت له العين ونهكت) معنى هجمت غارت ونهكت بفتح النون وبفتح الهاء وكسرها والتاء ساكنة نهكت العين أي ضعفت وضبطه بعضهم نهكت بضم النون وكسر الهاء وفتح التاء أي نهكت أنت أي ضنيت وهذا ظاهر كلام القاضى
[ 46 ]
قوله (ونفهت النفس) بفتح النون وكسر الفاء أي أعيت قوله (حدثنا سفيان ابن عيينة عن عمرو عن عمرو بن أوس) عمرو الاول هو بن دينار كما بينه في الرواية الثانية
[ 47 ]
قوله (فألقيت له وسادة) فيه اكرام الضيف والكبار وأهل الفضل قوله (فجلس على الأرض وصارت الوسادة بينى وبينه) فيه بيان ما كان عليه النبي ص = من التواضع ومجانبة
[ 48 ]
الاستئثار على صاحبه وجليسه قوله (حدثنا سليم بن حيان) بفتح السين وكسر اللام وقد سبق في مقدمة الكتاب أنه ليس في الصحيح سليم بفتح السين غيره قوله (سعيد بن ميناء) هو بالمد والقصر والقصر أشهر باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس) فيه حديث عائشة (أن النبي ص = كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ولم يكن يبالى
[ 49 ]
من أي أيام الشهر يصوم) وحديث عمران بن حصين (أن النبي ص = قال له أو قال لرجل وهو يسمع يا فلان أصمت من سرة هذا الشهر قال لا قال فإذا أفطرت فصم يومين) هكذا هو في جميع النسخ من سرة هذا الشهر بالهاء بعد الراء وذكر مسلم بعده حديث أبقتادة ثم حديث عمران ايضا في سرر شعبان وهذا تصريح من مسلم بأن رواية عمران الاولى بالهاء والثانية بالراء ولهذا فرق بينهما وأدخل الاولى مع حديث عائشة كالتفسير له فكأنه يقول يستحب أن تكون الايام الثلاثة من سرة الشهر وهى وسطه وهذا متفق على استحبابه وهو استحباب كون الثلاثة هي أيام البيض وهى الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وقد جاء فيها حديث في كتاب الترمذي وغيره وقيل هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر قال العلماء ولعل النبي ص = لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعينها ونبه بسرة الشهر وبحديث الترمذي في أيام البيض على فضيلتها قوله (عن عبد الله بن معبد الزمانى) هو بزاى مكسورة ثم ميم مشددة قوله (عن عبد الله بن معبد الزمانى عن ابى قتادة رجل أتى النبي ص = فقال كيف تصوم) هكذا هو في معظم النسخ عن أبى قتادة رجل أتى وعلى هذا يقرأ رجل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الشان والأمر رجل أتى النبي ص = فقال وقد أصلح في بعض النسخ أن رجلا أتى وكان موجب هذا الاصلاح جهالة انتظام الأول وهو منتظم كما ذكرته فلا يجوز تغييره والله أعلم قوله (رجل أتى النبي ص = فقال كيف تصوم فغضب رسول الله
[ 50 ]
ص = قال العلماء سبب غضبه ص = أنه كره مسألته لأنه يحتاج الى أن يجيبه ويخشى من جوابه مفسدة وهى أنه ربما اعتقد السائل وجوبه أو استقله أو اقتصر عليه وكان يقتضى حاله أكثر منه وانما اقتصر عليه النبي ص = لشغله بمصالح المسلمين وحقوقهم وحقوق أزواجه وأضيافه والوافدين إليه لئلا يقتدى به كل أحد فيؤدى الى الضرر في حق بعضهم وكان حق السائل أن يقول كم أصوم أو كيف أصوم فيخص السؤال بنفسه ليجيبه بما تقتضيه حاله كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم والله أعلم قوله (كيف من يصوم يوما ويفطر يومين قال وددت انى طوقت ذاك) قال القاضى قيل معناه وددت أن أمتى تطوقه لأنه ص = كان يطيقه وأكثر منه وكان يواصل ويقول انى لست كاحدكم انى أبيت عند ربى يطعمنى ويسقيني قلت ويؤيد هذا التأويل حموله ص = في الرواية الثانية ليت ان الله قوانا لذلك أو يقال انما قاله لحقوق نسائه وغيرهن من المسلين المتعلقين به والقاصدين إليه قوله ص = (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة
[ 51 ]
التى قبله والسنة التى بعده) معناه يكقر ذنوب صائمه في السنتين قالوا والمراد بها الصغائر وسبق بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء وذكرنا هناك أنه ان لم تكن صغائر يرجى التخفيف من الكبائر فان لم يكن رفعت درجات قوله ص = في صيام الدهر (لا صام ولا أفطر) قد سبق بيانه قوله في هذا الحديث من رواية شعبة (قال وسئل عن صوم يوم الاثنين والخميس فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهما) ضبطوه نراه بفتح النون وضمها وهما صحيحان قال القاضى
[ 52 ]
عياض رحمه الله انما تركه وسكت عنه لقوله فيه ولدت وفيه بعثت أو أنزل على وهذا انما هو في يوم الاثنين كما جاء في الروايات الباقيات يوم الاثنين دون ذكر الخميس فلما كان في رواية شعبة ذكر الخميس تركه مسلم لأنه رآه وهما قال القاضى ويحتمل صحة رواية شعبة ويرجع الوصف بالولادة والانزال الى الاثنين دون الخميس وهذا الذى قاله القاضى متعين والله أعلم قال القاضى واختلفوا في تعيين هذه الأيام الثلاثة المستحبة من كل شهر ففسره جماعة من الصحابة والتابعين بأيام البيض وهى الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر وبه قال أصحاب الشافعي واختار النخعي وآخرون آخر الشهر واختار آخرون ثلاثة من أوله منهم الحسن واختارت عائشة وآخرون صيام السبت والأحد والاثنين من شهر ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس من الشهر الذى بعده واختار آخرون الاثنين والخميس وفي حديث رفعه ابن عمر أول اثنين في الشهر وخميسان بعده وعن أم سلمة أول خميس والاثنين بعده ثم الاثنين وقيل أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين وقيل انه صيام مالك بن أنس وروى عنه كراهة صوم أيام البيض وقال ابن شعبان المالكى أول يوم من الشهر والحادي عشر والحادي وعشرون والله أعلم
[ 53 ]
باب صوم شهر شعبان فيه (عمران بن الحصين أن رسول الله ص = قال له أو لآخر أصمت من سرر شعبان قال قال فإذا أفطرت فصم يومين) وفي رواية فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه ضبطوا سرر بفتح السين وكسرها وحكى العاضى ضمها قال وهو جمع سرة ويقال أيضا سرار وسرار بفتح السين وكسرها وكله من الاستسرار قال الاوزاعي وأبو عبيد وجمهور العلماء من أهل اللغة والحديث والغريب المراد بالسرر آخر الشهر سميت بذلك لاستسرار القمر فيها قال القاضي قال أبو عبيد أو أهل اللغة السرر آخر الشهر قال وأنكر بعضهم هذا وقال المراد وسط الشهر قال وسرار كل شئ وسطه قال هذا القائل لم يأت في صيام آخر الشهر ندب فلا يحمل الحديث عليه بخلاف وسطه فانها أيام البيض وروى أبو داود عن الأوزاعي سرره أوله ونقل الخطابى عن الأوزاعي سرره آخره قال البيهقى في السنن الكبير بعد أن روى الروايتين عن الأوزاعي الصحيح آخره ولم يعرف الأزهري أن سرره أوله قال الهروي والذي يعرفه الناس أن سرره آخره ويعضد من فسره بوسطه الرواية السابقة في الباب قبله سرة هذا الشهر وسرارة الوادي وسطه وخياره
[ 54 ]
وقال ابن السكيت سرار الأرض أكرمها ووسطها وسرار كل شئ وسطه وافضله فقد يكون سرار الشهر من هذا قال القاضى والأشهر أن المراد آخر الشهر كما قاله أبو عبيد والأكثرون وعلى هذا يقال هذا الحديث مخالف للاحاديث الصحيحة في النهى عن تقديم رمضان بصوم يوم ويومين ويجاب عنه بما أجاب المازرى وغيره وهو أن هذا الرجل كان معتاد الصيام آخر الشهر أو نذره فتركه بخوفه من الدخول في النهى عن تقدم رمضان فبين له النبي ص = ان الصوم المعتاد لا يدخل في النهى وانما ننهى عن غير المعتاد والله أعلم قوله ص = في رواية محمد بن مثنى (إذا أفطرت رمضان) هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح أي أفطرت من رمضان كما في الرواية التى قبلها وحذف لفظة من في هذه الرواية وهى مراده كقوله تعالى موسى قومه أي من قومه والله أعلم باب فضل صوم المحرم قوله (عن حميد بن عبد الرحمن الحميرى عن أبى هريرة) اعلم أن أبا هريرة يروى عنه اثنان كل واحد منهما حميد بن عبد الرحمن أحدهما هذا الحميرى والثانى حميد بن عبد الرحمن بن عوف
[ 55 ]
الزهري قال الحميدى في الجمع بين الصحيحين كل ما في البخاري ومسلم حميد بن عبد الرحمن عن أبى هريرة فهو الزهري الا في هذا الحديث خاصة حديث أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل فان راوية حميد بن عبد الرحمن الحميرى عن ابى هريرة وهذا الحديث لم يذكره البخاري في صحيحه ولا ذكر للحميري في البخاري أصلا ولا في مسلم الافي هذا الحديث قوله ص = (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم) تصريح بأن أفضل الشهور للصوم وقد سبق الجواب عن اكثار النبي ص = من صوم شعبان دون المحرم وذكرنا فيه جوابين أحدهما لعله انما علم فضله في آخر حياته والثانى لعله كان يعرض فيه أعذار من سفر أو مرض أو غيرهما قوله ص = (وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) فيه دليل لما اتفق العلماء عليه أن تطوع الليل أفضل من تطوع النهار وفيه حجة لابي اسحاق المروزى من أصحابنا ومن وافقه أن صلاة الليل أفضل من السنن الراتبة وقال أكثر أصحابنا الرواتب أفضل لانها تشبه الفرائض والاول أقوى وأوفق للحديث والله أعلم
[ 56 ]
باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعا لرمضان قوله ص = (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر) فيه دلالة صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة وقال مالك وأبو حنيفة يكره ذلك قال مالك في الموطأ ما رأيت أحدا من اهل العلم يصومها قالوا فيكره لئلا يظن وجوبه ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها وقولهم قد يظن وجوبها ينتقض بصوم عرفة وعاشوراء وغيرهما من الصوم المندوب قال أصحابنا والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر فان فرقها أو أخرها عن أوائل شوال الى اواخره حصلت فضيلة المتابعة لأنه يصدق أنه أتبعه ستا من شوال قال العلماء وانما كان ذلك كصيام الدهر لان الحسنة بعشر امثالها فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي وقوله ص = (ستا من شوال) صحيح ولو قال ستة بالهاء جاز أيضا قال أهل اللغة يقال صمنا خمسا وستا
[ 57 ]
وخمسة وستة وانما يلتزمون الهاء في المذكر إذا ذكروه بلفظه صريحا فيقولون صمنا ستة أيام ولا يجوز ست أيام فإذا حذفوا الايام جاز الوجهان ومما جاء حذف الهاء فيه من المذكر إذا لم يذكر بلفظه قوله تعالى بأنفسهن أربعة اشهر وعشرا أي عشرة أيام وقد بسطت ايضاح هذه المسألة في تهذيب الاسماء واللغات وفي شرح المهذب والله أعلم باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وارجاء اوقات طلبها قال العلماء وسميت ليلة القدر لما يكتب فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التى تكون في تلك السنة كقوله تعالى يفرق كل أمر حكيم وقوله تعالى الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل أمر ومهناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وتقديره له وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها وأجمع من يعتد به على وجودها ودوامها الى آخر الدهر للاحاديث الصحيحة المشهورة قال القاضى واختلفوا في محلها فقال جماعة هي منتقلة تكون في سنة في ليلة وفي سنة أخرى في ليلة أخرى وهكذا وبهذا يجمع بين الأحاديث ويقال كل حديث جاء بأحد أوقاتها ولا تعارض فيها قال ونحو هذا قول مالك والثوري وأحمد واسحاق وأبى ثور وغيرهم قالوا وانما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان وقيل بل في كله وقيل انها معينة فلا تنتقل أبدا بل هي ليلة معينة في جميع السنين لا تفارقها وعلى هذا قيل في السنة كلها وهو قول ابن مسعود وأبى حنيفة وصاحبيه وقيل بل في شهر رمضان كله وهو قول ابن عمر وجماعة من الصحابة وقيل بل في العشر الوسط والأواخر وقيل في العشر الأواخر وقيل تختص بأوتار العشر وقيل بأشفاعها كما في حديث أبى سعيد وقيل بل في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وهو قول ابن عباس وقيل تطلب في ليلة سبع عشرة
[ 58 ]
أو احدى وعشرين أو ثلاث وعشرين وحكى عن على وابن مسعود وقيل ليلة ثلاث وعشرين وهو قول كثيرين من الصحابة وغيرهم وقيل ليلة أربع وعشرين وهو محكى عن بلال وابن عباس والحسن وقتادة وقيل ليلة سبع وعشرين وهو قول جماعة من الصحابة وقيل سبع عشرة وهو محكى عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا وقيل تسع عشرة وحكى عن ابن مسعود ايضا وحكى عن على أيضا وقيل آخر ليلة من الشهر قال القاضى وشذ قوم فقالوا رفعت لقوله ص = حين تلاحا الرجلان فرفعت وهذا غلط من هؤلاء الشاذين لأن آخر الحديث يرد عليهم فانه ص = قال فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في السبع والتسع هكذا هو في اول صحيح البخاري وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها قوله ص = (أرى رؤياكم قد تواطت) أي توافقت وهكذا هو في النسخ بطاء ثم تاء وهو مهموز وكان ينبغى أن يكتب بألف بين الطاء والتاء صورة للهمزة ولا بد من قراءته مهموزا قال الله تعالى عدة ما حرم الله قوله ص = (تحروا ليلة القدر) أي احرصوا على طلبها واجتهدوا فيه
[ 59 ]
قوله ص = (فالتمسوها في العشر الغوابر) يعنى البواقى وهى الأواخر قوله ص = (فلا يغلبن على السبع البواقى) وفي بعض النسخ عن السبع بدل على وكلاهما صحيح قوله ص = (تحينوا ليلة القدر) أي اطلبوا حينها وهو زمانها
[ 60 ]
قوله ص = (أيقظني بعض أهلى فنسيتها وقال حرملة فنسيتها) الاول بضم النون وتشديد السين والثانى بفتح النون وتخفيف السين قوله ص = (فمن كان اعتكف معى فليبت في معتكفه) هكذا هو في أكثر النسخ فليبت من المبيت وفي بعضها فليثبت من الثبوت وفي بعضها فليلبث من اللبث وكله صحيح وقوله في الرواية الثانية غير أنه قال فليثبت هو في اكثر النسخ بالثاء المثلثة من الثبوت وفي بعضها فليبت من المبيت ومعتكفه بفتح الكاف وهو موضع الاعتكاف قوله (فوكف المسجد) أي قطر ماء المطر من سقفه قوله (فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه مبتل طينا
[ 61 ]
وماء) قال البخاري وكان الحميدى يحتج بهذا الحديث على أن السنة للمصلى أن لا يمسح جبهته في الصلاة وكذا قال العلماء يستحب أن لا يمسحها في الصلاة وهذا محمول على أنه كان شيئا يسيرا لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة للأرض فانه لو كان كثيرا بحيث يمنع ذلك لم يصح سجوده بعده عند الشافعي وموافقيه في منع السجود على حائل متصل به قوله في الرواية الثانية (وجبينه ممتلئا طينا وماء) لا يخالف ما تأولناه لأن الجبين غير الجبهة فالجبين في جانب الجبهة وللانسان جبينان يكتنفان الجبهة ولا يلزم من امتلاء الجبين امتلاء الجبهة والله أعلم وقوله (ممتلئا) كذا هو في معظم النسخ ممتلئا بالنصب وفبعضها ممتلئ ويقدر للمنصوب فعل محذوف أي وجبينه رأيته ممتلئا قوله في حديث محمد بن عبد الأعلى (ثم اعتكفت العشر الأوسط) هكذا هو في جميع النسخ والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر كما قال في أكثر الأحاديث العشر الاواخر وتذكيره أيضا لغة صحيحة باعتبار الأيام أو باعتبار الوقت
[ 62 ]
والزمان ويكفى في صحتها استعمالها في هذا الحديث من النبي ص = قوله (قبة تركية) أي قبة صغيرة من لبود قوله (وروثة أنفه) هي بالثاء المثلثة وهى طرفه ويقال لها أيضا ارنبة الأنف كما جاء في الرواية الأخرى قوله (وما نرى في السماء قزعة) أي قطعة سحاب قوله
[ 63 ]
(أمر بالبناء فقوض) هو بقاف مضمومة وواو مكسورة مشددة وضاد معجمة ومعناه أزيل يقال قاض البناء وانقاض أي انهدم وقوضته أنا قوله ص = (رجلان يحتقان) هو بالقاف ومعناه يطلب كل واحد منهما حقه ويدعى أنه المحق وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة وأنها سبب للعقوبة المعنوية قوله (فإذا مضت واحدة وعشرون فالتى تليها ثنتين وعشرون فهى التاسعة) هكذا هو في أكثر النسخ ثنتين وعشرين بالياء وفي بعضها ثنتان وعشرون بالالف
[ 64 ]
والواو والأول أصوب وهو منصوب بفعل محذوف تقديره أعنى ثنتين وعشرين قوله (وكان عبد الله بن أنيس يقول ثلاث وعشرين) هكذا هو في معظم النسخ وفي بعضها ثلاث وعشرون وهذا ظاهر والأول جار على لغة شاذة أنه يجوز حذف المضاف ويبقى المضاف إليه مجرورا أي ليلة ثلاث وعشرين قوله (أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها) هكذا هو في جميع النسخ أنها تطلع
[ 65 ]
من غير ذكر الشمس وحذفت للعلم بها فعاد الضمير الى معلوم كقوله تعالى بالحجاب ونظائره والشعاع بضم الشين قال أهل اللغة هو ما يرى من ضوئها عند بروزها مثل الحبال والقضبان مقبلة اليك إذا نظرت إليها قال صاحب المحكم بعد أن ذكر هذا المشهور وقيل هو الذى تراه ممتدا بعد الطلوع قال وقيل هو انتشار ضوئها وجمعه أشعة وشعع بضم الشين والعين وأشعت الشمس نشرت شعاعها قال القاضى عياض قيل معنى لا شعاع لها أنها علامة جعلها الله تعالى لها قال وقيل بل لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها الى الارض وصعودها بما تنزل به سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها والله أعلم قوله (تذاكرنا
[ 66 ]
ليلة القدر عند رسول الله ص = فقال أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة) بكسر الشين وهو النصف والجفنة بفتح الجيم معروفة قال القاضى فيه اشارة الى أنها انما تكون في أواخر الشهر لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه الا في أواخر الشهر والله أعلم واعلم أن ليلة القدر موجودة كما سبق بيانه في اول الباب فانها ترى ويتحققها من شاء الله تعالى من بنى آدم كل سنة في رمضان كما تظاهرت عليه هذه الأحاديث السابقة في الباب واخبار الصالحين بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر وأما قول القاضى عياض عن المهلب بن أبى صفرة لا يمكن رؤيتها حقيقة فغلط فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به والله أعلم الاعتكاف هو في اللغة الحبس والمكث واللزوم وفي الشرع المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة ويسمى الاعتكاف جوارا ومنه الأحاديث الصحيحة منها حديث عائشة في أوائل الاعتكاف من صحيح البخاري قالت كان النبي ص = يصغى الى رأسة وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا
[ 67 ]
حائض وذكر مسلم الأحاديث في اعتكاف النبي ص = العشر الأواخر من رمضان والعشر الأول من شوال ففيها استحباب الاعتكاف وتأكد استحبابه في العشر الأواخر من رمضان وقد أجمع المسلمون على استحبابه وانه ليس بواجب وعلى أنه متأكد في العشر الآواخر من رمضان ومذهب الشافعي واصحابه وموافقيهم أن الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف بل يصح اعتكاف الفطر ويصح اعتكاف ساعة واحدة ولحظة واحدة وضابطه عند أصحابنا مكث يزيد على طمأنينة الركوع أدنى زيادة هذا هو الصحيح وفيه خلاف شاذ في المذهب ولنا وجه أنه يصح اعتكاف المار في المسجد من غير لبث والمشهور الأول فينبغي لكل جالس في المسجد لانتظار صلاة أو لشغل آخر من آخرة أو دنيا أن ينوى الاعتكاف فيحسب له ويثاب عليه ما لم يخرج من المسجد فإذا خرج ثم دخل جدد نية أخرى وليس للاعتكاف ذكر مخصوص ولا فعل آخر سوى اللبث في المسجد بنية الاعتكاف ولو تكلم بكلام دنيا أو عمل صنعة من خياطة أو غيرها لم يبطل اعتكافه وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون يشترط في الاعتكاف الصوم فلا يصح اعتكاف مفطر وحتجوا بهذه الأحاديث واحتج الشافعي باعتكافه ص = في العشر الأول من شوال رواه البخاري ومسلم وبحديث عمر رضى الله عنه قال يارسول الله انى نذرت أن أعتكفت ليلة
[ 68 ]
في الجاهلية فقال أوف بنذرك ورواه البخاري ومسلم والليل ليس محلا للصوم فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف وفي هذه الأحاديث أن الاعتكاف لا يصح الا في المسجد لأن النبي ص = وأزواجه وأصحابه انما اعتكفوا في المسجد مع المشقة في ملازمته فلو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة لاسيما النساء لأن حاجتهن إليه في البيوت أكثر وهذا الذى ذكرناه من اختصاصه بالمسجد وأنه لا يصح في غيره هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود والجمهور سواء الرجل والمرأة وقال أبو حنيفة يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو الموضع المهيأ من بيتها لصلاتها قال ولا يجوز للرجل في مسجد بيته وكمذهب أبى حنيفة قول قديم للشافعي ضعيف عند أصحابه وجوزه بعض أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعية للمرأة والرجل في مسجد بيتهما ثم اختلف الجمهور المشترطون المسجد العام فقال الشافعي ومالك وجمهورهم يصح الاعتكاف في كل مسجد وقال أحمد يختص بمسجد تقام الجماعة الراتبة فيه وقال أبو حنيفة يختص بمسجد تصلى فيه الصلوات كلها وقال الزهري وآخرون يختص بالجامع الذى تقام فيه الجمعة ونقلوا عن حذيفة بن اليمان الصحابي اختصاصه بالمساجد الثلاثة المسجد الحرام ومسجد المدينة والاقصى وأجمعوا على أنه لاحد لأكثر الاعتكاف والله أعلم قوله (إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه) احتج به من يقول يبدأ بالاعتكاف من أول النهار وبه قال الاوزاعي والثوري والليث في أحد قوليه وقال مالك وابو حنيفة والشافعي وأحمد يدخل فيه قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر أو اعتكاف عشر وأولوا الحديث على
[ 69 ]
أنه دخل المعتكف وانقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاته الصبح لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف بل كان من قبل المغرب معتكفا لابثا في جملة المسجد فلما صلى الصبح انفرد قوله (وأنه أمر بخبائه فضرب) قالوا فيه دليل على جواز اتخاذ المعتكف لنفسه موضعا من المسجد ينفرد فيه مدة اعتكافه ما لم يضيق على الناس وإذا اتخذه يكون في آخر المسجد ورحابه لئلا يضيق على غيره وليكون أخلى له وأكمل في انفراده قوله (نظر فإذا الأخبية فقال البر يردن فأمر بخبائه فقوض) قوض بالقاف المضمومة والضاد المعجمة أي أزيل وقوله البر أي الطاعة قال القاضى قال ص = هذا الكلام انكار لفعلهن وقد كان صلى الله عليه وسلم أذن لبعضهن في ذلك كما رواه البخاري قال وسبب انكاره أنه خاف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه أو لغيرته عليهن فكره ملازمتهن المسجد مع أنه يجمع الناس ويحضره الاعراب والمنافقون وهن محتاجات الى الخروج والدخول لما يعرض لهن فيبتذلن بذلك أو لأنه ص = رآهن عنده في المسجد وهو في المسجد فصار كأنه في منزله بحضوره مع أزواجه وذهب المهم من مقصود الاعتكاف وهو التخلي عن الازواج ومتعلقات الدنيا وشبه ذلك أو لانهن ضيقن المسجد بأبنيتهن وفي هذا الحديث دليل
[ 70 ]
لصحة اعتكاف النساء لأنه ص = كان أذن لهن وانما منعهن بعد ذلك لعارض وفيه أن للرجل منع زوجته من الاعتكاف بغير اذنه وبه قال العلماء كافة فلو أذن لها فهل له منها بعد ذلك فيه خلاف للعلماء فعند الشافعي وأحمد وداود له منع زوجته ومملوكه واخراجهما من اعتكاف التطوع ومنعهما مالك وجوز أبو حنيفة اخراج المملوك دون الزوجة باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان قولها (كان رسول الله ص = يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهد في غيره) اختلف العلماء
[ 71 ]
في معنى شد المئزر فقيل هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته ص = في غيره ومعناه التشمير في العبادات يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له وتفرغت وقيل هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات وقولها أحيا الليل أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها وقولها وأيقظ أهله أي أيقظهم للصلاة في الليل وجد في العبادة زيادة على العادة ففى هذا الحديث أنه يستحب أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان واستحباب احياء لياليه بالعبادات وأما قول أصحابنا يكره قيام الليل كله فمعناه الدوام عليه ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر ولهذا اتفقوا على استحباب احياء ليلتى العيدين وغير ذلك والمئزر بكسر الميم مهموز وهو الازار والله أعلم باب صوم عشر ذى الحجة فيه قول عائشة (ما رأيت رسول الله ص = صائما في العشر قط) وفي رواية لم يصم العشر قال العلماء هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذى الحجة قالوا وهذا مما يتأول فليس في صوم هذه التسعة كراهة بل هي مستحبة استحبابا شديدا لاسيما التاسع منها وهو يوم عرفة وقد سبقت الأحاديث في فضله وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله ص = قال ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه يعنى العشر الأوائل من ذى الحجة فيتأول قولها لم يصم العشر أنه لم يصمه
[ 72 ]
لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أنها لم تره صائما فيه ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خال عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله ص = يصوم تسع ذى الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر الاثنين من الشهر والخميس ورواه أبو داود وهذا لفظه وأحمد والنسائي وفي روايتهما وخميسين والله أعلم قوله في الاسناد الأخير (وحدثني أبو بكر ابن نافع العبدى حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش) وهو سفيان الثوري وفي بعضها شعبة بدل سفيان وكذا نقله القاضى عياض عن رواية الفارسى ونقل الأول عن جمهور الرواة لصحيح مسلم والله أعلم الحج الحج بفتح الحاء هو المصدر وبالفتح والكسر جميعا هو الاسم منه وأصله القصد ويطلق على العمل أيضا وعلى الاتيان مرة بعد أخرى وأصل العمرة الزيارة واعلم أن الحج فرض عين على كل مكلف حر مسلم مستطيع واختلف العلماء في وجوب العمرة فقيل واجبة وقيل مستحبة وللشافعي قولان أصحهما وجوبها وأجمعوا على أنه لا يجب الحج ولا العمرة في عمر الانسان الا مرة واحدة الا أن ينذر فيجب الوفاء بالنذر بشرطه والا إذا دخل مكة أو حرمها لحاجة لا تتكرر من تجارة أو زيارة ونحوهما ففي وجوب الاحرام بحج أو عمرة خلاف العلماء وهما قولان للشافعي أصحهما استحبابه والثانى وجوبه بشرط أن لا يدخل لقتال ولا خائفا من ظهوره وبروزه واختلفوا في وجوب الحج هل هو على الفور أو التراخي فقال الشافعي وأبو يوسف
[ 73 ]
وطائفة هو على التراخي الا أن ينتهى الى حال يظن فواته لو أخره عنها وقال أبو حنيفة ومالك وآخرون هو على الفور والله أعلم باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة لبسه ومالا يباح (وبيان تحريم الطيب عليه) قوله ص = وقد سئل ما يلبس المحرم (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف الا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس) قال العلماء هذا من بديع الكلام وجزله فانه ص = سئل عما يلبسه المحرم فقال لا يلبس كذا وكذا فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات ويلبس ما سوى ذلك وكان التصريح بما لا يلبس أولى لأنه منحصر واما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر فضبط الجميع بقوله ص = لا يلبس كذا وكذا يعنى ويلبس ما سواه وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم لبس شئ من هذه المذكورات وأنه نبه بالقميص والسراويل على جميع ما في معناهما وهو ما كان محيطا أو مخيطا معمولا على
[ 74 ]
قدر البدن أو قدر عضو كالجوشن والتبان والقفاز وغيرها ونبه ص = بالعمائم والبرانس على كل ساتر للرأس مخيطا كان أو غيره حتى العصابة فانها حرام فان احتاج إليها لشجة أو صداع أو غيرهما شدها ولزمته الفدية ونبه ص = بالخفاف على كل ساتر للرجل من مداس وجمجم وجورب وغيرهما وهذا كله حكم الرجال وأما المرأة فيباح لها ستر جميع بدنها بكل ساتر من مخيط وغيره الا ستر وجهها فانه حرام بكل ساتر وفي ستر يديها بالقفازين خلاف للعماء وهما قولان للشافعي أصحهما تحريمه ونبه ص = بالورس والزعفران على ما في معناهما وهو الطيب فيحرم على الرجل والمرأة جميعا في الاحرام جميع أنواع الطيب والمراد ما يقصد به الطيب وأما الفواكه كالأترج والتفاح وأزهار البراري كالشيح والقيصوم ونحوهما فليس بحرام لأنه لا يقصد للطيب قال العلماء والحكمة في تحريم اللباس المذكور على المحرم ولباسه الازار والرداء أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع الذليل وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب الى كثرة أذكاره وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته وامتناعه من ارتكاب المحظورات وليتذكر به الموت ولباس الأكفان ويتذكر البعث يوم القيامة والناس حفاة عراة مهطعين الى الداعي والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدينا وملاذها ويجتمع همه لمقاصد الآخرة وقوله ص = الا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين وذكر مسلم بعد هذا من رواية ابن عباس وجابر من لم يجد نعلين فليلبس خفين ولم يذكر قطعهما واختلف العلماء في هذين
[ 75 ]
الحديثين فقال أحمد يجوز لبس الخفين بحالهما ولا يجب قطعهما لحديث ابن عباس وجابر وكان أصحابه يزعمون نسخ حديث ابن عمر المصرح بقطعهما وزعموا أن قطعهما اضاعة مال وقال مالك وابو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء لا يجوز لبسهما الا بعد قطعهما أسفل من الكعبين لحديث ابن عمر قالوا وحديث ابن عباس وجابر مطلقان فيجب حملهما على المقطوعين لحديث ابن عمر فان المطلق يحمل على المقيد والزيادة من الثقة مقبولة وقولهم أنه اضاعة مال ليس بصحيح لأن الاضاعة انما تكون فيما نهى عنه وأما ما ورد الشرع به فليس باضاعة بل حق يجب الاذعان له والله أعلم ثم اختلف العلماء في لابس الخفين لعدم النعلين هل عليه فدية أم لا فقال مالك والشافعي ومن وافقهما لا شئ عليه لأنه لو وجبت فدية لبينها ص = وقال أبو حنيفة وأصحابه عليه الفدية كما إذا احتاج الى حلق الرأس يحلقه ويفدى والله أعلم قوله ص = (ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس) أجمعت الأمة على تحريم لباسهما لكونهما طيبا وألحقوا بهما جميع أنواع ما يقصد به الطيب وسبب تحريم الطيب أنه داعية الى الجماع ولأنه ينافى تذلل الحاج فان الحاج أشعث أغبر وسواء في تحريم الطيب الرجل والمرأة وكذا جميع محرمات الاحرام سوى اللباس كما سبق بيانه ومحرمات الاحرام سبعة اللباس بتفصيله السابق والطيب وازالة الشعر والظفر ودهن الرأس واللحية وعقد النكاح والجماع وسائر الاستمتاع حتى الاستمناء والسابع اتلاف الصيد والله أعلم وإذا تطيب أو لبس ما نهى عنه لزمته الفدية ان كان عامدا بالاجماع وان كان ناسيا فلا فدية عند الثوري والشافعي وأحمد واسحاق وأوجبها أبو حنيفة ومالك ولا يحرم المعصفر عند مالك والشافعي وحرمه الثوري وأبو حنيفة وجعلاه طيبا وأوجبا فيه الفدية ويكره للمحرم لبس الثوب المصبوغ بغير طيب ولا يحرم والله أعلم قوله ص (السراويل لمن لم يجد الازار والخفان لمن لم يجد النعلين) يعنى المحرم هذا صريح في الدلالة
[ 76 ]
للشافعي والجمهور في جواز لبس السراويل للمحرم إذا لم يجد ازارا ومنعه مالك لكونه لم يذكر وفي حديث ابن عمر السابق والصواب اباحته بحديث ابن عباس وهذا مع حديث جابر بعده أما حديث ابن عمر فلا حجة فيه لأنه ذكر فيه حالة وجود الازار وذكر في حديث ابن عباس وجابر حالة العدم فلا منافاة والله أعلم قوله (وهو بالجعرانة) فيها لغتان مشهورتان احداهما اسكان العين وتخفيف الراء والثانية كسر العين وتشديد الراء والأولى أفصح بهما قال الشافعي وأكثر أهل اللغة وهكذا اللغتان في تخفيف الحديبية وتشديدها والأفصح التخفيف وبه قال الشافعي وموافقوه قوله (عليه جبة وعليها خلوق) هو بفتح الخاء وهو نوع من الطيب يعمل
[ 77 ]
فيه زعفران قوله (له غطيط) هو كصوت النائم الذي يردده مع نفسه قوله (كغطيط البكر) هو بفتح الباء وهو الفتى من الابل قوله (فلما سرى عنه) هو بضم السين وكسر الراء المشددة أي أزيل ما به وكشف عنه والله أعلم قوله ص = للسائل عن العمرة (اغسل عنك أثر الصفرة) فيه تحريم الطيب على المحرم ابتداء ودواما لأنه إذا حرم دواما فالابتداء أولى بالتحريم وفيه أن العمرة يحرم فيها من الطيب واللباس وغيرهما من المحرمات السبعة السابقة ما يحرم في الحج وفيه أن من أصابه طيب ناسيا أو جاهلا ثم علم وجبت عليه المبادرة الى ازالته وفيه أن من أصابه في احرامه طيب ناسيا أو جاهلا لا كفارة عليه وهذا مذهب الشافعي وبه قال عطاء والثوري واسحاق وداود وقال مالك وأبو حنيفة والمزنى وأحمد في أصح الروايتين عنه عليه الفدية لكن الصحيح من مذهب مالك أنه انما تجب الفدية على المتطيب ناسيا أو جاهلا إذا طال لبثه عليه والله أعلم قوله ص = (واخلع عنك جبتك) دليل لمالك وأبي حنيفة والشافعي والجمهور أن المحرم إذا صار عليه مخيط ينزعه ولا يلزمه شقه وقال الشعبي والنخعي لا يجوز نزعه لئلا يصير مغطيا راسه بل يلزمه شقه وهذا مذهب ضعيف قوله ص = (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) معناه من اجتناب المحرمات ويحتمل أنه ص =
[ 78 ]
أراد مع ذلك الطواف والسعى والحلق بصفاتها وهيئاتها واظهار التلبية وغير ذلك مما يشترك فيه الحج والعمرة ويخص من عمومه ما لا يدخل في العمرة من أفعال الحج كالوقوف والرمى والمبيت بمنى ومزدلفة وغير ذلك وهذا الحديث ظاهر في أن هذا السائل كان عالما بصفة الحج دون العمرة فلهذا قال له ص = واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك وفي هذا الحديث دليل للقاعدة المشهورة أن القاضي والمفتى إذا لم يعلم حكم المسألة أمسك عن جوابها حتى يعلمه أو يظنه بشرطه وفيه أن من الأحكام التي ليست في القرآن ما هو بوحى لا يتلى وقد يستدل به من يقول من أهل الأصول أن النبي ص = لم يكن له الاجتهاد وانما كان يحكم بوحى ولا دلاله فيه لأنه يحتمل أنه ص = لم يظهر له بالاجتهاد حكم ذلك أو أن الوحى بدره قبل تمام الاجتهاد والله أعلم قوله (وكان يعلى يقول وددت أنى أرى النبي ص = وقد نزل عليه الوحى فقال أيسرك أن تنظر الى النبي ص =) هكذا هو في جميع النسخ فقال أيسرك ولم يبين القائل من هو ولا سبق له ذكر وهذا القائل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما بينه في الرواية التي بعد هذه قوله (وعليه مقطعات) هي بفتح الطاء المشددة وهي الثياب المخيطة وأوضحه بقوله يعنى جبة قوله (متضمخ) هو بالضاد والخاء المعجمتين أي متلوث به مكثر منه
[ 79 ]
قوله (محمر الوجه يغط) هو بكسر الغين وسبب ذلك شدة الوحى وهو له قال الله تعالى سنلقي عليك قولا ثقيلا قوله ص = (أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات) انما أمر بالثلاث مبالغة في ازالة لونه وريحه والواجب الازالة فان حصلت بمرة كفت ولم تجب الزيادة ولعل الطيب الذي كان على هذا الرجل كثير ويؤيده قوله متضمخ قال القاضي ويحتمل أنه قال له ثلاث مرات اغسله فكرر القول ثلاثا والصواب ما سبق والله أعلم قوله (عقبة بن مكرم) هو بفتح الراء قوله في بعض هذه الرواية (صفوان
[ 80 ]
ابن يعلى بن أمية) وفي بعضها ابن منية وهما صحيحان فأمية أبو يعلى ومنية أم يعلى وقيل جدته والمشهور الأول فنسب تارة الى أبيه وتارة إلى أمه وهي منية بضم الميم بعدها نون ساكنة قوله (حدثنا رباح) هو بالباء الموحدة قوله (فسكت عنه فلم يرجع إليه) أي لم يرد جوابه قوله (خمره عمر بالثوب) أي غطاه وأما ادخال يعلى رأسه ورؤيته النبي ص = في تلك الحال واذن عمر له في ذلك فكله محمول على أنهم علموا من النبي ص = أنه لا يكره الاطلاع عليه في ذلك الوقت وتلك الحال لأن فيه تقوية الايمان بمشاهدة حالة الوحى الكريم والله أعلم
[ 81 ]
مواقيت الحج ذكر مسلم في الباب ثلاثة أحاديث حديث ابن عباس أكملها لأنه صرح فيه بنقله المواقيت الأربعة من رسول الله ص = فلهذا ذكره مسلم في أول الباب ثم حديث ابن عمر لأنه لم يحفظ ميقات أهل اليمن بل بلغه بلاغا ثم حديث جابر لان أبا الزبير قال أحسب جابرا رفعه وهذا لا يقتضي ثبوته مرفوعا فوقت رسول الله ص = لأهل المدينة ذا الحليفة بضم الحاء المهملة وبالفاء وهى أبعد المواقيت من مكة بينهما نحو عشر مراحل أو تسع وهى قريبة من المدينة على نحو ستة أميال منها ولأهل الشام الجحفة وهى ميقات لهم ولأهل مصر وهى بجيم مضمومة ثم حاء مهملة ساكنة قيل سميت بذلك لأن السيل أجحفها في وقت ويقال لها مهيعة بفتح الميم واسكان الهاء وفتح المثاة تحت كما ذكره في بعض روايات مسلم وحكى القاضي عياض عن بعضهم كسر الصاء والصحيح المشهور اسكانها وهى على نحو ثلاث مراحل من مكة على طريق المدينة ولاهل اليمن يلملم بفتح المثناة تحت واللامين ويقال أيضا ألملم بهمزة بدل الياء لغتان مشهورتان وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة ولأهل نجد قرن المنازل بفتح القاف واسكان الراء بلا خلاف بين أهل العلم من أهل الحديث واللغة والتاريخ والاسماء وغيرهم وغلط الجوهري في صحاحه فيه غلطين فاحشين فقال بفتح الراء وزعم أن أويسا القرني رضى الله عنه منسوب إليه والصواب اسكان الراء وأن أويسا منسوب الى قبيلة معروفة يقال لهم بنو قرن وهى بطن من مراد القبيلة المعروفة ينسب إليها المرادي وقرن المنازل على نحو مرحلتين من مكة قالوا وهو أقرب المواقيت الى مكة وأما ذات عرق بكسر العين فهي ميقات أهل العراق واختلف العلماء هل صارت ميقاتهم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم أم باجتهاد عمر بن الخطاب وفي المسألة وجهان لأصحاب الشافعي أصحهما وهو نص الشافعي رضي الله عنه في الأم بتوقيت عمر رضي الله عنه وذلك صريح في صحيح البخاري ودليل من قال بتوقيت النبي ص = حديث جابر لكنه غير ثابت لعدم جزمه برفعه وأما قول الدارقطني أنه حديث ضعيف لأن العراق لم تكن
[ 82 ]
فتحت في زمن النبي ص = فكلامه في تضعيفه صحيح ودليله ما ذكرته وأما استدلاله لضعفه بعدم فتح العراق ففاسد لانه لا يمتنع أن يخبر به النبي ص = به لعلمه بأنه سيفتح ويكون ذلك من معجزت النبي ص = والاخبار بالمغيبات المستقبلات كما أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل الشام الجحفة في جميع الأحاديث الصحيحة ومعلوم أن الشام لم يكن فتح حينئذ وقد ثبتت الاحاديث الصحيحة عنه ص = أنه أخبر بفتح الشام واليمن والعراق وأنهم يأتون إليهم يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وأنه ص = أخبر بانه زويت له مشارق الارض ومغاربها وقال سيبلغ ملك أمتي مازوى لي منها وأنهم سيفتحون مصر وهي أرض يذكر فيها القيراط وأن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق وكل هذه الاحاديث في الصحيح وفي الصحيح من هذا القبيل ما يطول ذكره والله أعلم وأجمع العلماء على أن هذه المواقيت مشروعة ثم قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور هي واجبة لو تركها وأحرم بعد مجاوزتها أثم ولزمه دم وصح حجه وقال عطاء والنخعي لا شئ عليه وقال سعيد بن جبير لا يصح حجه وفائدة المواقيت أن من أراد حجا أو عمرة حرم عليه مجاوزتها بغير احرام ولزمه الدم كما ذكرنا قال أصحابنا فان عاد الى الميقات قبل التلبس بنسك سقط عنه الدم وفي المراد بهذا النسك خلاف منتشر وأما من لا يريد حجا ولاعمرة فلا يلزمه الاحرام لدخول مكة على الصحيح من مذهبنا سواء دخل لحاجة تتكرر كحطاب وحشاش وصياد ونحوهم أولا تتكرر كتجارة وزيارة ونحوهما وللشافعي قول ضعيف أنه يجب الاحرام بحج أو عمرة ان دخل مكة أو غيره من الحرم لما يتكرر بشرط سبق بيانه في أول كتاب الحج وأما من مر بالميقات غير مريد دخول الحرم بل لحاجة دونه ثم بدا له أن يحرم فيحرم من موضعه الذى بدا له فيه فان جاوزه بلا احرام ثم أحرم أثم ولزمه الدم وان أحرم من الموضع الذى بدا له أجزأه ولا دم عليه ولا يكلف الرجوع الى الميقات هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أحمد وإسحاق يلزمه الرجوع إلى الميقات
[ 83 ]
قوله (وقت رسول الله ص = لاهل المدينة ذا الحليفة ولاهل الشام الجحفة ولاهل نجد قرن) هكذا وقع في أكثر النسخ قرن من غير الف بعد النون وفي بعضها قرنا بالالف وهو الاجود لانه موضواسم لجبل فوجب صرفه والذى وقع بغير ألف يقرأ منونا وانما حذفوا الالف كما جرت عادة بعض المحدثين يكتبون يقول سمعت أنس بغير ألف ويقرأ بالتنوين ويحتمل على بعد أن يقرأ قرن منصوبا بغير تنوين ويكون أراد به البقعة فيترك صرفه قوله ص = (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) قال القاضي كذا جاءت الرواية في الصحيحين وغيرهما عند أكثر الرواة قال ووقع عند بعض رواة البخاري ومسلم فهن لهم وكذا رواه أبو داود وغيره وكذا ذكره مسلم من رواية ابن أبي شيبة وهو الوجه لانه تضمير أهل هذه المواضع قال ووجه الرواية المشهورة أن الضمير في لهن عائد على المواضع والأقطار المذكورة وهي المدينة والشام واليمن ونجد أي هذه المواقيت لهذه الاقطار والمراد لاهلها فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقوله ص = ولمن أتى عليهن من غير أهلهن معناه أن الشامي مثلا إذا مر بميقات المدينة في ذهابه لزمه أن يحرم من ميقات المدينة ولا يجوز له تأخيره الى ميقات الشام الذى هو الجحفة وكذا الباقي من المواقيت وهذا لا خلاف فيه قوله ص = فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة فيه دلالة للمذهب الصحيح فيمن مر بالميقات لا يريد حجا ولا عمرة انه لا يلزمه الاحرام لدخول مكة وقد سبقت المسألة واضحة قال بعض العلماء وفيه دلالة على أن الحج على التراخي لا على الفور وقد سبقت المسألة واضحة في أول كتاب الحج قوله ص = (فمن كان دونهن فمن أهله) هذا صريح في أن من كان مسكنه بين مك ة والميقات فميقاته مسكنه الى الميقات ولا يجوز له مجاوزة مسكنه بغير احرام
[ 84 ]
هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا مجاهد فقال ميقاته مكة بنفسها قوله ص = (فمن كان دونهن فمن أهله وكذا فكذلك حتى أهل مكة يهلون منها) هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح ومعناه وهكذا فهكذا مجاوز مسكنها الميقات حتى أهل مكة يهلون منها وأجمع العلماء على هذا كله فمن كان في مكة من أهلها أو واردا إليها وأراد الاحرام بالحج فميقاته نفس مكة ولا يجوز له ترك مكة والاحرام بالحج من خارجها سواء الحرم والحل هذا هو الصحيح عند أصحابنا وقال بعض أصحابنا يجوز له أن يحرم به من الحرم كما يجوز من مكة لأن حكم الحرم حكم مكة والصحيح الأول لهذا الحديث قال أصحابنا ويجوز ان يحرم من جميع نواحى مكة بحيث لا يخرج عن نفس المدينة وسورها وفي الافضل قولان أصحهما من باب داره والثانى من المسجد الحرام تحت الميزاب والله أعلم وهذا كله في احرام المكي بالحج والحديث انما هو في احرامه بالحج وأما ميقات المكي للعمرة فأدنى الحل لحديث عائشة الآتي أن النبي ص =
[ 85 ]
امرها في العمرة ان تخرج الى التنعيم وتحريم بالعمرة منه والتنعيم في طرف الحل والله أعلم قوله ص = (مهل أهل المدينة) هو بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام أي موضع اهلالهم قوله (قال عبد الله بن عمر وزعموا) اي قالوا وقد سبق في أول الكتاب أن الزعم قد يكون بمعنى القول المحقق
[ 86 ]
قوله (أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال سمعته ثم انتهى فقال أراه يعني النبي ص =) معنى هذا الكلام أن أبا الزبير قال سمعت جابرا ثم أنتهى أي وقف عن رفع الحديث الى النبي ص = وقال أراه بضم الهمزة أي أظنه رفع الحديث فقال أراه يعني النبي ص = كما قال في الرواية الأخرى أحسبه رفع الى النبي ص = وقوله أحسبه رفع لا يحتج بهذا الحديث مرفوعا لكونه لم يجزم برفعه قوله في حديث جابر (ومهل أهل العراق من ذات عرف) هذا صريح في كونه ميقات أهل العراق لكن ليس رفع الحديث ثابتا كما سبق وقد سبق الاجماع على أن ذات عرق ميقات أهل العراق ومن في معناهم قال الشافعي ولو أهلوا من العقيق كان أفضل والعقيق أبعد من ذات عرق بقليل فاستحبه الشافعي لأثر فيه ولأنه قيل أن ذات عرق كانت أولا في موضعه ثم حولت وقربت الى مكة والله أعلم وأعلم أن للحج ميقات مكان وهو ما سبق في هذه الاحاديث وميقات زمان وهو شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة ولا يجوز الا حرام بالحج في غير هذا الزمان هذا مذهب الشافعي ولو أحرم بالحج في غير هذا الزمان لم ينعقد حجا وانعقد عمرة وأما العمرة فيجوز الاحرام بها وفعلها في جميع السنة ولا يكره في شئ منها لكن شرطها أن لا يكون
[ 87 ]
في الحج ولا مقيما على شئ من افعاله ولا يكره تكرار العمرة في السنة بل يستحب عندنا وعند الجمهور وكره تكرارها في السنة ابن سيرين ومالك ويجوز الاحرام بالحج مما فوق الميقات أبعد من مكة سواء دويرة أهله وغيرها وأيهما أفضل فيه قولان للشافعي أصحهما من الميقات أفضل للاقتداء برسول الله ص = والله أعلم باب التلبية وصفتها ووقتها قال القاضي قال المازري التلبية مثناة للتكثير والمبالغة ومعناه اجابة بعد اجابة ولزوما لطاعتك فتثنى للتوكيد لا تثنية حقيقية بمنزلة قوله تعالى بل يداه مبسوطتان أي نعمتاه على تأويل اليد بالنعمة هنا ونعم الله تعالى لا تحصى وقال يونس بن حبيب البصري لبيك اسم مفرد لا مثنى قال وألفه انما انقلبت ياء لا تصالها بالضمير كلدى وعلى مذهب سيبويه أنه مثنى بدليل قلبها ياء مع المظهر واكثر الناس على ما قاله سيبويه قال ابن الانباري ثنوا لبيك كما ثنوا حنانيك أي تحننا بعد تحنن وأصل لبيك لببتك فاستثقلوا الجمع بين ثلاث باءات فأبدلوا من الثالثة ياء كما قالوا من الظن تظنيت والأصل تظننت واختلفوا في معنى لبيك واشتقاقها فقيل معناها اتجاهى وقصدي اليك مأخوذ من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها وقيل معناها محبتى قولهم لك مأخوذ من قولهم امرأة لبة إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه وقيل معناها اخلاص لك مأخوذ من قولهم حب لباب إذا كان خالصا محضا ومن ذلك لب الطعام ولبابه وقيل معناها أنا مقيم على طاعتك واجابتك مأخوذ من قولهم لب الرجل بالمكان وألب إذا أقام فيه قال ابن الأنباري وبهذا قال الخليل قال القاضي قيل هذه الاجابة لقوله تعالى لابراهيم ص = في الناس بالحج وقال ابراهيم الحربي في معنى لبيك أي قربا منك وطاعة والالباب القرب وقال أبو النصر معناه أنا ملب بين يديك أي خاضع هذا آخر كلام القاضي
[ 88 ]
قوله (لبيك ان الحمد والنعمة) يروى بكسر الهمزة من أن وفتحها وجهان مشهوران لأهل الحديث وأهل اللغة قال الجمهور الكسر أجود قال الخطابى الفتح رواية العامة وقال ثعلب الاختيار الكسر وهو الأجود في المعنى من الفتح لأن من كسر جعل معناه ان الحمد والنعمة لك على كل حال ومن فتح قال معناه لبيك لهذا السبب قوله (والنعمة لك) المشهور فيه نصب النعمة قال القاضي ويجوز رفعها على الابتداء ويكون الخبر محذوفا قال ابن الانباري وان شئت جعلت خبر ان محذوفا تقديره ان الحمد لك والنعمة مستقرة لك وقوله (وسعديك) قال القاضي أعرابها وتثنيتها كما سبق في لبيك ومعناه مساعدة لطاعتك بعد مساعدة قوله (والخير بيديك) أي الخير كله بيد الله تعالى ومن فضله قوله (والرغباء إليك والعمل) قال القاضي قال المازري يروى بفتح الراء والمد وبضم الراء مع القصر ونظيره العلا والعلياء والنعمى والنعماء قال القاضي وحكى أبو علي فيه أيضا الفتح مع القصر الرغبى مثل سكرى ومعناه هنا الطلب والمسألة الى من بيده الخير وهو
[ 89 ]
المقصود بالعمل المستحق للعبادة قوله (عن ابن عمر تلقفت التلبية) هو بقاف ثم فاء أي أخذتها بسرعة قال القاضي وروى تلقنت بالنون قال والأول رواية الجمهور قال وروي تلقيت بالياء ومعانيها متقاربة قوله (أهل فقال لبيك اللهم لبيك) قال العلماء الاهلال رفع الصوت بالتلبية عند الدخول في الاحرام وأصل الاهلال في اللغة رفع الصوت ومنه استهل المولود أي صاح ومنه قوله تعالى وما أهل به لغير الله أي رفع الصوت عند ذبحه بغير ذكر الله تعالى وسمي الهلال هلالا لرفعهم الصوت عند رؤيته قوله (سمعت رسول الله ص = يهل ملبدا) فيه استحباب تلبيد الرأس قبل الاحرام وقد نص عليه الشافعي وأصحابنا وهو موافق للحديث الآخر في الذي
[ 90 ]
خر عن بعيره فإنه يبعث يوم القيامة ملبدا قال العلماء التلبيد ضفر الرأس بالصمغ أو الخطمي وشبههما مما يضم الشعر ويلزق بعضه ببعض ويمنعه التمعط والقمل فيستحب لكونه أرفق به قوله (كان المشركون يقولون لبيك لا شريك لك قال فيقول رسول الله ص = ويلكم قد قد إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت) فقوله ص = قدقد قال القاضى روى باسكان الدال وكسرها مع التنوين ومعناه كفا كم هذا الكلام فاقتصروا عليه ولا تزيدوا وهنا انتهى كلام النبي ص = ثم عاد الرواي الى حكاية كلام المشركين فقال الاشريكا هو لك الى آخره معناه أنهم كانوا يقولون هذه الجملة وكان النبي ص يقول اقتصروا على قولكم لبيك لا شريك لك والله أعلم وأما حكم التلبية فأجمع المسلمون على أنها مشروعة ثم اختلفوا في إيجابها فقال الشافعي وآخرون هي سنة ليست بشرط لصحة الحج ولا بواجبة فلو تركها صح حجة ولا دم عليه لكن فاتته الفضيلة وقال بعض أصحابنا هي واجبة تجبر بالدم ويصح الحج بدونها وقال بعض أصحابنا هي شرط لصحة الاحرام قال ولا يصح الاحرام ولا الحج الا بها والصحيح من مذهبنا ما قدمناه عن الشافعي وقال مالك ليست بواجبة ولكن لو تركها لزمه دم وصحه حجه قال الشافعي ومالك ينعقد الحج بالنية بالقلب من غير لفظ كما ينعقد الصوم بالنية فقط وقال أبو حنيفة لا ينعقد الا بانضمام التلبية أو سوق الهدي الى النية قال أبو حنيفة ويجزي عن التلبية ما في معناها من التسبيح والتهليل وسائر الأذكار كما قال هو أن التسبيح وغيره يجزي في الاحرام بالصلاة عن التكبير والله أعلم قال أصحابنا ويستحب رفع الصوت بالتلبية بحيث لا يشق عليه والمرأة ليس لها الرفع لأنه يخاف الفتنة
[ 91 ]
بصوتها ويستحب الاكثار منها لا سيما عند تغاير الأحوال كإقبال الليل والنهار والصعود والهبوط واجتماع الرفاق والقيام والقعود والركوب والنزول وأدبار الصلوات وفي المساجد كلها والأصح أنه لا يلبي في الطواف والسعي لأن لهما أذكارا مخصوصة ويستحب أن يكرر التلبية كل مرة ثلاث مرات فأكثر ويواليها ولا يقطعها بكلام فإن سلم عليه رد السلام باللفظ ويكره السلام عليه في هذه الحال وإذا لبى صلى على رسول الله ص = وسأل الله تعالى ما شاء لنفسه ولمن أحبه وللمسلمين وافضله سؤال الرضوان والجنة والاستعاذة من النار وإذا رأى شيئا يعجبه قال لبيك ان العيش عيش الآخرة ولا تزال التلبية مستحبة للحاج حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر أو يطوف طواف الافاضة ان قدمه عليها أو الحلق عند من يقول الحلق نسك وهو الصحيح وتستحب للعمرة حتى يشرع في الطواف وتستحب التلبية للمحرم مطلقا سواء الرجل والمرأة والمحدث والجنب والحائض لقوله ص = لعائشة رضي الله عنها اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي أمر أهل المدينة بالاحرام من عند مسجد ذي الحليفة قوله عن ابن عمر (قال بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله ص = فيها ما أهل رسول الله ص = الا من عند المسجد يعنى ذا الحليفة) وفي الرواية الأخرى
[ 92 ]
(ما أهل رسول الله ص = الا من عند الشجرة حين قام به بعيره) قال العلماء هذه البيداء هي الشرف الذي قدام ذي الحليفة الى جهة مكة وهي بقرب ذي الحليفة وسميت بيداء لأنه ليس فيها بناء ولا أثر وكل مفازة تسمى بيداء وأما هنا فالمراد بالبيداء ما ذكرناه وقوله تكذبون فيها أي تقولون انه ص = أحرم منها ولم يحرم منها وانما أحرم قبلها من عند مسجد ذي الحليفة ومن عند الشجرة التي كانت هناك وكانت عند المسجد وسماهم ابن عمر كاذبين لأنهم أخبروا بالشئ على خلاف ما هو وقد سبق في أول هذا الشرح في مقدمة صحيح مسلم أن الكذب عند أهل السنة هو الاخبار عن الشئ بخلاف ما هو سواء تعمده أم غلط فيه أو سها وقالت المعتزلة يشترط فيه العمدية وعندنا أن العمدية شرط لكونه اثما لا لا لكونه يسمى كذبا فقول ابن عمر جار على قاعدتنا وفيه أنه لا بأس باطلاق هذه اللفظة وفيه دلالة على أن ميقات أهل المدينة من عند مسجد ذي الحليفة ولا يجوز لهم تأخير الاحرام الى البيداء وبهذا قال جميع العلماء وفيه أن الاحرام من الميقات أفضل من دويرة أهله لأنه ص = ترك الاحرام من مسجده مع كمال شرفه فان قيل انما أحرم من الميقات لبيان الجواز قلنا هذا غلط لوجهين أحدهما أن البيان قد حصل بالأحاديث الصحيحة في بيان المواقيت والثاني أن فعل رسول الله ص = انما يحمل على بيان الجواز في شئ يتكرر فعله كثيرا فيفعله مرة أو مرات على الوجه الجائز لبيان الجواز ويواظب غالبا على فعله على أكمل وجوهه وذلك كالوضوء مرة ومرتين وثلاثا كله ثابت والكثير أنه ص = توضأ ثلاثا ثلاثا وأما الاحرام بالحج فلم يتكرر وانما جرى منه ص = مرة واحدة فلا يفعله الا على أكمل وجوهه والله أعلم قوله (كان رسول الله ص = يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل) فيه استحباب صلاة الركعتين عند ارادة الاحرام ويصليهما قبل الاحرام ويكونان نافلة هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكاه القاضي
[ 93 ]
وغيره عن الحسن البصري أنه استحب كونهما بعد صلاة فرض قال لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث قال أصحابنا وغيرهم من العلماء وهذه الصلاة سنة لو تركها فاتته الفضيلة ولا اثم عليه ولا دم قال أصحابنا فان كان احرامه في وقت من الأوقات المنهي فيها عن الصلاة لم يصلهما هذا هو المشهور وفيه وجه لبعض أصحابنا أنه يصليهما فيه لأن سببهما ارادة الاحرام وقد وجد ذلك وأما وقت الاحرام فسنذكره في الباب بعده ان شاء الله تعالى بيان أالأفضل أن يحرم حين تنبعث به راحلته (متوجها الى مكة لا عقب الركعتين) قوله في هذا الباب عن ابن عمر قال (فإني لم أر رسول الله ص = يهل حتى تنبعث
[ 94 ]
به راحتله) وقال في الحديث السابق ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل وفي الحديث الذي قبله كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل وفي رواية حين قام به بعيره وفي رواية يهل حين تستوي به راحلته قائمة هذه الروايات كلها متفقة في المعنى وابنعاثها هو استواؤها قائمة وفيها دليل لمالك والشافعي والجمهور أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته وقال أبو حنيفة يحرم عقب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته وقبل قيامه وهو قول ضعيف للشافعي وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف وفيه أن التلبية لا تقدم على الاحرام قوله عن عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر (رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها) الى آخره قال المازري يحتمل أن مراده لا يصنعها غيرك مجتمعة وان كان يصنع بعضها قوله (رأيتك لا تمس من الأركان الا اليمانيين) ثم ذكر ابن عمر في جوابه أنه لم ير رسول الله ص يمس الا اليمانيين هما بتخفيف الياء هذه اللغة الفصيحة المشهورة وحكى سيبويه وغيره من الأئمة تشديدها في لغة قليلة والصحيح والتخفيف قالوا لأن نسبه الى اليمن فحقه أن يقال اليمني وهو جائز فلما قالوا اليماني أبدلوا من احدى ياءي النسب ألفا فلو قالوا اليماني بالتشديد لزم منه الجمع بين البدل والمبدل والذين شددوها قالوا هذه الألف زائدة وقد تزاد في النسب كما قالوا في النسب الى صنعا صنعاني فزادوا النون الثانية والى الري رازي فزادوا الزاي والى الرقبة رقباني فزادوا النون والمراد بالركنين اليمانيين الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود ويقال له العراقى لكونه الى جهة العراق وقيل للذي قبله اليماني لأنه الى جهة اليمن ويقال لهما اليمانيان تغليبا لأحد الاسمين كما قالوا الأبوان للاب والأم والقمران للشمس والقمر والعمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ونظائره مشهورة فتارة يغلبون بالفضيلة كالأبوين وتارة بالخفة كالعمرين وتارة بغير ذلك وقد بسطته في تهذيب الأسماء واللغات قال العلماء ويقال للركنين الآخرين اللذين يليان الحجر بكسر الحاء الشاميان لكونهما بجهة الشام قالوا فاليمانيان باقيان على قواعد ابراهيم ص = بخلاف الشاميين فلهذا لم يستلما
[ 95 ]
واستلم اليمانيان لبقائهما على قواعد ابراهيم ص = ثم ان العراقي من اليمانيين اختص بفضيلة أخرى وهي الحجر الأسود فاختص لذلك مع الاستلام بتقبيله ووضع الجبهة عليه بخلاف اليماني والله أعلم قال القاضي وقد اتفق أئمة الأمصار والفقهاء اليوم على أن الركنين الشاميين لا يستلمان وانما كان الخلاف في ذلك العصر الأول من بعض الصحابة وبعض التابعين ثم ذهب وقوله (ورأيتك تلبس النعال السبتية) وقال ابن عمر في جوابه (وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله ص = يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها وأنا أحب أن ألبسها) فقوله ألبس وتلبس كله بفتح الباء وأما السبتية فبكسر السين واسكان الباء الموحدة وقد اشار ابن عمر الى تفسيرها بقوله التي ليس فيها شعر وهكذا قال جماهير أهل اللغة وأهل الغريب وأهل الحديث انها التي لا شعر فيها قالوا وهي مشتقة من السبت بفتح السين وهو الحلق والازالة ومنه قولهم سبت رأس أي حلقه قال الهروي وقيل سميت بذلك لأنها انسبتت بالدباغ أي لانت يقال رطبة منسبتة أي لينة قال أبو عمرو الشيباني السبت كل جلد مدبوغ وقال أبو زيد السبت جلود البقر مدبوغة كانت أو غير مدبوغة وقيل هو نوع من الدباغ يقلع الشعر وقال ابن وهب النعال السبتية كانت سودا لا شعر فيها قال القاضي وهذا ظاهر كلام ابن عمر في قوله النعال التي ليس فيه شعر قال وهذا لا يخالف ما سبق فقد تكون سودا مدبوغة بالقرظ لا شعر فيها لأن بعض المدبوغات يبقى شعرها وبعضها لا يبقى قال وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره وانما كان يلبسها أهل الرفاهية كما قال شاعرهم تحذى نعال السبت ليس بتوءم قال القاضي والسين في جميع هذا مكسورة قال والأصح عندي أن يكون اشتقاقها واضافتها الى السبت الذي هو الجلد المدبوغ أو الى الدباغة لأن السين مكسورة في نسبتها ولو كانت من السبت الذي هو الحلق كما قاله الأزهري وغيره لكانت النسبة سبتية بفتح السين ولم يروها أحد في هذا الحديث ولا في غيره ولا في الشعر فيما علمت الا بالكسر هذا كلام القاضي وقوله (ويتوضأ فهيا) معناه يتوضأ ويلبسها ورجلاه رطبتان قوله (ورأيتك تضبغ بالصفرة وقال ابن عمر في جوابه وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله ص = يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها) فقوله يصبغ وأصبغ بضم الباء وفتحها لغتان مشهورتان حكاهما الجوهري وغيره قال الامام المازرى قيل المراد في هذا الحديث صبغ الشعر وقيل صبغ الثوب
[ 96 ]
قال والأشبه أن يكون صبغ الثياب لأنه أخبر أن النبي ص = صبغ ولم ينقل عنه ص = أنه صبغ شعره قال القاضي عياض هذا أظهر الوجهين والا فقد جاءت آثار عن ابن عمر بين فيها تصفير ابن عمر لحيته واحتج بأن النبي ص = كان يصفر لحيته بالورس والزعفران رواه أبو داود وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه بأن النبي ص = كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته قوله (ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية) وقال ابن عمر في جوابه (وأما الاهلال فإنى لم أر رسول الله ص = يهل حتى تنبعث به راحلته) أما يوم التروية فبالتاء المثناة فوق وهو الثامن من ذي الحجة سمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء أي يحملونه معهم من مكة الى عرفات ليستعملوه في الشرب وغيره وأما فقه المسألة فقال المازري أجابه ابن عمر بضرب من القياس حيث لم يتمكن من الاستدلال بنفس فعل رسول الله ص = على المسألة بعينها فاستدل بما في معناه ووجه قياسه أن النبي ص = انما أحرم عند الشروع في أفعال الحج والذهاب إليه فأخر ابن عمر الاحرام الى حال شروعه في الحج وتوجهه إليه وهو يوم التروية فانهم حينئذ يخرجون من مكة الى منى ووافق ابن عمر على هذا الشافعي وأصحابه وبعض أصحاب مالك وغيرهم وقال آخرون الأفضل أن يحرم من أول ذي الحجة ونقله القاضي عن أكثر الصحابة والعلماء والخلاف في الاستحباب وكل منهما جائز بالاجماع والله أعلم قوله (ابن قسيط) هو يزيد بن عبد الله بن قسيط بقاف مضمومة وسين مهملة مفتوحة واسكان الياء
[ 97 ]
قوله (وضع رجله في الغرز) هو بفتح الغين المعجمة ثم راء ساكنة ثم زاي وهو ركاب كور البعير إذا كان من جلد أو خشب وقيل هو الكور مطلقا كالركاب للسرج قوله (بات رسول الله ص = بذي الحليفة مبدأه وصلى في مسجدها) قال القاضي هو بفتح الميم وضمها والباء ساكنة فيهما أي ابتداء حجة ومبدأه منصوب على الظرف أي في ابتدائه وهو المبيت ليس من أعمال الحج ولا من سننه قال القاضي لكن من فعله تأسيا بالنبي ص = فحسن والله أعلم
[ 98 ]
استحباب الطيب قبل الاحرام في البدن واستحبابه بالمسك (وأنه لا بأس ببقاء وبيصه وهو بريقه ولمعانه) قولها (طيبت رسول الله ص = لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) ضبطوا لحرمه بضم الحاء وكسرها وقد سبق بيانه في شرح مقدمة مسلم والضم أكثر ولم يذكر الهروي وآخرون غيره وأنكر ثابت الضم على المحدثين وقال الصواب الكسر والمراد بحرمه الاحرام بالحج وفيه دلالة على استحباب الطيب عند ارادة الاحرام وأنه لا بأس باستدامته بعد الاحرام وانما يحرم ابتداؤه في الاحرام وهذا مذهبنا وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير المحدثين والفقهاء منهم سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وعائشة وأم حبيبة وأبو حنيفة والثوري وأبو يوسف وأحمد وداود وغيرهم وقال آخرون بمنعه منهم الزهري ومالك ومحمد بن الحسن وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين قال القاضي وتأول هؤلاء حديث عائشة هذا على أنه تطيب ثم اغتسل بعده فذهب الطيب قبل الاحرام ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى طيبت رسول الله ص = عند احرامه ثم طاف على نسائه أصبح محرما فظاهره أنه انما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى ولا يبقى مع ذلك ويكون قولها ثم أصبح ينضخ طيبا أي قبل غسله وقد سبق في رواية لمسلم أن ذلك الطيب كان ذرة وهي مما يذهبه الغسل قال وقولها كأني أنظر الى وبيص الطيب في مفارق رسول الله ص = وهو محرم المراد به أثره لا جرمه هذا كلام القاضي ولا يوافق عليه بل الصواب ما قاله الجمهور أن الطيب مستحب للاحرام لقولها طيبته لحرمه وهذا ظاهر في أن الطيب
[ 99 ]
للاحرام لا للنساء ويعضده قولها كأنى أنظر الى وبيص الطيب والتأويل الذي قاله القاضي غير مقبول لمخالفته الظاهر بلا دليل يحملنا عليه وأما قولها ولحله قبل أن يطوف فالمراد به طواف الافاضة ففيه دلالة لإستباحة الطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق وقبل الطواف وهذا مذهب الشافعي والعلماء كافة الا مالكا كرهه قبل طواف الافاضة وهو محجوج بهذا الحديث وقولها لحله دليل على أنه حصل له تحلل وفي الحج تحلالان يحصلان بثلاثة أشياء رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الافاضة مع سعيه أن لم يكن سعى عقب طواف القدوم فإذا فعل الثلاثة حصل التحلالان وإذا فعل اثنين منهما حصل التحلل الأول أي اثنين كانا ويحل بالتحلل الأول جميع المحرمات الا الاستمتاع بالنساء فانه لا يحل الا بالثاني وقيل يباح منهن غير الجماع بالتحلل الأول وهو قول بعض أصحابنا وللشافعي قول أنه لا يحل بالأول الا اللبس والحلق وقلم الأظفار والصواب ما سبق والله أعلم وقولها في الرواية الأخرى (ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت) فيه تصريح بان التحلل الأول يحصل بعد رمي جمرة العقبة والحلق قبل الطواف
[ 100 ]
وهذا متفق عليه قولها (بذريرة) هي بفتح الذال المعجمة وهي قناب قصب طيب يجاء به من الهند قولها (وبيص الطيب في مفرقه) الوبيص البريق واللمعان والمفرق
[ 102 ]
بفتح الميم وكسر الراء قوله (عن ابن عمر ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا)
[ 103 ]
وقولها (ينضخ طيبا) كله بالخاء المعجمة أي يفور منه الطيب ومنه قوله تعالى عينان نضاختان هذا هو المشهور أنه بالخاء المعجمة ولم يذكر القاضي غيره وضبطه بعضهم بالحاء المهملة وهما متقاربان في المعنى قال القاضي قيل النضخ بالمعجمة أقل من النضح بالمهملة وقيل عكسه وهو اشهر وأكثر قولها (ثم يطوف على نسائه) قد يقال قد قال الفقهاء أقل القسم ليلة لكل أمرأة فكيف طاف على الجميع في ليلة واحدة وجوابه من وجهين أحدهما أن هذا كان برضاهن ولا خلاف في جوازه برضاهن كيف كان والثاني أن القسم في حق النبي ص = هل كان واجبا في الدوام فيه خلاف لأصحابنا قال أبو سعيد الاصطخري لم يكن واجبا وانما كان يقسم بالسوية ويقرع بينهن تكرما وتبرعا لا وجوبا وقال الأكثرون كان واجبا فعلى قول الاصطخري لا اشكال والله أعلم تحريم الصيد المأكول البري (أو ما أصله ذلك على المحرم بحج أو عمرة أو بهما) قوله (عن الصعب بن جثامة) هو بجيم مفتوحة ثم ثاء مثلثة مشددة قوله (وهو بالأبوا
[ 104 ]
أو بودان) أما الابواء فبفبح الحمزة واسكان الموحدة وبالمد بفتح الواو وتشديد الدال المهملة وهما مكانان بين مكة والمدينة قوله ص = (انا لم نرده عليك الا أنا حرم) هو بفتح الهمزة من أنا حرم وحرم بضم الحاء والراء أي محرمون قال القاضى عياض رحمه الله تعالى رواية المحدثين في هذا الحديث لم نرده بفتح الدال قال وأنكره محققو شيوخنا من أهل العربية وقالوا هذا غلط من الرواة وصوابه ضم الدال قال ووجدته بخط بعض الاشياخ بضم الدال وهو الصواب عندهم على مذهب سيبويه في مثل هذا من المضاعف إذا دهلت عليه الهاء أن يضم ما قبلها في الامر ونحوه من المجزوم مراعاة للواو والتي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء فكان ما قبلها ولى الواو ولا يكون ما قبل الواو الا مضموما هذا في المذكر وأما المؤنث مثل ردها وجبها فمفتوح الدال ونظائرها مراعاة للالف هذا آخر كلام القاضى فأما ردها ونظائرها من المؤنث ففتحة الهاء لازمة بالاتفاق وأما رده ونحوه للمذكر ففيه ثلاثة أوجه أفصحها وجوب الضم كما ذكره القاضي والثاني الكسر وهو ضعيف والثالث الفتح وهو أضعف منه وممن ذكره ثعلب في الفصيح لكن غلطوه لكونه أوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه قوله (عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله ص = حمارا وحشيا) وفي رواية حمار وحش وفي رواية من لحم حمار وحش وفي رواية عجز حمار وحش يقطر دما وفي رواية شق حمار وحش وفي رواية عضوا من لحم صيد هذه روايات مسلم وترجم له البخاري باب إذا أهدي للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل ثم رواه باسناده وقال في روايته حمارا وحشيا وحكي هذا التأويل أيضا عن مالك وغيره وهو تأويل باطل وهذه الطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح وأنه انما أهدي بعض لحم صيد لا كله واتفق العلماء على تحريم الاصطياد على المحرم وقال الشافعي وآخرون يحرم عليه تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوهما وفي ملكه اياه بالارث خلاف وأما لحم الصيد فان صاده أو صيد له فهو حرام سواء صيد له باذنه أم بغير اذنه فان صاده حلال لنفسه
[ 105 ]
ولم يقصد المحرم ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وداود وقال أبو حنيفة لا يحرم عليه ما صيد له بغير اعانة منه وقالت طائفة لا يحل له لحم الصيد أصلا سواء صاده أو صاده غيره له أو لم يقصده فيحرم مطلقا حكاه القاضي عياض عن علي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم لقوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما قالوا المراد بالصيد المصيد ولظاهر حديث الصعب بن جاثمة فان النبي ص = رده وعلل رده أنه محرم ولم يقل لانك صدته لنا واحتج الشافعي وموافقوه بحديث ابي قتادة المذكور في صحيح مسلم بعد هذا فان النبي ص = قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة وهو حلال قال للمحرمين هو حلال فكلوا وفي الرواية الاخرى قال فهل معكم منه شئ قالوا معنا رجله فأخذها رسول الله ص = فأكلها وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن جابر عن النبي ص = أنه قال صيد البر لكم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم
[ 106 ]
هكذا الرواية يصاد بالالف وهي جائزة على لغة ومنه قول الشاعر ألم يأتيك والانباء تنمى قال أصحابنا يجب الجمع بين هذه الاحاديث وحديث جابر هذا صريح في الفرق وهو ظاهر في الدلالة للشافعي وموافقيه ورد لما قاله أهل المذهبين الآخرين ويحمل حديث أبي قتادة على أنه لم يقصدهم باصطياده وحديث الصعب أنه قصدهم باصطياده وتحمل الآية الكريمة على الاصطياد وعلى لحم ما صيد للمحرم للاحاديث المذكورة المبينة للمراد من الآية وأما قولهم في حديث الصعب أنه ص = علل بأنه محرم فلا يمنع كونه صيد له لانه انما يحرم الصيد على الانسان إذا صيد له بشرط أنه محرم فبين الشرط الذي يحرم به قول صلى الله
[ 107 ]
عليه وسلم (انا لم نرده عليك الا أنا حرم) فيه جواز قبول الهدية للنبي ص = بخلاف الصدقة وفيه أنه يستحب لمن امتنع من قبل هدية ونحوها لعذر أن يعتذر بذلك الى المهدي تطييبا لقلبه قوله (سمعت أبا قتادة يقول خرجنا مع رسول الله ص = حتى إذا كنا بالقاحة فمنا المحرم ومنا غير المحرم) الى آخره القاحة بالقاف وبالحاء المهملة
[ 108 ]
المخففة هذا هو الصواب المعروف في جميع الكتب والذي قاله العلماء من كل طائفة قال القاضي كذا قيدها الناس كلهم قال ورواه بعضهم عن البخاري بالفاء وهو وهم والصواب القاف وهو واد على نحو ميل من السقيا وعلى ثلاث مراحل من المدينة (والسقيا) بضم السين المهملة واسكان القاف وبعدها ياء مثناة من تحت وهي مقصورة وهي قرية جامعة بين مكة والمدينة من أعمال الفرع بضم الفاء واسكان الراء وبالعين المهملة والأبواء وودان قريتان من أعمال الفرع أيضا (وتعهن) المذكورة في هذا الحديث هي عين ماء هناك على ثلاثة أميال من السقيا وهي بتاء مثناة فوق مكسورة ومفتوحة ثم عين مهملة ساكنة ثم هاء مكسورة ثم نون قال القاضي عياض هي بكسر التاء وفتحها قال وروايتنا عن الأكثرين بالكسر قال وكذا قيدها البكري في معجمه قال القاضي وبلغني عن ابي ذر الهروي أنه قال سمعت العرب تقولها بضم التاء وفتح العين وكسر الهاء وهذا ضعيف وأما (غيقة) فهي بغين معجمة مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم قاف
[ 109 ]
مفتوحة وهي موضع من بلاد بني غفار بين مكة والمدينة قال القاضي وقيل هي بئر ماء لبني ثعلبة قوله (فمنا المحرم ومنا غير المحرم) قد يقال كيف كان أبو قتادة وغيره منهم غير محرمين وقد جاوزوا ميقات المدينة وقد تقرر أن من أراد حجا أو عمرة لا يجوز له مجاوزة الميقات غير محرم قال القاضي في جواب هذا قيل أن المواقيت لم تكن وقتت بعد وقيل لأن النبي ص = بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل كما ذكره مسلم في الرواية الأخرى وقيل أنه لم يكن خرج مع النبي ص = من المدينة بل بعثه أهل المدينة بعد ذلك الى النبي ص = ليعلمه أن بعض العرب يقصدون الاغارة على المدينة
[ 111 ]
وقيل أنه خرج معهم ولكنه لم ينو حجا ولا عمرة قال القاضي وهذا بعيد والله أعلم قوله (فسقط مني سوطي فقلت لأصحابي وكانوا محرمين ناولوني السوط فقالوا والله لا نعنيك عليه بشئ) وقال في الرواية الأخرى (أن رسول الله ص = قال هل أشار إليه انسان منكم أو أمره بشئ قالوا لا قال فكلوه) هذا ظاهر في الدلالة على تحريم الاشارة والاعانة من المحرم في قتل الصيد وكذلك الدلالة عليه وكل سبب وفيه دليل للجمهور على أبي حنيفة في قوله لا تحل الاعانة من المحرم الا إذا لم يمكن اصطياده بدونها قوله (فقال بعضهم كلوه وقال بعضهم لا تأكلوه) ثم قال فقال النبي ص = هو حلال فكلوه فيه دليل على جواز الاجتهاد في مسائل الفروع والاختلاف فيها والله أعلم قوله ص = (هو حلال فكلوه) صريح في أن الحلال إذا صاد صيدا ولم يكن من المحرم اعانة ولا اشارة ولا دلالة عليه حل للمحرم أكله وقد سبق أن هذا مذهب الشافعي والأكثرين قوله (إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئا) وفي الرواية الأخرى (يضحك بعضهم الي إذ نظرت فإذا أنا بحمار وحش) هكذا وقع في جميع نسخ بلادنا يضحك الي بتشديد الياء قال القاضي هذا خطأ وتصحيف ووقع في رواية بعض الرواة عن مسلم والصواب يضحك الي بعض فأسقط لفظه بعض والصواب اثباتها كما هو مشهور في باقي الروايات لأنهم لو ضحكوا إليه لكانت اشارة منهم وقد قالوا انهم لم يشيروا إليه قلت لا يمكن رد هذه الرواية فقد صحت هي والرواية الأخرى وليس في واحدة منهما دلالة ولا اشارة الى الصيد فان مجرد الضحك ليس فيه اشارة قال العلماء وانما ضحكوا تعجبا من عروض الصيد ولا قدرة لهم عليه لمنعهم منه والله أعلم قوله (فإذا حمار وحش) وكذا ذكر في أكثر الروايات حمار وحش وفي رواية أبي كامل الجحدري إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فأكلوا من لحمها فهذه
[ 112 ]
الرواية تبين ان الحمار في أكثر الروايات المراد به أنثى وهى الأتان وسميت حمارا مجازا قوله ص = (هل معكم من لحمه شئ) وفي الرواية الأخرى هل معكم منه شئ قالوا معنا رجله فأخذها رسول الله ص = فأكلها انما أخذها وأكلها تطييبا لقلوبهم في اباحته ومبالغة في ازالة الشك والشبهة عنهم بحصول الاختلاف بينهم فيه قبل ذلك قوله (فقال انما هي طعمة) هي الطاء أي طعام قوله (أرفع فرسي شأوا وأسير شأوا) هو بالشين المعجمة مهموز والشأو الطلق والغاية ومعناه أركضه شديدا وقتا وأسوقه بسهولة وقتا قوله (فقلت أين لقيت رسول الله ص = قال تركته بتعهن وهو قائل السقيا) أما غيقة والسقيا وتعهن فسبق ضبطهن وبيانهن وقوله قائل روي بوجهين أصحهما وأشهرهما قائل بهمزة بين الألف واللام من القيلولة ومعناه تركته بتعهن وفي عزمه أن يقيل بالسقيا ومعنى قائل سيقيل ولم يذكر القاضي في شرح مسلم وصاحب المطالع والجمهور غير هذا بمعناه والوجه الثاني أنه قابل بالباء الموحدة وهو ضعيف وغريب وكأنه تصحيف وأن صح تعهن موضع مقابل للسقيا قوله (قلت يا رسول الله ان أصحابك يقرءون عليك السلام ورحمة الله) فيه استحباب ارسال السلام إلى الغائب سواء كان أفضل من المرسل أم لا لأنه إذا أرسله إلى من هو أفضل فمن دونه أولى قال أصحابنا ويجب على الرسول تبليغه ويجب على المرسل إليه رد الجواب حين يبلغه على الفور قوله (يا رسول الله اني اصدت ومعي منه فاضلة) هكذا هو في بعض النسخ وهو بفتح الصاد المخففة والضمير في منه يعود على الصيد المحذوف الذي دل عليه أصدت ويقال بتشديد الصاد وفي بعض النسخ صدت وفي بعضها اصطدت وكله صحيح قوله ص = (أشرتم أو أعنتم أو أصدتم) روي بتشديد الصاد وتخفيفها ورو صدتم قال القاضي رويناه بالتخفيف في أصدتم ومعناه أمرتم بالصيد أو جعلتم من يصيده وقيل معناه أثرتم الصيد من موضعه يقال أصدت الصيد مخفف أي أثرته قال وهو أولى من رواية من رواه صدتم أو اصدتم بالتشديد لأنه ص = قد علم أنهم لم يصيدوا وانما سألوه
[ 113 ]
عما صاد غيرهم والله أعلم قوله (فلما استيقظ طلحة وفق من أكله) معناه صوبه والله أعلم ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم قوله ص = (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا) وفي رواية الحدأة وفي رواية العقرب بدل الحية وفي الرواية الأولى أربع بحذف الحية والعقرب فالمنصوص عليه الست واتفق جماهير العلماء على جواز قتلهن في الحل والحرم والاحرام واتفقوا على أنه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهن ثم اختلفوا في المعنى
[ 114 ]
فيهن وما يكون في معناهن فقال الشافعي المعنى في جواز قتلهن كونهن مما لا يؤكل وكل مالا يؤكل ولا هو متولد من مأكول وغيره فقتله جائز للمحرم ولا فدية عليه وقال مالك المعنى فيهن كونهن مؤذيات فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله ومالا فلا واختلف العلماء في المراد بالكلب العقور فقيل هو الكلب المعروف وقيل كل ما يفترس لأن كل مفترس من السباع يسمى كلبا عقورا في اللغة وأما تسمية هذه المذكورات فواسق فصحيحة جارية على وفق اللغة وأصل الفسق في كلام العرب الخروج وسمي الرجل الفاسق لخروجه عن أمر الله تعالى وطاعته فسميت هذه فواسق لخروجها بالإيذاء والافساد عن طريق معظم الدواب وقيل لخروجها عن حكم الحيوان في تحريم قتله في الحرم والاحرام وقيل فيها لأقوال أخر ضعيفة لا نعتنيها وأما الغراب الابقع فهو الذي في ظهره وبطنه بياض وحكى الساجي عن النخعي أنه لا يجوز للمحرم قتل الفارة وحكى غيره عن علي ومجاهد أنه لا يقتل الغراب ولكن يرمى وليس بصحيح عن علي واتفق العلماء على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم واختلفوا في المراد به فقيل هذا الكلب المعروف خاصة حكاه القاضي عن الأوزاعي وأبي حنفية والحسن بن صالح وألحقوا به الذئب وحمل زفر معنى الكلب على الذئب وحده وقال جمهور العلماء لس المراد بالكلب
[ 115 ]
العقور تخصيص هذا الكلب المعروف بل المراد هو كل عاد مفترس غالبا كالسبع والنمر والذئب والفهد ونحوها وهذا قول زيد بن أسلم وسفيان الثوري وابن عيينة والشافعي وأحمد وغيرهم وحكاه القاضي عياض عنهم وعن جمهور العلماء ومعنى العقور والعاقر الجارح وأما الحدأة فمعروفة وهي بكسر الحاء مهموزة وجمعها حدأ بكسر الحاء مقصور مهموز كعنبة وعنب وفي الرواية الأخرى الحديا بضم الحاء وفتح الدال وتشديد الياء مقصور قال القاضي قال ثابت الوجه فيه الهمز على معنى التذكير والا فحقيقته حدية وكذا قيده الأصيلي في صحيح البخاري فموضع أو الحدية على التسهيل والادغام وقوله في الحية (تقتل بصغر لها) هو بضم الصاد أي بمذلة واهانة قوله ص = (خمس فواسق) وهو بتنوين خمس وقوله بقتل خمس فواسق باضفة خمس لا بتنوينه قوله ص = في رواية زهير (خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والاحرام) اختلفوا في ضبط الحرم هنا فضبطه جماعة من المحققين بفتح الحاء والراء أي الحرم المشهور وهو حرم مكة والثاني بضم الحاء والراء ولم يذكر القاضي عياض في المشارق غيره قال وهو جمع حرام كما قال الله تعالى حرم قال والمراد به المواضع المحرمة والفتح أظهر والله أعلم وفي هذه الاحاديث دلالة للشافعي وموافقيه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل من يجب
[ 116 ]
عليه قتل بقصاص أو رجم بالزنا أو قتل في المحاربة وغير ذلك وأنه يجوز أقامة كل الحدود فيه سواء كان موجب القتل والحد جرى في الحرم أو خارجه ثم لجأ صاحبه الى الحرم وهذا مذهب مالك والشافعي وآخرين وقال أبو حنيفة وطائفة ما ارتكبه من ذلك في الحرم يقام عليه فيه وما فعله خارجه ثم لجأ إليه ان كان اتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم بل يضيق عليه ولا يكلم
[ 117 ]
ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر الى الخروج منه فيقام عليه خارجه وما كان دون النفس يقام فيه قال القاضي وروي عن ابن عباس وعطاء والشعبي والحكم نحوه لكنهم لم يفرقوا بين النفس ودونها وحجتهم ظاهر قول الله تعالى ومن دخله كان آمنا وحجتنا عليهم هذه الاحاديث لمشاركة فاعل الجناية لهذه الدواب في اسم الفسق بل فسقه أفحش لكونه مكلفا ولان التضييق
[ 118 ]
الذي ذكروه لا يبقى لصاحبه أمان فقد خالفوا ظاهر ما فسروا به الآية قال القاضي ومعنى الآية عندنا وعند أكثر المفسرين أنه اخبار عما كان قبل الإسلام وعطفه على ما قبله من الآيات وقيل آمن من النار وقالت طائفة يخرج ويقام عليه الحد وهو قول ابن الزبير والحسن ومجاهد وحماد والله أعلم جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى (وجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها) قوله ص = أتؤذيك هوام رأسك قال نعم قال فاحلق وصم ثلاث أيام أو أطعم
[ 119 ]
ستة مساكين أو أنسك نسيكة وفي رواية فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر وفي رواية صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك ما تيسر وفي رواية وأطعم فرقا
[ 120 ]
بين ستة مساكين والفرق ثلاثة آصع أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة وفي رواية أو اذبح شاة وفي رواية أو اطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين وفي رواية قال صوم ثلاثة أيام أو
[ 121 ]
اطعام ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين وفي رواية قال هل عندك نسك قال ما أقدر عليه فأمره أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكينين صاع) هذه روايات الباب وكلها متفقة في المعنى ومقصودها أن من احتاج الى حلق الرأس لضرر من قمل أو مرض أو نحوهما فله حلقه في الاحرام وعليه الفدية قال الله تعالى كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وبين النبي ص = أن الصيام ثلاثة أيام والصدقة ثلاثة آصع لستة مساكين لكل مسكين نصف صاع والنسك شاة وهي شاة تجزئ في الأضحية ثم أن الآية الكريمة والأحاديث متفقة على أنه مخير بين هذه الأنواع الثلاثة وهكذا الحكم عند العلماء أنه مخير بين الثلاثة وأما قوله في رواية هل عندك نسك قال ما أقدر عليه فأمره أن يصوم ثلاثة أيام فليس المراد به أن الصوم لا يجزي الا لعادم الهدي بل هو محمول على أنه سأل عن النسك فان وجده أخبره بانه مخير بينه وبين الصيام والاطعام وان عدمه فهو مخير بين الصيام والاطعام واتفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث الا ما حكي عن أبي حنيفة والثوري أن نصف الصاع لكل مسكين انما هو في الحنطة فأما التمر والشعير وغيرهما فيجب صاع لكل مسكين وهذا خلاف نصفه ص = في هذا الحديث ثلاثة آصع من تمر وعن أحمد بن حنبل رواية أنه لكل مسكين مد من حنطة أو نصف صاع من غيره وعن الحسن البصري وبعض السلف أنه يجب اطعام عشرة مساكين أو صوم عشرة ايام وهذا ضعيف منابذ للسنة مردود قوله ص = (أو أطعم ثلاثة آصع من
[ 122 ]
تمر على ستة مساكين) معناه مقسومة على ستة مساكين والآصع جمع صاع وفي الصاع لغتان التذكير والتأنيث وهو مكيال يسع خمسة ارطال وثلثا بالبغدادي هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة يسع ثمانية أرطال وأجمعوا على أن الصاع أربعة أمدادا وهذا الذي قدمناه من أن الآصع جمع صاع صحيح وقد ثبت استعمال الآصع في هذا الحديث الصحيح من كلام رسول الله ص = وكذلك هو مشهور في كلام الصحابة والعلماء بعدهم وفي كتب اللغة وكتب النحو والتصريف ولا خلاف في جوازه وصحته وأما ما ذكره ابن مكى في كتابه تثقيف اللسان أن قولهم في جمع الصاع آصع لحن من خطأ العوام وأن صوابه أصوع فغلط منه وذهول وعجب قوله هذا مع اشتهار اللفظة في كتب الحديث واللغة والعربية وأجمعوا على صحتها وهو من باب المقلوب قالوا فيجوز في جمع صاع آصع وفي دار آدر وهو باب معروف في كتب العربية لأن فاء الكلمة في آصع صاد وعينها واو فقلبت الواو همزة ونقلت الى موضع الفاء ثم قلبت الهمزة ألفا حين اجتمعت هي وهمزة الجمع فصار آصعا ووزنه عندهم أعقل وكذلك القول في آدر ونحوه قوله ص = (هوام رأسك) أي القمل قوله ص = (انسك نسيكة) وفي رواية ما تيسر وفي رواية شاة الجميع بمعنى واحد وهو شاة وشرطها أن تجزئ في الأضحية ويقال للشاة وغيرها مما يجزي في الأضحية نسيكة ويقال نسك ينسك وينسك بضم السين وكسرها في المضارع والضم أشهر قوله (كعب بن عجرة) بضم العين واسكان الجيم قوله (ورأسه يتهافت قملا) أي يتساقط ويتناثر قوله ص = (تصدق بفرق) هو بفتح الراء واسكانها لغتان وفسره في الرواية الثانية بثلاثة آصع وهكذا هو وقد سبق بيانه واضحا في كتاب الطهارة قوله (فقمل رأسه) هو بفتح القاف وكسر الميم أي كثر قمله جواز الحجامة للمحرم قوله (أن النبي ص = احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه) وسط الرأس
[ 123 ]
بفتح السين قال أهل اللغة كل ما كان يبين بعضه من بعض كوسط الصف والقلادة والسبحة وحلقة الناس ونحو ذلك فهو وسط بالاسكان وما كان مصمتا لا يبين بعضه من بعض كالدار والساحة والرأس والراحة فهو وسط بفتح السين قال الأزهري والجوهري وغيرهما وقد أجازوا في المفتوح الاسكان ولم يجيزوا في الساكن الفتح وفي هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك وان قطع الشعر حينئذ لكن عليه الفدية لقطع الشعر فان لم يقطع فلا فدية عليه ودليل المسألة قوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية الآية وهذا الحديث محمول على أن النبي ص = كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس لأن لا ينفك عن قطع شعر أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فان تضمنت قلع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر وان لم تتضمن ذلك بأن كانت في موضع لا شعر فيه فهي جائزة عندنا وعند الجمهور ولا فدية فيها وعن ابن عمر ومالك كراهتها وعن الحسن البصري فيها الفدية دليلنا أن اخراج الدم لس حراما في الاحرام وفي هذا الحديث بيان قاعدة من مسائل الإحرام وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو ذلك من المحرمات يباح للحاجة وعليه الفدية كمن احتاج الى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد أو قتل صيد للحاجة وغير ذلك والله أعلم
[ 124 ]
جواز مداواة المحرم عينيه قوله (عن نبيه بن وهب) هو بنون مضمومة ثم باء مفتوحة موحدة ثم مثناة تحت ساكنة قوله (مع أبان بن عثمان) قد سبق في أول الكتاب أن في أبان وجهين الصرف وعدمه والصحيح الأشهر الصرف فمن صرفه قال وزنه فعال ومن منعه قال هو أفعل قوله (حتى إذا كنا بملل) هو بفتح الميم بلامين وهو موضع على ثمانية وعشرين ميلا من المدينة وقيل اثنان وعشرون حكاهما القاضي عياض في المشارق قوله (أضمدهما بالصبر) هو بكسر الميم وقوله بعده ضمدهما بالصبر هو بتخفيف الميم وتشديدها يقال ضمد وضمد بالتخفيف والتشديد وقوله اضمدها بالصبر جاء على لغة التخفيف معناه اللطخ وأما الصبر فبكسر الباء ويجوز اسكانها واتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك فان احتاج الى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية واتفق العلماء على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية
[ 125 ]
عليه فيه وأما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين ومنعه جماعه منهم أحمد واسحاق وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين وفي ايجاب الفدية عندهم بذلك خلاف والله أعلم جواز غسل المحرم بدنه ورأسه ذكر في الباب حديث ابن حنين أن ابن عباس والمسور اختلفا فقال ابن عباس للمحرم غسل رأسه وخالفه المسور وأن ابن عباس أرسله الى أبي أيوب يسأله عن ذلك فوجده يغتسل بني القرنين وهو يستتر بثوب قال فسلمت عليه فقال من هذا فقلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله ص = يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطاه حتى بدا إلى رأسه ثم قال لانسان يصب عليه اصبب فصب
[ 126 ]
على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته ص = يفعل قوله (بين القرنين) هو بفتح القاف تثنية قرن وهما الخشبتان القائمتان على رأس البئر وشبههما من البناء وتمد بينهما خشبة يجر عليها الحبل المستقى به وتعلق عليها البكرة وفي هذا الحديث فوائد منها جواز اغتسال المحرم وغسله رأسه وامرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعرا ومنها قبول خبر الواحد وأن قبوله كان مشهورا عند الصحابة رضي الله عنهم ومنها الرجوع الى النص عند الاختلاف وترك الاجتهاد والقياس عند وجود النص ومنها السلام على بالمتطهر في وضوء وغسل بخلاف الجالس على الحدث ومنها جواز الاستعانة في الطهارة ولكن الأولى تركها الا لحاجة واتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده من الجنابة بل هو واجب عليه وأما غلسله تبردا فمذهبنا ومذهب الجمهور جوازه بلا كراهة ويجوز عندنا غسل رأسه بالسدر والخطمي بحيث لا ينتف شعرا فلا فيدة عليه ما لم ينتف شعرا وقال أبو حنيفة ومالك هو حرام موجب للفدية ما يفعل بالمحرم إذا مات فيه حديث ابن عباس رضي الله عنه (أن رجلا خر من بعيره وهو واقف مع النبي ص بعرفة فوقص فمات فقال اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه فان الله
[ 127 ]
يبعثه يوم القيامة ملبيا) وفي رواية وقع من راحلته فأوقصته أو قال فأقعصته وفي رواية فوقصته وفي رواية وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فانه يبعث يوم القيامة يلبي وفي رواية ولا تخمروا وجهه ولا رأسه وفي رواية فانه يبعث يوم القيامة ملبدا في هذه الروايات دلالة بينه لمذهب الشافعي وأحمد واسحاق وموافقيهم في أن المحرم إذا مات لا يجوز أن يلبس المخيط ولا تخمر رأسه ولا يمس طيبا وقال مالك والأزاعى وأبو حنيفة وغيرهم يفعل به ما يفعل بالحي وهذا الحديث راد قولهم وقوله ص = (واغسلوه بماء وسدر) دليل على استحباب السدر في غسل الميت وأن المحرم في ذلك كغيره وهذا مذهبنا وبه قال
[ 128 ]
طاوس وعطاء ومجاهد وابن المنذر وآخرون ومنعه مالك وأبو حنيفة وآخرون وقوله ص = (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) أما تخمير الرأس في حق المحرم الحي فمجمع على تحريمه وأما وجهه فقال مالك وأبو حنيفة هو كرأسه وقال الشافعي والجمهور لا احرام في وجهه بل له تغطيته وانما يجب كشف الوجه في حق المرأة هذا حكم المحرم الحي وأما الميت فمذهب الشافعي وموافقيه أنه يحرم تغطية رأسه كما سبق ولا يحرم تغطية وجهه بل يبقى كما كان في الحياة وتيأول هذا الحديث على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكونه وجها إنما هو صيانة للرأس فانهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه ولا بد من تأويله لأن مالكا
[ 129 ]
وأبا حنيفة وموافقيهما يقولون لا يمنع من ستر رأس الميت ووجهه والشافعي وموافقوه يقولون يباح ستر الوجه فتعين تأويل الحديث وقوله ص = (وكفنونه في ثوبيه) وفي رواية ثوبين قال القاضي أكثر الروايات ثوبيه وفيه فوائد منها الدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في أن حكم الاحرام باق فيه ومنها أن التكفين في الثياب الملبوسة جائز وهو مجمع عليه ومنها جواز التكفين في ثوبين والأفضل ثلاثة ومنها أن الكفن مقدم على الدين وغيره لأن النبي ص = لم يسال هل عليه دين مستغرق أم لا ومنها أن التكفين واجب وهو اجماع في حق المسلم وكذلك غسله والصلاة عليه ودفنه وقوله خر من بعيره أي سقط وقوله وقص أي انكسر عنقه وقصته وأوقصته بمعناه قوله (فأقعصته) أي قتلته في الحال ومنه قعاص الغنم وهو موتها بداء يأخذها تموت فجأة قوله ص = (فانه يبعث يوم القيامة ملبيا وملبدا ويلبي) معناه على هيأته التي مات عليها ومعه علامة لحجه وهي دلالة الفضيلة كما يجئ
[ 130 ]
الشهيد يوم القيامة وأوداجه تشخب دما وفيه دليل على استحباب دوام التلبية في الاحرام وعلى استحباب التلبيد وسبق بيان هذا قوله ص = (ولا تحنطوه) هو بالحاء المهملة أي لا تمسوه حنوطا والحنوط بفتح الحاء ويقال له الحناط بكسر الحاء وهو اخلاط من طيب تجمع للميت خاصة لا تستعمل في غيره قوله في رواية على بن خشرم (أقبل رجل حراما) هكذا هو في معظم النسخ وفي بعضها حرام وهذا هو الوجه وللأول وجه ويكون حالا وقد جاءت الحال من النكرة على قلة قوله (حدثنا محمد بن الصباح حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر حدثنا سعيد ابن جبير) أبو بشر هذا هو الغبري واسمه الوليد بن مسلم بن شهاب البصري وهو تابعي روى عن جندب بن عبد الله الصحابي رضي الله عنه وانفرد مسلم بالرواية عن أبي بشر هذا واتفقوا على توثيقه قوله (حدثنا عبد بن حميد قال حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا اسرائيل عن منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس) قال القاضي هذا الحديث ما استدركه الدارقطني على مسلم
[ 131 ]
وقال انما سمعه منصور من الحكم وكذا أخرجه البخاري عن منصور عن الحكم عن سعيد وهو الصواب وقيل عن منصور عن سلمه ولا يصح والله أعلم جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه فيه حديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها (أن النبي ص = قال لها حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني ففيه دلالة لمن قال يجوز أن يشترط الحاج والمعتمر في احرامه أنه ان مرض تحلل وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وآخرين من الصحابة رضي الله عنهم وجماعة
[ 132 ]
من التابعين وأحمد واسحق وأبي ثور وهو الصحيح من مذهب الشافعي وحجتهم هذا الحديث الصحيح الصريح وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين لا يصح الاشتراط وحملوا الحديث على انها قضية عين وأنه مخصوص بضباعة وأشار القاضي عياض الى تضعيف الحديث فانه قال قال الأصيلي لا يثبت في الاشتراط اسناد صحيح قال النسائي لا أعلم أحدا اسنده عن الزهري غير معمر وهذا الذي عرض به القاضي وقال الأصيلي من تضعيف الحديث غلط فاحش جدا نبهت عليه لئلا يغتر به لأن هذا الحديث مشهور في صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة وفيما ذكره مسلم من تنويع طرقه أبلغ كفاية وفي هذا الحديث دليل على أن المرض لا يبيح التحلل إذا لم يكن اشتراط في حال الاحرام والله أعلم وأما ضباعة فبضاد معجمة مضمومة ثم موحدة مخففة وهي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب كما ذكره مسلم في الكتاب وهي بنت عم النبي ص = وأما قول صاحب الوسيط هي ضباعة الأسلمية فغلط فاحش والصواب الهاشمية قوله (فأدركت)
[ 133 ]
معناه أدركت الحج ولم تتحلل حتى فرغت منه احرام النفساء واستحباب اغتسالها للاحرام وكذا الحائض فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت (نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله ص = أبا بكر رضي الله عنه يأمرها أن تغتسل) قولها نفست أي ولدت وهي بكسر الفاء لاغير وفي النون لغتان المشهورة ضمها والثانية فتحها سمي نفاسا لخروج النفس وهو المولود والدم أيضا قال القاضي وتجري اللغتان في الحيض ايضا يقال نفست أي حاضت بفتح النون وضمها قال ذكرهما صاحب الافعال قال وأنكر جماعة الضم في الحيض وفيه صحة احرام النفساء والحائض واستحباب اغتسالهما للاحرام وهو مجمع على الأمر به لكن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور أنه مستحب وقال الحسن وأهل الظاهر هو واجب والحائض والنفساء يصح منهما جميع أفعال الحج الا الطواف وركعتيه لقوله ص = اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي وفيه أن ركعتي الاحرام سنة ليستا بشرط لصحة الحج لأن اسماء لم تصلهما وقوله (نفست بالشجرة) وفي رواية بذي الحليفة وفي رواية بالبيداء هذه المواضع الثلاثة متقاربة
[ 134 ]
فالشجرة بذي الحليفة وأما البيداء فهي بطرف ذي الحليفة قال القاضي يحمل انها نزلت بطرف البيداء لتبعد عن الناس وكان منزل النبي ص = بذي الحليفة حقيقة وهناك بات وأحرم فسمي منزل الناس كلهم باسم منزل امامهم بيان وجوه الاحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع (والقران وجواز ادخال الحج على العمرة ومتى يحل القارن من نسكه) قولهم حجة الوداع سميت بذلك لأن النبي ص = ودع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة غيرها وكانت سنة عشر من الهجرة اعلم أن أحاديث الباب متظاهرة على جواز افراد الحج عن العمرة وجواز التمتع والقران وقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة وأما النهي الوارد عن عمر وعثمان رضي الله عنهما فسنوضح معناه في موضعه بعد هذا ان شاء الله تعالى والافراد أن يحرم بالحج في أشهره ويفرغ منه ثم يعتمر والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منه ثم يحج من عامه والقران أن يحرم بهما جميعا وكذا لو أحرم بالعمرة وأحرم بالحج قبل طوافها صح وصار قارنا فلو أحرم بالحج ثم أحرم بالعمرة فقولان للشافعي أصحهما لا يصح احرامه بالعمرة والثاني يصح ويصير قارنا بشرط ان يكون قبل الشروع في اسباب التحلل من الحج وقيل قبل الوقوف بعرفات وقيل قبل فعل فرض وقيل قبل طواف القدوم أو غيره واختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيها أفضل فقال الشافعي ومالك وكثيرون أفضلها الافراد ثم التمتع ثم القران وقال أحمد وآخرون أفضلها
[ 135 ]
التمتع وقال أبو حنيفة وآخرون أفضلها القران وهذان المذهبان قولان آخران للشافعي والصحيح تفضيل الافراد ثم التمتع ثم القران واما حجة النبي ص = فاختلفوا فيها هل كان مفردا أم متمتعا أم قارنا وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة وكل طائفة رجحت نوعا وادعت أن حجة النبي ص = كانت كذلك والصحيح أنه ص كان أولا مفردا ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فصار قارنا وقد اختلفت روايات أصحابه رضي الله عنهم في صفة حجة النبي ص = حجة الوداع هل كان قارنا أم مفردا أم متمتعا وقد ذكر البخاري ومسلم رواياتهم كذلك وطريق الجمع بينها ما ذكرت أنه ص = كان أولا مفردا ثم صار قارنا فمن روى الافراد هو الأصل ومن روى القران اعتمد آخر الأمر ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والارتفاق وقد ارتفق بالقران كارتفاق المتمتع وزيادة في الاقتصار على فعل واحد وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها وقد جمع بينها أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب صنفه في حجة الوداع خاصة وادعى أنه ص = كان قارنا وتأول باقي الأحاديث والصحيح ما سبق وقد أوضحت ذلك في شرح المهذب بأدلته وجميع طرق الحديث وكلام العلماء المتعلق بها واحتج الشافعي وأصحابه في ترجيح الافراد بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع فانه ذكرها من حين خروج النبي ص = من المدينة الى آخرها فهو أضبط لها من غيره وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقة النبي ص = في حجة الوداع وأنكر على من رجح قول أنس على قوله وقال كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وانى كنت تحت ناقة النبي ص = يمسني لعابها اسمعه يلبي بالحج وأما عائشة فقربها من رسول الله ص = معروف وكذلك اطلاعها على باطن أمره وظاهره وفعله في خلوته وعلانيته مع كثرة فقهها وعظم فطنتها وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين والفهم الثاقب معروف مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله ص = التي لم يحفظها غيره وأخذه اياها من كبار الصحابة ومن دلائل ترجيح الافراد أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي ص = أفردوا الحج وواظبوا
[ 136 ]
على افراده كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم واختلف فعل علي رضي الله عنه ولو لم يكن الافراد أفضل وعلموا أن النبي ص = حج مفردا لم يواظبوا عليه مع أنهم الأئمة الأعلام وقادة الاسلام ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم فكيف يليق بهم المواظبة على خلاف فعل رسول الله ص = وأما الخلاف عن علي رضي الله عنه وغيره فانما فعلوه لبيان الجواز وقد ثبت في الصحيح ما يوضح ذلك ومنها أن الافراد لا يجب فيه دم بالاجماع وذلك لكماله ويجب الدم في التمتع والقران وهو دم جبران لفوات الميقات وغيره فكان مالا يحتاج الى جبر أفضل ومنها أن الأمة أجمعت على جواز الافراد من غير كراهة وكره عمر وعثمان وغيرهما التمتع وبعضهم التمتع والقران فكان الافراد أفضل والله أعلم قيل كيف وقع الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في صفة حجته ص = وهي حجة واحدة كل واحد منهم يخبر عن مشاهدة في قضية واحدة قال القاضي عياض قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث فمن مجيد منصف ومن مقصر متكلف ومن مطيل مكثر ومن مقتصر مختصر قال وأوسعهم في ذلك نفسا أبو جعفر الطحاوي الحنفي فانه تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة وتكلم معه في ذلك أبو جعفر الطبري ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة ثم المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم قال القاضي عياض وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات واشبه بمساق الأحاديث أن النبي ص = أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جميعها ولو أمر بواحد لكان غيره يظن انه لا يجزي فاضيف الجميع إليه وأخبر كل واحد بما أمره به واباحه له ونسبه الى النبي ص = أما لأمره به واما لتأويله عليه وأما احرامه ص = بنفسه فأخذ بالأفضل فاحرم مفردا للحج وبه تظاهرت الروايات الصحيحة وأما الروايات بأنه كان متمتعا فمعناها أمر به وأما الروايات بانه كان قارنا فاخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء احرامه بل أخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من حجهم وقلبه الى عمرة لمخالفة الجاهلية الا من كان معه هدي وكان هو ص = ومن معه هدى في آخر احرامهم قارنين بمعنى أنهم أدخلوا العمرة على الحج وفعل ذلك مواساة لأصحابه وتأنسيا لهم في فعلها في أشهر الحج لكونها كانت منكرة عندهم في أشهر الحج ولم يمكنه
[ 137 ]
التحلل معهم بسبب الهدي واعتذر إليهم بذلك في ترك مواساتهم فصار صلى الله عليه وسلم قارنا في آخر أمره وقد اتفق جمهور العلماء على جواز ادخال الحج على العمرة وشذ بعض الناس فمنعه وقال لا يدخل إحرام على إحرام كما لا تدخل صلاة على صلاة واختلفوا في ادخال العمرة على الحج فجوزه أصحاب الرأي وهو قول الشافعي لهذه الأحاديث ومنعه آخرون وجعلوا هذا خاصا بالنبي ص = لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج قال وكذلك يتناول قول من قال كان متمتعا أي تمتع بفعل العمرة في أشهر الحج وفعلها مع الحج لأن لفظ التمتع يطلق على معان فانتظمت الأحاديث واتفقت قال ولا يبعد رد ما ورد عن الصحابة من فعل مثل ذلك إلى مثل هذا مع الروايات الصحيحة أنهم أحرموا بالحج مفردا فيكون الافراد اخبارا عن فعلهم أولا والقران اخبارا عن احرام الذين معهم هدي بالعمرة ثانيا والتمتع لفسخهم الحج إلى العمرة ثم اهلالهم بالحج بعد التحلل منها كما فعل كل من لم يكن معه هدي قال القاضي وقال بعض علمائنا أنه أحرم ص = إحراما مطلقا منتظرا ما يؤمر به من افراد أو تمتع أو قران ثم أمر بالعمرة معه في وادي العقبة بقوله صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة قال القاضي والذي سبق ابين وأحسن في التأويل هذا آخر كلام القاضي عياض ثم قال القاضي في موضع آخر بعده لا يصح قول من قال أحرم النبي ص = احراما مطلقا مبهما لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة مصرحة بخلافه قال الخطابى قد أنعم الشافعي ببيان هذا في كتابه اختلاف الحديث وجود الكلام قال الخطابي وفي اقتصاص كل ما قاله تطويل ولكن الوجيه والمختصر من جوامع ما قال ان معلوما في لغة العرب جواز اضافة الفعل الى الأمر كجواز اضافته الى الفاعل كقولك بنى فلان دارا إذا أمر ببنائها وضرب الأمير فلانا إذا أمر بضربه ورجم النبي ص = ماعزا وقطع سارق رداء واصفوان وانما أمر بذلك ومثله كثير في الكلام وكان أصحاب رسول الله ص = منهم المفرد والمتمتع والقارن كل منهم يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فجاز أن تضاف كلها إلى رسول الله ص = على معنى أنه أمر بها وأذن فيها قال ويحتمل أن بعضهم سمعه يقول لبيك بحجة فحكى عنه أنه أفرد وخفى عليه قوله وعمرة فلم يحك الا ما سمع وسمع أنس وغيره الزيادة وهي لبيك بحجة وعمرة ولا ينكر قبول الزيادة وانما
[ 138 ]
يحصل التناقض لو كان الزائد نافيا لقول صاحبه فاما إذا كان مثبتا له وزائدا عليه فليس فيه تناقض قال ويحتمل أن الراوي سمعه يقول لغيره على وجه التعليم فيقول له لبيك بحجة وعمرة على سبيل التلقين فهذه الروايات المختلفة ظاهرا ليس فيها تناقض والجمع بينها سهل كما ذكرنا والله اعلم قوله ص = (من كان معه هدي) يقال هدي باسكان الدال وتخفيف الياء وهدي بكسر الدال وتشديد الياء لغتان مشهورتان الأولى افصح وأشهر وهو اسم لما يهدى الى الحرم من الأنعام وسوق الهدي سنة لمن أراد أن يحرم بحج أو عمرة قوله (عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله ص = عام حجة الوداع فاهللنا بعمرة ثم قال رسول الله ص = من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة) وفي الرواية الأخرى قالت خرجنا مع رسول الله ص في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج قالت ولم أهل الا بعمرة قال القاضي عياض اختلفت الروايات عن عائشة فيما أحرمت به اختلافا كثيرا فذكر مسلم من ذلك ما قدمناه وفي رواية لمسلم أيضا عنها خرجنا لا نرى الا الحج وفي رواية القاسم عنها خرجنا مهلين بالحج وفي رواية لا نذكر الا الحج وكل هذه الروايات صريحة في أنها أحرمت بالحج وفي رواية الأسود عنها نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة قال القاضي واختلف العلماء في الكلام على حديث عائشة فقال مالك ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا وقال بعضهم يترجح أنها كانت محرمة بحج لأنها رواية عمرة والأسود والقاسم وغلطوا عروة في العمرة وممن ذهب الى هذا القاضي اسماعيل ورجحوا رواية غير عروة على روايته لأن عروة قال في رواية حماد بن زيد عن هاشم عنه حدثني غير واحد أن النبي ص = قال لها دعي عمرتك فقد بان أنه لم يسمع الحديث منها قال القاضي رحمه الله وليس هذا بواضح لأنه يحتمل أنها ممن حدثه ذلك قالوا أيضا ولأن رواية عمرة
[ 139 ]
والقاسم نسقت عمل عائشة في الحج من أوله الى آخره ولهذا قال القاسم عن رواية عمرة أنبأتك بالحديث على وجهه قالوا ولأن رواية عروة أنما أخبر عن احرام عائشة والجمع بين الروايات ممكن فأحرمت أولا بالحج كما صح عنها في رواية الأكثرين وكما هو الأصح من فعل النبي ص = وأكثر أصحابه ثم أحرمت بالعمرة حين أمر النبي ص = أصحابه بفسخ الحج الى العمرة وهكذا فسره القاسم في حديثه فأخبر عروة عنها باعتمارها في آخر الأمر ولم يذكر أول أمرها قال القاضى وقد تعارض هذا بما صح عنها في اخبارها عن فعل الصحابة و اختلافهم في الاحرام وأنها أحرمت هي بعمرة فالحاصل أنها أحرمت بحج ثم فسخته الى عمرة حين أمر الناس بالفسخ فلما حاضت وتعذر عليها اتمام العمرة والتحلل منها وادراك الاحرام بالحج أمرها النبي ص = بالاحرام بالحج فأحرمت فصارت مدخلة للحج على العمرة وقارنة وقوله ص = ارفضي عمرتك ليس معناه ابطالها بالكلية والخروج منها فان العمرة والحج لا يصح الخروج منهما بعد الاحرام بنية الخروج وانما يخرج منها بالتحلل بعد فراغها بل معناه ارفضي العمل فيها واتمام افعالها التي هي الطواف والسعي وتقصير شعر الرأس فأمرها ص = بالاعراض عن أفعال العمرة وان تحرم بالحج فتصير قارنة وتقف بعرفات وتفعل المناسك كلها الا الطواف فتؤخره حتى تطهر وكذلك فعلت قال العلماء ومما يؤيد هذا التأويل قوله ص = في رواية عبد بن حميد وامسكي عن العمرة ومما يصرح بهذا التأويل رواية مسلم بعد هذا في آخر روايات عائشة عن محمد بن حاتم عن بهز عن وهيب عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبي ص = يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن الى التنعيم فاعتمرت بعد الحج هذا لفظه فقوله ص يسعك طوافك لحجك وعمرتك تصريح بأن عمرتها باقية صحيحة مجزئة وانها لم تلغها
[ 140 ]
وتخرج منها فيتعين تأويل ارفضي عمرتك ودعي عمرتك على ما ذكرناه من رفض العمل فيها واتمام أفعالها والله أعلم وأما قوله ص = في الرواية الأخرى لما مضت مع أخيها عبد الرحمن ليعمرها من التنعيم (هذه مكان عمرتك) فمعناه أنها أرادت أن يكون لها عمرة منفردة عن الحج كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا الحج الى العمرة وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية ثم أحرموا بالحج من مكة يوم التروية فحصل لهم عمرة منفردة وحجة منفردة وأما عائشة فانما حصل لها عمرة مندرجة في حجة بالقران فقال لها النبي ص = يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك أي وقد تما وحسبا لك جميعا فأبت وأرادت عمرة منفردة كما حصل لباقي الناس فلما اعتمرت عمرة منفردة قال لها النبي ص = هذه مكان عمرتك أي التي كنت تريدين حصولها منفردة غير مندرجة فمنعك الحيض من ذلك وهكذا يقال في قولها يرجع الناس بحج وعمرة وارجع بحج أي يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة وأرجع انا وليس لي عمرة منفردة وانما حرصت على ذلك لتكثر أفعالها وفي هذا تصريح بالرد على من يقول القران أفضل والله أعلم وأما قوله ص = (انقضى رأسك وامتشطي) فلا يلزم منه ابطال العمرة لأن نقض الرأس والامتشاط جائزان عندنا في الاحرام بحيث لا ينتف شعرا ولكن يكره الامتشاط الا لعذر وتأول العلماء فعل عائشة هذا على أنها كانت معذورة بأن كان في رأسها أذى فأباح لها الامتشاط كما أباح لكعب بن عجرة الحلق للأذى وقيل ليس المراد بالامتشاط هنا حقيقة الامتشاط بالمشط بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل لاحرامها بالحج لاسيما أن كانت لبدت رأسها كما هو السنة وكما فعله النبي ص = فلا يصح غسلها الا بايصال الماء الى جميع شعرها ويلزم من هذا نقضه والله أعلم قولها (وأما الذين كانوا
[ 141 ]
جمعوا الحج والعمرة فانما طافوا طوافا واحدا) هذا دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد عن طواف الركن وأنه يقتصر على أفعال الحج وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحج وبهذا قال الشافعي وهو محكي عن ابن عمر وجابر وعائشة ومالك وأحمد واسحاق وداود وقال أبو حنيفة يلزمه طوافان وسعيان وهو محكي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود والشعبي والنخعي والله أعلم قولهن (عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله ص =
[ 142 ]
عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله ص = من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) قال القاضي عياض رحمه الله الذي تدل عليه نصوص الاحاديث في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من رواية عائشة وجابر وغيرهما أن النبي ص = انما قال لهم هذا القول بعد احرامهم بالحج في منتهى سفرهم ودنوهم من مكة بسرف كما جاء في رواية عائشة أو بعد طوافه بالبيت وسعيه كما جاء في رواية جابر ويحتمل تكرارا الأمر بذلك في الموضعين وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج الى العمرة قولها (خرجنا مع رسول الله ص = حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج حتى قدمنا مكة فقال رسول الله ص = من أحرم بعمرة ولم يهد فليتحلل ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه ومن أهل بحج فليتم حجه) هذا الحديث ظاهر في الدلالة لمذهب أبي حنيفة وأحمد وموافقهما في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شئ في الحال سواء كان ساق هديا أم لا واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شئ كما لو تحلل المحرم بالحج وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الروايات التي ذكرها مسلم بعدها والتي ذكرها قبلها عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله ص = عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله ص = من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة وتقديرها ومن أحرم بعمرة واهدى فلهيلل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه ولا بد من هذا التأويل لأن القضية واحدة والراوي واحد فيتعين الجمع بين الروايتين على ما ذكرناه والله أعلم
[ 143 ]
قوله ص = (وأمسكي عن العمرة) فيه دلالة ظاهرة على أنها لم تخرج منها وانما أمسكت عن أعمالها واحرمت بالحج فادرجت أعمالها بالحج كما سبق بيانه وهو مؤيد للتأويل الذي قدمناه في قوله ص = ارفضي عمرتك ودعي عمرتك ان المراد رفض اتمام أعمالها لا ابطال أصل العمرة قولها (فأردفني) فيه دليل على جواز الارداف إذا كانت الدابة مطيقة وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بذلك وفيه جواز ارداف الرجل المرأة من محارمه والخلوة بها وهذا مجمع عليه قوله ص = (من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل) فيه دليل لجواز الأنواع الثلاثة وقد أجمع المسلمون
[ 144 ]
على ذلك وانما اختلفوا في أفضلها كما سبق قولها (فلما كانت ليلة الحصبة) هي بفتح الحاء واسكان الصاد المهملتين وهي التي بعد أيام التشريق وسميت بذلك لأنهم نفروا من منى فنزلوا في المحصب وباتوا به قولها (خرجنا مع رسول الله ص = في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة) أي مقارنين لاستهلاله وكان خروجهم قبله لخمس في ذي القعدة كما صرحت به في رواية عمرة التي ذكرها مسلم بعد هذا من حديث عبد الله بن سلمه عن سليمان بن بلال عن يحيى عن عمرة قوله ص = (من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة) هذا مما يحتج به من يقول بتفضيل التمتع ومثله قوله ص = لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ووجه الدلالة منهما أنه ص = لا يتمنى الا الأفضل وأجاب القائلون بتفضيل الأفراد بأنه ص = انما قال هذ من أجل فسخ الحج الى العمرة الذي هو خاص لهم في تلك السنة خاصة لمخالفة الجاهلية ولم يرد بذلك التمتع الذي فيه الخلاف وقال هذا تطييبا لقلوب أصحابه وكانت نفوسهم لا تسمح بفسخ الحج الى العمرة كما صرح به في الأحاديث التي بعد هذا فلقال لهم ص هذا الكلام ومعناه ما يمنعني من موافقتكم فيما أمرتكم به الا سوقي الهدي ولولاه لوافقتكم ولو استقبلت هذا الرأي وهو الإحرام بالعمرة في اشهر الحج من أول أمرى لم أسق الهدى وفي هذه الرواية تصريح بأنه ص = لم يكن متمتعا قولها (فقضى الله حجنا وعمرتنا ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم) هذا محمول على أخبارها عن نفسها أي لم يكن
[ 145 ]
علي في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم ثم أنه مشكل من حيث أنها كانت قارنة والقارن يلزمه الدم وكذلك المتمتع ويمكن أن يتأول هذا على أن المراد لم يجب علي دم ارتكاب شئ من محظورات الاحرام كالطيب وستر الوجه وقتل الصيد وازالة شعر وظفر وغير ذلك أي لم أرتكب محظورا فيجب بسببه هدي أو صدقه أو صوم هذا هو المختار في تأويله وقال القاضي عياض فيه دليل على أنها كانت في حج مفرد لا تمتع ولا قران لأن العلماء مجمعون على وجوب الدم فيهما الا داود الظاهري فقال لا دم على القارن هذا كلام القاضي وهذا اللفظ وهو قوله ولم يكن في ذلك هدى ولا صدقة ولا صوم ظاهرة في الرواية الأولى أنه من كلام عائشة ولكن صرح في الرواية التي بعدها بأنه من كلام هشام بن عروة فيحمل الأول عليه ويكون الأول في معنى المدرج قولها (خرجنا موافين مع رسول الله ص = لهلال ذي الحجة لا نرى الا الحج معناه لا نعتقد أنا نحرم الا بالحج لأنا كنا نظن امتناع العمرة في أشهر الحج
[ 146 ]
قولها (حتى إذا كنا بسرف) هو بفتح السين المهملة وكسر الراء وهو ما بين مكة والمدينة بقرب مكة على أميال منها قيل ستة وقيل سبعة وقيل تسعة وقيل عشرة وقيل اثنا عشر ميلا قوله ص = (أنفست) معناه أحضت وهو بفتح النون وضمها لغتان مشهورتان الفتح أفصح والفاء مكسورة فيهما وأما النفاس الذي هو الولادة فيقال فيه نفست بالضم لا غير قوله ص = في الحيض (هذا شئ كتبه الله على بنات آدم) هذا تسلية لها وتخفيف لهما ومعناه أنك لست مختصة به بل كل بنات آدم يكون منهم هذا كما يكون منهن ومن الرجال البول والغائط وغيرهما واستدل البخاري في صحيحه في كتاب الحيض بعموم هذا الحديث على أن الحيض كان في جميع بنات آدم وأنكر به على من قال أن الحيض أول ما أرسل ووقع في بني اسرائل قوله ص = (فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي) معنى اقضي إفعلي كما قال في الرواية الأخرى فاصنعي وفي هذا دليل على أن الحائض والنفساء والمحدث والجنب يصح منهم جميع أفعال الحج وأقواله وهيأته الا الطواف وركعتيه فيصح الوقوف بعرفات وغيره كما ذكرنا وكذلك الاغسال
[ 147 ]
المشروعة في الحج تشرع للحائض وغيرها ممن ذكرنا وفيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض وهذا مجمع عليه لكن اختلفوا في علته على حسب اختلافهم في اشتراط الطهارة للطواف فقال مالك والشافعي وأحمد هي شرط وقال وأبو حنيفة ليست بشرط وبه قال داود فمن شرط الطهارة قال العلة في بطلان طواف الحائض عدم الطهارة ومن لم يشترطها قال العلة فيه كونها ممنوعة من اللبث في المسجد قولها (وضحى رسول الله ص = عن نسائه بالبقر) هذا محمول على أنه ص = استأذنهن في ذلك فان تضحية الانسان عن غيره لا تجوز الا بإذنه واستدل به مالك في أن التضحية بالبقر أفضل من بدنة ولا دلالة فيه لأنه ليس فيه ذكر تفضيل البقر ولا عموم لفظ انما هي قضية عين محتملة لأمور فلا حجة فيها لما قاله وذهب الشافعي والأكثرون الى أن التضحية بالبدنة أفضل من البقرة لقوله ص = من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة إلى آخره قولها (فطمثت) هو
[ 148 ]
بفتح الطاء وكسر الميم أي حضت يقال حاضت المرأة وتحيضت وطمثت وعركت بفتح الراء ونفست وضحكت وأعصرت وأكبرت كله بمعنى واحد والاسم منه الحيض والطمس والعراك والضحك والاكبار والاعصار وهي حائض وحائضة في لغة غربية حكاها الفراء وطامث وعارك ومكبر ومعصر وفي هذه الأحاديث جواز حج الرجل بامرأته وهو مشروع بالاجماع وأجمعوا على أن الحج يجب على المرأة إذا استطاعته واختلف السلف هل المحرم لها من شروط الاستطاعة وأجمعوا على أن لزوجها أن يمنعها من حج التطوع وأما حج الفرض فقال جمهور العلماء ليس له منعها منه وللشافعي فيه قولان أحدهما لا يمنعها منه كما قال الجمهور وأصحهما له منعها لأن حقه على الفور والحج على التراخي قال أصحابنا ويستحب له أن يحج بزوجته للأحاديث الصحيحة فيه قولها (ثم أهلوا حين راحوا) يعني الذين تحللوا بعمرة وأهلوا بالحج حين راحوا الى منى وذلك يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة وفيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن الأفضل فيمن هو بمكة أن يحرم بالحج يوم التروية ولا يقدمه عليه وقد سبقت المسألة قولها (أنعس) هو بضم العين قولها (فاهللت منها بعمرة جزاء لعمرة الناس) أي تقوم مقام عمرة الناس وتكفيني عنها قولها (خرجنا مع رسول الله ص = مهلين بالحج في اشهر الحج وفي حرم الحج وليالي الحج) قولها
[ 149 ]
حرم الحج هو بضم الحاء والراء كذا ضبطناه وكذا نقله القاضي عياض في المشارق عن جمهور الرواة قال وضبطه الأصيلي بفتح الراء قال فعلى الضم كأنها تريد الأوقات والمواضع والأشياء والحالات أما بالفتح فجمع حرمة أي ممنوعات الشرع ومحرماته وكذلك قيل للمرأة المحرمة بنسب حرمة وجمعها حرم وأما قولها في اشهر الحج فاختلف العلماء في المراد بأشهر الحج في قوله الله تعالى الحج أشهر معلومات فقال الشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم هي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة تمتد إلى الفجر ليلة النحر وروي هذا عن مالك أيضا والمشهور عنه شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله وهو مروي أيضا عن ابن عباس وابن عمر والمشهور عنهما ما قدمناه عن الجمهور قولها (فخرج الى أصحابه فقال من لم يكن
[ 150 ]
معه منكم هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا فمنهم الآخذ بها والتارك لها ممن لم يكن معه هدي) وفي الحديث الآخر بعد هذا أنه ص = قال أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون وفي حديث جاب فأمرنا أن نحل يعني بعمرة وقا في آخره قال فحلوا قال فحللنا وسمعنا وأطعنا وفي الرواية الأخرى أحلوا ما احرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا الذي قدمتم بها متعة قالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج قال افعلوا ما آمركم به هذه الروايات صحيحة في أنه ص = أمرهم بفس الحج الى العمرة أمر عزيمة وتحتم بخلاف الرواية الأولى وهي قوله ص = من لم يكمعه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل قال العلماء خيرهم أولا بين الفسخ وعدمه ملاطفة لهم وإيناسا بالعمرة في أشهر الحج لأنهم كانوا يرونها من أفجر الفجور ثم حتم عليهم بعد ذلك الفسخ وأمرهم به أمر عزيمة وألزمهم اياه وكره ترددهم في قبول ذلك ثم قبلوه وفعلوه الا من كان معه هدي والله أعلم قولها (سمعت كلامك مع أصحابك فسمعت بالعمرة) كذا هو في النسخ فسمعت بالعمرة قال القاضي كذا رواه جمهور رواة مسلم ورواه بعضهم فمنعت العمرة وهو الصواب قولها (قال ومالك قلت
[ 151 ]
لا أصلي) فيه استحباب الكناية عن الحيض ونحوه مما يستحى منه ويستشنع لفظه الا إذا كانت حاجة كازالة وهم ونحو ذلك قوله ص = (اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة) فيه دليل لما قاله العلماء أن من كان بمكة وأراد العمرة فميقاته لها أدنى الحل ولا يجوز أن يحرم بها من الحرم فان خالف وأحرم بها من الحرم وخرج الى الحل قبل الطواف أجزأه ولا دم عليه وان لم يخرج وطاف وسعى وحلق ففيه قولان أحدهما لا تصح عمرته حتى يخرج الى الحال ثم يطوف ويسعى ويحلق والثاني وهو الأصح يصح وعليه دم لتركه الميقات قال العلماء وانما وجب الخروج الى الحل ليجمع في نسكه بين الحل والحرم كما أن الحاج يجمع بينهما فانه يقف بعرفات وهي في الحل ثم يدخل مكة للطواف وغيره هذا تفصيل مذهب الشافعي وهكذا قال جمهور العلماء أنه يجب الخروج لاحرام العمرة الى أدنى الحل وأنه لو أحرم بها في الحرم ولم يخرج لزمه دم وقال عطاء لا شئ عليه وقال مالك لا يجزئه
[ 152 ]
حتى يخرج الى الحل قال القاضي عياض وقال مالك لا بد من احرامه من التنعيم خاصة قالوا وهو ميقات المعتمرين من مكة وهذا شاذ مردود والذي عليه الجماهير ان جميع جهات الحل سواء ولا تختص بالتنعيم والله أعلم قوله ص = (ولكنها على قدر نصبك أو قال نفقتك) هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة
[ 153 ]
النصب والنفقة والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع وكذا النفقة قولها (قالت صفية ما أرانى حابستكم قال عقرى حلقى أو ما كنت طفت يوم النحر قالت بلى قال لا بأس انفرى) معناه أن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها حاضت قبل طواف الوداع فلما أراد النبي ص = الرجوع الى المدينة قالت ما أظنني الا حابستكم لانتظار طهري وطوافي للوداع فانى لم أطف للوداع وقد حضت ولا يمكننى الطواف الآن وظنت أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض فقال النبي ص = أما كنت طفت طواف الافاضة يوم النحر قالت بلى قال يكفيك ذلك لأنه هو الطواف الذي هو ركن ولا بد لكل أحد منه وأما طواف الوداع فلا يجب على الحائض وأما قوله ص = (عقرى حلقى) فهكذا يرويه المحدثون بالألف التي هي ألف التأنيث ويكتبونه بالياء ولا ينونونه وهكذا نقله جماعة لا يحصون من أئمة اللغة وغيرهم عن رواية المحدثين وهو صحيح فصيح قال الأزهري في تهذيب اللغة قال أبو عبيد معنى عقرى
[ 154 ]
عقرها الله تعالى وحلقى حلقها الله قال يعنى عقر الله جسدها وأصابها بوجع في حلقها قال أبو عبيد أصحاب الحديث يروونه عقرى حلقى وانما هو عقرا حلقا قال وهذا على مذهب العرب في الدعاء على الشئ من غير ارادة وقوعه قال شمر قلت لأبي عبيد لم لا تجيز عقرى فقال لأن فعلى تجئ نعتا ولم تجئ في الدعاء فقلت روى ابن شميل عن العرب مطبرى وعقرى أخف منها فلم ينكره هذا آخر ما ذكره الأزهري وقال صاحب المحكم يقال للمرأة عقرى حلقى معناه عقرها الله وحلقها أي حلق شعرها أو أصابها بوجع في حلقها قال فعقرى ههنا مصدر كدعوى وقيل معناه تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها وقيل العقرب الحائض وقيل عقرى حلقى أي عقرها الله وحلقها هذا آخر كلام صاحب المحكم وقيل معناه جعلها الله عاقرا لا تلد وحلقى مشؤمة على أهلها وعلى كل قول فهي كلمة كان أصلها ما ذكرناه ثم اتسعت العرب فيها فصارت تطلقها ولا تريد حقيقة ما وضعت له أولا ونظيره تربت يداه وقاتله الله ما أشجعه وما أشعره والله أعلم وفي هذا الحديث دليل على أن طواف الوداع لا يجب على الحائض ولا يلزمها الصبر الى طهرها لتأتى به ولا دم عليها في تركه وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكاه القاضى عن بعض السلف وهو شاذ مردود وقولها
[ 155 ]
(فدخل على وهو غضبان فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال أو ما شعرت أنى أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون) أما غضبه ص = فلانتهاك حرمة الشرع وترددهم في قبول حكمه وقد قال الله تعالى وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فغضب ص = لما ذكرناه من انتهاك حرمة الشرع والحزن عليهم في نقص ايمانهم بتوقفهم وفيه دلالة لاستحباب الغضب عند انتهاك حرمة الدين وفيه جواز الدعاء على المخالف لحكم الشرع والله أعلم قوله ص = (أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون قال الحكم كأنهم يترددون أحسب) قال القاضى كذا وقع هذا اللفظ وهو صحيح وان كان فيه اشكال قال وزاد اشكاله تغيير وهو قوله قال الحكم كأنهم يترددون وكذا رواه ابن أبي شيبة عن الحكم ومعناه أن الحكم شك في لفظ النبي ص = هذا مع ضبطه لمعناه فشك هل قال يترددون أو نحوه من الكلام ولهذا قال بعده أحسب أي أظن أن هذا لفظه ويؤيده قول مسلم بعده في حديث غندر ولم يذكر الشك من الحكم في قوله يترددون والله أعلم قوله ص = (ولو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى) هذا دليل على جواز قول لو في التأسف على فوات أمور
[ 156 ]
الدين ومصالح الشرع وأما الحديث الصحيح في أن لو تفتح عمل الشيطان فمحمول على التأسف على حظوظ الدنيا ونحوها وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في استعمال لو في غير حظوظ الدنيا ونحوها فيجمع بين الأحاديث بما ذكرناه والله أعلم قوله ص = (يجزى عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك) فيه دلالة ظاهرة على أنها كانت قارنة ولم ترفض العمرة رفض ابطال بل تركت الاستمرار في أعمال العمرة بانفرادها وقد سبق تقرير هذا في أول هذا الباب وسبق هناك الاستدلال أيضا بقوله ص = هنا يسعك طوافك لحجك و عمرتك قوله في حديث صفية بنت شيبة (عن عائشة فجعلت أرفع خمارى أحسره عن عنقي فيضرب
[ 157 ]
رجلى بعلة الراحلة قلت له وهل ترى من أحد قالت فأهللت بعمرة) أما قولها أحسره فبكسر السين وضمها لغتان أي أكشفه وأزيله وأما قولها بعلة الراحلة فالمشهور في اللغة أنه بباء موحدة ثم عين مهملة مكسورتين ثم لام مشددة ثم هاء وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى وقع في بعض الروايات نعلة يعنى بالنون وفي بعضها بالباء قال وهو كلام مختل قال قال بعضهم صوابه ثغنة الراحلة أي فخذها يريد ما خشن من مواضع مباركها قال أهل اللغة كان ما ولى الأرض من كل ذي أربع إذا برك فهو ثغنة قال القاضي ومع هذا فلا يستقيم هذا الكلام ولا جوابها لأخيها بقولها وهل ترى من أحد ولأن رجل الراكب قل ما تبلغ ثغنة الراحلة قال وكل هذا وهم قال والصواب فيضرب رجلى بنعلة السيف يعنى أنها لما حسرت خمارها ضرب أخوها رجلها بنعلة السيف فقالت وهل ترى من أحد هذا كلام القاضي قلت ويحتمل أن المراد فيضرب رجلى بسبب الراحلة أي يضرب رجلى عامدا لها في صورة من يضرب الراحلة ويكون قولها بعلة معناه بسبب والمعنى أنه يضرب رجلها بسوط أو عصا أو غير ذلك حين تكشف خمارها عن عنقها غيرة عليها فتقول له هي وهل ترى من أحد أي نحن في خلاء ليس هنا أجنبي أستتر منه وهذا التأويل متعين أو كالمتعين لأنه مطابق للفظ الذي صحت به الرواية وللمعنى ولسياق الكلام فتعين اعتماده والله أعلم قولها (وهو بالحصبة) هو بفتح الحاء واسكان الصاد المهملتين أي بالمحصب قولها (فلقيني رسول الله ص = وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا مصعدة وهو منهبط منها) وقالت في الرواية الأخرى (فجئنا رسول الله ص = وهو في منزله فقال هل فرغت فقلت نعم فاذن في أصحابه فخرج فمر بالبيت وطاف) وفي الرواية الأخرى (فأقبلنا حتى أتينا رسول الله ص = وهو بالحصبة) وجه الجمع بين هذه الروايات أنه ص = بعث عائشة مع أخيها بعد نزوله المحصب وواعدها أن تلحقه بعد اعتمارها ثم خرج هو ص = بعد ذهابها فقصد البيت ليطوف طواف الوداع
[ 158 ]
ثم رجع بعد فراغه من طواف الوداع وكل هذا في الليل وهي الليلة التي تلى ايام التشريق فلقيها ص = وهو صادر بعد طواف الوداع وهي داخلة لطواف عمرتها ثم فرغت من عمرتها ولحقته ص = وهو بعد في منزله بالمحصب وأما قولها فأذن في أصحابه فخرج فمر بالبيت وطاف فيتأول على أن في الكلام تقديما وتأخيرا وأن طوافه ص = كان بعد خروجها الى العمرة وقبل رجوعها وأنه فرغ قبل طوافها للعمرة قوله في حديث جابر (أن عائشة عركت) هو بفتح العين والراء ومعناه حاضت يقال عركت تعرك عروكا كقعدت تقعد قعودا قوله (أهللنا يوم التروية) وهو اليوم الثامن من ذي الحجة وسبق بيانه وفيه دليل لمذهب الشافعي وموافقيه أن من كان بمكة وأراد الاحرام بالحج استحب
[ 159 ]
له أن يحرم يوم التروية ولا يقدمه عليه وسبقت المسألة ومذاهب العلماء فيها في أوائل كتاب الحج قوله ص = (هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج) هذا الغسل هو الغسل للاحرام وقد سبق بيانه وأنه يستحب لكل من أراد الاحرام بحج أو عمرة سواء الحائض وغيرها قوله (حتى إذا طهرت) بفتح الطاء وضمها والفتح أفصح قوله (حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال قد حللت من حجك وعمرتك جميعا) هذا صريح في أن عمرتها لم تبطل ولم تخرج منها وأن قوله ص = ارفضي عمرتك ودعى عمرتك متأول كما سبق بيانه واضحا في أوائل هذا الباب قوله (حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال قد حللت من حجك وعمرتك جيمعا) يستنبط منه ثلاث مسائل حسنة أحداها أن عائشة رضي الله عنها كانت قارنة ولم تبطل عمرتها وأن الرفض المذكور متأول كما سبق والثانية أن القارن يكفيه طواف واحد وسعواحد وهو مذهب الشافعي والجمهور وقال أبو حنيفة وطائفة يلزمه طوافان وسعيان والثالثة أن السعي بين الصفا والمروة يشترط وقوعه بعد طواف صحيح وموضع الدلالة أن رسول الله ص = أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت ولم تسع كمالم تطف فلو لم يكن السعي متوقفا على تقدم الطواف عليه لما أخرته واعلم أن طهر عائشة
[ 160 ]
هذا المذكور كان يوم السبت وهو يوم النحر في حجة الوداع وكان ابتداء حيضها هذا يوم السبت أيضا لثلاث خلون من ذي الحجة سنة عشر ذكره أبو محمد بن حزم في كتاب حجة الوداع قوله (وكان رسول الله ص = رجلا سهلا حتى إذا هويت الشئ تابعها عليه) معناه إذا هويت شيئا لا نقص فيه في الدين مثل طلبها الاعتمار وغيره أجابها إليه وقوله سهلا اي سهل الخلق كريم الشمائل لطيفا ميسرا في الخلق كما قال الله تعالى عنه لعلى خلق عظيم وفيه حسن معاشر الأزواج قال الله تعالى بالمعروف لا سيما فيما كان من باب الطاعة والله أعلم قوله (خرجنا مع رسول الله ص = مهلين بالحج معنا النساء والولدان) الولدان هم الصبيان ففيه صحة حج الصبى والحج به ومذهب مالك والشافعي وأحمد والعلماء كافة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم أنه يصح حج الصبي ويثاب عليه ويترتب عليه أحكام حج البالغ الا أنه لا يجزيه عن فرض الاسلام فإذا بلغ بعد ذلك واستطاع لزمه فرض
[ 161 ]
الاسلام وخالف أبو حنيفة الجمهور فقال لا يصح له احرام ولا حج ولا ثواب فيه ولا يترتب عليه شئ من أحكام الحج قال وإنما يحج به ليتمرن ويتعلم ويتجنب محظوراته للتعلم قال وكذلك لا تصح صلاته وإنما يؤمر بها لما ذكرناه وكذلك عنده سائر العبادات والصواب مذهب الجمهور لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة رفعت صبيا فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم والله أعلم قوله (ومسسنا الطيب) هو بكسر السين الأولى هذه اللغة المشهورة وفي لغة قليلة بفتحها حكاها أبو عبيد والجوهري قال الجوهرى يقال مسست الشئ بكسر السين أمسه بفتح الميم مسا فهذه اللغة الفصيحة قال وحكى أبو عبيدة مسست الشئ بالفتح أمسه بضم الميم قال وربما قالوا مست الشئ يحذفون منه السين الأولى ويحولون كسرتها الى الميم قال ومنهم من لا يحول ويترك الميم على حالها مفتوحة قوله (وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة) يعنى القارن منا وأما المتمتع فلا بد له من السعي بني الصفا والمروة في الحج بعد رجوعه من عرفات وبعد طواف الافاضة قوله فأمرنا رسول الله ص (أن نشترك في الابل والبقر كل سبعة منا في بدنة) البدنة تطلق على البعير والبقرة والشاة لكن غالب استعمالها في البعير والمراد بها ههنا البعير والبقرة وهكذا قال العلماء تجزى البدنة من الابل والبقر كل واحدة منهما عن سبعة ففي هذا الحديث دلالة لاجزاء كل واحدة منهما عن سبعة أنفس وقيامها عن مقام سبع شياه وفيه دلالة لجواز الإشتراك في الهدى والأضحية وبه قال الشافعي وموافقوه فيجوز عند الشافعي اشتراك السبعة في بدنة سواء كانوا متفرقين أو مجتمعين وسواء كانوا مفترضين أو متطوعين وسواء كانوا متقربين كلهم أو كان بعضهم متقربا وبعضهم يريد اللحم روى هذا عن
[ 162 ]
ابن عمر وأنس وبه قال أحمد وقال مالك يجوز أن كانوا متطوعين ولا يجوز ان كانوا مفترضين وقال أبو حنيفة ان كانوا متقربين جاز سواء اتفقت قربتهم أو اختلفت وان كان بعضهم متقربا وبعضهم يريد اللحم لم يصح للاشتراك قوله (أمرنا النبي ص = لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا الى منى قال فأهللنا من الأبطح) الأبطح هو بطحاء مكة وهو متصل بالمحصب وقوله إذا توجهنا الى منى يعنى يوم التروية كما صرح به في الرواية السابقة وفيه دليل لمذهب الشافعي وموافقيه أن الأفضل للمتمتع وكل من أراد الاحرام بالحج من مكة أن لا يحرم به الا يوم التروية وقال مالك وآخرون يحرم من أول ذي الحجة وسبقت المسألة بأدلتها أما قوله فأهللنا من الابطح فقد يستدل به من يجوز للمكي والمقيم بها الاحرام بالحج من الحرم وفي المسألة وجهان لأصحابنا أصحهما لا يجوز أن يحرم بالحج الا من داخل مكة وأفضله من باب داره وقيل من المسجد الحرام والثاني يجوز من مكة ومن سائر الحرم وقد سبقت المسألة في باب المواقيت فمن قال بالثاني احتج بحديث جابر هذا لأنهم أحرموا من الابطح وهو خارج مكة لكنه من الحرم ومن قال بالأول وهو الأصح قال انما أحرموا من الأبطح لأنهم كانوا نازلين به وكل من كان دون الميقات المحدود فميقاته منزله كما سبق في باب المواقيت والله أعلم قوله (لم يطف رسول الله ص = ولا أصحابه بين الصفا والمروة الا طوافا واحدا وهو طوافه الأول) يعنى النبي
[ 163 ]
ص = ومن كان من أصحابه قارنا فهؤلاء لم يسعوا بين الصفا والمروة الا مرة واحدة وأما من كان متمتعا فانه سعى سعيين سعيا لعمرته ثم سعيا آخر لحجة يوم النحر وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة للشافعي وموافقيه في أن القارن ليس عليه الا طواف واحد للافاضة وسعى واحد وممن قال بهذا ابن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة وطاوس وعطاء والحسن البصري ومجاهد ومالك وبان الماجشون وأحمد واسحق وداود وابن المنذر وقالت طائفة يلزمه طوافان وسعيان وممن قاله الشعبي والنخعي وجابر بن زيد وعبد الرحمن بن الأسود والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وحكى ذلك عن علي وابن مسعود قال ابن المنذر لا يثبت هذا عن علي رضي الله عنه قوله (صبح رابعة) هو بضم الصاد وكسرها قوله (فأمرنا أن نحل قال عطاء قال حلوا وأصيبوا النساء قال عطاء ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم) معناه لم يعزم عليهم في وطء النساء بل أباحه ولم يوجبه وأما الاحلال فعزم فيه على من لم يكن معه هدى قوله (فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنى) هو اشارة الى قرب العهد بوطء النساء قوله
[ 164 ]
(فقدم على من سعايته فقال بم أهللت قال بما أهل به النبي ص = فقال له رسول الله ص = فأهد وامكث حراما قال وأهدى له علي رضي الله عنه هديا) السعاية بكسر السين قال القاضي عياض قوله من سعايته أي من عمله في السعي في الصدقات قال وقال بعض علمائنا الذي في غير هذا الحديث أنه انما بعث عليا رضي الله عنه أميرا لا عاملا على الصدقات إذ لا يجوز استعمال بني هاشم على الصدقات لقوله ص = للفضل بن عباس وعبد المطلب ابن ربيعة حين سألاه ذلك ان الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ولم يستعملهما قال القاضي يحتمل أن عليا رضي الله عنه ولى الصدقات وغيرها احتسابا أو أعطى عمالته عليها من غير الصدقة قال وهذا أشبه لقوله من سعايته والسعاية تختص بالصدقة هذا كلام القاضي وهذا الذي قاله حسن الا قوله ان السعاية تختص بالعمل على الصدقة فليس كذلك لأنها تستعمل في مطلق الولاية وان كان أكثر استعمالها في الولاية على الصدقة ومما يدل لما ذكرته حديث حذيفة السابق في كتاب الايمان من صحيح مسلم قال في حديث رفع الأمانة ولقد أتى على زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه يعنى الوالي عليه والله أعلم قوله (فقدم علي رضي الله عنه من سعايته فقال بم أهللت قال بما أهل به النبي ص = فقال له النبي ص = فاهد وامكث حراما قال وأهدى له على هديا) ثم ذكر مسلم بعد هذا بقليل حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قدمت على رسول الله ص = وهو منيخ بالبطحاء فقال لي حججت فقلت نعم فقال بم أهللت قال قلت لبيك باهلال كاهلال النبي ص = قال قد أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل وفي الرواية الأخرى عن أبي موسى أيضا أن النبي ص = قال له بم أهللت قال أهللت باهلال النبي ص = قال هل سقت من هدى قلت لا قال طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل هذان الحديثان متفقان على صحة الاحرام معلقا وهو أن يحرم
[ 165 ]
احراما كاحرام فلان فينعقد احرامه ويصير محرما بما أحرم به فلان واختلف آخر الحديثين في التحلل فأمر عليا بالبقاء على احرامه وأمر أبا موسى بالتحلل وانما اختلف آخرهما لأنهما أحرما كاحرام النبي ص = وكان مع النبي ص = الهدى فشاركه على في أن معه الهدى فلهذا أمره بالبقاء على احرامه كما بقى النبي ص = على احرامه بسبب الهدى وكان قارنا وصار علي رضي الله عنه قارنا وأما أبو موسى فلم يكن معه هدى فصار له حكم النبي ص = لو لم يكن معه هدى وقد قال النبي ص أنه لولا الهدى لجعلها عمرة وتحلل فأمر أبا موسى بذلك فلذلك اختلف في أمره ص لهما فاعتمد ما ذكرته فهو الصواب وقد تأولهما الخطابى والقاضى عياض تأويلين غير مرضيين والله أعلم قوله (وأهدى له على هديا) يعنى هديا اشتراه لا أنه من السعاية على الصدقة وفي هذين الحديثين دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يصح الاحرام معلقا بأن ينوى احراما كاحرام زيد فيصير هذا المعلق كزيد فان كان زيد محرما بحج كان هذا بالحج أيضا وان كان بعمرة فبعمرة وان كان بهما فبهما وان كان زيد أحرم مطلقا صار هذا محرما احراما مطلقا فيصرفه الى ما شاء من حج أو عمرة ولا يلزمه موافقة زيد في الصرف ولهذه المسألة فروع كثيرة مشهورة في كتب الفقة وقد استقصيتها في شرح المهذب ولله الحمد قوله (فقال سراقة بن مالك بن جعشم يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد قال لأبد) وفي الرواية الأخرى فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد فشبك رسول الله ص = أصابعه واحدة في الأخرى وقال
[ 166 ]
دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد وأبد واختلف العلماء في معناه على أقوال أصحها وبه قال جمهورهم معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج الى يوم القيامة والمقصود به بيان ابطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في اشهر الحج والثاني معناه جواز القران وتقدير الكلام دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج الى يوم القيامة والثالث تأويل بعض القائلين بأن العمرة ليست واجبة قالوا معناه سقوط العمرة قالوا ودخولها في الحج معناه سقوط وجوبها وهذا ضعيف أو باطل وسياق الحديث يقتضى بطلانه والرابع تأويل بعض أهل الظاهر أن معناه جواز فسخ الحج الى العمرة وهذا ايضا ضعيف قوله (حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج) فيه دليل للشافعي وموافقيه أن المتمتع وكل من كان بمكة وأراد الاحرام بالحج فالسنة له أن يحرم يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة وقد سبقت المسألة مرات وقوله (جعلنا مكة بظهر) معناه أهللنا عند ارادتنا الذهاب الى منى قوله (حدثنى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه حج مع رسول الله ص عام ساق الهدى معه وقد أهلوا بالحج مفردا فقال رسول الله ص = أحلوا من احرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا الذي قدمتم بها متعة) اعلم أن هذا الكلام فيه تقديم وتأخير وتقديره وقد أهلوا بالحج
[ 167 ]
مفردا فقال رسول الله ص = اجعلوا احرامكم عمرة وتحللوا بعمل العمرة وهو معنى فسخ الحج الى العمرة وقد اختلف العلماء في هذا الفسخ هل هو خاص للصحابة تلك السنة خاصة أم باق لهم ولغيرهم الى يوم القيامة فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر ليس خاصا بل هو باق الى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بحج وليس معه هدى أن يقلب احرامه عمرة ويتحلل بأعمالها وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف هو مختص بهم فتلك السنة لا يجوز بعدها وانما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج ومما يستدل به للجماهير حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي ذكره مسلم بعده هذا بقليل كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد ص = خاصة يعنى فسخ الحج الى العمرة وفي كتاب النسائي عن الحارث ابن بلال عن أبيه قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة فقال بل لنا خاصة وأما الذي في حديث سراقة ألعامنا هذا أم لأبد فقال لأبد أبد فمعناه جواز الاعتمار في أشهر الحج كما سبق تفسيره فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث أن العمرة في أشهر الحج جائزة الى يوم القيامة وكذلك القران وأن فسخ الحج الى العمرة مختص بتلك السنة والله أعلم قول ص (حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا الذي قدمتم بها متعة قالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال افعلوا ما آمركم به فلولا أنى سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم به) هذا دليل ظاهر لمذهب الشافعي ومالك وموافقيهما في ترجيح الافراد وان غالبهم كانوا محرمين بالحج ويتأول رواية من روى متمتعين أنه أراد في آخر الامر صاروا متمتعين كما سبق تقريره في أوائل هذا الباب
[ 168 ]
وفيه دليل للشافعي وموافقيه في أن من كان بمكة وأراد الحج انما يحرم به من يوم التروية وقد ذكرنا المسألة مرات قوله (كان ابن عباس يأمرنا بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال على يدى دار الحديث تمتعنا مع رسول الله ص = فلما قام عمر قال ان الله يحل لرسوله ما شاء بما شاء وان القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله وأبتوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة الى أجل الا رجمته بالحجارة) وفي الرواية الآخرى عن عمر رضي الله عنه فافصلوا حجكم من عمرتكم فانه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم وذكر بعد هذا من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يفتى بالمتعة ويحتج بأمر
[ 169 ]
النبي ص = له بذلك وقول عمر رضي الله عنه أن نأخذ بكتاب الله فان الله تعالى أمر بالاتمام وذكر عن عثمان أنه كان ينهى عن المتعة أو العمرة وأن عليا خالفه في ذلك وأهل بهما جميعا وذكر قوأبي ذر رضي الله عنه كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد ص = خاصة وفي رواية رخصة وذكر قول عمران بن حصين أن النبي ص = أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تفسخ ذلك وفي رواية جمع بني حج وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب ولم ينه قاله المازرى اختلف في المتعة التي نهى عنها عمر في الحج فقيل هي فسخ الحج الى العمرة وقيل هي العمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه وعلى هذا انما نهى عنها ترغيبا في الافراد الذي هو أفضل لا أنه يعتقد بطلانها أو تحريمها وقال القاضي عياض ظاهر حديث جابر وعمران وأبي موسى أن المتعة التي اختلفوا فيها انما هي فسخ الحج الى العمرة قال ولهذا كان عمر رضي الله عنه يضرب الناس عليها ولا يضربهم على مجرد التمتع في أشهر الحج وانما ضربهم على ما اعتقده هو وسائر الصحابة أن فسخ الحج الى العمرة كان مخصوصا في تلك السنة للحكمة التي قدمنا ذكرها قال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله الله تعالى فمن تمتع بالعمرة الى الحج فما استيسر من الهدى هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج قال ومن التمتع أيضا القران لأنه تمتع بسقوط سفره للنسك الآخر من بلده قال ومن التمتع أيضا فسخ الحج الى العمرة هذا كلام القاضي قلت والمختار أن عمر وعثمان وغيرهما انما نهو عن المتعة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامة ومرادهم نهى أولوية للترغيب في الأفراد لكونه أفضل وقد انعقد الاجماع بعد هذا على جواز الافراد والتمتع والقران من غير كراهة وانما اختلفوا في الأفضل منها وقد سبقت هذه المسألة في أوائل هذا الباب مستوفاة والله أعلم وأما قوله في متعة النكاح وهي نكاح المرأة الى أجل فكان مباحا ثم نسخ يوم
[ 170 ]
خيبر ثم أبيح يوم الفتح ثم نسخ في أيام الفتح واستمر تحريمه الى الآن والى يوم القيامة وقد كان فيه خلاف في العصر الأول ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه وسيأتى بسط أحكامه في كتاب النكاح ان شاء الله تعالى حجة النبي ص فيه حديث جابر رضي الله عنه وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد وهو من افراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه ورواه أبو داود كرواية مسلم قال القاضي وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءا كبيرا وخرج فيه من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه وقد سبق الاحتجاج بنكت منه في أثناء شرح الاحاديث السابقة وسنذكر ما يحتاج الى التنبيه عليه على ترتيبه ان شاء الله تعالى قوله (عن جعفر بن محمد عن أبيه قال دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى الى فقلت أنا محمد بن علي بن حسين فاهوى بيده الى رأسي فنزع زرى الاعلى ثم نزع زرى الاسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا يومئذ غلام شاب فقال مرحبا بك يا ابن أخي سل عما شئت فسألته وهو أعمى فحضر وقت الصلاة فقام في نساجة ملتحفا بها كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه الى جنبه على
[ 171 ]
المشجب فصلى بنا) هذه القطعة فيها فوائد منها أنه يستحب لمن ورد عليه زائرون أو ضيفان ونحوهم أن يسأل عنهم لينزلهم منازلهم كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أمرنا رسول الله ص = أن ننزل الناس منازلهم وفيه اكرام أهل بيت رسول الله ص = كما فعل جابر بمحمد بن علي ومنها استحباب قوله للزائر والضيف ونحوهما مرحبا ومنها ملاطفة الزائر بما يليق به وتأنيسه وهذا سبب حل جابر زرى محمد بن علي ووضع يده بين ثدييه وقوله وأنا يومئذ غلام شاب فيه تنبيه على أن سبب فعل جابر ذلك التأنيس لكونه صغيرا وأما الرجل الكبير فلا يحسن ادخال اليد في جيبه والمسح بين ثدييه ومنها جواز امامة الاعمى البصراء ولا خلاف في جواز ذلك لكن اختلفوا في الأفضل على ثلاثة مذاهب وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا أحدها امامة الأعمى أفضل من امامة البصير لأن الأعمى أكمل خشوعا لعدم نظره الى الملهيات والثاني البصير افضل لأنه أكثر احترازا من النجاسات والثالث هما سواء لتعادل فضيلتهما وهذا الثالث هو الأصح عند أصحابنا وهو نص الشافعي ومنها أن صاحب البيت أحق بالامامة من غيره ومنها جواز الصلاة في ثوب واحد مع التمكن من الزيادة عليه ومنها جواز تسمية الثدى للرجل وفيه خلاف لأهل اللغة منهم من جوزه كالمرأة ومنهم من منعه وقال يختص الثدى بالمرأة ويقال في الرجل ثندؤة وقد سبق ايضاحه في أوائل كتاب الايمان في حديث الرجل الذي قتل نفسه فقال فيه النبي ص = انه من أهل النار وقوله (قام في نساجة) هي بكسر النون وتخفيف السين المهملة وبالجيم هذا هو المشهور في نسخ بلادنا ورواياتنا لصحيح مسلم وسنن أبي داود ووقع في بعض النسخ في ساجة بحذف النون ونقله القاضي عياض عن رواية الجمهور قال وهو الصواب قال والساجة والساج جميعا ثوب كالطيلسان وشبهه قال ورواية النون وقعت في رواية الفارسى قال ومعناه ثوب ملفق قال قال بعضهم النون خطأ وتصحيف قلت ليس كذلك بل كلاهما صحيح ويكون ثوبا ملفقا على هيأة الطيلسان قال القاضي في المشارق الساج والساجة الطيلسان وجمعه سيجان قال وقيل هي الخضر منها خاصة وقال الأزهري هو طيلسان مقور ينسج كذلك قال وقيل هو الطيلسان الحسن قال ويقال الطيلسان بفتح اللام وكسرها وضمها وهي أقل وقوله (ورداؤه الى جنبه على المشجب) هو بميم مسكورة ثم شين معجمة ساكنة ثم جيم ثم باء موحدة وهو واسم لاعواد يوضع عليها الثياب ومتاع البيت
[ 172 ]
قوله (أخبرني عن حجة رسول الله ص =) هي بكسر الحاء وفتحها والمراد حجة الوداع قوله (أن رسول الله ص = مكث تسع سنين لم يحج) يعنى مكث بالمدينة بعد الهجرة قوله (ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله ص = حاج) معناه أعلمهم بذلك وأشاعه بينهم ليتاهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والاحكام ويشهدوا أقواله وأفعاله ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الاسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد وفيه أنه يستحب للامام ايذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها قوله (كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ص =) قال القاضي هذا مما يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج لأنه ص = أحرم بالحج وهم لا يخالفونه ولهذا قال جابر وما عمل من شئ عملنا به ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة ما لم يتحلل حتى أغضبوه واعتذر إليهم ومثله تعليق على وأبي موسى احرامهما على احرام النبي ص = قوله ص = لاسماء بنت عميس وقد ولدت (اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمى) فيه استحباب غسل الاحرام للنفساء وقد سبق بيانه في باب مستقل فيه أمر الحائض والنفساء والمستحاضة بالاستثفار وهو أن تشد في وسطها شيئا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها وهو شبيه بثفر الدابة بفتح الفاء وفيه صحة احرام النفساء وهو مجمع عليه
[ 173 ]
والله أعلم قوله (فصلى ركعتين) فيه استحباب ركعتي الاحرام وقد سبق الكلام فيه مبسوطا قوله (ثم ركب القصواء) هي بفتح القاف وبالمد قال القاضي ووقع في نسخة العذري القصوى بضم القاف والقصر قال وهو خطأ قال القاضي قال ابن قتيبة كانت للنبي ص = نوق القصواء والجدعاء والعضباء قال أبو عبيد العضباء اسم لناقة البني ص = ولم تسم بذلك لشئ أصابها قال القاضي قد ذكر هنا انه ركب القصواء وفي آخر هذا الحديث خطب على القصواء وفي غير مسلم خطب على ناقته الجدعاء وفي حديث آخر على ناقة خرماء وفي آخر العضباء وفي حديث آخر كانت له ناقة لا تسبق وفي آخر تسمى مخضرمة وهذا كله يدل على أنها ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة وان هذا كان اسمها أو وصفها لهذا الذي بها خلاف ما قال أبو عبيد لكن يأتي في كتاب النذر أن القصواء غير العضباء كما سنبينه هناك قال الحربى العضب والجدع والخرم والقصو والخضرمة في الآذان قال ابن الأعرابي القصواء التي قطع طرف أذنها والجدع أكثر منه وقال الأصمعى والقصو مثله قال وكل قطع في الأذن جدع فان جاوز الربع فهي عضباء والمخضرم مقطوع الأذنين فان اصطلمتا فهي صلماء وقال أبو عبيد القصواء المقطوعة الأذن عرضا والمخضرمة المستأصلة والمقطوعة النصف فما فوقه وقال الخليل المخضرمة مقطوعة الواحدة والعضباء مشقوقة الأذن قال الحربى فالحديث يدل على أن العضباء اسم لها وان كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها هذا آخر كلام القاضي وقال محمد ابن ابراهيم التيمى التابعي وغيره أن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله ص = والله أعلم قوله (نظرت الى مد بصرى) هكذا هو في جميع النسخ مد بصرى وهو صحيح ومعناه منتهى بصرى وأنكر بعض أهل اللغة مد بصرى وقال الصواب مدى بصرى وليس هو بمنكر بل هما لغتان المد أشهر قوله (بين يديه من راكب وماش) فيه جواز الحج راكبا وماشيا وهو مجمع عليه وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة واجماع الأمة قال الله تعالى واذن في الناس
[ 174 ]
بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر واختلف العلماء في الأفضل منهما فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء الركوب أفضل اقتداء بالنبي ص = ولأنه أعون له على وظائف مناسكه ولانه أكثر نفقه وقال داود ماشيا أفضل لمشقته وهذا فاسد لأن المشقة ليست مطلوبة قوله (وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله) معناه الحث على التمسك بما أخبركم عن فعله في حجته تلك قوله (فأهل بالتوحيد) يعنى قوله لبيك لا شريك لك وفيه اشارة الى مخالفة ما كانت الجاهلية تقوله في تلبيتها من لفظ الشرك وقد سبق ذكر تلبيتهم في باب التلبية قوله (فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله ص = شيئا منه ولزم رسول الله ص = تلبيته) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى فيه اشارة الى ما روى من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر كما روى في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك مرهوبا مرهوبا منك ومرغوبا اليك وعن ابن عمر رضي الله عنه لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء اليك والعمل وعن أنس رضي الله عنه لبيك حقا تعبدا ورقا قال القاضي قال أكثر العلماء المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله ص = وبه قال مالك والشافعي والله أعلم قوله (قال جابر لسنا ننوى الا الحج لسنا نعرف العمرة) فيه دليل لمن قال بترجيح الافراد وقد سبقت المسألة مستقصاة في أول الباب السابق قوله (حتى أتينا البيت) فيه بيان أن السنة للحاج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف بعرفات ليطوفوا
[ 175 ]
للقدوم وغير ذلك قوله (حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا) فيه أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يسن له طواف القدوم وهو مجمع عليه وفيه أن الطواف سبع طوافات وفيه أن السنة أيضا الرمل في الثلاث الأول ويمشى على عادته في الأربع الأخيرة قال العلماء الرمل هو أسرع المشى مع تقارب الخطا وهو الخبب قال أصحابنا ولا يستحب الرمل الا في طواف واحد في حج أو عمرة أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل بلا خلاف ولا يسرع أيضا في كل طواف حج وانما يسرع في واحد منها وفيه قولان مشهوران للشافعي أصحهما طواف يعقبه سعى ويتصور ذلك في طواف القدوم ويتصور في طواف الافاضة ولا يتصور في طواف الوداع والقول الثاني أنه لا يسرع الا في طواف القدوم سواء أراد السعي بعده أم لا ويسرع في طواف العمرة إذ ليس فيها الا طواف واحد والله أعلم قال أصحابنا والاضطباع سنة في الطواف وقد صح فيه الحديث في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الايمن ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر ويكون منكبه الايمن مكشوفا قالوا وانما يسن الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل على ما سبق تفصيله والله أعلم وأما قوله استلم الركن فمعناه مسحه بيده وهو سنة في كل طواف وسيأتى شرحه واضحا حيث ذكره مسلم بعد هذا ان شاء الله تعالى قوله (ثم نفر الى مقام ابراهيم عليه السلام فقرأ واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت) هذا دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغى لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلى خلف المقام ركعتي الطواف واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان وعندنا فيه خلاف حاصله ثلاثة أقوال أصحها أنهما سنة والثاني أنهما واجبتان والثالث إن كان طوافا واجبا فواجبتان والا فسنتان وسواء قلنا واجبتان أو سنتان لو تركهما لم يبطل طوافه والسنة أن يصليهما خلف المقام فان لم يفعل ففي الحجر والا ففي المسجد والا ففي مكة وسائر الحرم ولو صلاهما في وطنه وغيره من أقاصى الأرض جاز وفاتته الفضيلة ولا تفوت هذه الصلاة ما دام حيا ولو أراد أن يطوف أطوفة استحب أن يصلى عقب كل طواف
[ 176 ]
ركعتيه فلو أراد أن يطوف أطوفة بلا صلاة ثم يصلى بعد الأطوفة لكل طواف ركعتيه قال أصحابنا يجوز ذلك وهو خلاف الأولى ولا يقال مكروه وممن قال بهذا المسور بن مخرمة وعائشة وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وأحمد واسحاق وأبو يوسف وكرهه ابن عمر والحسن البصري والزهرى ومالك والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر ونقله القاضي عن جمهور الفقهاء قوله (فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره الا عن النبي ص = كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون) معنى هذا الكلام أن جعفر بن محمد روى هذا الحديث عن أبيه عن جابر قال كان أبي يعنى محمدا يقول أنه قرأ هاتين السورتين قال جعفر ولا أعلم أبي ذكر تلك القراءة عن قراءة جابر في صلاة جابر بل عن جابر عن قراءة النبي ص = في صلاة هاتين الركعتين قوله (قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون) معناه قرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون وفي الثانية بعد الفاتحة قل هو الله أحد وأما قوله لا أعلم ذكره الا عن النبي ص = ليس هو شكا في ذلك لأن لفظة العلم تنافى الشك بل جزم برفعه الى النبي ص = وقد ذكره البيهقى باسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي ص = طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد قوله (ثم رجع الى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب الى الصفا) فيه دلالة لما قاله الشافعي وغيره من العلماء أنه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف وصلاته خلف المقام أن يعود الى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا ليسعى واتفقوا على أن هذا الاستلام ليس بواجب وانما هو سنة لو تركه لم يلزمه دم قوله (ثم خرج من الباب الى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ أن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به فبدأ
[ 177 ]
بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبر وقال لا إله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير لا اله الا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل الى المروة) في هذا اللفظ أنواع من المناسك منها أن السعي يشترط فيه أن يبدأ من الصفا وبه قال الشافعي ومالك والجمهور وقد ثبت في رواية النسائي في هذا الحديث باسناد صحيح أن النبي ص = قال ابدؤا بما بدأ الله به هكذا بصيغة الجمع ومنها أنه ينبغى أن يرقى على الصفا والمروة وفي هذا الرقى خلاف قال جمهور أصحابنا هو سنة ليس بشرط ولا واجب فلو تركه صح سعيه لكن فاتته الفضيلة وقال أبو حفص بن الوكيل من أصحابنا لا يصح سعيه حتى يصعد على شئ من الصفا والصواب الأول قال أصحابنا لكن يشترط أن لا يترك شيئا من المسافة بين الصفا والمروة فليلصق عقبيه بدرج الصفا وإذا وصل المروة ألصق أصابع رجليه بدرجها وهكذا في المرات السبع يشترط في كل مرة أن يلصق عقبيه بما يبدأ منه وأصابعه بما ينتهى إليه قال أصحابنا يستحب أن يرقى على الصفا والمروة حتى يرى البيت إن أمكنه ومنها أنه يسن أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة ويذكر الله تعالى بهذا الذكر المذكور ويدعو يكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات هذا هو المشهور عند أصحابنا وقال جماعة من أصحابنا يكرر الذكر ثلاثا والدعاء مرتين فقط والصواب الأول قوله ص = (وهزم الأحزاب وحده) معناه هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا بسبب من جهتهم والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله ص = يوم الخندق وكان الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة وقيل سنة خمس قوله (ثم نزل الى المروة حتى
[ 178 ]
انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشي حتى أتى المروة) هكذا هو في النسخ وكذا نقله القاضي عياض عن جميع النسخ قال وفيه اسقاط لفظة لا بد منها وهي حتى انصبت قدماه رمل في بطن الوادي ولا بد منها وقد ثبتت هذه اللفظة في غير رواية مسلم وكذا ذكرها الحميدى في الجمع بين الصحيحين وفي الموطأ حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى خرج منه وهو بمعنى رمل هذا كلام القاضي وقد وقع في بعض نسخ صحيح مسلم حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى كما وقع في الموطأ وغيره والله أعلم وفي هذا الحديث استحباب السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد ثم يمشى باقى المسافة الى المروة على عادة مشيه وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع والمشى مستحب فيما قبل الوادي وبعده ولو مشى في الجميع أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة هذا مذهب الشافعي وموافقيه وعن مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه روايتان احداهما كما ذكر والثانية تجب عليه اعادته قوله (ففعل على المروة مثل ما فعل على الصفا) فيه أنه يسن عليها من الذكر والدعاء والرقى مثل ما يسن على الصفا وهذا متفق عليه قوله (حتى إذا كان آخر طواف على المروة) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن الذهاب من الصفا الى المروة يحسب مرة والرجوع الى الصفا ثانية والرجوع الى المروة ثالثة وهكذا فيكون ابتداء السبع من الصفا وآخرها بالمروة وقال ابن بنت الشافعي وابو بكر الصيرفي من أصحابنا يحسب الذهاب الى المروة والرجوع الى الصفا مرة واحدة فيقع آخر السبع في الصفا وهذا الحديث الصحيح يرد عليهما وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان والله أعلم قوله (فقام سراقة بن مالك بن جعشم
[ 179 ]
فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد) الى آخره هذا الحديث سبق شرحه واضحا في آخر الباب الذي قبل هذا وجعشم بضم الجيم وبضم الشين المعجمة وفتحها ذكره الجوهري وغيره قوله (فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها) فيه انكار الرجل على زوجته ما رآه منها من نقض في دينها لأنه ظن أن ذلك لا يجوز فأنكره قوله (فذهبت الى رسول الله ص = محرشا على فاطمة) التحريش الاغراء والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضى عتابها قوله (قلت إني أهل بما أهل به رسول الله ص =) هذا قد سبق شرحه في الباب قبله وأنه يجوز تعليق الاحرام باحرام كاحرام فلان قوله (فحل الناس كلهم وقصروا الا النبي ص = ومن كان معه هدى) هذا أيضا تقدم شرحه في الباب السابق وفيه اطلاق اللفظ العام وإرادة الخصوص لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدى والمراد بقوله حل الناس كلهم أي معظمهم والهدى باسكان الدال وكسرها وتشديد الياء مع الكسر وتخفف مع الاسكان وأما قوله وقصروا فانما قصروا ولم يلحقوا مع أن الحلق أفضل
[ 180 ]
لأنهم أرادوا أن يبقى شعر يحلق في الحج فلو حلقوا لم يبق شعر فكان التقصير هنا أحسن ليحصل في النسكين إزالة شعر والله أعلم قوله (فلما كان يوم التروية توجهوا الى منى فأهلوا بالحج) يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة سبق بيانه واشتقاقه مرات وسبق أيضا مرات أن الأفضل عند الشافعي وموافقيه أن من كان بمكة وأراد الاحرام بالحج أحرم يوم التروية عملا بهذا الحديث وسبق بيان مذاهب العلماء فيه وفي هذا بيان أن السنة أن لا يتقدم أحد الى منى قبل يوم التروية وقد كره مالك ذلك وقال بعض السلف لا بأس به ومذهبنا أنه خلاف السنة قوله (وركب النبي ص = فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) فيه بيان سنن أحداها أن الركوب في تلك المواطن افضل من المشى كما أنه في جملة الطريق أفضل من المشى هذا هو الصحيح في الصورتين أن الركوب افضل وللشافعي قول آخر ضعيف أن المشى أفضل وقال بعض أصحابنا الأفضل في جملة الحج الركوب الا في مواطن المناسك وهي مكة ومنى ومزدلفة وعرفات والتردد بينهما والسنة الثانية أن يصلى بمنى هذه الصلوات الخمس والثالثة أن يبيت بمنى هذه الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب فلو تركه فلا دم عليه بالاجماع قوله (ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس) فيه أن السنة أن لا يخرجوا من منى حتى تطلع الشمس وهذا متفق عليه قوله (وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة) فيه استحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات الا بعد زوال الشمس وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعا فالسنة أن ينزلوا بنمرة فمن كان له قبة ضربها ويغتسلون للوقوف قبل الزوال فإذا زالت الشمس سار بهم الامام الى مسجد ابراهيم عليه السلام وخطب بهم خطبتين خفيفتين ويخفف الثانية جدا فإذا فرغ منها صلى بهم الظهر والعصر جامعا بينهما فإذا فرغ من الصلاة سار الى الموقف وفي هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها ولا
[ 181 ]
خلاف في جوازه للنازل واختلفوا في جوازه للراكب فمذهبنا جوازه وبه قال كثيرون وكرهه مالك وأحمد وستأتي المسألة مبسوطة في موضعها ان شاء الله تعالى وفيه جواز اتخاذ القباب وجوازها من شعر وقوله (بنمرة) هي بفتح النون وكسر الميم هذا أصلها ويجوز فيها ما يجوز في نظيرها وهو اسكان الميم مع فتح النون وكسرها وهي موضع بجنب عرفات وليست من عرفات قوله (ولا تشك قريش الا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية) معنى هذا أن قريشا كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام وهو جبل في المزدلفة يقال له قزح وقيل ان المشعر الحرام كل المزدلفة وهو بفتح الميم على المشهور وبه جاء القرآن وقيل بكسرها وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات فظنت قريش أن النبي ص يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه فتجاوزه النبي ص = الى عرفات لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله تعالى أفيضوا من حيث أفاض الناس أي سائر العرب غير قريش وانما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم وكانوا يقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه قوله (فأجاز رسول الله ص = حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس) أما أجاز فمعناه جاوز المزدلفة ولم يقف بها بل توجه الى عرفات وأما قوله حتى أتى عرفة فمجاز والمراد قارب عرفات لأنه فسره بقوله وجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها وقد سبق ان نمرة ليست من عرفات وقد قدمنا أن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جميعا خلاف السنة قوله (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس) أما القصواء فتقدم ضبطها وبيانها واضحا في أول هذا الباب وقوله فرحلت هو بتخفيف الحاء أي جعل عليها الرحل وقوله (بطن الوادي) هو وادي عرنة بضم العين وفتح الراء وبعدها نون وليست عرنة من أرض
[ 182 ]
عرفات عند الشافعي والعلماء كافة الا مالكا فقال هي من عرفات وقوله فخطب الناس فيه استحباب الخطبة للامام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع وهو سنة باتفاق جماهير العلماء وخالف فيها المالكية ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة احداها يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهرة والثانية هذه التي ببطن عرنة يوم عرفات والثالثة يوم النحر والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام الشتريق قال أصحابنا وكل هذه الخطب أفراد وبعد صلاة الظهر الا التي يوم عرفات فانها خطبتان وقبل الصلاة قال أصحابنا ويعلمهم في كل خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى والله أعلم قوله ص = (ان دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا) معناه متأكدة التحريم شديدته وفي هذا دليل لضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير قياسا قوله ص = (ألا كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وان أول دم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بنى سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوعة وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فانه موضوع كله) في هذه الجملة ابطال أفعال الجاهلية وبيوعها التي لم يتصل بها قبض وأنه لا قصاص في قتلها وأن الامام وغيره ممن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ينبغى أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب الى قبول قوله والى طيب نفس من قرب عهده بالاسلام وأما قوله ص = تحت قدمى فاشارة الى ابطاله وأما قوله ص = وأن أول دم أضع دم ابن ربيعة فقال المحققون والجمهور اسم هذا الابن اياس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وقيل اسمه حارثه وقيل آدم قال الدارقطني وهو تصحيف وقيل اسمه تمام وممن سماه آدم الزبير
[ 183 ]
ابن بكار قال القاضي عياض ورواه بعض رواة مسلم دم ربيعة بن الحارث قال وكذا رواه أبو داود قيل هو وهم والصواب ابن ربيعة لأن ربيعة عاش بعد النبي ص = الى زمن عمر ابن الخطاب وتأوله أبو عبيد فقال دم ربيعة لأنه ولى الدم فنسبه إليه قالوا وكان هذا الابن المقتول طفلا صغيرا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بنى سعد وبنى ليث بن بكر قاله الزبير بن بكار قوله ص = في الربا (أنه موضوع كله) معناه الزائد على رأس المال كما قاله الله تعالى وان تبتم فلكم رءوس أموالكم وهذا الذي ذكرته ايضاح والا فالمقصود مفهوم من نفس لفظ الحديث لأن الربا هو الزيادة فإذ وضع الربا فمعناه وضع الزيادة والمراد بالوضع الرد والابطال قوله ص = (فاتقوا الله في النساء فانكم أخذتموهن بأمان الله) فيه الحث على مرعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك وقد جمعتها أو معظمها في رياض الصالحين وقوله ص = (أخذتموهن بأمان الله) هكذا هو في كثير من الأصول وفي بعضها بأمانة الله قوله ص = (واستحللتم فروجهن بكلمة الله) قيل معناه قوله تعالى فامساك بمعروف أو تسريح باحسان وقيل المراد كلمة التوحيد وهي لا اله الا الله محمد رسول الله ص = إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم وقيل المراد باباحة الله والكلمة قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهذا الثالث هو الصحيح وبالأول قال الخطابي والهروى وغيرهما وقيل المراد بالكلمة الايجاب والقبول ومعناه على هذا بالكلمة التي أمر الله تعالى بها والله أعلم قوله ص = (ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح) قال المازرى قيل المراد بذلك أن لا يستخلين بالرجال ولم يرد زناها لأن ذلك يوجب جلدها ولأن ذلك حرام مع من يكرهه الزوج ومن لا يكرهه وقال القاضي عياض كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء ولم يكن ذلك عيبا ولا
[ 184 ]
ريبة عندهم فلما نزلت آية الحجاب نهوا عن ذلك هذا كلام القاضي والمختار أن معناه أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له رجلا أجنبيا أو أمراة أو أحدا من محارم الزوجة فالنهى يتناول جميع ذلك وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج الا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه لأن الأصل تحريم دخول منزل الانسان حتى يوجد الاذن في ذلك منه أو ممن أذن له في الاذن في ذلك أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شئ ولا وجدت قرينة لا يحل الدخول ولا الاذن والله أعلم وأما الضرب المبرح فهو الضرب الشديد الشاق ومعناه اضربوهن ضربا ليس بشديد ولا شاق والبرح المشقة والمبرح بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء وفي هذا الحديث اباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب فان ضربها الضرب المأذون فيه فماتت منه وجبت ديتها على عاقلة الضارب ووجبت الكفارة في ماله قوله ص (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وذلك ثابت بالاجماع قوله (فقال باصبعه السبابة يرفعها الى السماء وينكتها الى الناس اللهم اشهد) هكذا ضبطناه ينكتها بعد الكاف تاء مثناة فوق قال القاضي كذا الرواية بالتاء المثناة فوق قال وهو بعيد المعنى قال قيل صوابه ينكبها بباء موحدة قال ورويناه في سنن أبي داود بالتاء المثناة من طريق ابن الاعرابي وبالموحدة من طريق أبي بكر التمار ومعناه يقلبها ويرددها الى الناس مشيرا إليهم ومنه نكب كنانته إذا قلبها هذا كلام القاضي قوله (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا) فيه أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر
[ 185 ]
هناك في ذلك اليوم وقد أجمعت الأمة عليه واختلفوا في سببه فقيل بسبب النسك وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وقال أكثر أصحاب الشافعي هو بسبب السفر فمن كان حاضرا أو مسافرا دون مرحلتين كاهل مكة لم يجز له الجمع كما لا يجوز له القصر وفيه أن الجامع بين الصلاتين يصلي الأولى أولا وأنه يؤذن للأولى وأنه يقيم لكل واحدة منهما وأنه لا يفرق بينهما وهذا كله متفق عليه عندنا قوله (ثم ركب رسول الله ص حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء الى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل وافقا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص) في هذا الفصل مسائل وآداب للوقوف منها أنه إذا فرع من الصلاتين عجل الذهاب الى الموقف ومنها أن الوقوف راكبا أفضل وفيه خلاف بين العلماء وفي مذهبنا ثلاثة أقوال أصحها أن الوقوف راكبا أفضل والثاني غير الراكب أفضل والثالث هما سواء ومنها أنه يستحب أن يقف عند الصخرات المذكورات وهي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات فهذا هو الموقف المستحب وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف الا فيه فغلط بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات وأن الفضيلة في موقف رسول اله ص = عند الصخرات فان عجز فليقرب منه بحسب الامكان وسيأتي في آخر الحديث بيان حدود عرفات ان شاء الله تعالى عند قوله ص وعرفة كلها موقف ومنها استحباب استقبال الكعبة في الوقوف ومنها أنه ينبغي أن يبقى في الوقوف حتى تغرب الشمس ويتحقق كمال غروبها ثم يفيض الى مزدلفة فلو أفاض قبل غروب الشمس صح وقوفه وحجه ويجبر ذلك بدم وهل الدم واجب أم مستحب فيه قولان للشافعي أصحهما أنه سنة والثاني واجب وهما مبنيان على أن الجمع بين الليل والنهار واجب على من وقف بالنهار أم لا وفيه قولان أصحهما سنة والثاني واجب وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس
[ 186 ]
يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني يوم النحر فمن حصل بعرفات في جزء من هذا الزمان صح وقوفه ومن فاته ذلك فاته الحج هذا مذهب الشافعي وجماهير العلماء وقال مالك لا يصح الوقوف في النهار منفردا بل لا بد من الليل وحده فان اقتصر على الليل كفاه ان اقتصر على النهار لم يصح وقوفه وقال أحمد يدخل وقت الوقوف من الفجر يوم عرفة وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركن لا يصح الحج الا به والله أعلم وأما قوله (وجعل حبل المشاة بين يديه) فروى حبل بالحاء المهملة واسكان الباء وروى جبل بالجيم وفتح الباء قال القاضي عياض رحمه الله الأول أشبه بالحديث وحبل المشاة أي مجتمعهم وحبل الرمل ما طال منه وضخم وأما بالجيم فمعناه طريقهم وحيث تسلك الرجالة وأما قوله (فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص) هكذا هو في جميع النسخ وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ قال قيل لعل صوابه حين غاب القرص هذا كلام القاضي ويحتمل أن الكلام على ظاهره ويكون قوله حتى غاب القرص بيانا لقوله غربت الشمس وذهبت الصفرة فان هذه تطلق مجازا على مغيب معظم القرص فأزال ذلك الاحتمال بقوله حتى غاب القرص والله أعلم قوله وأردف أسامة خلفه فيه جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة وقد تظاهرت به الأحاديث قوله (وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله) معنى شنق ضم وضيق وهو بتخفيف النون ومورك الرحل قال الجوهرى قال أبو عبيد المورك والموركة يعنى بفتح الميم وكسر الراء هو الموضع الذي يثنى الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب وضبطه القاضي بفتح الراء قال وهو قطعة ادم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب بالمشاة وبأصحاب الدواب الضعيفة قوله (ويقول بيده السكينة السكينة) مرتين منصوبا أي الزموا السكينة وهي الرفق والطمأنينة ففيه أن السكينة في الدفع من عرفات سنة فإذا وجد فرجة يسرع كما ثبت في الحديث الآخر
[ 187 ]
قوله (كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة) الحبال هنا بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل وهو التل اللطيف من الرمل الضخم وقوله (حتى تصعد) هو بفتح الياء المثناة فوق وضمها يقال صعد في الحبل وأصعد ومنه قوله تعالى إذ تصعدون وأما المزدلفة فمعروفة سميت بذلك من التزلف والازدلاف وهو التقرب لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها تقربوا منها وقيل سميت بذلك لمجئ الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات وتسمى جمعا بفتح الجيم واسكان الميم سميت بذلك لاجتماع الناس فيها وعلم ان المزدلفة كلها من الحرم قال الأزرقي في تاريخ مكة والماوردي وأصحابنا في كتب المذهب وغيرهم حد مزدلفة ما بين مازمي عرفة ووادي محسر وليس الحدان منها ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب والجبال الداخلية في حد المذكور قوله (حتى أتى المذدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا) فيه فوائد منها أن السنة للدافع من عرفات أن يؤخر المغرب إلى وقت العشاء ويكون هذا التأخير بنية الجمع ثم يجمع بينهما في المزدلفة في وقت العشاء وهذا مجمع عليه لكن مذهب أبي حنيفة وطائفة أنه يجمع بسبب النسك ويجوز لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم والصحيح عند أصحابنا أنه جمع بسبب السفر فلا يجوز إلا لمسافر سفرا يبلغ به مسافة القصر وهو مرحلتان قاصدتان وللشافعي قول ضعيف أنه يجوز الجمع في كل سفر وان كان قصيرا وقال بعض أصحابنا هذا الجمع بسبب النسك كما قال أبو حنيفة والله أعلم قال أصحابنا ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات أو في الطريق أو في موضع آخر وصلى كل واحدة في وقتها جاز جميع ذلك لكنه خلاف الأفضل هذا مذهبنا وبه قال جماعات من الصحابة والتابعين وقاله الأوزاعي وأبو يوسف وأشهب وفقهاء أصحاب الحديث وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين يشترط أن يصليهما بالمزدلفة ولايجوز قبلها وقال مالك لا يجوز أن يصليهما قبل المزدلفة الا من به أو بدابته عذرفلة أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط كونه بعد مغيب الشفق ومنها أن يصلي الصلاتين
[ 188 ]
في وقت الثانية بأذان للأولى وإقامتين لكل واحدة إقامة وهذا هو الصحيح عند أصحابنا وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وعبد الملك الماجشون المالكي والطحاوى الحنفي وقال مالك يؤذن ويقيم للأولى ويؤذن ويقيم أيضا للثانية وهو محكى عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما وقال أبو حنيفة وأبو يوسف أذان واحد واقامة واحدة وللشافعي وأحمد قول أنه يصلى كل واحدة باقامتها بلا أذان وهو محكى عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وقال الثوري يصليهما جميعا باقامة واحدة وهو يحكي أيضا عن ابن عمر والله أعلم وأما قوله (لم يسبح بينهما) فمعناه لم يصل بينهما نافلة والنافلة تسمى سبحة لاشتمالها على التسبيح ففيه الموالاة بين الصلاتين المجموعتين ولا خلاف في هذا لكن اختلفوا هل هو شرط للجمع أم لا والصحيح عندنا أنه ليس بشرط بل هو سنة مستحبة وقال بعض أصحابنا هو شرط أما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فالموالاة شرط بلا خلاف قوله (ثم اضطجع رسول الله ص = حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح باذان واقامة) في هذا الفصل مسائل احداها أن المبيت بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات نسك وهذا مجمع عليه لكن اختلف العلماء هل هو واجب أم ركن أم سنة والصحيح من قولى الشافعي أنه واجب لو تركه أثم وصح حجه ولزمه دم والثاني أنه سنة لا اثم في تركه ولا يجب فيه دم ولكن يستحب وقال جماعة من أصحابنا هو ركن لا يصح الحج الا به كالوقوف بعرفات قاله من أصحابنا ابن بنت الشافعي وأبو بكر محمد بن اسحاق ابن خزيمة وقاله خمسة من ائمة التابعين وهم علقمة والأسود والشعبى والنخعي والحسن البصري والله أعلم والسنة أن يبقى بالمزدلفة حتى يصلى بها الصبح الا الضعفة فالسنة لهم الدفع قبل الفجر كما سيأتي في موضعه ان شاء الله تعالى وفي أقل المجزى من هذا المبيت ثلاثة أقوال عندنا الصحيح ساعة في النصف الثاني من الليل والثاني ساعة في النصف الثاني أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس والثالث معظم الليل والله أعلم المسألة الثانية السنة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم أكثر من تأكده في سائر السنة للاقتداء برسول الله ص = ولأن وظائف هذا
[ 189 ]
اليوم كثيرة فسن المبالغة بالتبكير بالصبح ليتسع الوقت للوظائف الثالثة يسن الآذان والاقامة لهذه الصلاة وكذلك غيرها من صلوات المسافر وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالأذان لرسول الله ص = في السفر كما في الحضر والله أعلم قوله (ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ودفع قبل أن تطلع الشمس) أما القصواء فسبق في أول الباب بيانها وأما قوله ثم ركب ففيه أن السنة الركوب وأنه أفضل من المشي وقد سبق بيانه مرات وبيان الخلاف فيه وأما المشعر الحرام فبفتح الميم هذا هو الصحيح وبه جاء القرآن وتظاهرت به روايات الحديث ويقال أيضا بكسر الميم والمراد به هنا قزح بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة وهو جبل معروف في المزدلفة وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح وقال جماهير المفسرين وأهل السير والحديث المشعر الحرام جميع المزدلفة وأما قوله فاستقبل القبلة يعني الكعبة فدعاه الى آخره فيه أن الوقوف على قزح من مناسك الحج وهذا لا خلاف فيه لكن اختلفوا في وقت الدفع منه فقال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء لا يزال واقفا فيه يدعو ويذكر حتى يسفر الصبح جدا كما في هذا الحديث وقال مالك يدفع منه قبل الاسفار والله أعلم وقوله (أسفر جدا) الضمير في أسفر يعود الى الفجر المذكور أولا وقوله (جدا) بكسر الجيم أي اسفارا بليغا قوله في صفة الفضل بن عباس (أبيض وسيما) أي حسنا قوله (مرت به ظعن يجرين) الظعن بضم الظاء والعين ويجوز أسكان العين جميع ظعينة كسفينة وسفن وأصل الظعينة البعير الذي عليه امرأة ثم تسمى به المرأة مجازا لملابستها البعير كما أن الرواية أصلها الجمل الذي
[ 190 ]
يحمل الماء ثم تسمى به القرية لما ذكرناه وقوله يجرين بفتح الياء قوله (فطفق الفضل ينظر اليهن فوضع رسول الله ص = يده على وجه الفضل) فيه الحث على غض البصر عن الاجنبيات وغضهن عن الرجال الأجانب وهذا معنى قوله وكان أبيض وسيما حسن الشعر يعنى أنه بصفة من تفتتن النساء به لحسنه وفي رواية الترمذي وغيره في هذا الحديث أن النبي ص = لوى عنق الفضل فقال له العباس لويت عنق ابن عمك قال رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما فهذا يدل على أن وضعه ص = يده على وجه الفضل كان لدفع الفتنة عنه وعنها وفيه أن من رأى منكرا وأمكنه ازالته بيده لزمه ازالته فان قال بلسانه ولم ينكف المقول له وأمكنه بيده اثم ما دام مقتصرا على اللسان والله أعلم قوله (حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا) أما محسر فبضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين سمى بذلك لأن قيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعي فيه وكل منه قوله تعالى وقد اليك البصر خاسئا وهو حسير وأما قوله فحرك قليلا فهي سنة من سنن السير في ذلك الموضع قال أصحابنا يسرع الماشي ويحرك الراكب دابته في وادي محسر ويكون ذلك قدر رمية حجر والله أعلم قوله (ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف رمى من بطن الوادي) أما قوله سلك الطريق الوسطى ففيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة وهو غير الطريق الذي ذهب فيه الى عرفات وهذ معنى قول أصحابنا يذهب الى عرفات في طريق ضب ويرجع في طريق المازمين ليخالف الطريق تفاؤلا بغير الحال كما فعل ص = في دخول مكة حين دخلها من
[ 191 ]
الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى وخرج الى العيد في طريق ورجع في طريق آخر وحول رداءه في الاستسقاء وأما الجمرة الكبرى فهي جمرة العقبة وهي التي عند الشجرة وفيه أن السنة للحاج إذا دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة ولا يفعل شيئا قبل رميها ويكون ذلك قبل نزوله وفيه أن الرمى بسبع حصيات وأن قدرهن بقدر حصى الخذف وهو نحو حبة الباقلاء وينبغي ألا يكون أكبر ولا أصغر فان كان أكبر أو أصغر أجزأه بشرط كونها حجرا ولا يجوز عند الشافعي والجمهور الرمى بالكحل والزرنيخ والذهب والفضة وغير ذلك مما لا يسمى حجرا وجوزه أبو حنيفة بكل ما كان من أجزاء الأرض وفيه أنه يسن التكبير مع كل حصاة وفيه أنه يجب التفريق بين الحصيات فيرميهن واحدة واحدة فان رمى السبعة رمية واحدة حسب ذلك كله حصاة واحدة عندنا وعند الأكثرين وموضع الدلالة لهذه المسألة يكبر مع كل حصاة فهذا تصريح بانه رمى كل حصاة وحدها مع قوله ص = في الحديث الآتي بعد هذا في أحاديث الرمي لتأخذوا عنى مناسككم وفيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث تكون منى وعرفات والمزدلفة عن يمينه ومكة عن يساره وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة وقيل يقف مستقبل الكعبة وكيفما رمى أجزأه بحيث يسمى رميا بما يسمى حجرا والله أعلم وأما حكم الرمى فالمشروع منه يوم النحر رمى جمرة العقبة لا غير باجماع المسلمين وهو نسك باجماعهم ومذهبنا أنه واجب ليس بركن فان تركه حتى فاتته أيام الرمى عصى ولزمه دم وصح حجه وقال مالك يفسد حجه ويجب رميها بسبع حصيات فلو بقيت منهن واحدة لم تكفه الست وأما قوله فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف فهكذا هو في النسخ وكذا نقله القاضي عياض عن معظم النسخ قال وصوابه مثل حصى الخذف قال وكذلك رواه غير مسلم وكذا رواه بعض رواة مسلم هذا كلام القاضي قلت والذي في النسخ من غير لفظة مثل هو الصواب بل لا يتجه غيره ولا يتم الكلام الا كذلك ويكون قوله حصى الخذف متعلقا بحصيات أي رماها بسبع حصيات حصى الحذف يكبر مع كل حصاة فحصى الحذف متصل بحصيات واعترض بينهما يكبر مع كل حصاة وهذا هو الصواب والله أعلم قوله (ثم انصرف الى
[ 192 ]
النحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه) هكذا هو في النسخ ثلاثا وستين بيده وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة سوى ابن ماهان فانه رواه بدنه قال وكلامه صواب والأول أصوب قلت وكلاهما حرى فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده قال القاضي فيه دليل على أن المنحر موضع معين من منى وحيث ذبح منها أو من الحرم أجزأه وفيه استحباب تكثير الهدى وكان هدى النبي ص = في تلك السنة مائة بدنة وفيه استحباب ذبح المهدى هديه بنفسه وجواز الاستنابة فيه وذلك جائز بالاجماع إذا كان النائب مسلما ويجوز عندنا أن يكون النائب كافرا كتابيا بشرط أن ينوى صاحب الهدى عند دفعه إليه أو عند ذبحه وقوله ما غبر أي ما بقى وفيه استحباب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة في يوم النحر ولا يؤخر بعضها الى أيام التشريق وأما قوله وأشركه في هديه فظاهره أنه شاركه في نفس الهدى قال القاضي عياض وعندي أنه لم يكن تشريكا حقيقة بل أعطاه قدرا يذبحه والظاهر أن النبي ص نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثا وستين كما جاء في رواية الترمذي وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمين وهي تمام المائة والله أعلم قوله (أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا هذه من لحمها وشربا من مرقها) البضعة بفتح الباء لا غير وهي القطعة من اللحم وفيه استحباب الأكل من هدى التطوع وأضحيته قال العلماء لما كان الأكل من كل واحدة سنة وفي الأكل من كل واحدة من المائة منفردة كلفة جعلت في قدر ليكون آكلا من مرق الجميع الذي فيه جزء من كل واحدة ويأكل من اللحم المجتمع في الرق ما تيسر وأجمع العلماء على أن الأكل من هدى التطوع وأضحيته سنة ليس بواجب قوله (ثم ركب رسول الله ص = فأفاض الى البيت فصلى بمكة الظهر) هذا الطواف هو طواف الافاضة وهو ركن من أركان الحج باجماع المسلمين وأول وقته عندنا من نصف ليلة النحر وأفضله بعد رمى جمرة العقبة وذبح الهدى والحلق ويكون ذلك ضحوة يوم النحر ويجوز
[ 193 ]
في جميع يوم النحر بلا كراهة ويكره تأخيره عنه بلا عذر وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة ولا آخر لوقته بل يصح ما دام الانسان حيا وشرطه أن يكون بعد الوقوف بعرفات حتى لو طاف للافاضة بعد نصف ليلة النحر قبل الوقوف ثم أسرع الى عرفات فوقف قبل الفجر لم يصح طوافه لأنه قدمه على الوقوف واتفق العلماء على أنه لا يشرع في طواف الافاضة رمل ولا اضطباع إذا كان قد رمل واضطبع عقب طواف القدوم ولو طاف بنية الوادع أو القدوم أو التطوع وعليه طواف افاضة وقع عن طواف الإفاضة بلا خلاف عندنا نص عليه الشافعي واتفق الاصحاب عليه كما لو كان عليه حجة الاسلام فحج بنية قضاء أو نذر أو تطوع فانه يقع عن حجة الاسلام وقال أبو حنيفة وأكثر العلماء لا يجزئ طواف الافاضة بنية غيره واعلم أن طواف الافاضة له أسماء فيقال أيضا طواف الزيارة وطواف الفرض والركن وسماه بعض أصحابنا طواف الصدر وأنكره الجمهور قالوا وانما طواف الصدر طواف الوداع والله أعلم وفي هذا الحديث استحباب الركوب في الذهاب من منى الى مكة ومن مكة الى منى ونحو ذلك من مناسك الحج وقد ذكرنا قبل هذا مرات المسألة وبينا أن الصحيح استحباب الركوب وأن من أصحابنا من استحب المشى هناك وقوله (فأفاض الى البيت فصلى الظهر) فيه محذوف تقديره فأفاض فطاف بالبيت طواف الافاضة ثم صلى الظهر فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام عليه وأما قوله فصلى بمكة الظهر فقد ذكر مسلم بعد هذا في أحاديث طواف الافاضة من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي ص = أفاض يوم النحر فصلى الظهر بمنى ووجه الجمع بينهما أنه ص = طاف للافاضة قبل الزوال ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع الى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى وهذا كما ثبت في الصحيحين في صلاته ص ببطن نخل أحد أنواع صلاة الخوف فانه ص = صلى بطائفة من أصحابه الصلاة بكمالها وسلم بهم ثم صلى بالطائفة الأخرى تلك الصلاة مرة أخرى فكانت له صلاتان ولهم صلاة وأما الحديث الوارد عن عائشة وغيرها أن النبي ص = أخر الزيارة يوم النحر الى الليل فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الافاضة ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث وقد بسطت ايضاح هذا الجواب في شرح المهذب والله أعلم
[ 194 ]
قوله (فأتى بنى عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بنى عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه) أما قوله ص = انزعوا فبكسر الزاي ومعناه استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء وأما قوله فأتى بنى عبد المطلب فمعناه أتاهم بعد فراغه من طواف الافاضة وقوله يسقون على زمزم معناه يغرفون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها ويسبلونه للناس وقوله ص = لولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم معناه لولا خوفى أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء وفيه فضيلة العمل في هذا الاستقاء واستحباب شرب ماء زمزم وأما زمزم فهي البئر المشهورة في المسجد الحرام بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثون ذراعا قيل سميت زمزم لكثرة مائها يقال ماء زمزوم وزمزم وزمازم إذا كان كثيرا وقيل لضم هاجر رضي الله عنها لمائها حين انفجرت وزمها اياه وقيل لزمزمة جبريل عليه السلام وكلامه عند فجره اياها وقيل انها غير مشتقة ولها أسماء أخر ذكرتها في تهذيب اللغات مع نفائس أخرى تتعلق بها منها أن عليا رضي الله عنه قال خير بئر في الأرض زمزم وشر بئر في الأرض برهوت والله أعلم قوله (وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة) هو بسين مهملة ثم ياء مثناة تحت مشددة أي كان يدفع بهم في الجاهلية قوله فلما أجاز رسول الله ص = من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ويكون منزله ثم فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل أما المشعر فسبق بيانه وأنه
[ 195 ]
بفتح الميم على المشهور وقيل بكسرها وان قزح الجبل المعروف في المزدلفة وقيل كل المزدلفة وأوضحنا الخلاف فيه بدلائله وهذا الحديث ظاهر الدلالة في أنه ليس كل المزدلفة وقوله أجاز أي جاوز وقوله ولم يعرض هو بفتح الياء وكسر الراء ومعنى الحديث أن قريشا كانت قبل الإسلام تقف بالمزدلفة وهي من الحرم ولا يقفون بعرفات وكان سائر العرب يقفون بعرفات وكانت قريش تقول نحن أهل الحرم فلا نخرج منه فلما حج النبي ص = ووصل المزدلفة اعتقدوا أنه يقف بالمزدلفة على عادة قريش فجاوز إلى عرفات لقول الله عز وجل ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي جمهور الناس فان من سوى قريش كانوا يقفون بعرفات ويفيضون منها وأما قوله (فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل) ففيه مجاز تقديره فأجاز متوجها الى عرفات حتى قاربها فضربت له القبة بنمرة قريب من عرفات فنزل هناك حتى زالت الشمس ثم خطب وصلى الظهر والعصر ثم دخل أرض عرفات حتى وصل الصخرات فوقف هناك وقد سبق هذا واضحا في الرواية الاولى قوله صلى اله عليه وسلم (نحرت ههنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ووقفت ههنا وجمع كلها موقف) في هذه الالفاظ بيان رفق النبي ص = بأمته وشفقته عليهم في تنبيههم على مصالح دينهم ودنياهم فانه ص = ذكر لهم الأكمل والجائز فالأكمل موضع نحره ووقوفه والجائز كل جزء من أجزاء المنحر من أجزاء عرفات وخيرهن أجزاء المزدلفة وهي جمع بفتح الجيم واسكان الميم وسبق بيانها وبيان حدها وحد منى في هذا الباب وأما عرفات فحدها
[ 196 ]
ما جاوز وادي عرنه الى الجبال القابلة مما يلي بساتين ابن عامر هكذا نص عليه الشافعي وجميع أصحابه ونقل الأزرقي عن ابن عباس أنه قال حد عرفات من الجبل المشرف على بطن عرنة الى جبال عرفات الى وصيق بفتح الواو وكسر الصاد المهملة وآخره قاف الى ملتقى وصيق وادي عرنة وقيل في حدها غير هذا مما هو متقارب له وقد بسطت القول في ايضاحه في شرح المهذب وكتاب المناسك والله أعلم قال الشافعي وأصحابنا يجوز نحر الهدى ودماء الحيوانات في جميع الحرم لكن الافضل في حق الحاج النحر بمنى وأفضل موضع منها للنحر موضع نحر رسول الله ص = وما قاربه والأفضل في حق المعتمر أن ينحر في المروة لانها موضع تحلله كما أن منى موضع تحلل الحاج قالوا ويجوز الوقوف بعرفات في أي جزء كان منها وكذا يجوز الوقوف على المشعر الحرام وفي كل جزء من أجزاء المزدلفة لهذا الحديث والله أعلم وأما قوله ص = ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم فالمراد بالرحال المنازل قال أهل اللغة رحل الرجل منزله سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر ومعنى الحديث منى كلها منحر يجوز النحر فيها فلا تتكلفوا النحر في موضع نحرى بل يجوز لكم النحر في منازلكم من منى قوله (ان رسول الله ص = لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا) في هذا الحديث أن السنة للحاج أن يبدأ أول قدومه بطواف القدوم ويقدمه على كل شئ وأن يستلم الحجر الاسود في أول طوافه وأن يرمل في ثلاث طوفات من السبع ويمشى في الاربع الاخيرة وسيأتي هذا كله واضحا حيث ذكر مسلم أحاديثه والله أعلم قوله (كانت
[ 197 ]
قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس) الى آخره الحمس بضم الحاء المهملة واسكان الميم وبسين مهملة قال أبو الهيثم الحمس هم قريش ومن ولدته قريش وكنانة وجديلة قيس سموا حمسا لانهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا وقيل سموا حمسا بالكعبة لانها حمساء حجرها أبيض يضرب الى السواد وقد سبق قريبا شرح هذا الحديث وسبب وقوفهم بالمزدلفة قوله (كانت العرب تطوف بالبيت عراة الا الحمس) هذا من الفواحش التى كانوا عليها في الجاهلية وقيل نزل فيه قوله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ولهذا أمر النبي ص في الحجة التى حجها أبو بكر رضى الله عنه سنة تسع أن ينادى مناديه أن لا يطوف بالبيت عريان
[ 198 ]
قوله (عن جبير بن مطعم قال أضللت بعيرا لى فذهبت أطلبه يوم عرفة فرأيت رسول الله ص = واقفا مع الناس بعرفة فقلت والله ان هذا لمن الحمس فما شأنه ههنا وكانت قريش تعد من الحمس) قال القاضي عياض كان هذا في حجه قبل الهجرة وكان جبير حينئذ كافرا وأسلم يوم الفتح وقيل يوم خبير فتعجب من وقوف النبي ص بعرفات والله أعلم جواز تعليق الاحرام (وهو ان يحرم باحرام كاحرام فلان فيصير محرما باحرام مثل احرام فلان) في الباب حديث أبى موسى الاشعري رضى الله عنه (أن النبي ص = قال له أحججت قال فقلت نعم فقال بم أهللت قال قلت لبيك باهلال كاهلال النبي ص = قال قد أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل قال فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أتيت امرأه
[ 199 ]
من بنى قيس ففلت رأسي ثم أهللت بالحج) في هذا الحديث فوائد منها جواز تعليق الاحرام فإذا قال أحرمت باحرام كاحرام زيد صح احرامه وكان احرامه كاحرا زيد فان كان زيد محرما بحج أو بعمرة أو قارنا كان المعلق مثله وان كان زيد أحرم مطلقا كان المعلق مطلقا ولا يلزمه أن يصرف احرامه الى ما يصرف زيد احرامه إليه فلو صرف زيد احرامه الى حج كان للمعلق صرف احرامه الى عمرة وكذا عكسه ومنها استحباب الثناء على من فعل فعلا جميلا لقوله ص = أحسنت وأما قوله ص = (طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل) فمعناه أنه صار كالنبي ص = وتكون وظيفته أن يفسخ حجه الى عمرة فيأتي بأفعالها وهي الطواف والسعى والحلق فإذا فعل ذلك صار حلالا وتمت عمرته وانما لم يذكر الحلق هنا لأنه كان مشهورا عندهم ويحتمل أنه داخل في قوله وأحل وقوله (ثم أتيت امرأة من بنى قيس ففلت رأسي) هذا محمول على أن هذه المرأة كانت محرما له وقوله (ثم أهللت بالحج) يعنى أنه تحلل بالعمرة وأقام بمكة حلالا الى يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة ثم أحرم بالحج يوم التروية كما جاء مبينا في غير هذه الرواية فان قيل قد علق على بن أبى طالب وأبو موسى رضى الله عنهما احرامهما باحرام النبي ص = فأمر عليا بالدوام على احرامه قارنا وأمر أبا موسى بفسخه الى عمرة فالجواب أن عليا رضى الله عنه كان معه الهدى كما كان مع النبي ص = الهدى فبقي على احرامه كما بقي النبي ص وكل من معه هدى وأبو موسى لم يكن معه هدى فتحلل بعمرة كمن لم يكن معه هدى ولولا الهدى مع النبي ص = لجعلها عمرة وقد سبق ايضاح هذا الجواب في الباب الذي قبل هذا قوله ففلت رأسي هو بتخفف اللام قوله (رويدك بعض فتياك) معنى رويدك ارفق قليلا وأمسك عن الفتيا ويقال فتيا وفتوى لغتان مشهورتان
[ 200 ]
قوله ان عمر رضى الله عنه قال (ان نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام وان نأخذ بسنة رسول الله ص = فان رسول الله ص = لم يحل حتى بلغ الهدى محله) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى ظاهر كلام عمر هذا انكار فسخ الحج الى العمرة وأن نهيه عن التمتع انما هو من باب ترك الأولى لأنه منع ذلك منع تحريم وابطال ويؤيد هذا قوله بعد هذا قد علمت أن النبي ص = قد فعله وأصحابه لكن كرهت أن يظلوا معرسين
[ 201 ]
بهن في الاراك وقوله (معرسين) هو باسكان العين وتخفيف الراء والضمير في بهن يعود الى النساء للعلم بهن وان لم يذكرن ومعناه كرهت التمتع لأنه يقتضى التحلل ووطء النساء الى حين الخروج الى عرفات
[ 202 ]
جواز التمتع قوله (كان عثمان رضى الله عنه عن المتعة وكان على يأمر بها) المختار أن المتعة التى نهى فيها عثمان هي التمتع المعروف في الحج وكان عمر وعثمان ينهيان عنها نهى تنزيه لا تحريم وانما نهيا عنها لأن الافراد أفضل فكان عمر وعثمان يأمران بالافراد لأنه أفضل وينهيان عن التمتع نهى تنزيه لأنه مأمور بصلاح رعيته وكان يرى الأمر بالافراد من جملة صلاحهم والله أعلم قوله (ثم قال على لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله ص = قال أجل ولكن كنا خائفين) فقوله أجل باسكان اللام أي نعم وقوله كنا خائفين لعله أراد بقوله خائفين يوم عمرة القضاء سنة سبع قبل فتح مكة لكن لم يكن تلك السنة حقيقة تمتع انما كان عمرة وحدها قوله (فقال عثمان دعنا عنك فقال يعنى عليا انى لا أستطيع أن أدعك فلما أن رأى على ذلك أهل بهما) ففيه اشاعة العلم واظهاره ومناظرة ولاة الامور وغيرهم في تحقيقه ووجوب مناصحة المسلم في ذلك وهذا معنى قول
[ 203 ]
على لا أستطيع أن أدعك وأما اهلال على بهما فقد يحتج به من يرجح القران وأجاب عنه من رجح الافراد بأنه انما أهل بهما ليبين جوازهما لئلا يظن الناس أو بعضهم أنه لا يجوز القران ولا التمتع وأنه يتعين الافراد والله أعلم قوله (عن أبي ذر قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد ص = خاصة) وفي الرواية الاخرى كانت لنا رخصة يعنى المتعة في الحج وفي الرواية الاخرى قال أبو ذر لا تصلح المتعتان الا لنا خاصة يعنى متعة النساء ومتعة الحج وفي الرواية الأخرى انما كانت لنا خاصة دونكم قال العلماء معنى هذه الروايات كلها أن فسخ الحج الى العمرة كان للصحابة في تلك السنة وهي حجة الوداع ولا يجوز بعد ذلك وليس مراد أبى ذر ابطال التمتع مطلقا بل مراده فسخ الحج كما ذكرنا وحكمته ابطال ما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج وقد سبق بيان هذا كله في الباب السابق والله أعلم قوله (لا تصلح المتعتان الا لنا خاصة) معناه انما خاصة في الوقت الذي فعلناهما فيه ثم صارتا حراما بعد ذلك
[ 204 ]
الى يوم القيامة والله أعلم قوله (سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة فقال فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش يعنى بيوت مكة) وفي الرواية الأخرى يعنى معاوية وفي الرواية الأخرى المتعة في الحج أما العرش فبضم العين والراء وهي بيوت مكة كما فسره في الرواية قال أبو عبيد سميت بيوت مكة عرشا لأنها عيدان تنصب وتظلل قال ويقال لها أيضا عروش بالراء وواحدها عرش كفلس وفلوس ومن قال عرش فواحدها عريش كقليب وقلب وفي حديث آخر أن عمر رضى الله عنه كان إذا نظر عروش مكة قطع التلبية وأما قوله وهذا يومئذ كافر بالعرش فالاشارة بهذا الى معاوية ابن أبي سفيان وفي المراد بالكفر هنا وجهان احدهما ما قاله المازري وغيره المراد وهو مقيم في بيوت مكة قال ثعلب يقال اكتفر الرجل إذا لزم الكفور وهي القرى وفي الأثر عن عمر رضى الله عنه أهل الكفور هم أهل القبور يعنى القرى البعيدة عن الأمصار وعن العلماء والوجه الثاني المراد الكفر بالله تعالى والمراد أنا تمتعنا ومعاوية يومئذ كافر على دين الجاهلية مقيم بمكة وهذا اختيار القاضي عياض وغيره وهو الصحيح المختار والمراد بالمتعة العمرة التي كانت سنة سبع من
[ 205 ]
الهجرة وهي عمرة القضاء وكان معاوية يومئذ كافرا وانما أسلم بعد ذلك عام الفتح سنة ثمان وقيل أنه أسلم بعد عمرة القضاء سنة سبع والصحيح الاول وأما غير هذه العمرة من عمر النبي ص فلم يكن معاوية فيها كافرا ولا مقيما بمكة بل كان معه ص = قال القاضي عياض وقاله بعضهم كافر بالعرش بفتح العين واسكان الراء والمراد عرش الرحمن قال القاضي هذا تصحيف وفي هذا الحديث جواز المتعة في الحج قوله (عن عمران بن حصين أن رسول الله أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتى مضى لوجهه) وفي الرواية الأخرى أن رسول الله ص = جمع بين حج وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه وفي الرواية الأخرى نحوه ثم قال قال رجل برأيه ما شاء يعنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي الرواية الاخرى تمتعنا مع رسول الله ص = فلم ينزل فيه القرآن قال رجل برأيه ما شاء وفي الرواية الأخرى تمتع وتمتعنا معه وفي الرواية الاخرى نزلت آيه المتعة في كتاب الله يعنى متعة الحج وأمر بها رسول الله صلى الله عليه
[ 206 ]
وسلم وهذه الروايات كلها متففة على أن مراد عمران أن التمتع بالعمرة الى الحج جائز وكذلك القران وفيه التصريح بانكاره على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من التمتع وقد سبق تأويل فعل عمر أنه لم يرد ابطال التمتع بل ترجيح الافراد عليه قوله (وقد كان يسلم على حتى اكتويت فتركت ثم تركت الكى فعاد) فقوله يسلم على هو بفتح اللام المشددة وقوله فتركت هو بضم التاء أي انقطع السلام على ثم تركت بفتح التاء أي تركت الكى فعاد السلام على ومعنى الحديث أن عمران بن الحصين رضى الله عنه كانت به بواسير فكان يصبر على المهمات وكانت الملائكة تسلم عليه فاكتوى فانقطع سلامهم عليه ثم ترك الكي فعاد سلامهم عليه قوله (بعث الى عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال انى كنت محدثك باحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي فان عشت فاكتم عنى وان مت فحدث بها ان شئت أنه قد سلم على واعلم أن نبى الله ص = قد جمع بين حج وعمرة أما قوله فان عشت فاكتم عنى فاراد به الاخبار بالسلام عليه لانه كره
[ 207 ]
أن يشاع عنه ذلك في حياته لما فيه من التعرض للفتنة بخلاف ما بعد الموت وأما قوله لعل الله أن ينفعك بها فمعناه تعمل بها وتعلمها غيرك وأما قوله أحاديث فطاهره أنها ثلاثة فصاعدا ولم يذكر منها الا حديثا واحدا وهو الجمع بين الحج والعمرة وأما اخباره بالسلام فليس حديثا فيكون باقي الاحاديث محذوفا من الرواية قوله (حدثنا حامد بن عمر البكراوي) هو
[ 208 ]
منسوب الى جد جد أبيه أبي بكرة الصحابي رضى الله عنه فانه حامد بن عمر بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي رضى الله عنه وجوب الدم على المتمتع وانه إذا عدمه لزمه (صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع الى أهله) قوله (عن ابن عمر رضي الله عنه قال تمتع رسول الله ص = في حجوالوداع بالعمرة الى الحج وأهدى وساق معه الهدى من ذي الحليفة وبدأ رسول الله ص فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله ص = بالعمرة الى الحج قال القاضي قوله تمتع هو محمول على التمتع اللغوي وهو القران آخرا ومعناه أنه ص أحرم أولا بالحج مفردا ثم أحرم بالعمرة فصار قارنا في آخر أمره والقارن هو متمتع من حيث اللغة ومن حيث المعنى لأنه ترفه باتحاد الميقات والاحرام والفعل ويتعين هذا التأويل هنا لما قدمناه في الأبواب السابقة من الجمع بين الأحاديث في ذلك وممن روى افراد النبي ص = ابن عمر الراوي هنا وقد ذكره مسلم بعد هذا وأما قوله بدأ رسول الله صلى
[ 209 ]
الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فهو محمول على التلبية في أثناء الاحرام وليس المراد أنه أحرم في أول أمره بعمرة ثم أحرم بحج لأنه يفضى الى مخالفة الأحاديث السابقة وقد سبق بيان الجمع بين الروايات فوجب تأويل هذا على موافقتها ويؤيد هذا التأويل قوله تمتع الناس مع رسول الله ص = بالعمرة الى الحج ومعلوم أن كثيرا منهم أو أكثرهم أحرموا بالحج أولا مفردا وانما فسخوه الى العمرة آخرا فصاروا متمتعين فقوله وتمتع الناس يعنى في آخر الأمر والله أعلم قوله ص = (ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع الى أهله) أما قوله ص = فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل فمعناه يفعل الطواف والسعى والتقصير وقد صار حلالا وهذا دليل على ان التقصير أو الحلق نسك من مناسك الحج وهذا هو الصحيح في مذهبنا وبه قال جماهير العلماء وقيل انه استباحة محظور وليس بنسك وهذا ضعيف وسيأتي ايضاحه في موضعه ان شاء الله تعالى وانما أمره رسول الله ص = بالتقصير ولم يأمر بالحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج فان الحلق في تحلل الحج أفضل منه في تحلل العمرة وأما قوله ص = وليحلل فمعناه وقد
[ 210 ]
صار حلالا فله فعل ما كان محظورا عليه في الاحرام من الطيب واللباس والنساء والصيد وغير ذلك وأما قوله ص = ثم ليهل بالحج فمعناه يحرم به في وقت الخروج الى عرفات لا أنه يهل به عقب تحلل العمرة ولهذا قال ثم ليهل فأتى بثم التى هي للتراخي والمهلة وأما قوله ص = وليهد فالمراد به هدى التمتع فهو واجب بشروط اتفق أصحابنا على أربعة منها واختلفوا في ثلاثة أحد الأربعة أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج الثاني أن يحج من عامه الثالث أن يكون أفقيا لا من حاضري المسجد وحاضروه أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة الرابع أن لا يعود الى الميقات لاحرام الحج وأما الثلاثة فأحدها نية التمتع والثاني كون الحج والعمرة في سنة في شهر واحد الثالث كونهما عن شخص واحد والأصح أن هذه الثلاثة لا تشترط والله أعلم وأما قوله ص = فمن لم يجد هديا فالمراد لم يجده هناك اما لعدم الهدى واما لعدم ثمنه واما لكونه يباع باكثر من ثمن المثل واما لكونه موجودا لكنه لا يبيعه صاحبه ففي كل هذه الصور يكون عادما للهدى فينتقل الى الصوم سواء كان واجدا لثمنه في بلده أم لا وأما قوله ص = فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع فهو موافق لنص كتاب الله تعالى ويجب صوم هذه الثلاثة قبل يوم النحر ويجوز صوم يوم عرفة منها لكن الأولى أن يصوم الثلاثة قبله والأفضل أن لا يصومها حتى يحرم بالحج بعد فراغه من العمرة فان صامها بعد فراغه من العمرة وقبل الاحرام بالحج أجزأه على المذهب الصحيح عندنا وان صامها بعد الاحرام بالعمرة وقبل فراغها لم يجزه على الصحيح فان لم يصمها قبل يوم النحر وأراد صومها في أيام التشريق ففي صحته قولان مشهوران للشافعي أشهرهما في المذهب أنه لا يجوز وأصحهما من حيث
[ 211 ]
الدليل جوازه هذا تفصيل مذهبنا ووافقنا أصحاب مالك في أنه لا يجوز صوم الثلاثة قبل الفراغ من العمرة وجوزه الثوري وأبو حنيفة ولو ترك صيامها حتى مضى العيد والتشريق لزمه قضاؤها عندنا وقال أبو حنيفة يفوت صومها ويلزمه الهدى إذا استطاعه والله أعلم وأما صوم السبعة فيجب إذا رجع وفي المراد بالرجوع خلاف الصحيح في مذهبنا أنه إذا رجع الى أهله وهذا هو الصواب لهذا الحديث الصحيح والثاني إذا فرغ من الحج ورجع الى مكة من منى وهذان القولان للشافعي ومالك وبالثاني قال أبو حنيفة ولو لم يصم الثلاثة ولا السبعة حتى عاد الى وطنه لزمه صوم عشرة أيام وفي اشتراط التفريق بين الثلاثة والسبعة إذا أراد صومها خلاف قيل لا يجب والصحيح أنه يجب التفريق الواقع في الاداء وهو باربعة أيام ومسافة الطريق بين مكة ووطنه والله أعلم قوله (وطاف رسول الله ص = حين قدم مكة واستلم الركن أول شئ ثم حسب ثلاثة أطواف) من السبع ومشى أربعة أطواف الى آخر الحديث فيه اثبات طواف القدوم واستحباب الرمل فيه وأن الرمل هو الخبب وأنه يصلى ركعتي الطواف وأنهما يستحبان خلف المقام وقد سبق بيان هذا كله وسنذكره أيضا حيث ذكره مسلم بعد هذا ان شاء الله تعالى بيان أن القارن لا يتحلل الا في وقت تحلل الحاج المفرد فيه قول حفصة رضى الله عنها (يا رسول الله ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك قال انى لبدت رأسي وقلدت هديى فلا أحل حتى أنحر) وهذا دليل للمذهب الصحيح المختار الذي قدمناه
[ 212 ]
واضحا بدلائله في الابواب السابقة مرات أن النبي ص = كان قارنا في حجة الوداع فقولها من عمرتك الى العمرة المضمومة الى الحج وفيه أن القارن لا يتحلل بالطواف والسعى ولا بد له في تحلله من الوقوف بعرفات والرمي والحلق والطواف كما في الحاج المفرد وقد تأوله من يقول بالافراد تأويلات ضعيفة منها أنها أرادت بالعمرة الحج لانهما يشتركان في كونهما قصدا وقيل المراد بها الاحرام وقيل انها ظنت أنه معتمر وقيل معنى من عمرتك أي بعمرتك بان تفسخ حجك الى عمرة كما فعل غيرك وكل هذا ضعيف والصحيح ما سبق وقوله ص = (لبدت رأسي وقلدت هديى) فيه استحباب التلبيد وتقليد الهدى وهما سنتان بالاتفاق وقد سبق بيان هذا كله
[ 213 ]
جواز التحلل بالاحصار وجواز القران واقتصار (القارن على طواف واحد وسعى واحد) قوله (عن نافع أن عبد الله بن عمر خرج في الفتنة معتمرا وقال ان صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله ص = فخرج فأهل بعمرة وسار حتى إذا ظهر على البيداء التفت الى اصحابه فقال ما أمرهما الا واحد أشهدكم أنى قد أوجبت الحج مع العمرة فخرج حتى إذا جاء البيت طاف سبعا وبين الصفا والمروة سبعا لم يزد ورأى أنه مجزئ عنه وأهدى) في هذا الحديث جواز القران وجواز ادخال الحج على العمرة قبل الطواف وهو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء وسبق بيان المسألة وفيه جواز التحلل بالاحصار وأما قوله (أشهدكم) فانما قاله ليعلمه من أراد الاقتداء به فلهذا قال أشهدكم ولم يكتف بالنية مع أنها كافية في صحة الاحرام وقوله (ما أمرهما الا واحد) يعنى في جواز التحلل منهما بالاحصار وفيه صحة القياس والعمل به وإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملونه فلهذا قاس الحج على العمرة لأن النبي ص = انما تحلل من الاحصار عام الحديبية من احرامه بالعمرة وحدها وفيه أن القارن يقتصر على طواف واحد وسعى واحد هو مذهبنا ومذهب الجمهور وخالف فيه أبو حنيفة وطائفة وسبقت المسألة وأما قوله (صنعنا كما صنعنا مع رسول الله ص = فخرج فأهل بعمرة) فالصواب في معناه أنه أراد ان صددت وحصرت
[ 214 ]
تحللت كما تحللنا عام الحديبية مع النبي ص = وقال القاضي يحتمل أنه أراد أهل بعمرة كما أهل النبي ص = بعمرة في العام الذي أحصر قال ويحتمل أنه أراد الامرين قال وهو الاظهر وليس هو بظاهر كما ادعاه بل الصحيح الذي يقتضيه سياق كلامه ما قدمناه والله أعلم قوله (حتى أهل منهما بحجة يوم النحر) معناه حتى أهل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة
[ 216 ]
في الافراد والقران قوله (عن ابن عمر رضى الله عنه قال أهللنا مع رسول الله ص = بالحج مفردا) وفي رواية ان رسول الله ص = أهل بالحج مفردا هذا موافق للروايات السابقة عن جابر وعائشة وابن عباس وغيرهم أن النبي ص = أحرم بالحج مفردا وفيه بيان أن الرواية السابقة قريبا عن ابن عمر التى أخبر فيها بالقران متأولة وسبق بيان تأوليها قوله (عن أنس سمعت رسول الله ص = يقول لبيك عمرة وحجا) يحتج به من يقول بالقران وقد قدمنا أن الصحيح المختار في حجة النبي ص = أنه كان في أول احرامه مفردا ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا وجمعنا بين الاحاديث أحسن جمع فحديث ابن عمر هنا محمول على أول احرامه ص = وحديث أنس محمول على أواخره وأثنائه وكأنه
[ 217 ]
لم يسمعه أولا ولا بد من هذا التأويل أو نحوه لتكون رواية أنس موافقة لرواية الاكثرين كما سبق والله أعلم استحباب طواف القدوم للحاج والسعى بعده قوله (عن وبرة) هو بفتح الباء قوله (كنت جالسا عند ابن عمر فجاءه رجل فقال أيصلح لى أن أطواف قبل أن آتى الموقف فقال نعم فقال فان ابن عباس يقول لا تطف بالبيت حتى تأتى الموقف فقال ابن عمر فقد حج رسول الله ص = فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف فبقول رسول الله ص = أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس ان كنت صادقا) هذا الذي قاله ابن عمر هو اثبات طواف القدوم للحاج وهو مشروع قبل الوقوف بعرفات وبهذا الذي قاله ابن عمر قال العلماء كافة سوى ابن عباس وكلهم يقولون انه سنة ليس بواجب الا بعض أصحابنا ومن وافقه فيقولون واجب يجبر تركه بالدم والمشهور أنه سنة ليس بواجب ولا دم في تركه فان وقف بعرفات قبل طواف القدوم فات فان طاف بعد ذلك بنية طواف القدوم لم يقع عن طواف القدوم بل يقع عن طواف الافاضة ان لم يكن طاف للافاضة فان كان
[ 218 ]
طاف للافاضة وقع الثاني تطوعا لا عن القدوم ولطواف القدوم أسماء طواف القدوم والقادم والورود والوارد والتحية وليس في العمرة طواف قدوم بل الطواف الذي يفعله فيها يقع ركنا لها حتى لو نوى به طواف القدوم وقع ركنا ولغت نيته كما لو كان عليه حجة واجبة فنوى حجة تطوع فانها تقع واجبة والله أعلم وأما قوله ان كنت صادقا فمعناه ان كنت صادقا في اسلامك واتباعك رسول الله ص = فلا تعدل عن فعله وطريقته الى قول ابن عباس وغيره والله أعلم قوله (رأيناه قد فتنته الدنيا) هكذا في كثير من الاصول فتنته الدنيا وفي كثير منها أو أكثرها أفتنته وكذا نقله القاضي عن رواية الاكثرين وهما لغتان صحيحتان فتن وأفتن والاولى أصح وأشهر وبها جاء القرآن وأنكر الاصمعي أفتن ومعنى قولهم فتنته الدنيا لانه تولى البصرة والولايات محل الخطر والفتنة وأما ابن عمر فلم يتول شيئا وأما قول ابن عمر وأينا لم تفتنه الدنيا فهذا من زهده وتواضعه وانصافه وفي بعض النسخ وأينا أو أيكم وفي بعضها وأينا أو قال وأيكم وكله صحيح بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي (وان المحرم بحج لا يتحلل بطواف القدوم وكذلك القارن) قوله (سألنا ابن عمر رضى اله عنه عن رجل قدم بعمرة فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا
[ 219 ]
والمروة أيأتي امرأته فقال قدم رسول الله ص = فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وبين الصفا والمروة سبعا وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) معناه لا يحل له ذلك لأن النبي ص = لم يتحلل من عمرته حتى طاف وسعى فتجب متابعته والاقتداء به وهذا الحكم الذي قاله ابن عمر هو مذهب العلماء كافة وهو أن المعتمر لا يتحلل الا بالطواف والسعى والحلق الا ما حكاه القاضي عياض عن ابن عباس واسحاق بن راهويه أنه يتحلل بعد الطواف وان لم يسع وهذا ضعيف مخالف للسنة قوله (فتصداني الرجل) أي تعرض لى
[ 220 ]
هكذا هو في جميع النسخ تصداني بالنون والأشهر في اللغة تصدى لى قوله (أول شئ بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت) فيه دليل لاثبات الوضوء للطواف لأن النبي ص = فعله ثم قال ص = لتأخذوا عنى مناسككم وقد أجمعت الأئمة على أنه يشرع الوضوء للطواف ولكن اختلفوا في أنه واجب وشرط لصحته أم لا فقال مالك والشافعي وأحمد والجمهور هو شرط لصحة الطواف وقال أبو حنيفة مستحب ليس بشرط واحتج الجمهور بهذا الحديث ووجه الدلالة أن هذا الحديث خذوا عنى مناسككم يقتضيان أن الطواف واجب لأن كل ما فعله هو داخل في المناسك فقد أمرنا بأخذ المناسك وفي حديث ابن عباس في الترمذي وغيره أن النبي ص = قال الطواف بالبيت صلاة الا أن الله أباح فيه الكلام ولكن رفعه ضعيف والصحيح عند الحفاظ أنه موقوف على ابن عباس وتحصل به الدلالة مع أنه موقوف لأنه قول لصحابي انتشر وإذا انتشر قول الصحابي بلامخالفة كان حجة على الصحيح قوله (ثم لم يكن غيره) وكذا قال فيما بعده ولم يكن غيره هكذا هو في جميع النسخ
[ 221 ]
غيره بالغين المعجبة والياء قال القاضي عياض كذا هو في جميع النسخ قال وهو تصحيف وصوابه ثم لم تكن عمرة بضم العين المهملة وبالميم وكان السائل لعروة انما سأله عن نسخ الحج الى العمرة على مذهب من رأى ذلك واحتج بأمر النبي ص = لهم بذلك في حجة الوداع فأعمله عروة أن النبي ص = لم يفعل ذلك بنفسه ولا من جاء بعده هذا كلام القاضي قلت هذا الذي قاله من أن قول غيره تصحيف ليس كما قال بل هو صحيح في الرواية وصحيح في المعنى لأن قوله غيره يتناول العمرة وغيرها ويكون تقدير الكلام ثم حج أبو بكر فكان أول شئ بدأ به الطوف بالبيت ثم لم يكن غيره أي لم يغير الحج ولم ينقله وينسخه الى غيره لا عمرة ولا قران والله اعلم قوله (ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام) أي مع والده الزبير فقوله الزبير بدل من أبي قوله (ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون شيئا حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون) فيه أن المحرم بالحج إذا قدم مكة ينبغي له أن يبدأ بطواف القدوم ولا يفعل شيئا قبله ولا يصلى تحية المسجد بل أول شئ يصنعه الطواف وهذا بطواف القدوم ولا يفعل شيئا قبله ولا يصلي تحية المسجد بل أول شئ يصنعه الطواف وهذا كله متفق عليه عندنا وقوله يضعون أقدامهم يعنى يصلون مكة وقوله ثم لا يحلون فيه التصريح بأنه لا يجوز التحلل بمجرد طواف القدوم كما سبق قوله (وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط فلما مسحوا الركن حلوا) فقولها مسحوا المراد بالماسحين من سوى عائشة والا فعائشة لم تمسح الركن قبل الوقوف بعرفات في حجة الوداع بل كانت قارنة ومنعها الحيض من الطواف قبل يوم النحر وهكذا قول أسماء بعد هذا اعتمرت أنا وأختى عائشة والزبير وفلان وفلان فلما مسحنا البيت أحللنا ثم أهللنا بالحج
[ 222 ]
المراد به أيضا من سوى عائشة وهكذا تأويله القاضي عياض والمراد الاخبار عن حجتهم مع النبي ص حجة الوداع على الصفة التى ذكرت في أول الحديث وكان المذكورون سوى عائشة محرمين بالعمرة وهي عمرة الفسخ التى فسخوا الحج إليها وانما لم تستثن عائشة لشهرة قصتها قال القاضى عياض وقيل يحتمل أن أسماء أشارت الى عمرة عائشة التى فعلتها بعد الحج مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم قال القاضي وأما قول من قال يحتمل أنها أرادت في غير حجة الوداع فخطأ لأن في الحديث التصريح بأن ذلك كان في حجة الوداع هذا كلام القاضى وذكر مسلم بعد هذه الرواية رواية اسحق بن ابراهيم وفيها أن أسماء قالت خرجنا محرمين فقال رسول الله ص = من كان معه هدى فليقم على احرامه ومن لم يكن معه هدى فليحلل فلم يكن معى هدى فحللت وكان مع الزبير هدى فلم يحل فهذا تصريح بأن الزبير لم يتحلل في حجة الوداع قبل يوم النحر فيجب استثناؤه مع عائشة أو يكون احرامه بالعمرة وتحلله منها في غير حجة الوداع والله أعلم وقولها فلما مسحوا الركن حلوا هذا متأول عن ظاهره لأن الركن هو الحجر الأسود ومسحه يكون في أول الطواف ولا يحصل التحلل بمجرد مسحه باجماع المسلمين وتقديره فلما مسحوا الركن وأتموا طوافهم وسعيهم وحلقوا أو قصروا أحلوا ولا بد من تقدير هذا المحذوف وانما حذفته للعلم به وقد أجمعوا على أنه لا يتحلل قبل اتمام الطواف ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا بد أيضا من السعي بعده ثم الحلق أو التقصير وشذ بعض السلف فقال السعي ليس بواجب ولا حجة
[ 223 ]
لهذا القائل في الحديث لان ظاهره غير مراد بالاجماع فيتعين تأويله كما ذكرنا ليكون موافقا لباقي الأحاديث والله أعلم قولها (عن الزبير فقال قومي عنى فقالت أتخشى أن أثب عليك) انما أمرها بالقيام مخافة من عارض قد يندر منه كلمس بشهوة أو نحوه فان اللمس بشهوة حرام في الاحرام فاحتاط لنفسه بمباعدتها من حيث انها زوجة متحللة تطمع بها النفس قوله (استرخى عنى استرخى عنى) هكذا هو في النسخ مرتين أي تباعدي قوله (مرت بالحجون) هو بفتح الحاء وضم الجيم وهو من حرم مكة وهو الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد عند المحصب قولها (خفاف الحقائب) جمع حقيبة وهو
[ 224 ]
كل ما حمل في مؤخر الرحل والقتب ومنه احتقب فلان كذا قوله عن مسلم القرى هو بقاف مضمومة ثم راء مشددة قال السمعاني هو منسوب إلى بني قرة حي من عبد القيس قال وقال ابن ماكولا هذا ثم قال وقيل بل لأنه كان ينزل فنظره قرة
[ 225 ]
جواز العمرة في اشهر الحج قوله كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض الضمير في كانوا يعود إلى الجاهلية قوله ويجعلون المحرم صفر هكذا هو في النسخ صفر من غير الف بعد الراء وهو منصوب مصروف بلا خلاف وكان ينبغي أن يكتب بالألف وسواء كتب بالألف أم بحذفها لا بد من قراءته هنا منصوبا لانه مصروف قال العلماء المراد الإخبار عن النسئ الذي كانوا يفعلونه وكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه وينسئونه المحرم أي يؤخرن تحريمه الى ما بعد صفر لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة تضيق عليهم أمورهم من الغارة وغيرها فأفضلهم الله تعالى في ذلك فقال تعالى انما النسئ زيادة في الكفر الآية قوله (ويقولون إذا برأ الدبر) يعنون دبر ظهور الابل بعد انصرافها من الحج فانها كانت تدبر بالسير عليها للحج قوله (وعفا الاثر) أي درس وامحى والمراد أثر الابل وغيرها في سيرها عفا أثرها لطول مرور الايام هذا هو المشهور وقال الخطابى المراد أثر الدبر والله أعلم وهذه الالفاظ تقرأ
[ 226 ]
كلها ساكنة الآخر ويوقف عليها لان مرادهم السجع قوله (عن أبى العالية البراء) هو بتشديد الراء لانه كان يبرى النبل قوله (حدثنا أبو داود المبراكى) هو سليمان بن محمد ويقال سليمان بن داود وأبو محمد المباركى بفتح الراء منسوب الى المبارك وهي بليدة بقرب واسط بينها وبين بغداد وهي على طرف دجلة قوله (صلى رسول الله ص = الصبح بذى طوى)
[ 227 ]
هو بفتح الطاء وضمها وكسرها لغات حكاهن القاضي وغيره الأصح الأشهر الفتح ولم يذكر الاصمعي وآخرون غيره وهو مقصور منون وهو واد معروف بقرب مكة قال القاضي ووقع لبعض الرواة في البخاري بالمد وكذا ذكره ثابت وفي هذا الحديث دليل لمن قال يستحب للمحرم دخول مكة نهارا لا ليلا وهو أصح الوجهين لأصحابنا وبه قال ابن عمر وعطاء والنخعي واسحق بن راهويه وابن المنذر والثاني دخولها ليلا ونهارا سواء لا فضلية لأحدهما على الآخر وهو قول القاضي أبى الطيب والماوردي وابن الصباغ والعبد رى من أصحابنا وبه قال طاوس والثوري وقالت عائشة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز يستحب دخولها ليلا وهو أفضل من النهار والله أعلم اشعار الهدى وتقليده عند الاحرام قوله (صلى رسول الله ص = الظهر بذى الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها
[ 228 ]
الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج) أما الاشعار فهو أن يجرحها في صفحة سنامها اليمنى بحربه أو سكن أو حديدة أو نحوها ثم يسلت الدم عنها وأصل الاشعار والشعور الاعلام والعلامة واشعار الهدى لكونه علامة له وهو مستحب ليعلم أنه هدى فان ضل رده واجده وان اختلط بغيره تميز ولأن فيه اظهار شعار وفيه تنبيه غير صاحبه على فعل مثل فعله وأما صفحة السنام فهى جانبه والصفحة مؤنثة فقوله الأيمن بلفظ التذكير يتأول على أنه وصف لمعنى الصفحة لا للفظها ويكون المراد بالصفحة الجانب فكأنه قال جانب سنامها الأيمن ففي هذا الحديث استحباب الاشعار والتقليد في الهدايا من الابل وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف وقال أبو حنيفة الاشعار بدعة لأنه مثلة وهذا يخالف الأحاديث الصحيحة المشهورة في الاشعار وأما قوله أنه مثلة فليس كذلك بل هذا كالفصد والحجامة والختان والكي والوسم وأما محل الاشعار فمذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف أنه يستحب الاشعار في صفحة السنام اليمنى وقال مالك في اليسرى وهذا الحديث يرد عليه وأما تقليد الغنم فهو مذهبنا ومذهب العلماء كافة من السلف والخلف الا مالكا فانه لا يقول بتقليدها قال القاضي عياض ولعله لم يبلغه الحديث الثابت في ذلك قلت قد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة بالتقليد فهي حجة صريحة في الرد على من خالفها واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها عن الجرح ولأنه يستتر بالصوف وأما البقرة فيستحب عند الشافعي وموافقيه الجمع فيها بين الاشعار والتقليد كالابل وفي هذا الحديث استحباب تقليد الابل بنعلين وهو مذهبنا ومذهب العلماء كافة فان قلدها بغير ذلك من جلود أو خيوط مفتولة ونحوها فلا بأس وأما قوله ثم ركب راحلته فهى راحلة غير التى أشعرها وفيه استحباب الركوب في الحج وأنه أفضل من المشى وقد سبق بيانه مرات وأما قوله فلما استوت به على البيداء أهل
[ 229 ]
بالحج فيه استحباب الاحرام عند استواء الراحلة لا قبله ولا بعده وقد سبق بيانه واضحا وأما احرامه ص = بالحج فهو المختار وقد سبق بيان الخلاف في ذلك واضحا والله أعلم قوله لابن عباس ما هذا الفتيا التى قد تشغفت (أو قد تشغبت بالناس) وفي الرواية الأخرى (ان هذا الامر قد تفشع بالناس) أما اللفظة الأولى فبشين ثم غين معجمتين ثم فاء والثانية كذلك لكن بدل الفاء باء موحدة والثالثة بتقديم الفاء وبعدها شين ثم عين ومعنى هذه الثالثة انتشرت وفشت بين الناس وأما الأولى فمعناها علقت بالقلوب وشغفوا بها وأما الثانية فرويت أيضا بالعين المهملة وممن ذكر الروايتين فيها المعجمة والمهملة أبو عبيد والقاضي عياض ومعنى المهملة أنها فرقت مذاهب الناس وأوقعت الخلاف بينهم ومعنى المعجمة خلطت عليهم أمرهم قوله (ما هذا الفتيا) هكذا هو في معظم النسخ هذا الفتيا وفي بعضها هذه وهو الأجود ووجه الأول أنه أراد بالفتيا الافتاء فوصفه مذكرا ويقال فتيا وفتوى قوله (عن ابن عباس أن من طاف بالبيت فقد حل فقال سنة نبيكم ص = وان رغمتم) وفي الرواية الأخرى حدثنا ابن جريج قال أخبرني عطاء قال كان ابن عباس يقول لا يطوف بالبيت حاج ولا
[ 230 ]
غير حاج الا حل قلت لعطاء من أين يقول ذلك قال من قول الله عز وجل محلها الى البيت العتيق قلت فان ذلك بعد المعرف فقال كان ابن عباس يقول هو بعد المعرف وقبله كان يأخذ ذلك من أمر النبي ص = حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع هذا الذي ذكره ابن عباس هو مذهبه وهو خلاف مذهب الجمهور من السلف والخلف فان الذي عليه العلماء كافة سوى ابن عباس أن الحاج لا يتحلل بمجرد طواف القدوم بل لا يتحلل حتى يقف بعرفات ويرمى ويحلق ويطوف طواف الزيارة فحينئذ يحصل التحللان ويحصل الأول باثنين من هذه الثلاثة التى هي رمى جمرة العقبة والحلق والطواف وأما احتجاج ابن عباس بالآية فلا دلالة له فيها لأن قوله تعالى محلها الى البيت العتيق معناه لاتنحر الا في الحرم وليس فيه تعرض للتحلل من الاحرام لأنه لو كان المراد به التحلل من الاحرام لكان ينبغى أن يتحلل بمجرد وصول الهدى الى الحرم قبل أن يطوف وأما احتجاجه بأن النبي ص = أمرهم في حجة الوداع بأن يحلوا فلا دلالة فيه لأن النبي ص أمرهم بفسخ الحج الى العمرة في تلك السنة فلا يكون دليلا في تحلل من هو ملتبس باحرام الحج والله أعلم قال القاضي قال المازري وتأويل بعض شيوخنا قول ابن عباس في هذه المسألة على من فاته الحج أنه يتحلل بالطواف والسعى قال وهذا تأويل بعيد لأنه قال بعده وكان ابن عباس يقول لا يطوف بالبيت حاج ولا غيره الا حل والله أعلم
[ 231 ]
جواز تقصير المعتمر من شعره وأنه لا يجب حلقه (وأنه يستحب كون حلقه أو تقصيره عند المروة) قوله (قال ابن عباس قال لى معاوية أعلمت أني قصرت عن رأس رسول الله ص = عند المروة بمشقص فقلت لا أعلم هذه الا حجة عليك) وفي الرواية الأخرى قصرت عن رسول الله ص = بمشقص وهو على المروة أو رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة في هذا الحديث جواز الاقتصار على التقصير وان كان الحلق أفضل وسواء في ذلك الحاج والمعتمر الا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج ليقع الحلق في أكمل العبادتين وقد سبقت الأحاديث في هذا وفيه أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة لأنها موضع تحلله كما يستحب للحاج أن يكون حلقه أو تقصيره في منى لأنها موضع تحلله وحيث حلقا أو قصرا من الحرم كله جاز وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي ص = في عمرة الجعرانة لأن النبي ص = في حجة الوداع كان قارنا كما سبق ايضاحه وثبت أنه ص = حلق بمنى وفرق أبو طلحة رضى الله عنه شعره بين الناس فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ولا يصلح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع من الهجرة لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما انما أسلم يوم الفتح سنة ثمان هذا هو الصحيح المشهور ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أنه ص = كان
[ 232 ]
متمتعا لأن هذا غلط فاحش فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره أن النبي ص = قيل له ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت فقال انى لبدت رأسي وقلدت هديى فلا أحل حتى أنحر الهدى وفي رواية حتى أحل من الحج والله أعلم قوله (بمشقص) هو بكسر الميم واسكان الشين المعجمة وفتح القاف قال أبو عبيد وغيره هو نصل السهم إذا كان طويلا ليس بعريض وقال أبو حنيفة الدينورى هو كل نصل فيه عترة وهو الناتئ وسط الحربة وقال الخليل هو سهم فيه نصل عريض يرمى به الوحش والله أعلم جواز التمتع في الحج والقران قوله (خرجنا مع رسول ص = نصرخ بالحج صراخا فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة الا من ساق الهدى فلما كان يوم التروية ورحنا الى منى أهللنا بالحج) فيه استحباب رفع الصوت بالتلبية وهو متفق عليه بشرط أن يكون رفعا مقتصدا بحيث لا يؤذى نفسه والمرأه لا ترفع بل تسمع نفسها لأن صوتها محل فتنه ورفع الرجل مندوب عند العلماء كافة وقال أهل الظاهر هو واجب ويرفع الرجل صوته بها في غير المساجد وفي مسجد مكة ومنى وعرفات وأما سائر المساجد ففي رفعه فيها خلاف للعلماء وهما قولان للشافعي ومالك أصحمها استحباب الرفع كالمساجد الثلاثة والثانى لا يرفع لئلا يهوش على الناس بخلاف المساجد الثلاثة لأنها محل المناسك وفي هذا الحديث جواز العمرة في أشهر الحج وهو مجمع عليه وفيه حجة للشافعي وموافقيه أن المستحب للمتمتع أن يكون احرامه بالحج يوم التروية وهو الثامن من ذى الحجة
[ 233 ]
عند ارادته التوجه الى منى وقد سبقت المسألة مرات قوله (ورحنا الى منى) معناه أردنا الرواح وقد سبق بيان الخلاف في أنه يستحب الرواح الى منى يوم التروية من أول النهار أو بعد الزوال والله أعلم قوله (حدثنى سليم بن حيان) هو بفتح السين وكسر اللام قوله صلى الله عليه
[ 234 ]
وسلم (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما) قوله ص = ليثنينهما هو بفتح الياء في أوله معناه يقرن بينهما وهذا يكون بعد نزول عيسى عليه السلام من السماء في آخر الزمان وأما فج الروحاء فبفتح الفاء وتشديد الجيم قال الحافظ أبو بكر الحارثي هو بين مكة والمدينة قال وكان طريق رسول الله ص = الى بدر والى مكة عام الفتح وعام حجة الوداع بيان عدد عمر النبي ص = وزمانهن قوله (اعتمر النبي ص = أربع عمر كلهن في ذى القعدة الا التي مع حجته عمرة من الحديبية
[ 235 ]
أو زمن الحديبية في ذى القعدة وعمرة من العام المقبل في ذى القعدة وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذى القعدة وعمرة مع حجته وفي الرواية الأخرى حج حجة واحدة واعتمر أربع عمر هذه رواية أنس وفي رواية ابن عمر أربع عمر احداهن في رجب وأنكرت ذلك عائشة وقالت لم يعتمر النبي ص = قط في رجب فالحاصل من رواية أنس وابن عمر اتفاقهما على أربع عمر وكانت احداهن في ذى القعدة عام الحديبية سنة ست من الهجرة وصدوا فيها فتحللوا وحسبت لهم عمرة والثانية في ذى القعدة وهي سنة سبع وهي عمرة القضاء والثالثة في ذى القعدة سنة ثمان وهي عام الفتح والرابعة مع حجته وكان احرامها في ذى القعدة واعمالها في ذى الحجة وأما قول ابن عمر أن احداهن في رجب فقد أنكرته عائشة وسكت ابن عمر حين أنكرته قال العلماء هذا يدل على أنه اشتبه عليه أو نسى أو شك ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة ومراجعتها بالكلام فهذا الذى ذكرته هو الصواب ا لذى يتعين المصير إليه وأما القاضى عياض فقال ذكر أنس أن العمرة الرابع كانت مع حجته فيدل على أنه كان قارنا قال وقد رده كثير من الصحابة قال وقد قلنا ان الصحيح أن النبي ص = كان مفردا وهذا يرد قول أنس وردت عائشة قول ابن عمر قال فحصل أن الصحيح أن النبي ص = كان مفردا وهذا يرد قول انس وردت عائشة قول ابن عمر قال فحصل أن الصحيح ثلاث عمر قال ولا يعلم للنبى ص اعتمار الا ما ذكرناه قال واعتمد مالك في الموطأ على أنهن ثلاث عمر هذا آخر كلام القاضي وهو قول ضعيف بل باطل والصواب أنه ص = اعتمر أربع عمر كما صرح به ابن عمر وأنس وجزما الرواية به فلا يجوز رد روايتهما بغير جازم وأما قوله ان النبي ص = كان في حجة الوداع مفردا لا قارنا فليس كما قال بل الصواب أن النبي ص كان مفردا في أول احرامه ثم أحرم بالعمرة فصار قارنا ولا بد من هذا التأويل والله أعلم قال العلماء وانما اعتمر النبي ص = هذه العمر في ذى القعدة لفضيلة هذا الشهر انس وردت عائشة قول ابن عمر قال فحصل أن الصحيح ثلاث عمر قال ولا يعلم للنبى ص اعتمار الا ما ذكرناه قال واعتمد مالك في الموطأ على أنهن ثلاث عمر هذا آخر كلام القاضي وهو قول ضعيف بل باطل والصواب أنه ص = اعتمر أربع عمر كما صرح به ابن عمر وأنس وجزما الرواية به فلا يجوز رد روايتهما بغير جازم وأما قوله ان النبي ص = كان في حجة الوداع مفردا لا قارنا فليس كما قال بل الصواب أن النبي ص كان مفردا في أول احرامه ثم أحرم بالعمرة فصار قارنا ولا بد من هذا التأويل والله أعلم قال العلماء وانما اعتمر النبي ص = هذه العمر في ذى القعدة لفضيلة هذا الشهر
[ 236 ]
ولمخالفة الجاهلية في ذلك فانهم كانوا يرونه من أفجر الفجور كما سبق ففعله ص في هذه الأشهر ليكون أبلغ في بيان جوازه فيها وأبلغ في ابطال ما كانت الجاهلية عليه والله أعلم وأما قوله (ان النبي ص = حج حجة واحدة) فمعناه بعد الهجرة لم يحج الا حجة واحدة وهي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة وقوله قال أبو اسحاق وبمكة اخرى يعنى قبل الهجرة وقد روى في غير مسلم قبل الهجرة حجتان قوله (عن زيد بن أرقم أن رسول الله ص = غزا تسع عشرة غزوة) معناه أنه غزا تسع عشرة وأنا معه أو أعلم له تسع عشرة غزوة وكانت غزواته ص = خمسا وعشرين وقيسبعا وعشرين وقيل غير ذلك وهو مشهور في كتب المغازى وغيرها قوله (عن عائشة قالت لعمري ما اعتمر في رجب) هذا دليل على جواز قول الانسان لعمري وكرهه مالك لأنه من تعظيم غير الله تعالى ومضاهاته بالحلف
[ 237 ]
بغيره قوله (انهم سألوا ابن عمر عن صلاة الذين كانوا يصلون الضحى في المسجد فقال بدعة) هذا قد حمله القاضي وغيره على أن مراده أن اظهارها في المسجد والاجتماع لها هو البدعة لا أن أصل صلاة الضحى بدعة وقد سبقت المسألة في كتاب الصلاة والله أعلم .