شرح مسلم
النووي ج 7

[ 1 ]
صحيح مسلم بشرح النووي صحيح مسلم بشرح النووي الجزء السابع الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان 1407 ه‍ - 1987 م‍ دار الكتاب العربي الرملة البيضاء - ملكارت سنتر - الطابق الرابع ، تلفون 800832 - 800811 - 805478 تلكس : 40139 . L . E كتاب . برقيا : الكتاب ص . ب : 5769 - 11 بيروت - لبنان
[ 1 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[ 2 ]
قوله (عن أم عطية نهينا عن اتباع الجنائز ولا يعزم علينا) معناه نهانا رسول الله وسلم عن ذلك نهى كراهة تنزيه لا نهى عزيمة تحريم ومذهب أصحابنا أنه مكروه ليس بحرام لهذا الحديث قال القاضي قال جمهور العلماء بمنعهن من اتباعها وأجازه علماء المدينة وأجازه مالك وكره للشابة قوله ص = (اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) وفي رواية ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو اكثر من ذلك ان رأيتن ذلك وفي رواية اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا وفي رواية اغسلنها وترا خمسا أو أكثر هذه الروايات متفقة في المعنى وان اختلفت ألفاظها والمراد اغسلنها وترا وليكن ثلاثا فان احتجتن إلى زيادة عيها للانقاء فليكن خمسا فان احتجتن الى زيادة الانقاء فليكن سبعا وهكذا أبدا وحاصله أن الايتار مأمور به والثلاث مأمور بها ندبا فان حصل الانقاء بثلاث لم تشرع الرابعة والا زيد حتى يحصل
[ 3 ]
الانقاء ويندب كونها وترا وأصل غسل الميت فرض كفاية وكذلك حمله وكفنه والصلاة عليه ودفنه كلها فروض كفاية والواجب في الغسل مرة واحدة عامة للبدن هذا مختصر الكلام فيه وقوله ص = (ان رأيتن ذلك) بكسر الكاف خطاب لأم عطية ومعناه ان احتجن وليس معناه التخيير وتفويض ذلك الى شهوتهن وكانت أم عطية غاسلة للميتات وكانت من فاضلات الصحابيات الضارية واسمها نسيبة بضم النون وقيل بفتحها وأما بنت رسول الله ص هذه التي غسلتها فهي زينب رضي الله عنها هكذا قاله الجمهور قال القاضي عياض وقال بعض أهل السير انها أم كلثوم والصوا ب زينب كما صرح به مسلم في روايته التي بعد هذه قوله ص = (بماء وسدر) فيه دلى على استحباب السدر في غسل الميت وهو متفق على استحبابه ويكون في المرة الواجبة وقيل يجوز فيهما قوله ص = (واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور) فيه استحباب شئ من الكافور في الأخيرة وهو متفق عليه عندنا وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء وقال أبو حنيفة لا يستحب وحجة الجمهور هذا الحديث ولأنه يطيب الميت ويصلب بدنه ويبرده ويمنع اسراع فساده أو يتضمن اكرامه قولها (فألقى الينا حقوه فقال أشعرنها اياه) هو بكسر الحاء وفتحها لغتان يعنى ازاره وأصل الحقو معقد الازار وجمعه أحق وحقى وسمى به الازار مجازا لأنه يشد فيه ومعنى أشعرنها اياه اجعلنه شعارا لها وهو الثوب الذي يلي الجسد سمى شعارا لانه يلي شعر الجسد والحكمة في اشعارها به تبريكها به ففيه التبرك بآثار الصالحين ولباسهم وفيه جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل قولها (فمشطناها ثلاثة قرون) أي ثلاث ضفائر جعلنا قرنيها ضفيرتين
[ 4 ]
وناصيتها ضفيرة كما جاء مبينا في غير هذه الرواية ومشطناها بتخفيف الشين فيه استحباب مشط رأس الميت وضفره وبه قال الشافعي وأحمد واسحاق وقال الأوزاعي والكوفيون لا يستحب المشط ولا الضفر بل يرسل الشعر على جانبيها مفرقا ودليلنا عليه الحديث والظاهر اطلاع النبي ص = على ذلك واستئذانه فيه كما في باقي صفة غلسها قوله ص
[ 5 ]
(ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) فيه استحباب تقديم الميامن في غسل الميت وسائر الطهارات ويلحق بها أنواع الفضائل والاحاديث في هذا المعنى كثيرة في الصحيح مشهورة وفيه استحباب وضوء الميت وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور وقال أبو حنيفة لا يستحب يكون الوضوء عندنا في أول الغسل كما في وضوء الجنب وفي حديث أم عطية هذا دليل لأصح الوجهين عندنا أن النساء أحق بغسل الميتة من زوجها وقد تمنع دلالته حتى يتحقق أن زوج زينب كان حاضرا في وقت وفاتها لا مانع له من غسلها وأنه لم يفوض الأمر الى النسوة ومذهبنا ومذهب الجمهور أن له غسل زوجته وقال الشعبي والثوري وأبو حنيفة لا يجوز له غسلها وأجمعوا أن لها غسل زوجها واستدل بعضهم بهذا الحديث على أنه لا يجب
[ 6 ]
الغسل على من غسل ميتا ووجه الدلالة أنه موضع تعليم فلو وجب لعلمه ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يجب الغسل من غسل الميت لكن يستحب قال الخطابي لا أعلم أحدا قال بوجوبه وأوجب أحمد واسحق الوضوء منه والجمهور على استحبابه ولنا وجه شاذ أنه واجب وليس بشئ والحديث المروى فيه من رواية أبي هريرة من غسل ميتا فليتغسل ومن مسه فليتوضأ ضعيف بالاتفاق قوله (فوجب أجرنا على الله) معناه وجوب انجاز وعد بالشرع لا وجوب بالعقل كما تزعمه المعتزلة وهو نحو ما في الحديث حق العباد على الله وقد سبق شرحه في كتاب الايمان قوله فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا معناه لم يوسع عليه الدنيا ولم يعجل له شئ من جزاء عمله قوله (فلم يوجد له شئ يكفن فيه الا نمرة) هي كساء وفيه دليل على أن الكفن من رأس المال وأنه مقدم على الديون لأن النبي ص = أمر بتكفينه في نمرته ولم يسأل هل عليه دين مستغرق أم لا ولا يبعد من حال من لا يكون عنده الا نمرة أن يكون عليه دين واستثنى أصحابنا من الديون الدين المتعلق بعين المال فيقدم على الكفن وذلك كالعبد الجاني والمرهون والمال الذي تعلقت به زكاة أو حق بائعه بالرجوع بافلاس ونحو ذلك قوله ص = (ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الاذخر) هو بكسر الهمزة والخاء وهو حشيش
[ 7 ]
معروف طيب الرائحة وفيه دليل على أنه إذا ضاق الكفن عن ستر جميع البدن ولم يوجد غيره جعل مما يلي الرأس وجعل النقص مما يلي الرجلين ويستر الرأس فان ضاق عن ذلك سترت العورة فان فضل شئ جعل فوقها فان ضاق عن العورة سترت السوأتان لأنهما أهم وهما الأصل في العورة وقد يستدل بهذا الحديث على أن الواجب في الكفن ستر العورة فقط ولا يجب استيعاب البدن عند التمكن فن قيل لم يكونوا متمكنين من جميع البدن لقوله لم يوجد له غيرها فجوابه أن معناه لم يوجد مما يملك الميت الا نمرة ولو كان ستر جميع البدن واجبا لوجب على المسلمين الحاضرين تتميمه ان لم يكن له قريب تلزمه نفقته فان كان وجب عليه فان قيل كانوا عاجزين عن ذلك لأن القضية جرت يوم أحد وقد كثرت القتلى من المسلمين واشتغلوا بهم وبالخوف من العدو وغير ذلك فجوابه أنه يبعد من حال الحاضرين المتولين دفنه أن لا يكون مع واحد منهم قطعة من ثوب ونحوها والله أعلم قوله (منا من أينعت له ثمرته) أي أدركت ونضجت قوله (فهو يهدبها) هو بفتح أوله وبضم الدال وكسرها أي يجتنيها يقال ينع الثمر وأينع ينعا وينوعا فهو يانع وهدبها يهدبها إذا جناها وهذا استعارة لما فتح عليهم من الدنيا قولها (كفن رسول الله ص = في ثلاث أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة) السحولية بفتح السين وضمها والفتح أشهر وهو رواية الأكثرين قال ابن الأعرابي وغيره
[ 8 ]
هي ثياب بيض نقية لا تكون الا من القطن وقال ابن قتيبه ثياب بيض ولم يخصها بالقطن وقال آخرون هي منسوبة الى سحول قرية باليمن تعمل فيها وقال الأزهري السحولية بالفتح منسوبة الى سحول مدينة باليمن يحمل منها هذه الثياب وبالضم ثياب بيض وقيل ان القرية ايضا بالضم حكاه ابن الأثير في النهاية في هذا الحديث وحديث مصعب بن عمير السابق وغيرهما وجوب تكفين الميت وهو اجماع المسلمين ويجب في ماله فان لم يكن له مال فعلى من عليه نفقته فان لم يكن ففي بيت المال فان لم يكن وجب على المسلمين يوزعه الامام على أهل اليسار وعلى ما يراه وفيه أن السنة في الكفن ثلاثة أثواب للرجل وهو مذهبنا ومذهب الجماهير والواجب ثوب واحد كما سبق والمستحب في المرأة خمسة أثواب ويجوز أن يكفن الرجل في خمسة لكن المستحب أن لا يتجاوز الثلاثة وأما الزيادة على خمسة فاسراف في حق الرجل والمرأة قولها (بيض) دليل لاستحباب التكفين في الأبيض وهو مجمع عليه وفي الحديث الصحيح في الثياب البيض وكفنوا فيها موتاكم ويكره المصبغات ونحوها من ثياب الزينة وأما الحرير فقال أصحابنا يحرم تكفين الرجل فيه ويجوز تكفين المرأة فيه مع الكراهة وكره مالك وعامة العلماء التكفين في الحرير مطلقا قال ابن المنذر ولا أحفظ خلافه وقولها ليس فيها قميص ولا عمامة معناه لم يكفن في قميص ولاعمامة وانما كفن في ثلاثة أثواب غيرهما ولم يكن مع الثلاثة شئ آخر هكذا فسره الشافعي وجمهور العلماء وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث قالوا ويستحب أن لا يكون في الكفن قميص ولا عمامة وقال مالك وأبو حنيفة يستحب قميص وعمامة وتأولوا الحديث على أن معناه ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة وانما هما زائدان عليهما وهذا ضعيف فلم يثبت أنه ص = كفن في قميص وعمامة وهذا الحديث يتضمن أن القميص الذي غسل فيه النبي ص = نزع عنه عند تكفينه وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره لأنه لو بقى مع رطوبته لأفسد الأكفان وأما الحديث الذي في سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ص = كفن في ثلاثة أثواب الحلة ثوبان وقميصه الذي توفى فيه فحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به لأن يزيد بن أبي زياد أحد رواته مجمع على ضعفه لا سيما وقد خالف بروايته الثقاة قوله (من كرسف) هو القطن وفيه دليل على استحباب كفن القطن
[ 9 ]
قولها (اما الحلة فانما شبة على الناس فيها) هو بضم الشين وكسر الباء المشددة ومعناه اشتبه عليهم قال اهل اللغة ولا تكون الحلة الا ثوبين ازارا ورداء قولها (حلة يمنية كانت لعبد الله بن ابى بكر) ضبطت هذه اللفظة في مسلم على ثلاثة اوجه حكاها القاضى وهى موجودة في النسخ احدها يمنية بفتح اوله منسوبة الى اليمن والثانى يمانية منسوبة الى اليمن ايضا والثالث يمنة بضم الياء واسكان الميم وهو اشهر قال القاضى وغيره وهى على هذا مضادة حلة يمنة قال الخليل هي ضرب من برود اليمن قولها (وكفن في ثلاثة اثواب سحول يمانية) هكذا هو في جميع الاصول سحول اما يمانية فبتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما لغة في تشديدها ووجه الاول ان الالف بدل ياء النسب فلا يجتمعان
[ 10 ]
بل يقال يمنية أو يمانية بالتخفيف وأما قوله سحول فبضم السين وفتحها والضم أشهر والسحول بضم السين جمع سحل وهو ثوب القطن قولها (سجى رسول الله ص = حين مات بثوب حبرة) معناه غطى جميع بدنه والحبرة بكسر الحاء وفتح الباء الموحدة وهي ضرب من برود اليمن وفيه استحباب تسجية الميت وهو مجمع عليه وحكمته صيانته من الانكشاف وستر عورته المتغيرة عن الأعين قال أصحابنا ويلف طرف الثوب المسجى به تحت رأسه وطرفه الآخر تحت رجليه لئلا ينكشف عنه قالوا تكون التسجية بعد نزع ثيابه التي توفى فيها لئلا يتغير بدنه بسببها قوله (أن النبي ص = خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن
[ 11 ]
في كفن غير طائل وقبر ليلا فزجر النبي ص = أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه الا أن يضطر انسان الى ذلك وقال النبي ص = إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) قوله غير طائل أي حقير غير كامل الستر وقوله ص = حتى يصلى عليه هو بفتح اللام وأما النهى عن القبر ليلا حتى يصلى عليه فقيل سببه أن الدفن نهارا يحضره كثيرون من الناس ويصلون عليه ولا يحضره في الليل الا أفراد وقيل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءه الكفن فلا يبين في الليل ويؤيده أول الحديث وآخره قال القاضي العلتان صحيحتان قال والظاهر أن النبي ص = قصدهما معا قال وقد قيل هذا قوله ص (الا أن يضطر انسان الى ذلك) دليل أنه لا بأس به في وقت الضرورة وقد اختلف العلماء في الدفن في الليل فكرهه الحسن البصري الا لضرورة وهذا الحديث مما يستدل له به وقال جماهير العلماء من السلف والخلف لا يكره واستدلوا بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة من السلف دفنوا ليللا من غير انكار وبحديث المرأة السوداء والرجل الذي كان يقم المسجد فتوفي بالليل فدفنوه ليللا وسألهم النبي ص = عنه فقالوا توفي ليلافدفناه في الليل فقال ألا آذنتموني قالوا كانت ظلمة ولم ينكر عليهم وأجابوا عن هذا الحديث أن النهي كان لترك الصلاة ولم ينه عن مجرد الدفن بالليل وانما نهى لترك الصلاة أو لقلة المصلين أو عن اساءة الكفن أو عن المجموع كما سبق وأما الدفن في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها والصلاة على الميت فيها فاختلف العلماء فيها فقال الشافعي وأصحابه لا يكرهان الا أن يتعمد التأخير الى ذلك الوقت لغير سبب به قال ابن عبد الحكم المالكي وقال مالك لا يصلى عليها بعد الاسفار والاصفرار حتى تطلع الشمس أو تغيب الا أن يخشى عليها وقال أبو حنيفة عند الطلوع والغروب ونصف النهار وكره الليث الصلاة عليها في جميع أوقات النهي وفي الحديث الأمر باحسان الكفن قال العلماء وليس المراد باحسانه السرف فيه والمغالاة ونفاسته وانما المراد نظافته ونقاؤه وكثافته وستره وسترة وتوسطه وكونه من جنس لباسه في الحياة غالبا لا أفخر منه ولا أحقر
[ 12 ]
وقوله (فليحسن كفنه) ضبطوه بوجهين فتح الفاء واسكانها وكلاهما صحيح قال القاضي والفتح أصوب وأظهر وأقرب الى لفظ الحديث قوله ص = (أسرعوا بالجنازة) فيه الأمر بالاسراع للحكمة التي ذكرها ص = قال أصحابنا وغيرهم يستحب الاسراع بالمشي بها ما لم ينته الى حد يخاف انفجارها ونحوه وانما يستحب بشرط أن لا يخاف من شدته انفجارها أو نحوه وحمل الجنازة فرض كفاية قال أصحابنا
[ 13 ]
ولا يجوز حملها على الهيئة المزرية ولا هيئة يخاف معها سقوطها قالوا ولا يحملها الا الرجال وان كانت الميتة امرأة لأنهم أقوى لذلك والنساء ضعيفات وربما انكشف من الحامل بعض بدنه وهذا الذي ذكرناه من استحباب الاسراع بالمشي بها وأنه مراد الحديث هو الصواب الذي عليه جماهير العلماء ونقل القاضي عن بعضهم أن المراد الاسراع بتجهيرها إذا استحق موتها وهذا قول باطل مردود بقوله ص = فشر تضعونه عن رقابكم وجاء عن بعض السلف كراهة الاسراع وهو محمول على الاسراع المفرط الذي يخاف معه انفجارها أو خرجو شئ منها قوله ص = (فشر تضعونه عن رقابكم) معناه أنها بعيدة من الرحمة فلا مصلحة لكم في مصاحبتها ويؤخذ منه ترك صحية أهل البطالة غير الصالحين قوله ص = (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن) فيه الحث على الصلاة على الجنازة واتباعها ومصاحبتها حتى تدفن وقوله ص = (من شهدها حتى تدفن فله قيراطان) معناه بالأول فيحصل بالصلاة قيراط وبالاتباع مع حضور الدفن قيراط آخر فيكون الجميع قيراطين تبينه رواية البخاري في أول صحيحه في كتاب الايمان من شهد جنازة وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها رجع من الاجر بقيراطين فهذا صريح في أن المجموع بالصلاة والاتباع وحضور الدفن قيراطان وقد سبق بيان هذه المسألة ونظائرها والدلائل عليها في مواقيت الصلاة في حديث من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله وفي رواية البخاري هذه مع رواية مسلم التي ذكرها بعد هذا من حديث عبد الاعلى حتى يفرغ منها دليل على أن القيراط الثاني لا يحصل الا لمن دام معها من حين صلى الى أن فرغ وقتها وهذا هو الصحيح
[ 14 ]
عند أصحابنا وقال بعض أصحابنا يحصل القيراط الثاني إذا ستر الميت في القبر باللبن وان لم يلق عليه التراب والصواب الاول وقد يستدل بلفظ الاتباع في هذا الحديث وغيره من يقول المشي وراء الجنازة أفضل من أمامها وهو قول علي بن أبي طالب ومذهب الاوزاعي وأبي حنيفة وقال جمهور الصحابة والتابعين ومالك والشافعي وجماهير العلماء المشي قدامها أفضل وقال الثوري وطائفة هما سواء قال القاضي وفي اطلاق هذا الحديث وغيره اشارة إلى أنه لا يحتاج المنصرف عن اتباع الجنازة بعد دفنها الى استئذان وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو المشهور عن مالك وحكى ابن عبد الحكم عنه أنه لا ينصرف الا بإذن وهو قول جماعة من الصحابة قوله (قيل وما القيراطان قال مثل الجبلين العظيمين) القيراط مقدار من الثواب معلوم عند الله تعالى وهذا الحديث يدل على عظم مقداره في هذا الموضع ولا يلزم من هذا أن يكون هذا هو القيراط المذكور فيمن اقتنى كلبا الا كلب صيد أو زرع أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط وفي روايات قيراطان بل ذلك قدر معلوم ويجوز أن يكون مثل هذا
[ 15 ]
وأقل وأكثر قوله (عن ابن عمر لقد ضيعنا قراريط كثيرة) هكذا ضبطناه وفي كثير من الأصول أو أكثرها ضيعنا في قراريط بزيادة في والأول هو الظاهر والثاني صحيح على أن ضيعنا بمعنى فرطنا كما في الرواية الأخرى وفيه ما كان الصحابة عليه من الرغبة في الطاعات حين يبلغهم والتأسف على ما يفوتهم منها وان كانوا لا يعلمون عظم موقعه قوله (وفي حديث عبد الأعلى حتى يفرغ منها) ضبطناه بضم الياء وفتح الراء عكسه والأول أحسن وأعم وفيه دليل لمن يقول القيراط الثاني لا يحصل الا بفراغ الدفن كما سبق بيانه وقوله في حديث عبد الرزاق (حتى توضع في اللحد) وفي رواية بعده حتى توضع في القبر فيه دليل لمن يقول يحصل القيراط الثاني بمجرد الوضع في اللحد وان لم يلق عليه التراب وقد سبق أن الصحيح أنه لا يحصل الا بالفراغ من اهالة التراب لظاهر الروايات الأخرى حتى يفرغ منها تتأول هذه الرواية على أن المراد يوضع في اللحد ويفرغ منه ويكون المراد الاشارة الى أنه لا يرجع قبل وصولها القبر قوله (فقال ابن عمر أكثر علينا أبو هريرة) معناه أنه خاف لكثرة رواياته أنه اشتبه عليه الامر في ذلك واختلط عليه حديث بحديث لا أنه نسبه الى رواية ما لم يسمع لان مرتبة ابن عمر
[ 16 ]
وأبى هريرة أجل من هذا قوله (عبد الله بن قسيط) هو بضم القاف وفتح السين المهملة واسكان الياء قوله (وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده) وقال في آخره (فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض) هكذا ضبطناه الأول حصباء بالباء والثاني بالحصى مقصور جمع حصاة وهكذا هو في معظم الأصول وفي بعضها عكسه وكلاهما صحيح والحصباء هو الحصى وفيه أنه لا بأس بمثل هذا الفعل وانما بعث ابن عمر الى عائشة يسألها بعد اخبار أبي هريرة لانه خاف على أبي هريرة النسيان والاشتباه كما قدمنا بيانه فلما وافقته عائشة علم أنه حفظ
[ 17 ]
وأتقن قوله ص = (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له الا شفعوا فيه) وفي رواية ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا الا شفعهم الله فيه وفي حديث آخر ثلاثة صفوف رواه أصحاب السنن قال القاضي قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد منهم عن سؤاله هذا كلام القاضي ويحتمل أن يكون النبي ص = أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به ثم بقبول شفاعة أربعين ثم ثلاث صفو ف وان قل عددهم فأخبر به ويحتمل أيضا أن يقال هذا مفهوم عدد ولا يحتج به جماهير الاصوليين فلا يلزم من الاخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف وحينئذ كل الأحاديث معمول بها ويحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين
[ 18 ]
قوله (فحدثت به شعيب بن الحبحاب فقال حدثنى به أنس بن مالك عن النبي ص =) القائل فحدثت به هو سلام بن أبي مطيع الراوي أولا عن أيوب هكذا بينه النسائي في روايته وهذا الحديث ما من ميت تصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة قال القاضي عياض رواه سعيد بن منصور موقوفا على عائشة فأشار الى تعليله بذلك وليس معللا لأن من رفعه ثقة وزيادة الثقة مقبولة وقد قدمنا بيان هذه القاعدة في الفصول في مقدمة الكتاب ثم في مواضع قوله (مر بجنازة فاثني عليها خيرا فقال النبي ص = وجبت وجبت وجبت ومر
[ 19 ]
بجنازة فأثني عليها شرا فقال نبي الله ص = وجبت وجبت وجبت فقال عمر رضي الله عنه فدى لك أبي وأمي مر بجنازة فأثني عليها خيرا فقلت وجبت وجبت وجبت ومر بجنازة فأثني عليها شرا فقلت وجبت وجبت وجبت فقال رسول الله ص = من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأر ض) هكذا وقع هذا الحديث في الأصول وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات في المواضع الأربعة وأنتم شهداء الله في الأرض ثلاث مرات وقوله في أوله (فأثني عليها خيرا فأثني عليها شرا) هكذا هو في بعض الأصول خيرا وشرا بالنصب وهو منصوب باسقاط الجار أي فأثني بخير وبشر وفي بعضها مرفوع وفي هذا الحديث استحباب توكيد الكلام المهتم بتكراره ليحفظ وليكون أبلغ وأما معناه ففيه قولان للعلماء أحدهما أن هذا الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل فكان ثناؤهم مطابقا لأفعاله فيكون من أهل الجنة فان لم يكن كذلك فليس هو مرادا بالحديث والثاني وهو الصحيح المختار أنه على عمومه واطلاقه وأن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلا على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا وان لم تكن أفعاله تقتضيه
[ 20 ]
فلا تحتم عليه العقوبة بل هو في خطر المشيئة فإذا ألهم الله عز وجل الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه سبحانه وتعالى قد شاء المغفرة له وبهذا تظهر فائدة الثناء وقوله ص = (وجبت وأنتم شهداء الله) ولو كان لا ينفعه ذلك الا أن تكون أعماله تقتضيه لم يكن للثناء فائدة وقد أثبت النبي ص = له فائدة فان قيل كيف مكنوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري وغيره في النهي عن سب الأموات فالجواب أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق وسائر الكفار وفي غير المتظاهر بفسق أو بدعة فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقتهم ومن الاقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شرا كان مشهورا بنفاق أو نحوه مما ذكرنا هذا هو الصواب في الجواب عنه وفي الجمع بينه وبين النهي عن السب وقد بسطت معناه بدلائله في كتاب الأذكار قوله (فأثني عليها شرا) قال أهل اللغة الثناء بتقديم الثاء وبالمد يستعمل في الخير ولا يستعمل في الشر هذا هو المشهور وفيه لغة شاذة أنه يستعمل في الشر ايضا وأما النثا بتقديم النون وبالقصر فيستعمل في الشر خاصة وانما استعمل الثناء الممدود هنا في الشر مجازا لتجانس الكلام كقوله تعالى سيئة سيئة " ومكر الله " قوله (فدى لك) مقصور بفتح الفاء وكسرها قوله (أن رسول الله ص = مر عليه بجنازة فقال مستريح ومستراح ثفسره بأن المؤمن يستريح من نصب الدنيا والفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) معنى الحديث أن الموتى قسمان مستريح ومستراح منه ونصب الدنيا تعبها وأما استراحة العباد
[ 21 ]
من الفاجر معناه اندفاع أذاه عنهم وأذاه يكون من وجوه منها ظلمه لهم ومنها ارتكابه للمنكرات فان أنكروها قاسوا مشقة من ذلك وربما نالهم ضرره وان سكتوا عنه أثموا واستراحة الدواب منه كذلك لأنه كان يؤذيها ويضربها ويحملها ما لا تطيقه ويجيعها في بعض الأوقات وغير ذلك واستراحة البلاد والشجر فقيل لأنها تمنع القطر بمصيبته قاله الداودي وقال الباجي لأنه يغصبها ويمنعها حقها من الشرب وغيره قوله (ان رسول الله ص = نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج الى المصلى وكبر أربع تكبيرات) فيه اثبات الصلاة على الميت وأجمعوا على أنها فرض كفاية والصحيح عند أصحابنا أن فرضها يسقط بصلاة رجل واحد وقيل يشترط اثنان وقيل ثلاثة وقيل اربعة وفيه أن تكبيرات الجنازة أربع وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وفيه دليل للشافعي وموافقيه في الصلاة على الميت الغائب وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله ص = لاعلامه بموت النجاشي وهو في الحبشة في اليوم الذي مات فيه وفيه استحباب الاعلام بالميت لا على صورة نعي الجاهلية بل مجرد اعلام الصلاة عليه وتشييعه وقضاء حقه في ذلك والذي جاء من النهي عن النعي ليس المراد به هذا وانما المراد نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر وغيرها وقد يحتج أبو حنيفة في أن صلاة الجنازة لا تفعل في المسجد بقوله خرج الى المصلى ومذهبنا ومذهب الجمهور جوازها فيه ويحتج
[ 22 ]
بحديث سهل بن بيضا ويتأول هذا على أن الخروج الى المصلى أبلغ واظهار أمره المشتمل على هذه المعجزة وفيه أيضا اكثار المصلين وليس فيه دلالة أصلا لأن الممتنع عندهم ادخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة قوله (عن سليم بن حيان) هو بفتح السين وكسر اللام وليس في الصحيحين سليم بفتح السين غيره ومن عداه بضمها مع فتح اللام قوله (صلى على أصحمة النجاشي) هو بفتح الهمزة واسكان الصاد وفتح الحاء المهملتين وهذا الذي وقع في رواية مسلم هو الصواب المعروف فيه وهكذا هو في كتب الحديث والمغازى وغيرها ووقع في مسند ابن أبي شيبه في هذا الحديث تسميته صحمة بتفح الصاد واسكان الحاء وقال هكذا قال لنا يزيد وانما هو صمحة يعنى بتقديم الميم على الحاء وهذان شاذان والصواب أصحمة بالألف قال ابن قتيبة وغيره ومعناه بالعربية عطية قال العلماء
[ 23 ]
والنجاشى لقب لكل من ملك الحبشة وأما أصحمة فهو اسم علم لهذا الملك الصالح الذي كان في زمن النبي ص = قال المطرر وابن خالويه وآخرون من الأئمة كلاما متداخلا حاصله أن كل من ملك المسلمين يقال له أمير المؤمنين ومن ملك الحبشة النجاشي ومن ملك الروم قيصر ومن ملك الفرس كسرى ومن ملك الترك خاقان ومن ملك القبط فرعون ومن ملك مصر العزيز ومن ملك اليمن تبع ومن ملك حمير القيل بفتح القاف وقيل القيل أقل درجة من الملك قوله ص = فقوموا فصلوا عليه فيه وجوب الصلاة على الميت وهي فرض كفاية بالاجماع كما سبق قوله في حديث النجاشي (وكبر اربع تكبيرات) وكذا في حديث ابن عباس كبر أربعا وفي حديث زيد بن أرقم بعد هذا خمسا قال القاضي اختلف الآثار في ذلك فجاء في رواية ابن أبي خيثمة أن النبي ص = كان يكبر أربعا وخسما وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي فكبر عليه أربعا وثبت على ذلك حتى توفى ص = قال واختلف الصحابة في ذلك من ثلاث تكبيرات الى تسع وروى عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر على أهل بدر ستا وعلى سائر الصحابة خمسا وعلى غيرهم أربعا قال ابن عبد البر وانعقد الاجماع بعد ذلك على أربع
[ 24 ]
وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم شذوذ لا يلتفت إليه قال ولا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار يخمس الا ابن ابي ليلى ولم يذكر في روايات مسلم السلام وقد ذكره الدارقطني في سننه وأجمع العلماء عليه ثم قال جمهورهم يسلم تسليمة واحدة وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وجماعة من السلف تسليمتين واختلفوا هل يجهر الامام بالتسليم أم يسر وأبو حنيفة والشافعي يقولان يجهر وعن مالك روايتان واختلفوا في رفع الأيدى في هذه التكبيرات ومذهب الشافعي الرفع في جميعها وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء وسالم ابن عبد الله وقيس بن أبي حازم والزهرى والأوزاعي وأحمد واسحاق واختاره ابن المنذر وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحاب الرأى لا يرفع الا في التكبيرة الأولى وعن مالك ثلاث روايات الرفع في الجميع وفي الأولى فقط وعدمه في كلها قوله (انتهى رسول الله ص = الى قبر رطب فصلى عليه) يعنى جديدا وترابه رطب بعد لم تطل مدته فيبس فيه دليل لمذهب الشافعي وموافقيه في الصلاة على القبور قوله (من شهده ابن عباس) وابن عباس بدل من قوله تقم المسجد أي تكنسه وفي حديث لسوداء هذه التي صلى النبي ص = على قبرها وحديث ابن عباس السابق
[ 25 ]
وحديث أنس دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في الصلاة على الميت في قبره سواء كان صلى عليه أم لا وتأوله أصحاب مالك حيث منعوا الصلاة على القبر بتأويلات باطلة لا فائدة في ذكرها لظهور فسادها والله أعلم وفيه بيان ما كان عليه النبي ص = من التواضع والرفق بأمته وتفقد أحوالهم والقيام بحقوقهم والاهتمام بمصالحهم في آخرتهم ودنياهم
[ 26 ]
قوله ص = (أفلا كنتم آدنتمونى) أي أعلمتموني وفيه دلالة لاستحباب الاعلام بالميت وسبق بيانه قوله ص = (ان هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وان الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم) قوله (كان زيد يكبر على جنائزنا أربعا وأنه كبر على جنازة خمسا فسألته فقال كان رسول الله ص = يكبرها) زيد هذا هو زيد بن أرقم وجاء مبينا في رواية أبي داود وهذا الحديث عند العلماء منسوخ دل الاجماع على نسخه وقد سبق أن ابن عبد البر وغيره نقلوا الاجماع على أنه لا يكبر اليوم الا أربعا وهذا دليل على أنهم أجمعوا بعد زيد بن أرقم والأصح أن الاجماع بعد الخلاف يصح والله أعلم قوله ص = (إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تخلفكم أو توضع) وفي رواية إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه وفي رواية إذا اتبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع وفي رواية إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعهم فلا يجلس حتى توضع وفي رواية أنه ص =
[ 27 ]
حيان بن حصين قوله (نهى رسول الله ص = أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه) وفي الرواية الأخرى نهى عن تقصيص القبور التقصيص بالقاف وصادين مهملتين هو التجصيص والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد هي الجص وفي هذا الحديث كراهة تجصيص القبر والبناء عيه وتحريم القعود والمراد بالقعود الجلوس عليه هذا مذهب الشافعي وجمهور العلماء وقال مالك في الموطأ المراد بالقعود الجلوس ومما يوضح الرواية المذكورة بعد هذا لا تجلسوا على القبور وفي الرواية الاخرى (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص الى جلده خير له من أن يجلس على قبر) قا أصحابنا تجصيص القبر مكروه والقعود عليه حرام وكذا الاستناد إليه والاتكاء عليه وأما البناء عليه فان كان في ملك البانى فمكروه وان كان في مقبرة مسبلة فحرام نص عليه الشافعي والأصحاب قال الشافعي في الأم ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى ويؤيد الهدم قوله
[ 29 ]
المتولي من أصحابنا أنه مستحب وهذا هو المختار فيكون الأمر به للندب والقعود بيانا للجواز ولا يصح دعوى النسخ في مثل هذا لأن النسخ انما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث ولم يتعذر والله أعلم قوله ص = (حتى تخلفكم) بضم التاء وكسر اللام المشددة أي تصيرون وراءها غائبين عنها قوله ص = (فليقم حين يراها) ظاهره أنه يقوم بمجرد الرؤية قبل أن تصل إليه قوله (انها من اهل الارض) معناه جنازة كافر من أهل
[ 30 ]
تلك الأرض قوله (صلى رسول الله ص = على جنازة فحفظت من دعائه الى آخره) فيه اثبات الدعاء في صلاة الجنازة وهو مقصودها ومعظمها وفي استحباب هذا الدعاء وفيه اشارة الى الجهر بالدعاء في صلاة الجنازة وقد اتفق أصحابنا على أنه ان صلى عليها بالنهار أسر بالقراءة وان صلى بالليل ففيه وجهان الصحيح الذي عليه الجمهور يسر والثاني يجهر وأما الدعاء فيسر به بلا خلاف وحينئذ يتأول هذا الحديث على أن قوله حفظت من دعائه أي علمنيه
[ 31 ]
بعد الصلاة فحفظته قوله (وحدثني عبد الرحمن بن جبير) القائل وحدثني هو معاوية بن
[ 32 ]
صالح الراوى في الاسناد الأول عن حبيب قوله (إن النبي ص = صلى على النفساء وقام وسطها) هو باسكان السين وفيه اثبات الصلاة على النفساء وأن السنة أن يقف الامام عند عجيزة الميتة قوله (أتى النبي ص = بفرس معرورى فركبه) معناه بفرس عرى وهو بضم الميم وفتح الراء قال أهل اللغة اعروريت الفرس إذا ركبته عريا فهو معرورى قالوا ولم يأت افعولي معدى الا قولهم اعروريت الفرس واحلوليت الشئ قوله (فركبه
[ 33 ]
حين انصرف من جنازة ابن الدحداح) فيه اباحة الركوب في الرجوع عن الجنازة وانما يكره الركوب في الذهاب معها وابن الدحداح بدالين وحائين مهملات ويقال أبو الدحداح ويقال أبو الدحداحة قال ابن عبد البر لا يعرف اسمه قوله (ونحن نمشي حوله) فيه جواز مشى الجماعة مع كبيرهم الراكب وأنه لا كراهة فيه في حقه ولا في حقهم إذا لم يكن فيه مفسدة وانما كره ذلك إذا حصل فيه انتهاك للتابعين أو خيف اعجاب ونحوه في حق التابع أو نحو ذلك من المفاسد قوله (فعقله رجل فركبه) معناه أمسكه له وحبسه وفيه اباحة ذلك وأنه لا بأس بخدمة التابع متبوعه برضاه قوله (فجعل يتوقص به) أي يتوثب قوله (كم من عذق معلق) العذق هنا بكسر العين المهملة وهو الغصن من النخلة أما العذق بفتحها فهو النخلة بكمالها وليس مرادا هنا قوله ص = (كم من عذق معلق في الجنة لأبى الدحداح) قالوا سببه أن يتيما خاصم أبا لبابة في نخلة فبكى الغلام فقال النبي ص = له اعطه اياها ولك بها عذق في الجنة فقال لا فسمع بذلك أبو الدحداح فاشتراها من أبي لبابة بحديقه له ثم قال للنبي ص = ألى بها عذق ان أعطيتها اليتيم قال نعم فقال النبي ص =
[ 34 ]
كم من عذق معلق في الجنة لابي الدحداح قوله (الحدوا لي لحدا) بوصل الهمزة وفتح الحاء ويجوز بقطع الهمزة وكسر الحاء يقال لحد يلحد كذهب يذهب وألحد يلحد إذا حفر اللحد واللحد بفتح اللام وضمها معروف وهو الشق تحت الجانب القبلى من القبر وفيه دليل لمذهب الشافعي والأكثرين في أن الدفن في اللحد أفضل من الشق إذا أمكن اللحد وأجمعوا على جواز اللحد والشق قوله (ألحدوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله ص =) فيه استحباب اللحد ونصب اللبن وانه فعل ذلك برسول الله ص = باتفاق الصحابة رضي الله عنهم وقد نقلوا أن عدد لبناته ص = تسع قوله (جعل في قبر النبي ص = قطيفة حمراء) هذه القطيفة ألقاها شقران مولى رسول الله ص = وقال كرهت أن يلبسها أحد بعد رسول الله ص = وقد نص الشافعي وجميع أصحابنا وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر وشذ عنهم البغوي من أصحابنا فقال في كتابه التهذيب لا بأس بذلك لهذا الحديث والصواب كراهته كما قاله الجمهور وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك لم يوافقه غيره من الصحبة ولا علموا ذلك وانما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي ص = لأن النبي ص = كان يلبسها ويفترشها فلم تطب نفس شقران أن يستبدلها أحد بعد النبي ص = وخالفه غيره فروى البيهقي عن ابن عباس أنه كره أن يجعل تحت الميت ثوب في قبره والله أعلم والقطيفة كساء له خمل
[ 35 ]
قوله (قال مسلم أبو جمرة اسمه نصر بن عمران الضبعى وابو التياح يزيد بن حميد ماتا بسرخس) وهو أبو جمرة بالجيم والضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة وأما سرخس فمدينة معروفة بخراسان وهي بفتح السين والراء واسكان الخاء المعجمة ويقال أيضا باسكان الراء وفتح الخاء والأول أشهر ونما ذكر مسلم أبا جمرة وأبا التياح جميعا مع أن أبا جمرة مذكور في الاسناد ولا ذكر لابي التياح هنا لاشتراكهما في أشياء قل أن يشترك فيها اثنان من العلماء لآنهما جميعا ضبعيان بصريان تابعيان ثقتان ماتا بسرخس في سنة واحدة سنة ثمان وعشرين ومائة وذكر ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم الاصبهاني عمران والد أبي جمرة في كتبهم في معرفة الصحابة قالوا واختلف العلماء هل هو صحابي أم تابعي قالوا وكان قاضيا على البصرة روى عنه ابنه أبو جمرة وغيره قال الحاكم أبو أحمد في كتابه في الكنى ليس في الرواة من يكنى أبا جمرة بالجيم غير أبي جمرة هذا قوله (أن أبا على الهمداني حدثه) وفي رواية هرون أن ثمامة بن شفى حدثه فأبو على هو ثمامة بن شفى بضم الشين المعجمة وفتح الفاء وتشديد الياء والهمداني باسكان الميم وبالدال المهملة قوله (كنا مع فضالة بأرض الروم برودس) هو براء مضمومة ثم واو ساكنة ثم دال مهملة مكسورة ثم سين مهملة هكذا ضبطناه في صحيح مسلم وكذا نقله القاضي عياض في المشارق عن الأكثرين ونقل عن بعضهم بفتح
[ 36 ]
الراء وعن بعضهم بفتح الدال وعن بعضهم بالشين المعجمة وفي رواية أبي داود في السنن بذال معجمة وسين مهملة وقال هي جزيرة بأرض الروم قال القاضي عياض رضى الله عنه ذكر مسلم رضى الله عنه تكفين النبي ص = واقباره ولم يذكر غسله والصلاة عليه ولا خلاف أنه غسل واختلف هل صلى عليه فقيل لم يصل عليه أحد أصلا وانما كان الناس يدخلون أرسالا يدعون وينصرفون واختلف هؤلاء في علة ذلك فقيل لفضيلته فهو غنى عن الصلاة عليه وهذا ينكسر بغسله وقيل بل لأنه لم يك هناك امام وهذا غلط فان امامة الفرائض لم تتعطل ولأن بيعة أبي بكر كانت قبل دفنه وكان امام الناس قبل الدفن والصحيح الي عليه الجمهور أنهم صلوا عليه فرادى فكان يدخل فوج يصلون فرادى ثم يخرجون ثم يدخل فوج آخر فيصلون كذلك ثم دخلت النساء بعد الرجال ثم الصبيان وانما أخروا دفنه ص = من يوم الاثنين الى ليلة الاربعاء أواخر نهار الثلاثاء للاشتغال بأمر البيعة ليكون لهم امام يرجعون الى قوله ان اختلفوا في شئ من أمور تجهيزه ودفنه وينقادون لامره لئلا يؤدى الى النزاع واختلاف الكلمة وكان هذا أهم الأمور والله أعلم قوله (يأمر بتسويتها) وفي الرواية الأخرى ولا قبرا مشرفا الا سويته فيه أن السنة أن القبر لا يرفع على الأرض رفعا كثيرا ولا يسنم بل يرفع نحو شبر ويسطح وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه ونقل القاضى عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسنيمها وهو مذهب مالك قوله (أن لا تدع تمثالا الا طمسته) فيه الأمر بتغيير صور ذوات الأرواح قوله (عن أبي الهياج) هو بفتح الهاء وتشديد الياء واسمه
[ 37 ]
وأصحابه قاموا لجنازة فقالوا يا رسول الله انها يهودية فقال ان الموت فزع فإذا رأيتم الجنازة فقوموا وفي رواية قام النبي ص = وأصحابه لجنازة يهودى حتى توارت وفي رواية قيل انه يهودى فقال أليست نفسا وفي رواية على رضي الله عنه قام رسول الله ص = ثم قعد وفي رواية رأينا رسول الله ص = قام فقمنا وقعد فقعدنا قال القاضى اختلف الناس في هذه المسألة فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي القيام منسوخ وقال أحمد واسحاق وابن حبيب وابن الماجشون المالكيان هو مخير قال واختلفوا في قيام من يشيعها عند القبر فقال جماعة من الصحابة والسلف لا يقعد حتى توضع قالوا والنسخ انما هو في قيام من مرت به وبهذا قال الأوزاعي وأحمد واسحاق ومحمد بن الحسن قال واختلفوا في القيام على القبر حتى تدفن فكره قوم وعمل به آخرون روى ذلك عن عثمان وعلى وابن عمر وغيرهم رضى الله عنهم هذا كلام القاضي والمشهور في مذهبنا أن القيام ليس مستحبا وقالوا هو منسوخ بحديث على واختار
[ 38 ]
ولا قبرا مشرف الا سويته قوله (عن بسر بن عبيد الله) هو بضم الباء وبالسين المهملة قوله (عن أبي مرثد) هو بالمثلثة واسمه كناز بفتح الكاف وتشديد النون وآخره زاي قوله ص = (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) فيه تصريح بالنهي عن الصلاة الى القبر قال الشافعي رحمه الله وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس قولها (ما صلى رسول الله ص = على سهيل بن بيضاء الا في
[ 39 ]
المسجد) وفي الرواية الاخرى (والله لقد صلى رسول الله ص = على ابني بيضاء في المسجد) وفي الرواية الاخرى (والله لقد صلى رسول الله ص = على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه) قال العلماء بنو بيضاء ثلاثة اخوة سهل وسهيل وصفوان وأمهم البيضاء اسمها دعد والبيضاء وصف وأبوهم وهب بن ربيعة القرشى الفهرى وكان سهيل قديم الاسلام
[ 40 ]
هاجر الى الحبشة ثم عاد الى مكة ثم هاجر الى المدينة وشهد بدرا وغيرها توفى سنة تسع من الهجرة رضى الله عنه وفي هذا لحديث دليل للشافعي والأكثرين في جواز الصلاة على الميت في المسجد وممن قال به أحمد واسحاق قال ابن عبد البر ورواه المدنيون في الموطأ عن مالك وبه قال ابن حبيب المالكى وقال ابن أبي ذئب وأبو حنيفة ومالك على المشهور عنه لا تصح الصلاة عليه في المسجد بحديث في سنن ابي داود من صلى على جنازة في المسجد فلا شئ له ودليل الشافعي والجمهور حديث سهيل بن بيضاء وأجابوا عن حديث سنن أبي داود بأجوبة أحدها أنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به قال أحمد بن حنبل هذا حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة وهو ضعيف والثاني أن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود ومن صلى على جنازة في المسجد فلا شئ عليه ولا حجة لهم حينئذ فيه الثالث أنه لو ثبت الحديث وثبت أنه قال فلا شئ لوجب تأويله على فلا شئ عليه ليجمع بين الروايتين وبين هذا الحديث وحديث سهيل بن بيضاء وقد جاء له بمعنى عليه كقوله تعالى وان أسأتم فلها الرابع أنه محمول على نقص الأجر في حق من صلى في المسجد ورجع ولم يشيعها الى المقبرة لما فاته من تشييعه الى المقبرة وحضور دفنه والله أعلم وفي حديث سهيل هذا دليل لطهارة الآدمى الميت وهو الصحيح في مذهبنا قوله (وحدثني هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع قالا حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الضحاك يعنى ابن عثمان عن أبي النضر عن ابي سلمة عن عائشة) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال خالف الضحاك حافظان مالك والماجشون فروياه عن أبي النضر عن عائشة مرسلا وقيل عن الضحاك عن أبي النضر عن أبي بكر بن عبد الرحمن ولا يصح الا مرسلا هذا كلام الدارقطني وقد سبق الجواب عن مثل هذا الاستدراك في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح في مواضع منه وهو أن هذه الزيادة التي زادها الضحاك زيادة
[ 41 ]
ثقة وهي مقبولة لأنه حفظ ما نسيه غيره فلا تقدح فيه والله أعلم قوله ص = (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) دار منصوب على النداء أي يا أهل دار فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقيل منصوب على الاختصاص قال صاحب المطالع ويجوز جره على البدل من الضمير في عليكم قال الخطابى وفيه أن اسم الدار يقع على المقابر قال وهو صحيح فان الدار في اللغة يقع على الربع المسكون وعلى الخراب غير المأهول وأنشد فيه وقوله ص = (وانا ان شاء الله بكم لاحقون) التقييد بالمشيئة على سبيل التبرك وامتثال قول الله تعالى تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله وقيل المشيئة عائدة الى تلك التربة بعينها وقيل غير ذلك وفي هذا الحديث دليل لاستحباب زيارة القبور والسلام على أهلها والدعاء لهم والترحم عليهم قولها (يخرج من آخر الليل الى البقيع) فيه فضيلة زيارة قبور البقيع قوله ص = السلام عليكم دار قوم مؤمنين قال الخطابى وغيره فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواء في تقديم السلام على عليكم بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما قوله ص = (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) البقيع هنا بالباء بلا خلاف وهو مدفن أهل المدينة سمى بقيع الغرقد لغرقد كان فيه وهو ما عظم من العوسج وفيه اطلاق لفظ الأهل على ساكن المكان من حي وميت قوله (حدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا عبد الله ابن وهب أخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن كثير بن المطلب أنه سمع محمد بن قيس يقول سمعت
[ 42 ]
عائشة تحدث فقالت ألا أحدثكم عن النبي ص = وعنى قلنا بلى ح وحدثني من سمع حجاجا الاعور واللفظ له قال حدثنا حجاج بن محمد بن جريج أخبرني عبد الله رجل من قريش عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوما ألا أحدثكم عنى وعن أمي) الى آخره قال القاضي هكذا وقع في مسلم في اسناد حديث حجاج عن ابن جريج أخبرني عبد الله رجل من قريش وكذا رواه أحمد بن حنبل وقال النسائي وأبو نعيم الجرجاني وأبو بكر النيسابوري وأبو عبد الله الجرجاني كلهم عن يوسف بن سعيد المصيصى حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عبد الله بن أبي ملكية وقال الدارقطني هو عبد الله بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة قال أبو علي الغساني الجياني هذا الحديث أحد الأحاديث المقطوعة في مسلم قال وهو ايضا من الأحاديث التي وهم في رواتها وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال أخبرني محمد بن قيس ابن مخرمة أنه سمع عائشة قال القاضي قوله ان هذا مقطوع لا يوافق عليه بل هو مسند وانما لم يسم رواته فهو من باب المجهول لا من باب المنقطع إذ المنقطع ما سقط من رواته راو قبل التابعي قال القاضي ووقع في سنده اشكال آخر وهو ان قول مسلم وحدثني من سمع حجاجا الأعور واللفظ له قال حدثنا حجاج بن محمد يوهم أن حجاجا الأعور حدث به عن آخر يقال له حجاج ابن محمد وليس كذا بل حجاج الأعور هو حجاج بن محمد بلا شك وتقدير كلام مسلم حدثنى من سمع حجاجا الأعور قال هذا المحدث حدثنى حجاج بن محمد فحكى لفظ المحدث هذا كلام القاضى قلت ولا يقدح رواية مسلم لهذا الحديث عن هذا المجهول الذي سمعه منه عن حجاج
[ 43 ]
الأعور لأن مسلما ذكره متابعة لا متأصلا معتمدا عليه بل الاعتماد على الاسناد الصحيح قبله قولها (فلم يلبث الا ريثما) هو بفتح الراء واسكان الياء وبعدها ثاء مثلثة أي قدر ما قولها (فأخذ رداءه رويدا) أي قليلا لطيفا لئلا ينبهها قولها (ثم أجافه) بالجيم أي أغلقه وانما فعل ذلك ص = في خفية لئلا يوقظها ويخرج عنها فربما لحقها وحشة في انفرادها في ظلمة الليل قولها (وتقنعت ازارى) هكذا هو في الأصول ازاري بغير باء في أوله وكأنه بمعنى لبست ازاري فلهذا عدى بنفسه قولها (جاء البقيع فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات) فيه استحباب اطالة الدعاء وتكريره ورفع اليدين فيه وفيه أن دعاء القائم أكمل من دعاء الجالس في القبور قولها (فأحضر فأحضرت) الاحضار العدو قولها (فقال مالك يا عائش حشيا رابية) يجوز في عائش فتح الشين وضمها وهما وجهان جاريان في كل المرخمات وفيه جواز ترخيم الاسم إذا لم يكن فيه ايذاء للمرخم وحشيا بفتح الحاء المهملة واسكان الشين المعجمة مقصور معناه وقد وقع عليك الحشا وهو الربو والتهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه والمحتد في كلامه من ارتفاع النفس وتواتره يقال امرأة حشياء وحشية ورجل حشيان وحشش قيل اصله من أصاب الربو حشاه وقوله رابية أي مرتفعة البطن قولها (لا بي شئ) وقع في بعض الأصول لا بي شئ بباء الجر وفي بعضها لأي شئ بتشديد الياء وحذف الباء على الاستفهام وفي بعضها لا شئ وحكاها القاضي قال وهذا الثالث
[ 44 ]
أصوبها قوله ص = (فأنت السواد) أي الشخص قولها (فلهدنى) هو بفتح الهاء والدال المهملة وروى فلهزني بالزاي وهما متقاربان قال أهل اللغة لهده ولهده بتخفيف الهاء وتشديدها أي دفعه ويقال لهزه إذا ضربه بجمع كفه في صدره ويقرب منهما لكزه ووكزه قوله (قالت مهما يكتم الناس يعلمه الله نعم) هكذا هو في الأصول وهو صحيح وكأنها لما قالت مهما يكتم الناس يعلمه الله صدقت نفسها فقالت نعم قولها (قلت كيف أقول يا رسول الله قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منكم ومنا والمستأخرين وانا ان شاء الله تعالى بكم للاحقون) فيه استحباب هذا القول لزائر القبور وفيه ترجيح لقول من قال في قوله سلام عليكم دار قوم مؤمنين أن معناه أهل دار قوم مؤمنين وفيه أن المسلم والمؤمن قد يكونان بمعنى واحد وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظ وهو بمعنى قوله تعالى من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم في هذا الحديث غير المؤمن لأن المؤمن ان كان منافقا لا يجوز السلام عليه
[ 45 ]
والترحم وفيه دليل لمن جوز للنساء زيارة القبور وفيها خلاف للعلماء وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا أحدها تحريمها عليهن لحديث لعن الله زوارات القبور والثاني يكره والثالث يباح ويستدل له بهذا الحديث وبحديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ويجاب عن هذا بأن نهيتكم ضمير ذكور فلا يدخل فيه النساء على المذهب الصحيح المختار في الأصول والله أعلم قوله ص = (استأذنت ربي أن أستغفر لأمى فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى وقد قال الله تعالى صلى الله عليه وسلم في الدنيا معروفا وفيه النهى عن الاستغفار للكفار قال القاضي عياض رحمه الله سبب زيارته ص = قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها ويؤيده قوله ص = في آخر الحديث فزوروا القبور فانها تذكركم الموت قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا حدثنا محمد ابن عبيد عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال زار النبي ص =
[ 46 ]
قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال أستأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فانها تذكركم الموت) هذا الحديث وجد في رواية أبي العلاء ابن ماهان لأهل المغرب ولم يوجد في روايات بلادنا من جهة عبد الغافر الفارسي ولكنه يوجد في كثير من الأصول في آخر كتاب الجنائز ويصيب عليه وربما كتب في الحاشية رواه أبو داود وفي سننه عن محمد بن سليمان الانباري عن محمد بن عبيد بهذا الاسناد ورواه النسائي عن قتيبه عن محمد بن عبيد ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبيد وهؤلاء كلهم ثقات فهو حديث صحيح بلا شك قوله (فبكى وأبكى من حوله) قال القاضي بكاؤه ص = على ما فاتها من ادراك أيامه والايمان به قوله (محارب بن دثار) هو بكسر الدال وتخفيف المثلثة قوله ص = (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) هذا من الأحاديث التي تجمع الناسخ والمنسوخ وهو صريح في نسخ نهى الرجال عن زيارتها وأجمعوا على أن زيارتها
[ 47 ]
سنة لهم وأما النساء ففيهن خلاف لاصحابنا قدمناه وقدمنا أن من منعهن قال النساء لا يدخلن في خطاب الرجال وهو الصحيح عند الأصوليين وأما الانتباذ في الأسقية فسبق بيانه في كتاب الايمان في حديث وفد عبس القيس وستأتي بقيته في كتاب الأشربة ان شاء الله تعالى وأما الأضاحى فسيأتي ايضاحها في بابها ان شاء الله تعالى قوله (أتى النبي ص = برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه) المشاقص سهام عراض واحدها مشقص بكسر الميم وفتح القاف وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه وهذا مذهب عمر ابن عبد العزيز والأوزاعي وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء يصلى عليه وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي ص = لم يصل عليه بنفسه زجرا للناس عن مثل فعله وصليت عليه الصحابة وهذا كما ترك النبي ص = الصلاة في أول الأمر على من عليه دين زجرا لهم عن التساهل في الاستدانة وعن اهمال وفائه وأمر أصحابه بالصلاة عليه فقال ص = صلوا على صاحبكم قال القاضي مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا وعن مالك وغيره أن الامام يجتنب الصلاة على مقتول في حدوأن أهل الفضل لا يصلون على الفساق زجرا لهم وعن الزهري لا يصلى على
[ 48 ]
مرجوم ويصلى على المقتول في قصاص وقال أبو حنيفة لا يصلى على محارب ولا على قتيل الفئة الباغية وقال قتادة لا يصلى على ولد الزنا وعن الحسن لا يصلى على النفساء تموت من زنا ولا على ولدها ومنع بعض السلف الصلاة على الطفل الصغير واختلفوا في الصلاة على السقط فقال بها فقهاء المحدثين وبعض السلف إذا مضى عليه اربعة أشهر ومنعها جمهور الفقهاء حتى يستهل وتعرف حياته بغير ذلك وأما الشهيد المقتول في حرب الكفار فقال مالك والشافعي والجمهور لا يغسل ولا يصلى عليه وقال أبو حنيفة يغسل ولا يصلى عليه وعن الحسن يغسل ويصلى عليه والله أعلم كتاب الزكاة هي في اللغة النماء والتطهير فالمال ينمى بها من حيث لا يرى وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب وقيل ينمى أجرها عند الله تعالى وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوى فيها وقيل لأنها تزكى صاحبها وتشهد بصحة ايمانه كما سبق في قوله ص = والصدقة برهان قالوا وسميت صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة ايمانه بظاهره وباطنه قال القاضي عياض قال المازرى رحمه الله قد أفهم الشرع أن الزكاة وجبت للمواساة وأن المواساة لا تكون الا في مال له بال وهو النصاب ثم جعلها في الأموال الثابتة وهي العين والزرع والماشية وأجمعوا على وجوب الزكاة في هذه الانواع واختلفوا فيما سواها كالعروض فالجمهور يوجبون زكاة العروض وداود يمنعها تعلقا بقوله ص = ليس على الرجل في عبده ولا فرسه صدقة وحمله الجمهور على ما كان للقنية وحدد الشرع نصاب كل جنس بما يحتمل المواساة فنصاب الفضة خمس أواق وهي مائتا درهم بنص الحديث والاجماع وأما الذهب فعشرون مثقالا والمعول فيه على الاجماع قال وقد حكى فيه خلاف شاذ وورد فيه أيضا
[ 49 ]
حديث عن النبي ص = وأما الزروع والثمار والماشية فنصبها معلومة ورتب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال فأعلاها وأقلها تعبا الركاز وفيه الخمس لعدم التعب فيه ويليه الزرع والتمر فان سقى بماء السماء ونحوه ففيه العشر وإلا فنصفه ويليه الذهب والفضة والتجارة وفيها ربع العشر لأنه يحتاج الى العمل فيه جميع السنة ويليه الماشية فانه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنواع السابقة والله أعلم قوله ص = (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) الأوسق جمع وسق فيه لغتان فتح الواو وهو المشهور وكسرها وأصله في اللغة الحمل والمراد بالوسق ستون صاعا كل صاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي وفي رطل بغداد أقوال أظهرها أنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وقيل مائة وثمانية وعشرون بلا أسباع وقيل مائة وثلاثون فالأوسق الخمسة ألف وستمائة رطل بالبغدادي وهل هذا التقدير بالارطال تقريب أم تحديد فيه وجهان لأصحابنا أصحهما تقريب فإذا نقص عن ذلك يسيرا وجبت الزكاة والثاني تحديد فمتى نقص شيئا وان قل لم تجب الزكاة وفي هذا الحديث فائدتان احداهما وجوب الزكاة في هذه المحدودات الثانية أنه لا زكاة فيما دون ذلك ولا خلاف بين المسلمين في هاتين الا ما قال أبو حنيفة وبعض السلف أنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيره وهذا مذهب باطل منابذ لصريح الاحاديث الصحيحية وكذلك أجمعوا على أن في عشرين مثقالا من الذهب زكاة الا ما روى عن الحسن البصري والزهرى أنهما قالا لا تجب في أقل من أربعين مثقالا والأشهر عنهما الوجوب في عشرين كما قاله الجمهور قال القاضي عياض وعن بعض السلف وجوب الزكاة في الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم وان كان دون عشرين مثقالا قال هذا القائل ولا زكاة في العشرين حتى تكون قيمتها مائتي درهم وكذلك أجمعوا فيما زاد في الحب والتمر أنه يجب فيما زاد على خمسة أوسق بحسابه وأنه لا أوقاص فيها واختلفوا في الذهب والفضة فقال مالك والليث والثوري والشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وأكثر أصحاب أبي حنيفة وجماعة أهل الحديث أن فيما زاد من الذهب والفضة ربع العشر في قليله وكثيره ولا وقص وروى ولك عن علي وابن عمر وقال أبو حنيفة وبعض السلف لا شئ فيما زاد على مائتي درهم حتى يبلغ أربعين درهما ولا فيما زاد على عشرين دينارا حتى يبلغ أربعة دنانير فإذا زادت ففي كل أربعين درهما درهم وفي كل
[ 50 ]
أربعة دنانير درهم فجعل لها وقصا كالماشية واحتج الجمهور بقوله ص = في صحيح البخاري في الرقة ربع العشر والرقة الفضة وهذا عام في النصاب وما فوقه بالقياس على الحبوب ولابي حنيفة في المسألة حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به قال القاضي ثم ان مالكا والجمهور يقولون بضم الذهب والفضة بعضهما الى بعض في اكمال النصاب ثم ان مالكا يراعى الوزن ويضم على الاجزاء لا على القيم ويجعل كل دينار كعشرة دراهم على الصرف الأول وقال الاوزاعي والثوري وأبو حنيفة يضم على القيم في وقت الزكاة وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود لا يضم مطلقا قوله ص = (ولا فيما دون خمس ذود صدقة) الرواية المشهورة خمس ذود باضافة ذود الى خمس وروى بتنوين خمس ويكون ذود بدلا منه حكاه ابن عبد البر والقاضي وغيرهما والمعروف الأول ونقله ابن عبد البر والقاضي عن الجمهور قال أهل اللغة الذود من الثلاثة الى العشر لا واحد له من لفظه انما يقال في الواحد بعير وكذلك النفر والرهط والقوم والنساء وأشباه هذه الالفاظ لا واحد لها من لفظها قالوا وقوله خمس ذود كقوله خمسة أبعرة وخمسة جمال وخمس نوق وخمس نسوة قال سيبويه تقول ثلاث ذود لان الذود مؤنث وليس باسم كسر عليه مذكره ثم الجمهور على أن الذود من ثلاثة الى العشرة وقال أبو عبيد ما بين ثلاث الى تسع وهو مختص بالاناث وقال الحربي قال الأصمعى الذود ما بين الثلاث الى العشرة والصبة خمس أو ست والصرمة ما بين العشرة الى العشرين والعكرة ما بين العشرين الى الثلاثين والهجمة ما بين الستين الى السبعين والهنية مائة والحظر نحو مائتين والعرج من خمسمائة الى ألف وقال أبو عبيدة وغيره الصرمة ما بين العشر الى الاربعين وأنكر ابن قتيبه أن يقال خمس ذود كما لا يقال خمس ثوب وغلطه العلماء بل هذا اللفظ شائع في الحديث الصحيح ومسموع من العرب معروف في كتب اللغة وليس هو جمعا لمفرد بخلاف الأثواب قال أبو حاتم السجستاني تركوا القياس في الجمع فقالوا خمس ذود لخمس
[ 51 ]
من الابل وثلاث ذود لثلاث من الابل وأربع ذود وعشر ذود على غير قياس كما قالوا ثلثمائة وأربعمائة والقياس مئين ومئات ولا يكادون يقولونه وقد ضبطه الجمهور خمس ذود ورواه بعضهم خمسة ذود وكلاهما لرواة كتاب مسلم والأول أشهر وكلاهما صحيح في اللغة فاثبات الهاء لانطلاقه على المذكر والمؤنث ومن حذفها قال الداودى أراد أن الواحدة منه فريضة قوله ص = (وليس فيما دون خمس أواقى صدقة) هكذا وقع في الرواية الأولى أواقى بالياء وفي باقى الروايات بعدها أواق بحذف الياء وكلاهما صحيح قال أهل اللغة الأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء وجمعها أواقى بتشديد الياء وتخفيفها وأواق بحذفها قال ابن السكيت في الاصلاح كل ما كان من هذا النوع واحده مشددا جاز في جمعه التشديد والتخفيف فالأوقية والأواقى والسرية والسرارى والختية والعلية والاثفية ونظائرها وأنكر جمهورهم أن يقال في الواحدة وقية بحذف الهمزة وحكى اللحيانى جوازها بحذف الواو وتشديد الياء وجمعها وقايا
[ 52 ]
وأجمع أهل الحديث والفقه وأئمة أهل اللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهما وهي أوقية الحجاز قال القاضي عياض ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن النبي ص = وهو يوجب الزكاة في أعداد منها ويقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة قال وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة الى زمان عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأى العلماء وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ووزن الدرهم ستة دوانيق قول باطل وانما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شئ من ضرب الاسلام وعلى صفة لا تختلف بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم وصغارا وكبارا وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية ومغربية فرأوا صرفها الى ضرب الاسلام ونقشه وتصييرها وزنا واحدا لا يختلف وأعيانا ليستغني فيها عن الموازين فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم قال القاضي ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة والا فكيف كانت تعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها وحقوق العباد ولهذا كانت الأوقية معلومة هذا كلام القاضى وقال أصحابنا أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الاسلام قوله ص = في رواية أبي بكر بن أبي شيبة (ليس فيما دون خمسة أوساق) هكذا هو في الأصول خمسة أوساق وهو
[ 53 ]
صحيح جمع وسق بكسر الواو كحمل وأحمال وقد سبق أن الوسق بفتح الواو وبكسرة قوله ص = (من تمر أو حب) هو تمر بفتح التاء المثناة واسكان الميم وفي رواية محمد بن رافع عن عبد الرزاق ثمر بفتح المثلثة وفتح الميم قوله ص = (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) قال أهل اللغة يقال ورق وورق بكسر الراء واسكانها والمراد به هنا الفضة كلها مضروبها وغيره واختلف أهل اللغة في أصله فقيل يطلق في الأصل على جميع الفضة وقيل هو حقيقة للمضروب دراهم ولا يطلق على غير الدراهم الا مجازا وهذا قول كثير من أهل اللغة وبالأول قال ابن قتيبة وغيره منهم وهو مذهب الفقهاء ولم يأت في الصحيح بيان نصاب الذهب وقد جاءت فيه أحاديث بتحديد نصابه بعشرين مثقالا وهي ضعاف ولكن أجمع من يعتد به في الاجماع على ذلك وكذا اتفقوا على اشتراط الحول في زكاة الماشية والذهب والفضة دون المعشرات وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في الفضة إذا كانت دون مائتي درهم رائجة أو نحوها لا زكاة فيها لقوله ص = ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وقد سبق أن الأوقية أربعون درهما وهي أوقية الحجاز
[ 54 ]
الشرعية وقال مالك إذا نقصت شيئا يسيرا بحيث تروج رواج الوازنة وجبت الزكاة ودليلنا أنه يصدق أنها دون خمس أواق وفيه دليل أيضا للشافعي وموافقيه في الدراهم المغشوشة أنه لا زكاة فيها حتى تبلغ الفضة المحضة منها مائتي درهم قوله ص = (فيما سقت الأنهار والغيم العشور وفيما سقى بالسانية نصف العشر) ضبطناه العشور بضم العين جمع عشر وقال القاضي عياض ضبطناه عن عامة شيوخنا بفتح العين جمع وهو اسم للمخرج من ذلك وقال صاحب مطالع الأنوار أكثر الشيوخ يقولونه بالضم وصوابه الفتح وهذا الذي ادعاه من الصواب ليس بصحيح وقد اعترف بأن أكثر الرواة رووه بالضم وهو الصواب جمع عشر وقد اتفقوا على قولهم عشور أهل الذمة بالضم وهو الصواب جمع عشر ولا فرق بين اللفظين وأما الغيم هنا فبفتح الغين المعجمة وهو المطر وجاء في غير مسلم الغيل باللام قال أبو عبيد هو ما جرى من المياه في الأنهار وهو سيل دون السيل الكبير وقال ابن السكيت هو الماء الجارى على الأرض وأما السانية فهو البعير الذي يسقى به الماء من البئر ويقال له الناضح يقال منه سنا يسنو إذا أسقى به وفي هذا الحديث وجوب العشر فيما سقى بماء السماء والأنهار ونحوها مما ليس فيه مؤنة كثيرة ونصف العشر فيما سقى بالنواضح وغيرها مما فيه مؤنة كثيرة وهذا متفق عليه ولكن اختلف العلماء في أنه هل تجب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض من الثمار والزروع والرياحين وغيرها الا الحشيش والحطب ونحوهما أم يختص فعمم أبو حنيفة وخصص الجمهور على اختلاف لهم فيما يختص به
[ 55 ]
وهو معروف في كتب الفقه قوله ص = (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف الا أن ابا حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان ونفرا أوجبوا في الخيل إذا كانت أناثا أو ذكورا واناثا في كل فرس دينارا وان شاء قومها وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وليس لهم حجة في ذلك وهذا الحديث صريح في الرد عليهم وقوله في العبد (الا صدقة الفطر) صريح في وجوب صدقة الفطر على السيد عن عبده سواء كان للقنية أم للتجارة وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور وقال أهل الكوفة لا يجب في عبيد التجارة وحكى عن داود أنه قال لا تجب على السيد بل تجب على العبد ويلزم السيد تمكينه من الكسب ليؤديها وحكاه القاضي عن أبي ثور أيضا ومذهب الشافعي وجمهور العلماء أن المكاتب لا فطرة عليه ولا على سيده وعن عطاء ومالك وأبي ثور وجوبها على السيد وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي لقوله ص = المكاتب عبد ما بقى عليه
[ 56 ]
درهم وفيه وجه أيضا لبعض أصحابنا أنها تجب على المكاتب لأنه كالحر في كثير من الأحكام قوله (منع ابن جميل) أي منع الزكاة وامتنع من دفعها قوله ص (ما ينقم ابن جميل الا أنه كان فقيرا فأغناه الله) قوله ينقم بكسر القاف وفتحها والكسر أفصح قوله ص = (وأما خالد فانكم تظلمون خالدا فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله) قال أهل اللغة الأعتاد آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها والواحد عتاد بفتح العين ويجمع أعتادا وأعتدة ومعنى الحديث أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظنا منهم أنها للتجارة وأن الزكاة فيها واجبة فقال لهم لا زكاة لكن على فقالوا للنبي ص = ان خالدا منع الزكاة فقال لهم انكم تظلمونه لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول عليها فلا زكاة فيها ويحتمل أن يكون المراد لو جبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعا فكيف يشح بواجب عليه واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة التجارة وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف خلافا لداود وفيه دليل على صحة الوقف وصحة وقف المنقول وبه قالت الأمة بأسرها الا أبا حنيفة وبعض الكوفيين وقال بعضهم هذه الصدقة التي منعها ابن جميل
[ 57 ]
وخالد والعباس لم تكن زكاة انما كانت صدقة تطوع حكاه القاضي عياض قال ويؤيده ان عبد الرزاق روى هذا الحديث وذكر في روايته أن النبي ص = ندب الناس الى الصدقة وذكر تمام الحديث قال ابن القصار من المالكية وهذا التأويل أليق بالقصة فلا يظن بالصحابة منع الواجب وعلى هذا فعذر خالد واضح لأنه أخرج ماله في سبيل الله فما بقى له مال يحتمل المواساة بصدقة التطوع ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه وقال في العباس هي على ومثلها معها أي أنه لا يمتنع إذا طلبت منه هذا كلام ابن القصار وقال القاضي لكن ظاهر الأحاديث في الصحيحين أنها في الزكاة لقوله بعث رسول الله ص = عمر على الصدقة وانما كان يبعث في الفريضة قلت الصحيح المشهور أن هذا كان في الزكاة لا في صدقة التطوع وعلى هذا قال أصحابنا وغيرهم قوله ص = (هي على ومثلها معها) معناه انى تسلفت منه زكاة عامين وقال الذين لا يجوزون تعجيل الزكاة معناه أنا أؤديها عنه قال أبو عبيد وغيره معناه أن النبي ص = أخرها عن العباس الى وقت يساره من أجل حاجته إليها والصواب أن معناه تعجلتها منه وقد جاء في حديث آخر في غير مسلم إنا تعجلنا منه صدقة عامين قوله ص = (عم الرجل صنو أبيه) أي مثل أبيه وفيه تعظيم حق العم زكاة الفطر قوله (ان رسول الله ص = فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا
[ 58 ]
من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين) اختلف الناس في معنى فرض هنا فقال جمهورهم من السلف والخلف معناه ألزم وأوجب فزكاة الفطر فرض واجب عندهم لدخولها في عموم قوله تعالى الزكاة ولقوله وهو غالب في استعمال الشرع بهذا المعنى وقال اسحق بن راهويه ايجاب زكاة الفطر كالاجماع وقال بعض أهل العراق وبعض أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعي وداود في آخر آمره أنها سنة ليست واجبة قالوا ومعنى فرض قدر على سبيل الندب وقال أبو حنيفة هي واجبة ليست فرضا بناء على مذهبه في الفرق بين الواجب والفرض قال القاضي وقال بعضهم الفطرة منسوخة بالزكاة قلت هذا غلط صريح والصواب أنها فرض واجب قوله (من رمضان) اشارة الى وقت وجوبها وفيه خلاف للعلماء فالصحيح من قول الشافعي أنها تجب بغروب الشمس ودخول أول جزء من ليلة عيد الفطر والثاني تجب لطلوع الفجر ليلة العيد وقال أصحابنا تجب بالغروب والطلوع معا فان ولد بعد الغروب أو مات قبل الطلوع لم تجب وعن مالك روايتان كالقولين وعند أبي حنيفة تجب بطلوع الفجر قال المازرى قيل ان هذا الخلاف مبنى على أن قوله الفطر من رمضان هل المراد به الفطر المعتاد في سائر الشهر فيكون الوجوب بالغروب أو الفطر الطارئ بعد ذلك فيكون بطلوع الفجر قال المازرى وفي قوله الفطر من رمضان دليل لمن يقول لا تجب الا على من صام من رمضان ولو يوما واحدا قال وكان سبب هذا أن العبادات التي تطول ويشق التحرز منها من أمور تفوت كمالها جعل الشرع فيها كفارة مالية بدل النقص كالهدى في الحج والعمرة وكذا الفطرة لما يكون في الصوم من لغو وغيره وقد جاء في حديث آخر أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث واختلف العلماء أيضا في اخراجها عن الصبى فقال الجمهور يجب اخراجها للحديث المذكور بعد هذا صغير أو كبير وتعلق من لم يوجبها بأنها تطهير والصبى ليس محتاجا الى التطهير لعدم الاثم وأجاب الجمهور عن هذا بأن التعليل
[ 59 ]
بالتطهير لغالب الناس ولا يمتنع أن لا يوجد التطهير من الذنب كما أنها تجب على من لا ذنب له كصالح محقق الصلاح وككافر أسلم قبل غروب الشمس بلحظة فانها تجب عليه مع عدم الاثم وكما أن القصر في السفر جوز للمشقة فلو وجد من لا مشقة عليه فله القصر وأما قوله ص = على كل حر أو عبد فان داود أخذ بظاهره فأوجبها على العبد بنفسه وأوجب على السيد تمكينه من كسبها كما يمكنه من صلاة الفرض ومذهب الجمهور وجوبها على سيده عنه وعند أصحابنا في تقديرها وجهان أحدهما أنها تجب على السيد ابتداء والثاني تجب على العبد ثم يحملها عنه سيده فمن قال بالثاني فلفظه على على ظاهرها ومن قال بالأول قال لفظه على بمعنى عن وأما قوله على الناس على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى ففيه دليل على أنها تجب على أهل القرى والأمصار والبوادى والشعاب وكل مسلم حيث كان وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير العلماء وعن عطاء والزهرى وربيعة والليث أنهالا تجب الا على أهل الأمصار والقرى دون البوادى وفيه دليل للشافعي والجمهور في أنها تجب على من ملك فاضلا عن قوته وقوت عياله يوم العيد وقال أبو حنيفة لا تجب على من حيل له أخذ الزكاة وعندنا أنه لو ملك من الفطرة المعجلة فاضلا عن قوته ليلة العيد ويومه لزمته الفطرة عن نفسه وعياله وعن مالك واصحابه في ذلك خلاف وقوله ذكر أو أنثى حجة للكوفيين في أنها تجب على الزوجة في نفسها ويلزمها اخراجها من مالها وعند مالك والشافعي والجمهور يلزم الزوج فطرة زوجته لأنها تابعة للنفقة وأجابوا عن الحديث بما سبق في الجواب لداود في فطره العيد وأما قوله من المسلمين فصريح في أنها لا تخرج الا عن مسلم فلا يلزمه عن عبده وزوجته وولده ووالده الكفار وان وجبت عليه نفقتهم وهذا مذهب مالك والشافعي وجماهير العلماء وقال الكوفيون واسحق وبعض السلف تجب عن العبد الكافر وتأول الطحاوي قوله من المسلمين على أن المراد بقوله من المسلمين السادة
[ 60 ]
دون العبيد وهذا يرده ظاهر الحديث وأما قوله صاعا من كذا وصاعا من كذا ففيه دليل على أن الواجب في الفطرة عن كل نفس صاع فان كان في غير حنطه وزبيب وجب صاع بالاجماع وان كان حنطة وزبيبا وجب أيضا صاع عند الشافعي ومالك والجمهور وقال أبو حنيفة وأحمد نصف صاع بحديث معاوية المذكور بعد هذا وحجة الجمهور حديث أبي سعيد بعد هذا في قوله صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب والدلالة فيه من وجهين أحدهما أن الطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة لا سيما وقد قرنه بباقي المذكورات والثاني أنه ذكر أشياء قيمها مختلفة وأوجب في كل نوع منها صاعا فدل على أن المعتبر صاع ولا نظر الى قيمته ووقع في رواية لأبي داود أو صاعا من حنطة قال وليس بمحفوظ وليس للقائلين بنصف صاع حجة الا حديث معاوية وسنجيب عنه ان شاء الله تعالى واعتمدوا أحاديث ضعيفة ضعفها أهل الحديث وضعفها بين قال القاضي واختلف في النوع المخرج فأجمعوا أنه يجوز البر والزبيب والتمر والشعير الا خلافا في البر لمن لا يعتد بخلافه وخلافا في الزبيب لبعض المتأخرين وكلاهما مسبوق بالاجماع مردود به وأما الأقط فأجازه مالك والجمهور ومنعه الحسن واختلف فيه قول الشافعي وقال أشهب لا تخرج الا هذه الخمسة وقاس مالك على الخمسة كل ما هو عيش أهل كل بلد من القطانى وغيرها وعن مالك قول آخر أنه لا يجزى غير المنصوص في الحديث وما في معناه ولم يجز عامة الفقهاء اخراج
[ 61 ]
القيمة وأجازه أبو حنيفة قلت قال أصحابنا جنس الفطرة كل حب وجب فيه العشر ويجزى الأقط على المذهب والأصح أنه يتعين عليه غالب قوت بلده والثاني يتعين قوت نفسه والثالث يتخير بينهما فان عدل عن الواجب الى أعلى منه أجزأه وان عدل الى ما دونه لم يجزه قوله (من المسلمين) قال أبو عيسى الترمذي وغيره هذه اللفظة انفرد بها مالك دون سائر أصحاب نافع وليس كما قالوا ولم ينفرد بها مالك بل وافقه فيها ثقتان وهما الضحاك بن عثمان وعمر بن نافع فالضحاك ذكره مسلم في الرواية التي بعد هذه وأما عمر ففي البخاري قوله عن معاوية أنه كلم الناس على المنبر فقال انى أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك قال أبو سعيد فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدا ما عشت فقوله سمراء الشام هي الحنطة وهذا الحديث هو الذي يعتمده أبو حنيفة وموافقوه في جواز نصف صاع حنطة والجمهور يجيبون عنه بأنه قول صحابي وقد خالفه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة وأعلم بأحوال النبي ص = وإذا اختلفت الصحابة لم يكن قول بعضهم بأولى من بعض فنرجع الى دليل آخر وجدنا ظاهر الأحاديث والقياس متفقا على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها فوجب اعتماده وقد صرح معاوية بأنه رأى رآه لا أنه سمعه من النبي ص = ولو كان عند أحد من حاضرى مجلسه مع كثرتهم في تلك اللحظة علم في موافقة معاوية عن النبي ص = لذكره كما جرى
[ 62 ]
لهم في غير هذه القصة قوله في حديث أبي سعيد (أو صاعا من أقط) صريح في اجزائه وابطال لقول من منعه قوله (حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن اسمعيل بن أمية قال أخبرني عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أنه سمع أبا سعيد الخدرى) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم فقال خالف سعيد بن مسلمة معمرا فيه فرواه عن اسمعيل ابن أمية عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن عياض قال الدارقطني والحديث محفوظ عن الحارث قلت وهذا الاستدراك ليس بلازم فان اسمعيل بن أمية صحيح السماع عن عياض والله أعلم وقوله (ابن أبي ذباب) هو بضم الذال المعجمة وبالباء الموحدة قوله (عن كل صغير وكبير حر ومملوك)
[ 63 ]
فيه دليل على وجوبها على السيد عن عبده لا على العبد نفسه وقد سبق الكلام فيه ومذاهبهم بدلائلها قوله (أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس الى الصلاة) فيه دليل للشافعي والجمهور في أنه لا يجوز تأخير الفطرة عن يوم العيد وأن الأفضل اخراجها قبل الخروج الى المصلى والله أعلم
[ 64 ]
اثم مانع الزكاة قوله ص = (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها) الى آخر الحديث هذا الحديث صريح في وجوب الزكاة في الذهب والفضة ولا خلاف فيه وكذا باقي المذكورات من الابل والبقر والغنم قوله ص = (كلما بردت أعيدت له) هكذا هو في بعض النسخ بردت بالباء وفي بعضها ردت بحذف الباء وبضم الراء وذكر القاضي الروايتين وقال الأولى هي الصواب قال والثانية رواية الجمهور قوله ص = (حلبها يوم وردها) هو بفتح اللام على اللغة المشهورة وحكى اسكانها وهو غريب ضعيف وان كان هو القياس قوله ص = (بطح لها بقاع قرقر) القاع المستوى الواسع من الأرض يعلوه ماء السماء فيمسكه قال الهروي وجمعه قيعة وقيعان مثل جار وجيرة وجيران والقرقر المستوى ايضا من الأرض الواسع وهو بفتح القافين قوله (بطح) قال جماعة معناه ألقى على وجهه قال القاضي قد جاء في رواية البخاري يخبط وجهه بأخفافها قال وهذا يقتضى أنه ليس من شرط البطح كونه على الوجه وانما هو في اللغة بمعنى البسط والمد فقد يكون على وجهه وقد يكون على ظهر
[ 65 ]
ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها قوله ص = (كلما مر عليه أولاها رد عليه آخرها) هكذا هو في جميع الأصول في هذا الموضع قال القاضى عياض قالوا هو تغيير وتصحيف وصوابه ما جاء بعده في الحديث الآخر من رواية سهيل عن أبيه وما جاء في حديث المعرور بن سويد عن أبي ذر كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها وبهذا ينتظم الكلام قوله ص = (فيرى سبيله) ضبطناه بضم الياء وفتحها وبرفع لام سبيله ونصبها قوله ص = (ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء) قال اهل اللغة العقصاء ملتوية القرنين والجلحاء التي لا قرن لها والعضباء التي انكسر قرنها الداخل قوله ص = (تنطحه) بكسر الطاء وفتحها لغتان حكاهما الجوهرى وغيره الكسر أفصح وهو المعروف في الرواية قوله ص = (ولا صاحب بقر) الى آخره فيه دليل على وجوب الزكاة في البقر وهذا أصح الأحاديث الواردة في زكاة البقر قوله ص = (أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا) في الرواية الأخرى أعظم ما كانت هذا للزيادة في عقوبته بكثرتها وقوتها وكمال خلقها فتكون أثقل في وطئها كما أن ذوات القرون تكون بقرونها ليكون أنكى وأصوب لطعنها ونطحها قوله ص = (وتطؤه بأظلافها) الظلف للبقر والغنم والظباء وهو المنشق من القوائم والخف للبعير والقدم للآدمي والحافر للفرس والبغل والحمار
[ 66 ]
قوله ص = في الخيل (فأما التي هي له وزر) هكذا هو في أكثر النسخ التي ووقع في بعضها الذي وهو أوضح وأظهر قوله ص = (ونواء لأهل الاسلام) هو بكسر النون وبالمد أي مناوأة ومعاداة قوله ص = (ربطها في سبيل الله) أي أعدها للجهاد وأصله من الربط ومنه الرباط وهو حبس الرجل نفسه في الثغر واعداده الأهبة لذلك قوله ص = في الخيل (ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها) استدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل ومذهبه أنه ان كانت الخيل كلها ذكورا فلا زكاة فيها وان كانت اناثا أو ذكورا واناثا وجبت الزكاة وهو بالخياران شاء أخرج عن كل فرس دينارا وان شاء قومها وأخرج ربع عشر القيمة وقال مالك والشافعي وجماهير العلماء لا زكاة في الخيل بحال للحديث السابق ليس على المسلم في فرسه صدقة وتأولوا هذا الحديث على أن المراد أنه يجاهد بها وقد يجب الجهاد بها إذا تعين وقيل يحتمل ان المراد بالحق في رقابها الاحسان إليها والقيام بعلفها وسائر مؤنها والمراد بظهورها اطراق فحلها إذا طلبت عاريته وهذا على الندب وقيل المراد حق الله مما يكسب من مال العدو على ظهورها وهو خمس الغنيمة قوله ص = (ولا تقطع طولها) هو بكسر الطاء وفتح الواو ويقال طيلها بالياء كذا جاء في الموطأ والطول والطيل الحبل الذي تربط فيه قوله ص = ولا يقطع طولها فاستنت شرفا أو شرفين
[ 67 ]
معنى استنت أي جرت والشرف بفتح الشين المعجمة والراء وهو العالي من الأرض وقيل المراد هنا طلقا أو طلقين قوله ص = (فشربت ولا يريد أن يسقيها الا كتب الله له عدد ما شربت حسنات) هذا من باب التنبيه لأنه إذا كان تحصل له هذه الحسنات من غير أن يقصد سقيها فإذا قصده فأولى باضعاف الحسنات قوله ص = (ما أنزل الله على في الحمر شئ الا هذه الآية الفاذة الجامعة) معنى الفاذة القليلة النظير والجامعة أي العامة المتناولة لكل خير ومعروف وفيه اشارة الى التمسك بالعموم ومعنى الحديث لم ينزل على فيها نص بعينها لكن نزلت هذه الآية العامة وقد يحتج به من قال لا يجوز الاجتهاد للنبي ص = وانما كان يحكم بالوحى ويجاب للجمهور القائلين بجواز الاجتهاد بأنه لم يظهر له فيها شئ قوله ص = (ما من صاحب كنز لا يؤدى زكاته) قال الامام أبو جعفر الطبري الكنز كل شئ مجموع بعضه على بعض سواء كان في بطن الأرض أم على ظهرها زاد صاحب العين وغيره وكان مخزونا
[ 68 ]
قال القاضي واختلف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن والحديث فقال أكثرهم هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد فأما مال أخرجت زكاته فليس بكنز وقيل الكنز هو المذكور عن اهل اللغة ولكن الآية منسوخة بوجوب الزكاة وقيل المراد بالآية أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك وقيل كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز وان أديت زكاته وقيل هو ما فضل عن الحاجة ولعل هذا كان في أول الاسلام وضيق الحال واتفق أئمة الفتوى على القول الأول وهو الصحيح لقوله ص = ما من صاحب كنز لا يؤدى زكاته وذكر عقابه وفي الحديث الآخر من كان عنده مال فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع وفي آخره فيقول أنا كنزك قوله ص = (الخيل في نواصيها الخير الى يوم القيامة) جاء تفسيره في الحديث الآخر في
[ 69 ]
الصحيح الاجر والمغنم وفيه دليل على بقاء الاسلام والجهاد الى يوم القيامة والمراد قبيل القيامة بيسير أي حتى تأتى الريح الطيبة من قبل اليمن تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما ثبت في الصحيح قوله ص = (وأما التي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشرا أو بطرا وبذخا ورياء الناس) قال أهل اللغة الأشر بفتح الهمزة والشين وهو المرح واللجاج وأما البطر فالطغيان عند الحق وأما
[ 70 ]
البذخ فبفتح الباء والذال المعجمة وهو بمعنى الأشر والبطر قوله ص = (الا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قط وقعد لها) وكذلك في البقر والغنم هكذا هو في الأصول بالثاء المثلثة وقعد بفتح القاف والعين وفي قط لغات حكاهن الجوهرى والفصيحة المشهورة قط مفتوحة القاف مشددة الطاء قال الكسائي كانت قطط بضم الحروف الثلاثة فأسكن الثاني ثم أدغم والثانية قط بضم القاف تتبع الضمة كقولك مد يا هذا والثالثة قط بفتح القاف وتخفيف الطاء والرابعة قط بضم القاف والطاء المخففة وهي قليلة هذا إذا كانت بمعنى الدهر فأما التي بمعنى حسب وهو الاكتفاء فمفتوحة ساكنة الطاء تقول رأيته مرة فقط فان أضفت قلت قطك هذا الشئ أي حسبك وقطنى وقطى وقطه وقطاه قوله ص = (شجاعا أقرع)
[ 71 ]
الشجاع الحية الذكر والأقرع الذي تمعط شعره لكثرة سمه وقيل الشجاع الذي يواثب الراجل والفارس ويقوم على ذنبه وربما بلغ رأس الفارس ويكون في الصحارى قوله ص = (مثل له شجاعا أقرع) قال القاضى ظاهره أن الله تعالى خلق هذا الشجاع لعذابه ومعنى مثل أي نصب وصير بمعنى أن ماله يصير على صورة الشجاع قوله ص = (سلك بيده في فيه فيقضمها قضم الفحل) معنى سلك أدخل ويقضمها بفتح الضاد يقال قضمت الدابة شعيرها بكسر الضاد تقضمه بفتحها إذا أكلته قوله ص = (ليس فيها جماء) هي التي لا قرن لها قوله (قلنا يا رسول الله وما حقها قال طراق فحلها واعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله) قال القاضى قال المازرى يحتمل أن يكون هذا الحق في موضع تتعين فيه المواساة قال القاضى هذه الألفاظ صريحة في أن هذا الحق غير الزكاة قال ولعل هذا كان قبل وجوب الزكاة وقد اختلف السلف في معنى قول الله تعالى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم فقال الجمهور المراد به الزكاة وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة وأما ما جاء غير ذلك فعلى وجه الندب ومكارم الأخلاق ولأن الآية اخبار عن وصف قوم أثنى عليهم بخصال كريمة فلا يقتضى الوجوب كما لا يقتضيه قوله تعالى قليلا من الليل ما يهجعون وقال بعضهم هي منسوخة بالزكاة وان كان لفظه لفظ خبر فمعناه أمر قال وذهب جماعة منهم الشعبى والحسن وطاوس وعطاء ومسروق وغيرهم الى أنها محكمة وأن في المال حقا سوى الزكاة من فك الأسير واطعام المضطر والمواساة في العسرة وصلة القرابة قوله ص = (ومنيحتها) قال أهل اللغة المنيحة ضربان أحدهما أن يعطى
[ 72 ]
الانسان آخر شيئا هبه وهذا النوع يكون في الحيوان والأرض والأثاث وغير ذلك الثاني أن المنيحة ناقة أو بقرة أو شاة ينتفع بلبنها ووبرها وصوفها وشعرها زمانا ثم يردها ويقال منحه يمنحه بفتح النون في المضارع وكسرها فأما حلبها يوم وردها ففيه رفق بالماشية وبالمساكين لأنه أهون على الماشية وأرفق بها وأوسع عليها من حلبها في المنازل وهو أسهل على المساكين وأمكن في وصولهم الى موضع الحلب ليواسوا والله أعلم ارضاء السعاة وهم العاملون على الصدقات قوله (ان ناسا من المتصدقين يأتوننا فيظلموننا فقال رسول الله
[ 73 ]
ص = أرضوا مصدقيكم) المصدقون بتخفيف الصاد وهم السعاة العاملون على الصدقات وقوله ص = (أرضوا مصدقيكم) معناه ببذل الواجب وملاطفتهم وترك مشاقهم وهذا محمول على ظلم لا يفسق به الساعي إذا لو فسق لا نعزل ولم يجب الدفع إليه بل لا يجزى والظلم قد يكون بغير معصية فانه مجاوزة الحد ويدخل في ذلك المكروهات تغليظ عقوبة من لا يؤدى الزكاة قوله (لم أتقار أي لم يمكني القرار والثبات قوله ص = (هم الأخسرون ورب الكعبة) ثم فسرهم فقال (هم الأكثرون أموالا الا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم) فيه الحث على الصدقة في وجوه الخير
[ 74 ]
وأنه لا يقتصر على نوع من وجوه البر بل ينفق في كل وجه من وجوه الخير يحضر وفيه جواز الحلف بغير تحليف بل هو مستحب إذا كان فيه مصلحة كتوكيد أمر وتحقيقه ونفى المجاز عنه وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في حلف رسول الله ص = في هذا النوع لهذا المعنى وأما اشارته ص = الى قدام ووراء والجانبين فمعناها ما ذكرنا أنه ينبغى أن ينفق متى حضى أمر مهم قوله ص = (كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها) هكذا ضبطناه نفدت بالدال المهملة ونفذت بالذال المعجمة وفتح الفاء وكلاهما صحيح
[ 75 ]
قوله (سمعت لغطا) هو بتفح الغين واسكانها لغتان أي جلبة وصوتا غير مفهوم قوله ص = (يا أبا ذر) فيه مناداة العالم والكبير صاحبه بكنيته إذا كان جليلا قوله (من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق) فيه دلالة لمذهب أهل الحق أنه لا يخلد أصحاب الكبائر في النار خلافا للخوارج والمعتزلة وخص الزنى والسرقة بالذكر لكونهما من أفحش الكبائر وهو داخل في
[ 76 ]
أحاديث الرجاء قوله (فالتفت فرآني فقال من هذا فقلت أبو ذر) فيه جواز تسمية الانسان نفسه بكنيته إذا كان مشهورا بها دون اسمه وقد كثر مثله في الحديث قوله ص = (الا من أعطاه الله خيرا فنفح فهي يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا) المراد بالخير الأول المال كقوله تعالى لحب الخير أي المال والمراد بالخير الثاني طاعة الله تعالى والمراد بيمينه وشماله ما سبق أنه جميع وجوه المكارم والخير ونفح بالحاء المهملة أي ضرب يديه فيه بالعطاء والنفح الرمى والضرب قوله (فانطلق في الحرة) هي الأرض الملبسة حجارة سوداء قوله ص = (قلت وان سرق وان زنى قال نعم وان شرب الخمر) فيه تغليظ تحريم الخمر
[ 77 ]
قوله (فبينا انا في حلقة فيها ملأ من قريش) الملأ الأشراف ويقال أيضا للجماعة والحلقة باسكان اللام وحكى الجوهرى لغة رديئة في فتحها وقوله (بينا أنا في حلقة) أي بين أوقات قعودي في الحلقة قوله (إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه) هو بالخاء والشين المعجمتين في الألفاظ الثلاثة ونقله القاضي هكذا عن الجمهور وهو من الخشونة قال وعند ابن الحذاء في الأخير خاصة حسن الوجه من الحسن ورواه القابسى في البخاري حسن الشعر والثياب والهيئة من الحسن ولغيره خشن من الخشونة وهو أصوب قوله (فقام عليهم) أي وقف قوله (عن أبي ذر قال بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدى أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل) أما قوله بشر الكانزين فظاهره أنه أراد الاحتجاج لمذهبه في أن الكنز كل ما فضل عن حاجة الانسان هذا هو المعروف من مذهب أبي ذر وورى عنه غيره والصحيح الذي عليه الجمهور أن الكنز هو المال الذي لم تؤد زكاته فأما إذا أديت زكاته فليس بكنز سواء كثر أم قل وقال القاضى الصحيح أن انكاره انما هو على السلاطين الذين يأخذون لانفسهم من بيت المال ولا ينفقونه في وجوهه وهذا الذي قاله القاضي باطل لأن السلاطين في زمنه لم تكن هذه صفتهم ولم يخونوا في بيت المال انما كان في زمنه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وتوفى في زمن عثمان سنة ثنتين وثلاثين قوله (برضف) هي الحجارة المحماة وقوله يحمى عليه أي يوقد عليه وفي جهنم مذهبان لأهل العربية أحدهما أنه اسم عجمى فلا ينصرف للعجمة والعلمية قال الواحدى
[ 78 ]
قال يونس وأكثر النحويين هي أعجمية لا تنصرف للتعريف والعجمة وقال آخرون هو اسم عربي سميت به لبعد قعرها ولم ينصرف للعلمية والتأنيث قال قطرب عن رؤبة يقال بئر جهنام أي بعيدة القعر وقال الواحدى في موضع آخر قال بعض أهل اللغة هي مشتقة من الجهومة وهي الغلظ يقال جهم الوجه أي غليظه وسميت جهنم لغلظ أمرها في العذاب وقوله (ثدى أحدهم) فيه جواز استعمال الثدى في الرجل وهو الصحيح ومن أهل اللغة من أنكره وقال لا يقال ثدى الا للمرأة ويقال في الرجل ثندؤة وقد سبق بيان هذا مبسوطا في كتاب الايمان في حديث الرجل الذي قتل نفسه بسيفه فجعل ذبابه بين ثدييه وسبق أن الثدى يذكر ويؤنث قوله (نغض كتفيه) هو بضم النون واسكان الغين المعجمة وبعدها ضاد معجمة وهو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف وقيل هو أعلى الكتف ويقال له ايضا الناغض وقوله يتزلزل أي يتحرك قال القاضى قيل معناه أنه بسبب نضجه يتحرك لكونه يهترى قال والصواب أن الحركة والتزلزل انما هو للرضف أي يتحرك من نغض كتفه حتى يخرج من حلمه ثديه ووقع في النسخ على حلمة ثدى أحدهم الى قوله حتى يخرج من حلمة ثدييه بافراد الثدى في الأول وتثنيته في الثاني وكلاهما صحيح قوله (لا تعتريهم) أي تأتيهم وتطلب منهم يقال عروته واعتريته واعتررته إذا أتيته تطلب منه حاجة قوله (لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين) هكذا هو في الأصول
[ 79 ]
عن دنيا وفي رواية البخاري لا أسألهم دنيا بحذف عن وهو الاجود أي لا أسألهم شيئا من متاعها قوله (حدثنا خليد العصرى) هو بضم الخاء المعجمة وفتح اللام واسكان الياء والعصري بفتح العين والصاد المهملتين منسوب الى بنى عصر الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف قوله عز وجل (أنفق أنفق عليك) هو معنى قوله عز وجل وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه فيتضمن الحث على الانفاق معنى في وجوه الخير والتبشير بالخلف من فضل الله تعالى قوله ص = (يمين الله ملأى وقال ابن نمير ملآن هكذا وقعت رواية ابن نمير بالنون قالوا وهو غلظ منه وصوابه كما في سائر الروايات ثم ضبطوا رواية ابن نمير من وجهين أحدهما اسكان اللام وبعدها همزة والثاني ملان بفتح اللام بلا همز قوله ص =
[ 80 ]
(يمين الله ملأى سحاء لا يغيضها شئ الليل والنهار) ضبطوا سحاء بوجهين أحدهما سحاء بالتنوين على المصدر وهذا هو الأصح الأشهر والثاني حكاه القاضي سحاء بالمد على الوصف ووزنه فعلاء صفة لليد والسيح الصب الدائم والليل والنهار في هذه الرواية منصوبان على الظرف ومعنى لا يغيضها شئ أي لا ينقصها يقال غاض الماء وغاضه الله لازم ومتعد قالا القاضى قال الامام المازرى هذا مما يتأول لان اليمين إذا كانت بمعنى المناسبة للشمال لا يوصف بها الباري سبحانه وتعالى لأنها تتضمن اثبات الشمال وهذا يتضمن التحديد ويتقدس الله سبحانه عن التجسيم والحد وانما خاطبهم رسول الله ص = بما يفهمونه وأراد الاخبار بأن الله تعالى لا ينقصه الانفاق ولا يمسك خشية الاملاق جل الله عن ذلك وعبر ص = عن توالى النعم بسح اليمين لأن الباذل منا يفعل ذلك بيمينه قال ويحتمل أن يريد بذلك أن قدرة الله سبحانه وتعالى على الأشياء على وجه واحد لا يختلف ضعفا وقوة وأن المقدورات تقع بها على جهة واحدة ولا تختلف قوة وضعفا كما يختلف فعلنا باليمين والشمال تعالى الله على صفات المخلوقين ومشابهة المحدثين وأما قوله ص = في الرواية الثانية وبيده الأخرى القبض فمعناه أنه وان كانت قدرته سبحانه وتعالى واحدة فانه يفعل بها المختلفات ولما كان ذلك فينا لا يمكن الا بيدين عبر عن قدرته على التصرف في ذلك باليدين ليفهمهم المعنى المراد بما اعتادوه من الخطاب على سبيل المجاز هذا آخر كلام المازرى قوله في رواية محمد بن رافع (لا يغيضها سحاء الليل والنهار) ضبطناه بوجهين نصب الليل
[ 81 ]
والنهار ورفعهما النصب على الظرف والرفع على أنه فاعل قوله ص = (وبيده الأخرى القبض يخفض ويرفع) ضبطوه بوجهين أحدهما الفيض بالفاء والياء المثناة تحت والثاني القبض بالقاف والباء الموحدة وذكر القاضى أنه بالقاف وهو الموجود لأكثر الرواة قال وهو الأشهر والمعروف قال ومعنى القبض الموت وأما الفيض بالفاء فالاحسان والعطاء والرزق الواسع قال وقد يكون بمعنى القبض بالقاف أي الموت قال البكراوى والفيض الموت قال القاضى قيس يقولون فاضت نفسه بالضاد إذا مات وطى يقولون فاظت نفسه بالظاء وقيل إذا ذكرت النفس فبالضاد وإذا قيل فاظ من غير ذكر النفس فبالظاء وجاء في رواية أخرى وبيده الميزان يخفض ويرفع فقد يكون عبارة عن الرزق ومقاديره وقد يكون عبارة عن جملة المقادير ومعنى يخفض ويرفع قيل هو عبارة عن تقدير الرزق يقتره على من يشاء ويوسعه على من يشاء وقد يكونان عبارة عن تصرف المقادير بالخلق بالعز والذل والله أعلم فضل النفقة على العيال والمملوك (وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم) مقصود الباب الحث على النفقة على العيال وبيان عظم الثواب فيه لأن منهم من تجب نفقته بالقرابة ومنهم من تكون مندوبة وتكون صدقة وصلة ومنهم من تكون واجبة بملك النكاح
[ 82 ]
أو ملك اليمين وهذا كله فاضل محثوث عليه وهو أفضل من صدقة التطوع ولهذا قال ص = في رواية ابن أبي شيبة (أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك) مع أنه ذكر قبله النفقة في سبيل الله وفي العتق والصدقة ورجح النفقة على العيال على هذا كله لما ذكرناه وزاد تأكيدا بقوله ص = في الحديث الآخر (كفى بالمرء اثما أن يحبس عمن يملك قوته) فقوته مفعول يحبس قوله (حدثنا سعيد بن محمد الجرمى) هو بالجيم قوله (قهرمان) بفتح القاف واسكان الهاء وفتح الراء وهو الخازن القائم بحوائج الانسان وهو بمعنى الوكيل وهو بلسان الفرس الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة فيه حديث جابر (أن رجلا أعتق عبدا له عن دبر فبلغ ذلك النبي ص = فقال ألك
[ 83 ]
مال غيره فقال لا فقال من يشتريه منى فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوى بثمانمائة درهم فجاء بها رسول الله ص = فدفعها إليه ثم قال ابدأ بنفسك فتصدق عليها فان فضل شئ فلأهلك فان فضل عن أهلك شئ فلذى قرابتك فان فضل عن قرابتك شئ فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك) في هذا الحديث فوائد منها الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة ولا ينحصر في جهة بعينها ومنها دلالة ظاهرة للشافعي وموافقيه في جواز بيع المدبر وقال مالك وأصحابه لا يجوز بيعه الا إذا كان على السيد دين فيباع فيه وهذا الحديث صريح أو ظاهر في الرد عليهم لأن النبي ص = انما باعه لينفقه سيده على نفسه والحديث صريح أو ظاهر في هذا ولهذا قال ص = أبدأ بنفسك فتصدق عليها الى آخره والله أعلم
[ 84 ]
فضل النفقة والصدقة على الاقربين والزوج والأولاد (والوالدين ولو كانوا مشركين) قوله (وكان أحب أمواله إليه بيرحاء) اختلفوا في ضبط هذه اللفظة على أوجه قال القاضي رحمه الله روينا اللفظة عن شيوخنا بفتح الراء وضمها مع كسر الباء وبفتح الباء والراء قال الباجى قرأت هذه اللفظة على أبي ذر البروى بفتح الراء على كل حال قال وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق وقال لي الصوري هي بالفتح واتفقا على أن من رفع الراء وألزمها حكم الاعراب فقد أخطأ قال وبالرفع قرأناه على شيوخنا بالأندلس وهذا الموضع يعرف بقصر بنى جديلة قبلى المسجد وذكر مسلم رواية حماد بن سلمة هذا الحرف بريحاء بفتح الباء وكسر الراء وكذا سمعناه من أبي بحر عن العذري والسمرقندي وكان عند ابن سعيد عن البحري من رواية حماد بيرحاء بكسر الباء وفتح الراء وضبطه الحميدى من رواية حماد بيرحاء بفتح الباء والراء ووقع في كتاب أبي داود جعلت أرضى باريحا لله وأكثر رواياتهم في هذا الحرف بالقصر ورويناه عن بعض شيوخنا بالوجهين وبالمد وجدته بخط الأصيلي وهو حائط يسمى بهذا الاسم وليس اسم بئر والحديث يدل عليه والله أعلم هذا آخر كلام القاضى قوله (قام أبو طلحة الى رسول الله ص = فقال ان الله تعالى يقول في كتابه) الى آخره فيه دلالة للمذهب الصحيح وقول الجمهور انه يجوز أن يقال ان الله يقول كما يقال ان الله قال وقال مطرف بن عبد الله بن شخير التابعي
[ 85 ]
لا يقال الله يقول وانما يقال قال الله أو الله قال ولا يستعمل مضارعا وهذا غلط والصواب جوازه وقد قال الله تعالى والله يقول الحق وهو يهدى السبيل وقد تظاهرت الاحاديث الصحيحة باستعمال ذلك وقد أشرت الى طرف منها في كتاب الأذكار وكأن من كرهه ظنه أنه يقتضى استئناف القول وقول الله تعالى قديم وهذا ظن عجيب فان المعنى مفهوم ولا لبس فيه وفي هذا الحديث استحباب الانفاق مما يحب ومشاورة أهل العلم والفضل في كيفية الصدقات ووجوه الطاعات وغيرها قوله ص = (بخ ذلك ما رابح ذلك مال رابح) قال أهل اللغة يقال بخ باسكان الخاء وتنوينها مكسورة وحكى القاضى الكسر بلا تنوين وحكى الأحمر التشديد فيه قال القاضى وروى بالرفع فإذا كررت فالاختيار تحريك الأول منونا واسكان الثاني قال ابن دريد معناه تعظيم الأمر وتفخيمه وسكنت الخاء فيه كسكون اللام في هل وبل ومن قال بخ بكسره منونا شبهه بالأصوات كصه ومه قال ابن السكيت بخ بخ وبه به
[ 86 ]
بمعنى واحد وقال الداودى بخ كلمة تقال إذا حمد الفعل وقال غيره تقال عند الاعجاب وأما قوله ص = مال رابح فضبطناه هنا بوجهين بالياء المثناة وبالموحدة وقال القاضى روايتنا فيه في كتاب مسلم بالموحدة واختلفت الرواة فيه عن مالك في البخاري والموطأ وغيرهما فمن رواه بالموحدة فمعناه ظاهر ومن رواه رايح بالمثناة فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الآخرة وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما سبق من أن الصدقة على الأقارب أفضل من الاجانب إذا كانوا محتاجين وفيه أن القرابة يرعى حقها في صلة الارحام وان لم يجتمعوا الا في أب بعيد لأن النبي ص = أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين فجعلها في أبي بن كعب وحسان ابن ثابت وانما يجتمعان معه في الجد السابع قوله ص = في قصة ميمونة حين أعتقت الجارية (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) فيه فضيلة صلة الأرحام والاحسان الى الاقارب وأنه أفضل من العتق وهكذا وقعت هذه اللفظة في صحيح مسلم أخوالك باللام ووقعت في رواية غير الأصيلي في البخاري وفي رواية الأصيلي أخواتك بالتاء قال القاضى ولعله أصح بدليل رواية مالك في الموطأ أعطيتها أختك قلت الجميع صحيح ولا تعارض وقد قال ص = ذلك كله وفيه الاعتناء بأقارب الأم اكراما بحقها وهو زيادة في برها وفيه جواز تبرع المرأة بما لها بغير اذن زوجها قوله ص = (يا معشر النساء تصدقن) فيه أمر ولى الأمر رعيته بالصدقة وفعال الخير ووعظه النساء إذا لم يترتب عليه فتنة والمعشر الجماعة الذين صفتهم واحدة قوله ص = (ولو من حليكن) هو بفتح الحاء واسكان اللام مفرد وأما الجمع فيقال بضم الحاء
[ 87 ]
وكسرها واللام مكسورة فيهما والياء مشددة قولها (فان كان ذلك يجزى عنى) هو بفتح الياء أي يكفى وكذا قولها بعد أتجزى الصدقة عنهما بفتح التاء وقولها (أتجزى الصدقة عنهما على زوجيهما) هذه أفصح اللغات فيقال على زوجيهما وعلى زوجهما وعلى أزواجهما وهي أفصحهن وبها جاء القرآن العزيز في قوله تعالى فقد صغت قلوبكما وكذا قولها (وعلى أيتام في حجورهما) وشبه ذلك مما يكون لكل واحد من الأثنين منه واحد قولهما (ولا تخبر من نحن ثم أخبر بهما) قد يقال أنه اخلاف للوعد وافشاء للسر وجوابه أنه عارض ذلك جواب رسول الله ص = وجوابه ص = واجب محتم لا يجوز تأخيره ولا يقدم عليه غيره وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها قوله ص = (لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة)
[ 88 ]
فيه الحث على الصدقة على الأقارب وصلة الأرحام وأن فيها أجرين قوله (فذكرت لابراهيم فحدثني عن أبي عبيدة) القائل فذكرت لابراهيم هو الأعمش ومقصوده أنه رواه عن شيخين شقيق وأبي عبيدة وهذا المذكور في حديث امرأة ابن مسعود والمرأة الأنصارية من النفقة على أزواجهما وأيتام في حجورهما ونفقة أم سلمة على بنيها المراد به كله صدقة تطوع وسياق الأحاديث يدل عليه قوله ص = (ان المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة) فيه بيان أن المراد بالصدقة والنفقة المطلقة في باقي الأحاديث إذا احتسبها ومعناه أراد بها وجه الله تعالى
[ 89 ]
فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلا ولكن يدخل المحتسب وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الانفاق على الزوجة وأطفال أولاده والمملوك وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم واختلاف العلماء فيهم وأن غيرهم ممن ينفق عليه مندوب الى الانفاق عليهم فينفق بنية أداء ما أمر به وقد أمر بالاحسان إليهم والله أعلم قوله (عن أسماء بنت أبي بكر قالت قدمت على أمي وهي راهبة أو راغبة) وفي الرواية الثانية راغبة بلا شك وفيها وهي مشركة فقلت للنبي ص = أفأصل أمي قال نعم صلى أمك قال القاضى الصحيح راغبة بلا شك قال قيل معناه راغبة عن الاسلام وكارهة له وقيل معناه طامعة فيما أعطيتها حريصة عليه وفي رواية أبي داود قدمت على أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركة فالأول راغبة بالباء أي طامعة طالبة صلتي والثانية بالميم معناه كارهة للاسلام ساخطته وفيه جواز صلة القريب المشرك وأم أسماء اسمها قيلة وقيل قتيلة بالقاف وتاء مثناة من فوق وهي قيلة بنت عبد العزى القرشية العامرية واختلف العلماء في أنها أسلمت أم ماتت على كفرها والأكثرون على موتها مشركة وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه قوله (يا رسول الله ان أمي افتلتت نفسها ضبطناه نفسها ونفسها بنصب السين ورفعها فالرفع
[ 90 ]
على أنه مفعول ما لم يسم فاعله والنصب على أنه مفعول ثان قال القاضى أكثر روايتنا فيه بالنصب وقوله افتلتت بالفاء هذا هو صواب الذي رواه أهل الحديث وغيرهم ورواه ابن قتيبه اقتتلت نفسها بالقاف قال وهي كلمة يقال لمن مات فجأة ويقال أيضا لمن قتلته الجن والعشق والصواب الفاء قالوا ومعناه ماتت فجأة وكل شئ فعل بلا تمكث فقد افتلت ويقال افتلت الكلام واقترحه واقتضبه إذا ارتجله وقولها (أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم) فقوله ان تصدقت هو بكسر الهمزة من إن وهذا لا خلاف فيه قال القاضى هكذا الرواية فيه قال ولا يصح غيره لأنه انما سأل عما لم يفعله بعد وفي هذا الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها وهو كذلك باجماع العلماء وكذا أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين بالنصوص الواردة في الجميع ويصح الحج عن الميت إذا كان حج الاسلام وكذا إذا وصى بحج التطوع على الأصح عندنا واختلف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم فالراجح جوازه عنه للأحاديث الصحيحة فيه والمشهور في مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها وقال جماعة من أصحابنا يصله ثوابها وبه قال أحمد بن حنبل وأما الصلاة وسائر الطاعات فلا تصله عندنا ولا عند الجمهور وقال أحمد يصله ثواب الجميع كالحج
[ 91 ]
بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف قوله ص = (كل معروف صدقة) أي له حكمها في الثواب وفيه بيان ما ذكرناه في الترجمة وفيه أنه لا يحتقر شيئا من المعروف وأنه ينبغى أن لا يبخل به بل ينبغى أن يحضره قوله (ذهب أهل الدثور بالأجور) الدثور بضم الدال جمع دثر بفتحها وهو المال الكثير قوله ص = (أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ان بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن منكر صدقة) أما قوله ص = ما تصدقون فالرواية فيه بتشديد الصاد والدال جميعا ويجوز في اللغة تخفيف الصاد وأما قوله ص = وكل تكبيره صدقة وكل تحميده صدقة وكل تهليلة صدقة فرويناه بوجهين رفع صدقة ونصبه فالرفع على الاستئناف والنصب عطف على أن بكل تسبيحة صدقة قال القاضي يحتمل تسميتها صدقة أن لها أجرا كما للصدقة أجر وأن هذه الطاعات تماثل الصدقات في الأجور وسماها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس الكلام وقيل معناه أنها صدقة على نفسه
[ 92 ]
قوله ص = (وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن منكر صدقة) فيه اشارة الى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ولهذا نكره والثواب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية وقد يتعين ولا يتصور وقوعه نفلا والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل ومعلوم أن أجر الفرض أكثر من أجر النفل لقوله عز وجل وما تقرب الى عبدي بشئ أحب الى من أداء ما افترضت عليه رواه البخاري من رواية أبي هريرة وقد قال أمام الحرمين من أصحابنا عن بعض العلماء أن ثواب الفرض يزيد على ثواب النافلة بسبعين درجة واستأنسوا فيه بحديث قوله ص = (وفي بضع أحدكم صدقة) هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه وكلاهما تصح ارادته هنا وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو اعفاف نفسه أو اعفاف الزوجة ومنعهما جميعا من النظر الى حرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة قوله (قالوا يا رسول الله أيأتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) فيه جواز القياس وهو مذهب العلماء كافة ولم يخالف فيه الا أهل الظاهر ولا يعتد بهم واما المنقول عن التابعين ونحوهم من ذم القياس فليس المراد به القياس الذي يعتمده الفقهاء المجتهدون وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس واختلف الأصوليون في العمل به وهذا الحديث دليل
[ 93 ]
لمن عمل به وهو الأصح والله أعلم وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح وسائر الاذكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحضار النية في المباحات وذكر العالم دليلا لبعض المسائل التي تخفى وتنبيه المفتى على مختصر الأدلة وجواز سؤال المستفتى عن بعض ما يخفى من الدليل إذا علم من حال المسئول أنه لا يكره ذلك ولم يكن فيه سوء أدب والله أعلم قوله ص = (فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) ضبطنا أجرا بالنصب والرفع وهما ظاهران قوله ص = (خلق كل انسان من بنى آدم على ستين وثلثمائة مفصل) هو بفتح الميم وكسر الصاد قوله ص = (عدد تلك الستين والثلثمائة السلامى) قد يقال وقع هنا اضافة ثلاث الى مائة مع تعريف الأول وتنكير الثاني والمعروف لأهل العربية عكسه وهو تنكير الأول وتعريف الثاني وقد سبق بيان هذا والجواب عنه وكيفية قراءته في كتاب الايمان في حديث حذيفة في حديث أحصوا لي كم يلفظ بالاسلام قلنا أتخاف علينا ونحن بين الستمائة وأما السلامى فبضم السين المهملة وتخفيف اللام وهو المفصل وجمعه سلاميات بفتح الميم وتخفيف الياء قوله ص = (زحزح نفسه عن النار) أي باعدها قوله (فانه يمشى يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار) قال أبو توبة وربما قال يمسى ووقع لأكثر رواة كتاب مسلم الأول يمشى بفتح
[ 94 ]
الياء وبالشين المعجمة والثاني بضمها وبالسين المهملة ولبعضهم عكسه وكلاهما صحيح وأما قوله بعده في رواية الدارمي وقال أنه يمشى فبالمهملة لا غير وأما قوله بعده في حديث أبي بكر بن نافع وقال فانه يمشى يومئذ فبالمعجمة باتفاقهم قوله ص = (تعين ذا الحاجة الملهوف) الملهوف عند أهل اللغة يطلق على المتحسر وعلى المضطر وعلى المظلوم وقولهم يا لهف نفسي على كذا كلمة يتحسر بها على ما فات ويقال لهف بكسر الهاء يلهف بفتحها لهفا باسكانها أي حزن وتحسر وكذلك التلهف قوله ص = (تمسك عن الشر فانها صدقة) معناه صدقة على نفسه كما في غير هذه الرواية والمراد أنه إذا أمسك عن الشر لله تعالى كان له أجر على ذلك كما أن للمتصدق بالمال أجرا قوله ص = (كل سلامى من الناس عليه
[ 95 ]
صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) قال العلماء المراد صدقة ندب وترغيب لا ايجاب والزام قوله ص = (يعدل بين الاثنين صدقة) أي يصلح بينهما بالعدل قوله (عن معاوية بن أبي مزرد) هو بضم الميم وفتح الزاي وكسر الراء المشددة واسم أبي مزرد عبد الرحمن بن يسار قوله ص = (ما من يوم يصبح العباد فيه الا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا) قال العلماء هذا في الاتفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك بحيث لا يذم ولا يسمى سرفا والامساك المذموم هو الامساك عن هذا قوله صلى الله عليه وسلم (تصدقوا فيوشك الرجل يمشى بصدقته فيقول الذي أعطيها لو جئتنا بها بالأمس قبلتها
[ 96 ]
فاما الآن فلا حاجة لي بها فلا يجد من يقبلها) معنى أعطيها أي عرضت عليه وفي هذا الحديث و الأحاديث بعده مما ورد في كثرة المال في آخر الزمان وأن الانسان لا يجد من يقبل صدقته الحث على المبادرة بالصدقة واغتنام امكانها قبل تعذرها وقد صرح بهذا المعنى بقوله ص = في أول الحديث تصدقوا فيوشك الرجل الى آخره وسبب عدم قبولهم الصدقة في آخر الزمان لكثرة الأموال وظهور كنوز الأرض ووضع البركات فيها كما ثبت في الصحيح بعد هلاك يأجوج ومأجوج وقلة آمالهم وقرب الساعة وعدم ادخارهم المال وكثرة الصدقات والله أعلم قوله ص = (يطوف الرجل بصدقته من الذهب) انما هذا يتضمن التنبيه على ما سواه لأنه إذا كان الذهب لا يقبله أحد فكيف الظن بغيره وقوله ص = يطوف اشارة الى أنه يتردد بها بين الناس فلا يجد من يقبلها فتحصل المبالغة والتنبيه على عدم قبول الصدقة بثلاثة أشياء كونه يعرضها ويطوف بها وهي ذهب قوله ويرى الرجل الواحد ثم قال وفي رواية ابن براد وترى هكذا هو في جميع النسخ الأول يرى بضم الياء المثناة تحت والثاني بفتح المثناة فوق قوله ص = (ويرى الرجل الواحد تتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء) معنى يلذن به أي ينتمين إليه ليقوم بحوائجهن ويذب عنهن كقبيلة بقى من رجالها واحد فقط وبقيت نساؤها فيلذن بذلك الرجل ليذب عنهن ويقوم بحوائجهن ولا يطمع فيهن أحد بسببه وأما سبب قلة الرجال وكثرة النساء فهو الحروب والقتال
[ 97 ]
الذي يقع في آخر الزمان وتراكم الملاحم كما قال ص = ويكث الهرج أي القتل قوله (حدثنا يعقوب وهو ابن عبد الرحمن القارى) هو بتشديد الياء منسوب الى القارة القبيلة المعروفة وسبق بيانه مرات قوله ص = (حتت عود أرض العرب مروجا وأنهارا) معناه والله أعلم أنهم يتركونها ويعرضون عنها فتبقى مهملة لا تزرع ولا تسقى من مياهها وذلك لقلة الرجال وكثرة الحروب وتراك الفتن وقرب الساعة وقلة الآمال وعدم الفراغ لذلك والاهتمام به قوله ص = (حتى يهم رب المال من يقبل صدقته) ضبطوه بوجهين أجودهما وأشهرهما يهم بضم الياء وكسر الهاء ويكون رب المال منصوبا مفعولا والفاعل من وتقديره يحزنه ويهتم له والثاني يهم بفتح الياء وضم الهاء ويكون رب المال مرفوعا فاعلا وتقديره يهم رب المال من يقبل صدقته أي يقصده قال أهل اللغة يقال أهمه إذا أحزنه وهمه إذا أذابه ومنه قولهم همك ما أهمك أي أذابك الشئ الذي أحزنك فأذهب شحمك وعلى الوجه الثاني هو من هم به إذا قصده قوله ص = (لا أرب لي فيه) بفتح الهمزة والراء أي لا حاجة قوله (محمد بن يزيد الرفاعي) منسوب الى جد له وهو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير
[ 98 ]
ابن رفاعة بن سماعة أبو هشام الرفاعي قاضى بغداد قوله ص = (تقئ الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوان من الذهب والفضة) قال ابن السكيت الفلذ القطعة من كبد البعير وقال غيره هي القطعة من اللحم ومعنى الحديث التشبيه أي تخرج ما في جوفها من القطع المدفونة فيها والاسطوان بضم الهمزة والطاء وهو جمع أسطوانة وهي السارية والعمود وشبهه بالأسطوان لعظمه وكثرته قوله ص = (ولا يقبل الله الا الطيب) المراد بالطيب هنا الحلال قوله ص = (الا أخذها الرحمن بيمينه وان كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل) قال المازرى قد ذكرنا استحالة الجارحة على الله سبحانه وتعالى وأن هذا الحديث وشبهه انما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا فكنى هنا عن قبول الصدقة بأخذها في الكف وعن تضعيف أجرها بالتربية قال القاضى عياض لما كان الشئ الذي يرتضى ويعز يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول والرضا كما قال الشاعر إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين قال وقيل عبر باليمين هنا عن جهة القبول والرضا إذ الشمال بضده في هذا قال وقيل المراد بكف الرحمن هنا ويمينه كف الذي تدفع إليه الصدقة واضافتها الى الله تعالى اضافة ملك واختصاص لوضع
[ 99 ]
هذه الصدقة فيها لله عز وجل قال وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل أن المراد بذلك تعظيم أجرها وتضعيف ثوابها قال ويصح أن يكون على ظاهره وأن تعظم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان وهذا الحديث نحو قول الله تعالى يمحق الله الربا ويربى الصدقات قوله ص = (كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله) قال أهل اللغة الفلو المهر سمى بذلك لأنه فلى عن أمه أي فصل وعزل والفصيل ولد الناقة إذا فصل من ارضاع أمه فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول وفي الفلو لغتان فصيحتان أفصحهما وأشهرهما فتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو والثانية كسر الفاء واسكان اللام وتخفيف الواو قوله ص = (فلوه أو قلوصه) هي بفتح القاف وضم اللام وهي الناقة الفتية
[ 100 ]
ولا يطلق على الذكر قوله ص = (ان الله طيب لا يقبل الا طيبا) قال القاضى الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص وهو بمعنى القدوس وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث وهذا الحديث أحد الأحاديث التي هي قواعد الاسلام ومباني الاحكام وقد جمعت منها أربعين حديثا في جزء وفيه الحث على الانفاق من الحلال والنهى عن الانفاق من غيره وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغى أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه وأن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره قوله (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه الى السماء يا رب يا رب) الى آخره معناه والله أعلم أنه يطيل السفر في وجوه الطاعات كحج وزيارة مستحبة وصلة رحم وغير ذلك قوله ص = (وغذي بالحرام) هو بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة قوله ص = (فأنى يستجاب لذلك) أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له الحث على الصدقة ولو بشق تمرة (أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار) قوله ص = (من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل) شق
[ 101 ]
التمرة بكسر الشين نصفها وجانبها وفيه الحث على الصدقة وأنه لا يمتنع منها لقلتها وأن قليلها سبب للنجاة من النار قوله (ليس بينه وبينه ترجمان) هو بفتح التاء وضمها وهو المعبر عن لسان بلسان قوله (ولو بكلمة طيبة) فيه أن الكلمة الطيبة سبب للنجاة من النار وهي الكلمة التي فيها تطيب قلب انسان إذا كانت مباحة أو طاعة قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن خيثمة عن عدى بن حاتم) هذا الاسناد كله كوفيون وفيه ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض الأعمش وعمرو وخيثمة قوله (فأعرض وأشاح) هو بالشين المعجمة والحاء المهملة ومعناه قال الخليل وغيره معناه نجاه وعدل به وقال
[ 102 ]
الأكثرون المشيح الحذر والجاد في الأمر وقيل المقبل وقيل الهارب وقيل المقبل اليك المانع لما وراء ظهره فأشاح هنا يحتمل هذه المعاني أي حدر النار كأنه ينظر إليها أو جد في الايضاح بايقانها أو أقبل اليك خطابا أو أعرض كالهارب قوله (مجتابى النمار أو العباء) النمار بكسر النون جمع نمرة بفتحها وهي ثياب صوف فيها تنمير والعباء بالمد وبفتح العين جمع عباءة وعباية لغتان وقوله مجتابى النمار أي خرقوها وقوروا وسطها قوله (فتمعر وجه رسول الله ص =) هو بالعين المهملة أي تغير قوله (فصلى ثم خطب) فيه استحباب جمع الناس للأمور المهمة ووعظهم وحثهم على مصالحهم وتحذيرهم من القبائح قوله (فقال أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة أو سبب قراءة هذه الآية أنها أبلغ
[ 103 ]
في الحث على الصدقة عليهم ولما فيها من تأكد الحق لكونهم أخوة قوله (رأيت كومين من طعام وثياب) هو بفتح الكاف وضمها قال القاضى ضبطه بعضهم بالفتح وبعضهم بالضم قال ابن سراج هو بالضم اسم لما كومه وبالفتح المرة الواحدة قال والكومة بالضم الصبرة والكوم العظيم من كل شئ والكوم المكان المرتفع كالرابية قال القاضى فالفتح هنا أولى لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية قوله (حتى رأيت وجه رسول الله ص يتهلل كأنه مذهبة) فقوله يتهلل أي يستنير فرحا وسرورا وقوله مذهبة ضبطوه بوجهين أحدهما وهو المشهور وبه جزم القاضي والجمهور مذهبة بذال معجمة وفتح الهاء وبعدها باء موحدة والثاني ولم يذكر الحميدى في الجمع بين الصحيحين غيره مدهنة بدال مهملة وضم الهاء وبعدها نون وشرحه الحميدى في كتابه غريب الجمع بين الصحيحين فقال هو وغيره ممن فسر هذه الرواية ان صحت المهدن الاناء الذي يدهن فيه وهو ايضا اسم للنقرة في الجبل التي يستجمع فيها ماء المطر فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء وبصفاء الدهن والمدهن وقال القاضي عياض في المشارق وغيره من الأئمة هذا تصحيف وهو بالذال المعجمة والباء الموحدة وهو المعروف في الروايات وعلى هذا ذكر القاضي وجهين في تفسيره أحدهما معناه فضة مذهبة فهو أبلغ في حسن الوجه واشراقه والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود وجمعها مذاهب وهي شئ كانت العرب تصنعه من جلود وتجعل فيها خطوطا مذهبة يرى بعضها أثر بعض وأما سبب سروره ص = ففرحا بمبادرة المسلمين الى طاعة الله تعالى وبذل أموالهم لله وامتثال أمر رسول الله ص = ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين وشفقة المسلمين بعضهم على بعض وتعاونهم على البر والتقوى وينبغى للانسان إذا رأى شيئا من هذا القبيل أن يفرح ويظهر سروره ويكون فرحه لما ذكرناه قوله ص
[ 104 ]
(من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها) الى آخره فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات والتحذير من اختراع الاباطيل والمستقبحات وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس وكان الفضل العظيم للبادى بهذا الخير والفاتح لباب هذا الاحسان وفي هذا الحديث تخصيص قوله ص = كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة وقد سبق بيان هذا في كتاب صلاة الجمعة وذكرنا هناك أن البدع خمسة أقسام واجبة
[ 105 ]
ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة قوله (عن عبد الرحمن بن هلال العبسى) هو بالباء الموحدة الحمل بأجرة يتصدق بها والنهى الشديد (عن تنقيص المتصدق بقليل) قوله (كنا نحامل) وفي الرواية الثانية كنا نحامل على ظهورنا معناه نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق من تلك الأجرة أو نتصدق بها كلها ففيه التحريض على الاعتناء بالصدقة وأنه إذا لم يكن له مال يتوصل الى تحصيل ما يتصدق به من حمل بالأجرة أو غيره من الأسباب المباحة
[ 106 ]
فضل المنيحة قوله ص = (ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بعس وتروح بعس) العس بضم العين وتشديد السين المهملة وهو القدح الكبير هكذا ضبطناه وروى بعشاء بشين معجمة ممدودة قال القاضى وهذه رواية أكثر رواة مسلم قال والذي سمعناه من متقنى شيوخنا بعس وهو القدح الضخم قال وهذا هو الصواب المعروف قال وروى من رواية الحميدى في غير مسلم بعساء بالسين المهملة وفسره الحميدى بالعس الكبير وهو من أهل اللسان قال وضبطنا عن أبي مروان بن سراج بكسر العين وفتحها معا ولم يقيده الجيانى وأبو الحسن ابن أبي مروان عنه الا بالكسر وحده هذا كلام القاضى ووقع في كثير من نسخ بلادنا أو أكثرها من صحيح مسلم بعساء بسين مهملة ممدودة والعين مفتوحة وقوله يمنح بفتح النون أي يعطيهم ناقة يأكلون لبنها مدة ثم يردونها إليه وقد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها مؤبدة ثم الهبة قوله ص = (من منح منيحة غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها) وقع في بعض النسخ منيحة وبعضها منحة بحذف الياء قال أهل اللغة المنحة بكسر الميم والمنيحة بفتحها مع زيادة الياء هي العطية وتكون في الحيوان وفي الثمار وغيرهما وفي الصحيح أن النبي ص = منح أم أيمن عذاقا أي نخيلا ثم قد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها وهي الهبة وقد تكون عطية اللبن أو الثمرة مدة وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها ويردها إليه إذا انقضى اللبن
[ 107 ]
أو الثمر المأذون فيه وقوله صبوحها وغبوقها الصبوح بفتح الصاد الشرب أول النهار والغبوق بفتح الغين أول الليل والصبوح والغبوق منصوبان على الظرف وقال القاضى عياض هما مجروران على البدل من قوله صدقة قال ويصح نصبهما على الظرف وقوله (عن أبي هريرة يبلغ به ألا رجل يمنح) معناه يبلغ به النبي ص = فكأنه قال عن أبي هريرة قال قال رسول الله ص = ألا رجل يمنح ولا فرق بين هاتين الصيغتين باتفاق العلماء والله أعلم مثل المنفق والبخيل قوله (قال عمر وحدثنا سفيان بن عيينة قال وقال ابن جريج) هكذا هو في النسخ وقال ابن جريج بالواو وهي صحيحة مليحة وانما أتى بالواو لأن ابن عيينة قال لعمرو وقال ابن جريج كذا فإذا روى عمرو الثاني من تلك الاحاديث أتى بالواو لأن ابن عيينة قال في الثاني وقال ابن جريج كذا وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات في أول الكتاب قوله ص = في حديث عمرو الناقد (مثل المنفق والمتصدق كمثل رجل عليه جبتان أو جنتان من لدن ثديهما الى تراقيهما) ثم قال (فإذا أراد المنفق أن يتصدق سبغت وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت) هكذا وقع هذا الحديث في جميع النسخ من رواية عمرو مثل المنفق والمتصدق قال القاضى وغيره هذا وهم وصوابه مثل ما وقع في باقى الروايات مثل البخيل والمتصدق وتفسيرهما آخر الحديث يبين هذا وقد يحتمل أن صحة رواية عمرو هكذا أن تكون على وجهها وفيها محذوف تقديره مثل المنفق والمتصدق وقسيمهما
[ 108 ]
وهو البخيل وحذف البخيل لدلالة المنفق والمتصدق عليه كقول الله تعالى تقيكم الحر أي والبرد وحذف ذكر البرد لدلالة الكلام عليه وأما قوله والمتصدق فوقع في بعض الأصول المتصدق بالتاء وفي بعضها المصدق بحذفها وتشديد الصاد وهما صحيحان وأما قوله كمثل رجل فهكذا وقع في الأصول كلها كمثل رجل بالافراد والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة وصوابه كمثل رجلين وأما قوله جبتان أو جنتان فالأول بالباء والثاني بالنون ووقع في بعض الأصول عكسه وأما قوله من لدن ثديهما فكذا هو في كثير من النسخ المعتمدة أو أكثرها ثديهما بضم الثاء وبياء واحدة مشددة على الجمع وفي بعضهما ثدييهما بالتثنية قال القاضى عياض وقع في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة وتصحيف وتحريف وتقديم وتأخير ويعرف صوابه من الأحاديث التي بعده فمنه مثل المنفق والمتصدق وصوابه المتصدق والبخيل ومنه كمثل رجل وصوابه رجلين عليهما جنتان ومنه قوله جنتان أو جبتان بالشك وصوابه جنتان بالنون بلا شك كما في الحديث الآخر بالنون بلا شك والجنة الدرع ويدل عليه في الحديث نفسه قوله (فأخذت كل حلقة موضعها) وفي الحديث الآخر جنتان من حديد ومنه قوله سبغت عليه أو مرت كذا هو في النسخ مرت بالراء قيل ان صوابه مدت بالدال بمعنى سبغت وكما قال في الحديث الآخر انبسطت لكنه قد يصح مرت على نحو هذا المعنى والسابغ الكامل وقد رواه البخاري مادت بدال
[ 109 ]
مخففة من ماد إذا مال ورواه بعضهم مارت ومعناه سالت عليه وامتدت وقال الأزهري معناه ترددت وذهبت وجاءت يعنى لكمالها ومنه قوله وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت عليه وأخذت كل حلقة موضعها حتى تجن بنانه ويعفو أثره قال فقال أبو هريرة يوسعها فلا تتسع وفي هذا الكلام اختلال كثير لأن قوله تجن بنانه ويعفو أثره انما جاء في المتصدق لا في البخيل وهو على ضد ما هو وصف البخيل من قوله قلصت كل حلقة موضعها وقوله يوسعها فلا تتسع وهذا من وصف البخيل فأدخله في وصف المتصدق فاختل الكلام وتناقض وقد ذكر في الأحاديث على الصواب ومنه رواية بعضهم تحز ثيابه بالحاء والزاى وهو وهم والصواب رواية الجمهور تجن بالجيم والنون أي تستتر ومنه رواية بعضهم ثيابه بالثاء المثلثة وهو وهم والصواب بنانه بالنون وهو رواية الجمهور كما قال في الحديث الآخر أنامله ومعنى تقلصت انقبضت ومعنى يعفو أثره أي يمحى أثر مشيه بسبوغها وكمالها وهو تمثيل لنماء المال بالصدقة والانفاق والبخل بضد ذلك وقيل هو تمثيل لكثرة الجود والبخل وأن المعطى إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء وتعود ذلك وإذا أمسك صار ذلك عادة له وقيل معنى يمحو أثره أي يذهب بخطاياه ويمحوها وقيل في البخيل قلصت ولزمت كل حلقة مكانها أي يحمى عليه يوم القيامة فيكوى بها والصواب الأول والحديث جاء على التمثيل لا على الخبر عن كائن وقيل ضرب المثل بهما لأن المنفق يستره الله تعالى بنفقته ويستر عوراته في الدنيا والآخرة كستر هذه الجنة لابسها والبخيل كمن لبس جبة الى ثدييه فيبقى مكشوفا بادى العورة مفتضحا في الدنيا والآخرة وهذا آخر كلام القاضى عياض رحمه الله تعالى قوله ص = في الروايتين الأخريين (كمثل رجلين ومثل رجلين عليهما جنتان) هما بالنون في هذين الموضعين بلا شك ولا خلاف قوله (فانا رأيت رسول الله ص = يقول باصبعه في جيبه فلو رأيته
[ 110 ]
يوسعها فلا توسع فقوله رأيته بفتح التاء قوله توسع بفتح التاء وأصله تتوسع وفي هذا الدليل على لباس القميص وكذا ترجم عليه البخاري باب جيب القميص من عند الصدر لأنه المفهوم من لباس النبي ص = في هذه القصة مع أحاديث صحيحة جاءت به والله أعلم ثبوت أجر المتصدق وان وقعت الصدقة في يد فاسق ونحوه فيه حديث المتصدق على سارق وزانية وغنى وفيه ثبوت الثواب في الصدقة وان كان الآخذ فاسقا وغنيا ففي كل كبد حرى أجر وهذا في صدقة التطوع وأما الزكاة فلا يجزى دفعها الى غنى
[ 111 ]
أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت من بيت زوجها (غير مفسدة باذنه الصريح والعرفي) قوله ص = في الخازن الأمين الذي يعطى ما أمر به أحد المتصدقين وفي رواية (أذا انفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا) وفي رواية من طعام زوجها وفي رواية في العبد إذا أنفق من مال مواليه قال الأجر بينكما نصفان وفي رواية ولا تصم المرأة وبعلها شاهد الا باذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد الا باذنه وما أنفقت من كسبه من غير أمره فان نصف أجره له معنى هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر ومعنى المشاركة أن له اجرا كمالصاحبه أجر وليس معناه أن يزاحمه في أجره والمراد المشاركة في أصل الثواب
[ 112 ]
فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب وان كان أحدهما أكثر ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه فإذا أعطى المالك لخازنه أو امرأته أو غيرهما مائة درهم أو نحوها ليوصلها الى مستحق الصدقة على باب داره أو نحوه فأجر المالك أكثر وان أعطاه رمانة أو رغيفا ونحوهما مما ليس له كثير قيمة ليذهب به الى محتاج في مسافة بعيدة بحيث يقابل مشى الذاهب إليه بأجرة تزيد على الرمانة والرغيف فأجر الوكيل أكثر وقد يكون عمله قدر الرغيف مثلا فيكون مقدار الاجر سواء وأما قوله ص = (الأجر بينكما نصفان) فمعناه قسمان وان كان أحدهما أكثركما قال الشاعر إذا مت كان الناس نصفان بيننا وأشار القاضى الى أنه يحتمل أيضا أن يكون سواء لأن الأجر فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء ولا يدرك بقياس ولا هو بحسب الاعمال بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والمختار الأول وقوله ص = الاجر بينكما ليس معناه أن الأجر الذي لاحدهما يزدحمان فيه بل معناه أن هذه النفقة والصدقة التي أخرجها الخازن أو المراة أو المملوك ونحوهم باذن المالك يترتب على جملتها ثواب على قدر المال والعمل فيكون ذلك مقسوما بينهما لهذا نصيب بماله ولهذا نصيب بعمله فلا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله واعلم أنه لا بد لعامل وهو الخازن وللزوجة والمملوك من اذن المالك في ذلك فان لم يكن اذن اصلا فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة بل عليهم وزر بتصرفهم في مال غيرهم بغير اذنه والاذن ضربان أحدهما الاذن الصريح في النفقة والصدقة ولثاني الاذن المفهوم من اطراد العرف والعادة كاعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت العادة به واطرد العرف فيه وعلم بالعرف رضاء الزوج والمالك به فاذنه في ذلك حاصل وان لم يتكلم وهذا إذا علم رضاه لاطراد العرف وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضا به فان اضطرب العرف وشك في رضاه أو كان شخصا يشح بذلك وعلم من حاله ذلك أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله الا بصريح اذنه وأما قوله ص = (وما أنفقت من كسبه من غير أمره فان نصف أجره له) فمعناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين ويكون معها اذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره وذلك الاذن الذي قد بيناه سابقا اما بالصريح واما بالعرف ولابد من هذا التأويل لأنه ص = جعل
[ 113 ]
الأجر مناصفة وفي رواية أبى داود فلها نصف أجره ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير اذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر فتعين تأويله واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به في العادة فان زاد على المتعارف لم يجز وهذا معنى قوله ص = إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة فأشار ص = إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة ونبه بالطعام أيضا على ذلك لأنه يسمح به في العادة بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس وفي كثير من الأحوال واعلم أن المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال وغلمانه ومصالحه وقاصديه من ضيف وابن سبيل ونحوهما وكذلك صدقتهم المأذون فيها بالصريح أو العرف والله أعلم وقوله ص = (الخازن المسلم الأمين) الى آخره هذه الأوصاف شروط لحصول هذا الثواب فينبغي أن يعتنى بها ويحافظ عليها قوله ص = (أحد المتصدقين) هو بفتح القاف على التثنية ومعناه له أجر متصدق وتفصيله كما سبق وقوله ص = (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها) أي من طعام زوجها الذي في بيتها كما صرح به في الرواية الأخرى قوله ص = (إذا أنفقت المرأة من بيتها زوجها غير مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما اكتسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم
[ 114 ]
شيئا) هكذا وقع في جميع النسخ شيئا بالنصب فيقدر له ناصب فيحتمل أن يكون تقديره من غير أن ينقص الله من أجورهم شيئا ويحتمل أن يقدر من غير أن ينقص الزوج من أجر المرأة والخازن شيئا وجمع ضميرهما مجازا على قول الأكثرين ان أقل الجمع ثلاثة أو حقيقة على قول من قال أقل الجمع اثنان قوله (مولى آبى اللحم) هو بهمزة ممدودة وكسر الباء قيل لأنه كان لا يأكل اللحم وقيل لا يأكل ما ذبح للاصنام واسم آبى اللحم عبد الله وقيل خلف وقيل الحويرث الغفاري وهو صحابي استشهد يوم حنين روى عمير مولاه قوله (كنت مملوكا فسألت رسول الله ص = أأتصدق من مال موالى بشئ قال نعم الأجر بينكما نصفان) هذا محمول على ما سبق أنه استأذن في الصدقة بقدر يعلم رضا سيده به وقوله (أمرنى مولاى أن أقدد لحما فجاءني مسكين فأطعمته فعلم ذلك مولاى فضربني فأتيت رسول الله ص فذكرت ذلك له فدعاه فقال لم ضربته فقال يعطى طعامي بغير أن آمره فقال الأجر بينكما) هذا محمول على أن عميرا تصدق بشئ يظن أن مولاه يرضى به ولم يرض به مولاه فلعمير أجر لأنه فعل شيئا يعتقد طاعة بنية الطاعة ولمولاه أجر لأن ماله تلف عليه ومعنى الأجر بينكما أي لكل منكما أجر وليس المراد أن أجر نفس المال يتقاسمانه وقد سبق بيان هذا قريبا فهذا الذي ذكرته من تأويله هو المعتمد وقد وقع
[ 115 ]
في كلام بعضهم ما لا يرتضى من تفسيره وقله ص = (لا تصم المرأة وبعلها شاهد الا باذنه) هذا محمول على صوم التطوع والمندوب الذي ليس له زمن معين وهذا النهى للتحريم صرح به أصحابنا وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام وحقه فيه واجب على الفور فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي فان قيل فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير اذنه فان أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها فالجواب أن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة لأنه يهاب انتهاك الصوم بالافساد وقوله ص = وزوجها شاهد أي مقيم في البلد أما إذا كان مسافرا فلها الصوم لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه قوله ص = (ولا تأذن في بيته وهو شاهد الا باذنه) فيه اشارة الى أنه لا يفتات على الزوج وغيره من مالكى البيوت وغيرها بالاذن في أملاكهم الا باذنهم وهذا محمول على ما لا يعلم رضا الزوج ونحوه به فان علمت المرأة ونحوها رضاه به جاز كما سبق في النفقة فضل من ضم الى الصدقة غيرها من أنواع البر قوله ص = (من أنفق زوجين في سبيل الله نودى في الجنة يا عبد الله هذا خير)
[ 116 ]
قال القاضى قال الهروي في تفسير هذا الحديث قيل وما زوجان قال فرسان أو عبدان أو بعيران وقال ابن عرفة كل شئ قرن بصاحبه فهو زوج يقال زوجت بين الابل إذا قرنت بعيرا ببعير وقيل درهم ودينار أو درهم وثوب قال والزوج يقع على الاثنين ويقع على الواحد وقيل انما يقع على الواحد إذا كان معه آخر ويقع الزوج ايضا على الصنف وفسر بقوله تعالى أزواجا ثلاثة وقيل يحتمل أن يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر من صلاتين أو صيام يومين والمطلوب تشفيع صدقة بأخرى والتنبيه على فضل الصدقة والنفقة في الطاعة والاستكثار منها وقوله في سبيل الله قيل هو على العموم في جميع وجوه الخير وقيل هو مخصوص بالجهاد والأول أصح وأظهر هذا آخر كلام القاضى قوله ص = (نودى في الجنة يا عبد الله هذا خير) قيل معناه لك هنا خير وثواب وغبطة وقيل معناه هذا الباب فيما نعتقده خير لك من غيره من الأبواب لكثرة ثوابه ونعيمه فتعال فادخل منه ولا بد من تقدير ما ذكرناه أن كل مناد يعتقد ذلك الباب أفضل من غيره قوله ص = (فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة) وذكر مثله في الصدقة والجهاد والصيام قال العلماء معناه من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك قوله ص = في صاحب الصوم (دعى من باب الريان) قال العلماء سمى باب الريان تنبيها على أن العطشان بالصوم في الهوجر سيروى
[ 117 ]
وعاقبته إليه وهو مشتق من الري قوله ص = (دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي فل هلم) هكذا ضبطناه أي فل بضم اللام وهو المشهور ولم يذكر القاضى وآخرون غيره وضبطه بعضهم باسكان اللام والاول اصوب قال القاضي معناه أي فلان فرخم ونقل اعراب الكلمة على احدى اللغتين في الترخيم قال وقيل فل لغة في فلان في غير النداء والترخيم قوله (لا توى عليه) وهو بفتح المثناة فوق مقصور أي لاهلاك قوله ص = لأبي بكر رضي الله عنه (انى لأرجو أن تكون منهم) فيه منقبة لأبي بكر رضي الله عنه وفيه جواز الثناء على الانسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة باعجاب وغيره والله أعلم قوله ص من باب كذا ومن باب كذا فذكر باب الصلاة والصدقة والصيام والجهاد قال القاضي
[ 118 ]
وقد جاء ذكر بقية أبواب الجنة الثمانية في حديث آخر في باب التوبة وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وباب الراضين فهذه سبعة أبواب جاءت في الأحاديث وجاء في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم يدخلون من الباب الأيمن فلعله الباب الثامن الحث على الانفاق وكراهة الاحصاء قوله ص = (انفقي وانفحي وانضحي) أما انفحي فبفتح الفاء وبحاء مهملة واما انضحي فبكسر الضاد ومعنى انفحي وانضحي اعطي والنفح والنضح العطاء ويطلق النضح أيضا على الصب فلعله المراد هنا ويكون أبلغ من النفح قوله ص = (انفحي وانضحي وانفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك) معناه الحث على
[ 119 ]
النفقة في الطاعة والنهي عن الامساك والبخل وعن ادخار المال في الوعاء قوله (عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت النبي ص فقالت يا نبي الله ليس لي من شئ الا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي فقال ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك) هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها أو مما هو ملك الزبير ولا يكره الصدقة منه بل رضي بها على عادة غالب الناس وقد سبق بيان هذه المسألة قريبا قوله ص = (ارضخي ما استطعت) معناه مما يرضى به الزبير وتقديره أن لك في الرضخ مراتب مباحة بعضها فوق بعض وكلها يرضاها الزبير فافعلي أعلاها أو يكون معناه ما استطعت مما هو ملك لك وقوله ص = (ولا تحصي فيحصي الله عليك ويوعى عليك) هو من باب مقابلة اللفظ باللفظ للتجنيس كما قال تعالى ومكروا ومكر الله ومعناه يمنعك كما منعت ويقتر عليك كما قترت ويمسك فضله عنك كما أمسكته وقيل معنى لا تحصي أي لا تعديه فتستكثريه فيكون سببا لانقطاع انفاقك الحث على الصدقة ولو بالقليل ولا تمتنع من القليل لاحتقاره قوله ص = (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) قال أهل اللغة هو بكسر الفاء
[ 120 ]
والسين وهو الظلف قالوا وأصله في الابل وهو فيها مثل القدم في الانسان قالوا ولا يقال إلا في الابل ومرادهم أصله مختص بالابل ويطلق على الغنم استعارة وهذا النهي عن الاحتقار نهي للمعطية المهدية ومعناه لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها بل تجود بما تيسر وان كان قليلا كفرسن شاة وهو خير من العدم وقد قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره وقال النبي ص = اتقوا النار ولو بشق تمرة قال القاضى هذا التأويل هو الظاهر وهو تأويل مالك لادخاله هذا الحديث في باب الترغيب في الصدقة قال ويحتمل أن يكون نهيا للمعطاة عن الاحتقار قوله ص = (يا نساء المسلمات) ذكر القاضى في اعرابه ثلاثة أوجه أصحها وأشهرها نصب النساء وجر المسلمات على الاضافة قال الباجى وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق وهو من باب اضافة الشئ الى نفسه والموصوف الى صفته والأعم الى الأخص كمسجد الجامع وجانب الغربي ولدار الآخرة وهو عند الكوفيين جائز على ظاهره وعند البصريين يقدرون فيه محذوفا أي مسجد المكان الجامع وجانب المكان الغربي ولدار الحياة الآخرة وتقدر هنا يا نساء الانفس المسلمات أو الجماعات المؤمنات وقيل تقديره يا فاضلات المؤمنات كما يقال هؤلاء رجال القوم أي ساداتهم وأفاضلهم والوجه الثاني رفع النساء ورفع المسلمات أيضا على معنى النداء والصفة أي يا أيها النساء المسلمات قال الباجي وهكذا يرويه أهل بلدنا والوجه الثالث رفع نساء وكسر التاء من المسلمات على أنه منصوب على الصفة على الموضع كما يقال يا زيد العاقل برفع زيد ونصب العاقل والله أعلم فضل اخفاء الصدقة قوله ص = (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله) قال القاضى اضافة
[ 121 ]
الظل الى الله تعالى اضافة ملك وكل ظل فهو لله وملكه وخلقه وسلطانه والمراد هنا ظل العرش كما جاء في حديث آخر مبينا والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين ودنت منهم الشمس واشتد عليهم حرها وأخذهم العرق ولا ظل هناك لشئ الا للعرش وقد يراد به هنا ظل الجنة وهو نعيمها والكون فيها كما قال تعالى وندخلهم ظلا ظليلا قال القاضى وقال ابن دينار المراد بالظل هنا الكرامة والكنف والكف من المكاره في ذلك الموقف قال وليس المراد ظل الشمس قال القاضى وما قاله معلوم في اللسان يقال فلان في ظل فلان أي في كنفه وحمايته قال وهذا أولى الأقوال وتكون اضافته الى العرش لأنه مكان التقريب والكرامة والا فالشمس وسائر العالم تحت العرش وفي ظله قوله ص = (الامام العادل) قال القاضى هو كل من إليه نظر في شئ من مصالح المسلمين من الولاة والحكام وبدأ به لكثرة مصالحه وعموم نفعه ووقع في أكثر النسخ الامام العادل وفي بعضها الامام العدل وهما صحيحان قوله ص = (وشاب نشأ بعبادة الله) هكذا هو في جميع النسخ نشأ بعبادة الله والمشهور في روايات هذا الحديث نشأ في عبادة الله وكلاهما صحيح ومعنى رواية الباء نشأ متلبسا للعبادة أو مصاحبا لها أو ملتصقا بها قوله ص = (ورجل قلبه معلق في المساجد) هكذا هو في النسخ كلها في المساجد وفي غير هذه الرواية بالمساجد ووقع في هذه الرواية في أكثر النسخ معلق في المساجد وفي بعضها متعلق بالتاء وكلاهما صحيح ومعناه شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها وليس معناه دوام القعود في المسجد قوله ص = (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) معناه اجتمعا على حب الله وافترقا على حب الله أي كان سبب اجتماعهما حب الله واستمرا على ذلك حتى تفرقا من مجلسهما وهما صادقان في حب كل واحد منهما صاحبه لله تعالى حال اجتماعهما وافتراقهما وفي هذا الحديث الحث على التحاب في الله وبيان عظم فضله وهو من المهمات فان الحب في الله والبغض في الله من الايمان وهو بحمد الله كثير يوفق له
[ 122 ]
أكثر الناس أو من وفق له قوله ص = (ورجل دعته امرأته ذات منصب وجمال فقال انى أخاف الله) قال القاضى يحتمل قوله أخاف الله باللسان ويحتمل قوله في قلبه ليزجر نفسه وخص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها وهي جامعة للمنصب والجمال لا سيما وهي داعية الى نفسها طالبة لذلك قد أغنت عن مشاق التوصل الى مراودة ونحوها فالصبر عنها لخوف الله تعالى وقد دعت الى نفسها مع جمعها المنصب والجمال من أكمل المراتب وأعظم الطاعات فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله وذات المنصب هي ذات الحسب والنسب الشريف ومعنى دعته أي دعته الى الزنا بها هذا هو الصواب في معناه وذكر القاضى فيه احتمالين أصحهما هذا والثاني أنه يحتمل أنها دعته لنكاحها فخاف العجز عن القيام بحقها أو أن الخوف من الله تعالى شغله عن لذات الدنيا وشهواتها قوله ص = (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها وكذا نقله القاضى عن جميع روايات نسخ مسلم لا تعلم يمينه ما تنفق شماله والصحيح المعروف حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه هكذا رواه مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه وغيرهما من الأئمة وهو وجه الكلام لأن المعروف في النفقة فعلها باليمين قال القاضى ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين عن مسلم لا من مسلم بدليل ادخاله بعده حديث مالك رحمه الله وقال بمثل حديث عبيد وبين الخلاف في قوله وقال رجل معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود فلو كان ما رواه مخالفا لرواية مالك لنبه عليه كما نبه على هذا وفي هذا الحديث فضل صدقة السر قال العلماء وهذا في صدقة التطوع فالسر فيها أفضل لأنه أقرب الى الإخلاص وأبعد من الرياء وأما الزكاة الواجبة فاعلانها أفضل وهكذا حكم الصلاة فاعلان فرائضها أفضل واسرار نوافلها أفضل لقوله ص = أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته الا المكتوبة قال العلماء وذكر اليمين والشمال مبالغة في الاخفاء والاستتار بالصدقة وضرب المثل بهما لقرب اليمين من الشمال وملازمتها لها ومعناه لو قدرت الشمال رجلا متيقظا لما علم صدقة اليمين لمبالغته في الاخفاء ونقل القاضى عن بعضهم أن المراد من عن يمينه وشماله من الناس والصواب الأول قوله ص = (ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه)
[ 123 ]
فيه فضيلة البكاء من خشية الله تعالى وفضل طاعة السر لكمال الاخلاص فيها بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح قوله (يا رسول الله أي الصدقة أعظم فقال أن تصدق وانت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان) قال الخطابى الشح أعم من البخل وكأن الشح جنس والبخل نوع وأكثر ما يقال البخل في أفراد الأمور والشح عام كالوصف للازم وما هو من قبل الطبع قال فمعنى الحديث أن الشح غالب في حال الصحة فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لاجره بخلاف من أشرف على الموت وآيس من الحياة ورأى مصير المال لغيره فان صدقته حينئذ ناقصة بالنسبة الى حالة الصحة والشح رجاء البقاء وخوف الفقر وتأمل الغنى بضم الميم أي تطمع به ومعنى بلغت الحلقوم بلغت الروح والمراد قاربت بلوغ الحلقوم إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شئ من تصرفاته باتفاق الفقهاء وقوله ص = (لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان) قال الخطابي المراد به الوارث وقال غيره المراد به سبق القضاء به
[ 124 ]
للموصى له ويحتمل أن يكون المعنى أنه قد خرج عن تصرفه وكمال ملكه واستقلاله بما شاء من التصرف فليس له في وصيته كبير ثواب بالنسبة الى صدقة الصحيح الشحيح قوله ص = (أما وأبيك لتنبأنه به) قد يقال حلف بأبيه وقد نهى عن الحلف بغير الله وعن الحلف بالآباء والجواب أن النهى عن اليمين بغير الله لمن تعمده وهذه اللفظه الواقعة في الحديث تجرى على اللسان من غير تعمد فلا تكون يمينا ولا منهيا عنها كما سبق بيانه في كتاب الايمان بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا (هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة) قوله ص = في الصدقة (اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة) هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم العليا المنفقة من الانفاق وكذا ذكره أبو داود
[ 125 ]
عن أكثر الرواة قال ورواه عبد الوارث عن ايوب عن نافع عن ابن عمر العليا المتعففة بالعين من العفة ورجح الخطابي هذه الرواية قال لأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها والصحيح الرواية الأولى ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلى من السائلة والمتعففة أعلى من السائلة وفي هذا الحديث الحث على الانفاق في وجوه الطاعات وفيه دليل لمذهب الجمهور أن اليد العليا هي المنفقة وقال الخطابي المتعففة كما سبق وقال غيره العليا الآخذة والسفلى المانعة حكاه القاضي والله أعلم والمراد بالعلو علو الفضل والمجد ونيل الثواب قوله ص = (وخير الصدقة عن ظهر غنى) معناه أفضل الصدقة ما بقى صاحبها بعدها مستغنيا بما بقى معه وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه وانما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة الى من تصدق بجميع ماله لأن من تصدق بالجميع يندم غالبا أو قد يندم إذا احتاج ويود أنه لم يتصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيا فانه لا يندم عليها بل يسر بها وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون بشرط أن يكون ممن يصبر على الاضاقة والفقر فان لم تجتمع هذه الشروط فهو مكروه قال القاضى جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله وقيل يرد جميعها وهو مروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقيل ينفذ في الثلث هو مذهب أهل الشام وقيل ان زاد على النصف ردت الزيادة وهو محكى عن مكحول قال أبو جعفر والطبري ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث قوله ص = (وابدأ بمن تعول) فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم وفيه الابتداء بالأهم فالأهم
[ 126 ]
في الأمور الشرعية قوله ص = (ان هذا المال خضرة حلوة) شبهه في الرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة المستلذة فان الأخضر مرغوب فيه على انفراده والحلو كذلك على انفراده فاجتماعهما أشد وفيه اشارة الى عدم بقائه لأن الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء والله أعلم قوله ص = (فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه باشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذى يأكل ولا يشبع) قال العلماء اشراف النفس تطلعها إليه وتعرضها له وطعمها فيه وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين أظهرهما أنه عائد الى الآخذ ومعناه من أخذه بغير سؤال ولا اشراف وتطلع بورك له فيه والثاني أنه عائد الى الدافع ومعناه من أخذه ممن يدفع منشرحا بدفعه إليه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع وأما قوله ص = كالذي يأكل ولا يشبع فقيل هو الذي به داء لا يشبع بسببه وقيل يحتمل أن المراد التشبيه بالبهيمة الراعية وفي هذا الحديث وما قبله وما بعده الحث على التعفف والقناعة والرضا بما تيسر في عفاف وان كان قليلا والاجمال في الكسب وأنه لا يغتر الانسان بكثرة ما يحصل له باشراف ونحوه فانه لا يبارك له فيه هو قريب من قول الله تعالى يمحق الله الربا ويربى الصدقات قوله ص = (يا ابن آدم
[ 127 ]
انك أن تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف) هو بفتح همزة أن ومعناه أن بذلت الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه وان امسكته فهو شر لك لأنه إن أمسك عن الواجب استحق العقاب عليه وان أمسك عن المندوب فقد نقص ثوابه وفوت مصلحة نفسه في آخرته وهذا كله شر ومعنى لا تلام على كفاف أن قدر الحاجة لا لوم على صاحبه وهذا إذا لم يتوجه في الكفاف حق شرعي كمن كان له نصاب زكوى ووجبت الزكاة بشروطها وهو محتاج الى ذلك النصاب لكفافه وجب عليه اخراج الزكاة ويحصل كفايته من جهة مباحة ومعنى أبدأ بمن تعول أن العيال والقرابة أحق من الأجانب وقد سبق النهى عن المسألة مقصود الباب وأحاديثه النهى عن السؤال واتفق العلماء عليه إذا لم تكن ضرورة واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنها حرام لظاهر الأحاديث والثاني حلال مع الكراهة بثلاث شروط أن لا يذل نفسه ولا يلح في السؤال ولا يؤذى المسؤول فان فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق والله أعلم قوله (عن عبد الله بن عامر اليحصبى) هو أحد القراء السبعة وهو بضم الصاد وفتحها منسوب الى بنى يحصب قوله (سمعت معاوية يقول اياكم وأحاديث الا حديثا كان في عهد عمر فان عمر كان يخيف الناس في الله) هكذا هو في أكثر النسخ وأحاديث وفي بعضها والأحاديث وهما صحيحان ومراد معاوية النهى عن الاكثار من الأحاديث بغير تثبت لما شاع في زمنه من التحدث عن أهل الكتاب وما وجد في كتبهم حين
[ 128 ]
فتحت بلدانهم وأمرهم بالرجوع في الأحاديث الى ما كان في زمن عمر رضي الله عنه لضبطه الأمر وشدته فيه وخوف الناس من سطوته ومنعه الناس من المسارعة الى الأحاديث وطلبه الشهادة على ذلك حتى استقرت الأحاديث واشتهرت السنن قوله ص = (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين) فيه فضيلة العلم والتفقه في الدين والحث عليه وسببه أنه قائد الى تقوى الله تعالى قوله ص = (انما أنا خازن) وفي الرواية الأخرى (وانما أنا قاسم ويعطى الله)
[ 129 ]
معناه أن المعطى حقيقة هو الله تعالى ولست أنا معطيا وانما أنا خازن على ما عندي ثم أقسم ما أمرت بقسمته على حسب ما أمرت به فالأمور كلها بمشيئة الله تعالى وتقديره والانسان مصرف مربوب قوله ص = (لا تلحفوا في المسألة) هكذا هو في بعض الأصول في المسألة بالفاء وفي بعضها بالباء وكلاهما صحيح والالحاف الالحاح قوله ص = (ليس المسكين هذا الطواف) الى قوله ص = في المسكين (الذي لا يجد غنى يغنيه) إلى آخره معناه المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها ليس هو هذا الطواف بل هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له ولا يسأل الناس وليس معناه نفى أصل المسكنة عن الطواف بل معناه نفى كمال المسكنة كقوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر الى آخر الآية قوله (قالوا فما المسكين) هكذا هو في الأصول كلها فما المسكين وهو صحيح لأن ما تأتى كثيرا
[ 130 ]
لصفات من يعقل كقوله تعالى فانحكوا ما طلب لكم من النساء قوله ص = (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم) بضم الميم واسكان الزاي أي قطعة قال القاضى قيل معناه يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله وقيل هو على ظاهره فيحشر ووجهه عظم لا لحم عليه عقوبة له وعلامة له بذنبه حين طلب وسأل بوجهه كما جاءت الأحاديث الأخر بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالا منهيا عنه وأكثر منه كما في الرواية الأخرى من سأل تكثرا والله أعلم قوله ص = (من سأل الناس أموالهم تكثرا فانما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر) قال القاضى
[ 131 ]
معناه أن يعاقب بالنار ويحتمل أن يكون على ظاهره وأن الذي يأخذه يصير جمرا يكوى بها كما ثبت في مانع الزكاة قوله ص = (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغنى به من الناس خير من أن يسأل رجلا) فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات كالحطب والحشيش النابتين في موات وهكذا وقع في الأصول فيحطب بغير تاء بين الحاء والطاء في الموضعين وهو صحيح وهكذا أيضا في النسخ ويستغنى به من الناس بالميم وفي نادر منها عن الناس بالعين وكلاهما صحيح والأول محمول على الثاني
[ 132 ]
قوله (عن أبي ادريس الخولانى عن أبي مسلم الخولاني) اسم أبي ادريس عابد الله ابن عبد الله واسم أبي مسلم عبد الله بن ثوب بضم المثلثة وفتح الواو وبعدها موحدة ويقال ابن ثواب بفتح الثاء وتخفيف الواو ويقال ابن أثوب ويقال ابن عبد الله ويقال ابن عوف ويقال ابن مسلم ويقال اسمه يعقوب بن عوف وهو مشهور بالزهد والكرامات الظاهرة والمحاسن الباهرة أسلم في زمن النبي ص = وألقاه الأسود العنسى في النار فلم يحترق فتركه فجاء مهاجرا الى رسول الله ص = فتوفى النبي ص = وهو في الطريق فجاء الى المدينة فلقى أبا بكر الصديق وعمر وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم هذا هو الصواب المعروف ولا خلاف فيه بين العلماء وأما قول السمعاني في الانساب أنه أسلم في زمن معاوية فغلط باتفاق أهل العلم من المحدثين وأصحاب التواريخ والمغازى والسير وغيرهم والله أعلم قوله (فلقد رأيت أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله اياه) فيه التمسك بالعموم لأنهم نهوا عن السؤال فحملوه على عمومه وفيه الحث على التنزيه عن جميع ما يسمى سؤالا وان كان حقيرا والله أعلم
[ 133 ]
من تحل له المسألة قوله (عن هرون بن رياب) هو بكسر الراء وبمثناة تحت ثم ألف موحدة قوله (تحملت حمالة) هي بفتح الحاء وهي المال الذي يتحمله الانسان أي يستدينه ويدفعه في اصلاح ذات البين كالاصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك وانما تحل له المسألة ويعطى من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية قوله ص = (حتى تصيب قواما من عيش) أو قال سدادا من عيش القوام والسداد بكسر القاف والسين وهما بمعنى واحد وهو ما يغنى من الشئ وما تسد به الحاجة وكل شئ سددت به شيئا فهو سداد بالكسر ومنه سداد الثغر والقارورة وقولهم سداد من عوز قوله ص = (حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة) هكذا هو في جميع النسخ يقوم ثلاثة وهو صحيح أي يقومون بهذا الأمر فيقولون لقد أصابته فاقة والحجى مقصور وهو العقل وانما قال ص = من قومه لأنهم من أهل الخبرة بباطنه والمال مما يخفى في العبادة فلا يعلمه الا من كان خبيرا بصاحبه وانما شرط الحجى تنبيها على أنه يشترط في الشاهد التيقظ فلا تقبل من مغفل وأما اشتراط الثلاثة فقال
[ 134 ]
بعض أصحابنا هو شرط في بينة الاعسار فلا يقبل الا من ثلاثة لظاهر هذا الحديث وقال الجمهور يقبل من عدلين كسائر الشهادات غير الزنا وحملوا الحديث على الاستحباب وهذا محمول على من عرف له مال فلا يقبل قوله في تلفه والاعسار الا ببينه وأما من لم يعرف له مال فالقول قوله في عدم المال قوله ص = (فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا) هكذا هو في جميع النسخ سحتا ورواية غير مسلم سحت وهذا واضح ورواية مسلم صحيحة وفيه اضمار أي اعتقده سحتا أو يؤكل سحتا جواز الأخذ بغير سؤال ولا تطلع قوله (سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قد كان رسول الله ص = يعطينى العطاء فأقول اعطه أفقر إليه منى حتى أعطاني مرة مالا فقلت أعطه أفقر إليه منى فقال رسول الله ص = خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك) هذا الحديث فيه منقبة لعمر رضي الله عنه وبيان فضله وزهده وايثاره والمشرف الى الشئ هو المتطلع إليه الحريص عليه ومالا فلا تتبعه نفسك معناه ما لم يوجد فيه هذا الشرط لا تعلق النفس به واختلف العلماء فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب على
[ 135 ]
ثلاثة مذاهب حكاها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وآخرون والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه يستحب في غير عطية السلطان وأما عطية السلطان فحرمها قوم وأباحها قوم وكرمها قوم والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت وكذا ان أعطى من لا يستحق وان لم يغلب الحرام فمباح ان لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ وقالت طائفة الأخذ واجب من السلطان وغيره وقال آخرون هو مندوب في عطية السلطان دون غيره والله أعلم قوله (وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب قال عمرو وحدثني ابن شهاب بمثل ذلك عن السائب ابن يزيد عن عبد الله بن السعدى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله ص) هكذا وقع هذا الحديث وقوله قال عمر ومعناه قال قال عمرو فحذف كتابه قال ولا بد للقارئ من النطق بقال مرتين وانما حذفوا احداهما في الكتاب اختصارا وأما قوله قال عمرو وحدثني فهكذا هو في النسخ وحدثني بالواو وهو صحيح مليح ومعناه أن عمرا حدث عن ابن شهاب بأحاديث عطف بعضها على بعض فسمعها ابن وهب كذلك فلما أراد ابن وهب رواية غير الأول أتى بالواو العاطفة لأنه سمع غير الأول من عمرو معطوفا بالواو فأتى به كما سمعه وقد سبق بيان هذه المسألة في أول الكتاب والله أعلم واعلم أن هذا الحديث مما استدرك على مسلم قال القاضى عياض قال أبو علي بن السكن بين السائب بن يزيد وعبد الله بن السعدى رجل وهو حويطب ابن عبد العزى قال النسائي لم يسمعه السائب من ابن السعدى بل انما رواه عن حويطب عنه قال غيره هو محفوظ من طريق عمرو بن الحارث رواه أصحاب شعيب والزبيدى وغيرهما عن الزهري قال أخبرني السائب بن يزيد أن حويطبا أخبره أن عبد الله بن السعدى أخبره أن عمرا أخبره وكذلك رواه يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب هذا كلام القاضي قلت وقد رواه النسائي في سننه كما ذكر عن ابن عيينه عن الزهري عن السائب عن حويطب عن ابن السعدى عن عمر رضي الله عنه ورويناه عن الحافظ عبد القادر الرهاوى في كتابه الرباعيات قال وقد رواه هكذا عن الزهري محمد بن الوليد والزبيدى وشعيب بن أبي حمزة الحمصيان وعقيل بن خالد ويونس بن يزيد الأيليان وعمرو بن الحارث المصرى والحكم بن عبد الل الحمصى ثم
[ 136 ]
ذكر طرقهم بأسانيدها مطولة مطرقة كلهم عن الزهري عن السائب عن حويطب عن ابن السعدى عن عمر وكذا رواه البخاري من طريق شعيب قال عبد القادر ورواه النعمان بن راشد عن الزهري فأسقط حويطبا ورواه معمر عن الزهري واختلف عنه فيه فرواه عنه سفيان بن عيينه وموسى بن أعين كما رواه الجماعة عن الزهري ورواه ابن المبارك عن معمر فأسقط حويطبا كما رواه النعمان بن راشد عن الزهري ورواه عبد الرزاق عن معمر فأسقط حويطبا وابن السعدى ثم ذكر الحافظ عبد القادر طرقهم كذلك قال فهذا ما انتهى من طرق هذا الحديث قال والصحيح ما اتفق عليه الجماعة يعنى عن الزهري عن السائب عن حويطب عن ابن السعدى عن عمر وهذا الحديث فيه أربعه صحابيون يروى بعضهم عن بعض وهم عمر وابن السعدى وحويطب والسائب رضي الله عنهم وقد جاءت جملة من الأحاديث فيها أربعة صحابيون يروى بعضهم عن بعض وأربعة تابعيون بعضهم عن بعض وأما ابن السعدى فهو أبو محمد عبد الله ابن قدان بن عبد شمس بن عبدود بن نضر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب قالوا واسم وقدان عمرو ويقال عمرو بن وقدان وقال مصعب هو عبد الله بن عمرو بن وقدان ويقال له ابن السعدى لأن أباه استرضع في بنى سعد بن بكر بن هوازن صحب ابن السعدى رسول الله ص = قديما وقال وفدت في نفر من بنى سعد بن بكر الى رسول الله ص سكن الشام روى عنه السائب بن يزيد وروى عنه جماعات من كبار التابعين وأما حويطب فهو بضم الحاء المهملة أبو محمد ويقال أبو الاصبع حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبدود ابن نضر ابن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي القرشى العامري أسلم يوم فتح مكة ولا تحفظ له رواية عن النبي ص = الا شئ ذكره الواقدي والله أعلم وقد وقع في مسلم بعد هذا من رواية قتيبة قال عن ابن الساعدي المالكى فقوله المالكى صحيح منسوب الى مالك بن
[ 137 ]
حنبل بن عامر وأما قوله الساعدي فانكروه قالوا وصوابه السعدى كما رواه الجمهور مسنوب الى بنى سعد بن بكر كما سبق والله أعلم قوله (أمر لي بعمالة) هي بضم العين وهي المال الذي يعطاه العامل على عمله قوله (عملت على عهد رسول الله ص = فعملني) هو بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عملي وفي هذا الحديث جواز أخذ العوض على أعمال المسلمين سواء كانت لدين أو لدنيا كالقضاء والحسبة وغيرهما والله أعلم
[ 138 ]
كراهة الحرص على الدنيا قوله ص = (قلب الشيخ شاب على حب اثنتين حب العيش والمال) هذا مجاز واستعارة ومعناه أن قلب الشيخ كامل الحب للمال محتكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه هذا صوابه وقيل تفسيره غير هذا مما لا يرتضى قوله ص = (وتشب منه اثنتان) بفتح التاء وكسر الشين وهو بمعنى قلب الشيخ شاب على حب اثنتين قوله ص =
[ 139 ]
(لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب) وفي رواية ولن يملأ فاه الا التراب وفي رواية ولا يملأ نفس ابن آدم الا التراب فيه ذم الحرص على الدنيا وحب المكاثرة بها والرغبة فيها ومعنى لا يملأ جوفه الا التراب أنه لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره وهذا الحديث
[ 140 ]
خرج على حكم غالب بنى آدم في الحرص على الدنيا ويؤيده قوله ص ويتوب الله على من تاب وهو متعلق بما قبله ومعناه أن الله يقبل التوبة من الحرص المذموم وغيره من المذمومات فضل القناعة والحث عليها قوله ص = (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) العرض هنا بفتح العين والراء جميعا وهو متاع الدنيا ومعنى الحديث الغنى المحمود غنى النفس وشبعها وقلة حرصها لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة لأن من كان طالبا للزيادة لم يستغن بما معه فليس له غنى
[ 141 ]
التحذير من الاغترار بزينة الدنيا وما يبسط منها قوله ص = (لا والله ما أخشى عليكم أيها الناس الا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا) فيه التحذير من الاغترار بالدنيا والنظر إليها والمفاخرة بها وفيه استحباب الحلف من غير استحلاف إذا كان فيه زيادة في التوكيد والتفخيم ليكون أوقع في النفوس قوله (يا رسول الله أيأتى الخير بالشر فقال له رسول الله ص = ان الخير لا يأتي الا بخير أو خير هو أن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطا اويلم الا آكلة الخضر أكلت حتى امتلات خاصرتاها استقبلت الشمس ثلطت أو بالت ثم اجترت فعادت فأكلت فمن يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع) أما قوله ص = أو خير هو فهو بفتح الواو والحبط بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة التخمة وقوله ص = أو يلم معناه أو يقارب القتل
[ 142 ]
وقوله ص = الا آكلة الخضر هو بكسر الهمزة من الا وتشديد اللام على الاستثناء هذا هو المشهور الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة وغيرهم قال القاضى ورواه بعضهم الا بفتح الهمزة وتخفيف اللام على الاستفتاح وآكلة الخضر بهمزة ممدودة والخضر بفتح الخاء وكسر الضاد هكذا رواه الجمهور قال القاضى وضبطه بعضهم الخضر بضم الخاء وفتح الضاد وقوله ثلطت هو بفتح الثاء المثلثة أي ألقت الثلط وهو الرجيع الرقيق وأكثر ما يقال للابل والبقر والفيلة قوله اجترت أي مضغت جرتها قال أهل اللغة الجرة بكسر الجيم ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه والقصع شدة المضغ وأما قوله ص (ما أخشى عليكم أيها الناس الا ما يخرج الله لكم من زهة الدنيا فقال رجل يا رسول الله أيأتى الخير بالشر فقال له رسول الله ص = ان الخير لا يأتي الا بخير أو خير هو) فمعناه أنه ص = حذرهم من زهرة الدنيا وخاف عليهم منها فقال هذا الرجل انما يحصل ذلك لنا من جهة مباحة كغنيمة وغيرها وذلك خير وهل يأتي الخير بالشر وهو استفهام انكار واستبعاد أي يبعد أن يكون الشئ خيرا ثم يترتب عليه شر فقال له النبي ص = أما الخير الحقيقي فلا يأتي الا بخير أي لا يترتب عليه الا خير ثم قال أو خير هو معناه أن هذا الذي يحصل لكم من زهرة الدنيا ليس بخير وانما هو فتنة وتقديره الخير لا يأتي الا بخير ولكن ليست
[ 143 ]
هذه الزهرة بخير لما تؤدى إليه من الفتنة والمنافسة والاشتغال بها عن كمال الاقبال على الآخرة ثم ضرب لذلك مثلا فقال ص = ان كل ما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم الا آكلة الخضر الى آخره ومعناه أن نبات الربيع وخضرة يقتل حبطا بالتخمة لكثرة الأكل أو يقارب القتل الا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة وتحصل به الكفاية المقتصدة فانه لا يضر وهكذا المال هو كنبات الربيع مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه فمنهم من يستكثر منه ويستغرق فيه غير صارف له في وجوهه فهذا يهلكه أو يقارب أهلاكه ومنهم من يقتصد فيه فلا يأخذ الا يسيرا وان أخذ كثيرا فرقه في وجوهه كما تثلطه الدابة فهذا لا يضره هذا مختصر معنى الحديث قال الأزهري فيه مثلان أحدهما للمكثر من الجمع المانع من الحق واليه الاشارة بقوله ص = ان مما ينبت ما الربيع ما يقتل لأن الربيع ينبت اجرار البقول فتستكثر منه الدابة حتى تهلك والثاني للمقتصد واليه الاشارة بقوله ص = الا آكله الخضر لأن الخضر ليس من اجرار البقول وقال القاضى عياض ضرب ص = لهم مثلا بحالتي المقتصد والمكثر فقال ص = أنتم تقولون ان نبات الربيع خير وبه قوام الحيوان وليس هو كذلك مطلقا بل منه ما يقتل أو يقارب القتل فحالة المبطون المتخوم كحالة من يجمع المال ولا يصرفه في وجوهه فأشار ص = الى أن الاعتدال والتوسط في الجمع
[ 144 ]
أحسن ثم ضرب مثلا لمن ينفعه اكثاره وهو التشبيه بآكلة الخضر وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه الشرعية ووجه الشبه أن هذه الدابة تأكل من الخضر حتى تمتلئ خاصرتها ثم تثلط وهكذا من يجمعه ثم يصرفه والله أعلم (فأفاق يمسح الرحضاء) هو بضم الراء وفتح الحاء المهملة وبضاد معجمة ممدودة أي العرق من الشدة وأكثر ما يسمى به عرق الحمى قوله ص (ان هذا السائل) هكذا هو في بعض النسخ وفي بعضها أين وفي بعضها أنى وفي بعضها أي وكله صحيح فمن قال أنى أو أين فهما بمعنى ومن قال ان فمعناه والله أعلم أن هذا هو السائل الممدوح الحاذق الفطن ولهذا قال وكأنه حمده ومن قال أي فمعناه أيكم فحذف الكاف والميم والله أعلم قول ص = (وان مما ينبت الربيع) ووقع في الروايتين السابقتين ان كل ما ينبت الربيع أو أنبت الربيع ورواية كل محمولة على رواية مما وهو من باب تدمر كل شئ واوتيت من كل شئ قوله ص = (وان هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم) هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل فيه فضيلة المال لمن أخذه بحقه وصرفه في وجوه الخير وفيه حجة لمن يرجح الغنى على الفقير والله أعلم
[ 145 ]
فضل التعفف والصبر والقناعة والحث على كل ذلك قوله ص = (وما أعطى أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر) هكذا هو في جميع نسخ مسلم خير مرفوع وهو صحيح وتقدير وهو خير كما وقع في رواية البخاري وفي هذا الحديث الحث على التعفف والقناعة والصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا قوله (عن أبي عبد الرحمن الحبلى) هو منسوب الى بنى الحبل والمشهور في استعمال المحدثين ضم الباء منه والمشهور عند أهل العربية فتحها ومنهم من سكنها قوله ص = (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله ما آتاه) الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص وفيه فضيلة هذه الأوصاف وقد يحتج به لمذهب من يقول الكفاف
[ 146 ]
أفضل من الفقر ومن الغنى قوله ص = (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) قال أهل اللغة العربية القوت ما يسد الرمق وفيه فضيلة التقلل من الدنيا والاقتصار على القوت منها والدعاء بذلك اعطاء المؤلفة ومن يخاف على ايمانه ان لم يعط (واحتمال من سأل بجفاء لجهله وبيان الخوارج وأحكامهم) قوله ص = (خيرونى بين أن يسألونى بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل) معناه أنهم ألحوا في المسألة لضعف يمانهم وألجأونى بمقتضى حالهم الى السؤال بالفحش أو نسبتى الى البخل ولست بباخل ولا ينبغى احتمال واحد من الأمرين ففيه مداراة أهل الجهالة والقسوة وتألفهم إذا كان فيهم مصلحة وجواز دفع المال إليهم لهذه المصلحة قوله (فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت الى صفحة عنق رسول الله ص = وقد أثرت بها حاشية الرداء
[ 147 ]
من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله ص فضحك ثم أمر له بعطاء) فيه احتمال الجاهلين والاعراض عن مقابلتهم ودفع السيئة بالحسنة اعطاء من يتالف قلبه والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله واباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة وفيه كمال خلق رسول الله ص = وحلمه وصفحه الجميل قوله (فجاذبه) هو بمعنى جبذه في الرواية السابقة فيقال جبذ وجذب لغتان مشهورتان قوله (حتى انشق البرد وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله ص =) قال القاضي يحتمل أنه على ظاهره وأن الحاشية انقطعت وبقيت في العنق ويحتمل أن يكون معناه بقى أثرها لقوله في الرواية الأخرى
[ 148 ]
أثرت بها حاشية الرداء قوله ص = لمغرمة (خبأت هذا لك) هو من باب التألف قوله في حديث سعد (أعطى رسول الله ص = رهطا) الى آخره معنى هذا الحديث أن سعدا رأى رسول الله ص = يعطى ناسا ويترك من هو أفضل منهم في الدين وظن أن العطاء يكون بحسب الفضائل في الدين وظن أن النبي ص = لم يعلم حال هذا الانسان المتروك فأعلمه به وحلف أنه يعلمه مؤمنا فقال له النبي ص = أو مسلما فلم يفهم منه النهى عن الشفاعة فيه مرة أخرى فسكت ثم رآه يعطى من هو دونه بكثير فغلبه ما يعلم من حسن حال ذلك الانسان فقال يا رسول اله مالك عن فلان تذكيرا وجوز أن يكون النبي ص هم بعطائه من المرة الأولى ثم نسيه فأراد تذكيره وهكذا المرة الثالثة الى أن أعلمه النبي ص = إن العطاء ليس هو على حسب الفضائل في الدين فقال ص = انى لأعطى الرجل وغيره أحب الى منه مخافة أن يكبه الله في النار معناه أنى أعطى ناسا مؤلفة في ايمانهم
[ 149 ]
ضعف لو لم أعطهم كفروا فيكبهم الله في النار وأترك أقواما هم أحب الى من الذين أعطيتهم ولا أتركهم احتقارا لهم ولا لنقص دينهم ولا اهمالا لجانبهم بل أكلهم الى ما جعل الله في قلوبهم من النور والايمان التام وأثق بأنهم لا يتزلزل ايمانهم لكماله وقد ثبت هذا المعنى في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب أن رسول الله ص = أتى بمال أو سبي فقسمه فأعطى رجالا وترك رجالا فبلغه أن الذين ترك عتبوا فحمد الله تعالى ثم أثنى عليه ثم قال أما بعد فوالله انى لأعطى الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب الي من الذي أعطى ولكني أعطى أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل أقواما الى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير قوله (أخبرني عامر بن سعد عن أبيه أنه أعطى رسول الله ص = رهطا) هكذا هو في النسخ وهو صحيح وتقديره قال أعطى فحذف لفظه قال قوله (وهو أعجبهم الى) أي أفضلهم عندي قوله (فقمت الى رسول الله ص = فساررته فقلت مالك عن فلان) فيه التأدب مع الكبار وأنهم يسارون بما كان من باب التذكير لهم والتنبيه ونحوه ولا يجاهرون به فقد يكون في المجاهرة به مفسده قوله (انى لآراه مؤمنا قال أو مسلما) هو بفتح الهمزة لأراه واسكان واو أو مسلما وقد سبق شرح هذا الحديث
[ 150 ]
مستوفى في كتاب الايمان قوله في حديث أنس (أن النبي ص = أعطى يوم حنين من غنائم هوازن رجالا من قريش المائة من الابل فعتب ناس من الانصار) الى آخره قال القاضى عياض ليس في هذا تصريح بأنه ص = أعطاهم قبل اخراج الخمس وأنه لم يحسب ما أعطاهم من الخمس قال والمعروف في باقى الاحاديث أنه ص انما أعطاهم من الخمس ففيه أن للامام صرف الخمس وتفضيل الناس فيه على ما يراه وأن
[ 151 ]
يعطى الواحد منه الكثير وأنه يصرفه في مصالح المسلمين وله أن يعطى الغنى منه لمصلحة قوله ص = (فانكم ستجدون أثرة شديدة) فيها لغتان احداهما ضم الهمزة واسكان الثاء وأصحهما وأشهرهما بفتحهما جميعا والأثرة الاستئثار بالمشترك أيستأثر عليكم ويفضل
[ 152 ]
عليكم غيركم بغير حق قوله ص = (ابن أخت القوم منهم) استدل به من يورث ذوى الأرحام وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد وآخرون ومذهب مالك والشافعي وآخرين أنهم لا يرثون وأجابوا بأنه ليس في هذا اللفظ ما يقتضى توريثه وانما معناه أن بينه وبينهم ارتباطا وقرابة ولم يتعرض للارث وسياق الحديث يقتضى أن المراد أنه كالواحد منهم في افشاء سرهم بحضرته ونحو ذلك والله أعلم قوله ص = (لسلكت شعب الأنصار) قال الخليل هو ما انفرج بين جبلين وقال ابن السكيت هو الطريق في الجبل وفيه فضيلة الانصار ورجحانهم قوله (وابراهيم بن محمد بن عرعرة) هو بعينين مهملتين مفتوحتين
[ 153 ]
قوله (ومعه الطلقاء) هو بضم الطاء وفتح اللام وبالمد وهم الذين أسلموا يوم فتح مكة وهو جمع طليق يقال ذاك لمن أطلق من أسار أو وثاق قال القاضى في المشارق قيل لمسلمي الفتح الطلقاء لمن النبي ص قوله (ومع النبي ص = يومئذ عشرة آلاف ومعه الطلقاء) وقال في الرواية التي بعد هذه نحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف الرواية الأولى أصح لأن المشهور في كتب المغازى أن المسلمين كانوا يومئذ اثنى عشر الفا عشرة آلاف شهدوا الفتح وألفان من أهل مكة
[ 154 ]
ومن أنضاف إليهم وهذا معنى قوله معه عشرة آلاف ومعه الطلقاء قال القاضى قوله ستة آلاف وهم من الراوى عن أنس والله اعلم قوله (حدثنى السميط عن أنس) هو بضم السين المهملة تصغير سمط قوله (وعلى مجنبة خيلنا خالد) المجنبة بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون قال شمر المجنبة هي الكتيبة من الخيل التي تأخذ جانب الطريق الأيمن وهما مجنبتان ميمنة وميسرة بجانبى الطريق والقلب بينهما قوله (فجعلت خيلنا تلوى خلف ظهورنا) هكذا هو في أكثر النسخ وفي بعضها تلوذ وكلاهما صحيح قوله ص = (يال المهاجرين يال المهاجرين ثم قال يال الانصار يال الانصار) هكذا في جميع النسخ في المواضع الاربعة يال بلام مفصولة مفتوحة والمعروف وصلها بلام التعريف التي بعدها قوله (قال أنس هذا حديث عمية)
[ 155 ]
هذه اللفظة ضبطوها في صحيح مسلم على أوجه أحدها عمية بكسر العين والميم وتشديد الميم والياء قال القاضى كذا روينا هذا الحرف عن عامة شيوخنا قال وفسر بالشدة والثاني عمية كذلك الا أنه بضم العين والثالث عمية بفتح العين وكسر الميم المشددة وتخفيف الياء وبعدها هاء السكت أي حدثنى به عمى وقال القاضى على هذا الوجه معناه عندي جماعتي أي هذا حديثهم قال صاحب العين العم الجماعة وأنشد عليه ابن دريد في الجمهرة (أفنيت عما وجبرت عما) قال القاضى وهذا أشبه بالحديث والوجه الرابع كذلك الا أنه بتشديد اليا وهو الذي ذكره الحميدى صاحب الجمع بين الصحيحين وفسره بعمومتي أي هذا حديث فضل أعمامي أو هذا الحديث الذي حدثنى به أعمامي كانه حدث بأول الحديث عن مشاهدة ثم لعله لم يضبط هذا الموضع لتفرق الناس فحدثه به من شهده من أعمامه أو جماعته الذين شهدوه ولهذا قال بعده قال قلنا لبيك يا رسول الله والله أعلم قوله (أتجعل نهبى ونهب العبيد) العبيد اسم فرسه قوله (يفوقان مرداس في المجتمع) هكذا هو في جميع الروايات مرداس غير مصروف وهو حجة لمن جوز
[ 156 ]
ترك الصرف بعلة واحدة وأجاب الجمهور بأنه في ضرورة الشعر قوله (وعلقمة بن علاثة) هو بضم العين المهملة وتخفيف اللام وبثاء مثلثة قوله (وحدثنا مخلد بن خالد الشعيرى) هو بفتح الشين المعجمة وكسر العين منسوب الى الشعير الحب المعروف وهو مخلد بن خالد بن يزيد أبو محمد بغدادي سكن طرسوس روى عن عبد الرزاق بن همام وابراهيم بن خالد الصنعانيين وسفيان روى عنه مسلم وأبو داود وابن عوف البزدوى وابنه أحمد بن أبي عوف والمنذر بن شاذان قال أبو داود وهو ثقة وذكر هذه الجملة من أحواله الحافظ عبد الغنى المقدسي وذكره أبو محمد ابن أبي حاتم في كتابه المشهور في الجرح والتعديل مختصرا وذكره الحافظ أبو الفضل محمد ابن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي في كتابه رجال الصحيحين فقال مخلد بن خالد الشعيرى سمع سفيان بن عيينة في الزكاة وانما ذكرت هذا كله لأن القاضى عياض قال لم أجد أحدا ذكر مخلد بن خالد الشعيرى في رجال الصحيح ولا في غيرهم قال ولم يذكره الحاكم ولا الباجى ولا الجيانى ومن تكلم على رجال الصحيح ولا أحد من أصحاب المؤتلف والمختلف ولا من أصحاب التقييد ولا ذكروا مخلد بن خالد غير منسوب أصلا وبسط القاضى الكلام في انكار هذا الاسم وأنه ليس في الرواة أحد يسمى مخلد بن خالد لا في الصحيح ولا في غيره وضم إليه كلاما عجيبا وهذا الذي ذكره من العجائب فمخلد بن خالد مشهور كما ذكرناه أولا وبالله
[ 157 ]
التوفيق قوله ص = (الأنصار شعار والناس دثار) قال أهل اللغة الشعار الثوب الذي يلى الجسد والدثار فوقه ومعنى الحديث الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر الناس وهذا من مناقبهم الظاهرة وفضائلهم الباهرة
[ 158 ]
قوله (فتغير وجهه حتى كان كالصرف) هو بكسر الصاد المهملة وهو صبغ أحمر يصبغ به الجلود قال ابن دريد وقد يسمى الدم أيضا صرفا قوله (فقال رجل والله ان هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله) قال القاضى عياض رحمه الله تعالى حكم الشرع أن من سب النبي ص = كفر وقتل ولم يذكر في هذا الحديث أن هذا الرجل قتل قال المازرى يحتمل أن يكون لم يفهم منه الطعن في النبوة وانما نسبه الى ترك العدل في القسمة والمعاصي ضربان كبائر وصغائر فهو ص = معصوم من الكبائر بالاجماع واختلفوا في اماكن وقوع الصغائر ومن جوزها منع من اضافتها الى الأنبياء على طريق التنقيص وحينئذ فلعله ص = لم يعاقب هذا القائل لأنه لم يثبت عليه ذلك وانما نقله عنه واحد وشهادة الواحد لا يراق بها الدم قال القاضى هذا التأويل باطل يدفعه قوله اعدل يا محمد واتق الله يا محمد وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ حتى استأذن عمر وخالد النبي ص = في قتله فقال معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فهذه هي العلة وسلك
[ 159 ]
معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه وسمع منهم في غير موطن ما كرهه لكنه صبر استبقاء لانقيادهم وتأليفا لغيرهم لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه فينفروا وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم وعدوه من جملتهم قوله ص = (ومن يعدل إذا أكن أعدل لقد خبت وخسرت) روى بفتح التاء في خبت وخسرت وبضمهما فيهما ومعنى الضم ظاهر وتقدير الفتح خبت أنت أيها التابع إذا كنت لا أعدل لكونك تابعا ومقتديا بمن لا يعدل والفتح أشهر والله أعلم قوله (فقال عمر بن الخطاب دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق) وفي روايات أخر أن خالد بن الوليد استأذن في قتله ليس فيهما تعارض بل كل واحد منهما استأذن فيه قوله ص = (يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم) قال القاضى فيه تأويلان أحدهما معناه لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم والحنجرة والحلق إذ بهما تقطيع الحروف والثاني معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا يتقبل قوله ص (يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية) وفي الرواية الأخرى يمرقون من الاسلام وفي الرواية الأخرى يمرقون من الدين قال القاضى معناه يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلق به شئ منه والرمية هي الصيد المرمى وهي فعيلة بمعنى مفعولة
[ 160 ]
قال والدين هنا هو الاسلام كما قال سبحانه وتعالى الدين عند الله الاسلام وقال الخطابي هو هنا الطاعة أي من طاعة الامام وفي هذه الأحاديث دليل لمن يكفر الخوارج قال القاضى عياض رحمه الله تعالى قال المازرى اختلف العلماء في تكفير الخوارج قال وقد كادت هذه المسألة تكون أشد اشكالا من سائر المسائل ولقد رأيت أبا المعالى وقد رغب إليه الفقيه عبد الحق رحمهما الله تعالى في الكلام عليها فرهب له من ذلك واعتذر بأن الغلط فيها يصعب موقعه لان ادخال كافر في الملة واخراج مسلم منها عظيم في الدين وقد اضطرب فيها قول القاضى أبي بكر الباقلاني وناهيك به في علم الأصول وأشار ابن الباقلاني الى أنه من المعوصات لأن القوم لم يصرحوا بالكفر وانما قالوا أقوالا لا تؤدى إليه وأنا أكشف لك نكتة الخلاف وسبب الاشكال وذلك أن المعتزلي مثلا يقول ان الله تعالى عالم ولكن لا علم له وحى ولا حياة له يوقع الالتباس في تكفيره لأنا علمنا من دين الأمة ضرورة أن من قال ان الله تعالى ليس بحي ولا عالم كان كافرا وقامت الحجة على استحالة كون العالم لا علم له فهل نقول أن المعتزلي إذا نفى العلم نفى أن يكون الله تعالى عالما وذلك كفر بالاجماع ولا ينفعه اعترافه بأنه عالم مع نفيه أصل العلم أو نقول قد اعترف بأن الله تعالى عالم وانكاره العلم لا يكفره وان كان يؤدي الى أنه ليس بعالم فهذا موضع الاشكال هذا كلام المازرى ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه العلماء أن الخوارج لا يكفرون وكذلك القدرية وجماهير المعتزلة وسائل أهل الأهواء قال الشافعي رحمه الله تعالى أقبل شهادة أهل الأهواء الا الخطابية وهم طائفة من الرافضة يشهدون لموافقيهم في المذهب بمجرد قولهم فرد شهادتهم لهذا لا لبدعتهم والله أعلم
[ 161 ]
قوله (بعث على رضي الله عنه وهو باليمن بذهبه في تربتها) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بذهبة بفتح الذال وكذا نقله القاضى عن جميع رواة مسلم عن الجلودى قال وفي رواية ابن ماهان بذهيبة على التصغير قوله في هذه الرواية (عيينة بن بدر الفزارى) وكذا في الرواة التي بعد هذه رواية قتيبة قال فيها عيينة بن بدر وفي بعض النسخ في الثانية عيينة بن حصن وفي معظمها عيينة بن بدر ووقع في الرواية التي قبل هذه وهي الرواية التي فيها الشعر عيينة بن حصن في جميع النسخ وكله صحيح فحصن أبوه وبدر جد أبيه فنسب تارة الى أبيه وتارة الى جد أبيه لشهرته ولهذا نسبه إليه الشاعر في قوله فما كان بدر ولا حابس وهو عيينه بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جويرية ابن لوذان بن ثعلبة بن عدى بن فزارة بن دينار الفزارى قوله في هذه الرواية (وزيد الخير الطائي) كذا هو في جميع النسخ الخير بالراء وفي الرواية التي بعدها زيد الخيل باللام وكلاهما صحيح يقال بالوجهين كان يقال له في الجاهلية زيد الخيل فسماه رسول الله ص = في الاسلام زيد الخير قوله (أيعطى صناديد نجد) أي ساداتها واحدهم صنديد بكسر الصاد قوله (فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين) أما كث اللحية فبفتح الكاف وهو كثيرها والوجنة بفتح الواو وضمها وكسرها ويقال أيضا أجنة وهو لحم الخد قوله (ناتئ الجبين) هو بهمز ناتئ
[ 162 ]
وأما الجبين فهو جانب الجبهة ولكل انسان جبينان يكتنفان الجبهة قوله ص = (ان من ضئضئ هذا قوما) هو بضادين معجمتين مكسورتين وآخره مهموز وهو أصل الشئ وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا وحكاه القاضى عن الجمهور وعن بعضهم أنه ضبطه بالمعجمتين والمهملتين جميعا وهذا صحيح في اللغة قالوا ولأصل الشئ أسماء كثيرة منها الضئضئ بالمعجمتين والمهملتين والنجار بكسر النون والنحاس والسنخ بكسر السين واسكان النون وبخاء معجمة والعنصر والعنض والأرومة قوله ص = (لئن أدركتهم لأقتلهنهم قتل عاد) أي قتلا عاما مستأصلا كما قال تعالى ترى لهم من باقية وفيه الحث على قتالهم وفضيلة لعلى رضي الله عنه في قتالهم (في أديم مقروظ) أي مدبوغ بالقرظ قوله (لم تحصل من ترابها) أي لم تميز قوله في هذه الرواية (والرابع اما علقمة بن علاثة واما عامر بن الطفيل) قال العلماء ذكر عامر هنا غلط ظاهر لأنه توفى قبل هذا بسنين والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة
[ 163 ]
كما هو مجزوم باقى الروايات والله أعلم قوله ص = (انى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) معناه أنى امرت بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر كما قال ص = فإذا قالوا ذلك فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله وفي الحديث هلا شققت عن قلبه قوله (وهو مقف) أي مولى قد أعطانا قفاه قوله ص (يتلون كتاب الله تعالى لينا رطبا) هكذا هو في أكثر النسخ لينا بالنون أي سهلا
[ 164 ]
وفي كثير من النسخ ليا بحذف النون وأشار القاضى الى أنه رواية أكثر شيوخهم قال ومعناه سهلا لكثرة حفظهم قال وقيل ليا أي يلوون ألسنتهم به أي يحرفون معانيه وتأويله قال وقد يكون من اللى في الشهادة وهو الميل قاله ابن قتيبة (قوله (فسألاه عن الحرورية) هم الخوارج سموا حرورية لأنهم نزلوا حروراء وتعاقدوا عندها على قتال أهل العدل وحروراء بفتح الحاء وبالمد قرية بالعراق قريبة من الكوفة وسموا خوارج لخروجهم على الجماعة وقيل لخروجهم عن طريق الجماعة وقيل لقوله ص = يخرج من ضئضئ هذا قوله (سمعت رسول الله ص يقول يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها) قال المازرى هذا من أدل الدلائل على سعة علم الصحابة رضي الله عنهم ودقيق نظرهم وتحريرهم الألفاظ وفرقهم بين مدلولاتها الخفية لأن لفظة من تقتضي كونهم من الأمة لا كفارا بخلاف في ومع هذا فقد جاء بعد هذا من رواية علي رضي الله عنه يخرج من أمتى قوم وفي رواية أبي ذران
[ 165 ]
بعدى من أمتى أو سيكون بعدى من أمتى وقد سبق الخلاف في تكفيرهم وأن الصحيح عدم تكفيرهم قوله ص = (فينظر الرامى الى نصله الى رصافه فيتمارى في الفوقة) وفي الرواية الأخرى ينظر الى نضيه وفيها ثم ينظر الى قذذه وفي الرواية الأخرى فينظر في النضى فلا يرى بصيرة وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة أما الرصاف فبكسر الراء وبالصاد المهملة وهو مدخل النصل من السهم والنص هو حديدة السهم والقدح عوده والقذذ بضم القاف وبذالين معجمتين وهو ريش السهم والفوق والفوقة بضم الفاء هو الحز الذي يجعل فيه الوتر والنضى بفتح النون وكسر الضاد المعجمة وتشديد الياء وهو القدح كذا جاء في كتاب مسلم مفسرا وكذا قاله الأصمعى وأما البصير فبفتح الباء الموحدة وكسر الصاد المهملة وهي الشئ من الدم أي لا يرى شيئا من الدم يستدل به على اصابة الرمية قوله ص = (قد خبت وخسرت ان لم أعدل) قد سبق الخلاف في فتح التاء وضمها في هذا الباب قوله ص =
[ 166 ]
(ومثل البضعة تدردر) البضعة بفتح الباء لا غير وهي القطعة من اللحم وتدردر معناه تضطرب وتذهب وتجئ قوله ص = (يخرجون على حين فرقة من الناس) ضبطوه في الصحيح بوجهين أحدهما حين فرقه بحاء مهملة مكسورة ونون وفرقة بضم الفاء أي في وقت افتراق الناس أي افتراق يقع بين المسلمين وهو الافتراق الذي كان بين على ومعاوية رضي الله عنهما والثاني خير فرقة بخاء معجمة مفتوحة وراء وفرقة بكسر الفاء أي أفضل الفرقتين والأول أشهر وأكثر ويؤيده الرواية التي بعد هذه يخرجون في فرقة من الناس فانه بضم الفاء بلا خلاف ومعناه ظاهر وقال القاضى على رواية الخاء المعجمة المراد وخير القرون وهم الصدر الأول قال أو يكون المراد عليا وأصحابه فعليه كان خروجهم حقيقة لأنه كان الامام حينئذ وفيه حجة لأهل السنة أن عليا كان مصيبا في قتاله والآخرون بغاة لاسيما مع قوله ص = يقتلهم أولى الطائفتين بالحق وعلى وأصحابه الذين قتلوهم وفي هذا الحديث معجزات ظاهرة لرسول الله ص = فإنه أخبر بهذا وجرى كله كفلق الصبح ويتضمن بقاء الأمة بعده ص = وأن لهم شوكة وقوة خلاف ما كان المبطلون يشيعونه وأنهم يفترقون فرقتين وأنه يخرج عليه طائفة مارقة وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد ويبالغون في الصلاة والقراءة ولا يقيمون بحقوق الإسلام بل يمرقون منه وأنهم يقاتلون أهل الحق
[ 167 ]
وأن أهل الحق يقتلونهم وأن فيهم رجلا صفة يده كذا وكذا فهذه أنواع من المعجزات جرت كلها ولله الحمد قوله ص = (سيماهم التحالق) السيما العلامة وفيها ثلاث لغات القصر وهو الأفصح وبه جاء القرآن والمد والثالثة السيمياء بزيادة ياء مع المد لا غير والمراد بالتحالق حلق الرؤوس وفي الرواية الأخرى التحلق واستدل به بعض الناس على كراهة حلق الرأس ولا دلالة فيه وانما هو علامة لهم والعلامة قد تكون بحرام وقد تكون بمباح كما قال ص = آيتهم رجل أسود احدى عضديه مثل ثدى المرأة ومعلوم أن هذا ليس بحرام وقد ثبت في سنن أبي داود باسناد على شرط البخاري ومسلم أن رسول الله ص = (رأى صبيا قد حلق بعض رأسه فقال احلقوه كله أو اتركوه كله) وهذا صريح في اباحة حلق الرأس لا يحتمل تأويلا قال أصحابنا حلق الرأس جائز بكل حال لكن ان شق عليه تعهده بالدهن والتسريح استحب حلقه وان لم يشق استحب تركه قوله ص = (هم شر الخلق أو من أشر الخلق) هكذا هو في كل النسخ أو من أشر بالألف وهي لغة قليلة والمشهور شر بغير ألف وفي هذا اللفظ دلالة لمن قال بتكفيرهم وتأوله الجمهور أي شر المسلمين ونحو ذلك قوله ص = (يقتلهم أولى الطائفتين الى الحق) وفي رواية أولى الطائفتين بالحق وفي رواية تكون أمتى فرقتين فتخرج من بينهما مارقة تلى قتلهم أولاهما
[ 168 ]
بالحق هذه الرواية صريحة في ان عليا رضي الله عنه كان هو المصيب المحق والطائفة الأخرى أصحاب معاوية رضي الله عنه كانوا بغاة متأولين وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون لا يخرجون بالقتال عن الايمان ولا يفسقون وهذا مذهبنا ومذهب موافقينا قوله (حدثنا القاسم وهو ابن الفضل الحدانى) هو بضم الحاء المهملة وتشديد الدال بعد الألف نون قوله (عن
[ 169 ]
الضحاك المشرقي) هو بكسر الميم واسكان الشين المعجمة وفتح الراء وكسر القاف وهذا هو الصواب الذي ذكره جميع أصحاب المؤتلف والمختلف وأصحاب الأسماء والتواريخ ونقل القاضى عياض عن بعضهم أنه ضبطه بفتح الميم وكسر الراء قال وهو تصحيف كما قال واتفقوا على أنه منسوب الى مشرق بكسر الميم وفتح الراء بطن من همدان وهو الضحاك الهمداني المذكور في الرواية السابقة من رواية حرملة وأحمد بن عبد الرحمن قوله (في حديث ذكر فيه قوما يخرجون على فرقة مختلفة) ضبطوه بكسر الفاء وضمها قوله (عن سويد بن غفلة) هو بفتح الغين المعجمة والفاء قوله (وإذا حدثتكم فيما بينى وبينكم فان الحرب خدعة) معناه أجتهد رأيي وقال القاضى فيه جواز التورية والتعريض في الحرب فكأنه تأول الحديث على هذا وقوله خدعة بفتح الخاء واسكان الدال على الأفصح ويقال بضم الخاء ويقال خدعة بضم الخاء وفتح الدال ثلاث لغات مشهورات قوله ص = (أحداث الأسنان سفهاء الاحلام) معناه صغار الأسنان صغار العقول قوله ص = يقولون من خير قول البرية معناه في ظاهر الأمر كقولهم لا حكم الا لله ونظائره من دعائهم الى كتاب الله تعالى والله اعلم قوله ص (فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فان في قتلهم أجرا) هذا تصريح بوجوب قتال الخوارج
[ 170 ]
والبغاة وهو اجماع العلماء قال القاضي أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغى متى خرجوا على الامام وخالفوا رأى الجماعة وشقوا العصا وجب قتالهم بعد أنذارهم والاعتذار إليهم قال الله تعالى التي تبغى حتى تفئ الى أمر الله لكن لا يجهز على جريحهم ولا يتبع منهزمهم ولا يقتل اسيرهم ولا تباح أموالهم وما لم يخرجوا عن الطاعة وينتصبوا للحرب لا يقاتلون بل يوعظون ويستتابون من بدعتهم وباطلهم وهذا كله ما لم يكفروا ببدعتهم فان كانت بدعة مما يكفرون به جرت عليهم أحكام المرتدين وأما البغاة الذين لا يكفرون فيرثون ويورثون ودمهم في حال القتال هدر وكذا أموالهم التي تتلف في القتال والأصح أنهم لا يضمنون ايضا ما أتلفوه على أهل العدل في حال القتال من نفس ومال وما أتلفوه في غير حال القتال من نفس ومال ضمنوه ولا يحل الانتفاع بشئ من دوابهم وسلاحهم في حال الحرب عندنا وعند الجمهور وجوزه أبو حنيفة والله أعلم قوله عن محمد عن عبيدة هو بفتح العين وهو
[ 171 ]
قوله (فيهم رجل مخدج اليد أو مودن اليد أو مثدون اليد) أما المخدج فبضم الميم واسكان الخاء المعجمة وفتح الدال أي ناقص اليد والمودن بضم الميم واسكان الواو وفتح الدال ويقال بالهمز وبتركه وهو ناقص اليد ويقال ايضا ودين والمثدون بفتح الميم وثاء مثلثة ساكنة وهو صغير اليد مجتمعها كثندوة الثدي وهو بفتح الثاء بلا همز وبضمها مع الهمز وكان أصله مثنود
[ 172 ]
فقدمت الدال على النون كما قالوا جبذ وجذب وعاث في الأرض وعثا قوله (فنزلني زيد ابن وهب منزلا حتى قال مررنا على قنطرة) هكذا هو في معظم النسخ مرة واحدة وفي نادر منها منزلا منزلا مرتين وكذا ذكره الحميدى في الجمع بين الصحيحين وهو وجه الكلام أي ذكر لي مراحلهم بالجيش منزلا منزلا حتى بلغ القنطرة التي كان القتال عندها وهي قنطرة الدبرجان كذا جاء مبينا في سنن النسائي وهناك خطبهم على رضي الله عنه وروى لهم هذه الأحاديث والقنطرة بفتح القاف قولهم (فوحشوا برماحهم) أي رموا بها عن بعد قوله (وشجرهم الناس برماحهم) هو بفتح الشين المعجمة والجيم المخففة أي مددوها إليهم وطاعنوهم بها ومنه التشاجر في الخصومة قوله (وما أصيب من الناس يؤمئذ رجلان) يعنى من اصحاب على وأما
[ 173 ]
الخوارج فقتلوا بعضهم على بعض قوله (فقام إليه عبيدة السلمانى) الى أخره وحاصله أنه استحلف عليها ثلاثا وانما استحلفه ليسمع الحاضرين ويؤكد ذلك عندهم ويظهر لهم المعجزة التي أخبر بها رسول الله ص = ويظهر لهم أن عليا وأصحابه أولى الطائفتين بالحق وأنهم محقون في قتالهم وغير ذلك مما في هذه الأحاديث من الفوائد وقوله السلمانى هو باسكان اللام منسوب الى سلمان جد قبيلة معروفة وهم بطن من مراد قاله ابن ابي داود السجستاني أسلم عبيدة قبل وفاة النبي ص = بسنتين ولم يره وسمع عمر وعليا ابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قوله (قالوا لا حكم الا لله قال على كلمة حق أريد بها باطل) معناه أن الكلمة أصلها صدق قال الله تعالى الحكم الا لله لكنهم أرادوا بها
[ 174 ]
الانكار على علي رضي الله عنه في تحكيمه قوله ص = (احدى يديه طبى شاه) هو بطاء مهملة مضمومة ثم باء موحدة ساكنة والمراد به ضرع الشاة وهو فيها مجاز واستعار انما أصله للكلبة والسباع قال أبو عبيد ويقال ايضا لذوات الحافر ويقال للشاة ضرع وكذا للبقرة ويقال للناقة خلف وقال أبو عبيد الاخلاف لذوات الاخفاف والاظلاف وقال الهروي يقال في ذات الخف والظلف خلف وضرع قوله (عن يسير بن عمرو) وفي الرواية الاخرى اسير بن عمرو وهو هو بضم
[ 175 ]
الياء المثناة من تحت وفتح السين المهملة والثاني مثله الا أنه بهمزة مضمومة وكلاهما صحيح يقال يسير واسير قوله ص = (يتيه قوم قبل المشرق) أي يذهبون عن الصواب وعن طريق الحق يقال تاه إذا ذهب ولم يهتد لطريق الحق والله أعلم تحريم الزكاة على رسول الله ص = (وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم) قوله (أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله ص = كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) وفي رواية لا تحل لنا الصدقة قال القاضى يقال كخ كخ بفتح الكاف وكسرها وتسكين الخاء ويجوز كسرها مع التنوين وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات فيقال له كخ أي اتركه وارم به قال الداودى هي عجمية معربة بمعنى بئس وقد أشار الى هذا البخاري بقوله في ترجمة باب من تكلم بالفارسية والرطانة وفي الحديث أن الصبيان يوقون ما يوقاه الكبار وتمنع من تعاطيه وهذا واجب على الولى قوله ص = (أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) هذه اللفظة تقال في الشئ الواضح التحريم
[ 176 ]
ونحوه وان لم يكن المخاطب عالما به وتقديره عجب كيف خفى عليك هذا مع ظهور تحريم الزكاة على النبي ص = وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب هذا مذهب الشافعي وموافقيه أن آله ص = هو بنو هاشم وبنو المطلب وبه قال بعض المالكية وقال أبو حنيفة ومالك هم بنو هاشم خاصة قال القاضى وقال بعض العلماء هم قريش كلها وقال أصبغ المالكي هم بنو قصى دليل الشافعي أن رسول الله ص = قال ان بنى هاشم وبنى المطلب شئ واحد وقسم بينهم سهم ذوى القربى وأما صدقة التطوع فللشافعي فيها ثلاثة أقوال أصحها أنها تحرم على رسول الله ص = وتحل لآله والثاني تحرم عليه وعليهم والثالث تحل له ولهم وأما موالى بنى هاشم وبنى المطلب فهل تحرم عليهم الزكاة فيه وجهان لأصحابنا أصحهما تحرم للحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا حديث أبي رافع والثاني تحل وبالتحريم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين وبعض المالكية وبالاباحة قال مالك وادعى ابن بطال المالكي أن الخلاف انما هو في موالي بنى هاشم وأما موالى غيرهم فتباح لهم بالاجماع وليس كما قال بل الأصح عند أصحابنا تحريمها على موالي بنى هاشم وبنى المطلب ولا فرق بينهما والله أعلم قوله ص = (انا لا تحل لنا الصدقة) ظاهره تحريم صدقة الفرض والنفل وفيهما الكلام السابق قوله ص = (انى لأنقلب الى أهلى فاجد التمرة ساقطة على فراشي
[ 177 ]
ثم أرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها) فيه تحريم الصدقة عليه ص = وأنه لا فرق بين صدقة الفرض والتطوع لقوله ص = الصدقة بالألف واللام وهي تعم النوعين ولم يقل الزكاة وفيه استعمال الورع لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال لكن الورع تركها قوله (أن رسول الله ص = مر بتمرة في الطريق فقال لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها) فيه استعمال الورع كما سبق وفيه أن التمرة ونحوها من محقرات الأموال لا يجب تعريفها بل يباح أكلها والتصرف فيها في الحال لأن ص = انما تركها خشية أن تكون من الصدقة لا لكونها لقطة وهذا الحكم متفق عليه وعلله أصحابنا وغيرهم
[ 178 ]
بأن صاحبها في العادة لا يطلبها ولا يبقى له فيها مطمع والله أعلم قوله (فانتحاه ربيعة بن الحارث) هو بالحاء ومعناه عرض له وقصده (قوله ما تفعل هذا الا نفاسة منك علينا) معناه حسدا منك لنا قوله (فما نفسنا عليك) هو بكسر الفاء أي ما حسدناك ذلك قوله ص = (أخرجا ما تصرران) هكذا هو في معظم الأصول ببلادنا وهو الذي ذكره الهروي والمازري وغيرهما من أهل الضبط تصرران بضم التاء وفتح الصاد وكسر الراء وبعدها راء أخرى ومعناه تجمعانه في صدوركما من الكلام وكل شئ جمعته فقد صررته ووقع في بعض النسخ تسرران بالسين من السر أي ما تقولانه لي سرا وذكر القاضي عياض فيه أربع روايات هاتين الثنتين والثالثة تصدران باسكان الصاد وبعدها دال مهملة معناه ماذا ترفعان الى قال وهذه رواية السمرقندى والرابعة تصوران بفتح
[ 179 ]
الصاد وبواو مكسورة قال وهكذا ضبطه الحميدى قال القاضى وروايتنا عن أكثر شيوخنا بالسين واستبعد رواية الدال والصحيح ما قدمناه عن معظم نسخ بلادنا ورجحه أيضا صاحب المطالع فقال الأصوب تصرران بالصاد والرائين قوله (قد بلغنا النكاح) أي الحلم كقوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح قوله (وجعلت زينب تلمع الينا من وراء الحجاب) هو بضم التاء واسكان اللام وكسر الميم ويجوز فتح التاء والميم يقال ألمع ولمع إذا أشار بثوبه أو بيده قوله ص = لعبد المطلب بن ربيعة والفضل بن عباس وقد سألاه العمل على الصدقة بنصيب العامل (ان الصدقة لا تنبغي لآل محمد) دليل على أنها محرمة سواء كانت بسبب العمل أو بسبب الفقر والمسكنة وغيرهما من الأسباب الثمانية وهذا هو الصحيح عند أصحابنا وجوز بعض أصحابنا لبنى هاشم وبنى المطلب العمل عليها بسهم العامل لأنه اجارة وهذا ضعيف أو باطل وهذا الحديث صريح في رده قوله ص = (انما هي أوساخ الناس) تنبيه على العلة في تحريمها على بنى هاشم وبنى المطلب وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال تعالى من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فهي كغسالة الأوساخ قوله
[ 180 ]
(حدثنا هرون بن معروف حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل الهاشمي أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أخبره) هكذا وقع في مسلم من رواية يونس عن ابن شهاب وسبق في الرواية التي قبل هذه عن جويرية عن مالك عن الزهري أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل وكلاهما صحيح والأصل هو رواية مالك ونسبه في رواية يونس الى جده ولا يمتنع ذلك قال النسائي ولا نعلم أحدا روى هذا الحديث عن مالك الا جويرية بن أسماء قوله ص = (أصدق عنهما من الخمس) يحتمل أن يريد من سهم ذوى القرى من الخمس لأنهما من ذوى القربى ويحتمل ان يريد من سهم النبي ص = من الخمس قوله عن علي رضي الله عنه (وقال أنا أبو حسن القرم) هو بتنوين حسن وأما القرم فالبراء مرفوع وهو السيد وأصله فحل الابل قال الخطابي معناه المقدم في المعرفة بالأمور والرأي كالفحل هذا أصح الأوجه في ضبطه وهو المعروف في نسخ بلادنا والثاني حكاه القاضى أبو الحسن القوم بالواو باضافة حسن الى القوم ومعناه عالم القوم وذو رأيهم والثالث حكاه القاضى أيضا أبو حسن بالتنوين والقوم بالواو مرفوع أي أنا من علمتم رأيه أيها القوم وهذا ضعيف لأن حروف النداء لا تحذف في نداء القوم ونحوه قوله (لا أريم مكاني) هو بفتح الهمزة وكسر الراء أي لا أفارقه قوله (والله لا أريم مكاني حتى يرجع اليكما ابناكما بحور ما بعثتما به)
[ 181 ]
قوله بحور هو بفتح الحاء المهملة أي بجواب ذلك قال الهروي في تفسيره يقال كلمته فما رد على حورا ولا حويرا أي جوابا قال ويجوز أن يكون معناه الخيبة أي يرجعا بالخيبة واصل الحور الرجوع الى النقص قال القاضي هذا أشبه بسياق الحديث أما قوله ابناكما فهكذا ضبطناه ابناكما بالتثنية ووقع في بعض الأصول أبناؤكما بالواو على الجمع وحكاه القاضى ايضا قال وهو وهم والصواب الأول وقال وقد يصح الثاني على مذهب من جمع الأثنين قوله ص = (أدعوا الى محمية بن جزء وهو رجل من بني أسد) أما محمية فبميم مفتوحة ثم حاء مهملة ساكنة ثم ميم أخرى مكسورة ثم ياء مخففة وأما جزء فبجيم مفتوحة ثم زاي ساكنة ثم همزة هذا هو الأصح قال القاضى هكذا تقوله عامة الحفاظ وأهل الإتقان ومعظم الرواة وقال عبد الغنى بن سعيد يقال جزى بكسر الزاي يعنى وبالياء وكذا وقع في بعض النسخ في بلادنا قال القاضى وقال أبو عبيد هو عندنا جز مشدد الزاي وأما قوله وهو رجل من بنى أسد فقال القاضى كذا وقع والمحفوظ أنه من بنى زبيد لا من بنى أسد اباحة الهدية للنبي ص (ولبنى هاشم وبنى المطلب وان كان المهدى ملكها بطريق الصدقة) (وبيان أن الصدقة إذا قبضها المتصدق عليه زال عنها وصف الصدقة) (وحلت لكل أحد ممن كانت الصدقة محرمة عليه) قوله (أن عبيد بن السباق) هو بفتح السين المهملة وتشديد الباء الموحدة قوله ص =
[ 182 ]
في لحم الشاة الذي أعطيته مولاة جويرية من الصدقة (قربيه فقد بلغت محلها) هو بكسر الحاء أي زاعنها حكم الصدقة وصارت حلالا لنا وفيه دليل للشافعي وموافقيه أن لحم الأضحية إذا قبضه المتصدق عليه وسائر الصدقات يجوز لقابضها بيعها ويحل لمن أهداها إليه أو ملكها منه بطريق آخر وقال بعض المالكية لا يجوز بيع لحم الأضحية لقابضها قوله (كلاهما عن شعبة عن قتادة عن أنس) ثم قال في الطريق الآخر (حدثنا شعبة عن قتادة سمع أنس بن مالك) فيه التنبيه على انتقاء تدليس قتادة لأنه عنعن في الرواية الأولى وصرح بالسماع في الثانية وقد سبق مرات أن المدلس لا يحتج بعنعنته الا أن يثبت سماعه لذلك الحديث من ذلك الشيخ من طريق آخر فنبه مسلم رحمه الله تعالى على ذلك
[ 183 ]
قوله (عن الأسود عن عائشة وأتى النبي ص = بلحم بقر) هكذا هو في كثير من الأصول المعتمدة أو أكثرها وأتى بالواو وفي بعضها أتى بغير واو وكلاهما صحيح والواو عاطفة على بعض من الحديث لم يذكره هنا قوله (كان في بريرة ثلاث قضيات) فذكر منها قوله ص = هو عليها صدقة ولكم هدية ولم يذكر هنا الثانية والثالثة وهما
[ 184 ]
الولاء لمن أعتق وتخييرها في فسخ النكاح حين أعتقت تحت عبد وسيأتى بيان الثلاث مشروحة ان شاء الله تعالى في كتاب النكاح قولها (الا أن نسيبة بعثت الينا) هي نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة واسكان الياء ويقال فيها أيضا نسيبة بفتح النون وكسر السين وهي أم عطية قوله (ان النبي ص = كان إذا أتي بطعام سأل عنه فان قيل هدية أكل منها وان قيل صدقة لم يأكل منها) فيه استعمال الورع والفحص عن أصل المآكل والمشارب الدعاء لمن أتى بصدقتة قوله (كان النبي ص = إذا أتاه قوم بصدقتهم قال اللهم صل عليهم فأتاه أبى أبو أوفى بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي أوفى) هذا الدعاء وهو الصلاة امتثال لقول الله عز وجل
[ 185 ]
عليهم ومذهبنا المشهور ومذهب العلماء كافة أن الدعاء لدافع الزكاة سنة مستحبة ليس بواجب وقال أهل الظاهر هو واجب وبه قال بعض اصحابنا حكاه أبو عبد الله الحناطى بالحاء المهملة واعتمدوا الأمر في الآية قال الجمهور الأمر في حقنا للندب لأن النبي ص = بعث معاذا وغيره لأخذ الزكاة ولم يأمرهم بالدعاء وقد يجيب الآخرون بأن وجوب الدعاء كان معلوما لهم من الأية الكريمة وأجاب الجمهور أيضا بأن دعاء النبي ص = وصلاته سكن لهم بخلاف غيره واستحب الشافعي في صفة الدعاء أن يقول آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت وأما قول الساعي اللهم صل على فلان فكره جمهور أصحابنا وهو مذهب ابن عباس ومالك وابن عيينة وجماعة من السلف وقال جماعة من العلماء ويجوز ذلك بلا كراهة لهذا الحديث قال أصحابنا لا يصلى على غير الانبياء الا تبعا لأن الصلاة في لسان السلف مخصوصة بالأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم كما أن قولنا عز وجل مخصوص بالله سبحانه وتعالى فكما لا يقال محمد عز وجل وان كان عزيزا جليلا لا يقال أبو بكر ص وان صح المعنى واختلف أصحابنا في النهى عن ذلك هل هو نهى تنزيه أم محرم أو مجرد أدب على ثلاثة أوجه الأصح الاشهر أنه مكروه كراهة تنزيه لانه شعار لاهل البدع وقد نهينا عن شعارهم والمكروه هو ما ورد فيه نهى مقصود واتفقوا على أنه يجوز أن يجعل غير الانبياء تبعا لهم في ذلك فيقال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته وأتباعه لأن السلف لم يمنعوا منه وقد أمرنا به في التشهد وغيره قال الشيخ أبو محمد الجوينى من أئمة أصحابنا السلام في معنى الصلاة ولا يفرد به غير الانبياء لأن الله تعالى قرن بينهما ولا يفرد به غائب ولا يقال قال فلان عليه السلام وأما المخاطبة به لحي أو ميت فسنة فيقال السلام عليكم أو عليك أو سلام عليك أو عليكم والله أعلم
[ 186 ]
(فاقدروا له) وفي رواية فاقدروا له ثلاثين وفي رواية إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فان غم عليكم فاقدروا له وفي رواية فان غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما وفي رواية فان غمى عليكم فأكملوا العدد وفي رواية فان عمى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين وفي رواية فان أغمى عليكم فعدوا ثلاثين هذه الروايات كلها في الكتاب على هذا الترتيب وفي رواية للبخاري فان غبى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين واختلف العلماء في معنى فاقدروا له فقالت طائفة من العلماء معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان كما سنذكره ان شاء الله تعالى وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه قدروه بحساب المنازل وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف الى أن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما قال أهل اللغة يقال قدرت الشئ أقدره وأقدره وقدرته وأقدرته بمعنى واحد وهو من التقدير قال الخطابى ومنه قول الله تعالى فقدرنا فنعم القادرون واحتج الجمهور بالروايات المذكورة فأكملوا العدة ثلاثين وهو تفسير لاقدروا له ولهذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا ويؤكده الرواية السابقة فاقدروا له ثلاثين قال المازرى حمل جمهور الفقهاء قوله ص = فاقدروا له على أن المراد اكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر قالوا ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه الا أفراد والشرع انما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم والله أعلم وأما قوله ص = (فان غم عليكم) فمعناه حال بينكم وبينه غيم يقال غم وأغمى وغمى وغمى بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما ويقال غبى بفتح الغين وكسر الباء وكلها صحيحة وقد غامت السماء وغيمت وأغامت وتغيمت وأغمت وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك والشافعي والجمهور أنه لا يجوز صوم يوم الشك ولا يوم الثلاثين
[ 187 ]
قوله ص = (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين) وفي الرواية الأخرى (إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين) وفي رواية (إذا دخل رمضان) فيه دليل للمذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون أنه يجوز أن يقال رمضان من غير ذكر الشهر بلا كراهة وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب قالت طائفة لا يقال رمضان على انفراده بحال وانما يقال شهر رمضان هذا قول أصحاب مالك وزعم هؤلاء أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا يطلق على غيره الا بقيد وقال أكثر أصحابنا وابن الباقلاني ان كان هناك قرينة تصرفه الى الشهر فلا كراهة والا فيكره قالوا فيقال صمنا رمضان قمنا رمضان ورمضان أفضل الأشهر ويندب طلب ليلة القدر في أواخر رمضان وأشباه ذلك ولا كراهة في هذا كله وانما يكره أن يقال جاء رمضان ودخل وحضر رمضان وأحب رمضان ونحو ذلك والمذهب الثالث مذهب البخاري والمحققين أنه لا كراهة في اطلاق رمضان بقرينة وبغير قرينة وهذا المذهب هو الصواب
[ 188 ]
والمذهبان الأولان فاسدان لأن الكراهة انما تثبت بنهي الشرع ولم يثبت فيه نهى وقولهم انه اسم من اسماء الله تعالى ليس بصحيح ولم يصح في شئ وان كان قد جاء فيه أثر ضعيف وأسماء الله تعالى توقيفية لا تطلق الا بدليل صحيح ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة وهذا الحديث المذكور في الباب صريح في الرد على المذهبين ولهذا الحديث نظائر كثيرة في الصحيح في اطلاق رمضان على الشهر من غير ذكر الشهر وقد سبق التنبيه على كثير منها في كتاب الايمان وغيره والله أعلم وأما قوله ص = فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين فقال القاضى عياض رحمه الله تعالى يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب جهنم وتصفيد الشياطين علامة لدخول الشهر وتعظيم لحرمته ويكون التصفيد ليمتنعوا من ايذاء المؤمنين والتهويش عليهم قال ويحتمل ان يكون المراد المجاز ويكون إشارة الى كثرة الثواب والعفو وان الشياطين يقل اغواؤهم وايذاؤهم ليصيرون كالمصفدين ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء ولناس دون ناس ويؤيد هذه الرواية الثانية فتحت أبواب الرحمة وجاء في حديث آخر صفدت مردة الشياطين قال القاضي ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموما كالصيام والقيام وفعل الخيرات والانكفاف عن كثير من المخالفات وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات ومعنى صفدت غللت والصفد بفتح الفاء الغل بضم الغين وهو معنى سلسلت في الرواية الأخرى هذا كلام القاضى أو فيه أحرف بمعنى كلامه وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال (وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما) قوله ص = (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان أغمى عليكم
[ 189 ]
فاقدروا له) وفي رواية فاقدروا له ثلاثين وفي رواية إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فان غم عليكم فاقدروا له وفي رواية فان غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما وفي رواية فان غمى عليكم فأكملوا العدد وفي رواية فان عمى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين وفي رواية فان أغمى عليكم فعدوا ثلاثين هذه الروايات كلها في الكتاب على هذا الترتيب وفي رواية للبخاري فان غبى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين واختلف العلماء في معنى فاقدروا له فقالت طائفة من العلماء معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم من رمضان كما سنذكره ان شاء الله تعالى وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه قدروه بحساب المنازل وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف الى أن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما قال أهل اللغة يقال قدرت الشئ أقدره وأقدره وقدرته وأقدرته بمعنى واحد وهو من التقدير قال الخطابي ومنه قول الله تعالى الرحمن فنعم القادرون واحتج الجمهور بالروايات المذكورة فأكملوا العدة ثلاثين وهو تفسير لاقدروا له لهذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا ويؤكده الرواية السابقة فاقدروا له ثلاثين قال المازري حمل جمهور الفقهاء قوله ص = فاقدروا له على أن المراد اكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر قالوا ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه الا أفراد والشرع انما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم والله أعلم وأما قوله ص = (فان غم عليكم) فمعناه حال بينكم وبينه غيم يقال غم وأغمى وغمى وغمى بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما ويقال غبى بفتح الغين وكسر الباء وكلها صحيحة وقد غامت السماء وغيمت وأغامت وتغيمت وأغمت وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك والشافعي والجمهور أنه لا يجوز صوم يوم الشك ولا يوم الثلاثين
[ 190 ]
من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم قوله ص = (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) المراد رؤية بعض المسلمين ولا يشترط رؤية كل انسان بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين وكذا عدل على الأصح هذا في الصوم وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء الا أبا ثور فجوزه بعدل قوله ص (الشهر هكذا وهكذا) وفي رواية الشهر تسع وعشرون معناه أن الشهر قد يكون تسعا وعشرين وحاصله أن الاعتبار بالهلال فقد يكون تاما ثلاثين وقد يكون ناقصا تسعا وعشرين وقد لا يرى الهلال فيجب اكمال العدد ثلاثين قالوا وقد يقع النقص متواليا
[ 191 ]
في شهرين وثلاثة وأربعة ولا يقع في أكثر من أربعة وفي هذا الحديث جواز اعتماد الاشارة المفهمة في مثل هذا قوله (حدثنا زياد بن عبد الله البكائي) هو بفتح الباء وتشديد الكاف
[ 192 ]
قوله ص = (انا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا) قال العلماء أمية باقون على ما ولدتنا عليه الامهات لا نكتب ولا نحسب ومنه النبي الأمي وقيل هو نسبة
[ 193 ]
الى الأم وصفتها لأن هذه صفة النساء غالبا قوله (سمع ابن عمر رجلا يقول الليلة النصف فقال له وما يدريك أن الليلة النصف) وذكر الحديث معناه أنك لا تدري أن الليلة النصف أم لا لأن الشهر قد يكون تسعا وعشرين وأنت أردت أن الليلة ليلة اليوم الذي بتمامه يتم النصف وهذا انما يصح على تقدير تمامه ولا تدرى أنه تام أم لا قوله ص = (فان غمى عليكم الشهر) هو بضم الغين وكسر الميم مشددة ومخففة قوله ص =
[ 194 ]
(لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين الا رجل كان يصوم صوما فليصمه) فيه التصريح بالنهي عن استقبال رضمان بصوم يوم ويومين لمن لم يصادف عادة له أو يصله بما قبله فان لم يصله ولا صادف عادة فهو حرام هذا هو الصحيح في مذهبنا لهذا الحديث وللحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان فان وصله بما قبله أو صادف عادة له فان كانت عادته صوم يوم الأثنين ونحوه فصادفه فصامه تطوعا بنية ذلك جاز لهذا الحديث وسواء في النهى عندنا لمن لم يصادف عادته ولا وصله يوم الشك وغيره فيوم الشك داخل في النهي وفيه مذاهب للسلف فيمن صامه تطوعا وأوجب صومه عن رمضان أحمد وجماعة بشرط
[ 195 ]
أن يكون هناك غيم والله أعلم قوله في حلفه ص = (لا يدخل على أزواجه شهرا ثم دخل لما مضت تسع وعشرون ليلة ثم قال الشهر تسع وعشرون) وفي رواية فخرج الينا في تسعة وعشرين فقلنا له انما اليوم تسعة وعشرون وفي رواية فخرج الينا صباح تسع وعشرين فقال
[ 196 ]
ان الشهر يكون تسعا وعشرين وفي رواية فلما مضى تسع وعشرون يوما غدا عليهم أو راح قال القاضى رحمه الله تعالى معناه كله بعد تمام تسعة وعشرين يوما يدل عليه رواية فلما مضى تسع وعشرون يوما وقوله صباح تسع وعشرين أي صباح الليلة التي بعد تسعة وعشرين يوما وهي صبيحة ثلاثين ومعنى الشهر تسعة وعشرون أنه قد يكون تسعة وعشرين كما صرح به في بعض هذا الروايات والله أعلم
[ 197 ]
بيان أن لكل بلد رؤيتهم (وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم) فيه حديث كريب عن ابن عباس وهو ظاهر الدلالة للترجمة والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة وقيل ان اتفق المطلع لزمهم وقيل ان اتفق الاقليم والا فلا وقال بعض أصحابنا تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض فعلى هذا نقول انما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب لأنه شهادة فلا تثبت بواحد لكن ظاهر حديثه أنه لم يرده لهذا وانما رده لأن الرؤية لم يثبت حكمها في حق البعيد قوله (واستهل على رمضان) هو بضم التاء من استهل
[ 198 ]
بيان أنه لااعتبار بكبر الهلال وصغره (وأن الله تعالى أمده للرؤية فان غم فليكمل ثلاثون) فيه حديث أبي البخترى عن ابن عباس وهو ظاهر الدلالة للترجمة وقوله (تراءينا الهلال) أي تكلفنا النظر الى جهته لنراه قوله (عن ابن عباس فقال ان رسول الله ص = مده للرؤية) هكذا هو في بعضالنسخ وفي بعضها فقال ان رسول الله ص = قال ان الله مده للرؤية وجميع النسخ متفقة على مده من غير ألف فيها وفي الرواية الثانية فقال ابن عباس قال رسول الله ص = ان اله قد أمده لرؤيته هكذا هو في جميع النسخ أمده بألف في أوله قال القاضى قال بعضهم الوجه أن يكون أمده بالتشديد من الامداد ومده من الامتداد قال
[ 199 ]
القاضي والصواب عندي بقاء الرواية على وجهها ومعناه أطال مدته الى الرؤية يقال منه مد وأمد قال الله تعالى واخوانهم يمدونهم في الغي قرئ بالوجهين أي يطيلون لهم قال وقد يكون أمده من المدة التي جعلت له قال صاحب الأفعال أمددتكها أي أعطيتكها قوله في الاسناد (عن أبي البخترى) هو بفتح الموحدة واسكان الخاء المعجمة وفتح التاء واسمه سعيد بن فيروز ويقال ابن عمران ويقال ابن أبي عمران الطائي توفى سنة ثلاث وثمانين عام الجماجم بيان معنى قوله ص = شهرا عيد لا ينقصان قوله ص = (شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة) الأصح أن معناه لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وان نقص عددهما وقيل معناه لا ينقصان جميعا في سنة واحدة غالبا وقيل لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان لأن فيه المناسك حكاه الخطابي وهو ضعيف والأول هو الصواب المعتمد ومعناه أن قوله ص = من صام رمضان ايمانا واحتسابا غفر ما تقدم من ذنبه وقوله ص = من قام رمضان ايمانا واحتسابا وغير ذلك فكل هذه الفضائل تحصل سواء تم عدد رمضان أم نقص والله أعلم
[ 200 ]
بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام) (من الدخول في الصوم ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك وهو الفجر الثاني) (ويسمى الصادق والمستطير وأنه لا أثر للفجر الأول في الأحكام وهو الفجر الكاذب) (المستطيل باللام كذنب السرحان وهو الذئب) قوله (عن عدى بن حاتم لما نزلت يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال له عدى يا رسول الله أنى أجعل تحت وسادتي عقالين عقالا أبيض وعقالا اسود أعرف الليل من النهار فقال رسول الله ص = ان وسادك لعريض انما هو سواد الليل وبياض النهار) هكذا هو في كثير من النسخ أو أكثرها فقال له عدى وفي بعضها قال عدى بحذف له وكلاهما صحيح ومن أثبتها أعاد الضمير إلى معلوم أو متقدم الذكر عند المخاطب وفي أكثر النسخ أو كثير منها ان وسادك لعريض وفي بعضها أن وسادتك لعريض بزيادة تاء وله وجه أيضا مع قوله عريض ويكون المراد بالوسادة الوساد كما في الرواية الأخرى فعاد الوصف على المعنى لا على اللفظ وأما معنى الحديث فللعلماء فيه شروح أحسنها كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى قال انما أخذ العقالين وجعلهما تحت رأسه وتأول الآية لكونه سبق الى فهمه أن المراد
[ 201 ]
بها هذا وكذا وقع لغيره ممن فعله حتى نزل قوله تعالى الفجر فعلموا أن المراد به بياض النهار وسواد الليل وليس المراد أن هذا كان حكم الشرع أولا ثم نسخ بقوله تعالى من الفجر كما أشار إليه الطحاوي والداودى قال القاضي وانما المراد أن ذلك فعله وتأوله من لم يكن مخالطا للنبي ص = بل هو من الأعراب ومن لا فقه عنده أو لم يكن من لغته استعمال الخيط في الليل والنهار لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولهذا أنكر النبي ص = على عدى بقوله ص = ان وسادك لعريض انما هو بياض النهار وسواد الليل قال وفيه ان الألفاظ المشتركة لا يصار الى العمل بأظهر وجوهها وأكثر استعمالها الا إذا عدم البيان وكان البيان حاصلا بوجود النبي ص = قال أبو عبيد الخيط الأبيض الفجر الصادق والخيط الأسود الليل والخيط اللون وفي هذا مع قوله ص = سواد الليل وبياض النهار دليل على أن ما بعد الفجر هو من النهار لا من الليل ولا فاصل بينهما وهذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء وحكى فيه شئ عن الأعمش وغيره لعله لا يصح عنهم قوله ص = ان وسادك لعريض قال القاضي معناه إن جعلت تحت وسادك الخيطين الذين أرادهما الله تعالى وهما الليل والنهار فوسادك يعلوهما ويغطيهما وحينئذ يكون عريضا وهو معنى الرواية الأخرى في صحيح البخاري انك لعريض القفا لان من يكون هذا وساده يكون عظم قفاه من نسبته بقدره وهو معنى الرواية الأخرى إنك لضخم وأنكر القاضي قول من قال إنه كناية عن الغباوة أو عن السمن لكثرة أكله الى بيان الخيطين وقال بعضهم المراد بالوساد النوم أي ان نومك كثير وقيل أراد
[ 202 ]
به الليل أي من لم يكن النهار عنده الا إذ بان له العقالان طال ليله وكثر نومه والصواب ما اختاره القاضي والله أعلم قوله (ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رئيهما) هذه اللفظة ضبطت على ثلاثة أوجه أحدها رئيهما براء مكسورة ثم همزة ساكنة ثم ياء ومعناه منظرهما ومنه قول الله تعالى أحسن أثاثا ورئيا والثاني زيهما بزاي مكسورة وياء مشددة بلا همزة ومعناه لونهما والثالث ريهما بفتح الراء وكسرها وتشديد الياء قال القاضي هذا غلط هنا لأن الرى التابع من الجن قال فان صح رواية فمعناه مرى والله أعلم قوله ص = (ان بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم) فيه جواز الاذان للصبح قبل طلوع الفجر وفيه جواز الأكل والشرب والجماع وسائر الأشياء الى طلوع الفجر وفيه جواز أذان الأعمى قال أصحابنا هو جائز فان كان معه بصير كابن أم مكتوم مع بلال فلا كراهة فيه وان لم يكن معه بصير كره للخوف من غلطه وفيه استحباب أذانين للصبح أحدهما قبل الفجر والآخر بعد طلوعه أول الطلوع وفيه اعتماد صوت المؤذن واستدل به مالك والمزنى وسائر من يقبل شهادة الأعمى وأجاب الجمهور عن هذا بأن الشهادة يشترط فيها العلم ولا يحصل علم بالصوت لأن الأصوات تشتبه وأما الاذان ووقت الصلاة فيكفي فيها الظن وفيه دليل لجواز
[ 203 ]
الأكل بعد النية ولا تفسد نية الصوم بالأكل بعدها لأن النبي ص = أباح الأكل الى طلوع الفجر ومعلوم أن النية لا تجوز بعد طلوع الفجر فدل على أنها سابقة وأن الأكل بعدها لا يضر وهذا هو الصواب المشهور من مذهبنا ومذهب غيرنا وقال بعض أصحابنا متى أكل بعد النية أو جامع فسدت ووجب تجديدها والا فلا يصح صومه وهذا غلط صريح وفيه استحباب السحور وتأخيره وفيه اتخاذ مؤذنين للمسجد الكبير قال أصحابنا وان دعت الحاجة جاز اتخاذ أكثر منهما كما اتخذ عثمان أربعة وان احتاج الى زيادة على أربعة فالأصح اتخاذهم بحسب الحاجة والمصلحة قوله (ولم يكن بينهما الا أن ينزل هذا ويرقى هذا) قال العلماء
[ 204 ]
معناه أن بلال كان يؤذن قبل الفجر ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه ثم يرقب الفجر فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر والله أعلم قوله ص = (لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال أو نداء بلال من سحوره فانه يؤذن أو قال ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) فلفظة قائمكم منصوبة مفعول يرجع قال الله تعالى فان رجعك الله ومعناه أنه انما يؤذن بليل ليعلمكم بأن الفجر ليس ببعيد فيرد القائم المتهجد الى راحته لينام غفوة ليصبح نشيطا أو يوتر ان لم يكن أوتر أو يتأهب للصبح ان احتاج الى طهارة أخرى أو نحو ذلك من مصالحه المترتبة على علمه بقرب الصبح وقوله ص = ويوقظ نائمكم أي ليتأهب للصبح أيضا بفعل ما أراد من تهجد قليل أو ايتار ان لم يكن أوتر أو سحور أن اراد الصوم أو اغتسال أو وضوء أو غير ذلك مما يحتاج إليه قبل الفجر قوله ص = في صفة الفجر (ليس أن يقول هكذا وهكذا وصوب يده ورفعها حتى يقول هكذا وفرج بين أصبعه) وفي الرواية الأخرى (ان الفجر ليس الذي يقول هكذا وجمع أصابعه ثم نكسها الى الأرض ولكن الذي يقول هكذا ووضع المسبحة على المسبحة ومد يده) وفي الرواية الأخرى
[ 205 ]
(هو المعترض وليس بالمستطيل) وفي الرواية الأخرى (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا) قال الراوي يعنى معترضا في هذه الأحاديث بيان الفجر الذي يتعلق به الأحكام وهو الفجر الثاني الصادق والمستطر بالراء وقد سبق في ترجمة الباب بيان الفجرين وفيها أيضا الايضاح في البيان والاشارة لزيادة البيان في التعليم والله أعلم قوله ص (لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور) ضبطناه بفتح السين وضمها فالمفتوح اسم
[ 206 ]
للمأكول والمضموم اسم للفعل وكلاهما صحيح هنا فضل السحور وتأكيد استحبابه (واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر) قوله ص = (تسحروا فان في السحور بركة) روى بفتح السين من السحور وضمها وسبق قريبا بيانهما فيه الحث على السحور وأجمع العلماء على استحبابه وأنه ليس بواجب وأما البركة التي فيه فظاهره لأنه يقوى على الصيام وينشط له وتحصل بسببه الرغبة في الازدياد من الصيام لخفة المشقة فيه على المتسحر فهذا هو الصواب المعتمد في معناه وقيل لأنه يتضمن الاستيقاظ والذكر والدعاء في ذلك الوقت الشريف وقت تنزل الرحمة وقبول الدعاء والاستغفار وربما توضأ صاحبه وصلى أو أدام الاستيقاظ للذكر والدعاء والصلاة أو التأهب لها حتى يطلع الفجر
[ 207 ]
قوله (عن موسى بن على) هو بضم العين على المشهور وقيل بفتحها قوله ص (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) معناه الفارق والمميز بين صيامنا وصيامهم السحور فانهم لا يتسحرون ونحن يستحب لنا السحور وأكلة السحر هي السحور وهي بفتح الهمزة هكذا ضبطناه وهكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور في روايات بلادنا وهي عبارة عن المرة الواحدة من الأكل كالغدوة والعشوة وان كثر المأكول فيها وأما الأكلة بالضم فهي اللقمة وادعى القاضي عياض أن الرواية فيه بالضم ولعله أراد رواية أهل بلادهم فيها بالضم قال والصواب الفتح لأنه المقصود هنا قوله (تسحرنا مع رسول الله ص ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم بينهما قال خمسين آية) معناه بينهما قدر قراءة خمسين آية أو أن يقرأ
[ 208 ]
خمسين وفيه الحث على تأخير السحور الى قبيل الفجر قوله ص = (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) فيه الحث على تعجيله بعد تحقق غروب الشمس ومعناه لا يزال أمر الأمة منتظما وهم بخير ما داموا محافظين على هذه السنة وإذا أخروه كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه قوله (لا يألو عن الخير) أي لا يقصر عنه
[ 209 ]
بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار قوله ص = (إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم) معناه انقضى صومه وتم ولا يوصف الآن بأنه صائم فان بغروب الشمس خرج النهار ودخل الليل والليل ليس محلا للصوم وقوله ص = أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس قال العلماء كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين ويلازمهما وانما جمع بينها لأنه قد يكون في واد ونحوه بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد اقبال الظلام وادبار الضياء والله أعلم قوله ص = (انزل فاجدح لنا فنزل فجدح) هو بجيم ثم حامهملة وهو خلط الشئ بغيره والمراد هنا خلط السويق بالماء وتحريكه حتى يستوى والمجدح بكسر الميم عود
[ 210 ]
مجنح الرأس ليساط به الأشربة وقد يكون له ثلاث شعب قوله (كنا مع رسول الله ص في سفر فلما غابت الشمس قال لرجل أنزل فاجدح لنا فقال يا رسول الله لو أمسيت فقال إنزل فاجدح لنا قال ان علينا نهارا فنزل فجدح فشرب ثم قال إذا رأيتم الليل إلى آخره) معنى الحديث أن رسول الله ص = وأصحابه كانوا صياما وكان ذلك في شهر رمضان كما صرح به في رواية يحيى بن يحيى فلما غربت الشمس أمره النبي ص = بالجدح ليفطروا فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي بعد غروب الشمس فظن أن الفطر لا يحل الا بعد ذهاب ذلك واحتمل عنده ان النبي ص = لم يرها فأراد تذكيره واعلامه بذلك ويؤيد
[ 211 ]
هذا قوله إن عليك نهارا لتوهمه أن ذلك الوضوء من انلهار الذي يجب صومه وهو معنى لو أمسيت أي تأخرت حتى يدخل المساء وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم فيه الأكل مع تجويزه أن النبي ص = لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما فقصد زيادة الاعلام ببقاء الضوء وفي هذا الحديث جواز الصوم في السفر وتفضيله على الفطر لمن لا تلحقه بالصوم مشقة ظاهرة وفيه بيان انقضاء الصوم بمجرد غروب الشمس واستحباب تعجيل الفطر وتذكير العالم ما يخاف أن يكون نسيه وأن الفطر على التمر ليس بواجب وانما هو مستحب لو تركه جاز وأن الأفضل بعده الفطر على الماء وقد جاء هذا الترتيب في الحديث الآخر في سنن أبي داود وغيره في لأمر بالفطر على تمر فان لم يجد فعلى الماء فانه طهور النهى عن الوصال اتفق أصحابنا على النهى عن الوصال وهو صوم يومين فصاعدا من غير أكل أو شرب بينهما ونص الشافعي وأصحابنا على كراهته ولهم في هذه الكراهة وجهان أصحهما أنها كراهة تحريم والثاني كراهة تنزيه وبالنهي عنه قال جمهور العلماء وقال القاضي عياض اختلف العلماء في
[ 212 ]
أحاديث الوصال فقيل النهى عنه رحمة وتخفيف فمن قدر فلا حرج وقد واصل جماعة من السلف الأيام قال وأجازه ابن وهب وأحمد واسحاق الى السحر ثم حكى عن الأكثرين كراهته وقال الخطابي وغيره من أصحابنا الوصال من الخصائص التي أبيحت لرسول الله ص = وحرمت على الأمة واحتج لمن اباحه بقوله في بعض طرق مسلم نهاهم عن الوصال رحمة لهم وفي بعضها لما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال لو تأخر الهلال لزدتكم وفيه بعضها لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم واحتج الجمهور بعموم النهى وقوله ص لا تواصلوا وأجابوا على قوله رحمة بأنه لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم وأما الوصال بهم يوما ثم يوما فاحتمل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال وهي الملل من العبادة والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من اتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها وآدابها وملازمة الأذكار وسائر الوظائف المشروعة في نهاره وليله والله أعلم قوله ص = (أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) معناه يجعل الله تعالى في قوة الطاعم الشارب وقيل هو على ظاهره وأنه يطعم من طعام الجنة كرامة له والصحيح الأول لأنه
[ 213 ]
لو أكل حقيقة لم يكن مواصلا ومما يوضح هذا التأويل ويقطع كل نزاع قوله ص = في الرواية التي بعد هذا أني أظل يطعمني ربي ويسقيني ولفظة ظل لا يكون الا في النهار كما سنوضحه قريبا ان شاء الله تعالى ولا يجوز الاكل الحقيقي في النهار بلا شك والله أعلم قوله ص = (فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون) هو بفتح اللام ومعناه خذوا وتحملوا قوله (فلما حس النبي ص أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة ثم دخل رحله) هكذا هو في جميع النسخ حس بغير ألف ويقع في طرق بعض النسخ أحس بالألف وهذا هو الفصيح الذي جاء به القرآن وأما حس بحذف الألف فلغة قليلة وهذه الرواية تصح على هذه اللغة وقوله يتجوز أن يخفف ويقتصر على الجائز المجزى مع بعض المندوبات والتجوز هنا للمصلحة وقوله دخل رحله اي منزله قال الأزهري رحل الرجل عند العرب هو منزله سواء كان من حجر أو مدر أو وبر أو شعر وغيرها
[ 214 ]
قوله ص = (أما والله لو تماد لي الشهر) هكذا هو في معظم الأصول وفي بعضها تمادى وكلاهما صحيح وهو بمعنى مد في الرواية الأخرى قوله ص = (يدع المتعمقون تعمقهم) هم المشددون في الأمور المجاوزون الحدود في قول أو فعل قوله في حديث عاصم بن النضر (واصل رسول الله ص = في أول شهر رضمان) كذا هو في كل النسخ ببلادنا وكذا نقله القاضي عن أكثر النسخ قال وهو وهم من الرواى وصوابه آخر شهر رمضان وكذا رواه بعض رواة صحيح مسلم وهو الموافق للحديث الذي قبله ولباقي الأحاديث قوله ص = (أني أظل يطعمنى ربي ويسقيني) قال أهل اللغة يقال ظل يفعل كذا إذا عمله في النهار دون الليل وبات يفعل كذا إذا عمله في الليل ومنه قول عنترة ولقد أبيت على الطوى وأظله أي أظل عليه فيستفاد من هذه الرواية دلالة للمذهب الصحيح الذي قدمناه في تأويل أبيت يطعمنى ربي لأن ظل لا يكون الا في النهار
[ 215 ]
ولا يجوز أن يكون أكلا حقيقيا في النهار والله أعلم بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته قال الشافعي والأصحاب القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته لكن الأولى له تركها ولا يقال انها مكروهة له وانما قالوا انها خلاف الأولى في حقه مع ثبوت أن النبي ص = كان يفعلها لأنه ص = كان يؤمن في حقه مجاوزة حد القبلة ويخاف على غيره مجاوزتها كما قالت عائشة كان أملككم لأربه وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا وقيل مكروهة كراهة تنزيه قال القاضي قد قال باباحتها للصائم مطلقا جماعة من الصحابة والتابعين وأحمد واسحاق وداود وكرهها على الاطلاق مالك وقال ابن عباس وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي والشافعي تكره للشاب دون الشيخ الكبير وهي رواية عن مالك وروى ابن وهب عن مالك رحمه الله اباحتها في صوم النفل دون الفرض ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم الا أن ينزل المنى بالقبلة واحتجوا له بالحديث المشهور في السنن وهو قوله ص = أرأيت لو تمضمضت ومعنى الحديث أن المضمضة مقدمة الشرب وقد علمتم أنها لا تفطر وكذا القبلة مقدمة للجماع فلا تفطر وحكى الخطابي وغيره عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب أن من قبل قضى يوما مكان يوم القبلة قوله (عن عائشة قالت كان رسول الله ص = يقبل احدى نسائه وهو صائم ثم تضحك) قال القاضي قيل يحتمل ضحكها
[ 216 ]
التعجب ممن خالف في هذا وقيل التعجب من نفسها حيث جاءت بمثل هذا الحديث الذي يستحى من ذكره لا سيما حديث المرأة به عن نفسها للرجال لكنها اضطرت الى ذكره لتبليغ الحديث والعلم فتتعجب من ضرورة الحال المضطرة لها الى ذلك وقيل ضحكت سرورا بتذكر مكانها من النبي ص = وحالها معه وملاطفته لها قال القاضي ويحتمل أنها ضحكت تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون أبلغ في الثقة بحديثها قوله (فسكت ساعة) أي ليتذكر قولها وأيكم يملك اربه كما كان رسول الله ص = يملك اربه هذه اللفظة رووها على وجهين أشهرهما رواية الأكثرين اربه بكسر الهمزة واسكان الراء وكذا نقله الخطابى والقاضي عن رواية الأكثرين والثاني بفتح الهمزة والراء ومعناه بالكسر الوطر والحاجة وكذا بالفتح ولكنه يطلق المفتوح ايضا على العضو قال الخطابى في معالم السنن هذه اللفظة تروى على وجهين الفتح والكسر قال ومعناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها يقال لفلان على فلان ارب وارب وأربة ومأربة أي حاجة قال والارب ايضا العضو قال العلماء معنى كلام عائشة رضي الله عنها أنه ينبغي لكم الاحتراز عن القبلة ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النبي ص = في استباحتها لانه يملك نفسه ويأمن الوقوع في قبلة يتولد منها انزال أو شهوة أو هيجان نفس ونحو ذلك
[ 217 ]
وأنتم لا تأمنون ذلك فطريقكم الانكفاف عنها وفيه جواز الاخبار عن مثل هذا مما يجرى بين الزوجين على الجملة للضرورة وأما في غير حال الضرورة فمنهى عنه قولها (كان رسول الله ص = يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم) معنى المباشرة هنا اللمس باليد وهو من التقاء البشرتين قوله (دخلا على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ليسالانها) كذا هو في كثير من الأصول ليسألانها باللام والنون وهي لغة قليلة وفي كثير من الأصول يسألانها بحذف
[ 218 ]
اللام وهذا واضح وهو الجاري على المشهور في العربية قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته) هذا الاسناد فيه أربعة تابعيون بعضهم عن بعض وهم يحيى وأبو سلمة وعمر وعروة رضي الله عنهم قوله (حدثنا يحيى بن بشر الحريري) هو بفتح الحاء المهملة قوله (عن زياد بن علاقة) هو بكسر العين المهملة وبالقاف قولها (يقبل في شهر الصوم) يعنى في حال الصيام
[ 219 ]
قوله (عن شتير بن شكل) أما شتير فبشين معجمة مضمومة ثم مثناة من فوق مفتوحة وأما شكل فبشين معجمة ثم كاف مفتوحتين ومنهم من سكن الكاف والمشهور فتحها قوله (يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال له رسول الله ص = أما والله اني لأتقاكم لله وأشدكم خشية له) سبب قول هذا القائل قد غفر الله لك انه ظن أن جواز التقبيل للصائم من خصائص رسول الله ص = وانه لا حرج عليه فيما يفعل لأنه مغفور له أنكر عليه ص = هذا وقال أنا أتقاكم لله تعالى وأشدكم خشية فكيف تظنون بي أو تجوزون على ارتكاب منهى عنه ونحوه وقد جاء في هذا الحديث في غير مسلم أن النبي ص = غضب حين قال القائل هذا القول وجاء في الموطأ فيه يحل الله
[ 220 ]
لرسوله ما شاء والله أعلم صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب) قوله (أخبرنا عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عبن أبي بكر قال سمعت أبا هريرة يقول في قصصه من أدركه الفجر جنبا فلا يصم قال فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه فأنكر ذلك فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة فسألهما عبد الرحمن إلى آخره) هكذا هو في جميع النسخ فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه وهو صحيح مليح ومعناه ذكره أبو بكر بأبيه عبد الرحمن فقوله لأبيه بدل من عبد الرحمن باعادة حرف الجر قال القاضي ووقع في رواية ابن ماهان فذكر ذلك عبد الرحمن لأبيه وهذا غلط فاحش لأنه تصريح بأن الحارث والد عبد الرحمن هو المخاطب بذلك وهو باطل لأن هذه القصة كانت في ولاية مروان على المدينة في خلافة معاوية والحارث توفي في طاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ثمان عشرة والله أعلم قوله (عن أبي هريرة أنه قال من أدركه الفجر جنبا فلا يصم) ثم ذكر أنه حين بلغه قول عائشة وأم سلمة ان رسول الله ص كان يصبح جنبا ويتم صومه رجع أبو هريرة عن قوله مع أنه كان رواه عن الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم فلعل سبب رجوعه أنه تعارض عنده الحديثان فجمع بينهما وتأول أحدهما وهو قوله من أدركه الفجر جنبا فلا يصم وفي رواية مالك أفطر فتأوله على ما سنذكره من
[ 221 ]
الأوجه في تأويله إن شاء الله تعالى فلما ثبت عنده أن حديث عائشة وأم سلمة على ظاهره وهذا متأول رجع عنه وكان حديث عائشة وأم سلمة أولى بالاعتماد لأنهما أعلم بمثل هذا من غيرهما ولأنه موافق للقرآن فان الله تعالى أباح الأكل والمباشرة الى طلوع الفجر قال الله تعالى باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الاسدو من الفجر بالمباشرة الجماع ولهذا قال الله تعالى وابتغوا ما كتب الله لكم ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزمه منه أن يصبح جنبا ويصح صومه لقوله تعالى أتموا الصيام إلى الليل وإذا دل القرآن وفعل رسول الله ص = على جواز الصوم لمن أصبح جنبا وجب الجواب عن حديث أبي هريرة عن الفضل عن النبي ص = وجوابه من ثلاثة أوجه أحدها أنه ارشاد الى الأفضل فالافضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز وهذا مذهب أصحابنا وجوابهم عن الحديث فان قيل كيف يكون الاغتسال قبل الفجر أفضل وقد ثبت عن النبي ص = خلافه فالجواب أنه ص = فعله لبيان الجواز ويكون في حقه حينئذ أفضل لأنه يتضمن البيان للناس وهو مأمور بالبيان وهذا كما توضأ مرة مرة في بعض الأوقات بيانا للجواز ومعلوم أن الثلاث افضل وهو الذي واظب عليه وتظاهرت به الأحاديث وطاف على البعير لبيان الجواز ومعلوم أن الطواف ساعيا أفضل وهو الذي تكرر منه ص = ونظائره كثيرة والجواب الثاني لعله محمول على من أدركه الفجر مجامعا فاستدام بعد طلوع الفجر عالما فانه يفطر ولا صوم له والثالث جواب ابن المنذر فيما رواه عن البيهقي أن حديث أبي هريرة منسوخ وأنه كان في أول الأمر حين كان الجماع محرما في الليل بعد النوم كما كان الطعام والشراب محرما ثم نسخ ذلك ولم يعلمه أبو هريرة فكان يفتى بما علمه حتى بلغه الناسخ فرجع إليه قال ابن المنذر هذا أحسن ما سمعت فيه والله أعلم قولها (يصبح جنبا من غير حلم) هو بضم الحاء وبضم اللام وإسكانها وفيه دليل لمن يقول بجواز الاحتلام على
[ 222 ]
الأنبياء وفيه خلاف قدمناه الأشهر امتناعه قالوا لأنه من تلاعب الشيطان وهم منزهون عنه ويتأولون هذا الحديث على أن المراد يصبح جنبا من جماع ولا يجنب من احتلام لامتناعه منه ويكون قريبا من معنى قول الله تعالى النبيين بغير حق ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحق قوله (عزمت عليك الا ما ذهبت إلى أبي هريرة) أي أمرتك أمرا جازما عزيمة محتمة وأمر ولاة الأمور تجب طاعته في غير معصية قوله (فرد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك الى الفضل ابن العباس) فقال أبو هريرة سمعت ذلك من الفضل وفي رواية النسائي قال أبو هريرة أخبرنيه أسامة بن زيد وفي رواية أخبرنيه فلان وفلان فيحمل على أنه سمعه من الفضل واسامة أما حكم المسلة فقد أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب سواء كان من احتلام أو جماع وبه قال جماهير الصحابة والتابعين وحكى عن الحسن بن صالح ابطاله وكان عليه أبو هريرة والصحيح أنه رجع عنه كما صرح به هنا في رواية مسلم وقيل لم يرجع عنه وليس بشئ وحكى عن طاوس وعروة والنخعي أن علم بجنابته لم يصح والا فيصح وحكى مثله عن أبي هريرة وحكى أيضا عن الحسن البصري والنخعي أنه يجزيه في صوم التطوع دون الفرض وحكى عن سالم بن عبد الله والحسن البصري والحسن بن صالح يصومه ويقضيه ثم ارتفع هذا الخلاف وأجمع العلماء بعد هؤلاء على صحته كما قدمناه وفي صحة الاجماع بعد الخلاف خلاف مشهور لأهل الأصول وحديث عائشة وأم سلمة حجة على كل مخالف والله أعلم وإذا انقطع دم الحائض والنفساء في الليل ثم طلع الفجر قبل اغتسالهما صح صومهما ووجب عليهما اتمامه سواء تركت الغسل عمدا أو سهوا
[ 223 ]
بعذر أم بغيره كالجنب هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكى عن بعض السلف مما لا نعلم صح عنه أم لا قوله (أبو طوالة) هو بضم الطاء المهملة
[ 224 ]
تغليط تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (ووجوب الكفارة الكبرى فيه وبيانها وأنها تجب على الموسر والمعسر) (وتثبت في ذمة المعسر حتى يستطيع) في الباب حديث أبي هريرة في المجامع امرأته في نهار رمضان ومذهبنا ومذهب العلماء كافة وجوب الكفارة عليه إذا جامع عامدا جماعا أفسد به صوم يوم رمضان والكفارة عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب التي تضر بالعمل اضرارا بينا فان عجز عنها فصوم شهرين متتابعين فان عجز فاطعام ستين مسكينا كل مسكين مد من طعام وهو رطل وثلث بالبغدادي فان عجز عن الخصال الثلاث فللشافعي قولان أحدهما لا شئ عليه وان استطاع بعد ذلك فلا شئ عليه واحتج لهذا القول بأن حديث هذا المجامع ظاهر بأنه لم يستقر في ذمته شئ لأنه أخبر بعجزه ولم يقل له رسول الله ص =
[ 225 ]
أن الكفارة ثابتة في ذمته بل أذن له في اطعام عياله والقول الثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يمكن قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي ص = بأنه عاجز عن الخصال الثلاث ثم أتى النبي ص = بعرق التمر فأمره باخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شئ ولم يأمره باخراجه فدل على ثبوتها في ذمته وانما أذله في اطعام عياله لأنه كان محتاجا ومضطرا الى الانفاق على عياله في الحال والكفارة على التراخي فأذن له في أكله واطعام عياله وبقيت الكفارة في ذمته وانما لم يبين له بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين وهذا هو الصواب في معنى الحديث وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلات أخر ضعيفة وأما المجامع ناسيا فلا يفطر ولا كفارة عليه هذا هو الصحيح من مذهبنا وبه قال جمهور العلماء ولأصحاب مالك خلاف في وجوبها عليه وقال أحمد يفطر وتجب به الكفارة وقال عطاء وربيعة والأوزاعي والليث والثوري يجب القضاء ولا كفارة دليلنا أن الحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر والجماع في معناه وأما الأحاديث الواردة في الكفارة في الجماع فإنما هي في جماع العامد ولهذا قال في بعضها هلكت وفي بعضها احترقت احترقت وهذا لا يكون الا في عامد فان الناسي لا اثم عليه بالاجماع قوله ص = (هل تجد ما تعتق رقبة) رقبة منصوب بدل من ما قوله (فأتى النبي ص = بعرق) هو بفتح العين والراء هذا هو الصواب المشهور في الرواية واللغة وكذا حكاه القاضي عن رواية الجمهور ثم قال ورواه كثير من شيوخنا وغيرهم باسكان الراء قال والصواب الفتح ويقال للعرق والزبيل بفتح الزاي من غير نون والزنبيل بكسر الزاي وزيادة نون ويقال له القفة والمكتل بكسر الميم وفتح التاء المثناة فوق والسفيفة بفتح
[ 226 ]
السين المهملة وبالفائين قال القاضي قال ابن دريد سمى زبيلا لأنه يحمل فيه الزبل والعرق عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعا وهي ستون مدا لستين مسكينا لكل مسكين مد قوله (قال أفقر منا) كذا ضبطناه أفقر بالنصب وكذا نقل القاضي أن الرواية فيه بالنصب على ضمان فعل تقديره أتجد أفقر منا أو أتعطى قال ويصح رفعه على تقدير هل أحد أفقر منا كما قال في الحديث الآخر بعده أغيرنا كذا ضبطناه بالرفع ويصح النصب على ما سبق هذا كلام القاضي وقد ضبطنا الثاني بالنصب أيضا فهما جائزان كما سبق توجيههما قوله (فما بين لابتيها هما الحرتان والمدينة بين حرتين والحرة الأرض الملبسة حجارة سودا ويقال لايه ولو به ونوبة بالنون حكاهن أبو عبيد والجوهري ومن لا يحصى من أهل اللغة قالوا ومنه قيل للأسود لوبى ونوبى باللام والنون قالوا وجمع اللابة لوب ولاب ولابات وهي غير مهموزة قوله (وهو الزنبيل) هكذا ضبطناه بكسر الزاي وبعدها نون وقد سبق بيانه قريبا قوله (إن رجلا وقع بامرأته) كذا هو في معظم النسخ وفي
[ 227 ]
بعضها واقع امرأته وكلاهما صحيح قوله (أمر رجلا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين أو يطعم ستين مسكينا) لفظة أو هنا للتقسيم لا للتخيير تقديره يعتق أو يصوم ان عجز عن العتق أو يطعم ان عجز عنهما وتبينه الروايات الباقية وفي هذه الروايات دلالة لأبي حنيفة ومن يقول يجزي عتق كافر عن كفارة الجماع والظهار وانما يشترطون الرقبة المؤمنة في كفارة القتل لأنها منصوص على وصفها بالايمان في القرآن وقال الشافعي والجمهور يشترط الايمان في جميع الكفارات تنزيلا للمطلق على المقيد والمسألة مبينة على ذلك فالشافعي يحمل المطلق على المقيد وابو حنيفة يخالفه قوله (احترقت) فيه استعمال المجاوز وأنه لا انكار على مستعمله قوله ص = (تصدق تصدق) هذا التصدق مطلق وجاء مقيدا في الروايات السابقة اطعام ستين مسكينا وذلك ستون مدا وهي خمسة عشر صاعا
[ 228 ]
قوله (فجاءه عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق به) هذا أيضا مطلق محمول على المقيد كما سبق قوله ص = (هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين) فيه حجة لمذهبنا ومذهب الجمهور وأجمع عليه في الاعصار المتأخرة وهو اشتراط التتابع في صيام هذين الشهرين حكى عن ابن أبي ليلى أنه لا يشترطه قوله ص = (تطعم ستين مسكينا) فيه حجة لنا وللجمهور وأجمع عليه
[ 229 ]
العلماء في الاعصار المتأخرة وهو اشتراط طعام ستين مسكينا وحكى عن الحسن البصري أنه اطعام أربعين مسكينا عشرين صاعا ثم جمهور المشترطين ستين قالو لكل مسكين مد وهو ربع صاع وقال أبو حنيفة والثوري لكل مسكين نصف صاع جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (إذا كان سفره مرحلتين فأكثر وأن الأفضل لمن أطاقه بلا ضرر أن يصوم) (ولمن يشق عليه أن يفطر) اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر فقال بعض أهل الظاهر لا يصح صوم رمضان في السفر فان صامه لم ينعقد ويجب قضاؤه لظاهر الآية ولحديث ليس من البر الصيام في السفر وفي الحديث الآخر أولئك العصاة وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى يجوز صومه في السفر وينعقد ويجزيه واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر فان تضرر به فالفطر أفضل واحتجوا بصوم النبي ص = وعبد الله بن رواحة وغيرهما وبغير ذلك من الأحاديث ولأنه يحصل به براءة الذمة في الحال وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي وأحمد واسحاق وغيرهم الفطر أفضل مطلقا وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي وهو غريب واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر وبحديث حمزة بن عمرو الأسلمي المذكور في مسلم في آخر الباب وهو قوله ص = هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وظاهره ترجيح الفطر وأجاب الأكثرون بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح في الأحاديث واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدرى المذكور في الباب قال كنا نغزو مع رسول الله ص = في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر ولا
[ 230 ]
المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فان ذلك حسن ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فان ذلك حسن وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة وقال بعض العلماء الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث والصحيح قول الأكثرين والله أعلم قوله (خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر) يعنى بالفتح فتح مكة وكان سنة ثمان من الهجرة والكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة وهي عين جارية بينها وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينها وبين مكة قريب من مرحلتين وهي أقرب إلى المدينة من عسفان قال القاضي عياض الكديد عين جارية على اثنين وأربعين ميلا من مكة قال وعسفان قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلا من مكة قال والكديد ما بينها وبين قديد وفي الحديث الآخر فصام حتى بلغ كراع الغميم وهو بفتح الغين المعجمة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع وهو جبل أسود متصل به والكراع كل أنف سال من جبل أو حرة قال القاضي وهذا كله في سفر واحد في غزاة الفتح قال وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها وان كانت عسفان متباعدة شيئا عن هذه المواضع لكنها كلها مضافة إليها ومن عملها فاشتمل اسم عسفان عليها قال وقد يكون علم حال الناس ومشقتهم في بعضها فأفطر وامرهم بالفطر في بعضها هذا كلام القاضي وهو كما قال الا في مسافة عسفان فان المشهور أنها على أربعة برد من مكة وكل بريد اربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال فالجملة ثمانية وأربعون ميلا هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الجمهور قوله (فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر) فيه دليل لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان وفيه أن المسافر له أن يصوم بعض رمضان دون بعض ولا يلزمه بصوم بعضه اتمامه وقد غلط بعض العلماء في فهم هذا الحديث فتوهم أن الكديد وكراع الغميم قريب من المدينة وأن قوله فصام حتى بلغ الكديد وكراع الغميم كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة فزعم أنه خرج من المدينة صائما فلما بلغ كراع الغميم في يومه افطر في نهار واستدل به
[ 231 ]
هذا القائل على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائما له أن يفطر في يومه ومذهب الشافعي والجمهور أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم وانما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السفر واستدلال هذا القائل بهذا الحديث من العجائب الغريبة لأن الكديد وكراع الغميم على سبع مراحل أو أكثر من المدينة والله أعلم قوله (وكان صحابة رسول الله ص = يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ص =) هذا محمول على ما علموا منه النسخ أو رجحان الثاني مع جوازهما والا فقد طاف ص = على بعيره وتوضأ مرة مرة ونظائر ذلك من الجائزات التي عملها مرة أو مرات قليلة لبيان جوازها وحافظ
[ 232 ]
على الأفضل منها قوله (قال ابن عباس فصام رسول الله ص = وأفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر) فيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعا قوله (فقيل له بعد ذلك أن بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة أولئك العصاة) هكذا هو مكرر مرتين وهذا محمول على من تضرر بالصوم أو أنهم أمروا بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه
[ 233 ]
فخالفوا الواجب وعلى التقديرين لا يكون الصائم اليوم في السفر عاصيا إذا لم يتضرر به ويؤيد التأويل الأول قوله في الرواية الثانية إن الناس قد شق عليهم الصيام قوله (كان رسول الله ص = في سفر فرأى رجلا قد اجتمع عليه الناس وقد ظلل عليه فقال ماله قالوا رجل صائم فقال رسول الله ص = ليس من البر أن تصوموا في السفر) معناه إذا شق عليكم وخفتم الضرر وسياق الحديث يقتضى هذا التأويل وهذه الرواية مبينة للروايات المطلقة ليس من البر الصيام في السفر ومعنى الجميع فيمن تضرر بالصوم قوله في حديث محمد بن رافع (فصبح رسول الله ص = مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان) ثم ذكر عن أبي سعيد قال غزونا مع رسول الله ص = لست عشرة مضت من رمضان وفي رواية
[ 234 ]
لثمان عشرة خلت وفي رواية في ثنتى عشرة وفي رواية لسبع عشرة أو تسع عشرة والمشهور في كتب المغازى أن رسول الله ص = خرج في غزوة الفتح من المدينة لعشر خلون من رمضان ودخلها لتسع عشرة خلت منه ووجه الجمع بين هذه الروايات أن
[ 236 ]
قوله (فتحزم المفطرون) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا فتحزم بالحاء المهملة والزاي وكذا نقله القاضي عن أكثر رواة صحيح مسلم قال ووقع لبعضهم فتخدم بالخاء المعجمة والدال المهملة قال وادعوا أنه صواب الكلام لأنهم كانوا يخدمون قال القاضى والأول صحيح أيضا ولصحته ثلاثة أوجه أحدها معناه شدوا أوساطهم للخدمة والثاني أنه استعارة للاجتهاد في الخدمة ومنه إذا دخل العشر اجتهد وشد المئزر والثالث أنه من الحزم وهو الاحتياط والأخذ بالقوة والاهتمام بالمصلحة قوله (وهو مكثور
[ 237 ]
عليه) أي عنده كثيرون من الناس قوله في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي (يا رسول الله انى رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال صم ان شئت وأفطر ان شئت) فيه دلالة لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان وأما الأفضل منهما فحكمه ما سبق في أول الباب وفيه دلالة لمذهب الشافي وموافقيه أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضررا ولا يفوت به حقا بشرط فطر يومى العيدين والتشريق لأنه أخبر بسرده ولم ينكر عليه بل أقره عليه وأذن له فيه في السفر ففي الحضر أولى وهذا محمول على أن حمزة بن عمرو كان يطيق السرد بلا ضرر ولا تفويت حق كما قال في الرواية التي بعدها أجد بي قوة على الصيام وأما انكاره ص على ابن عمرو بن العاص صوم الدهر فلأنه علم ص = أنه سيضعف عنه وهكذا جرى فانه ضعف في آخر عمره وكان يقول يا ليتنى قبلت رخصة رسول الله ص = وكان رسول الله ص = يحب العمل الدائم وان قل ويحثهم عليه قوله (عن أبي مراوح)
[ 238 ]
هو بضم الميم وكسر الواو وبالحاء المهملة واسمه سعد