شرح مسلم
النووي ج 2
[ 1 ]
صحيح مسلم بشرح النووي صحيح مسلم بشرح النوي الجزء الثاني الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان 1407 ه - 1987 م دار الكتاب العربي الرملة البيضاء - ملكارت سنتر - الطابق الرابع - تلفون 800832 - 800811 - 805478 تلكس : 40139 . L . E كتاب . برقيا : الكتاب ص . ب : 5769 - 11 - بيروت - لبنان
[ 2 ]
باب الدليل على أن من رضى بالله ربا وبالاسلام دينا (وبمحمد ص = رسولا فهو مؤمن وان ارتكب المعاصي الكبائر) قوله ص = (ذاق طعم الايمان من رضى بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد ص = رسولا) قال صاحب التحرير رحمه الله معنى رضيت بالشئ قنعت به واكتفيت به ولم أطلب معه غيره فمعنى الحديث لم يطلب غير الله تعالى ولم يسع في غير طريق الاسلام ولم يسلك الا ما يوافق شريعة محمد ص = ولا شك في أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الايمان الى قلبه وذاق طعمه وقال القاضى عياض رحمه الله معنى الحديث صح ايمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه لان رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطة بشاشته قبله لأن من رضى أمرا سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الايمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له والله أعلم وفي الاسناد الدراوردى وقد تقدم بيانه في المقدمة وفيه يزيد بن عبد الله بن الهاد هو يزيد بن عبد الله ابن أسامة بن الهاد هكذا يقوله المحدثون الهاد من غير ياء والمختار عند أهل العربية فيه وفى
[ 3 ]
نظائره بالياء كالعاصي وابن أبى الموالى والله أعلم وهذا الحديث من أفراد مسلم رحمه الله لم يروه البخاري رحمه الله في صحيحه باب بيان عدد شعب الايمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء (وكونه من الايمان) قوله (أبو عامر العقدى) هو بفتح العين والقاف واسمه عبد الملك بن عمرو بن قيس وقد تقدم بيانه واضحا في أول المقدمة في باب النهى عن الرواية عن الضعفاء قوله ص = (الايمان بضع وسبعون شعبة) هكذا رواه عن أبى عامر العقدى عن سليمان ابن بلال عن عبد الله بن دينار عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبي ص = وفي رواية زهير عن جرير عن سهيل عن عبد الله بن دينار عن ابى صالح عن أبى هريرة بضع وسبعون أو بضع وستون كذا وقع في مسلم من رواية سهيل بضع وسبعون أو بضع وستون على الشك ورواه البخاري في أول الكتاب من رواية العقدى بضع وستون بلا شك ورواه أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية سهيل بضع وسبعون بلا شك ورواه الترمذي من طريق آخر وقال فيه أربعة وستون بابا واختلف العلماء في الراجحة من الروايتين فقال القاضى عياض الصواب ما وقع في سائر الاحاديث ولسائر الرواة بضع وستون وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى هذا الشك الواقع في رواية سهيل هو من سهيل كذا قاله الحافظ أبو بكر البيهقى رحمه الله وقد روى عن سهيل بضع وسبعون من غير شك وأما سليمان ابن بلال فانه رواه عن عمرو بن دينار على القطع من غير شك وهي الرواية الصحيحة أخرجاها في الصحيحين غير أنها فيما عندنا من كتاب مسلم بضع وسبعون وفيما عندنا من كتاب
[ 4 ]
البخاري بضع وستون وقد نقلت كل واحدة عن كل واحد من الكتابين ولا أشكال في أن كل واحدة منهما رواية معروفة في طرق روايات هذا الحديث واختلفوا في الترجيح قال والأشبه بالاتقان والاحتياط ترجيح رواية الأقل قال ومنهم من رجح رواية الاكثر واياها اختار أبو عبد الله الحليمى فان الحكم لمن حفظ الزيادة جازما بها قال الشيخ ثم ان الكلام في تعيين هذه الشعب يطول وقد صنفت في ذلك مصنفات ومن أغزرها فوائد كتاب المنهاج لأبى عبد الله الحليمى امام الشافعيين ببخارى وكان من رفعاء أئمة المسلمين وحذا حذوه الحافظ أبو بكر البيهقى رحمه الله في كتابه الجليل الحفيل كتاب شعب الايمان هذا كلام الشيخ قال القاضى عياض رحمه الله البضع والبضعة بكسر الباء فيهما وفتحها هذا في العدد فاما بضعة اللحم فبالفتح لاغير والبضع في العدد ما بين الثلاث والعشر وقيل من ثلاث الى تسع وقال الخليل البضع سبع وقيل ما بين اثنين الى عشرة وما بين اثنى عشر الى عشرين ولا يقال في اثنى عشر قلت وهذا القول هو الأشهر الأظهر وأما الشعبة فهى القطعة من الشئ فمعنى الحديث بضع وسبعون خصلة قال القاضى عياض رحمه الله وقد تقدم أن أصل الايمان في اللغة التصديق وفي الشرع تصديق القلب واللسان وظواهر الشرع تطلقه على الأعمال كما وقع هنا أفضلها لا اله الا الله وآخرها اماطة الاذى عن الطريق وقد قدمنا أن كمال الايمان بالأعمال وتمامه بالطاعات وأن التزام الطاعات وضم هذه الشعب من جملة التصديق ودلائل عليه وأنها خلق أهل التصديق فليست خارجة عن اسم الايمان الشرعي ولا اللغوى وقد نبه ص = على أن أفضلها التوحيد المتعين على كل أحد والذى لا يصح شئ من الشعب الا بعد صحته وأدناها ما يتوقع ضرره بالمسلمين من اماطة الاذى عن طريقهم وبقى بين هذين الطرفين اعداد لو تكلف المجتهد تحصيلها بغلبة الظن وشدة التتبع لامكنه وقد فعل ذلك بعض من تقدم وفي الحكم بأن ذلك مراد النبي ص = صعوبة ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها ولا يقدح جهل ذلك في الايمان إذ أصول الايمان وفروعه معلومة محققة والايمان بأنها هذا العدد واجب في الجملة هذا كلام القاضى رحمه الله وقال الامام الحافظ أبو حاتم بن حبان بكسر الحاء تتبعت معنى هذا الحديث مدة وعددت الطاعات فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئا كثيرا فرجعت الى السنن فعددت كل طاعة عدها رسول الله ص = من الايمان فإذا هي تنقص
[ 5 ]
عن البضع والسبعين فرجعت الى كتاب الله تعالى فقرأته بالتدبر وعددت كل طاعة عدها الله تعالى من الايمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين فضممت الكتاب الى السنن وأسقطت المعاد فإذا كل شئ عده الله تعالى ونبيه ص = من الإيمان تسع وتسعون شعبة لا يزيد عليها ولا تنقص فعلمت أن مراد النبي ص = أن هذا العدد في الكتاب والسنن وذكر أبو حاتم رحمه الله جميع ذلك في كتاب وصف الايمان وشعبه وذكر أن رواية من روى بضع وستون شعبة أيضا صحيحة فان العرب قد تذكر للشئ عددا ولا تريد نفى ما سواه وله نظائر أوردها في كتابه منها في أحاديث الايمان والاسلام والله تعالى أعلم قوله (والحياء شعبة من الايمان) وفي الرواية الاخرى الحياء من الايمان وفي الاخرى الحياء لا يأتي الا بخير وفي الاخرى الحياء خير كله أو قال كله خير الحياء ممدود وهو الاستحياء قال الامام الواحدى رحمه الله تعالى قال أهل اللغة الاستحياء من الحياة واستحيا الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع الغيب قال فالحياء من قوة الحس ولطفه وقرة الحياة وروينا في رسالة الامام الاستاذ أبى القاسم القشيرى عن السيد الجليل أبى القاسم الجنيد رضى الله عنه قال الحياء رؤية الآلاء أي النعم ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء وقال القاضى عياض وغيره من الشراح انما جعل الحياء من الايمان وان كان غريزة لانه قد يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج الى اكتساب ونية وعلم فهو من الايمان بهذا ولكونه باعثا على أفعال البر ومانعا من المعاصي وأما كون الحياء خيرا كله ولا يأتي الا بخير فقد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحى أن يواجه بالحق من يجله فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وقد يحمله الحياء على الاخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الائمة منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله أن هذا المانع الذى ذكرناه ليس بحياء حقيقة بل هو عجز وخور ومهانة وإنما تسميته حياء من اطلاق بعض أهل العرف أطلقوه ومجازا لمشابهته الحياء
[ 6 ]
الحقيقي وانما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذى الحق ونحو هذا ويدل عليه ما ذكرناه عن الجنيد رضى الله عنه والله أعلم قوله ص = (وأدناها اماطة الاذى عن الطريق) أي تنحيته وابعاده والمراد بالأذى كل ما يؤذى من حجر أو مدر أو شوك أو غيره قوله (يعظ أخاه في الحياء) أي ينهاه عنه ويقبح له فعله ويزجره عن كثرته فنهاه النبي ص = عن ذلك فقال دعه فان الحياء من الايمان أي دعه على فعل الحياء وكف عن نهيه ووقعت لفظة دعه في البخاري ولم تقع في مسلم قول مسلم رحمه الله (حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد ابن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أبا السوار يحدث أنه سمع عمران بن الحصين) وقال مسلم في الطريق الثاني حدثنا يحيى بن حبيب الحارثى حدثنا حماد بن زيد عن اسحاق وهو ابن سويد أن أبا قتادة حدث قال كنا عند عمران بن الحصين في رهط فحدثنا الى آخره هذان الاسنادان كلهم بصريون وهذا من النفائس اجتماع الاسنادين في الكتاب
[ 7 ]
متلاصقين جميعهم بصريون وشعبة وان كان واسطيا فهو بصرى أيضا فكان واسطيا بصريا فانه انتقل من واسط الى البصرة واستوطنها وأما أبو السوار فهو بفتح السين المهملة وتشديد الواو وآخره راء واسمه حسان بن حريث العدوى وأما أبو قتادة هذا فاسمه تميم بن نذير بضم النون وفتح الذال المعجمة العدوى ويقال تميم بن الزبير ويقال ابن يزيد بالزاى ذكره الحاكم أبو أحمد وأما الرهط فهو ما دون العشرة من الرجال خاصة لا يكون فيهم امرأة وليس له واحد من اللفظ والجمع أرهط وأرهاط وأراهط وأراهيط قوله (فقال بشير بن كعب إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله تعالى ومنه ضعف فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال أنا أحدثك عن رسول الله ص = وتعارض فيه الى قوله فمازلنا نقول انه منا يا أبا نجيد انه لا بأس به) أما بشير فبضم الباء وفتح الشين وقد تقدم بيانه وبيان أمثاله في آخر الفصول وقد تقدم هو أيضا في أول المقدمة وأما نجيد فبضم النون وفتح الجيم وآخره دال مهملة وأبو نجيد هو عمران بن الحصين كنى بابنه نجيد وأما الضعف فبفتح الضاد وضمها لغتان مشهورتان وقوله حتى احمرتا عيناه كذا هو
[ 8 ]
في الاصول وهو صحيح جار على لغة أكلوني البراغيث ومثله النجوى الذين ظلموا على أحد المذاهب فيها ومثله يتعاقبون فيكم ملائكة وأشباهه كثيرة معروفة ورويناه في سنن أبى داود واحمرت عيناه من غير ألف وهذا ظاهر وأما انكار عمران رضى الله عنه فلكونه قال منه ضعف بعد سماعه قول النبي ص = أنه خير كله ومعنى تعارض تأتى بكلام في مقابلته وتعترض بما يخالفه وقولهم أنه منا لا بأس به معناه ليس هو ممن يتهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة والله أعلم قول مسلم رحمه الله (أنبأنا اسحاق ابن ابراهيم أنبأنا النضر حدثنا أبو نعامة العدوى قال سمعت حجير بن الربيع العدوى يقول عن عمران بن الحصين) هذا الاسناد أيضا كله بصريون الا اسحاق فانه مروزى فأما النضر فهو أبن شميل الامام الجليل وأما أبو نعامة فبفتح النون واسمه عمرو بن عيسى بن سويد وهو من الثقات الذين اختلطوا قبل موتهم وقد قدمنا في الفصول وبعدها أن ما كان في الصحيحين عن المختلطين فهو محمول على أنه علم أنه أخذ عنهم قبل الاختلاط وأما حجير فبضم الحاء وبعدها جيم مفتوحة وآخره راء والله أعلم بالصواب وله الحمد والمنة باب جامع أوصاف الاسلام قوله (قلت يا رسول الله قل لي في الاسلام قولا لا أسأل عنه غيرك قال قل آمنت بالله ثم استقم)
[ 9 ]
قال القاضى عياض رحمه الله هذا من جوامع كلمه ص = وهو مطابق لقوله تعالى ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا أي وحدوا الله وآمنوا به ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد والتزموا طاعته سبحانه وتعالى الى أن توفوا على ذلك وعلى ما ذكرناه أكثر المفسرين من الصحابة فمن بعدهم وهو معنى الحديث ان شاء الله تعالى هذا آخر كلام القاضى رحمه الله وقال ابن عباس رضى الله عنهما قى قول الله تعالى كما أمرت ما نزلت على رسول الله ص = في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ولذلك قال ص = لأصحابه حين قالوا قد أسرع اليك الشيب فقال شيبتني هود وأخواتها قال الاستاد أبو القاسم القشيرى في رسالته الاستقامة درجة بها كمال الامور وتمامها وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع سعيه وخاب جهده قال وقيل الاستقامة لا يطيقها الا الاكابر لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدى الله تعالى على حقيقة الصدق ولذلك قال ص = استقيموا ولن تحصوا وقال الواسطي الخصلة التي بها كملت المحاسن وبفقدها قبحت المحاسن والله أعلم ولم يرو مسلم رحمه الله في صحيحه لسفيان بن عبد الله الثقفي راوي هذا الحديث عن النبي ص = شيئا وروى الترمذي هذا الحديث وزاد فيه قلت يا رسول الله ما أخوف ما أخاف على فأخذ بلسان نفسه ثم قال هذا والله أعلم باب بيان تفاضل الاسلام وأى أموره أفضل فيه (عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله ص = أي الاسلام
[ 10 ]
خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) وفي رواية أي المسلمين خير قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وفي رواية جابر المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده قال العلماء رحمهم الله قوله أي الاسلام خير معناه أي خصاله وأموره وأحواله قالوا وإنما وقع اختلاف الجواب في خير المسلمين لاختلاف حال السائل والحاضرين فكان في أحد الموضعين الحاجة الى افشاء السلام واطعام الطعام أكثر وأهم لما حصل من اهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك وفي الموضع الآخر الى الكف عن ايذاء المسلمين وقوله ص = (من سلم المسلمون من لسانه ويده) معناه من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل وخص اليد بالذكر لأن معظم الافعال بها وقد جاء القرآن العزيز باضافة الاكتساب والافعال إليها لما ذكرناه والله تعالى أعلم وقوله ص = من سلم المسلمون من لسانه ويده قالوا معناه المسلم الكامل وليس المراد نفى أصل الاسلام عن من لم يكن بهذه الصفة بل هذا كما يقال العلم ما نفع أو العالم زيد أي الكامل أو المحبوب وكما يقال الناس العرب والمال الابل فكله على التفضيل لا للحصر ويدل على ما ذكرناه من معنى الحديث قوله أي المسلمين خير قال من سلم المسلمون من لسانه ويده ثم أن كمال الاسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة وانما خص ما ذكر لما ذكرناه من الحاجة الخاصة والله أعلم ومعنى تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف أي تسلم على كل من لقيته عرفته أم لم تعرفه ولا تخص به من تعرفه كما يفعله كثيرون من الناس ثم ان هذا العموم مخصوص بالمسلمين فلا يسلم ابتداء على كافر وفى هذه الاحاديث جمل من العلم ففيها الحث على اطعام الطعام والجود والاعتناء بنفع المسلمين والكف عما يؤذيهم بقول
[ 11 ]
أو فعل مباشرة أو سبب والامساك عن احتقارهم وفيها الحث على تألف قلوب المسلمين واجتماع كلمتهم وتوادهم واستجلاب ما يحصل ذلك قال القاضى رحمه الله والالفة احدى فرائط الدين وأركان الشريعة ونظام شمل الاسلام قال وفيه بذل السلام لمن عرفت ولمن لم تعرف واخلاص العمل فيه لله تعالى لا مصانعة ولا ملقا وفيه مع ذلك استعمال خلق التواضع وافشاء شعار هذه الامة والله تعالى أعلم وأما أسماء رجال الباب فقال مسلم رحمه الله في الاسناد الاول وحدثنا محمد بن رمح بن المهاجر حدثنا الليث عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير عن عبد الله ابن عمرو يعنى ابن العاصى قال مسلم رحمه الله وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو المصرى أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما وهذان الاسنادان كلهم مصريون أئمة جلة وهذا من عزيز الاسانيد في مسلم بل في غيره فإن اتفاق جميع الرواة في كونهم مصريين في غاية القلة ويزداد قلة باعتبار الجلالة فأما عبد الله ابن عمرو بن العاصى رضى الله عنهما فجلالته وفقهة وكثرة حديثه وشدة ورعة وزهادته واكثاره من الصلاة والصيام وسائر العبادات وغير ذلك من أنواع الخير فمعروفة مشهورة لا يمكن استقصاؤها فرضى الله عنه وأما أبو الخير بالخاء المعجمة واسمه مرثد بالمثلثة ابن عبد الله اليزنى بفتح المثناة تحت والزاى منسوب الى يزن بطن من حمير قال أبو سعيد بن يونس كان أبو الخير مفتى أهل مصر في زمانه مات سنة سبعين من الهجرة وأما يزيد بن أبى حبيب فكنيته أبو رجاء وهو تابعي قال ابن يونس وكان مفتى أهل مصر في زمانه وكان حليما عاقلا وكان أول من أظهر العلم بمصر والكلام في الحلال والحرام وقبل ذلك كانوا يتحدثون بالفتن والملاحم والترغيب في الخير وقال الليث بن سعد يزيد سيدنا وعالمنا واسم أبى حبيب سويد وأما الليث بن سعد رضى الله عنه فامامته وجلالته وصيانته وبراعته وشهادة أهل عصره سخائه وسيادته وغير ذلك من جميل حالاته أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر ويكفى في جلالته شهادة الامامين الجليلين الشافعي وابن بكير رحمهما الله تعالى أن الليث أفقه من مالك رضى الله عنهم أجمعين فهذان صاحبا مالك رحمه الله وقد شهدا بما شهدا وهم بالمنزلة المعروفة من الاتقان والورع واجلال مالك ومعرفتها باحواله هذا كله مع ما قد علم من جلالة مالك وعظم فقهه رضى الله عنه قال محمد بن رمح كان دخل الليث ثمانين ألف دينار ما أوجب
[ 12 ]
الله تعالى عليه زكاة قط وقال قتيبة لما قدم الليث أهدى له مالك من طرف المدينة فبعث إليه الليث ألف دينار وكان الليث مفتى أهل مصر في زمانه وأما محمد بن رمح فقال ابن يونس هو ثقة ثبت في الحديث وكان أعلم الناس بأخبار البلد وفقهه وكان إذا شهد في كتاب دار علم أهل البلد أنها طيبة الاصل وذكره النسائي فقال ما أخطأ في حديث ولو كتب عن مالك لأثبته في الطبقة الاولى من أصحاب مالك وأثنى عليه غيرهما والله أعلم وأما عبد الله بن وهب فعلمه وورعه وزهده وحفظه واتقانه وكثرة حديثه واعتماد أهل مصر عليه وأخبارهم بأن حديث أهل مصر وما والاها يدور عليه فكله أمر معروف مشهور في كتب أئمة هذا الفن وقد بلغنا عن مالك بن أنس رضى الله عنه أنه يكتب الى أحد وعنونه بالفقه الا الى ابن وهب رحمه الله وأما عمرو بن الحرث فهو مفتى اهل مصر في زمنه وقاريهم قال أبو زرعة رحمه الله لم يكن له نظير في الحفظ في زمنه وقال أبو حاتم كان أحفظ الناس في زمانه وقال مالك بن أنس عمرو ابن الحرث درة الغواص وقال هو مرتفع الشان وقال ابن وهب سمعت من ثلثمائة وسبعين شيخا فما رأيت أحفظ من عمرو بن الحرث رحمه الله والله أعلم قوله في الاسناد الآخر (أبو عاصم عن ابن جريج عن أبى الزبير) أما أبو عاصم فهو الضحاك بن مخلد وأما ابن جريج
[ 13 ]
فهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وأما أبو الزبير فهو محمد بن مسلم بن تدرس وقد تقدم بيانهم وفي الاسناد الآخر أبو بردة عن أبى بردة عن أبى موسى فأبو بردة الاول اسمه بريد بضم الموحدة وقد سماه في الرواية الاخرى وأبو بردة الثاني اختلف في اسمه فقال الجمهور اسمه عامر وقال يحيى بن معين في احدى الروايتين عنه عامر كما قال الجمهور وفي الاخرى الحارث وأما أبو موسى فهو الاشعري واسمه عبد الله بن قيس وانما نقصد بذكر مثل هذا وان كان عند أهل هذا الفن من الواضحات المشهورات التي لا حاجة الى ذكرها لكون هذا الكتاب ليس مختصا بالفضلاء بل هو موضوع لافادة من لم يتمكن في هذا الفن والله تعالى أعلم بالصواب باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الايمان قوله ص = (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان من كان الله ورسوله احب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لايحبه الا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) وفي رواية من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا هذا حديث عظيم أصل من أصول الاسلام قال العلماء رحمهم الله معنى حلاوة الايمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضى الله عز وجل ورسوله ص = وايثار ذلك على عرض الدنيا ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك محبة رسول الله ص = قال القاضى رحمه الله هذا الحديث بمعنى الحديث المتقدم ذاق طعم الايمان من رضى بالله
[ 14 ]
ربا وبالاسلام دينا وبمحمد ص = رسولا وذلك أنه لا يصح المحبة لله ورسوله ص = حقيقة وحب الآدمى في الله ورسوله ص = وكراهة الرجوع الى الكفر الا لمن قوى بالايمان يقينه واطمأنت به نفسه وانشرح له صدره وخالط لحمه ودمه وهذا هو الذى وجد حلاوته قال والحب في الله من ثمرات حب الله قال بعضهم المحبة مواطأة القلب على ما يرضى الرب سبحانه فيحب ما أحب ويكره ما كره هو اختلفت عبارات المتكلمين في هذا الباب بما لا يؤول الى اختلاف الا في اللفظ وبالجملة أصل المحبة الميل الى ما يوافق المحب ثم الميل قد يكون لما يستلذه الانسان ويستحسنه كحسن الصورة والصوت والطعام ونحوها وقد يستلذه بعقله للمعانى الباطنة كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقا وقد يكون لاحسانه إليه ودفعه المضار والمكاره عنه وهذه المعاني كلها موجودة في النبي ص = لما جمع من جمال الظاهر والباطن وكمال خلال الجلال وأنواع الفضائل واحسانه الى جميع المسلمين بهدايته اياهم الى الصراط المستقيم ودوام النعم والابعاد من الجحيم وقد أشار بعضهم الى ان هذا متصور في حق الله تعالى فان الخير كله منه سبحانه وتعالى قال مالك وغيره المحبة في الله من واجبات الاسلام هذا كلام القاضى رحمه الله وأما قوله ص = يعود أو يرجع فمعناه يصير وقد جاء العود والرجوع بمعنى الصيرورة وأما أبو قلابة المذكور في الاسناد
[ 15 ]
فهو بكسر القاف وتخفيف اللام وبالباء الموحدة واسمه عبد الله بن زيد وأما قول مسلم حدثنا ابن مثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس رضى الله عنه فهذا اسناد كله بصريون وقد قدمنا أن شعبة واسطى بصرى والله تعالى أعلم بالصواب باب وجوب محبة رسول الله ص = أكثر من الأهل (والوالد والوالد والناس أجمعين واطلاق عدم الايمان على من لم يحبه هذه المحبة) قوله ص = (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين) وفي الرواية الاخرى من ولده ووالده والناس أجمعين قال الامام أبو سليمان الخطابى لم يرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار لان حب الاسان نفسه طبع ولا سبيل الى قلبه قال فمعناه لا تصدق في حبى حتى تفنى في طاعتي نفسك وتؤثر رضاى على هواك وان كان فيه هلاكك هذا كلام الخطابى وقال ابن بطال والقاضى عياض وغيرهما رحمة الله عليهم المحبة ثلاثة أقسام محبة اجلال واعظام كمحبة الوالد ومحبة شفقة ورحة كمحبة الولد ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس فجمع ص = أصناف المحبة في محبته قال ابن بطال رحمه الله ومعنى
[ 16 ]
الحديث أن من استكمل الايمان علم ان حق النبي ص = آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين لان به ص = استنقذنا من النار وهدينا من الضلال قال القاضى عياض رحمه الله ومن محبته ص = نصرة سنته والذب عن شريعته وتمنى حضور حياته فيبذل ماله ونفسه دونه قال وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الايمان لا يتم الا بذلك ولا يصح الايمان الا بتحقيق اعلاء قدر النبي ص = ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن هذا كلام القاضى رحمه الله والله أعلم وأما اسناد هذا الحديث فقال مسلم رحمه الله (وحدثنا شيبان بن أبى شيبة حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس قال مسلم (وحدثنا محمد بن مثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس) وهذان الاسنادان رواتهما بصريون كلهم وشيبان بن أبى شيبة هذا هو شيبان بن فروج الذى روى عنه مسلم في مواضع كثيرة والله أعلم بالصواب باب الدليل على أن من خصال الايمان (أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير) قوله ص = (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه) هكذا هو في مسلم لأخيه أو لجاره على الشك وكذا هو في مسند عبد بن حميد على الشك وهو في البخاري وغيره لأخيه من غير الشك قال العلماء رحمهم الله معناه لا يؤمن الايمان التام والا فأصل الايمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث حتى يحب لأخيه من الخير
[ 17 ]
ما يحب ثلنفسه قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك إذ معناه لا يكمل ايمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الاسلام مثل ما يحب لنفسه والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئا من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم وانما يعسر على القلب الدغل عافانا الله واخواننا أجمعين والله أعلم وأما اسناده فقال مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن مثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد ابن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس وهؤلاء كلهم بصريون والله اعلم باب بيان تحريم ايذاء الجار قوله ص = (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) البواق جمع بائقة وهي الغائلة والداهية والفتك وفى معنى لا يدخل جوابان يجريان في كل ما أشبه هذا احدهما أنه محمول على من يستحل الايذاء مع علمه بتحريمه فهذا كافر لا يدخلها أصلا والثانى معناه جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم بل يؤخر ثم قد يجازى وقد يعفى عنه فيدخلها أولا وانما تأولنا هذين التأويلين لأنا قدمنا أن مذهب أهل الحق أن من مات على التوحيد مصرا على الكبائر فهو الى الله تعالى ان شاء عفا عنه فادخله الجنة أولا وان شاء عاقبه ثم أدخله الجنة والله اعلم
[ 18 ]
باب الحث على اكرام الجار والضيف ولزوم الصمت (الا عن الخير وكون ذلك كله من الايمان) قوله ص = (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وفى الرواية الأخرى فلا يؤذى جاره قال أهل اللغة يقال صمت يصمت بضم الميم صمتا وصموتا وصمات أي سكت قال الجوهرى ويقال أصمت بمعنى صمت والتصميت السكوت والتصميت أيضا التسكيت قال القاضى عياض رحمه الله معنى الحديث ان من التزم شرائع الاسلام لزمه اكرام جاره وضيفه وبرهما وكل ذلك تعريف بحق الجار وحث على حفظه وقد أوصى الله تعالى بالاحسان إليه في كتابه العزيز وقال ص = ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه والضيافة من آداب الاسلام وخلق النبيين والصالحين وقد أوجبها الليث ليلة واحدة واحتج بالحديث ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم وبحديث عقبة ان نزلتم بقوم فأمروا لكم بحق الضيف فاقبلوا وان لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذى ينبغى لهم وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الاخلاق وحجتهم قوله ص = جائزته يوم وليلة والجائزة العطية والمنحة والصلة وذلك لا يكون الا مع الاختيار وقوله ص = فليكرم وليحسن يدل على هذا أيضا إذ ليس يستعمل مثله في الواجب مع أنه مضموم الى الاكرام للجار والاحسان إليه وذلك غير واجب وتأولوا الأحاديث أنها كانت في أول الاسلام إذ كانت المواساة واجبة واختلفوا هل الضيافة على الحاضر والبادى أم على البادى خاصة فذهب
[ 19 ]
الشافعي رضى الله عنه ومحمد بن الحكم الى انها عليهما وقال مالك وسحنون انما ذلك على أهل البوادى لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول وما يشترى من المأكل في الاسواق وقد جاء في حديث الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر لكن هذا الحديث عند أهل المعرفة موضوع وقد تتعين الضيافة لمن اجتاز محتاجا وخيف عليه وعلى أهل الذمة إذا اشترطت عليهم هذا كلام القاضى وأما قوله ص = فليقل خيرا أو ليصمت فمعناه أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه واجبا أو مندوبا فليتكلم وان لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه مندوبا الى الامساك عنه مخافة من انجراره الى المحرم أو المكروه وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا وقد قال الله تعالى يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد واختلف السلف والعلماء في أنه هل يكتب جميع ما يلفظ به العبد وان كان مباحا لا ثواب فيه ولا عقاب لعموم الآية أم لا يكتب الا ما فيه جزاء من ثواب أو عقاب والي الثاني ذهب ابن عباس رضي الله عنها وغيره من العلماء وعلى هذا تكون الآية مخصوصة أي ما يلفظ من قول يترتب عليه جزاء وقد وقد ندب الشرع الى الامساك عن كثير من المباحات لئلا ينجر صاحبها الى المحرمات أو المكروهات وقد أخذ الامام الشافعي رضى الله عنه معنى الحديث فقال إذا أراد أن يتكلم فليفكر فان ظهر له أنه لا ضرر عليه تكلم وان ظهر له فيه ضرر أوشك فيه أمسك وقد قال الامام الجليل أبو محمد عبد الله بن أبى زيد امام المالكية بالمغرب في زمنه جماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث قول النبي ص = من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وقوله ص = من حسن اسلام المرء تركه مالا يعنيه وقوله ص = للذى اختصر له الوصية لا تغضب وقوله ص = لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه والله أعلم وروينا عن الاستاذ أبى القاسم القشيرى رحمه الله قال الصمت بسلامة وهو الأصل والسكوت في وقته صفة الرجال كما
[ 20 ]
ان النظق في موضعه من أشرف اخصال قال وسمعت أبا على الدقاق يقول من سكت عن الحق فهو شيطان اخرس قال فأما ايثار أصحاب المجاهدة السكوت فلما علموا ما في الكلام من الآفات ثم ما فيه من حظ النفس واظهار صفات المدح والميل الى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق وغير هذا من الآفات وذلك نعت أرباب الرياضة وهو أحد أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق وروينا عن الفضيل بن عياض رحمه الله قال من عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه وعن ذى النون رحمه الله أصون الناس لنفسه أمسكهم للسانه والله أعلم وأما قوله ص = (فلا يؤذى جاره) فكذا وقع في الأصول يؤذى بالياء في آخره وروينا في غير مسلم فلا يؤذ بحذفها وهما صحيحان فحذفها للنهى واثباتها على أنه خبر يراد به النهى فيكون أبلغ ومنه قوله تعالى هذه والدة بوالدها على قراءة من رفع ومنه قوله ص = لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ونظائره كثير والله أعلم وأما أسانيد الباب فقال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر ابن أبى شيبة حدثنا أبو الاحوص عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة وهذا الاسناد
[ 21 ]
كله كوفيون مكيون الا أبا هريرة فإنه مدنى وقد تقدم بيان أسمائهم كلهم في مواضع وحصين بفتح الحاء وقوله في الاسناد الآخر عن أبى شريح الخزاعى قد قدمنا في آخر شرح مقدمة الكتاب الاختلاف في اسمه وأنه قيل اسمه خويلد بن عمرو وقيل عبد الرحمن وقيل عمرو ابن خويلد وقيل هانئ بن عمرو وقيل كعب وأنه يقال الخزاعى والعدوى والكعبي والله أعلم باب بيان كون النهى عن المنكر من الايمان (وأن الايمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان) قوله (أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان قال القاضي عياض رحمه الله اختلف في هذا فوقع هنا ما نراه وقيل أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة عثمان رضى الله عنه وقيل عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما رأى الناس يذهبون عند تمام الصلاة ولا ينتظرون الخطبة وقيل بل ليدرك الصلاة من تأخر وبعد منزله وقيل أول من فعله معاوية وقيل فعله ابن الزبير رضى الله عنه والذى ثبت عن النبي ص = وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم تقديم الصلاة وعليه جماعة فقهاء الامصار وقد عده بعضهم اجماعا يعنى والله أعلم بعد الخلاف أولم يلتفت الى خلاف بنى أمية بعد اجماع الخلفاء والصدر الاول وفي قوله بعد هذا أما هذا فقد قضى ما عليه بمحضر من ذلك الجمع العظيم دليل على استقرار السنة عندهم على خلاف ما فعله مروان وبينه أيضا احتجاجه بقوله سمعت رسول الله ص = يقول من رأى منكرا فليغيره ولا يسمى منكرا لو اعتقده ومن حضر أو سبق به عمل أو مضت به سنة وفي هذا دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل مروان وأن ما حكى عن عمر وعثمان ومعاوية لا يصح والله أعلم قوله (فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة فقال قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد أما هذا
[ 22 ]
فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله ص = يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده الحديث) قد يقال كيف تأخر أبو سعيد رضى الله عنه عن انكار هذا المنكر حتى سبقه إليه هذا الرجل وجوابه أنه يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرا أول ما شرع مروان في أسباب تقديم الخطبة فأنكر عليه الرجل ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام ويحتمل أن أبا سعيد كان حاضرا من الأول ولكنه خاف على نفسه أو غيره حصول فتنة بسبب انكاره فسقط عنه الانكار ولم يخف ذلك الرجل شيئا لاعتضاده بظهور عشيرته أو غير ذلك أو أنه خاف وخاطر بنفسه وذلك جائز في مثل هذا بل مستحب ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار فبدره الرجل فعضده أبو سعيد والله أعلم ثم أنه جاء في الحديث الآخر الذى اتفق البخاري ومسلم رضى الله عنهما على اخراجه في باب صلاة العيد أن أبا سعيد هو الذى جذب بيد مروان حين رآه يصعد المنبر وكانا جاءا معا فرد عليه مروان بمثل ما ورد هنا على الرجل فيحتمل أنهما قضيتان أحداهما لأبى سعيد والاخرى للرجل بحضرة أبى سعيد والله أعلم وأما قوله فقد قضى ما عليه ففيه تصريح بالانكار أيضا من أبى سعيد وأما قوله ص = فليغيره فهو أمر ايجاب باجماع الامة وقد تطابق على وجوب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر الكتاب والسنة واجماع الامة وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين ولم يخالف في ذلك الا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم كما قال الامام أبو المعالى امام الحرمين لا يكترث بخلافهم في هذا فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة وأما قول الله عز وجل أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فليس مخالفا لما ذكرناه لان المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية انكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله تعالى تزر وازرة وزر أخرى وإذا كان كذلك فمما كلف به الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه فإنما
[ 23 ]
عليه الأمر والنهى لا القبول والله أعلم ثم ان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف ثم أنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به الا هو أولا يتمكن من ازالته الا هو وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف قال العلماء رضى الله عنهم ولا يسقط عن المكلف الامر بالمعروف والنهى عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين وقد قدمنا أن الذى عليه الامر والنهى لا القبول وكما قال الله عز وجل على الرسول الا البلاغ ومثل العلماء هذا بمن يرى انسانا في الحمام أو غيره مكشوف بعض العورة ونحو ذلك والله أعلم قال العلماء ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه بل عليه الامر وان كان مخلا بما يأمر به والنهى وان كان متلبسا بما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان أن يأمر نفسه وينهاها ويأمر غيره وينهاه فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الاخلال بالآخر قال العلماء ولا يختص الامر بالمعروف والنهى عن المنكر باصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين قال امام الحرمين والدليل عليه اجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذى يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين اياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من غير ولاية والله أعلم ثم أنه انما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه وذلك يختلف باختلاف الشئ فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها وان كان من دقائق الافعال والاقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم انكاره بل ذلك للعلماء ثم العلماء انما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا انكار فيه لان على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والاثم مرفوع عنه لكن ان ندبه على جهة النصيحة الى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب الى فعله برفق فان العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه اخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر وذكر أقضى القضاة أبو الحسن الماوردى البصري الشافعي في كتابه الاحكام السلطانية خلافا بين العلماء في أن من قلده
[ 24 ]
السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد أم لا يغير ما كان على مذهب غيره والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضى الله عنهم أجمعين ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره وكذلك قالوا ليس للمفتي ولا للقاضى أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو اجماعا أو قياسا جليا والله أعلم واعلم أن هذا الباب أعنى باب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه في هذه الازمان الا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم فيبغى لطالب الآخرة والساعى في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتنى بهذا الباب فان نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فان الله تعالى قال الله من ينصره تعالى يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم وقال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقال تعالى أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين واعلم أن الاجر على قدر النصب ولا يتاركه أيضا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه فان صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا ومن حقه أن ينصحه ويهديه الى مصالح آخرته وينقذه من مضارها وصديق الانسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته وأن أدى ذلك الى نقص في دنياه وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته وان حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه وانما كان ابليس عدوا لنا لهذا وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته وأن يعمنا بجوده ورحمته والله أعلم وينبغى للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب الى تحصيل المطلوب فقد قال الامام الشافعي رضى الله عنه من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشأنه ومما يتساهل اكثر الناس فيه من هذا الباب ما إذا رأى انسانا يبيع متاعا معيبا أو نحوه فإنهم لا ينكرون ذلك ولا يعرفون المشترى بعيبه وهذا خطأ ظاهر وقد
[ 25 ]
نص العلماء على أنه يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع وأن يعلم المشترى به والله أعلم وأما صفة النهى ومراتبه فقد قال النبي ص = في هذا الحديث الصحيح فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه فقوله ص = فبقلبه معناه فليكرهه بقلبه وليس ذلك بازالة وتغيير منه للمنكر ولكنه هو الذى في وسعه وقوله ص = (وذلك أضعف الايمان) معناه والله أعلم أقله ثمرة قال القاضى عياض رحمه الله هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولا كان أو فعلا فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع العصوب ويردها الى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه ويرفق في التغيير جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره إذ ذلك أدعى الى قبول لقوله كما يستحب أن يكون متولى ذلكم من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى ويغلظ على المتمادى في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر اغلاظه منكرا أشد مما غيره لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم فان غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف فان خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة وهذا هو المراد بالحديث ان شاء الله تعالى وان وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك الى اظهار سلاح وحرب وليرفع ذلك الى من له الأمر ان كان المنكر من غيره أو يقتصر على تغييره بقلبه هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين خلافا لمن رأى الانكار بالتصريح بكل حال وان قتل ونيل منه كل أذى هذا آخر كلام القاضى رحمه الله قال امام الحرمين رحمه الله ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة ان لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الامر الى نصب قتال وشهر سلاح فان انتهى الامر الى ذلك ربط الامر بالسلطان قال وإذا جار والى الوقت وظهر ظلمه وغشمه ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول فلاهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الاسلحة ونصب الحروب هذا كلام امام الحرمين وهذا الذى ذكره من خلعه غريب ومع هذا فهو محمول
[ 26 ]
على ما إذا لم يخف منه اثارة مفسدة أعظم منه قال وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل ان عثر على منكر غيره جهده هذا كلام امام الحرمين وقال أقضى القضاة الماوردى ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فان غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان أحدهما أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني به فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات مالا يستدرك وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الاقدام على الكشف والانكار الضرب الثاني ما قصر عن هذه الرتبه فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الاستار عنه فان سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار لم يهجم عليها بالدخول لأن المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عن الباطن وقد ذكر الماوردى في آخر الاحكام السلطانية بابا حسنا في الحسبة مشتملا على جمل من قواعد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقد أشرنا هنا الى مقاصده وبسطت الكلام في هذا الباب لعظم فائدته وكثرة الحاجة إليه وكونه من أعظم قواعد الاسلام والله أعلم قوله (وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن اسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبى سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبى سعيد) فقوله وعن قيس معطوف على اسماعيل معناه رواه الأعمش عن اسماعيل عن قيس والله أعلم قوله (عن صالح بن كيسان عن الحرث عن جعفر بن عبد الله بن الحكم عن
[ 27 ]
عبد الرحمن بن المسور عن أبى رافع عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله ص = قال ما من نبى بعثه الله في أمة قبلى الا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل قال أبو رافع فحدثت عبد الله ابن عمر رضى الله عنهما فانكره علي فقدم ابن مسعود رضي الله عنه فنزل بقناة فاستتبعني إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يعوده فانطلقت معه فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابن عمر قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبى رافع) أما الحرث فهو ابن فضيل الانصاري الخطمى أبو عبد الله المدنى روى عن عبد الرحمن بن أبى قراد الصحابي قال يحيى بن معين هو ثقة وأما أبو رافع فهو مولى رسول الله ص = والأصح أن اسمه أسلم وقيل ابراهيم وقيل هرمز وقيل ثابت وقيل يزيد وهو غريب حكاه ابن الجوزى في كتابه جامع المسانيد
[ 28 ]
وفى هذا الاسناد طريفة وهو أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض صالح والحرث وجعفر وعبد الرحمن وقد تقدم نظير هذا وقد جمعت فيه بحمد الله تعالى جزءا مشتملا على أحاديث رباعيات منها أربعة صحابيون بعضهم عن بعض وأربعة تابعيون بعضهم عن بعض وأما قوله قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبى رافع فهو بضم التاء والحاء قال القاضى عياض رحمه الله معنى هذا أن صالح بن كيسان قال ان هذا الحديث روى عن أبى رافع عن النبي ص = من غير ذكر ابن مسعود فيه وقد ذكره البخاري كذلك في تاريخه مختصرا عن ابى رافع عن النبي ص = وقد قال أبو على الجيانى عن أحمد بن حنبل رحمه الله قال هذا الحديث غير محفوظ قال وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود وابن مسعود يقول اصبروا حتى تلقوني هذا كلام القاضى رحمه الله وقال الشيخ أبو عمرو هذا الحديث قد أنكره أحمد بن حنبل رحمه الله وقد روى عن الحرث هذا جماعة من الثقات ولم نجد له ذكرا في كتب الضعفاء وفى كتاب ابن أبى حاتم عن يحيى بن معين أنه ثقة ثم أن الحرث لم ينفرد به بل توبع عليه على ما أشعر به كلام صالح ابن كيسان المذكور وذكر الامام الدارقطني رحمه الله في كتاب العلل أن هذا الحديث قد روى من وجوه أخر منها عن أبى واقد الليثى عن ابن مسعود عن النبي ص = وأما قوله اصبروا حتى تلقوني فذلك حيث يلزم من ذلك سفك الدماء أو اثارة الفتن أو نحو ذلك وما ورد في هذا الحديث من الحث على جهاد المبطلين باليد واللسان فذلك حيث لا يلزم منه اثارة فتنة على أن هذا الحديث مسوق فيمن سبق من الامم وليس في لفظه ذكر لهذه الامة هذا آخر كلام الشيخ أبى عمرو وهو ظاهر كما قال وقدح الامام أحمد رحمه الله في هذا بهذا عجب والله أعلم وأما الحواريون المذكورون فاختلف فيهم فقال الأزهري وغيره هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم والخلصان الذين نقوا من كل عيب وقال غيرهم أنصارهم وقيل المجاهدون وقيل الذين يصلحون للخلافة بعدهم قوله ص = ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف الضمير في انها هو الذى يسميه النحويون ضمير القصة والشأن ومعنى تخلف تحدث وهو بضم اللام وأما الخلوف فبضم الخاء وهو جمع خلف باسكان اللام وهو الخالف بشر وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير هذا هو الاشهر وقال جماعة وجماعات من أهل اللغة منهم أبو زيد يقال كل واحد منهما بالفتح والاسكان ومنهم من جوز الفتح في الشر ولم يجوز الاسكان في الخير والله أعلم قوله فنزل بقناة
[ 29 ]
هكذا في هو بعض الاصول المحققة بقناة بالقاف المفتوحة وآخره تاء التأنيث وهو غير مصروف للعلمية والتأنيث وهكذا ذكره أبو عبد الله الحميدى في الجمع بين الصحيحين ووقع في أكثر الاصول ولمعظم رواة كتاب مسلم بفنائه بالفاء المكسورة وبالمد وآخره هاء الضمير قبلها همزة والفناء ما بين أيدى المنازل والدور وكذا رواه أبو عوانة الاسفراينى قال القاضى عياض رحمه الله في رواية السمرقندى بقناة وهو الصواب وقنا واد من أودية المدينة عليه مال من أموالها قال ورواية الجمهور بفنائه وهو خطأ وتصحيف قوله ص = (يهتدون بهديه) هو بفتح الهاء واسكان الدال أي بطريقته وسمته قول مسلم رحمه الله (ولم يذكر قدوم ابن مسعود واجتماع ابن عمر معه) هذا مما أنكره الحريري في كتابه درة الغواص فقال لا يقال اجتمع فلان مع فلان وانما يقال اجتمع فلان وفلان وقد خالفه الجوهرى فقال في صحاحه جامعه على كذا أي اجتمع معه باب تفاضل أهل الايمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه في هذا الباب (أشار النبي ص = بيده نحو اليمن فقال الا أن الإيمان ههنا وان القسوة
[ 30 ]
وغلط القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الابل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر وفى رواية جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة الايمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية وفى رواية أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة الفقه يمان والحكمة يمانية وفى رواية رأس الكفر نحو المشرق والفخر والخيلاء في أهل الخيل والابل الفدادين أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم
[ 31 ]
وفى رواية الايمان يمان والكفر قبل المشرق والسكينة في أهل الغنم والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر وفى رواية أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا وأرق أفئدة الايمان يمان
[ 32 ]
والحكمة يمانية ورأس الكفر قبل المشرق وفي رواية غلظ القلوب والجفاء في المشرق والايمان في أهل الحجاز) قد اختلف في مواضع من هذا الحديث وقد جمعها القاضى عياض رحمه الله ونقحها مختصرة بعده الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله وأنا أحكى ما ذكره قال أما ما ذكر من نسبة الايمان الى أهل اليمن فقد صرفوه عن ظاهره من حيث إن مبدأ الايمان من مكة ثم من المدينة حرسهما الله تعالى فحكى أبو عبيد امام الغرب ثم من بعده في ذلك أقوالا أحدها أنه أراد بذلك مكة فانه يقال أن مكة من تهامة وتهامة من أرض اليمن والثانى أن المراد مكة والمدينة فانه يروى في الحديث أن النبي ص = قال هذا الكلام وهو بتبوك ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن فاشار الى ناحية اليمن وهو يريد مكة والمدينة فقال الايمان يمان ونسبهما الى اليمن لكونهما حينئذ من ناحية اليمن كما قالوا الركن اليماني وهو بمكة لكونه الى ناحية اليمن والثالث ما ذهب إليه كثير من الناس وهو أحسنها عند أبى عبيد أن المراد بذلك الانصار لانهم يمانون في الاصل فنسب الايمان إليهم لكونهم أنصاره قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله ولو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث بألفاظه كما جمعها مسلم وغيره وتأملوها لصاروا الى غير ما ذكروه ولما تركوا الظاهر ولقضوا بأن المراد اليمن وأهل اليمن على ما هو المفهوم من اطلاق ذلك إذ من ألفاظه أتاكم أهل اليمن والانصار
[ 33 ]
من جملة المخاطبين بذلك فهم اذن غيرهم وكذلك قوله ص = جاء أهل اليمن وانما جاء حينئذ غير الانصار ثم أنه ص = وصفهم بما يقضى بكمال ايمانهم ورتب عليه الايمان يمان فكان ذلك أشارة للايمان الى من أتاه من أهل اليمن لا الى مكة والمدينة ولا مانع من اجراء الكلام على ظاهره وحمله على أهل اليمن حقيقة لان من اتصف بشئ وقرى قيامه به وتأكد اطلاعه منه ينسب ذلك الشئ إليه اشعارا بتميزه به وكمال حاله فيه وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذ في الايمان وحال الوافدين منه في حياة رسول الله ص = وفى أعقاب موته كأويس القرنى وأني مسلم الخولانى رضى الله عنهما وشبههما ممن سلم قلبه وقوى ايمانه فكانت نسبة الايمان إليهم لذلك اشعارا بكمال ايمانهم من غير أن يكون في ذلك نفى له عن غيرهم فلا منافاة بينه وبين قوله ص = الايمان في أهل الحجاز ثم المراد بذلك الموجودون منهم حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمان فان اللفظ لا يقتضيه هذا هو الحق في ذلك ونشكر الله تعالى على هدايتنا له والله اعلم قال وأما ما ذكر من الفقه والحكمة فالفقه هنا عبارة عن الفهم في الدين واصطلح بعد ذلك الفقهاء وأصحاب الأصول على تخصيص الفقه بادراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل والحكيم من له ذلك وقال أبو بكر بن دريد كل كلمة وعظتك وزجرتك أودعتك الى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهى حكمة وحكم ومنه قول النبي ص = ان من الشعر حكمة وفى بعض الروايات حكما والله أعلم قال الشيخ وقوله ص = يمان ويمانية هو بتخفيف الياء عند جماهير اهل العربية لأن الألف المزيدة فيه عوض من ياء النسب المشددة فلا يجمع بينهما وقال ابن السيد في كتابه الاقتضاب حكى المبرد وغيره أن التشديد لغة قال الشيخ وهذا غريب قلت وقد حكى الجوهرى وصاحب المطالع وغيرهما من العلماء عن سيبويه أنه حكى عن بعض العرب أنهم يقولون اليماني بالياء المشددة وأنشد لأمية بن خلف يمانيا يظل يشب كيرا * وينفخ دائما لهب الشواظ والله أعلم قال الشيخ وقوله ص = ألين قلوبا وأرق أفئدة المشهور أن
[ 34 ]
الفؤاد هو القلب فعلى هذا يكون كرر لفظ القلوب بلفظين وهو أولى من تكريره بلفظ واحد وقيل الفؤاد غير القلب وهو عين القلب وقيل باطن القلب وقيل غشاء القلب وأما وصفها باللين والرفة والضعف فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التى وصف بها قلوب الآخرين قال وقوله ص = في الفدادين فزعم أبو عمرو الشيباني انه بتخفيف الدال وهو جمع فداد بتشديد الدال وهو عبارة عن البقر التى يحرث عليها حكاه عنه أبو عبيد وأنكره عليه وعلى هذا المراد بذلك أصحابها فحذف المضاف والصواب في الفدادين بتشديد الدال جمع فداد بدالين أولاهما مشددة وهذا قول أهل الحديث والاصمعى وجمهور أهل اللغة وهو من الفديد وهو الصوت الشديد فهم الذين تعلو أصواتهم في ابلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى هم المكثرون من الابل الذين يملك أحدهم المائتين منها الى الالف وقوله ان القسو في الفدادين عند أصول أذناب الابل معناه الذين لهم جلبة وصياح عند سوقهم لها وقوله ص = حيث يطلع فرنا الشيطان في ربيعة ومضر قوله ربيعة ومضر بدل من الفدادين وأما قرنا الشيطان فجانبا رأسه وقيل هما جمعاه اللذان يغريهما باضلال الناس وقيل شيعتاه من الكفار والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر كما قال في الحديث الآخر رأس الكفر نحو المشرق وكان ذلك في عهده ص = حين قال ذلك ويكون حين يخرج الدجال من المشرق وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس وأما قوله ص = الفخر والخيلاء فالفخر هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظيما والخيلاء الكبر واحتقار الناس وأما قوله في أهل الخيل والابل الفدادين أهل الوبر فالوبر وان كان من الابل دون الخيل فلا يمتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين الخيل والابل والوبر وأما قوله ص = والسكينة في أهل الغنم فالسكينة الطمأنينة والسكون على خلاف ما ذكره من صفة الفدادين هذا آخر ما ذكره الشيخ أبو عمرو رحمه الله وفيه كفاية فلا نطول بزيادة عليه والله أعلم وأما أسانيد الباب فقال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا أبو أسامة قال وحدثنا ابن نمير حدثنا أبى قال وحدثنا أبو كريب حدثنا ابن ادريس كلهم عن اسماعيل بن أبى خالد قال وحدثنا يحيى بن حبيب حدثنا
[ 35 ]
معتمر عن اسماعيل قال سمعت قيسا يروى عن أبى مسعود هؤلاء الرجال كلهم كوفيون الا يحيى ابن حبيب ومعتمرا فانهما بصريان وقد تقدم أن اسم ابن أبى شيبة عبد الله بن محمد ابن ابراهيم بن أبى شيبة وأن أبا أسامة حماد بن اسامة وابن نمير محمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب محمد بن العلاء وابن ادريس عبد الله وأبو خالد هرمز وقيل سعد وقيل كثير وأبو مسعود عقبة بن عمرو الانصاري البدرى رضى الله عنهم وفى الاسناد الآخر الدارمي وقد تقدم في مقدمة الكتاب أنه منسوب الى جد للقبيلة اسمة دارم وفيه أبو اليمان واسمه الحكم ابن نافع وبعده أبو معاوية محمد بن خازم بالخاء المعجمة والاعمش سليمان بن مهران وابو صالح ذكوان وابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس وكل هذا وان كان ظاهرا وقد تقدم فانما أقصد بتكريره وذكره الايضاح لمن لا يكون من أهل هذا الشأن فربما وقف على هذا الباب وأراد معرفة اسم بعض هؤلاء ليتوصل به الى مطالعة ترجمته ومعرفة حاله أوغير ذلك من الاغراض فسهلت عليه الطريق بعبارة مختصرة والله أعلم بالصواب باب بيان أنه لا يدخل الجنة الا المؤمنون (وأن محبة المؤمنين من الايمان وأن افشاء السلام سبب لحصولها) قوله ص = (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم
[ 36 ]
على شئ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم وفى الرواية الاخرى والذى نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا) هكذا هو في جميع الاصول والروايات ولا تؤمنوا بحذف النون من آخره وهى لغة معروفة صحيحة وأما معنى الحديث فقوله ص = ولا تؤمنوا حتى تحابوا معناه لا يكمل ايمانكم ولا يصلح حالكم في الايمان الا بالتحاب وأما قوله ص = لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا فهو على ظاهره واطلاقه فلا يدخل الجنة الا من مات مؤمنا وان لم يكن كامل الايمان فهذا هو الظاهر من الحديث وقال الشيخ أبو عمرو رحمه الله معنى الحديث لا يكمل ايمانكم الا بالتحاب ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها إذا لم تكونوا كذلك وهذا الذى قاله محتمل والله أعلم وأما قوله أفشوا السلام بينكم فهو بقطع الهمزة المفتوحة وفيه الحث العظيم على افشاء السلام وبذله للمسلمين كلهم من عرفت ومن لم تعرف كما تقدم في الحديث الآخر والسلام أول أسباب التألف ومفتاح استجلاب المودة وفى افشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض واظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل مع ما فيه من رياضة النفس ولزوم التواضع واعظام حرمات المسلمين وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه عن عمار بن ياسر رضى الله عنه أنه قال ثلاث من جمعهن فقد جمع الايمان الانصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والانفاق من الاقتار وروى غير البخاري هذا الكلام مرفوعا الى النبي ص = وبذل السلام للعالم والسلام على من عرفت ومن لم تعرف وافشاء السلام كلها بمعنى واحد وفيها لطيفة أخرى وهى أنها تتضمن رفع التقاطع والتهاجر والشحناء وفساد ذات البين التى هي الحالقة وأن سلامه لله لا يتبع فيه هواه ولا يخص أصحابه وأحبابه به والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
[ 37 ]
باب بيان أن الدين النصيحة فيه (عن تميم الدارى رضى الله عنه أن النبي ص = قال الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين عامتهم) هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الاسلام كما سنذكره من شرحه وأما ما قاله جماعات من العلماء أن أحد أرباع الاسلام أي أحد الاحاديث الاربعة التى تجمع أمور الاسلام فليس كما قالوه بل المدار على هذا وحده وهذا الحديث من أفراد مسلم وليس لتميم الدارى في صحيح البخاري عن النبي ص = شئ ولا له في مسلم عنه غير هذا الحديث وقد تقدم في آخر مقدمة الكتاب بيان الاختلاف في نسبة تميم وأنه دارى أو ديري وأما شرح هذا الحديث فقال الامام أبو سليمان الخطابى رحمه الله النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له قال ويقال هو من وجيز الاسماء ومختصر الكلام وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن المعنى هذه الكلمة كما قالوا في الفلاح ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه قال وقيل النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب قال وقيل انها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط قال ومعنى الحديث عماد الدين وقوامه النصحية كقوله الحج عرفة أي عماده ومعظمه عرفة وأما تفسير النصيحة
[ 38 ]
وأنواعها فقد ذكر الخطابى وغيره من العلماء فيها كلاما نفيسا أنا أضم بعضه الى بعض مختصرا قالوا أما النصيحة لله تعالى فمعناها منصرف الى الايمان به ونفى الشريك عنه وترك الالحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص والقيام بطاعته واجتناب معصيته والحب فيه والبغض فيه وموالاة من أطاعه ومعادة من عصاه وجهاد من كفر به والاعتراف بنعمته وشكره عليها والاخلاص في جميع الامور والدعاء الى جميع الاوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف في جميع الناس أو من أمكن منهم عليها قال الخطابى رحمه الله وحقيقة هذه الاضافة راجعة الى العبد في نصحه نفسه فالله تعالى غني عن نصح الناصح وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى فالإيمان بأن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شئ من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها واقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين والتصديق بما فيه والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه والدعاء إليه والى ما ذكرناه من نصيحته وأما النصيحة لرسول الله ص = فتصديقه على الرسالة والايمان بجميع ما جاء به وطاعته في امره ونهيه ونصرته حيا وميتا ومعاداة عن عاداه وموالاة من والاه واعظام حقه وتوقيره واحياء طريقته وسنته وبث دعوته ونشر شريعته ونفى التهمة عنها واستثارة علومها والتفقه في معانيها والدعاء إليها والتلطف في تعلمها وتعليمها واعظامها واجلالها والتأدب عند قراءتها والامساك عن الكلام فيها بغير علم واجلال أهلها لانتسابها إليها والتخلق باخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة أهل بيته وأصحابه ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف واعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين وترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم قال الخطابى رحمه الله ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم وأن يدعى لهم بالصلاح وهذا كله على ان المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسملين من اصحاب الولايات وهذا هو
[ 39 ]
المشهور وحكاه ايضا الخطابى ثم قال وقد يتأول ذلك على الائمة الذين هم علماء الدين وأن من نصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الاحكام واحسان الظن بهم وأما نصيحة عامة المسلمين وهم من عدا ولاة الامر فارشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وكف الأذى عنهم فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ويعينهم عليه بالقول والفعل وستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق واخلاص والشفقة عليهم وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غشهم وحسدهم وأن يحب لهم ما يجب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة وتنشيط هممهم الى الطاعات وقد كان في السلف رضى الله عنهم من تبلغ به النصيحة الى الاضرار بدنياه والله اعلم هذا آخر ما تلخص في تفسير النصيحة قال ابن بطال رحمه الله في هذا الحديث ان النصيحة تسمى دينا واسلاما وان الدين يقع على العمل كما يقع على القول قال والنصيحة فرض يجزى فيه من قام به ويسقط عن الباقين قال والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح انه يقبل نصحه ويطاع امره وامن على نفسه المكروه فان خشى على نفسه أذى فهو في سعة والله اعلم وأما حديث جرير رضى الله عنه (قال بايعت رسول الله ص =
[ 40 ]
على اقام الصلاة وايتاء الزكاة لكل مسلم وفى الرواية الاخرى على السمع والطاعة فلقنني فيما استطعت) وانما اقتصر على الصلاة والزكاة لكونهما قرينتين وهما أهم أركان الاسلام بعد الشهادتين وأظهرها ولم يذكر الصوم وغيره لدخولها في السمع والطاعة وقوله ص = فيما استطعت موافق لقوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها والرواية استطعت بفتح التاء وتلقينه من كمال شفقته ص = إذ قد يعجز في بعض الا حال فلو لم يقيده بما استطاع لأخل التزم في بعض الا حال والله أعلم ومما يتعلق بحديث جرير منقبة ومكرمة لجرير رضى الله عنه رواها الحافظ أبو القاسم الطبراني باسناده اختصارها أن جريرا أمر مولاه أن يشترى له فرسا فاشترى بثلثمائة درهم وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن فقال جرير لصاحب الفرس فرسك خير من ثلثمائة درهم أتبيعه بأربعمائة درهم قال ذلك اليك يا أبا عبد الله فقال فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم ثم لم يزل يزيده مائة فمائة وصاحبه يرضى وجرير يقول فرسك خير الى أن بلغ ثمانمائة درهم فاشتراه بها فقيل له في ذلك فقال انى بايعت رسول الله ص = النصح لكل مسلم والله أعلم واما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه أمية ابن بسطام وقد قدمنا في المقدمة الخلاف في انه هل يصرف اولا يصرف وفى ان الباء مكسورة على المشهور وأن صاحب المطالع حكى أيضا فتحتها وفيه زياد بن علاقة بكسر العين وبالقاف وفيه سريج بن يونس بالسين المهملة وبالجيم وفيه الدور في بفتح الدال وقد تقدم في المقدمة بيان هذه النسبة والله اعلم وأما قول مسلم حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن نمير وأبو اسامة عن اسماعيل بن أبى خالد عن قيس عن جرير فهذا اسناد كله كوفيون وأما قوله حدثنا سريج ويعقوب قالا حدثنا هشيم عن سيار عن الشعبى عن جرير ثم قال مسلم في آخره قال يعقوب في روايته حدثنا سيار ففيه تنبيه على لطيفة وهى أن هشيما مدلس وقد قال عن سيار والمدلس إذا قال عن لا يحتج به الا أن ثبت سماعه من جهة أخرى فروى مسلم رحمه الله حديثه هذا عن شيخين وهما سريج ويعقوب فاما سريج فقال حدثنا هشيم عن سيار وأما يعقوب فقال حدثنا هشيم قال حدثنا سيار فبين مسلم رحمه الله اختلاف عبارة الروايتين في نقلهما عبارته وحصل منها اتصال حديثه لم يقتصر مسلم رحمه الله على احدى الروايتين وهذا من عظيم اتقانه ودقيق نظره وحسن احتياطه رضى الله عنه وسيار بتقديم
[ 41 ]
السين على الياء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب باب بيان نقصان الايمان بالمعاصى (ونفيه عن المتلبس بالمعصية على ارادة نفى كماله) في الباب قوله ص = (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن الحديث) وفي رواية ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن وفى رواية والتوبة معروضة بعد هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه فالقول الصحيح الذى قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الايمان وهذا من الالفاظ التى تطلق على نفى الشئ ويراد نفى كماله ومختاره كما يقال لا علم الا ما نفع ولا مال الا الابل ولا عيش الا عيش الآخرة وانما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبى ذر وغيره من قال لا اله الا الله دخل الجنة وان زنى وان سرق وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه ص = على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا الى آخره ثم قال لهم ص = فمن وفى منكم فأجره على الله ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته ومن فعل ولم يعاقب فهو الى الله تعالى ان شاء عفا عنه وان شاء عذبه فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قوله الله عز وجل الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء مع اجماع أهل الحق على أن الزانى والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصو الايمان ان تابوا سقطت عقوبتهم وان ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فان
[ 42 ]
شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا وان شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة وكل هذه الأدلة تضطرنا الى تأويل هذا الحديث وشبهه ثم ان هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرا وجب الجمع بينهما وقد وردا هنا فيجب الجمع وقد جمعنا وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلا له مع علمه بورود الشرع بتحريمه وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري معناه ينزع منه اسم المدح الذى يسمى به أولياء الله المؤمنين ويستحق اسم الذم فيقال سارق وزان وفاجر وفاسق وحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن معناه ينزع منه نور الايمان وفيه حديث مرفوع وقال المهلب ينزع منه بصيرته في طاعة الله تعالى وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاءت ولا يخاض في معناها وأنا لا نعلم معناها وقال أمروها كما أمرها من قبلكم وقيل في معنى الحديث غير ما ذكرته مما ليس بظاهر بل بعضها غلط فتركهتا وهذه الاقوال التى ذكرتها في تأويله كلها محتملة والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه أولا والله أعلم وأما قول ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال سمعت أبا سلمة وسعيد بن المسيب يقولان قال أبو هريرة أن رسول الله ص = قال لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن الى آخره (قال ابن شهاب فأخبرني عبد الملك بن أبى بكر بن عبد الرحمن أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء عن أبى هريرة ثم يقول وكان أبو هريرة يلحق معهن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) فظاهر هذا الكلام أن قوله ولا ينتهب الى آخره ليس من كلام النبي ص =
[ 43 ]
بل هو من كلام أبى هريرة رضى الله عنه موقوف عليه ولكن جاء في رواية أخرى ما يدل على أنه من كلام النبي ص = وقد جمع الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في ذلك كلاما حسنا فقال روى أبو نعيم في مخرجه على كتاب مسلم رحمه الله من حديث همام بن منبه هذا الحديث وفيه والذى نفسي بيده لا ينتهب أحدكم وهذا مصرح برفعه الى النبي ص = قال ولم يستغن عن ذكر هذا بأن البخاري رواه من حديث الليث باسناده هذا الذى ذكره مسلم عنه معطرفا فيه ذكر النبهة على ما بعد قوله قال رسول الله ص = نسقا من غير فصل بقوله وكان أبو هريرة يلحق معهن ذلك وذلك مراد مسلم رحمه الله بقوله واقتص الحديث يذكر مع ذكر النبهة ولم يذكر ذات شرف وانما لم يكتف بهذا في الاستدلال على كون النبهة من كلام النبي ص = لأنه قد يعد ذلك من قبل المدرج في الحديث من كلام بعض رواته استدلالا بقول من فصل فقال وكان أبو هريرة يلحق معهن وما رواه أبو نعيم يرتفع عن أن يتطرق إليه هذا الاحتمال وظهر بذلك أن قول أبى بكر بن عبد الرحمن وكان أبو هريرة يلحق معهن معناه يلحقها رواية عن رسول الله ص = لا من عند نفسه وكأن أبا بكر خصها بذلك لكونه بلغه أن غيره لا يرويها ودليل ذلك ما تراه من رواية مسلم رحمه الله الحديث من رواية يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أبى سلمة وابن المسيب عن أبى هريرة من غير ذكر النهبة ثم ان في رواية عقيل أن ابن شهاب روى ذكر النهبة عن أبى بكر بن عبد الرحمن نفسه وفى رواية يونس عن عبد الملك بن أبى بكر عنه فكأنه سمع ذلك من ابنه عنه ثم سمعه منه نفسه وأما قول مسلم رحمه الله (واقتص الحديث يذكر مع ذكر النهبة) فكذا وقع يذكر من
[ 44 ]
غيرها الضمير فاما أن يقال حذفها مع ارادتها واما أن يقرأ يذكر بضم أوله وفتح الكاف على ما لم يسم فاعله على أن حال أي اقتص الحديث مذكورا مع ذكر النهبة هذا آخر كلام الشيخ أبى عمرو رحمه الله والله أعلم وأما قوله (ذات الشرف) فهو في الرواية المعروفة والأصول المشهورة المتداولة بالشين المعجمة المفتوحة وكذا نقله القاضى عياض رحمه الله عن جميع الرواة لمسلم ومعناه ذات قدر عظيم وقيل ذات استشراف يستشرف الناس لها ناظرين إليها رافعين أبصارهم قال القاضى عياض وغيره رحمهم الله ورواه ابراهيم الحربى بالسين المهملة قال الشيخ أبو عمرو وكذا قيده بعضهم في كتاب مسلم وقال معناه أيضا ذات قدر عظيم والله
[ 45 ]
أعلم والنهبة بضم النون وهى ما ينهبه وأما قول ص = (ولا يغل) فهو بفتح الياء وضم الغين وتشديد اللام ورفعها وهو من الغلول وهو الخيانة وأما قوله (فإياكم اياكم) فهكذا هو في الروايات اياكم اياكم مرتين ومعناه احذروا احذروا يقال اياك وفلانا أي احذروه ويقال اياك أي احذر من غير ذكر فلان كما وقع هنا وأما قوله ص = (والتوبة معروضة بعد) فظاهر وقد أجمع العلماء رضى الله عنهم على قبول التوبة ما لم يغرغر كما جاء في الحديث وللتوبة ثلاثة أركان أن يقلع عن المعصية ويندم على فعلها ويعزم أن لا يعود إليها فان تاب من ذنب ثم عاد إليه لم تبطل توبته وان تاب من ذنب وهو متلبس بآخر صحت توبته هذا مذهب أهل الحق وخالفت المعتزلة في المسئلتين والله أعلم قال القاضى عياض رحمه الله أشار بعض العلماء الى أن ما في هذا الحديث تنبيه على جميع أنواع المعاصي والتحذير منها فنبه بالزنا على جميع الشهوات وبالسرقة على الرغبة في الدنيا والحرص على الحرام وبالخمر على جميع ما يصد عن الله تعالى ويوجب الغفلة عن حقوقه وبالانتباه الموصوف عن الاستخفاف بعباد الله تعالى وترك توقيرهم والحياء منهم وجمع الدنيا من غير وجهها والله أعلم وأما ما يتعلق بالاسناد ففيه حرملة التجيبى وقد قدمنا مرات أنه بضم التاء وفتحها وفيه عقيل عن ابن شهاب وتقدم أنه بضم العين وفيه الدراؤردى بفتح الدال والواو وقد تقدم بيانه في باب
[ 46 ]
الامر بقتال الناس حتى يقولوا لا اله الا الله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب باب بيان خصال المنافق قوله ص = (أربع من كن فيه كان منافقا خصالصا ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وفى رواية آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث ان هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الذى ليس فيه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار فان اخوة يوسف ص = جمعوا هذه الخصال وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله وهذا
[ 47 ]
الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى اشكال ولكن اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والاكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه ان هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق باخلاقهم فان النفاق هو اظهار ما يبطن خلافه وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الاسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي ص = بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الاسفل من النار وقوله ص = كان منافقا خالصا معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال قال بعض العلماء وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه فهذا هو المختار في معنى الحديث وقد نقل الامام أبو عيسى الترمذي رضى الله عنه معناه عن العلماء مطلقا فقال انما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل وقال جماعة من العلماء المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي ص = فحدثوا بايمانهم وكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم وهذا قول سعيد ابن جبير وعطاء بن أبى رباح ورجع إليه الحسن البصري رحمه الله بعد ان كان على خلافه وهو مروى عن ابن عباس وابن عمر رضى الله عنهم وروياه أيضا عن النبي ص = قال القاضى عياض رحمه الله واليه مال كثير من أئمتنا وحكى الخطابى رحمه الله قولا آخر أن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التى يخاف عليه أن تفضى به الى حقيقة النفاق وحكى الخطابى رحمه الله أيضا عن بعضهم ان الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان
[ 48 ]
النبي ص = لا يواجههم بصريح القول فيقول فلان منافق وانما كان يشير اشارة كقوله ص = ما بال أقوام يفعلون كذا والله أعلم وأما قوله ص = في الرواية الاولى أربع من كن فيه كان منافقا وفى الرواية الاخرى آية المنافق ثلاث فلا منافاة بينهما فان الشئ الواحد قد تكون له علامات كل واحدة منهن تحصل بها صفته ثم قد تكون تلك العلامة شيئا واحدا وقد تكون أشياء والله أعلم وقوله ص = وإذا عاهد غدر هو داخل في قوله وإذا اؤتمن خان وقوله ص = وان خاصم فجر أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب قال أهل اللغة وأصل الفجور الميل عن القصد وقوله ص = آية المنافق أي علامته ودلالته وقوله ص = خلة وخصلة هو بفتح الخاء فيهما واحداهما بمعنى الاخرى وأما أسانيده ففيها العلاء بن عبد الرحمن مولى الجرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف وهو بطن من جهينة وفيه عقبة ابن مكرم العمى وأما مكرم فبضم الميم واسكان الكاف وفتح الراء وأما العمى فبفتح العين وتشديد الميم المكسورة منسوب الى بنى العم بطن من تميم وفيه يحيى بن محمد بن قيس أبو زكير بضم الزاى وفتح الكاف واسكان الياء وبعدها راء قال أبو الفضل الفلكي الحافظ أبو زكير لقب وكنيته أبو محمد وفيه أبو نصر التمار وهو بالصاد المهملة واسمه عبد الملك بن عبد العزيز بن الحرث وهو ابن أخى بشر بن الحرث الحافى الزاهد رضى الله عنهما قال محمد ابن سعد هو من أنباء خراسان من أهل نسا نزل بغداد وتجر بها في التمر وغيره وكان فاضلا خيرا ورعا والله أعلم بالصواب
[ 49 ]
باب بيان حال ايمان من قال لاخيه المسلم يا كافر قوله ص = (إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما وفى الرواية الاخرى أيما رجل قال لاخيه كافر فقد باء بها أحدهما ان كان كما قال والا رجعت عليه وفى الرواية الاخرى ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه الا كفر ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك الا حار عليه) هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات من حيث أن ظاهره غير مراد وذلك أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصى كالقتل والزنا وكذا قوله لأخيه كافر من غير اعتقاد بطلان دين الاسلام وإذا عرف ما ذكرناه فقيل
[ 50 ]
في تأويل الحديث أوجه أحدهما أنه محمول على المستحل لذلك وهذا يكفر فعلى هذا معنى باء بها أي بكلمة الكفر وكذا حار عليه وهو معنى رجعت عليه أي رجع عليه الكفر فباء وحار ورجع بمعنى واحد والوجه الثاني معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره والثالث أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين وهذا الوجه نقله القاضى عياض رحمه الله عن الامام مالك بن أنس وهو ضعيف لان المذهب الصحيح المختار الذى قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع والوجه الرابع معناه أن ذلك يؤول به الى الكفر وذلك أن المعاصي كما قالوا بريد الكفر ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير الى الكفر ويؤيد هذا الوجه ما جاء في رواية لأبى عوانة الاسفراينى في كتابه المخرج على صحيح مسلم فان كان كما قال والا فقد باء بالكفر وفى رواية إذا قال لأخيه يا كافر وجب الكفر على أحدهما والوجه الخامس معناه فقد رجع عليه تكفيره فليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا فكأنه كفر نفسه اما لانه كفر من هو مثله واما لانه كفر من لا يكفره الا كافر يعتقد بطلان دين الاسلام والله أعلم وأما قوله ص = فيمن ادعى لغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه كفر فقيل فيه تأويلان أحدهما أنه في حق المستحل والثانى أنه كفر النعمة والاحسان وحق الله تعالى وحق أبيه وليس المراد الكفر الذى يخرجه من ملة الاسلام وهذا كما قال ص = بكفرن ثم فسره بكفرانهن الاحسان وكفران العشير ومعنى ادعى لغير أبيه أي انتسب إليه واتخذه أبا وقوله ص = وهو يعلم تقييد لابد منه فان الاثم انما يكون في حق العالم بالشئ وأما قوله ص = ومن ادعى ما ليس له فليس منا فقال العلماء معناه ليس على هدينا وجميل طريقتنا كما يقول الرجل لابنه لست منى وقوله ص = فليتبوأ مقعده من النار قد قدمنا في أول المقدمة بيانه وأن معناه فلينزل منزله منها أو فليتخذ منزلا بها وأنه دعاء أو خبر بلفظ الأمر وهو أظهر القولين ومعناه هذا جزاؤه فقد يجازى وقد يعفى عنه وقد يوفق للتوبة فيسقط عنه ذلك وفى هذا الحديث تحريم دعوى ما ليس له في كل شئ سواء تعلق به حق لغيره أم لا وفيه أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به الحاكم إذا كان لا يستحقه والله تعالى أعلم وأما قوله ص = ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك الا حار
[ 51 ]
عليه فهذا الاستثناء قيل انه واقع على المعنى وتقريره ما يدعوه أحد الا حار عليه ويحتمل أن يكون معطوفا على الأول وهو قوله ص = ليس من رجل فيكون الاستثناء جاريا على اللفظ وضبطنا عدو الله على وجهين الرفع والنصب والنصب أرجح على النداء أي يا عدو الله والرفع على أنه خبر امبتدا أي هو عدو الله كما تقدم في الرواية الأخرى قال لأخيه كافر فانا ضبطناه كافر بالرفع والتنوين على أنه خبر المبتدا محذوف والله اعلم وأما أسانيد الباب ففيه ابن بريده عن يحيى بن يعمر عن أبى الأسود عن أبى ذر فأما ابن بريدة فهو عبد الله بن بريدة بن الحصيب الاسلمي وليس هو سليمان بن بريدة أخاه وهو وأخوه سليمان ثقتان سيدان تابعيان جليلان ولدا في بطن واحد في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأما يعمر فبفتح الياء وفتح الميم وضمها وقد تقدم ذكر ابن بريدة ويحيى بن يعمر في أول اسناد في كتاب الايمان وأما أبو الأسود فهو الدؤلى واسمه ظالم بن عمرو وهذا هو المشهور وقيل اسمه عمرو بن ظالم وقيل عمرو بن سفيان وقال الواقدي اسمه عويمر بن ظويلم وهو بصرى قاضيها وكان من عقلاء الرجال وهو الذى وضع النحو تابعي جليل وقد اجتمع في هذا الاسناد ثلاثة تابعيون جلة بعضهم عن بعض ابن بريدة ويحيى وأبو الأسود وأما أبو ذر رضى الله عنه فالمشهور في اسمه جندب بن جنادة وقيل اسمه برير بضم الباء الموحدة وبالزاء المكررة واسم أمه رملة بنت الوقيعة كان رابع أربعة في الاسلام وقيل خامس خمسة ومناقبه مشهورة رضى الله عنه والله أعلم باب بيان حال ايمان من رغب عن أبيه وهو يعلم قوله ص = (لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر وفى الرواية
[ 52 ]
الأخرى من ادعى أبا في الاسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام) أما الرواية الأولى فقد تقدم شرحها في الباب الذى قبل هذا وأما قوله ص = فالجنة عليه حرام ففيه التأويلان اللذان قدمناهما في نظائره أحدهما محمول على من فعله مستحلا له والثانى أن جزاءه أنها محرمة عليه أولا عند دخول الفائزين وأهل السلامة ثم انه قد يجازى فيمنعها عند دخولهم ثم يدخلها بعد ذلك وقد لا يجازى بل يعفو الله سبحانه وتعالى عنه ومعنى حرام ممنوعة ويقال رغب عن أبيه أي ترك الانتساب إليه وجحده يقال رغبت عن الشئ تركته وكرهته ورغبت فيه اخترته وطلبته وأما قول أبى عثمان لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة فقلت له ما هذا الذى صنعتم انى سمعت سعد بن أبى وقاص يقول سمع أذناى من رسول الله ص = وهو يقول من ادعى أبا في الاسلام غير أبيه فالجنة عليه حرام فقال أبو بكرة أنا سمعته من رسول الله ص = فمعنى هذا الكلام الانكار على أبى بكرة وذلك أن زيادا هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبى سفيان ويقال فيه زياد بن أبيه ويقال زياد بن أمه وهو أخو أبى بكرة لأمه وكان يعرف بزياد بن عبيد الثقفى ثم ادعاه معاوية بن أبى سفيان وألحقه بأبيه أبى سفيان وصار من جملة أصحابه بعد أن كان من أصحاب على بن أبى طالب رضى الله عنه فلهذا قال أبو عثمان لأبى بكرة ما هذا الذى صنعتم وكان أبو بكرة رضى الله عنه ممن أنكر ذلك وهجر بسببه زيادا وحلف أن لا يكلمه أبدا ولعل أبا عثمان لم يبلغه انكار أبى بكرة حين قال له هذا الكلام أو يكون مراده بقوله ما هذا الذى صنعتم أي ما هذا الذى جرى من أخيك ما أقبحه وأعظم عقوبته فان النبي ص = حرم على فاعله الجنة وقوله ادعى ضبطناه بضم الدال وكسر العين مبنى لما لم يسم فاعله أي ادعاه معاوية ووجد بخط الحافظ أبى عامر العبدرى ادعى بفتح الدال والعين على أن زيادا
[ 53 ]
هو الفاعل وهذا له وجه من حيث ان معاوية ادعاه وصدقه زياد فصار زياد مدعيا أنه ابن أبى سفيان والله اعلم وأما قول سعد سمع أذناى فهكذا ضبطناه سمع بكسر الميم وفتح العين وأذناي بالتثنية وكذا نقل الشيخ أبو عمر وكونه أذناى بالألف على التثنية عن رواية أبى الفتح السمرقندى عن عبد الغافر قال وهو فيما يعتمد من أصل أبى القاسم العساكري وغيره أذنى بغير ألف وحكى القاضى عياض أن بعضهم ضبطه باسكان الميم وفتح العين على المصدر وأذنى بلفظ الافراد قال ضبطناه من طريق الجيانى بضم العين مع اسكان الميم وهو الوجه قال سيبويه العرب تقول سمع أذنى زيدا يقول كذا وحكى عن القاضى الحافظ أبى على بن سكرة أنه ضبطه بكسر الميم كما ذكرناه أولا وأنكره القاضى وليس انكاره بشئ بل الأوجه المذكورة كلها صحيحة ظاهرة ويؤيد كسر الميم قوله في الرواية الاخرى سمعته أذناى ووعاه قلبى والله أعلم وأما قوله في الرواية الاخرى سمعته أذناى ووعاه قلبى محمدا ص = فنصب محمد على البدل من الضمير في سمعته أذناى ومعنى وعاه حفظه والله أعلم وأما ما يتعلق بالاسناد ففيه هارون الايلى بالمثناة وعراك بكسر العين المهملة وتخفيف الراء وبالكاف وفيه أبو عثمان وهو النهدي بفتح النون واسمه عبد الرحمن بن مل بفتح الميم وكسرها وضمها مع تشديد اللام ويقال ملء بالكسر مع اسكان اللام وبعدها همزة وقد تقدم بيانه في شرح آخر المقدمة وأما أبو بكرة فاسمه نفيع بن الحرث بن كلدة بفتح الكاف والللام وأمه وأم أخيه زياد سمية أمة الحرث بن كلدة وقيل له أبو بكرة لأنه تدلى الى رسول الله ص = من حصن الطائف ببكرة مات بالبصرة سنة احدى وقيل اثنتين وخمسين رضى الله عنه والله سبحانه وتعالى أعلم باب بيان قول النبي ص = سباب المسلم فسوق وقتاله كفر السب في اللغة الشتم والتكلم في عرض الانسان بما يعيبه والفسق في اللغة الخروج والمراد
[ 54 ]
به في الشرع الخروج عن الطاعة وأما معنى الحديث فسب المسلم بغير حق حرام باجماع الامة وفاعله فاسق كما أخبر به النبي ص = وأما قتاله حق فلا يكفر به عند أهل الحق كفرا يخرج به من الملة كما قدمناه في مواضع كثيرة إلا إذا استحله فإذا تقرر هذا فقيل في تأويل الحديث أقوال أحدها أنه في المستحل والثانى أن المراد كفر الاحسان والنعمة وأخوة الاسلام لاكفر الجحود والثالث أنه يؤول الى الكفر بشؤمه والرابع أنه كفعل الكفار والله أعلم ثم ان الظاهر من قتاله المقاتلة المعروفة قال القاضى ويجوز أن يكون المراد المشارة والمدافعة والله أعلم وأما ما يتعلق بالاسناد ففيه محمد بن بكار بن الريان بالراء المفتوحة وتشديد المثناة تحت وفيه زبيد بضم الزاى وبالموحدة ثم المثناة وهو زبيد بن الحرث اليامى ويقال الايامى وليس في الصحيحين غيره وفى الموطأ زبيد بن الصلت بتكرير المثناة وبضم الزاى وكسرها وقد تقدم بيانه في آخر الفصول وفيه أبو وائل شفيق بن سلمة وأما قول مسلم في أول الاسناد (حدثنا محمد بن بكار وعون قالا حدثنا محمد بن طلحة ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدى حدثنا سفيان وحدثنا سفيان وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة كلهم عن زبيد) فهكذا ضبطناه وكذا وقع في أصلنا وبعض الاصول ووقع في الاصول
[ 55 ]
التى اعتمدها الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله بطريقى محمد بن طلحة وشعبة ولم يقع فيها طريق محمد بن المثنى عن ابن مهدى عن سفيان وأنكر الشيخ قوله كلهم مع أنهما اثنان محمد بن طلحة وشعبة وانكاره صحيح على ما في أصوله وأما على ما عندنا فلا انكار فان سفيان ثالثهما والله أعلم باب بيان معنى قول النبي ص = (لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) قوله ص = (لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) قيل في معناه سبعة أقوال أحدها أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق والثانى المراد كفر النعمة وحق الاسلام والثالث أنه يقرب من الكفر ويؤدى إليه والرابع أنه فعل كفعل الكفر والخامس المراد حقيقة الكفر ومعناه لا تكفرا بل دوموا مسلمين والسادس حكاه الخطابى وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح يقال تكفر الرجل بسلاحه إذ لبسه قال الأزهري في كتابه تهذيب اللغة يقال للابس السلاح كافر والسابع قاله الخطابى معناه لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا وأظهر الاقوال الرابع وهو اختيار القاضى عياض رحمه الله ثم ان الرواية يضرب برفع الباء هكذا هو الصواب وكذا رواه المتقدمون والمتأخرون وبه يصح المقصود هنا ونقل القاضى عياض رحمه الله أن بعض العلماء ضبطه باسكان الباء قال القاضى وهو احالة للمعنى والصواب الضم قلت وكذا قال أبو البقاء العكبرى أنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر أي ان ترجعوا يضرب والله أعلم وأما قوله ص = لا ترجعوا
[ 56 ]
بعدى كفارا فقال القاضى قال الصبرى معناه بعد فراقي من موقفي هذا وكان هذا يوم النحر بمنى في حجة الوداع أو يكون بعدى أي خلافى أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذى أمرتكم به أو يكون تحقق ص = أن هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد مماته وقوله ص = (استنصت الناس) معناه مرهم بالانصات ليسمعوا هذه الامور المهمة والقواعد التى سأقررها لكم وأحملكموها وقوله في حجة الوداع سميت بذلك لأن النبي ص = ودع الناس فيها وعلمهم في خطبته فيها أمر دينهم وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها الى من غاب عنها فقال ص = ليبلغ الشاهد منكم الغائب والمعروف في الرواية حجة الوداع بفتح الحاء وقال الهروي وغيره من أهل اللغة المسموع من العرب في واحدة الحجج حجة بكسر الحاء قالوا والقياس فتحها لكونها اسما للمرة الواحدة وليست عبارة عن الهيئة حتى تكسر قالوا فيجوز الكسر بالسماع والفتح بالقياس وقوله ص = (ويحكم أو قال ويلكم) قال القاضى هما كلمتان استعملتهما العرب بمعنى التعجب والتوجع قال سيبويه ويل كلمة لمن وقع في هلكة وويح ترحم وحكى عنه ويح زجر لمن أشرف على الهلكة قال غيره ولا يراد بهما الدعاء بايقاع الهلكة ولكن الترحم والتعجب وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال ويح كلمة
[ 57 ]
رحمة وقال الهروي ويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له وويل للذى يستحقها ولا يترحم عليه والله أعلم وأما أسانيد الباب ففيه على بن مدرك بضم الميم واسكان الدال وكسر الراء وفيه أبو زرعة بن عمرو بن جرير وفى اسمه خلاف مشهور قد قدمناه في أول الكتاب وهو كتاب الايمان قيل اسمه هرم وقيل عمرو وقيل عبد الرحمن وقيل عبيد وفيه واقد بن محمد بالقاف وقد قدمنا أنه ليس في الصحيحين وافد والله أعلم بالصواب باب اطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة قوله ص = (اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت) وفيه أقوال أصحها أن معناه هما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية والثانى أنه يؤدى الى الكفر والثالث أنه كفر النعمة والاحسان والرابع أن ذلك في المستحل وفى هذا الحديث تغليظ تحريم الطعن في النسب والنياحة وقد جاء في كل واحد منهما نوص معروفة والله أعلم باب تسمية العبد الآبق كافرا قوله ص = (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم) وفى الرواية
[ 58 ]
الاخرى قد برئت منه الذمة وفى الاخرى إذا ابق العبد لم تقبل له صلاة أما تسميته كافرا ففيه الاوجه التى في الباب قبله وأما قوله ص = (فقد برئت منه الذمة) فمعناه لا ذمة له قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله بالذمة هنا يجوز أن تكون هي الذمة المفسرة بالذمام وهى الحرمة ويجوز أن يكون من قبيل ما جاء في قوله له ذمة الله وذمة رسول الله ص = أي ضمانه وأمانته ورعايته ومن ذلك أن الآبق كان مصونا عن عقوبة السيد له وحبسه فزال ذلك باباقه والله اعلم وأما قوله ص = (إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة) فقد أوله الامام المازرى وتابعه القاضى عياض رحمهما الله على أن ذلك محمول على المستحل للاباق فيكفر ولا تقبل له صلاة لا غيرها ونبه بالصلاة على غيرها وأنكر الشيخ أبو عمرو هذا وقال بل ذلك جار في غير المستحل ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحة فصلاة الآبق صحيحة غير مقبولة فعدم قبولها لهذا الحديث وذلك لاقترانها بمعصية وأما صحتها فلوجود شروطها وأركانها المستلزمة صحتها ولا تناقض في ذلك ويظهر أثر عدم القبول في سقوط الثواب وأثر الصحة في سقوط القضاء وفى أنه لا يعاقب عقوبة تارك الصلاة هذا آخر كلام الشيخ أبى عمرو رحمه الله وهو ظاهر لاشك في حسنه وقد قال جماهير أصحابنا ان الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة لا ثواب فيها ورأيت في فتاوى أبى نصر بن الصباغ من أصحابنا التى نقلها عنه ابن أخيه القاضى أبو منصور قال المحفوظ من كلام أصحابنا بالعراق أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة يسقط بها الفرض ولا ثواب فيها قال أبو منصور ورأيت أصحابنا بخراسان اختلفوا فمنهم من قال لا تصح الصلاة قال وذكر شيخنا في الكامل أنه ينبغى أن تصح ويحصل الثواب على الفعل فيكون مثابا على فعله عاصيا بالمقام في المغصوب فإذا لم نمنع
[ 59 ]
من صحتها لم نمنع من حصول الثواب قال أبو منصور وهذا هو القياس على طريق من صححها والله اعلم ويقال أبق العبد وابق بفتح الباء وكسرها لغتان مشهورتان الفتح أفصح وبه جاء القرآن ابق الى الفلك المشحون وأما قوله عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبى عن جرير أنه سمعه يقول أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم قال منصور قد والله روى عن النبي ص = ولكني أكره أن يروى عنى ههنا بالبصرة فمعناه أن منصورا روى هذا الحديث عن الشعبى عن جرير موقوفا عليه ثم قال منصور بعد روايته اياه موقوفا والله انه مرفوع الى النبي ص = فاعلموه أيها الخواص الحاضرون فانى اكره أن اصرح برفعه في لفظ روايتي فيشيع عنى في البصرة التى هي مملؤة من المعتزلة والخوارج الذين يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار والخوارج يزيدون على التخليد فيحكمون بكفره ولهم شبهة في التعلق بظاهر هذا الحديث وقد قدمنا تأويله وبطلان مذاهبهم بالدلائل القاطعة الواضحة التى ذكرناها في مواضع من هذا الكتاب والله أعلم واما منصور بن عبد الرحمن هذا فهو الأشل الغدانى البصري وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ووضعفه أبو حاتم الرازي وفى الرواة خمسة يقال لكل واحد منهم منصور بن عبد الرحمن هذا أحدهم والله اعلم باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء قوله (صلى بنا رسول الله ص = صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف قال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال قال اصبح من عبادي
[ 60 ]
مؤمن بى وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا نبوء كذا وكذلك فذلك كافر بى مؤمن بالكوكب) أما الحديبية ففيها لغتان تخفيف الياء وتشديدها والتخفيف هو الصحيح المشهور المختار وهو قول الشافعي وأهل اللغة وبعض المحدثين والتشديد قول الكسائي وابن وهب وجماهير المحدثين واختلافهم في الجعرانة كذلك في تشديد الراء وتخفيها والمختار فيها أيضا التخفيف وقوله على اثر سماء هو بكسر الهمزة واسكان الثاء وبفتحها جميعا لغتان مشهورتان والسماء المطر وأما معنى الحديث فاختلف العلماء في كفر من قال مطرنا بنوء كذا على قولين أحدهما هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الايمان مخرج من ملة الاسلام قالوا وهذا فيمن قال ذلك معتقدا أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم ومن أعتقد هذا فلا شك في كفره وهذا القول هو الذى ذهب إليه جماهير العلماء والشافعي منهم وهو ظاهر الحديث قالوا وعلى هذا لو قال مطرنا بنوء كذا معتقدا أنه من الله تعالى
[ 61 ]
وبرحمته وأن النوء ميقات وله علاقة اعتبارا بالعادة فكأنه قال مطرنا في وقت كذا فهذا لا يكفر واختلفوا في كراهته والأظهر كراهته لكنها كراهة تنزيه لا اثم فيها وسبب الكراهة انها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظن بصاحبها ولأنها شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم والقول الثاني في أصل تأويل الحديث أن المراد كفر نعمة الله تعالى لاقتصاره على اضافة الغيث الى الكوكب وهذا فيمن لا يعتقد تدبير الكوكب ويؤيد هذا التأويل الرواية الاخيرة في الباب أصبح من الناس شاكر وكافر وفى الرواية الأخرى ما أنعمت على عبادي من نعمة الا اصبح فريق منهم بها كافرين وفى الرواية الاخرى ما أنزل الله تعالى من السماء من بركة الا اصبح فريق من الناس بها كافرين فقوله بها يدل على أنه كفر بالنعمة والله اعلم وأما النوء ففيه كلام طويل قد لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله فقال النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب فانه مصدر ناء النجم ينوء نوءا أي سقط وغاب وقيل أي نهض وطلع وبيان ذلك أن ثمانية وعشرين نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها وهى المعروفة بمنازل القمر الثمانية والعشرين يسقط في كل ثلاثة عشرة ليلة منها نجم في المغرب مع طلوع الفجر ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته وكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر ينسبونه الى الساقط الغارب منهما وقال الاصمعي الى الطالع منهما قال أبو عبيد ولم أسمع احدا ينسب النوء للسقوط الا في هذا الموضع ثم ان النجم نفسه قد يسمى نوءا تسمية للفاعل بالمصدر قال أبو اسحاق الزجاج في بعض أماليه الساقطة في الغرب هي الانواء والطالعة في المشرق هي البوارح والله اعلم وأما قوله في رواية ابن عباس رضى الله عنهما (مطر الناس على عهد رسول الله ص =
[ 62 ]
فقال النبي ص = أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) فقال الشيخ أبو عمرو رحمه الله ليس مراده أن جميع هذا نزل في قولهم في الأنواء فان الامر في ذلك تفسيره يأبى ذلك وانما النازل في ذلك قوله تعالى رزقكم أنكم تكذبون والباقى نزل في غير ذلك ولكن اجتمعا في وقت النزول فذكر الجميع من أجل ذلك قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله ومما يدل على هذا أن في بعض الروايات عن ابن عباس رضى الله عنهما في ذلك الاقتصار على هذا القدر اليسير فحسب هذا آخر كلام الشيخ رحمه الله وأما تفسير الآية فقيل تجعلون رزقكم أي شكركم كذا قاله ابن عباس والأكثرون وقيل تجعلون شكر رزقكم قاله الازهرى وأبو على الفارسى وقال الحسن أي تجعلون حظكم وأما مواقع النجوم فقال الأكثرون المراد نجوم السماء ومواقعها مغاربها وقيل مطالعها وقيل انكدارها وقيل انتثارها يوم القيامة وقيل النجوم نجوم القرآن وهى أوقات نزوله وقال مجاهد مواقع النجوم محكم القرآن والله أعلم وأما ما يتعلق بالأسانيد ففيه عمرو بن سواد بتشديد الواو آخره دال وفيه أبو يونس مولى أبى هريرة واسمه سليم بن جبير بضم أولهما وفيه عباس بن عبد العظيم العنبري هو بالسين المهملة والعنبري بالعين المهملة والنون بعدها موحدة قال القاضى وضبطه العذري الغبرى بالغين المعجمة وهو تصحيف بلا شك وفيه أبو زميل بضم الزاى وفتح الميم واسمه سماك بن الوليد الحنفي اليمامى قال ابن عبد البر اجمعوا على أنه ثقة والله اعلم وأما قول مسلم رحمه الله حدثنى محمد بن سلمة المرادى حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث قال مسلم رحمه الله وحدثني عمرو بن سواد أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث أن أبا يونس مولى أبى هريرة حدثه عن أبى هريرة فهذا الاسناد كله بصريون الا أبا
[ 63 ]
هريرة فمدنى وأنما أتى مسلم بعبد الله بن وهب وعمرو بن الحارث أولا ثم أعادهما ولم يقتصر على قوله حدثنا محمد وعمرو بن سواد لاختلاف لفظ الروايات كما ترى وقد نبهنا على مثل هذا التدقيق والاحتياط لمسلم رحمه الله في مواضع والله اعلم بالصواب باب الدليل على أن حب الانصار وعلى رضى الله عنهم (من الايمان وعلاماته وبعضهم من علامات النفاق) قوله ص = (آية المنافق بغض الانصار وآية المؤمن حب الانصار وفى الرواية الأخرى حب الانصار آية الايمان وبغضهم آية النفاق وفى الأخرى لا يحبهم الا مؤمن ولا يبغضهم الا منافق من أحبهم أحبه الله ومن ابغضهم أبغضه الله وفى الأخرى
[ 64 ]
لا يبغض الانصار رجل يؤمن بالله واليوم الأخر وفى حديث على رضى الله عنه والذى فلق الحبة وبرأ النسمة انه لعهد النبي ص = الى أن لا يحبنى الا مؤمن ولا يبغضني الا منافق) قد تقدم أن الآية هي العلامة ومعنى هذه الأحاديث أن من عرف مرتبة الانصار وما كان منهم في نصرة دين الاسلام والسعى في اظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الاسلام حق القيام وحبهم النبي ص = وحبه اياهم وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثارا للاسلام وعرف من على بن ابى طالب رضى الله عنه قربه من رسول الله ص = وحب النبي ص = له وما كان منه من نصرة الاسلام وسوابقه فيه ثم أحب الانصار وعليا لهذا كان ذلك من دلائل صحة ايمانه وصدقه في اسلامه لسروره بظهور الاسلام والقيام بما يرضى الله سبحانه وتعالى ورسوله ص = ومن أبغضهم كان بضد ذلك واستدل به على نفاقه وفساد سريرته والله اعلم وأما قوله فلق الحبة فمعناه شقها بالنبات وقوله وبرأ النسمة هو بالهمزة أي خلق
[ 65 ]
النسمة وهى بفتح النون والسين وهى الانسان وقيل النفس وحكى الأزهري أن النسمة هي النفس وأن كل دابة في جوفها روح فهى نسمة والله أعلم وأما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه عبد الله بن عبد الله بن جبر فعبد مكبر في اسمه واسم ابيه وجبر بفتح الجيم واسكان الباء ويقال فيه ايضا جابر وفيه البراء بن عازب وهو معروف بالمد هذا هو المشهور عند أهل العلم من المحدثين وأهل اللغة والأخبار وأصحاب الفنون كلها قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله وحفظت فيه عن بعض اهل اللغة القصر والمد وفيه يعقوب بن عبد الرحمن القارى بتشديد الياء منسوب الى القارة قبيله معروفة وفيه زر بكسر الزاى وتشديد الراء وهو زر بن حبيش وهو من المعمرين أدرك الجاهلية ومات سنة اثنتين وثمانين وهو ابن مائة وعشرين سنة وقيل ابن مائة واثنتين وعشرين سنة وقيل مائة وسبعة وعشرين وهو أسدى كوفى وأما قول مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدى عن شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبر قال سمعت أنسا يقول ثم قال مسلم حدثنا يحيى بن حبيب الحارثى حدثنا خالد يعنى ابن الحرث حدثنا شعبة عن عبد الله بن عبد الله عن أنس فهذان الاسنادان رجالهما كلهم بصريون الا ابن جبر فانه انصاري مدنى وقد قدمنا ان شعبة وان كان واسطيا فقد استوطن البصرة والله اعلم باب بيان نقصان الايمان بنقص الطاعات وبيان اطلاق لفظ (الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق) قوله ص = (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فانى رأيتكن أكثر أهل
[ 66 ]
النار فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذى لب منكن قالت يا رسول الله وما نقصان العقل والدين قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد فهذا نقصان العقل وتمكث الليالى ما تصلى وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين) قال أهل اللغة المعشر هم الجماعة الذين أمرهم واحد أي مشتركون وهو اسم يتناولهم كالانس معشر والجن معشر والأنبياء معشر والنساء معشر ونحو ذلك وجمعه معاشر وقوله ص = رأيتكن أكثر اهل النار هو بنصب أكثر اما على أن هذه الرؤية تتعدى الى مفعولين وأما على الحال على مذهب ابن السراج وأبى على الفارسى وغيرهما ممن قال ان أفعل لا يتعرف بالاضافة وقيل هو بدل من الكاف في رأيتكن وأما قولها ومالنا أكثر أهل النار فمنصوب أما على الحكاية وأما على الحال وقوله جزلة بفتح الجيم واسكان الزاي أي ذات عقل ورأي قال ابن دريد الجزالة العقل والوقار وأما العشير بفتح العين وكسر الشين وهو في الأصل المعاشر مطلقا والمراد هنا الزوج وأما اللب فهو العقل والمراد كمال العقل وقوله ص = فهذا نقصان العقل أي علامة نقصانه وقوله ص = وتمكث الليالى ما تصلى أي تمكث ليالى وأياما لا تصلى بسبب الحيض وتفطر أياما من رمضان بسبب الحيض والله أعلم وأما أحكام الحديث ففيه جمل من العلوم منها الحث على الصدقة وأفعال البر والاكثار من الاستغفار وسائر الطاعات وفيه ان الحسنات يذهبن السيئات كما قال الله عزوجل وفيه ان كفران العشير والاحسان من الكبائر فان التوعد بالنار من علامة كون المعصية كبيرة كما سنوضحه قريبا ان شاء الله تعالى وفيه ان اللعن أيضا من المعاصي
[ 67 ]
الشديدة القبح وليس فيه أنه كبيرة فانه ص = قال تكثرن اللعن والصغيرة إذا أكثرت صارت كبيرة وقد قال ص = لعن المؤمن كقتله واتفق العلماء على تحريم اللعن فانه في اللغة الابعاد والطرد وفى الشرع الابعاد من رحمة الله تعالى فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله تعالى من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطيعة فلهذا قالوا لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو كافرا أو دابة الا من علمنا بنص شرعى أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبى جهل وابليس وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله والمصورين والظالمين والفاسقين والكافرين ولعن من غير منار الأرض ومن تولى غير مواليه ومن انتسب الى غير أبيه ومن أحدث في الاسلام حدثا أو آوى محدثا وغير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية باطلاقه على الأوصاف لاعلى الأعيان والله اعلم وفيه اطلاق الكفر على غير الكفر بالله تعالى ككفر العشير والاحسان والنعمة والحق ويؤخذ من ذلك صحة تأويل الكفر في الاحاديث المتقدمة على ما تأولناها وفيه بيان زيادة الايمان ونقصانه وفيه وعظ الامام وأصحاب الولايات وكبراء الناس رعاياهم وتحذيرهم المخالفات وتحريضهم على الطاعات وفيه مراجعة المتعلم العالم والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه كمراجعة هذه الجزلة رضى الله عنها وفيه جواز اطلاق رمضان من غير اضافة الى الشهر وان كان الاختيار اضافته والله اعلم قال الامام أبو عبد الله المازرى رحمه الله قوله ص = أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل تنبيه منه ص = على ما وراءه وهو ما نبه الله تعالى عليه في كتابه بقوله تعالى تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى أي انهن قليلات الضبط قال وقد
[ 68 ]
اختلف الناس في العقل ما هو فقيل هو العلم وقيل بعض العلوم الضرورية وقيل قوة يميز بها بين حقائق المعلومات هذا كلامه قلت والاختلاف في حقيقة العقل وأقسامه كثير معروف لا حاجة هنا الى الاطالة به واختلفوا في محله فقال أصحابنا المتكلمون هو في القلب وقال بعض العلماء هو في الرأس والله اعلم وأما وصفه ص = النساء بنقصان الدين لتركهن الصلاة والصوم في زمن الحيض فقد يستشكل معناه وليس بمشكل بل هو ظاهر فان الدين والايمان والاسلام مشتركة في معنى واحد كما قدمناه في مواضع وقد قدمنا أيضا في مواضع أن الطاعات تسمى أيمانا ودينا وإذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه ومن نقصت عبادته نقص دينه ثم نقص الدين قد يكون على وجه يأثم به كمن ترك الصلاة أو الصوم أو غيرهما من العبادات الواجبة عليه بلا عذر وقد يكون على وجه لا اثم فيه كمن ترك الجمعة أو الغزو أو غير ذلك مما لا يجب عليه لعذر وقد يكون على وجه هو مكلف به كترك الحائض الصلاة والصوم فان قيل فان كانت معذورة فهل تثاب على الصلاة في زمن الحيض وان كانت لا تقضيها كما يثاب المريض والمسافر ويكتب له في مرضه وسفره مثل نوافل الصلوات التى كان يفعلها في صحته وحضره فالجواب أن ظاهر هذا الحديث أنها لا تثاب والفرق ان المريض والمسافر كان يفعلها بينة الدوام عليها مع أهليته لها والحائض ليست كذلك بل نيتها ترك الصلاة في زمن الحيض بل يحرم عليها نية الصلاة في زمن الحيض فنظيرها مسافر أو مريض كان يصلى النافلة في وقت ويترك في وقت غير ناو الدوام عليها فهذا لا يكتب له في سفره ومرضه في الزمن الذى لم يكن يتنفل فيه والله اعلم وأما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه ابن الهاد واسمه يزيد بن عبد الله بن اسامة وأسامة هو الهاد لانه كان يوقد نارا ليهتدى إليها الاضياف ومن سلك الطريق وهكذا يقوله المحدثون الهاد وهو صحيح على لغة والمختار في العربية الهادى بالياء وقد قدمنا ذكر هذا في مقدمة الكتاب وغيرها والله اعلم وفيه أبو بكر بن اسحاق واسمه
[ 69 ]
محمد وفيه ابن أبى مريم وهو سعيد بن الحكم بن محمد بن أبى مريم الجمحى أبو محمد المصرى الفقيه الجليل وفيه عمرو بن أبى عمرو عن المقبرى وقد اختلف في المراد بالمقبرى هنا هل هو أبو سعيد المقبرى أو ابنه سعيد فان كل واحد منهما يقال له المقبرى وان كان المقبرى في الاصل هو أبو سعيد فقال الحافظ أبو على الغساني الجيانى عن أبى مسعود الدمشقي هو أبو سعيد قال أبو على وهذا انما هو في رواية اسمعيل بن جعفر عن عمرو بن أبى عمرو وقال الدارقطني خالفه سليمان بن بلال فرواه عن عمرو عن سعيد المقبرى قال الدارقطني وقول سليمان بن بلال أصح قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله رواه أبو نعيم الاصفهانى في كتابه المخرج على صحيح مسلم من وجوه مرضية عن اسمعيل بن جعفر عن عمرو بن أبى عمرو عن سعيد ابن أبى سعيد المقبرى هكذا مبينا لكن رويناه في مسند ابى عوانة المخرج على صحيح مسلم من طريق اسمعيل بن جعفر عن أبى سعيد ومن طريق سليمان بن بلال عن سعيد كما سبق عن الدارقطني فالاعتماد عليه إذا هذا كلام الشيخ ويقال المقبرى بضم الباء وفتحها وجهان مشهوران فيه وهى نسبة الى المقبرة وفيها ثلاث لغات ضم الباء وفتحها وكسرها والثالثة غريبة قال ابراهيم الحربى وغيره كان أبو سعيد ينزل المقابر فقيل له المقبرى وقيل كان منزله عند المقابر وقيل ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعله على حفر القبور فقيل له المقبري وجعل نعيما على اجمار المسجد فقيل له نعيم المجمر واسم ابى سعيد كيسان الليثى المدنى والله اعلم باب بيان اطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاه في الباب حديثان أحدهما (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى يقول يا ويله
[ 70 ]
وفى رواية يا ويلى أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فابيت فلى النار) والحديث الثاني (ان بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) مقصود مسلم رحمه الله بذكر هذين الحديثين هنا أن من الافعال ما تركه يوجب الكفر اما حقيقة واما تسمية فأما كفر ابليس بسبب السجود فمأخوذ من قول الله تعالى قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين قال الجمهور معناه وكان في علم الله تعالى من الكافرين وقال بعضهم وصار من الكافرين كقوله تعالى بينهما الموج فكان من المغرقين وأما تارك الصلاة فان كان منكرا لوجوبها فهو كافر باجماع المسلمين خارج من ملة الاسلام الا ان يكون قريب عهد بالاسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه وان كان تركه تكاسلا مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف العلماء فيه فذهب مالك والشافعي رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف الى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب فان تاب والا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف وذهب جماعة من السلف الى أنه يكفر وهو مروى عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه وهو احدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله وبه قال عبد الله بن المبارك واسحاق بن راهوية وهو وجه لبعض اصحاب الشافعي رضوان الله عليه وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزنى صاحب الشافعي رحمهما الله أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلى واحتج من قال بكفره بظاهر الحديث الثاني المذكور وبالقياس على كلمة التوحيد
[ 71 ]
واحتج من قال لا يقتل بحديث لا يحل دم امرئ مسلم الا باحدى ثلاث وليس فيه الصلاة واحتج الجمهور على أنه لا يكفر بقوله تعالى الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وبقوله ص = من قال لا إله الا الله دخل الجنة من مات وهو يعلم أن لا إله الا الله دخل الجن ولا يلقى الله تعالى عبد بهما غير شاك فيحجب عن الجنة حرم الله على النار من قال لا إله الا الله وغير ذلك واحتجوا على قتله بقوله تعالى تابوا وأقام الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وقوله ص = أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم وتأولوا قوله ص = بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهى القتل أو أنه محمول على المستحل أو على أنه قد يؤول به الى الكفر أو أن فعله فعل الكفار والله اعلم وأما قوله ص = إذا قرأ ابن آدم السجدة فمعناه آية السجدة وقوله يا ويله هو من آداب الكلام وهو أنه إذا عرض في الحكاية عن الغير ما فيه سوء واقتضت الحكاية رجوع الضمير الى المتكلم صرف الحاكى الضمير عن نفسه تصاونا عن صورة اضافة السوء الى نفسه وقوله في الرواية الاخرى يا ويلى يجوز فيه فتح اللام وكسرها وقوله ص = بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة هكذا هو في جميع الاصول من صحيح مسلم الشرك والكفر بالواو وفى مخرج أبى عوانه الاسفراينى وأبى نعيم الاصبهاني أو الكفر بأو ولكل واحد منهما وجه ومعنى بينه وبين الشرك ترك الصلاة أن الذى يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة فإذا تركها لم يبق بينه وبين الشرك حائل بل دخل فيه ثم ان الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله تعالى وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبدة الاوثان وغيرها من المخلوقات مع اعترافهم بالله تعالى ككفار قريش فيكون الكفر أعم من الشرك والله أعلم وقد احتج أصحاب أبى حنيفة رحمه الله واياهم بقوله أمر ابن آدم بالسجود على أن
[ 72 ]
سجود التلاوة واجب ومذهب مالك والشافعي والكبيرين أنه سنة وأجابوا عن هذا بأجوبة أحدها أن تسمية هذا أمرا إنما هو من كلام ابليس فلا حجة فيها فان قالوا حكاها النبي ص = ولم ينكرها قلنا قد حكى غيرها من أقوال الكفار ولم يبطلها حال الحكاية وهي باطلة الوجه الثاني أن المراد أمر ندب لا إيجاب الثالث المراد المشاركة في السجود لا في الوجوب والله أعلم وأما ما يتعلق باسانيده ففيه أبو غسان وقد تقدم أنه يصرف ولا يصرف واسمه مالك بن عبد الواحد وفيه أبو سفيان عن جابر وقد تقدم ان اسمه طلحة بن نافع وفيه أبو الزبير محمد ابن مسلم بن تدرس تقدم أيضا والله اعلم باب بيان كون الايمان بالله تعالى أفضل الاعمال أما أحاديث الباب (فعن أبى هريرة وأبى ذر وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهم قال سئل رسول الله ص = أي الاعمال أفضل قال الايمان بالله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور وفى رواية ايمان بالله ورسوله وفى رواية
[ 73 ]
الايمان بالله والجهاد في سبيله قلت أي الرقاب أفضل قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا قلت فان لم أفعل قال تعين صانعا أو تصنع لا أخرق قلت أرأيت أن ضعفت عن بعض العمل قال تكف شرك عن الناس فانها صدقة منك على نفسك) وفى رواية الزهري تعين الصانع أو تصنع لأخرق وفى رواية أي العمل أفضل قال الصلاة لوقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم
[ 74 ]
أي قال الجهاد في سبيل الله فما تركت أستزيده الا ارعاء عليه وفى رواية لو استزدته لزادنى وفى رواية أي الأعمال أقرب الى الجنة قال الصلاة على مواقيتها قلت وماذا قال الجهاد في سبيل الله وفى رواية أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين هذه الفاظ المتون وأما اسماء الرجال ففى الباب أبو هريرة وأبو ذر ومنصور بن أبى مزاحم وابن شهاب وسعيد بن المسيب وأبو الربيع الزهراني وأبو مراوح والشيبانى عن الوليد بن العيزار عن سعد بن اياس أبى عمرو الشيباني وأبو يعفور أما الفاظ الأحاديث فالحج المبرور قال القاضى عياض رحمه الله قال شمر هو الذى لا يخالطه شئ من المأثم ومنه برت يمينه إذا سلم من الحنث وبربيعة إذا سلم من الخداع وقيل المبرور المتقبل وقال الحربى برحجك بضم الباء
[ 75 ]
وبر الله حجك بفتحها إذا رجع مبرورا مأجورا وفى الحديث بر الحج اطعام الطعام وطيب الكلام فعلى هذا يكون من البر الذى هو فعل الجميل ومنه بر الوالدين والمؤمنين قال ويجوز أن يكون المبرور الصادق الخالص لله تعالى هذا كلام القاضى وقال الجوهرى في صحاحه بر حجه وبر حجه بفتح الباء وضمها وبر الله حجه وقول من قال المبرور المتقبل قد يستشكل من حيث انه لا اطلاع على القبول وجوابه أنه قد قيل من علامات القبول ان يزداد بعده خيرا وأما قوله ص = أنفسها عند أهلها فمعناه أرفعها وأجودها قال الاصمعي مال نفيس أي مرغوب فيه وقوله ص = تعين صانعا أو تصنيع لأخرق الاخرق هو الذى ليس بصانع يقال رجل أخرق وأمراة خرقاء لمن لا صنعة له فان كان صانعا حاذقا قيل رجل صنع بفتح النون وامراة صناع بفتح الصاد وأما قوله صانعا وفى الرواية الاخرى الصانع فروى بالصاد المهملة فيهما وبالنون من الصنعة وروى بالضاد المعجمة وبهمزة بدل النون تكتب ياء من الضياع والصحيح عند العلماء رواية الصاد المهملة والاكثر في الرواية بالمعجمة فتعين قال القاضي عياض رحمه الله روايتنا في هذا من طريق هشام اولا بالمعجمة ضائعا وكذلك في الرواية الاخرى فتعين الضائع من جميع طرقنا عن مسلم في حديث هشام والزهرى الا من رواية أبى الفتح الشاشى عن عبد الغافر الفارسى فان شيخنا أبا بحر حدثنا عنه فيهما بالمهملة وهو صواب الكلام لمقابلته بالاخرق وان كان المعنى من جهة معونة الضائع ايضا صحيحا لكن صحت الرواية عن هشام هنا بالصاد المهملة وكذلك رويناه في صحيح البخاري قال ابن المدينى الزهري يقول الصانع بالمهملة ويرون ان هشاما صحف في قوله ضائعا بالمعجمة وقال الدارقطني عن معمر كان الزهري يقول صحف هشام قال الدار قطني وكذلك رواه اصحاب هشام عنه بالمعجمة وهو تصحيف والصواب ما قاله الزهري هذا كلام القاضى وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح قوله في رواية هشام تعين صانعا هو بالمهملة والنون في أصل الحافظ أبى عامر العبدرى وأبى القاسم بن عساكر قال وهذا هو الصحيح في نفس الامر ولكنه ليس رواية هشام بن عروة انما روايته بالمعجمة وكذا جاء مقيدا من غير هذا الوجه في كتاب مسلم في رواية هشام وأما الرواية الاخرى عن الزهري فتعين الصانع فهى بالمهملة وهى محفوظة عن الزهري كذلك وكان ينسب هشاما الى التصحيف قال الشيخ
[ 76 ]
وذكر القاضى عياض انه بالمعجمة في رواية الزهري لرواة كتاب مسلم الا رواية أبى الفتح السمرقتدى قال الشيخ وليس الامر على ما حكاه في رواية أصولنا لكتاب مسلم فكلها مقيدة في رواية الزهري بالمهملة والله أعلم وأما بر الوالدين فهو الاحسان اليهما وفعل الجميل معهما وفعل ما يسرهما ويدخل فيه الاحسان الى صديقهما كما جاء في الصحيح ان من أبر البر أن يصل الرجل اهل ودأبيه وضد البر العقوق وسيأتى ان شاء الله تعالى قريبا تفسيره قال أهل اللغة يقال بررت والدى بكسر الراء أبره بضمها مع فتح الباء برا وأنا بر به بفتح الباء وبار وجمع البر الابرار وجمع البر البررة قوله فما تركت استزيده الا ارعاء عليه كذا هو في الاصول تركت استزيده من غير لفظ أن بينهما وهو صحيح وهي مرادة وقوله ارعاء هو بكسر الهمزة واسكان الراء وبالعين المهملة ممدود ومعناه ابقاء عليه ورفقا به والله اعلم وأما اسماء الرجال فأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على الصحيح تقدم بيانه وأبو ذر اختلف في اسمه فالاشهر جندب بضم الدال وفتحها ابن جنادة بضم الجيم وقيل اسمه برير بضم الباء الموحدة وبراءين مهملتين وأما منصور بن ابى مزاحم فبالزاي والحاء وجميع ما في الصحيحين مما هذه صورته فهو مزاحم بالزاى والحاء ولهم في الاسماء مراجم بالراء والجيم ومنه العوام بن مراجم واسم أبى مزاحم والد منصور هذا بشير بفتح الباء وأما ابن شهاب فتقدم مرات وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب وأما ابن المسيب فتقدم أيضا مرات انه بفتح الياء على المشهور وقيل بكسرها وأما أبو الربيع الزهراني فتقدم أيضا ان اسمه سليمان بن داود وأما أبو مراوح فبضم الميم وبالراء والحاء المهملة والواو مكسورة قال ابن عبد البر أجمعوا على أنه ثقة وليس يوقف له على اسم واسمه كنيته قال الا أن مسلم بن الحجاج ذكره في الطبقات فقال اسمه سعد وذكره في الكنى ولم يذكر اسمه ويقال في نسبه الغفاري ويقال الليثى قال أبو على الغساني هو الغفاري ثم الليثى وأما الشيباني الراوى عن الوليد بن العيزار فهو أبو إسحاق سليمان بن فيروز الكوفى وأما أبو يعفور فبالعين المهملة والفاء والراء واسمه عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس بكسر النون وبالسين المهملة المكررة الثعلبي بالمثلثة العامري البكاى ويقال البكالى ويقال البكارى الكفوفى ونسطاس غير مصروف وأبو يعفور هذا هو الاصغر وقد ذكره مسلم أيضا في باب التطبيق في الركوع ولهم أبو يعفور الاكبر العبدى الكوفى التابعي واسمه واقد وقيل وقدان وقد ذكره مسلم أيضا
[ 77 ]
في باب صلاة الوتر وقال اسمه واقد ولقبه وقدان وله أيضا أبو يعفور ثالث اسمه عبد الكريم ابن يعفور الجعفي البصري يروى عنه قتيبة ويحيى بن يحيى وغيرهما وآباء يعفور هؤلاء الثلاثة ثقات واما الوليد بن العيزار فبالعين المهملة المفتوحة وبالزاى قبل الالف والراء بعدها وأما قوله أخبرنا معمر عن الزهري عن حبيب مولى عروة بن الزبير عن عروة بن الزبير من أبى مراوح عن أبى ذر ففيه لطيفة من لطائف الاسناد وهو أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض وهو الزهري وحبيب وعروة وأبو مراوح فاما الزهري وعروة وأبو مراوح فتابعيون معروفون واما حبيب مولى عروة فقد روى عن اسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما قال محمد بن سعد مات حبيب مولى عروة هذا قديمها في آخر سلطان بنى أمية فروايته عن اسماء مع هذا ظاهرها أنه أدركها وأدرك غيرها من الصحابة فيكون تابعيا والله اعلم أما معاني الاحاديث وفقهها فقد يستشكل الجمع بينها مع ما جاء في معناها من حيث أنه جعل في حديث ابى هريرة ان الافضل الايمان بالله ثم الجهاد ثم الحج وفى حديث ابى ذر الايمان والجهاد وفى حديث ابن مسعود الصلاة ثم بر الوالدين ثم الجهاد وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو أي الاسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وفى حديث أبى موسى وعبد الله بن عمرو أي المسلمين خير قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وصح في حديث عثمان خيركم من تعلم القرآن وعلمه وأمثال هذا في الصحيح كثيرة واختلف العلماء في الجمع بينهما فذكر الامام الجليل أبو عبد الله الحليمى الشافعي عن شيخه الامام العلامة المتقن ابى بكر القفال الشاشى الكبير وهو غير القفال الصغير المروزى المذكرو في كتب متأخرى أصحابنا الخراسانيين قال الحليمى وكان القفال أعلم من لقيته من علماء عصره أنه جمع بينها بوجهين احدهما أن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الاحوال والاشخاص فانه قد يقال خير الاشياء كذا ولا يراد به خير جميع الاشياء من جميع الوجوه وفى جميع الاحوال والاشخاص بل في حال دون حال أو نحو ذلك واستشهد في ذلك بأخبار منها عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله ص = قال حجة لمن لم يحج أفضل من أربعين غزوة وغزوة لمن حج أفضل من أربعين حجة الوجه الثاني أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الاعمال كذا أو من خيرها أو من خيركم من فعل كذا فحذفت من وهي مرادة كما يقال فلان أعقل الناس
[ 78 ]
وافضلهم ويراد انه من اعقلهم وافضلهم ومن ذلك قول رسول الله ص = خيركم خيركم لاهله ومعلوم أنه لا يصير ذلك خير الناس مطلقا ومن ذلك قولهم أزهد الناس في العالم جيرانه وقد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه هذا كلام القفال رحمه الله وعلى هذا الوجه الثاني يكون الايمان أفضلها مطلقا والباقيات متساوية في كونها من أفضل الاعمال والاحوال ثم يعرف فضل بعضها على بعض بدلائل تدل عليها وتختلف باختلاف الاحوال والاشخاص فان قيل فقد جاء في بعض هذه الروايات أفضلها كذا ثم كذا بحرف ثم وهي موضوعة للترتيب فالجواب ان ثم هنا للترتيب في الذكر كما قال تعالى أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذى مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب في الفعل وكما قال تعالى تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا ولا تقتلوا الى قوله آتينا موسى الكتاب وقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ونظائر ذلك كثيرة وأنشدوا فيه قل لمن ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده وذكر القاضى عياض في الجمع بينهما وجهين أحدهما نحو الاول من الوجهين اللذين حكيناهما قال قيل اختلف الجواب لاختلاف الاحوال فأعلم كل قوم بما بهم حاجة إليه أو بما لم يكلموه بعد من دعائم الاسلام ولا بلغهم علمه والثانى أنه قدم الجهاد على الحج لانه كان أول الاسلام ومحاربة أعدائه والجد في إظهاره وذكر صاحب التحرير هذا الوجه الثاني ووجها آخر أن ثم لا تقتضي ترتيبا وهذا قول شاذ عند أهل العربية والاصول ثم قال صاحب التحرير والصحيح أنه محمول على الجهاد في وقت الزحف الملجئ والنفير العام فانه حينئذ يحب الجهاد على الجميع وإذا كان هكذا فالجهاد أولى بالتحريض والتقديم من الحج لما في الجهاد من المصلحة العامة للمسلمين مع أنه متعين متضيق في هذا الحال بخلاف الحج والله أعلم وأما قوله ص = وقد سئل أي الاعمال أفضل فقال ايمان بالله ورسوله ففيه تصريح بأن العمل يطلق على الايمان والمراد به والله أعلم الايمان الذي يدخل به في ملة الاسلام وهو التصديق بقلبه والنطق بالشهادتين فالتصديق عمل القلب والنطق عمل اللسان ولا يدخل في الايمان ههنا الاعمال بسائر الجوارح كالصوم والصلاة والحج والجهاد وغيرها لكونه جعل قسما للجهاد والحج ولقوله ص =
[ 79 ]
ايمان بالله ورسوله ولا يقال هذا في الاعمال ولا يمنع هذا من تسمية الاعمال المذكورة ايمانا فقد قدمنا دلائله والله اعلم وأما قوله ص = في الرقاب أفضلها أنفسها عند اهلها وأكثرها ثمنا فالمراد به والله اعلم إذا أراد أن يعتق رقبة واحدة أما إذا كان معه ألف درهم وأمكن أن يشترى بها رقبتين مفضولتين أو رقبة نفيسة مثمنة فالرقبتان أفضل وهذا بخلاف الاضحية فان التضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن قال البغوي من أصحابنا رحمه الله في التهذيب بعد أن ذكر هاتين المسئلتين كما ذكرت قال الشافعي رضى الله عنه في الاضحية استكثار القيمة مع استقلال العدد أحب الى من استكثار العدد مع استقلال القيمة وفى العتق استكثار العدد مع استقلال القيمة احب الى من استكثار القيمة مع استقلال العدد لان المقصود من الاضحية اللحم ولحم السمين أوفر وأطيب والمقصود من العتق تكميل حال الشخص وتخليصه من ذل الرق فتخليص جماعة أفضل من تخليص واحد والله اعلم وفى هذا الحديث الحث على المحافظة على الصلاة في وقتها ويمكن أن يؤخذ منه استحبابها في أول الوقت لكونه احتياطا لها ومبادرة الى تحصيلها في وقتها وفيه حسن المراجعة في السؤال وفيه صبر المفتى والمعلم على من يفتيه أو يعلمه واحتمال كثرة مسائله وتقريراته وفيه رفق المتعلم بالمعلم ومراعاة مصالحه والشفقة عليه لقوله فما تركت استزيده الا ارعاء عليه وفيه جواز استعمال لو لقوله ولو استزدته لزادنى وفيه جواز اخبار الانسان عما لم يقع انه لو كان كذا لوقع لقوله لو استزدته لزادنى والله اعلم باب بيان كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده فيه (عثمان بن أبى شيبة عن جرير عن منصور عن أبى وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه قال سألت رسول الله ص = أي الذنب أعظم عند الله
[ 80 ]
تعالى قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال قلت ان ذلك لعظيم قال قلت ثم أي قال ثم ان تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال قلت ثم أي قال ثم أن تزانى حليلة جارك وفى الرواية الاخرى عثمان بن أبى شيبة أيضا عن جرير عن الأعمش عن أبى وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله فذكره وزاد فأنزل الله تعالى تصديقها لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما أو أما الاسنادان ففيهما لطيفة عجيبة غريبة وهى أنهما اسنادان متلاصقان رواتهما جميعهم كوفيون وجرير هو ابن عبد الحميد ومنصور هو ابن المعتمر وأبو وائل هو شقيق بن سلمة وشرحبيل غير منصرف لكونه اسما عجميا علما والند المثل روى شمر عن الاخفش قال الند الضد والشبه وفلان ند فلان ونديده ونديدته أي مثله وقوله ص = (مخافة ان يطعم معك) هو بفتح الياء أي يأكل وهو معنى قوله تعالى تقتلوا أولادكم خشية إملاق أي فقر وقوله تعالى أثاما قيل معناه جزاء إثمه وهو قول الخليل وسيبويه وأبى عمرو الشيباني والفراء والزجاج وأبى على الفارسى وقيل
[ 81 ]
معناه عقوبة قاله يونس وأبو عبيدة وقيل معناه جزاء قاله ابن عباس والسدى وقال أكثر المفسرين أو كثيرون منهم هو واد في جهنم عافانا الله الكريم وأحبابنا منها وقوله ص = أن تزانى حليلة جارك هي بالحاء المهملة وهى زوجته سميت بذلك لكونها تحل له وقيل لكونها تحل معه ومعنى تزانى أي تزني بها برضاها وذلك يتضمن الزنا وافسادها على زوجها واستمالة قلبها الى الزانى وذلك أفحش وهو مع امرأة الجار أشد قبحا وأعظم جرما لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه وقد أمر باكرامه والاحسان إليه فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وافسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية من القبح وقوله سبحانه وتعالى تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق معناه أي لا تقتلوا النفس التى هي معصومة في الاصل الا محقين في قتلها أما أحكام هذا الحديث ففيه أن اكبر المعاصي الشرك وهذا ظاهر لا خفاء فيه وأن القتل بغير حق يليه وكذلك قال أصحابنا أكبر الكبائر بعد الشرك القتل وكذا نص عليه الشافعي رضى الله عنه في كتاب الشهادات من مختصر المزني وأما ما سواهما من الزنا واللواط وعقوق الوالدين والسحر وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف وآكل الربا وغير ذلك من الكبائر فلها تفاصيل واحكام تعرف بها مراتبها ويختلف أمرها باختلاف الاحوال والمفاسد المرتبة عليها وعلى هذا يقال في كل واحدة واحدة منها هي من أكبر الكبائر وان جاء في موضع أنها أكبر الكبائر كان المراد من اكبر الكبائر كما تقدم في افضل الاعمال والله اعلم باب الكبائر وأكبرها فيه (أبو بكرة رضى الله عنه قال كنا عند رسول الله ص = فقال الا أنبئكم بأكبر
[ 82 ]
الكبائر ثلاثا الاشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور وكان رسول الله ص = متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) قال مسلم رحمه الله (وحدثني يحيى بن حبيب الحارثى حدثنا خالد وهو ابن الحارث حدثنا شعبة حدثنا عبيد الله بن أبى بكر عن انس رضى الله عنه عن النبي ص = في الكبائر قال الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور) قال مسلم رحمه الله (وحدثني محمد بن الوليد بن عبد الحميد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثنى عبيد الله بن أبى بكر قال سمعت انس ابن مالك رضى الله عنه قال ذكر رسول الله ص = الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال الا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكبر ظنى أنه شهادة الزور وعن أبى الغيث عن أبى
[ 83 ]
هريرة رضى الله عنه أن رسول الله ص = قال اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التى حرم الله الا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أن رسول الله ص = قال من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه) أما أبو بكرة فاسمه نفيع بن الحرث وقد تقدم وأما الاسنادان اللذان ذكرهما فهما بصريون كلهم من أولهما الى آخرهما الا أن شعبة واسطى بصرى فلا يقدح هذا في كونهما بصريين وهذا من الطرف المستحسنة وقد تقدم في الباب الذى قبل هذا نظيرهما في الكوفيين وقوله حدثنا خالد وهو ابن الحرث قد قدمنا بيان فائدة قوله وهو ابن الحرث ولم يقل خالد بن الحرث وهو انه انما سمع في الرواية خالد ولخالد مشاركون فاراد تمييزه ولا يجوز له أن يقول حدثنا خالد
[ 84 ]
ابن الحرث لأنه يصير كاذبا على المروى عنه فانه لم يقل الا خالد فعدل الى لفظه وهو ابن الحرث لتحصل الفائدة بالتميز والسلامة من الكذب وقوله عبيد الله بن أبى بكر هو أبو بكر بن أنس ابن مالك فعبيد الله يروى عن جده وقوله وأكبر ظنى هو بالباء الموحدة وأبو الغيث اسمه سالم وقوله في أول الباب عن سعيد الجريرى هو بضم الجيم المنسوب الى جرير مصغر وهو جرير بن عباد بضم العين وتخفيف الباء بطن من بكر بن أوئل وهو سعيد بن اياس أبو مسعود البصري وأما الموبقات فهى المهلكات يقال وبق الرجل بفتح الباء يبق بكسرها ووبق بضم الواو وكسر الباء يوبق إذا هلك وأوبق غيره أي أهلكه وأما الزور فقال الثعلبي المفسر وأبو اسحاق وغيره أصله تحسين الشئ ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل الى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وأما المحصنات الغافلات فبكسر الصاد وفتحها قرءتان في السبع قرأ الكسائي بالكسر والباقون بالفتح والمراد بالمحصنات هنا العفائف وبالغافلات الغافلات عن الفواحش وما قذفن به وقد ورد الاحصان في الشرع على خمسة أقسام العفة والاسلام والنكاح والتزويج والحرية وقد بينت مواطنه وشرائطه وشواهده في كتاب تهذيب الاسماء واللغات والله أعلم وأما معاني الاحاديث وفقهها فقد قدمنا في الباب الذى قبل هذا كيفية ترتيب الكبائر قال العلماء رحمهم الله ولا انحصار للكبائر في عدد مذكور وقد جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه سئل عن الكبائر أسبع هي فقال هي الى سبعين ويروى الى سبعمائة أقرب وأما قوله ص = الكبائر سبع فالمراد به من الكبائر سبع فان هذه الصيغة وان كانت للعموم فهى مخصوصة بلا شك وانما وقع الاقتصار على هذه السبع وفى الرواية الأخرى ثلاث وفى الأخرى أربع لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى وهذا مصرح بما ذكرته من أن المراد البعض وقد جاء بعد هذا من الكبائر شتم الرجل والديه وجاء في النميمة وعدم الاستبراء من البول أنهما من الكبائر وجاء في غير مسلم من الكبائر اليمين الغموس واستحلال بيت الله الحرام وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها من الصغيرة فجاء عن ابن عباس رضى الله عنهما كل شئ نهى الله عنه فهو كبيرة وبهذا قال الاستاذ أبو اسحاق الاسفراينى الفقيه الشافعي الامام في علم الاصول والفقه وغيره وحكى القاضى عياض رحمه
[ 85 ]
الله هذا المذهب عن المحققين واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهى بالنسبة الى جلال الله تعالى كبيرة وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف الى انقسام المعاصي الى صغائر وكبائر وهو مروى أيضا عن ابن عباس رضى الله عنهما وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة واستعمال سلف الامة وخلفها قال الامام أبو حامد الغزالي في كتابه البسيط في المذهب انكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه وقد فهما من مدارك الشرع وهذا الذى قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه ولا شك في كون المخالفة فبيحة جدا بالنسبة الى جلال الله تعالى ولكن بعضها أعظم من بعض وتنقسم باعتبار ذلك الى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الاحاديث الصحيحة والى ما لا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح ما لم يغش كبيرة فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر وما لا تكفره كبائر ولا شك في حسن هذا ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة الى جلال الله تعالى فانها صغيرة بالنسبة الى ما فوقها لكونها أقل قبحا ولكونها متيسرة التكفير والله أعلم وإذا ثبت انقسام المعاصي الى صغائر وكبائر فقد اختلفوا في ضبطها اختلافا كثيرا منتشرا جدا فروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ونحو هذا عن الحسن البصري وقال آخرون هي ما أوعد الله عليه بنار أوحد في الدنيا وقال أبو حامد الغزالي في البسيط والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليه اعتيادا فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس هو بكبيرة وقال الشيخ الامام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عظما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة ووصف بكونه عظيما على الاطلاق قال فهذا حد الكبيرة ثم لها أمارات منها ايجاب الحد ومنها الابعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن كلعن الله سبحانه وتعالى من غير منار الارض وقال الشيخ الامام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله في كتابه القواعد إذا أردت
[ 86 ]
معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فان نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت ادنى مفاسد الكبائر أو ربت عليه فهي من الكبائر فمن شتم الرب سبحانه وتعالى أو رسوله ص = أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة أو ألقى المصحف في القاذورات فهى من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزنى بها أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم فان نسبته الى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر وكذلك لو كذب على انسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه أما إذا كذب عليه كذبا يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر قال وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فان وقعا في مال خطير فهذا ظاهر وان وقعا في مال حقير فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر وان لم يتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة قال والحكم بغير الحق كبيرة فان شاهد الزور متسبب والحاكم مباشر فإذا جعل السبب كبيرة فالمباشرة أولى قال وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بانها كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو الحد أو اللعن أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة ثم قال والاولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه اشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها والله أعلم هذا آخر كلام الشيخ أبى محمد بن عبد السلام رحمه الله قال الامام أبو الحسن الواحدى المفسر وغيره الصحيح أن حد الكبيرة غير معروف بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر وأنواع بأنها صغائر وأنواع لم توصف وهى مشتملة على صغائر وكبائر والحكمة في عدم بيانه أن يكون العبد ممتنعا من جميعها مخافة أن يكون من الكبائر قالوا وهذا شبيه باخفاء ليلة القدر وساعة يوم الجمعة وساعة اجابة الدعاء من الليل واسم الله الاعظم ونحو ذلك مما أخفى والله أعلم قال العلماء رحمهم الله والاصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة وروى عن عمر وابن عباس
[ 87 ]
وغيرهما رضى الله عنهم لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع اصرار معناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار والصغيرة تصير كبيرة بالاصرار قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في حد الاصرار هو أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه اشعار ارتكاب الكبيرة بذلك قال وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله المصر من تلبس من أضداد التوبة باسم العزم على المعاودة أو باستدامة الفعل بحيث يدخل به ذنبه في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرا عظيما وليس لزمان ذلك وعدده حصر والله أعلم هذا مختصر ما يتعلق بضبط الكبيرة وأما قوله قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا فمعناه قال هذا الكلام ثلاث مرات وأما عقوق الوالدين فهو مأخوذ من العق وهو القطع وذكر الازهرى أنه يقال عق والده يعقه بضم العين عقا وعقوقا إذا قطعه ولم يصل رحمه وجمع العاق عققة بفتح الحروف كلها وعقق بضم العين والقاف وقال صاحب المحكم رجل عقق وعقق وعق وعاق بمعنى واحد وهو الذى شق عصا الطاعة لوالده هذا قول أهل اللغة وأما حقيقة العقوق المحرم شرعا فقل من ضبطه وقد قال الشيخ الامام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله لم أقف في عقوق الوالدين وفيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمده فانه لا يجب طاعتهما في كل ما يأمران به وينهيان عنه باتفاق العلماء وقد حرم على الولد الجهاد بغير اذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدة تفجعهما على ذلك وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه هذا كلام الشيخ أبى محمد وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة قال وربما قيل طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات قال وليس قول من قال من علمائنا يجوز له السفر في طلب العلم وفى التجارة بغير اذنهما مخالفا لما ذكرته فان هذا كلام مطلق وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق والله أعلم وأما قوله ص = ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو شهادة الزور فليس على ظاهره المتبادر الى الافهام منه وذلك لأن الشرك أكبر منه بلا شك وكذا القتل فلا بد من
[ 88 ]
تأويله وفى تأويله ثلاثة أوجه أحدها أنه محمول على الكفر فان الكافر شاهد بالزور وعامل به والثانى أنه محمول على المستحيل فيصير بذلك كافرا والثالث أن المراد من أكبر الكبائر كما قدمناه في نظائره وهذا الثالث هو الظاهر أو الصواب فأما حمله على الكفر فضعيف لأن هذا خرج مخرج الزجر عن شهادة الزور في الحقوق وأما قبح الكفر وكونه أكبر الكبائر فكان معروفا عندهم ولا يتشكك أحد من أهل القبلة في ذلك فحمله عليه يخرجه عن الفائدة ثم الظاهر الذى يقتضيه عموم الحديث واطلاقه والقواعد أنه لا فرق في كون شهادة الزور بالحقوق كبيرة بين أن تكون بحق عظيم أو حقير وقد يحتمل على بعد أن يقال فيه الاحتمال الذى قدمته عن الشيخ أبى محمد بن عبد السلام في أكل تمرة من مال اليتيم والله أعلم وأما عده ص = التولى يوم الزحف من الكبائر فدليل صريح لمذهب العلماء كافة في كونه كبيرة الا ما حكى عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال ليس هو من الكبائر قال والآية الكريمة في ذلك انما وردت في أهل بدر خاصة والصواب ما قاله الجماهير أنه باق والله أعلم وأما قوله فكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت فجلوسه ص = لاهتمامه بهذا الأمر وهو يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه وأما قولهم ليته سكت فانما قالوه وتمنوه شفقة على رسول الله ص = وكراهة لما يزعجه ويغضبه وأما عده ص = السحر من الكبائر فهو دليل لمذهبنا الصحيح المشهور ومذهب الجماهير أن السحر حرام من الكبائر فعله وتعلمه وتعليمه وقال بعض أصحابنا أن تعلمه ليس بحرام بل يجوز ليعرف ويرد على صاحبه ويميز عن الكرامة للاولياء وهذا القائل يمكنه أن يحمل الحديث على فعل السحر والله أعلم وأما قوله ص = من الكبائر شتم الرجل والديه الى آخره ففيه دليل على أن من تسبب في شئ جاز أن ينسب إليه ذلك الشئ وانما جعل هذا عقوقا لكونه يحصل منه ما يتأذى به الوالد تأذيا ليس بالهين كما تقدم في حد العقوق والله أعلم وفيه قطع الذرائع فيؤخذ منه النهى عن بيع العصير ممن يتخذ الخمر والسلاح ممن يقطع الطريق ونحو ذلك والله أعلم
[ 89 ]
باب تحريم الكبر وبيانه فيه أبان بن تغلب عن فضيل الفقيمى عن ابراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه عن النبي ص = قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل ان الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال ان الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس قال مسلم رحمه الله (حدثنا منجاب وسويد بن سعيد عن على ابن مسهر عن الأعمش عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله قال قال رسول الله ص = لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من ايمان ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء) قد تقدم أن أبانا يجوز صرفه وترك صرفه وأن الصرف أفصح وتغلب بالغين المعجمة وكسر اللام وأما الفقيمى فبضم الفاء وفتح القاف ومنجاب بكسر الميم واسكان النون وبالجيم وآخره باء موحدة ومسهر بضم الميم وكسر الهاء وفى هذا الاسناد الثاني لطيفتان
[ 90 ]
من لطائف الاسناد احداهما أن فيه ثلاثة تابعيين يروى بعضهم عن بعض وهم الاعمش وابراهيم وعلقمة والثانية أنه اسناد كوفى كله فمجاب وعبد الله بن مسعود ومن بينهما كوفيون الاسويد ابن سعيد رفيق منجاب فيقى عنه منجاب وقوله ص = وغمط الناس هو بفتح الغين المعجمة واسكان الميم وبالطاء المهملة هكذا هو في نسخ صحيح مسلم رحمه الله قال القاضى عياض رحمه الله لم نرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا وفى البخاري الا بطاء قال وبالطاء ذكره أبو داود في مصنفه وذكره أبو عيسى الترمذي وغيره غمص بالصاد وهما بمعنى واحد ومعناه احتقارهم يقال في الفعل منه غمطه بفتح الميم يغمطه بكسرها وغمطه بكسر الميم يغمطه بفتحها أما بطر الحق فهو دفعه وانكاره ترفعا وتجبرا وقوله ص = من كبرياء هي غير مصروفة وقوله ص = ان الله جميل يحب الجمال اختلفوا في معناه فقيل ان معناه أن كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل وله الأسماء الحسنى وصفات الجمال والكمال وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع وقال الامام أبو القاسم القشيرى رحمه الله معناه جليل وحكى الامام أبو سليمان الخطابى أنه بمعنى ذى النور والبهجة أي مالكهما وقيل معناه جميل الأفعال بكم باللطف والنظر اليكم يكلفكم اليسير من العمل ويعين عليه ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه واعلم أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد وورد أيضا في حديث الأسماء الحسنى وفى اسناده مقال والمختار جواز اطلاقه على الله تعالى ومن العلماء من منعه قال الامام أبو المعالى امام الحرمين رحمه الله تعالى ما ورد الشرع باطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه وما منع الشرع من اطلاقه منعناه وما لم يرد فيه اذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم فان الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكما بغير الشرع قال ثم لا يشترط في جواز الاطلاق ورود ما يقطع به الشرع ولكن ما يقتضى للعمل وان لم يوجب العلم فانه
[ 91 ]
كاف الا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل ولا يجوز التمسك بهن في تسميه الله تعالى ووصفه هذا كلام امام الحرمين ومحله من الاتقان والتحقق بالعلم مطلقا وبهذا الفن خصوصا معروف بالغاية العليا وأما قوله لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم لانه ذلك لا يكون الا بالشرع فهذا مبنى على المذهب المختار في حكم الأشياء قبل ورود الشرع فان المذهب الصحيح عند المحققين من أصحابنا أنه لا حكم فيها لا بتحليل ولا تحريم ولا اباحة ولا غير ذلك لأن الحكم عند أهل السنة لا يكون الا بالشرع وقال بعض أصحابنا أنها على الاباحة وقال بعضهم على التحريم وقال بعضهم على الوقف لا يعلم ما يقال فيها والمختار الأول والله أعلم وقد اختلف أهل السنة في تسمية الله تعالى ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يرد به الشرع ولا منعه فأجازه طائفة ومنعه آخرون الا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب الله أو سنة متواترة أو اجماع على اطلاقه فان ورد خبر واحد فقد اختلفوا فيه فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به والثناء من باب العمل وذلك جائز بخبر الواحد ومنعه آخرون لكونه راجعا الى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى وطريق هذا القطع قال القاضى والصواب جوازه لاشتماله على العمل ولقوله الله تعالى الأسماء الحسنى فادعوه بها والله أعلم وأما قوله ص = لايدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر فقد اختلف في تأويله فذكر الخطابى فيه وجهين أحدهما أن المراد التكبر عن الايمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلا إذا مات عليه والثانى أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة كما قال الله تعالى ما في صدورهم من غل وهذان التأويلان فيهما بعد فان هذا الحديث ورد في سياق النهى عن الكبر المعروف وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم ودفع الحق فلا ينبغى أن يحمل على هذين التأويلين المخرجين له عن المطلوب بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخل الجنة دون مجازاة ان جازاه وقيل هذا جزاؤه لو جازاه وقد يتكرم بأنه لا يجازيه بل لا بد أن يدخل كل الموحدين الجنة اما أولا واما ثانيا بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها وقيل لا يدخلها مع المتقين أول وهلة وأما قوله ص = لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من ايمان فالمراد به دخول الكفار وهو دخول الخلود وقوله ص = مثقال حبة هو على ما تقدم وتقرر من زيادة الايمان ونقصه
[ 92 ]
وأما قوله قال رجل ان الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا فهذا الرجل هو مالك بن مرارة الرهاوى قاله القاضى عياض وأشار إليه أبو عمر بن عبد البر رحمهما الله وقد جمع أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالا من جهات فقال هو أبو ريحانة واسمه شمعون ذكره ابن الاعرابي وقال على بن المدينى في الطبقات اسمه ربيعة بن عامر وقيل سواد بالتخفيف ابن عمر وذكره ابن السكن وقيل معاذ بن جبل ذكره ابن أبى الدنيا في كتاب الخمول والتواضع وقيل مالك بن مرارة الرهاوى ذكره أبو عبيد في غريب الحديث وقيل عبد الله بن عمرو بن العاصى ذكره معمر في جامعه وقيل خريم بن فاتك هذا ما ذكره ابن بشكوال وقولهم ابن مرارة الرهاوى هو مرارة بضم الميم وبراء مكررة وآخره هاء والرهاوى هنا نسبة الى قبيلة ذكره الحافظ عبد الغنى بن سعيد المصرى بفتح الراء ولم يذكره ابن ما كولا وذكر الجوهرى في صحاحه أن الرهاوى نسبة الى رها بضم الراء حى من مذحج وأما شمعون فبالعين المهملة وبالمعجمة والشين معجمة فيهما والله أعلم باب الدليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة (وان مات مشركا دخل النار) قال مسلم (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبى ووكيع عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضى الله عنه قال وكيع قال رسول الله ص = وقال ابن نمير سمعت رسول الله ص = يقول من مات يشرك بالله دخل النار قلت أنا ومن
[ 93 ]
مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وعن أبى سفيان عن جابر رضى الله عنه قال أتى النبي ص = رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان فقال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار) قال مسلم رحمه الله (حدثنا أبو أيوب الغيلانى سليمان بن عبيد الله وحجاج بن الشاعر قالا حدثنا عبد الملك حدثنا قرة عن أبى الزبير حدثنا جابر رضى الله عنه قال سمعت رسول الله ص = يقول من لقى الله تعالى لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به دخل النار قال أبو أيوب قال أبو الزبير عن جابر وعن المعرور بن سويد قال سمعت أبا ذر يحدث عن النبي ص = أنه قال أتانى جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة
[ 94 ]
قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق وعن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلى حدثه أن أبا ذر حدثه قال أتيت النبي ص = وهو نائم عليه ثوب أبيض ثم أتيته فإذا هو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال ما من عبد قال لا اله الا الله ثم مات على ذلك الا دخل الجنة قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق ثلاثا ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبى ذر قال فخرج أبو ذر وهو يقول وان رغم أنف أبى ذر) أما الاسناد الأول فكله كوفيون محمد بن نمير وعبد الله بن مسعود ومن بينهما وقوله قال وكيع قال رسول الله ص = وقال ابن نمير سمعت رسول الله ص = هذا وما أشبه من الدقائق التى ينبه عليها مسلم رضى الله عنه دلائل قاطعة على شدة تحريه واتقانه وضبطه وعرفانه وغزارة علمه وحذقه وبراعته في الغوص على المعاني ودقائق علم الاسناد وغير ذلك فرضى الله عنه والدقيقة في هذا أن ابن نمير قال رواية عن ابن مسعود سمعت رسول الله ص = وهذا متصل لا شك فيه وقال وكيع رواية عنه قال
[ 95 ]
رسول الله ص = وهذا مما اختلف العلماء فيه هل يحمل على الاتصال أم على الانقطاع فالجمهور أنه على الاتصال كسمعت وذهبت طائفة الى أنه لا يحمل على الاتصال الا بدليل عليه فإذا قيل بهذا المذهب كان مرسل صحابي وفى الاحتجاج به خلاف فالجماهير قالوا يحتج به وان لم يحتج بمرسل غيرهم وذهب الأستاذ أبو اسحاق الاسفراينى الشافعي رحمه الله الى أنه لا يحتج به فعلى هذا يكون الحديث قد روى متصلا ومرسلا وفى الاحتجاج بما روى مرسلا ومتصلا خلاف معروف قيل الحكم للمرسل وقيل للاحفظ رواية وقيل للاكثر والصحيح أنه تقدم رواية الوصل فاحتاط مسلم رحمه الله وذكر اللفظين لهذه الفائدة ولئلا يكون روايا بالمعنى فقد أجمعوا على أن الرواية باللفظ أولى والله أعلم وأما أبو سفيان الراوى عن جابر فاسمه طلحة بن نافع وأبو الزبير اسمه محمد بن مسلم بن تدرس تقدم بيانه وأما قوله قال أبو أيوب قال أبو الزبير عن جابر فمراده أن أبا أيوب وحجاجا اختلفا في عبارة أبى الزبير عن جابر فقال أبو أيوب عن جابر وقال حجاج حدثنا جابر فأما حدثنا فصريحة في الاتصال وأما عن فمختلف فيها فالجمهور على أنها للاتصال كحدثنا ومن العلماء من قال هي للانقطاع ويجئ فيها ما قدمناه الا أن هذا على هذا المذهب يكون مرسل تابعي وأما قرة فهو ابن خالد وأما المعرور فهو بفتح الميم واسكان العين المهملة وبراء مهملة مكررة ومن طرف أحواله أن الاعمش قال رأيت المعرور وهو ابن عشرين ومائة سنة أسود الرأس واللحية وأما أبو ذر فتقدم أن اسمه جندب بن جنادة على المشهور وقيل غيره وفى الاسناد أحمد بن خراش بالخاء المعجمة تقدم وأما ابن بريدة فاسمه عبد الله ولبريدة ابنان سليمان وعبد الله وهما ثقتان ولدا في بطن وتقدم ذكرهما أول كتاب الايمان وابن بريدة هذا ويحيى بن يعمر وأبو الاسود ثلاثة تابعيون يروى بعضهم عن بعض ويعمر بفتح الميم وضمها تقدم أيضا وأبو الاسود اسمه ظالم بن عمرو هذا هو المشهور وقيل اسمه عمرو بن ظالم وقيل عثمان بن عمرو وقيل عمرو ابن سفيان وقيل عويمر بن ظويلم وهو أول من تكلم في النحو وولى قضاء البصرة لعلى بن أبى طالب كرم الله وجهه وأما الديلى فكذا وقع هنا بكسر الدال واسكان الياء وقد اختلف فيه فذكر القاضى عياض أن أكثر أهل السنة يقولون فيه وفى كل من ينسب الى هذا البطن الذى في كنانة ديلي بكسر الدال واسكان الياء كما ذكرنا وأن أهل العربية يقولون فيه الدؤلى بضم الدال
[ 96 ]
وبعدها همزة مفتوحة وبعضهم يكسرها وأنكرها النحاة هذا كلام القاضى وقد ضبط الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله هذا وما يتعلق به ضبطا حسنا وهو معنى ما قاله الأمام أبو على الغساني قال الشيخ هو الديلى ومنهم من يقول الدؤلى على مثال الجهنى وهو نسبه الى الدئل بدال مضمومة بعدها همزة مكسورة حى من كنانة وفتحوا الهمزة في النسب كما قالوا في النسب الى نمر نمري بفتح الميم قال وهذا قد حكاه السيرافى عن أهل البصرة قال ووجدت عن أبى على القالى وهو بالقاف في كتاب البارع أنه حكى ذلك عن الأصمعى وسيبويه وابن السكيت والأخفش وأبى حاتم وغيرهم وأنه حكى عن الأصمعى عن عيسى بن عمر أنه كان يقول فيه أبو الاسود الدئلى بضم الدال وكسر الهمزة على الأصل وحكاه أيضا عن يونس وغيره عن العرب يدعونه في النسب على الأصل وهو شاذ في القياس وذكر السيرافى عن أهل الكوفة أنهم يقولون أبو الأسود الديلى بكسر الدال وياء ساكنة وهو محكى عن الكسائي وأبى عبيد القاسم بن سلام وعن صاحب كتاب العين ومحمد بن حبيب بفتح الباء غير مصروف لأنها أمه كانوا يقولون في هذا الحى من كنانة الديل باسكان الياء وكسر الدال ويجعلونه مثل الديل الذى هو في عبد القيس وأما الدول بضم الدال واسكان الواو فحى من بنى حنيفة والله أعلم هذا آخر كلام الشيخ أبى عمرو رحمه الله وأما قوله ما الموجبتان فمعناه الخصلة الموجبة للجنة والخصلة الموجبة للنار وأما قوله ص = على رغم أنف أبى ذر فهو بفتح الراء وضمها وكسرها وقوله وان رغم أنف أبى ذر هو بفتح الغين وكسرها ذكر هذا كله الجوهرى وغيره وهو مأخذوذ من الرغام بفتح الراء وهو التراب فمعنى أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وأذله فمعنى قوله ص = على رغم أنف أبى ذر على ذل منه لوقوعه مخالفا لما يريد وقيل معناه على كراهة منه وانما قال له ص = ذلك لاستبعاده العفو عن الزانى السارق المنتهك للحرمة واستعظامه ذلك وتصور أبى ذر بصورة الكاره الممانع وان لم يكن ممانعا وكان ذلك من أبى ذر لشدة نفرته من معصية الله تعالى وأهلها والله أعلم وأما قوله في رواية ابن مسعود رضى الله عنه قال رسول الله ص = من مات يشرك بالله شيئا دخل النار وقلت أنا ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة هكذا وقع في أصولنا من صحيح مسلم وكذا هو في صحيح البخاري وكذا ذكره القاضى عياض رحمه الله في روايته لصحيح مسلم ووجد في بعض
[ 97 ]
الأصول المعتمدة من صحيح مسلم عكس هذا قال رسول الله ص = من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت أنا ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار وهكذا ذكره الحميدى في الجمع بين الصحيحين عن صحيح مسلم رحمه الله وهكذا رواه أبو عوانة في كتابه المخرج على صحيحه مسلم وقد صح اللفظان من كلام رسول الله ص = في حديث جابر المذكور فأما اقتصار ابن مسعود رضى الله عنه على رفع احدى اللفظتين وضمه الأخرى إليها من كلام نفسه فقال القاضى عياض وغيره سببه أنه لم يسمع من النبي ص = الا احداهما وضم إليها الاخرى لما علمه من كتاب الله تعالى ووحيه أو أخذه من مقتضى ما سمعه من النبي ص = وهذا الذى قاله هؤلاء فيه نقص من حيث ان اللفظتين قد صح رفعهما من حديث ابن مسعود كما ذكرناه فالجيد أن يقال سمع ابن مسعود اللفظتين من النبي ص = ولكنه في وقت حفظ احداهما وتيقنها عن النبي ص = ولم يحفظ الاخرى فرفع المحفوظة وضم الاخرى إليها وفى وقت آخر حفظ الاخرى ولم يحفظ الأولى مرفوعة فرفع المحفوظة وضم الاخرى إليها فهذا جمع ظاهر بين روايتي ابن مسعود وفيه موافقة لرواية غيره في رفع اللفظتين والله أعلم وأما حكمه ص = على من مات يشرك بدخول النار ومن مات غير مشرك بدخوله الجنة فقد فقد أجمع عليه المسلمون فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها ولا فرق فيه بين الكتابى اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره ولا بين من خالف ملة الاسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده وغير ذلك وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به لكن ان لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا وان كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة فان عفى عنه دخل أولا والا عذب ثم أخرج من النار وخلد في الجنة والله أعلم وأما قوله ص = وان زنى وان سرق فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار وأنهم ان دخلوها أخرجوا منها وختم لهم بالخلود في الجنة وقد تقدم هذا كله مبسوطا والله أعلم
[ 98 ]
باب تحريم قتل الكافر بعد قوله لا اله الا الله فيه حديث المقداد بن الأسود رضى الله عنه أنه قال (يا رسول الله أرأيت ان لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب احدى يدى بالسيف فقطعها ثم لاذ منى بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها رسول الله ص = لا تقتله الى أن قال فان قتلته فانه بمنزلتك قبل أن تقتله وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التى قال) وفيه أسامة بن زيد رضى الله عنهما
[ 99 ]
(قال بعثنا رسول الله ص = في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال لا اله الا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبى ص = فقال رسول الله ص = أقال لا اله الا الله وقتلته قال قلت يا رسول الله انما قالها خوفا من السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قالها أم لا فما زال يكررها على حتى تمنيت أنى أسلمت يومئذ قال فقال سعد وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعنى أسامة قال قال رجل ألم يقل الله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله قال سعد قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة وأنت
[ 100 ]
وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة) وفى الطريق الآخر (فطعنته برمحى حتى قتلته فلما قدمنا بلغ ذلك النبي ص = فقال لى يا أسامة قتلته بعد ما قال لا اله الا الله قلت يا رسول الله انما كان متعوذا فقال أقتلته بعد ما قال لا اله الا الله فما زال يكررها على حتى
[ 101 ]
تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) وفى الطريق الاخرى (أن النبي ص = دعا أسامة فسأله لم قتلته الى أن قال فكيف تصنع بلا إله الا الله إذا جاءت يوم القيامة قال يا رسول الله استغفر لى قال فكيف بلا إله الا الله إذا جاءت يوم القيامة فجعل لا يزيد على أن يقول فكيف تصنع بلا اله الا الله إذا جاءت يوم القيامة) أما ألفاظ أسماء الباب ففيه المقداد بن الاسود وفى الرواية الأخرى حدثنى عطاء أن عبيد الله بن عدى بن الخيار أخبره أن المقداد بن عمرو بن الأسود الكندى وكان حليفا لبنى زهرة وكان ممن شهد بدرا مع رسول الله ص = أنه قال يا رسول الله فالمقداد هذا هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة هذا نسبه الحقيقي وكان الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن
[ 102 ]
زهرة قد تبناه في الجاهلية فنسب إليه وصار به أشهر وأعرف فقوله ثانيا ان المقداد بن عمرو ابن الأسود قد يغلط في ضبطه وقراءته والصواب فيه أن يقرأ عمرو مجرورا منونا وابن الأسود بنصب النون ويكتب بالألف لأنه صفة للمقداد وهو منصوب فينصب وليس ابن ههنا واقعا بين علمين متناسلين فلهذا قلنا تتعين كتابته بالألف ولو قرئ ابن الأسود بجر ابن لفسد المعنى وصار عمرو بن الأسود وذلك غلط صريح ولهذا الاسم نظائر منها عبد الله بن عمرو ابن ام مكتوم كذا رواه مسلم رحمه الله آخر الكتاب في حديث الجساسة و عبد الله ابن ابى ابن سلول وعبد الله بن مالك ابن بحينة ومحمد بن على ابن الحنفية واسماعيل بن ابراهيم ابن علية واسحاق بن ابراهيم ابن راهويه ومحمد بن يزيد ابن ماجه فكل هؤلاء ليس الأب فيهم ابنا لمن بعده فيتعين أن يكتب ابن بالألف وأن يعرب باعراب الابن المذكور أولا فأم مكتوم زوجة عمرو وسلول زوجة أبى وقيل غير ذلك مما سنذكره في موضعه ان شاء الله تعالى وبحينة زوجة مالك وأم عبد الله وكذلك الحنفية زوجة على رضى الله عنه وعليه زوجة ابراهيم وراهوية هو ابراهيم والد اسحاق وكذلك ماجه هو يزيد فهما لقبان والله أعلم ومرادهم في هذا كله تعريف الشخص بوصفيه ليكمل تعريفه فقد يكون الانسان عارفا باحد وصفيه دون الآخر فيجمعون بينهما ليتم التعريف لكل أحد وقدم هنا نسبته الى عمرو على نسبته الى الاسود لكون عمرو هو الاصل وهذا من المستحسنات النفيسة والله أعلم وكان المقداد رضى الله عنه من اول من اسلم قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة منهم المقداد وهاجر الى الحبشة يكنى أبا الاسود وقيل أبا عمرو وقيل أما معبد والله أعلم وأما قوله وكان حليفا لبنى زهرة فذلك لمحالفته الأسود بن عبد يغوث الزهري فقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن الاسود حالفه أيضا مع تبنيه اياه وأما قولهم في نسبة الكندى ففيه اشكال من حيث ان أهل النسب قالوا انه بهرانى صلبية من بهراء بن الحاف بالحاء المهملة وبالفاء ابن قضاعة لا خلاف بينهم في هذا وممن نقل الاجماع عليه القاضى عياض وغيره رحمهم الله وجوابه أن أحمد بن صالح الامام الحافظ المصرى كاتب الليث بن سعد رحمه الله تعالى قال ان والد المقداد حالف كندة فنسب إليها وروينا عن ابن شماسة عن سفيان عن صهابة بضم الصاد المهملة وتخفيف الهاء وبالباء الموحدة المهرى قال كنت صاحب المقداد ابن الاسود في
[ 103 ]
الجاهلية وكان رجلا من بهراء فاصاب فيهم دما فهرب الى كندة فحالفهم ثم أصاب فيهم دما فهرب الى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث فعلى هذا تصح نسبته الى بهراء لكونه الأصل وكذلك الى قضاعة وتصح نسبته الى كندة لحلفه أو لحلف أبيه وتصح الى زهرة لحلفه مع الأسود والله أعلم وأما قولهم أن المقداد بن عمرو ابن الأسود الى قوله أنه قال يا رسول الله فأعاد أنه لطول الكلام ولو لم يذكرها لكان صحيحا بل هو الأصل ولكن لما طال الكلام جاز أو حسن ذكرها ونظيره في كلام العرب كثير وقد جاء مثله في القرآن العزيز والأحاديث الشريفة ومما جاء في القرآن قوله جل وعز حكاية عن الكفار أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون فاعاد أنكم للطول ومثله قوله تعالى جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فأعاد فلما جاءهم وقد قدمنا نظير هذه المسألة والله أعلم وأما عدى بن الخيار فبكسر الخاء المعجمة وأما عطاء بن يزيد الليثى ثم الجندعي بطن من ليث فلهذا قال الليثى ثم الجندعى فبضم الجيم واسكان النون وبعدها دال ثم عين مهملتان وتفتح الدال وتضم لغتان وجندع بطن من ليث فلهذا قال الليثى ثم الجندعى فبدأ بالعام وهو ليث ثم الخاص وهو جندع ولو عكس هذا فقيل الجندعى الليثى لكان خطأ من حيث أنه لا فائدة في قوله الليثى بعد الجندعى ولأنه أيضا يقتضى أن ليثا بطن من جندع وهو خطأ والله أعلم وفى هذا الاسناد لطيفة تقدم نظائرها وهو أن فيه ثلاثة تابعين يروى بعضهم عن بعض ابن شهاب وعطاء وعبيد الله بن عدى بن الخيار وأما قوله عن أبى ظبيان فهو بفتح الظاء المعجمة وكسرها فاهل اللغة يفتحونها ويلحنون من يكسرها وأهل الحديث يكسرونها وكذلك قيده ابن ماكولا وغيره واسم أبى ظبيان حصين بن جندب بن عمرو كوفى توفى سنة تسعين وأما الحرقات فبضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف وأما الدورقى فتقدم مرات وكذلك أحمد بن خراش بكسر الخاء المعجمة وأما خالد الاثبج فبفتح الهمزة وبعدها ثاء مثلثة ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم جيم قال أهل اللغة الاثبج هو عريض الثبج بفتح الثاء والباء وقيل ناتئ الثبج والثبج ما بين الكاهل والظهر وأما صفوان بن محرز فباسكان الحاء المهملة وبراء ثم زاى وأما جندب فبضم الدال وفتحها وأما عسعس بن سلامة فبعينين وسينين مهملات والعينان مفتوحتان والسين بينهما ساكنة قال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب
[ 104 ]
هو بصرى روى عن النبي ص = يقولون ان حديثه مرسل وأنه لم يسمع النبي ص = وكذا قال البخاري في تاريخه حديثه مرسل وكذا ذكره ابن أبى حاتم وغيره في التابعين قال البخاري وغيره كنية عسعس أبو صفرة وهو تميمي بصرى وهو من الأسماء المفردة لا يعرف له نظير والله أعلم وأما لغات الباب وما يشبهها فقوله في أول الباب يا رسول الله أرأيت أن لقيت رجلا من الكفار هكذا هو في اكثر الأصول المعتبرة وفى بعضها أرأيت لقيت بحذف أن والأول هو الصواب وقوله لاذ منى بشجرة أي اعتصم منى وهو معنى قوله قالها متعوذا أي معتصما وهو بكسر الواو قوله أما الأوزاعي وابن جريج في حديثهما هكذا هو في اكثر الاصول في حديثهما بفاء واحدة وفى كثير من الاصول ففى حديثهما بفاءين وهذا هو الأصل والجيد والأول أيضا جائز فان الفاء في جواب أما يلزم اثباتها الا إذا كان الجواب بالقول فانه يجوز حذفها إذا حذف القول وهذا من ذاك فتقدير الكلام أما الاوزاعي وابن جريج فقالا في حديثهما كذا ومثل هذا في القرآن العزيز وكلام العرب كثير فمنه في القرآن قوله عزوجل الذين اسودت وجوههم أكفرتم أي فيقال لهم أكفرتم وقوله عزوجل الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم والله اعلم وقوله فلما أهويت لاقتله أي ملت يقال هويت وأهويت وقوله ص = أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا الفاعل في قوله أقالها هو القلب ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق الى معرفة ما فيه فانكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان وقال أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب يعنى وأنت لست بقادر على هذا فاقتصر على اللسان فحسب يعنى ولا تطلب غيره وقوله حتى تمنيت أنى أسلمت يومئذ معناه لم يكن تقدم اسلامي بل ابتدأت الآن الاسلام ليمحو عنى ما تقدم وقال هذا الكلام من عظم ما وقع فيه وقوله فقال سعد وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعنى اسامة أما سعد فهو ابن أبى وقاص رضى الله عنه وأما ذو البطين فهو بضم الباء تصغير بطن قال القاضى عياض رحمه الله قيل لاسامة ذو البطين لأنه كان له بطن عظيم وقوله حسر البرنس عن رأسه فقال أنى أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم أن رسول الله ص = بعث بعثا فقوله
[ 105 ]
حسر أي كشف والبرنس بضم الباء والنون قال أهل اللغة هو كل ثوب راسه ملتصق به دراعة كانت أوجبة أو غيرهما وأما قوله أتيتكم ولا أريد أن أخبركم فكذا وقع في جميع الاصول وفيه اشكال من حيث انه قال في أول الحديث بعث الى عسعس فقال أجمع لى نفرا من اخوانك حتى أحدثهم ثم يقول بعده أتيتكم ولا أريد أن اخبركم فيحتمل هذا الكلام وجهين أحدهما أن تكون لا زائدة كما في قول الله تعالى يعلم أهل الكتاب وقوله تعالى ما منعك أن لا تسجد والثانى أن يكون على ظاهره أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم ص = بل أعظكم وأحدثكم بكلام من عند نفسي لكنى الآن أزيدكم على ما كنت نويته فأخبركم أن رسول الله ص = بعث بعثا وذكر الحديث والله أعلم وقوله (وكنا نحدث أنه أسامة) هو بضم النون من نحدث وفتح الدال وقوله (فلما رجع عليه السيف) كذا في بعض الاصول المعتمدة رجع بالجيم وفى بعضها رفع بالفاء وكلاهما صحيح والسيف منصوب على الروايتين فرفع لتعديه ورجع بمعناه فان رجع يستعمل لازما ومتعديا والمراد هنا المتعدى ومنه قول الله عزوجل رجعك الله الى طائفة وقوله تعالى ترجعوهن الى الكفار والله أعلم واعلم ان في اسناد بعض روايات هذا الحديث ما انكره الدارقطني وغيره وهو قول مسلم حدثنا اسحاق بن ابراهيم وعبد بن حميد قالا أنبأ عبد الرزاق أنبأ معمر ح وحدثنا اسحاق ابن موسى حدثنا الوليد بن مسلم عن الاوزاعي ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج جميعا عن الزهري بهذا الاسناد فهكذا وقع هذا الاسناد في رواية الجلودى قال القاضى عياض ولم يقع هذا الاسناد عند ابن ماهان يعنى رفيق الجلودى قال القاضى قال أبو مسعود الدمشقي هذا ليس بمعروف عن الوليد بهذا الاسناد عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله قال وفيه خلاف على الوليد وعلى الاوزاعي وقد بين الدارقطني في كتاب العلل الخلاف فيه وذكر ان الاوزاعي يرويه عن ابراهيم بن مرة واختلف عنه فرواه أبو اسحاق الفزارى ومحمد بن شعيب ومحمد بن حميد والوليد بن مزيد عن الاوزاعي عن ابراهيم ابن مرة عن الزهري عن عبيد الله بن الخيار عن المقداد لم يذكروا فيه عطاء بن يزيد واختلف عن الوليد بن مسلم فرواه الوليد القرشى عن الوليد عن الاوزاعي والليث بن سعد عن الزهري عن عبيد الله بن الخيار عن المقداد لم يذكر فيه عطاء واسقط ابراهيم بن مرة وخالفه
[ 106 ]
عيسى بن مساور فرواه عن الوليد عن الاوزاعي عن حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن الخيار عن المقداد لم يذكر فيه ابراهيم بن مرة وجعل مكان عطاء بن يزيد حميد بن عبد الرحمن ورواه الفريابى عن الأوزاعي عن ابراهيم بن مرة عن الزهري مرسلا عن المقداد قال أبو على الجيانى الصحيح في اسناد هذا الحديث ما ذكره مسلم أولا من رواية الليث ومعمر ويونس وابن جريج وتابعهم صالح بن كيسان هذا آخر كلام القاضى عياض رحمه الله قلت وحاصل هذا الخلاف والاضطراب انما هو في رواية الوليد بن مسلم عن الاوزاعي وأما رواية الليث ومعمر ويونس وابن جريج فلا شك في صحتها وهذه الروايات هي المستقلة بالعمل وعليها الاعتماد واما رواية الاوزاعي فذكرها متابعة وقد تقرر عندهم أن المتابعات يحتمل فيها ما فيه نوع ضعف لكونها الاعتماد عليها وانما هي لمجرد الاستئناس فالحاصل ان هذا الاضطراب الذى في رواية الوليد عن الاوزاعي لا يقدح في صحة أصل هذا الحديث فلا خلاف في صحته وقد قدمنا أن أكثر استدراكات الدارقطني من هذا النحو ولا يؤثر ذلك في صحة المتون وقدمنا أيضا في الفصول اعتذار مسلم رحمه الله عن نحو هذا بانه ليس الاعتماد عليه والله اعلم وأما معاني الاحاديث وفقهها فقوله ص = في الذى قال لا إله الا الله لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل أن تقتله وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التى قال اختلف في معناه فاحسن ما قيل فيه وأظهره ما قاله الامام الشافعي وابن القصار المالكى وغيرهما أن معناه فانه معصوم الدم محرم قتله بعد قوله لا إله الا الله كما كنت أنت قبل أن تقتله وانك بعد قتله غير معصوم الدم ولا محرم القتل كما كان هو قبل قوله لا إله الا الله قال ابن القصار يعنى لولا عذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك قال القاضى وقيل معناه انك مثله في مخالفة الحق وارتكاب الاثم وان اختلف انواع المخالفة والاثم فيسمى إثمه كفرا واثمك معصية وفسقا واما كونه ص = لم يوجب على أسامة قصاصا ولا دية ولا كفارة فقد يستدل به لاسقاط الجميع ولكن الكفارة واجبة والقصاص ساقط للشبهة فانه ظنه كافرا وظن أن اظهاره كلمة التوحيد في هذا الحال لا يجعله مسلما وفى وجوب الدية قولان للشافعي وقال بكل واحد منهما بعض من العلماء ويجاب عن عدم ذكر الكفارة بأنها ليست على الفور بل هي على التراخي وتأخير البيان الى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الاصول وأما الدية على قول من أوجبها فيحتمل أن اسامة كان في ذلك الوقت معسرا بها فأخرت الى يساره
[ 107 ]
وأما ما فعله جندب بن عبد الله رضى الله عنه من جمع النفر ووعظهم ففيه أنه ينبغى للعالم والرجل العظيم المطاع وذى الشهرة أن يسكن الناس عند الفتن ويعظهم ويوضح لهم الدلائل وقوله ص = أفلا شققت عن قلبه فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والاصول أن الاحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر وأما قول أسامة في الرواية الاولى فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبى ص = وفى الرواية الاخرى فلما قدمنا بلغ ذلك النبي ص = فقال لي يا أسامة أقتلته وفي الرواية الأخرى فجاء البشير إلى النبي ص = فأخبره خبر الرجل فدعاه يعنى أسامة فسأله فيحتمل أن يجمع بينها بأن اسامة وقع في نفسه من ذلك شئ بعد قتله ونوى أن يسأل عنه فجاء البشير فاخبر به قبل مقدم أسامة وبلغ النبي ص = أيضا بعد قدومهم فسأل أسامة فذكره وليس في قوله فذكرته ما يدل على أنه قاله ابتداء قبل تقدم علم النبي ص = به والله اعلم باب قول النبي ص = من حمل علينا السلاح فليس منا فيه قوله ص = (من حمل علينا السلاح فليس منا) رواه ابن عمر وسلمة وأبو موسى وفى رواية سلمة (من سل علينا السيف) وفى اسناد أبى موسى لطيفة وهى ان اسناده كلهم
[ 108 ]
كوفيون وهم أبو بكر بن أبى شيبة وعبد الله بن براد وأبو كريب قالوا حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبى بردة عن أبى موسى فأما براد فبفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وآخره دال وأبو كريب محمد بن العلاء وأبو اسامة حماد بن أسامة وبريد بضم الموحدة وأبو بردة اسمه عامر وقيل الحرث وأبو موسى عبد الله بن قيس وأما معنى الحديث فتقدم أول الكتاب وتقدم عليه قاعدة مذهب أهل السنة والفقهاء وهى أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل ولم يستحله فهو عاص ولا يكفر بذلك فان استحله كفر فاما تأويل الحديث فقيل هو محمول على المستحيل بغير تأويل فيكفر ويخرج من الملة وقيل معناه ليس على سيرتنا الكاملة وهدينا وكان سفيان بن عيينة رحمه الله يكره قول من يفسره بليس على هدينا ويقول بئس هذا القول يعنى بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر والله أعلم باب قول النبي ص = من غشنا فليس منا فيه يعقوب بن عبد الرحمن القارى هو بتشديد الياء منسوب الى القارة القبيلة المعروفة وأبو الاحوص محمد بن حيان بالياء المثناة وقوله (حدثنا ابن ابى حازم) هو عبد العزيز بن ابى حازم واسم
[ 109 ]
أبى حازم هذا سلمة بن دينار وقوله (صبرة من طعام) هي بضم الصاد واسكان الباء قال الازهرى الصبرة الكومة المجموعة من الطعام سميت صبرة لافراغ بعضها على بعض ومنه قيل للسحاب فوق السحاب صبير وقوله في الحديث (أصابته السماء) أي المطر وقوله ص = (من غش فليس منى) كذا في الاصول منى وهو صحيح وقد تقدم بيانه في الباب قبله والله اعلم باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية قوله (حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة) إلى آخره كلهم كوفيون وقوله (على بن خشرم) هو بفتح الخاء
[ 110 ]
واسكان الشين المعجمتين وفتح الراء وقوله (القنطرى) هو بفتح القاف والطاء منسوب الى قنطرة بردان بفتح الباء والراء جسر ببغداد وقوله (القاسم بن مخيمرة) هو بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وكسر الميم الثاتية وقوله (وجع أبو موسى) هو بفتح الواو وكسر الجيم وقوله (في حجر امرأته) هو بفتح الحاء وكسرها لغتان قوله (فلما أفاق قال أنا برئ مما برئ منه رسول الله ص =) كذا ضبطناه وكذا هو في الاصول مما وهو صحيح أي من الشئ الذى برئ منه رسول الله ص = وقوله (الصالقة والحالقة والشاقة) وفى الرواية الاخرى أنا برئ ممن حلق وسلق وخرق فالصالقة وقعت في الاصول بالصاد وسلق بالسين وهما صحيحان وهما لغتان السلق والصلق وسلق وهى صالقة وسالقة وهى التى ترفع صوتها عند المصيبة والحالقة هي التى تحلق شعرها عند المصيبة والشاقة التى تشق ثوبها عند المصيبة هذا هو المشهور الظاهر المعروف وحكى القاضى عياض عن ابن الاعرابي أنه قال الصلق ضرب الوجه وأما دعوى الجاهلية فقال القاضى عياض هي النياحة وندبه الميت والدعاء بالويل وشبهه والمراد بالجاهلية ما كان في الفترة قبل الاسلام وقوله في الاسناد الآخر (أبو عميس عن أبى صخرة)
[ 111 ]
هو عميس بضم العين المهملة وفتح الميم واسكان الياء وبالسين المهملة واسمه عتبة ابن عبد الله بن عتيبة بن عبد الله بن مسعود وذكره الحاكم في أفراد الكنى يعنى أنه لا يشاركه في كنيته أحد وأما أبو صخرة فبالهاء في آخره كذا وقع هنا وهو المشهور في كنيته ويقال فيها أيضا أبو صخر بحذف الهاء واسمه جامع بن شداد وقوله (تصيح برنة) هو بفتح الراء وتشديد النون قال صاحب المطالع الرنة صوت مع البكاء فيه ترجيع كالقلقلة واللقلقة يقال أرنت فهى مرنة ولا يقال رنت وقال ثابت في الحديث لعنت الرانة ولعله من نقلة الحديث هذا كلام صاحب المطالع قال أهل اللغة الرنة والرنين والارنان بمعنى واحد ويقال رنت وأرنت لغتان حكاهما الجوهرى وفيه رد لما قاله ثابت وغيره قال القاضى عياض رحمه الله قوله أنا برئ ممن حلق أي من فعلهن أو ما يستوجبن من العقوبة أو من عهدة ما لزمنى من بيانه وأصل البراءة الانفصال هذا كلام القاضى ويجوز أن يراد به ظاهره وهو البراءة من فاعل هذه الامور ولا يقدر فيه حذف وأما قوله (حدثنى الحسن بن على الحلواني حدثنا عبد الصمد أنبأنا شعبة) فذكره مرفوعا
[ 112 ]
فقال القاضى عياض يروونه عن شعبة موقوفا ولم يرفعه عنه غير عبد الصمد قلت ولا يضر هذا على المذهب الصحيح المختار وهو إذا روى الحديث بعض الرواة موقوفا وبعضهم مرفوعا أو بعضهم متصلا وبعضهم مرسلا فان الحكم للرفع والوصل وقيل للوقف والارسال وقيل يعتبر الاحفظ وقيل الاكثر والصحيح الاول ومع هذا فمسلم رحمه الله لم يذكر هذ الاسناد معتمدا عليه انما ذكره متابعة وقد تكلمنا قريبا على نحو هذا والله أعلم باب بيان غلظ تحريم النميمة في رواية لا يدخل الجنة نمام وفى أخرى قتات وهو مثل الاول فالقتات هو النمام وهو بفتح القاف وتشديد التاء المثناة من فوق قول الجوهرى وغيره يقال نم الحديث ينمه وينمه بكسر النون وضمها نما والرجل نمام ونم وقته يقته بضم القاف قتا قال العلماء النميمة نقل كلام الناس بعضهم الى بعض على جهة الافساد بينهم قال الامام أبو حامد الغزالي رحمه الله في الاحياء اعلم أن النميمة انما تطلق في الاكثر على من ينم قول الغير الى المقول فيه كما تقول فلان يتكلم فيك بكذا قال وليست النميمة مخصوصة بهذا بل حد النميمة كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول
[ 113 ]
عنه أو المنقول إليه أو ثالث وسواء كان الكشف بالنكاية أو بالرمز أو بالايماء فحقيقة النميمة افشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه فلو رآه يخفى مالا لنفسه فذكره فهو نميمة قال وكل من حملت إليه نميمة وقيل له فلان يقول فيك أو يفعل فيك كذا فعليه ستة أمور الأول أن لا يصدقه لأن النمام فاسق الثاني أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح له فعله الثالث أن يبغضه في الله تعالى فانه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من أبغضه الله تعالى الرابع أن لا يظن بأخيه الغائب السوء الخامس أن لا يحمله ما حكى له على التجسس والبحث عن ذلك السادس أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكى نميمة عنه فيقول فلان حكى كذا فيصير به نماما ويكون آتيا ما نهى عنه هذا آخر كلام الغزالي رحمه الله وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية فان دعت الحاجة إليها فلا منع منها وذلك كما إذا أخبره بأن انسانا يريد الفتك به أو بأهله أو بماله أو أخبر الامام أو من له ولاية بأن انسانا يفعل كذا ويسعى بما فيه مفسدة ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك وازالته فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام وقد يكون بعضه واجبا وبعضه مستحبا على حسب المواطن والله أعلم وفى الاسناد فروخ وهو غير مصروف تقدم مرات وفيه الضبعى بضم الضاد المعجمة وفتح الوحدة وقوله في الاسناد الاخير (حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة الى آخره) كلهم كوفيون الا حذيفة بن اليمان فانه استوطن المداين وأما قوله ص = (لايدخل الجنة نمام) ففيه التأويلان المتقدمان في نظائره أحدهما يحمل على المستحل بغير تأويل مع العلم بالتحريم والثانى لا يدخلها دخول الفائزين والله أعلم
[ 114 ]
باب بيان غلط تحريم اسبال الازار والمن بالعطية (وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة) (ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) فيه قوله ص = (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها رسول الله ص = ثلاث مرات المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) وفى رواية (المنان الذى لا يعطى شيئا الا منه والمسبل ازاره) وفى
[ 115 ]
رواية (شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر) وفى رواية (رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك ورجل بايع اماما لا يبايعه الا لدنيا فان أعطاه منها وفى وان لم يعطه منها لم يف) أما الفاظ أسماء الباب ففيه على بن مدرك بضم الميم واسكان الدال المهملة وكسر الراء وفيه خرشة بخاء معجمة ثم راء مفتوحتين ثم شين معجمة وفيه أبو زرعة وهو ابن عمرو بن جرير وتقدم مرات الخلاف في اسمه وأن الاشهر فيه هرم وفيه أبو حازم عن أبى هريرة هو أبو حازم سلمان الاغر مولى عزة وفيه أبو صالح وهو ذكوان تقدم وفيه سعيد بن عمرو الاشعثى هو بالشين المعجمة والعين المهملة والثاء المثلثة منسوب الى جده الاشعث بن قيس الكندى فانه سعيد بن عمرو بن سهل بن اسحاق بن محمد بن الاشعت بن قيس الكندى وفيه عبثر هو بفتح العين وبعدها باء موحدة ساكنة ثم ثاء مثلثة واما الفاظ اللغة ونحوها فقوله ص = ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم هو على لفظ الآية
[ 116 ]
الكريمة قيل معنى لا يكلمهم أي لا يكلمهم تكليم أهل الخيرات وباظهار الرضى بل بكلام أهل السخط والغضب وقيل المراد الاعراض عنهم وقال جمهور المفسرين لا يكلمهم كلاما ينفعهم ويسرهم وقيل لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية ومعنى لا ينظر إليهم أي يعرض عنهم ونظره سبحانه وتعالى لعباده رحمته ولطفه بهم ومعنى لا يزكيهم لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وقال الزجاج وغيره معناه لا يثنى عليهم ومعنى عذاب أليم مؤلم قال الواحدى هو العذاب الذى يخلص الى قلوبهم وجعه قال والعذاب كل ما يعيي الانسان ويشق عليه قال وأصل العذاب في كلام العرب من العذب وهو المنع يقال عذبته عذبا إذا منعته وعذب عذوبا أي امتنع وسمى الماء عذبا لانه يمنع العطش فسمى العذاب عذابا لانه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه ويمنع غيره من مثل فعله والله أعلم وأما قوله ص = المسبل ازاره فمعناه المرخى له الجار طرفه خيلاء كما جاء مفسرا في الحديث الآخر لا ينظر الله الى من يجر ثوبه خيلاء والخيلاء الكبر وهذا التقييد بالجر خيلاء يخصص عموم المسبل ازاره ويدل على أن المراد بالوعيد من جره خيلاء وقد رخص النبي ص = في ذلك لابي بكر الصديق رضى الله عنه وقال لست منهم إذ كان جره لغير الخيلاء وقال الامام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره وذكر اسبال الازار وحده لأنه كان عامة لباسهم وحكم غيره من القميص وغيره حكمه قلت وقد جاء ذلك مبينا منصوصا عليه من كلام رسول الله ص = من رواية سالم بن عبد الله عن أبيه رضى الله عنهم عن النبي ص = قال الاسبال في الازار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه باسناد حسن والله أعلم وأما قوله ص = المنفق سلعته بالحلف الفاجر فهو بمعنى الرواية الاخرى بالحلف الكاذب ويقال الحلف بكسر اللام واسكانها وممن ذكر الاسكان ابن السكيت في أول اصلاح المنطق وأما الفلاة بفتح الفاء فهى المفازة والقفر
[ 117 ]
التى لا أنيس بها وأما تخصيصه ص = في الرواية الاخرى الشيخ الزانى والملك الكذاب والعائل المستكبر بالوعيد المذكور فقال القاضى عياض سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده وان كان لا يعذر أحد بذنب لكن لما لم يكن الى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعى متعادة أشبه اقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها فان الشيخ لكمال عقله وتمام معرفته بطول ما مر عليه من الزمان وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلال دواعيه لذلك عنده ما يريحه من دواعى الحلال في هذا ويخلى سره منه فكيف بالزنا الحرام وانما دواعى ذلك الشباب والحرارة الغريزية وقلة المعرفة وغلبة الشهوة لضعف العقل وصغر السن وكذلك الامام لا يخشى من أحد من رعيته ولا يحتاج الى مداهنته ومصانعته فان الانسان انما يداهن ويصانع بالكذب وشبهه من يحذره ويخشى أذاه ومعاتبته أو يطلب عنده بذلك منزله أو منفعه وهو غنى عن الكذب مطلقا وكذلك العائل الفقير قد عدم المال وانما سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء الثروة في الدنيا لكونه ظاهرا فيها وحاجات أهلها إليه فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويحتقر غيره فلم يبق فعله وفعل الشيخ الزانى والامام الكاذب الا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى والله أعلم وأما الثلاثة في الرواية الاخيرة فمنهم رجل منع فضل الماء من ابن السبيل المحتاج ولا شك في غلظ تحريم ما فعل وشدة فبحه فإذا كان من يمنع فضل الماء الماشية عاصيا فكيف بمن يمنعه الآدمى المحترم فان الكلام فيه فلو كان ابن السبيل غير محترم كالحربي والمرتد لم يجب بذل الماء له وأما الحالف كاذبا بعد العصر فمستحق هذا الوعيد وخص ما بعد العصر لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار وغير ذلك وأما مبايع الامام على الوجه المذكور
[ 118 ]
فمستحق هذا الوعيد لغشه المسلمين وامامهم وتسببه الى الفتن بينهم بنكثه بيعته لا سيما ان كان ممن يقتدى به والله أعلم ووقع في معظم الأصول في الرواية الثانية عن أبى هريرة ثلاث لا يكلمهم الله بحذف الهاء وكذا وقع في بعض الأصول في الرواية الثانية عن أبى ذر وهو صحيح على معنى ثلاث أنفس وجاء الضمير في يكلمهم مذكرا على المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم باب بيان غلظ تحريم قتل الانسان نفسه (وأن من قتل نفسه بشئ عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة الا نفس مسلمة) فيه قوله ص = (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) وفى
[ 119 ]
الحديث الآخر (من حلف على يمين بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال ومن قتل نفسه بشئ عذب به يوم القيامة وليس على رجل نذر في شئ لا يملكه) وفى رواية (من حلف بملة سوى الاسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال) وفى الحديث الآخر (ليس على رجل نذر فيما لا يملك ولعن المؤمن كقتله ومن قتل نفسه بشئ في الدنيا عذب به يوم القيامة ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله تعالى الا قلة ومن حلف على يمين صبر فاجرة) وفى الباب الأحاديث الباقية وستمر على الفاظها ومعانيها ان شاء الله تعالى أما الأسماء وما يتعلق بعلم الاسناد ففيه أشياء كثيرة تقدمت من الكنى والدقائق كقوله حدثنا خالد يعنى ابن الحرث فقد قدمنا بيان فائدة قوله هو ابن الحرث وكقوله عن الاعمش عن أبى صالح والاعمش مدلس والمدلس إذا قال عن لا يحتج به الا إذا ثبت السماع من جهة اخرى وقدمنا ان ما كان في الصحيحين عن المدلس بعن فمحمول على انه ثبت السماع من جهة اخرى وقد جاء هنا مبينا في الطريق الآخر من رواية شعبة وقوله في أول الباب حدثنا أبو بكر بن أبى شعبة وأبو شيبة وأبو سعيد الأشج ألخ أسناده كله كوفيون الا أبا هريرة فانه مدنى واسم الاشج عبد الله بن سعيد بن حصين توفى سنة سبع وخمسين ومائتين قبل مسلم بأربع سنين وقوله كلهم بهذا الاسناد مثله
[ 120 ]
وفي رواية شعبة عن سليمان قال سمعت ذكوان يعنى بقوله هذا الاسناد ان هؤلاء الجماعة المذكورين وهم جرير وعبثر وشعبة رووه عن الاعمش كما رواه وكيع في الطريق الاولى الا أن شعبة زادها هنا فائدة حسنة فقال عن سليمان وهو الاعمش قال سمعت ذكوان وهو أبو صالح فصرح بالسماع وفى الروايات الباقية يقول عن والاعمش مدلس لا يحتج بعنعنته الا إذا صح سماعه الذى عنعنه من جهة اخرى فبين مسلم ان ذلك قد صح من رواية شعبة والله تعالى أعلم وقوله أبو قلابة هو بكسر القاف واسمه عبد الله بن زيد وقوله عن خالد الحذاء قالوا انما قيل له الحذاء لانه كان يجلس في الحذائين ولم يحذ نعلا قط هذا هو المشهور وروينا عن فهد بن حيان بالمثناة قال لم يحذ خالد قط وانما كان يقول احذوا على هذا النحو فلقب الحذاء وهو خالد بن مهران أو المنازل بضم الميم وبالزاى واللام وقوله (عن شعبة عن ايوب عن أبى قلابة عن ثابت بن الضحاك الانصاري) ثم تحول الاسناد فقال (عن الثوري عن خالد الحذاء عن أبى قلابة عن ثابت بن الضحاك) قد يقال هذا تطويل للكلام على خلاف عادة مسلم وغيره وكان حقه ومقتضى عادته ان يقتصر أولا على ابى قلابة ثم يسوق الطريق الآخر إليه فأما ذكر ثابت فلا حاجة إليه اولا وجوابه ان في الرواية الأولى رواية شعبة عن أيوب نسب ثابت بن الضحاك فقال الانصاري وفى رواية الثوري عن خالد ولم ينسبه
[ 121 ]
فلم يكن له بد من فعل ما فعل ليصح ذكر نسبه قوله يعقوب القارى هو بتشديد الياء تقدم قريبا وأبو حازم الراوى عن سهل بن ساعد الساعدي اسمه سلمة بن دينار والراوي عن أبى هريرة اسمه سلمان مولى عزة والله اعلم وأما لغات الباب وشبهها فقوله ص = فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه هو بالجيم وهمز آخره ويجوز تسهيله بقلب الهمزة ألفا ومعناه يطعن وقوله ص = يتردى ينزل وأما جهنم فهو اسم لنار الآخرة عافانا الله منها ومن كل بلاء قال يونس وأكثر النحويين هي عجمية لا تنصرف للعجمة والتعريف وقال آخرون هي عربية لم تصرف للتأنيث والعلمية وسميت بذلك لبعد قعرها قال رؤبة يقال بئر جهنام أي بعيدة القعر وقيل هي مشتقة من الجهومة وهى الغلظ يقال جهم الوجه أي غليظة فسميت جهنم لغلظ أمرها والله أعلم وقوله ص = من شرب سما فهو يتحساه هو بضم السين وفتحها وكسرها ثلاث لغات الفتح أفصحهن الثالثة في المطالع وجمعه سمام ومعنى يتحساه يشربه في تمهل ويتجرعه وقوله ص = ومن ادعى دعوى كاذبة هذه هي اللغة الفصيحة يقال دعوى باطل وباطلة وكاذب وكاذبة حكاهما صاحب المحكم والتأنيث أفصح وأما قوله ص = ليتكثر بها فضبطناه بالثاء المثلثة بعد الكاف وكذا هو في معظم الأصول وهو الظاهر وضبطه بعض الأئمة المعتمدين في نسخته بالباء الموحدة وله وجه وهو بمعنى الأول أي يصير ماله كبيرا عظيما وقوله ص = ومن حلف على يمين صبر فاجرة كذا وقع في الاصول هذا القدر فحسب وفيه محذوف قال القاضى عياض رحمه الله لم يأت في الحديث هنا الخبر عن هذا الحالف الا أن يعطفه على قوله قبله ومن أدعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله بها الا قلة أي وكذلك من حلف على يمين صبر فهو مثله قال وقد ورد معنى هذا الحديث تاما مبينا في حديث آخر من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال أمرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان ويمين الصبر هي التى ألزم بها الحالف عند حاكم ونحوه وأصل الصبر الحبس والامساك
[ 122 ]
وقوله في حديث أبى هريرة (شهدنا مع رسول الله ص = حنينا) كذا وقع في الاصول قال القاضى عياض رحمه الله صوابه خيبر بالخاء المعجمة وقوله (يا رسول الله الرجل الذى قلت له آنفا انه من أهل النار) أي قلت في شأنه وفى سببه قال الفراء وابن الشجرى وغيرهما من أهل العربية اللام قد تأتى بمعنى في ومنه قول الله عز وجل الموازين القسط ليوم القيامة أي فيه وقوله آنفا أي قريبا وفيه لغتان المد وهو أفصح والقصر وقوله (فكاد بعض المسلمين أن يرتاب) كذا هو في الاصول أن يرتاب فأثبت أن مع كاد وهو جائز لكنه قليل وكاد لمقاربة الفعل ولم يفعل إذا لم يتقدمها نفى فان تقدمها كقولك ما كاد يقوم كانت دالة على القيام لكن بعد بطء كذا نقله الواحدى وغيره عن العرب واللغة وقوله (ثم أمر بلالا فنادى في الناس انه لا يدخل الجنة الا نفس مسلمة وان الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) يجوز في انه وان كسر الهمزة وفتحها وقد قرئ في السبع قول الله عز وجل الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب ان الله يبشرك بفتح الهمزة وكسرها
[ 123 ]
وقوله (لا يدع لهم شاذة الا اتبعها) الشاذ والشاذة الخارج والخارجة عن الجماعة قال القاضى عياض رحمه الله أنث الكلمة على معنى النسمة أو تشبيه الخارج بشاذة الغنم ومعناه أنه لا يدع أحدا على طريق المبالغة قال ابن الاعرابي يقال فلان لا يدع شاذة ولا فاذة إذا كان شجاعا لا يلقاه أحد الا قتله وهذا الرجل الذى كان لا يدع شاذة ولا فادة اسمه قزمان قاله الخطيب البغدادي قال وكان من المنافقين وقوله (ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان) مهموز معناه ما أغنى وكفى أحد غناءه وكفايته وقوله (فقال رجل من القوم أنا صاحبه) كذا في الاصول ومعناه أنا أصحبه في خفية والازمه لأنظر السبب الذى به يصير من أهل النار فان فعله في الظاهر جميل وقد أخبر النبي ص = أنه من أهل النار فلا بد له من سبب عجيب قوله (ووضع ذباب السيف بين ثدييه) هو بضم الذال وتخفيف الباء الموحدة المكررة وهو طرفه الاسفل وأما طرفه الأعلى فمقبضه وقوله بين ثدييه هو تثنية ثدى بفتح الثاء وهو يذكر على اللغة الفصيحة التى اقتصر عليها الفراء وثعلب وغيرهما وحكى ابن فارس والجوهري وغيرهما فيه التذكير
[ 124 ]
والتأنيث قال ابن فارس الثدى للمرأة ويقال لذلك الموضع من الرجل ثندوه وثندؤه بالفتح بلا همزة وبالضم مع الهمزة وقال الجوهرى والثدى للمرأة وللرجل فعلى قول ابن فارس يكون في هذا الحديث قد استعار الثدى للرجل وجمع الثدى أثد وثدى بضم الثاء وكسرها قوله ص = (خرجت برجل قرحة فأذته فانتزع سهما من كنانته فنكأها فلم يرقأ الدم حتى مات) وفى الرواية الأخرى خرج به خراج القرحة بفتح القاف واسكان الراء وهى واحدة القروح وهى حبات تخرج في بدن الانسان والكنانة بكسر الكاف وهى جعبة النشاب مفتوحة الجيم سميت كنانة لأنها تكن السهام أي تسترها ومعنى نكأها قشرها وخرقها وفتحها وهو مهموز ومعنى لم يرقأ الدم أي لم ينقطع وهو مهموز يقال رقأ الدم والدمع يرقأ
[ 125 ]
رقوءا مثل ركع يركع ركوعا إذا سكن وانقطع والخراج بضم الخاء المعجمة وتخفيف الراء وهو القرحة قوله (فما نسينا وما نخشى ان يكون كذب) هو نوع من تأكيد الكلام وتقويته في النفس أو الاعلام بتحقيقه ونفى تطرق الخلل إليه والله اعلم أما احكام الحديث ومعانيها ففيها بيان غلظ تحريم قتل نفسه واليمين الفاجرة التى يقتطع بها مال غيره والحلف بملة غير الاسلام كقوله هو يهودى أو نصراني ان كان كذا أو واللات والعزى وشبه ذلك وفيها أنه لا يصلح النذر فيما لا يملك ولا يلزم بهذا النذر شئ وفيها تغليظ تحريم لعن المسلم وهذا لا خلاف فيه قال الامام أبو حامد الغزالي وغيره لا يجوز لعن أحد من المسلمين ولا الدواب ولا فرق بين الفاسق وغيره ولا يجوز لعن أعيان الكفار حيا كان أو ميتا الا من علمنا بالنص أنه مات كافرا كأبى لهب وأبي جهل وشبههما ويجوز لعن طائفتهم كقولك لعن الله الكفار ولعن الله اليهود والنصارى وأما قوله ص = لعن المؤمن كقتله فالظاهر أن المراد أنهما سواء في أصل التحريم وان كان القتل أغلظ وهذا هو الذى اختاره الامام أبو عبد الله المازرى وقيل غير هذا مما ليس بظاهر وأما قوله ص = فهو في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا فقيل فيه أقوال أحدها أنه محمول على من فعل ذلك مستحلا مع علمه بالتحريم فهذا كافر وهذه عقوبته والثانى أن المراد بالخلود طول المدة والاقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام كما يقال خلد الله ملك السلطان والثالث أن هذا جزاؤه ولكن تكرم سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلما قال القاضى عياض رحمه الله في قوله ص = من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه فيه دليل على أن القصاص من القاتل يكون بما قتل به محددا كان أو غيره اقتداء لعقاب الله تعالى لقاتل نفسه والاستدلال
[ 126 ]
بهذا لهذا ضعيف وأما قوله ص = من حلف على يمين بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال وفى الرواية الأخرى كاذبا متعمدا ففيه بيان لغلظ تحريم هذا الحلف وقوله ص = كاذبا ليس المراد به التقييد والاحتراز من الحلف بها صادقا لانه لا ينفك الحالف بها عن كونه كاذبا وذلك لأنه لا بد أن يكون معظما لما حلف به فان كان معتقدا عظمته بقلبه فهو كاذب في ذلك وان كان غير معتقد ذلك بقلبه فهو كاذب في الصورة لكونه عظمه بالحلف به وإذا علم أنه لا ينفك عن كونه كاذبا حمل التقييد بكاذبا على انه بيان لصورة الحالف ويكون التقييد خرج على سبب فلا يكون له مفهوم ويكون من باب قول الله تعالى الانبياء بغير حق وقوله تعالى تقتلوا أولادكم من املاق وقوله تعالى اللاتى في حجوركم وقوله تعالى فإن خفتم الا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقوله تعالى عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم وقوله تعالى تكرهوا فتياتكم على البغاء ان أردن تحصنا ونظائره كثيرة ثم ان كان الحالف به معظما لما حلف به مجلاله كان كافرا وان لم يكن معظما بل كان قلبه مطمئنا بالإيمان فهو كاذب في حلفه بما لا يحلف به ومعاملته اياه معاملة ما يحلف به ولا يكون كافرا خارجا عن ملة الاسلام ويجوز أن يطلق عليه اسم الكفر ويراد به كفر الاحسان وكفر نعمة الله تعالى فانها تقتضي ان لا يحلف هذا الحلف القبيح وقد قال الامام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك رضى الله عنه فيما ورد من مثل هذا مما ظاهره تكفير أصحاب المعاصي ان ذلك على جهة التغليظ والزجر عنه وهذا معنى مليح ولكن ينبغى أن يضم إليه ما ذكرناه من كونه كافر النعم وأما قوله ص = من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله الا قلة فقال القاضى عياض هو عام في كل دعوى يتشبع بها المرء بما لم يعط من مال يختال في التجمل به من غيره أو نسب ينتمى إليه أو علم يتحلى به وليس هو من حملته أو دين يظهره وليس هو من أهله فقد أعلم ص = أنه غير مبارك له في دعواه ولا زاك ما اكتسبه بها ومثله الحديث الآخر اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب وأما قوله ص = أن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وأن الرجل ليعمل عمل أهل النار وهو من أهل الجنة ففيه التحذير من الاغترار بالاعمال وأنه ينبغى للعبد أن لا يتكل عليها ولا يركن إليها مخافة من انقلاب الحال للقدر السابق وكذا ينبغى للعاصي أن لا يقنط ولغيره
[ 127 ]
أن لا يقنطه من رحمه الله تعالى ومعنى قوله ص = ان الرجل ليعمل عمل أهل الجنة وانه من أهل النار وكذا عكسه ان هذا قد يقع وأما قوله ص = ان رجلا ممن كان قبلكم خرجت به قرحة فلما آذته انتزع سهما من كنانته فنكأها فلم يرقأ الدم حتى مات قال ربكم قد حرمت عليه الجنة فقال القاضى رحمه الله فيه يحتمل انه كان مستحلا أو يحرمها حين يدخلها السابقون والابرار أو يطيل حسابه أو يحبس في الاعراف هذا كلام القاضى قلت ويحتمل أن شرع أهل ذلك العصر تكفير أصحاب الكبائر ثم ان هذا محمول على أنه نكأها استعجالا للموت أو لغير مصلحة فانه لو كان على طريق المداواة التى يغلب على الظن نفعها لم يكن حراما والله اعلم باب غلظ تحريم الغلول وانه لا يدخل الجنة الإ المؤمنون فيه عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال (لما كان يوم خبير أقبل نفر من صحابة النبي ص = فقالوا فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله ص = كلا إنى رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ثم قال رسول الله ص = يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون قال فخرجت فناديت
[ 128 ]
ألا انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون) وفيه حديث أبى هريرة من نحو معناه في الاسناد أبو زميل بضم الزاى وتخفيف الميم وتقدم وقوله لما كان يوم خبير هو بالخاء المعجمة وآخره راء فهكذا وقع في مسلم وهو الصواب وذكر القاضى عياض رحمه الله أن أكثر رواة الموطأ رووه هكذا وأنه الصواب قال ورواه بعضهم حنين بالحاء المهملة والنون والله أعلم وقوله ص = كلا زجر ورد لقولهم في هذا الرجل انه شهيد محكوم له بالجنة أول وهلة بل هو في النار بسبب غلوله وقوله (ثور بن زيد الديلى) هو هنا بكسر الدال واسكان الياء هكذا هو في أكثر الاصول الموجودة ببلادنا وفى بعضها الدؤلى بضم الدال وبالهمزة بعدها التى تكتب صورتها واوا وذكر القاضى عياض رحمه الله أنه ضبطه هنا عن أبى بحر دولي بضم الدال وبواو ساكنة قال وضبطناه عن غيره بكسر الدال واسكان الياء قال وكذا ذكره مالك في الموطأ والبخاري في التاريخ وغيرهما قلت وقد ذكر أبو على الغساني أن ثورا هذا من رهط أبى الأسود فعلى هذا يكون فيه الخلاف الذى قدمناه قريبا في أبى الاسود وقوله (عن سالم أبى الغيث مولى ابن مطيع) هذا صحيح وفيه التصريح بأن أبا الغيث هذا يسمى سالما وأما قول أبى عمر بن عبد البر في أول كتابه التمهيد لا يوقف على اسمه صحيحا فليس بمعارض لهذا الاثبات الصحيح واسم ابن مطيع عبد الله ابن مطيع بن الاسود القرشى والله أعلم قوله ص = انى رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة أما البردة بضم الباء فكساء مخطط وهى الشملة والنمرة وقال أبو عبيد هو كساء أسود فيه صور وجمعها برد بفتح الراء وأما العباءة فمعروفة وهى ممدودة ويقال فيها أيضا عباية بالياء قاله ابن السكيت وغيره وقوله ص = في بردة أي من أجلها وبسببها وأما الغلول فقال أبو عبيد هو الخيانة
[ 129 ]
في الغنيمة خاصة وقال غيره هي الخيانة في كل شئ ويقال منه غل يغل بضم الغين وقوله (رجل من بنى الضبيب) هو بضم الضاد المعجمة وبعدها باء موحدة مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم باء موحدة قوله (يحل رحله) هو بالحاء المهملة وهو مركب الرجل على البعير وقوله (فكان فيه حتفه) هو بفتح الحاء المهملة واسكان المثناة فوق أي موته وجمعه حتوف ومات حتف أنفه أي من غير قتل ولا ضرب قوله (فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال يا رسول الله أصبت يوم خيبر) كذا هو في الاصول وهو صحيح وفيه حذف المفعول أي أصبت هذا والشراك بكسر الشين المعجمة وهو السير المعروف الذى يكون في النعل على ظهر القدم قال القاضى عياض رحمه الله قوله النبي ص = (ان الشملة لتلتهب عليه نارا) وقوله ص = (شراك أو شراكان من نار) تنبيه على المعاقبة عليهما وقد تكون المعاقبة بهما أنفسهما فيعذب بهما وهما من نار وقد يكون ذلك على أنهما سبب لعذاب النار والله أعلم وأما قوله (ومع النبي ص = عبد له) فاسمه مدعم بكسر الميم واسكان الدال وفتح العين المهملتين كذا جاء مصرحا به في الموطأ في هذا الحديث بعينه قال القاضى عياض رحمه الله وقيل انه غير مدعم قال وورد في حديث مثل هذا اسمه كركرة ذكره البخاري هذا كلام القاضى وكركرة بفتح الاولى وكسرها وأما
[ 130 ]
الثانية فمكسورة فيهما والله أعلم وأما أحكام الحديثين فمنها غلظ تحريم الغلول ومنها أنه لا فرق بين قليله وكثيره حتى الشراك ومنها أن الغلول يمنع من اطلاق اسم الشهادة على من غل إذا قتل وسيأتى بسط هذا ان شاء الله تعالى ومنها انه لا يدخل الجنة أحد ممن مات على الكفر وهذا باجماع المسلمين ومنها جواز الحلف بالله تعالى من غير ضرورة لقوله ص = والذى نفس محمد بيده ومنها ان من غل شيئا من الغنيمة يجب عليه رده وأنه إذا رده يقبل منه ولا يحرق متاعه سواء رده أو لم يرده فانه ص = لم يحرق متاع صاحب الشملة وصاحب الشراك ولو كان واجبا لفعله ولو فعله لنقل وأما الحديث من غل فأحرقوا متاعه واضربوه وفى رواية واضربوا عنقه فضعيف بين ابن عبد البر وغيره ضعفه قال الطحاوي رحمه الله ولو كان صحيحا لكان منسوخا ويكون هذا حين كانت العقوبات في الأموال والله اعلم باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر فيه حديث جابر رضى الله عنه (أن الطفيل بن عمرو الدوسى هاجر الى رسول الله ص = الى المدينة وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص
[ 131 ]
فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل في منامه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه فقال له ما صنع بك ربك فقال غفر لى بهجرتي الى نبيه ص = فقال مالى آراك مغطيا يديك قال قيل لى لن نصلح منك ما أفسدت فقصها الطفيل على رسول الله ص = فقال رسول الله ص = اللهم وليديه فاغفر) قوله فاجتووا المدينة هو بضم الواو الثانية ضمير جمع وهو ضمير يعود على الطفيل والرجل المذكور ومن يتعلق بهما ومعناه كرهوا المقام بها لضجر ونوع من سقم قال أبو عبيد والجوهري وغيرهما اجتويت البلد إذا كرهت المقام به وان كنت في نعمة قال الخطابى وأصله من الجوى وهو داء يصيب الجوف وقوله فأخذ مشاقص هي بفتح الميم وبالشين المعجمة وبالقاف والصاد المهملة وهى جمع مشقص بكسر الميم وفتح القاف قال الخليل وابن فارس وغيرهما هو سهم فيه نصل عريض وقال آخرون سهم طويل ليس بالعريض وقال الجوهرى المشقص ما طال وعرض وهذا هو الظاهر هنا لقوله قطع بها براجمه ولا يحصل ذلك الا بالعريض وأما البراجم بفتح الباء الموحدة وبالجيم فهى مفاصل الأصابع واحدتها برجمة وقوله فشخبت يداه هو بفتح الشين والخاء المعجمتين أي سال دمهما وقيل سال بقوة وقوله هل لك في حصن حصين ومنعة هي بفتح الميم وبفتح النون واسكانها لغتان ذكرهما ابن السكيت والجوهري وغيرهما الفتح أفصح وهى العز والامتناع ممن يريده وقيل المنعة جمع مانع كظالم وظلمة أي جماعة يمنعونك ممن يقصدك بمكروه أما أحكام الحديث ففيه حجة لقاعدة عظيمة
[ 132 ]
لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار بل هو في حكم المشيئة وقد تقدم بيان القاعدة وتقريرها وهذا الحديث شرح للاحاديث التى قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار وفيه اثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي فان هذا عوقب في يديه ففيه رد على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضر والله أعلم باب في الريح التى تكون قرب القيامة تقبض (من في قلبه شئ من الايمان) فيه قوله ص = (ان الله تعالى يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة من ايمان الا قبضته) أما اسناده ففيه أحمد بن عبدة باسكان الباء وأبو علقمة الفروى بفتح الفاء واسكان الراء واسمه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبى فروة المدنى مولى آل عثمان بن عفان رضى الله عنه وأما معنى الحديث فقد جاءت في هذا النوع أحاديث منها لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الارض الله الله ومنها لا تقوم على أحد يقول الله الله ومنها لا تقوم الا على شرار الخلق وهذه كلها وما في معناها على ظاهرها وأما الحديث الآخر لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق الى يوم القيامة فليس مخالف لهذه الأحاديث لان معنى هذا أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم هذه الريح اللينة قرب القيامة وعند تظاهر أشراطها فأطلق في هذا الحديث بقاءهم الى قيام الساعة على أشراطها ودنوها المتناهى في القرب والله أعلم وأما قوله ص = مثقال حبة أو مثقال ذرة من ايمان ففيه بيان للمذهب الصحيح
[ 133 ]
أن الايمان يزيد وينقص وأما قوله ص = ريحا ألين من الحرير ففيه والله أعلم اشارة الى الرفق بهم والا كرام لهم والله أعلم وجاء في هذا الحديث يبعث الله تعالى ريحا من اليمن وفى حديث آخر ذكره مسلم في آخر الكتاب عقب أحاديث الدجال ريحا من قبل الشام ويجاب عن هذا بوجهين أحدهما يحتمل أنهما ريحان شامية ويمانية ويحتمل أن مبدأها من أحد الاقليمين ثم تصل الآخر وتنتشر عنده والله أعلم باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن فيه قوله ص = بادروا بالاعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا أو يمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا) معنى الحديث الحث على المبادرة الى الاعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر ووصف ص = نوعا من شدائد تلك الفتن وهو أنه يمسى مؤمنا ثم يصبح كافرا أو عكسه شك الراوى وهذا لعظم الفتن ينقلب الانسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب والله أعلم باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله فيه قصة ثابت بن قيس بن الشماس رضى الله عنه وخوفه حين نزلت ترفعوا أصواتكم فوق
[ 134 ]
صوت النبي الآية وكان ثابت رضى الله عنه جهير الصوت وكان يرفع صوته وكان خطيب الانصار ولذلك اشتد حذره أكثر من غيره وفى هذا الحديث منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضى الله عنه وهى أن النبي ص = أخبر أنه من أهل الجنة وفيه أنه ينبغى للعالم وكبير القوم أن يتفقد أصحابه ويسأل عمن غاب منهم وقول مسلم رحمه الله (حدثنا قطن بن نسير قال حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت عن أنس) فيه لطيفة وهو أنه اسناد كله بصريون وقطن بفتح القاف والطاء المهملة وبالنون ونسير بنون مضمومة ثم سين مهملة مفتوحة ثم مثناة من تحت ساكنة ثم راء وقد قدمنا أنه ليس في الصحيحين نسير غيره وقد قدمنا في الفصول المذكورة في مقدمة هذا الشرح انكار من أنكر على مسلم روايته عنه وجوابه وفى
[ 135 ]
الاسناد الآخر حبان هو بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وهو ابن هلال وكل هذا الاسناد أيضا بصريون الا أحمد بن سعيد الدارمي في أوله فانه نيسابورى وقول مسلم (حدثنا هريم ابن عبد الاعلى حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أبى يذكر عن ثابت عن أنس) هذا الاسناد أيضا كله بصريون حقيقة وهريم بضم الهاء وفتح الراء واسكان الياء وقوله (فكنا نراه يمشى بين أظهرنا رجلا من أهل الجنة) هكذا هو في بعض الاصول رجلا وفى بعضها رجل وهو الاكثر وكلاهما صحيح الأول على البدل من الهاء في نراه والثانى على الاستئناف باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية قال مسلم (حدثنا عثمان بن أبى شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبى وائل عن عبد الله قال قال أناس يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال أما من أحسن منكم في الاسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والاسلام) قال مسلم (حدثنا محمد بن
[ 136 ]
عبد الله بن نمير قال حدثنا أبى ووكيع قال وحدثنا أبو بكر بن أبى شيبة واللفظ له قال حدثنا وكيع عن الاعمش عن أبى وائل عن عبد الله رضى الله عنه قال قلنا يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية فذكره) قال مسلم (حدثنا منجاب أخبرنا ابن مسهر عن الاعمش بهذا الاسناد) هذه الاسانيد الثلاثة كلهم كوفيون وهذا من أطرف النفائس لكونها أسانيد متلاصقة مسلسلة بالكوفيين وعبد الله هو ابن مسعود ومنجاب بكسر الميم وأما معنى الحديث فالصحيح فيه ما قاله جماعة من المحققين أن المراد بالاحسان هنا الدخول في الاسلام بالظاهر والباطن جميعا وأن يكون مسلما حقيقيا فهذا يغفر له ما سلف في الكفر بنص القرآن العزيز والحديث الصحيح الاسلام يهدم ما قبله وباجماع المسلمين والمراد بالاساءة عدم الدخول في الاسلام بقلبه بل يكون منقادا في الظاهر مظهرا للشهادتين غير معتقد للاسلام بقلبه فهذا منافق باق على كفره باجماع المسلمين فيؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل اظهار صورة الاسلام وبما عمل بعد اظهارها لأنه مستمر على كفره وهذا معروف في استعمال الشرع يقولون حسن اسلام فلان إذا دخل فيه حقيقة باخلاص وساء اسلامه أو لم يحسن اسلامه إذا لم يكن كذلك والله أعلم باب كون الاسلام يهدم ما قبله وكذا الحج والهجرة فيه حديث عمرو بن العاصى رضى الله عنه وقصة وفاته وفيه حديث ابن عباس رضى الله عنهما
[ 137 ]
في سبب نزول قول الله تعالى لا يدعون مع الله الها آخر وقوله تعالى عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم فأما حديث عمرو فنتكلم في اسناده ومتنه ثم نعود الى حديث ابن عباس رضى الله عنهما أما اسناده ففيه محمد بن مثنى العنزي بفتح العين والنون وأبو معن الرقاشى بفتح الراء وتخفيف القاف اسمه زيد بن يزيد وأبو عاصم هو النبيل واسمه الضحاك بن مخلد وابن شماسة المهرى وشماسة بالشين المعجمة في أوله بفتحها وضمها ذكرهما صاحب المطالع والميم مخففة وآخره سين مهملة ثم هاء واسمه عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب أبو عمرو وقيل أبو عبد الله والمهرى بفتح الميم واسكان الهاء وبالراء وأما ألفاظ متنه فقوله (في سياقة الموت) هو بكسر السين أي حال حضور الموت وقوله (أفضل ما نعد) هو بضم النون وقوله (كنت على أطباق ثلاث) أي على أحوال قال الله تعالى طبقا عن طبق فلهذا أنث ثلاثا ارادة لمعنى أطباق قوله ص =
[ 138 ]
(تشترط بماذا) هكذا ضبطناه بما باثبات الباء فيجوز أن تكون زائدة للتوكيد كما في نظائرها ويجوز أن تكون دخلت على معنى تشترط وهو تحتاط أي تحتاط بماذا وقوله ص = (الاسلام يهدم ما كان قبله) أي يسقطه ويمحو أثره قوله (وما كنت أطيق أن أملأ عينى) هو بتشديد الياء من عينى على التثنية قوله (فإذا دفنتموني فسنوا على التراب سنا) ضبطناه بالسين المهملة وبالمعجمة وكذا قال القاضى انه بالمعجمة والمهملة قال وهو الصب وقيل بالمهملة الصب في سهولة وبالمعجمة التفريق وقوله (قدر ما ينحر جزور) هي بفتح الجيم وهى من الابل أما أحكامه ففيه عظم موقع الاسلام والهجرة والحج وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي وفيه استحباب تنبيه المحتضر على احسان ظنه بالله سبحانه وتعالى وذكر آيات الرجاء وأحاديث العفو عنده وتبشيره بما أعده الله تعالى للمسلمين وذكر حسن أعماله عنده ليحسن ظنه بالله تعالى ويموت عليه وهذا الأدب مستحب بالاتفاق وموضع الدلالة له من هذا الحديث قول ابن عمرو لأبيه أما بشرك رسول الله ص = بكذا وفيه ما كانت الصحابة رضى الله عنهم عليه من توقير رسول الله ص = واجلاله وفى قوله فلا تصحبني نائحة ولا نار امتثال لنهى النبي ص = عن ذلك وقد كره العلماء ذلك فأما النياحة فحرام وأما اتباع الميت بالنار فمكروه للحديث ثم قيل سبب الكراهة كونه
[ 139 ]
من شعار الجاهلية وقال ابن حبيب المالكى كره تفاؤلا بالنار وفى قوله فشنوا على التراب استحباب صب التراب في القبر وأنه لا يقعد على القبر بخلاف ما يعمل في بعض البلاد وقوله ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربى فيه فوائد منها اثبات فتنة القبر وسؤال الملكين وهو مذهب أهل الحق ومنها استحباب المكث عند القبر بعد الدفن لحظة نحو ما ذكر لما ذكر وفيه أن الميت يسمع حينئذ من حول القبر وقد يستدل به لجواز قسمة اللحم المشترك ونحوه من الأشياء الرطبة كالعنب وفى هذا خلاف لأصحابنا معروف قالوا ان قلنا بأحد القولين أن القسمة تمييز حق ليست ببيع جاز وان قلنا بيع فوجهان أصحهما لا يجوز للجهل بتماثله في حال الكمال فيؤدى الى الربا والثانى يجوز لتساويهما في الحال فإذا قلنا لا يجوز فطريقها أن يجعل اللحم وشبهه قسمين ثم يبيع أحدهما صاحبه نصيبه من أحد القسمين بدرهم مثلا ثم يبيع الآخر نصيبه من القسم الآخر لصاحبه بذلك الدرهم الذى له عليه فيحصل لكل واحد منهما قسم بكماله ولها طرق غير هذا لا حاجة الى الاطالة بها هنا والله أعلم وأما حديث ابن عباس رضى الله عنهما فمراد مسلم رحمه الله منا أن القرآن العزيز جاء بما جاءت به السنة من كون الاسلام يهدم ما قبله وقوله فيه (ولو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزل لا يدعون مع الله الها آخر الآية) فيه محذوف وهو جواب لو أي لو تخبرنا
[ 140 ]
لأسلمنا وحذفها كثير في القرآن العزيز وكلام العرب كقوله تعالى ترى إذ الظالمون وأشباهه وأما قوله تعالى أثاما فقيل معناه عقوبة وقيل هو واد في جهنم وقيل بئر فيها وقيل جزاء اثمه باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده فيه حديث حكيم بن حزام رضى الله عنه أنه قال لرسول الله ص = (أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية هل لى فيها من شئ فقال له رسول الله ص = أسلمت على ما أسلفت من خير) أما التحنث فهو التعبد كما فسره في الحديث وفسره في الرواية الأخرى بالتبرر وهو فعل البر وهو الطاعة قال أهل اللغة أصل التحنث أن يفعل فعلا يخرج به من الحنث وهو الاثم وكذا تأثم وتحرج وتهجد أي فعل فعلا يخرج به عن الاثم والحرج والهجود وأما قوله ص = أسلمت على ما أسلفت من خير فاختلف في معناه فقال الامام أبو عبد الله المازرى رحمه الله ظاهره خلاف ما تقتضيه الاصول لأن الكافر لا يصح منه التقرب فلا يثاب على طاعته ويصح أن يكون مطيعا غير متقرب كنظيره في الايمان فانه مطيع فيه من حيث كان موافقا للامر والطاعة عندنا موافقة الأمر ولكنه لا يكون متقربا لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه وهو في حين نظره لم يحصل له العلم بالله تعالى بعد فإذا تقرر هذا علم أن الحديث متأول وهو يحتمل وجوها أحدها أن يكون معناه اكتسبت طباعا جميلة وأنت تنتفع بتلك الطباع في الاسلام وتكون تلك العادة تمهيدا لك ومعونة على فعل الخير والثانى معناه اكتسبت بذلك
[ 141 ]
ثناء جميلا فهو باق عليك في الاسلام والثالث أنه لا يبعد أن يزاد في حسناته التى يفعلها في الاسلام ويكثر أجره لما تقدم له من الأفعال الجميلة وقد قالوا في الكافر إذا كان يفعل الخير فانه يخفف عنه به فلا يبعد أن يزاد هذا في الاجور هذا آخر كلام المازرى رحمه الله قال القاضى عياض رحمه الله وقيل معناه ببركة ما سبق لك من خير هداك الله تعالى الى الاسلام وأن من ظهر منه خير في أول أمره فهو دليل على سعادة آخره وحسن عاقبته هذا كلام القاضى وذهب ابن بطال وغيره من المحققين الى أن الحديث على ظاهره وأنه إذا أسلم الكافر ومات على الاسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال الكفر واستدلوا بحديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال قال رسول الله ص = إذا أسلم الكافر فحسن اسلامه كتب الله تعالى له كل حسنة زلفها ومحا عنه كل سيئة زلفها وكان عمله بعد الحسنة بعشر أمثالها الى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها الا أن يتجاوز الله سبحانه وتعالى ذكره الدارقطني في غريب حديث مالك ورواه عنه من تسع طرق وثبت فيها كلها أن الكافر إذا حسن اسلامه يكتب له في الاسلام كل حسنة عملها في الشرك قال ابن بطال رحمه الله تعالى
[ 142 ]
بعد ذكره الحديث ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما يشاء لا اعتراض لأحد عليه قال وهو كقوله ص = لحكيم بن حزام رضى الله عنه أسلمت على ما أسلفت من خير والله أعلم وأما قول الفقهاء لا يصح من الكافر عبادة ولو أسلم لم يعتد بها فمرادهم أنه لا يعتد له بها في أحكام الدنيا وليس فيه تعرض لثواب الآخرة فان أقدم قائل على التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة رد قوله بهذه السنة الصحيحة وقد يعتد ببعض أفعال الكفار في أحكام الدنيا فقد قال الفقهاء إذا وجب على الكافر كفارة ظهار أو غيرها فكفر في حال كفره أجزأه ذلك وإذا أسلم لم تجب عليه اعادتها واختلف أصحاب الشافعي رحمه الله فيما إذا أجنب واغتسل في حال كفره ثم أسلم هل تجب عليه اعادة الغسل أم لا وبالغ أصحابنا فقال يصح من كل كافر كل طهارة من غسل ووضوء وتيمم وإذا أسلم صلى بها والله أعلم وأما ما يتعلق بلفظ الباب فقوله (أعتق مائة رقبة وحمل على مائة بعير) معناه تصدق بها وفيه صالح عن ابن شهاب عن عروة وهؤلاء ثلاثة تابعيون روى بعضهم عن بعض وقد قدمنا أمثال ذلك وفيه حكيم بن حزام الصحابي رضى الله عنه ومن مناقبه أنه ولد في الكعبة قال بعض العلماء ولا يعرف أحد شاركه في هذا قال العلماء ومن طرف أخباره أنه عاش ستين سنة في الجاهلية وستين في الاسلام وأسلم عام الفتح ومات بالمدينة سنة أربع وخمسين فيكون المراد بالاسلام من حين ظهوره وانتشاره والله أعلم
[ 143 ]
باب صدق الايمان واخلاصه فيه قول عبد الله بن مسعود رضى الله عنه (لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله ص = وقالوا أينا لا يظلم نفسه فقال رسول الله ص = ليس هو كما تظنون انما هو كما قال لقمان لابنه بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم) هكذا وقع الحديث هنا في صحيح مسلم ووقع في صحيح البخاري لما نزلت الآية قال أصحاب رسول الله ص = أينا لم يظلم نفسه فأنزل الله تعالى الشرك لظلم عظيم فهاتان الروايتان احداهما تبين الاخرى فيكون لما شق عليهم أنزل الله تعالى الشرك لظلم عظيم وأعلم النبي ص = أن الظلم المطلق هناك المراد به هذا المقيد وهو الشرك فقال لهم النبي ص = بعد ذلك ليس الظلم على اطلاقه وعمومه كما ظننتم انما هو الشرك كما قال لقمان لابنه فالصحابة رضى الله عنهم حملوا الظلم على عمومه والمتبادر الى الافهام منه وهو وضع الشئ في غير موضعه وهو مخالفة الشرع فشق عليهم الى أن أعلمهم النبي ص = بالمراد بهذا الظلم قال الخطابى انما شق عليهم لان ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي فظنوا أن المراد معناه الظاهر وأصل الظلم وضع الشئ في غير موضعه ومن جعل العبادة لغير الله تعالى فهو أظلم الظالمين وفى هذا الحديث جمل من العلم منها أن المعاصي لا تكون كفرا والله أعلم وأما ما يتعلق بالاسناد فقول مسلم رحمه الله (حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن ادريس وأبو معاوية ووكيع عن الاعمش عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله)
[ 144 ]
هذا اسناد رجاله كوفيون كلهم وحفاظ متقنون في نهاية الجلالة وفيهم ثلاثة أئمة جلة فقهاء تابعيون بعضهم عن بعض سليمان الاعمش وابراهيم النخعي وعلقمة بن قيس وقل اجتماع مثل هذا الذى اجتمع في هذا الاسناد والله اعلم وفيه على بن خشرم بفتح الخاء واسكان الشين المعجمتين وفتح الراء وقد تقدم بيانه في المقدمة وفيه منجاب بكسر الميم واسكان النون وبالجيم وآخره باء موحدة وفيه (قال ابن ادريس حدثنيه اولا أبى عن أبان بن تغلب عن الأعمش ثم سمعته منه) هذا تنبيه منه على علوا اسناده هنا فانه نقص عنه رجلات وسمعه من الاعمش وقد تقدم مثل هذا في باب الدين النصيحة وتقدم الخلاف في صرف ابان في مقدمة الكتاب وأن المختار عند المحققين صرفه وتغلب بكسر اللام غير مصروف وفيه لقمان الحكيم واختلف العلماء في نبوته قال الامام أبو اسحاق الثعلبي اتفق العلماء على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا الا عكرمة فانه قال كان نبيا وتفرد بهذا القول وأما ابن لقمان الذى قال له لا تشرك بالله فقيل اسمه أنعم ويقال مشكم والله اعلم باب بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس (والخواطر بالقلب إذا لم تستقر وبيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف الا ما يطاق) (وبيان حكم الهم بالحسنة وبالسيئة) أما أسانيد الباب ولغاته ففيه أمية بن بسطام العيشى فبسطام بكسر الباء على المشهور وحكى صاحب المطالع أيضا فتحها والعيشي بالشين المعجمة وقد قدمت ضبط هذا كله مع بيان
[ 145 ]
الخلاف في صرف بسطام وفيه قوله (عن أبى هريرة قال لما نزلت على رسول الله ص = ما في السموات وما في الأرض وأن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير قال فاشتد ذلك) أنما أعاد لفظة قال لطول الكلام فان أصل الكلام لما نزلت اشتد فلما طال حسن اعادة لفظة قال وقد تقدم مثل هذا في موضعين من هذا الكتاب وذكرت ذلك مبينا وأنه جاء مثله في القرآن العزيز في قوله تعالى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون فاعاد أنكم وقوله جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم الى قوله جاءهم والله اعلم وفيه قوله تعالى لا نفرق بين أحد من رسله لا نفرق بينهم في الايمان فنؤمن ببعضهم ونكفر ببعض كما فعله أهل الكتابين بل نؤمن بجميعهم واحد في هذا الموضع بمعنى الجمع ولهذا دخلت فيه بين ومثله قوله تعالى منكم من أحد عنه حاجزين وفيه قوله (فأنزل الله تعالى في اثرها) هو بفتح الهمزة والثاء وبكسر الهمزة مع اسكان الثاء لغتان
[ 146 ]
وفيه محمد بن عبيد الغبرى بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة منسوب الى بنى غبر وقد قدمنا
[ 147 ]
بيانه في المقدمة وفيه أبو عوانة واسمه الوضاح بن عبد الله وفيه قوله ص = (ان الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها) ضبط العلماء أنفسها بالنصب والرفع وهما ظاهران الا ان النصب أظهر وأشهر قال القاضى عياض أنفسها بالنصب ويدل عليه قوله أن أحدنا يحدث نفسه قال قال الطحاوي وأهل اللغة يقولون أنفسها بالرفع يريدون بغير اختيارها كما قال الله تعالى هذا ما توسوس به نفسه والله اعلم وفيه أبو الزناد عن الأعرج أما أبو الزناد فاسمه عبد الله بن ذكوان كنيته أبو عبد الرحمن وأما أبو الزناد فلقب غلب عليه وكان يغضب منه وأما الأعرج فعبد الرحمن بن هرمز وهذان وان كانا مشهورين وقد تقدم بيانهما الا أنه
[ 148 ]
قد تخفى أسماؤهما على بعض الناظرين في الكتاب وقوله سبحانه وتعالى (انما تركها من جراى) هو بفتح الجيم وتشديد الراء وبالمد والقصر لغتان معناه من أجلى وقوله ص = (إذا أحسن أحدكم اسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها) معنى أحسن اسلامه اسلم اسلاما حقيقيا وليس كاسلام المنافقين وقد تقدم بيان هذا وفيه
[ 149 ]
أبو خالد الأحمر هو سليمان بن حيان بالمثناة تقدم بيانه وفيه شيبان بن فروخ بفتح الفاء وبالخاء المعجمة وهو غير مصروف لكونه عجميا علما وقد تقدم بيانه وفيه أبو رجاء العطاردي اسمه عمران بن تيم وقيل ابن ملحان وقيل ابن عبد الله أدرك زمن النبي ص = ولم يره وأسلم عام الفتح وعاش مائة وعشرين سنة وقيل مائة وثمانيا وعشرين سنة وقيل مائة وثلاثين سنة وأما فقه أحاديث الباب ومعانيها فكثيرة وأنا أختصر مقاصدها ان شاء الله تعالى فقوله لما نزلت ما في السموات وما في الارض وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فاشتد ذلك على الصحابة رضى الله عنهم وقالوا لا نطيقها قال الامام أبو عبد الله المازرى رحمه الله يحتمل أن يكون اشفاقهم وقولهم لا نطيقها لكونها اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التى لا تكتسب فلهذا رأوه من قبل ما لا يطاق وعندنا أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة أم لا والله أعلم وأما قوله فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله تعالى يكلف الله نفسا الا وسعها فقال المازرى رحمه الله في تسمية هذا نسخا نظر لانه انما يكون نسخا إذا تعذر البناء ولم يمكن رد احدى الآيتين الى الأخرى وقوله تعالى تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه عموم يصح أن يشتمل على ما يملك من الخواطر دون ما لا يملك فتكون الآية الأخرى مخصصة الا أن يكون قد فهمت الصحابة بقرينة الحال أنه تقرر تعبدهم بما لا يملك من الخواطر فيكون حينئذ لنه رفع ثابت مستقر هذا كلام المازرى قال القاضى عياض لا وجه لابعاد النسخ في هذه القضية فان روايها قد روى فيها النسخ ونص عليه لفظا ومعنى بأمر النبي ص = لهم بالايمان والسمع والطاعة لما أعلمهم الله
[ 150 ]
تعالى من مؤاخذته اياهم فلما فعلوا ذلك وألقى الله تعالى الايمان في قلبوبهم وذلت بالاستسلام لذلك ألسنتهم كما نص في هذا الحديث رفع الحرج عنهم ونسخ هذا التكليف وطريق علم النسخ انما هو بالخبر عنه أو بالتاريخ وهما مجتمعان في هذه الآية قال القاضى وقول المازرى انما يكون نسخا إذا تعذر البناء كلام صحيح فيما لم يرد فيه النص بالنسخ فان ورد وقفنا عنده لكن اختلف أصحاب الأصول في قول الصحابي رضى الله عنه نسخ كذا بكذا هل يكون حجة يثبت بها النسخ أم لا يثبت بمجرد قوله وهو قول القاضى أبى بكر والمحققين منهم لانه قد يكون قوله هذا عن اجتهاده وتأويله فلا يكون نسخا حتى ينقل ذلك عن النبي ص = وقد اختلف الناس في هذه الآية فأكثر المفسرين من الصحابة ومن بعدهم على ما تقدم فيها من النسخ وأنكره بعض المتأخرين قال لانه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار وليس كما قال هذا المتأخر فانه وان كان خبرا فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس والتعبد بما أمرهم النبي ص = في الحديث بذلك وأن يقولوا سمعنا وأطعنا وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة وروى عن بعض المفسرين أن معنى النسخ هنا ازالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق من هذا الأمر فأزيل عنهم بالآية الأخرى واطمأنت نفوسهم وهذا القائل يرى أنهم لم يلزموا مالا يطيقون لكن ما يشق عليهم من التحفظ من خواطر النفس واخلاص الباطن فاشفقوا أن يكلفوا من ذلك مالا يطيقون فأزيل عنهم الاشفاق وبين أنهم لم يكلفوا الا وسعهم وعلى هذا لاحجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق إذ ليس فيه نص على تكليفة واحتج بعضهم باستعاذتهم منه بقوله تعالى
[ 151 ]
تحملنا مالا طاقة لنا به ولا يستعيذون الا مما يجوز التكليف به وأجاب عن ذلك بعضهم بأن معنى ذلك مالا نطيقه الا بمشقة وذهب بعضهم الى أن الآية محكمة في اخفاء اليقين والشك للمؤمنين والكافرين فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين هذا آخر كلام القاضى عياض رحمه الله وذكر الامام الواحدى رحمه الله الاختلاف في نسخ الآية ثم قال والمحققون يختارون أن تكون الآية محكمة غير منسوخة والله أعلم وأما قوله ص = (ان الله تجاوز لامتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به) وفى الحديث الآخر (إذا هم عبدى بسيئة فلا تكتبوا عليه فان عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فان عملها فاكتبوها عشرا) وفى الحديث الآخر (في الحسنة الى سبعمائة ضعف) وفى الآخر (في السيئة انما تركها من جراى) فقال الامام المازرى رحمه الله مذهب القاضى أبى بكر ابن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه ويحمل ما وقع في هذه الاحاديث وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية وانما مر ذلك بفكره من غير استقرار ويسمى هذا هما ويفرق بين الهم والعزم هذا مذهب القاضى أبى بكر وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث قال القاضى عياض رحمه الله عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضى أبو بكر للاحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب لكنهم قالوا ان هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التى هم بها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والانابة لكن نفس الاصرار والعزم معصية فتكتب معصية فإذا عملها كتبت معصية ثانية فان تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة كما في الحديث انما تركها من جراى فصار تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه فأما الهم الذى لا يكتب فهى الخواطر التى لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى بل لخوف الناس هل تكتب حسنة قال لا لأنه انما حمله على تركها الحياء وهذا ضعيف لا وجه له هذا آخر كلام القاضى وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر ومن ذلك قوله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم الآية وقوله تعالى كثيرا من الظن ان بعض الظن إثم
[ 152 ]
والآيات في هذا كثيرة وقد تظاهرت نصوص الشرع واجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وارادة المكروه بهم وغير ذلك من اعمال القلوب وعزمها والله أعلم وأما قوله ص = (ولن يهلك على الله الا هالك) فقال القاضى عياض رحمه الله معناه من حتم هلاكه وسدت عليه أبواب الهدى مع سعة رحمه الله تعالى وكرمه وجعله السيئة حسنة إذا لم يعملها وإذا عملها واحدة والحسنة إذا لم يعملها واحدة وإذا عملها عشرا الى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة فمن حرم هذه السعة وفاته هذا الفضل وكثرت سيئاته حتى غلبت مع أنها أفراد حسناته مع أنها متضاعفة فهو الهالك المحروم والله أعلم قال الامام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في هذه الأحاديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها خلافا لمن قال انها لا تكتب الا الأعمال الظاهرة والله أعلم وأما قوله ص = الى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة ففيه تصريح بالمذهب الصحيح المختار عند العلماء أن التضعيف لا يقف على سبعمائة ضعف وحكى أبو الحسن أقضى القضاة الماوردى عن بعض العلماء أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة ضعف وهو غلط لهذا الحديث والله أعلم وفى أحاديث الباب بيان ما أكرم الله تعالى به هذه الامة زادها الله شرفا وخففه عنهم مما كان على غيرهم من الاصر وهو الثقل والمشاق وبيان ما كانت الصحابة رضى الله عنهم عليه من المسارعة الى الانقياد لاحكام الشرع قال أبو اسحق الزجاج هذا الدعاء الذى في قوله تعالى لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا الى آخر السورة أخبر الله تعالى به عن النبي ص = والمؤمنين وجعله في كتابه ليكون دعاء من يأتي بعد النبي ص = والصحابة رضى الله عنهم فهو من الدعاء الذين ينبغى أن يحفظ ويدعى به كثيرا قال الزجاج وقوله تعالى على القوم الكافرين أي أظهرنا عليهم في الحجة والحرب واظهار الدين وسيأتى في كتاب الصلاة من هذا الكتاب الصحيح أن رسول الله ص = قال من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه قيل كفتاه
[ 153 ]
من قيام تلك الليلة وقيل كفتاه المكروه فيها والله أعلم باب بيان الوسوسة في الايمان وما يقوله من وجدها فيه أبو هريرة رضى الله عنه (قال جاء ناس من أصحاب النبي ص = فسألوه انا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذاك صريح الايمان) وفى الرواية الاخرى (سئل النبي ص = عن الوسوسة فقال تلك محض الايمان) وفى الحديث الآخر (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله) وفى
[ 154 ]
الرواية الاخرى (فليقل آمنت بالله ورسله) وفى الرواية الاخرى (يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته) أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله ص = ذلك صريح الايمان ومحض الايمان معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الايمان فان استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن ينطق به فضلا عن اعتقاده انما يكون لمن استكمل الايمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك واعلم أن الرواية الثانية وان لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد وهى مختصرة من الرواية الاولى ولهذا قدم مسلم رحمه الله الرواية الاولى وقيل معناه أن الشيطان انما يوسوس لمن أيس من اغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن اغوائه وأما الكافر فانه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الايمان أو الوسوسة علامة محض الايمان وهذا القول اختيار القاضى عياض وأما قوله
[ 155 ]
ص = فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله وفى الرواية الاخرى فليستعذ بالله ولينته فمعناه الاعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء الى الله تعالى في اذهابه قال الامام المازرى رحمه الله ظاهر الحديث أنه ص = أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالاعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في ابطالها قال والذى يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين فأما التى ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهى التى تدفع بالاعراض عنها وعلى هذا يحمل الحديث وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل اذلا أصل له ينظر فيه وأما الخواطر المستقرة التى أوجبتها الشبهة فانها لا تدفع الا بالاستدلال والنظر في ابطالها والله أعلم وأما قوله ص = فليستعذ بالله ولينته فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ الى الله تعالى في دفع شره عنه وليعرض عن الفكر في ذلك وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان وهو انما يسعى بالفساد والاغواء فليعرض
[ 156 ]
عن الاصغاء الى وسوسته وليبادر الى قطعها بالاشتغال بغيرها والله أعلم وأما أسانيد الباب ففيه محمد بن عمرو بن جبلة هو محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة وفيه أبو الجواب عن عمار بن رزيق أما أبو الجواب فبفتح الجيم وتشديد الواو وآخره باء موحدة واسمه الاحوص بن جواب وأما رزيق فبتقدم الراء على الزاى وفيه قال مسلم حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنى على بن عثام عن سعير بن الخمس عن مغيرة عن ابراهيم عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود رضى الله عنه وهذا الاسناد كله كوفيون وعثام بالثاء المثلثة وسعير هو بضم السين المهملة وآخره راء والخمس بكسر الخاء المعجمة واسكان الميم وبالسين المهملة وسعير وأبوه لا يعرف لهما نظير ومغيرة وابراهيم وعلقمة تابعيون وقد اعترض على هذا الاسناد وفيه أبو النضر عن أبى سعيد المؤدب هو أبو النضر هاشم بن القاسم واسم أبى سعيد المؤدب محمد بن مسلم بن أبى الوضاح واسم أبى الوضاح المثنى وكان يؤدب المهدى وغيره من الخلفاء وفيه ابن أخى ابن شهاب
[ 157 ]
وهو محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب أبو عبد الله وفيه يعقوب الدورقى تقدم بيانه في شرح المقدمة وفيه عبد الله بن الرومي هو عبد الله بن محمد وقيل ابن عمر بغدادي وفيه جعفر بن برقان بضم الموحدة وبالقاف تقدم بيانه في المقدمة والله أعلم وفى ألفاظ المتن حتى يقولوا الله خلق كل شئ هكذا هو في بعض الاصول يقولوا بغير نون وفى بعضها يقولون بالنون وكلاهما صحيح واثبات النون مع الناصب لغة قليلة ذكرها جماعة من محققى النحويين وجاءت متكررة في الاحاديث الصحيحة كما ستراها في مواضعها ان شاء الله تعالى والله أعلم باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار فيه قوله ص = (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله تعالى له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل وان كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وان قضيب من أراك)
[ 158 ]
وفى الرواية الأخرى (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله تعالى وهو عليه غضبان) وفى الرواية الأخرى (عن الأشعث بن قيس كانت بينى وبين رجل أرض باليمن فخاصمته الى النبي ص = فقال هل لك بينة فقلت لا قال فيمينه قلت اذن يحلف فقال لى رسول الله ص = عند ذلك من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ
[ 159 ]
مسلم هو فيها فاجر لقى الله تعالى وهو عليه غضبان) وفى الرواية الأخرى (جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة الى النبي ص = فقال الحضرمي يا رسول الله ان هذا غلبنى على أرض لى كانت لأبى فقال الكندى هي أرضى في يدى أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي ص = للحضرمي ألك بينة قال لا قال فلك يمين قال يا رسول الله ان الرجل فاجر لا يبالى على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ فقال ليس لك منه الا ذلك فانطلق ليحلف فقال رسول الله ص = لما أدبر أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله تعالى وهو عنه معرض) أما أسماء الباب ولغاته ففيه مولى الحرقة بضم الحاء وفتح الراء وهى بطن من جهينة تقدم بيانه مرات وفيه معبد بن كعب السلمى بفتح السين واللام منسوب الى بنى سلمة بكسر اللام من الأنصار وفى النسب بفتح اللام على المشهور عند اهل العربية وغيرهم وقيل يجوز كسر اللام في النسب أيضا وفيه عبد الله بن كعب بن أبى أمامة الحارثى وفى الرواية
[ 160 ]
الأخرى سمعت عبد الله بن كعب يحدث أن أبا أمامة الحارثى حدثه اعلم أن أبا أمامة هذا ليس هو أبا أمامة الباهلى صدى بن عجلان المشهور بل هذا غيره واسم هذا اياس بن ثعلبة الأنصاري الحارثى من بنى الحرث ابن الخزرج وقيل انه بلوى وهو حليف بنى حارثة وهو ابن أخت أبى بردة بن نيار هذا هو المشهور في اسمه وقال أبو حاتم الرازي اسمه عبد الله بن ثعلبة ويقال ثعلبة ابن عبد الله ثم اعلم أن هنا دقيقة لابد من التنبيه عليها وهى أن الذين صنفوا في أسماء الصحابة رضى الله عنهم ذكر كثير منهم أن أبا أمامة هذا الحارثى رضى الله عنه توفى عند انصراف النبي ص = من أحد فصلى عليه ومقتضى هذا التاريخ أن يكون هذا الحديث الذى رواه مسلم منقطعا فان عبد الله بن كعب تابعي فكيف يسمع من توفى عام أحد في السنة الثالثة من الهجرة ولكن هذا النقل في وفاة أبى أمامة ليس بصحيح فانه صح عن عبد الله بن كعب أنه قال حدثنى أبو أمامة كما ذكره مسلم في الرواية الثانية فهذا تصريح بسماع عبد الله بن كعب التابعي منه فبطل ما قيل في وفاته ولو كان ما قيل في وفاته صحيحا لم يخرج مسلم حديثه ولقد أحسن الامام أبو البركات الجزرى المعروف بابن الأثير حيث أنكر في كتابه معرفة الصحابة رضى الله عنهم هذا القول في وفاته والله أعلم وفيه وان قضيب من أراك هكذا هو في بعض الأصول أو أكثرها وفى كثير منها وان قضيبا على أنه خبر كان المحذوفة أو أنه مفعول لفعل محذوف تقديره وان اقتطع قضيبا وفيه من حلف على يمين صبر هو باضافة يمين الى صبر ويمين الصبر هي التى يحبس الحالف نفسه عليها وقد تقدم بيانها في باب غلظ تحريم قتل الانسان نفسه وفيه قول ص = من حلف على يمين صبر هو فيها فاجر أي متعمد الكذب وتسمى هذه اليمين الغموس وفيه قوله اذن يحلف يجوز بنصب الفاء ورفعها وذكر الامام أبو الحسن بن خروف في شرح الجمل أن الرواية فيه برفع الفاء وفيه قوله ص = شاهداك أو يمينه معناه لك ما يشهد به شاهداك أو يمينه وفيه حضرموت بفتح الحاء المهملة واسكان الضاد المعجمة وفتح الراء والميم وفيه قول مسلم (حدثنى زهير
[ 161 ]
ابن حرب واسحاق بن ابراهيم جميعا عن أبى الوليد قال زهير حدثنا هشام بن عبد الملك) هشام هو أبو الوليد وفيه قوله (انتزى على أرضى في الجاهلية) معناه غلب عليها واستولى والجاهلية ما قبل النبوة لكثرة جهلهم وفيه (امرؤ القيس بن عابس وربيعة بن عيدان) وأما عابس فبالموحدة والسين المهملة وأما عيدان فقد ذكر مسلم أن زهيرا واسحاق اختلفا في ضبطه وذكر القاضى عياض الأقول فيه واختلاف الرواة فقال هو بفتح العين وبياء مثناة من تحت هذا صوابه وكذا هو في رواية اسحاق وأما رواية زهير فعبدان بكسر العين وبباء موحدة قال القاضى كذا ضبطناه في الحرفين عن شيوخنا قال ووقع عند ابن الحذاء عكس ما ضبطناه فقال في رواية زهير بالفتح والمثناة وفى رواية اسحاق بالكسر والموحدة قال الجيانى وكذا هو في الأصل عن الجلودى قال القاضى والذى صوبناه أولا هو قول الدارقطني وعبد الغنى بن سعيد وأبى نصر بن ماكولا وكذا قاله ابن يونس في التاريخ هذا كلام القاضى وضبطه جماعة من الحفاظ منهم الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشفى عبدان بكسر العين والموحدة وتشديد الدال والله أعلم وأما أحكام الباب فقوله ص = من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه الى آخره فيه لطيفة وهى أن قوله ص = حق امرئ يدخل فيه من حلف على غير مال كجلد الميتة والسرجين وغير ذلك من النجاسات التى ينتفع بها وكذا سائر الحقوق التى ليست بمال كحد القذف ونصيب الزوجة في القسم وغير ذلك وأما قوله ص = فقد أوجب الله تعالى له النار وحرم عليه الجنة ففيه الجوابان المتقدمان المتكرران في نظائره أحدهما أنه محمول على المستحل لذلك إذا مات على ذلك فانه يكفر ويخلد في النار والثانى معناه فقد
[ 162 ]
استحق النار ويجوز العفو عنه وقد حرم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين وأما تقييده ص = بالمسلم فليس يدل على عدم تحريم حق الذمي بل معناه أن هذا الوعيد الشديد وهو انه يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان لمن اقتطع حق المسلم وأما الذمي فاقتطاع حقه حرام لكن ليس يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة هذا كله على مذهب من يقول بالمفهوم وأما من لا يقول به فلا يحتاج الى تأويل وقال القاضى عياض رحمه الله تخصيص المسلم لكونهم المخاطبين وعامة المتعاملين في الشريعة لا أن غير المسلم بخلافه بل حكمه حكمه في ذلك والله أعلم ثم ان هذه العقوبة لمن اقتطع حق المسلم ومات قبل التوبة أما من تاب فندم على فعله ورد الحق الى صاحبه وتحلل منه وعزم على أن لا يعود فقد سقط عنه الاثم والله أعلم وفى هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجماهير أن حكم الحاكم لا يبيح للانسان ما لم يكن له خلافا لأبى حنيفة رحمه الله تعالى وفيه بيان غلظ تحريم حقوق المسلمين وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره لقوله ص = وان قضيب من أراك وأما قوله ص = من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع فالتقييد بكونه فاجرا لا بد منه ومعناه هو آثم ولا يكون آثما الا إذا كان متعمدا عالما بأنه غير محق وأما قوله ص = لقى الله تعالى وهو عليه غضبان وفى الرواية الاخرى وهو عنه معرض فقال العلماء الاعراض والغضب والسخط من الله تعالى هو ارادته ابعاد ذلك المغضوب عليه من رحمته وتعذيبه وانكار فعله وذمه والله أعلم وأما حديث الحضرمي والكندي ففيه أنواع من العلوم ففيه أن صاحب اليد أولى من أجنبي يدعى عليه وفيه أن المدعى عليه يلزمه اليمين إذا لم يقر وفيه أن البينة تقدم على اليد ويقضى لصاحبها بغير يمين وفيه أن يمين الفاجر المدعى عليه تقبل كيمين العدل وتسقط عنه المطالبة بها وفيه ان أحد الخصمين إذا قال لصاحبه انه ظالم أو فاجر أو نحوه في حال
[ 163 ]
الخصومة يحتمل ذلك منه وفيه أن الوارث إذا ادعى شيئا لمورثه وعلم الحاكم أن مورثه مات ولا وارث له سوى هذا المدعى جاز له الحكم به ولم يكلفه حال الدعوى بينة على ذلك وموضع الدلالة أنه قال غلبنى على أرض لى كانت لأبى فقد أقر بأنها كانت لأبيه فلولا علم النبي ص = بأنه ورثها وحده لطالبه بينة على كونه وارثا ثم ببينة أخرى على كونه محقا في دعواه على خصمه فان قال قائل قوله ص = شاهداك معناه شاهداك على ما تستحق به انتزاعها وانما يكون ذلك بأن يشهدا بكونه وارثا وحده وأنه ورث الدار فالجواب أن هذا خلاف الظاهر ويجوز أن يكون مرادا والله أعلم باب دليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق (كان القاصد مهدر الدم حقه وان قتل كان في النار) (وأن من قتل دون ماله فهو شهيد) فيه (أن رجلا جاء الى رسول الله ص = فقال يا رسول الله أرأيت ان جاء رجل يريد أخذ مالى فلا تعطه مالك قال أرأيت ان قاتلني قال قاتله قال أرأيت ان قتلني قال فأنت شهيد قال أرأيت ان قتلته قال هو في النار) أما ألفاظ الباب فالشهيد قال النضر بن شميل سمى بذلك لأنه حى لأن أرواحهم شهدت دار السلام وأرواح غيرهم لا تشهدها الا يوم القيامة وقال
[ 164 ]
ابن الانباري لأن الله تعالى وملائكته عليهم السلام يشهدوم له بالجنة فمعنى شهيد مشهود له وقيل سمى شهيدا لأنه يشهد عند خروج روحه ماله من الثواب والكرامة وقيل لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه وقيل لأنه شهد له بالايمان وخاتمة الخير بظاهر حاله وقيل لأن عليه شاهدا يشهد بكونه شهيدا وهو دمه فانه يبعث وجرحه يثعب دما وحكى الازهرى وغيره قولا آخر أنه سمى شهيدا لكونه ممن يشهد يوم القيامة على الأمم وعلى هذا القول لا اختصاص له بهذا السبب واعلم أن الشهيد ثلاثة أقسام أحدها المقتول في حرب الكفار بسبب من أسباب القتال فهذا له حكم الشهداء في ثواب الآخرة وفى أحكام الدنيا وهو أنه لا يغسل ولا يصلى عليه والثانى شهيد في الثواب دون أحكام الدنيا وهو المبطون والمطعون وصاحب الهدم ومن قتل دون ماله وغيرهم ممن جاءت الاحاديث الصحيحة بتسميته شهيدا فهذا يغسل ويصلى عليه وله في الآخرة ثواب الشهداء ولا يلزم أن يكون مثل ثواب الأول والثالث من غل في الغنيمة وشبهه ممن وردت الآثار بنفى تسميته شهيدا إذا قتل في حرب الكفار فهذا له حكم الشهداء في الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه وليس له ثوابهم الكامل في الآخرة والله أعلم وفى الباب في الحديث الثاني (تيسروا للقتال فركب خالد بن العاصى) معنى تيسروا للقتال تأهبوا وتهيؤا وقوله فركب كذا ضبطناه وفى بعض الأصول وركب بالواو وفى بعضها ركب من غير فاء ولا واو وكله صحيح وقد تقدم أن الفصيح في العاصى اثبات الياء ويجوز حذفها وهو الذى يستعمله معظم المحدثين أو كلهم وقوله بعد هذا (أما علمت أن رسول الله ص = قال) هو
[ 165 ]
بفتح التاء من علمت والله أعلم وأما أحكام الباب ففيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق سواء كان المال قليلا أو كثيرا لعموم الحديث وهذا قول الجماهير من العلماء وقال بعض أصحاب مالك لا يجوز قتله إذا طلب شيئا يسيرا كالثوب والطعام وهذا ليس بشئ والصواب ما قاله الجماهير وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف وفى المدافعة عن النفس بالقتل خلاف في مذهبنا ومذهب غيرنا والمدافعة عن المال جائزة غير واجبة والله أعلم وأما قوله ص = فلا تعطه فمعناه لا يلزمك أن تعطيه وليس المراد تحريم الاعطاء وأما قوله ص = في الصائل إذا قتل هو في النار فمعناه أنه يستحق ذلك وقد يجازى وقد يعفى عنه الا أن يكون مستحيلا لذلك بغير تأويل فانه يكفر ولا يعفى عنه والله أعلم باب استحقاق الواى الغاش لرعيته النار فيه قوله ص = (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته
[ 166 ]
الا حرم الله عليه الجنة) وفى الرواية الاخرى (ما من أمير يلى أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح الا لم يدخل معهم الجنة) أما فقه الحديث فقوله ص = حرم الله عليه الجنة فيه التأويلان المتقدمان في نظائره أحدهما أنه محمول على المستحيل والثانى حرم عليه دخولها مع الفائزين السابقين ومعنى التحريم هنا المنع قال القاضى عياض رحمه الله معناه بين في التحذير من غش المسلمين لمن قلده الله تعالى شيئا من أمرهم واسترعاه عليهم ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم فإذا خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصح فيما قلده اما بتضيعه تعريفهم ما يلزمهم من دينهم وأخذهم به واما بالقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنها لكل متصد لا دخال داخلة فيها أو تحريف لمعانيها أو اهمال حدودهم أو تضييع حقوقهم أو ترك حماية حوزتهم ومجاهدة عدوهم أو ترك سيرة العدل فيهم فقد غشهم قال القاضى وقد نبه ص = على أن ذلك من الكبائر الموبقة المبعدة عن الجنة والله أعلم وأما قول معقل رضى الله عنه لعبيد الله بن زياد (لو علمت أن لى حياة ما حدثتك) وفى الرواية الاخرى (لولا أنى في الموت لم أحدثك فقال
[ 167 ]
القاضى عياض رحمه الله انما فعل هذا لأنه علم قبل هذا انه ممن لا ينفعه الوعظ كما ظهر منه مع غيره ثم خاف معقل من كتمان الحديث ورأى تبليغه أو فعله لأنه خافه لو ذكره في حياته لما يهيج عليه هذا الحديث ويثبته في قلوب الناس من سوء حاله هذا كلام القاضى والاحتمال الثاني هو الظاهر والأول ضعيف فان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يسقط باحتمال عدم قبوله والله اعلم وأما ألفاظ الباب ففيه شيبان عن أبى الاشهب عن الحسن عن معقل بن يسار رضى الله عنه وهذا الاسناد كله بصريون وفروخ غير مصروف لكونه عجميا تقدم مرات وأبو الاشهب اسمه جعفر بن حيان بالمثناة العطاردي السعدى البصري وفيه عبيد الله بن زياد هو زياد بن ابيه الذى يقال له زياد بن أبى سفيان وفيه أبو غسان المسمعى وقد تقدم بيانه في المقدمة وأن غسان يصرف ولا يصرف والمسمعي بكسر الميم الأولى وفتح الثانية منسوب الى مسمع بن ربيعة واسم أبى غسان مالك بن عبد الواحد وفيه أبو المليح بفتح الميم واسمه عامر وقيل زيد بن أسامة الهذلى البصري والله اعلم باب رفع الامانة والايمان من بعض القلوب (وعرض الفتن على القلوب) فيه قول حذيفة رضى الله عنه (حدثنا رسول الله ص = حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر الى آخره) وفيه حديث حذيفة الآخر في عرض الفتن وأنا أذكر شرح لفظهما ومعناهما على ترتيبهما ان شاء تعالى فأما الحديث الأولى فقال مسلم (حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع قال وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو ماوية عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة رضى الله عنه) هذا الاسناد كله كوفيون وحذيفة مداينى كوفى وقوله عن الأعمش عن زيد والأعمش مدلس وقد قدمنا أن المدلس لا يحتج بروايته إذا قال
[ 168 ]
عن وجوابه ما قدمناه مرات في الفصول وغيرها أنه ثبت سماع الاعمش هذا الحديث من زيد من جهة أخرى فلم يضره بعد هذا قوله فيه عن وأما قول حذيفة رضى الله عنه حدثنا رسول الله ص = حديثين فمعناه حدثنا حديثين في الأمانة والا فروايات حذيفة كثيرة في الصحيحين وغيرهما قال صاحب التحرير وعنى بأحد الحديثين قوله حدثنا أن الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال وبالثانى قوله ثم حدثنا عن رفع الامانة الى آخره قوله (أن الامانة نزلت في جذر قلوب الرجال) أما الجذر فهو بفتح الجيم وكسرها لغتان وبالذال المعجمة فيهما وهو الأصل قال القاضى عياض رحمه الله مذهب الأصمعى في هذا الحديث فتح الجيم وأبو عمرو يكسرها وأما الأمانة فالظاهر أن المراد بها التكيف الذى كلف الله تعالى به عباده والعهد الذى أخذه عليهم قال الامام أبو الحسن الواحدى رحمه الله في قول الله تعالى ان عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال قال ابن عباس رضى الله عنهما هي الفرائض التى افترضها الله تعالى على العباد وقال الحسن هو الدين والدين كله أمانة وقال أبو العالية الامانة ما أمروا به وما نهوا عنه وقال مقاتل الأمانة الطاعة قال الواحدى وهذا قول أكثر المفسرين قال فالأمانة في قول جميعهم الطاعة والفرائض التى يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب والله اعلم وقال صاحب التحرير الأمانة في الحديث هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى عرضنا الأمانة وهي عين الايمان فإذا استكملنت الامانة من قلب العبد قام حينئذ بأداء التكاليف واغتنم ما يرد عليه منها وجد في اقامتها والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيظل أثرها مثل الوكت فهو بفتح الواو واسكان الكاف وبالتاء المثناة من فوق وهو الأثر اليسير كذا قاله الهروي وقال غيره هو سواد يسير وقيل هو لون يحدث مخالف للون الذى كان قبله
[ 169 ]
وأما (المجل) فبفتح الميم واسكان الجيم وفتحها لغتان حكاهما صاحب التحرير والمشهور الاسكان يقال منه مجلت يده بكسر الجيم تمجل بفتحها مجلا بفتحها أيضا ومجلت بفتح الجيم تمجل بضمها مجلا باسكانها لغتان مشهورتان وأمجلها غيرها قال أهل اللغة والغريب المجل هو التنفط الذى يصير في اليد من العمل بفأس أو نحوها ويصير كالقبة فيه ماء قليل وأما قوله (كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شئ) فالجمر والدحرجة معروفان ونفط بفتح النون وكسر الفاء ويقال تنفط بمعناه ومنتبرا مرتفعا وأصل هذه اللفظة الارتفاع ومنه المنبر لارتفاعه وارتفاع الخطيب عليه وقوله نفط ولم يقل نفطت مع أن الرجل مؤنثة أما أن يكون ذكر نفط اتباعا للفظ الرجل وأما ان يكون اتباعا لمعنى الرجل وهو العضو وأما قوله (ثم أخذ حصى فدحرجه) فهكذا ضبطناه وهو ظاهر ووقع في أكثر الاصول ثم أخذ حصاة فدحرجه بافراد لفظ الحصاة وهو صحيح أيضا ويكون معناه دحرج ذلك المأخوذ أو الشئ وهو الحصاة والله اعلم قال صاحب التحرير معنى الحديث أن الامانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا فإذا زال أول جزء منها زل نورها وخلفته ظلمة كالوكت وهو اعتراض لون مخالف للون الذى قبله فإذا زال شئ آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول الا بعد مدة وهذه الظلمة فوق التى قبلها ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة اياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى التنفط وأخذه الحصاة ودحرجته أياها أراد بها زيادة البيان وايضاح المذكور والله اعلم وأما قول حذيفة رضى الله عنه (ولقد أتى
[ 170 ]
على زمان وما أبالى أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع الا فلان وفلانا) فمعنى المبايعة هنا البيع والشراء المعروفان ومراده انى كنت أعلم أن الامانة لم ترتفع وأن في الناس وفاء بالعهود فكنت أقدم على مبايعة من اتفق غير باحث عن حاله وثوقا بالناس وأمانتهم فانه ان كان مسلما فدينه وأمانته تمنعه من الخيانة وتحمله على أداء الأمانة وان كان كافرا فساعيه وهو الوالى عليه كان ايضا يقوم بالأمانة في ولايته فيستخرج حقى منه وأما اليوم فقد ذهبت الأمانة فما بقى لى وثوق بمن أبايعه ولا بالساعي في أدائهما الأمانة فما أبايع الا فلانا وفلانا يعنى أفرادا من الناس أعرفهم وأثق بهم قال صاحب التحرير والقاضى عياض رحمهما الله وحمل بعض العلماء المبايعة هنا على بيعة الخلافة وغيرها من المعاقدة والتحالف في أمر الدين قالا وهذا خطأ من قاله وفى هذا الحديث مواضع تبطل قوله منها قوله ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ومعلوم أن النصراني واليهودى لا يعاقد على شئ من أمور الدين والله اعلم وأما الحديث الثاني في عرض الفتن ففى اسناده سليمان بن حيان بالمثناة وربعي بكسر الراء وهو ابن حراش بكسر الحاء المهملة وقوله (فتنة الرجل في أهله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة) قال اهل اللغة أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار
[ 171 ]
قال القاضى ثم صارت في عرف الكلام لكل امر كشفه الاختبار عن سوء قال أبو زيد فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وتحول من حال حسنة الى سيئة وفتنة الرجل في أهله وماله وولده ضروب من فرط محبته لهم وشحه عليهم وشغله بهم عن كثير من الخير كما قال تعالى اموالكم وأولادكم فتنة أو لتفريطه بما يلزم من القيام بحقوقهم وتأديبهم وتعليمهم فانه راع لهم ومسئول عن رعيته وكذلك فتنة الرجل في جاره من هذا فهذه كلها فتن تقتضي المحاسبة ومنها ذنوب يرجى تكفيرها بالحسنات كما قال تعالى الحسنات يذهبن السيئات وقوله (التى تموج كما يموج البحر) أي تضطرب ويدفع بعضها بعضا وشبهها بموج البحر لشدة عظمها وكثرة شيوعها وقوله (فأسكت القوم) هو بقطع الهمزة المفتوحة قال جمهور أهل اللغة سكت وأسكت لغتان بمعنى صمت وقال الأصمعى سكت صمت وأسكت أطرق وانما سكت القوم لانهم لم يكونوا يحفظون هذا النوع من الفتنة وانما حفظوا النوع الأول وقوله (لله أبوك) كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها فان الاضافة الى العظيم تشريف ولهذا يقال بيت الله وناقة الله قال صاحب التحرير فإذا وجد من الولد ما يحمد قيل له لله أبوك حيث أتى بمثلك وقوله ص = (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا) هذان الحرفان مما اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه أظهرها وأشهرها عودا بضم العين وبالدال المهملة والثانى بفتح العين وبالدال المهملة أيضا والثالث بفتح العين وبالذال المعجمة ولم يذكر صاحب التحرير غير الأول وأما القاضى عياض فذكر هذه الأوجه الثلاثة عن أئمتهم واختار الأول ايضا قال واختار شيخنا أبو الحسين بن سراج فتح العين والدال المهملة قال ومعنى تعرض أنها تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها به قال ومعنى عودا عودا أي تعاد وتكرر شيئا بعد شئ قال ابن سراج ومن رواه بالذال المعجمة فمعناه سؤال الاستعاذة منها كما يقال غفرا غفرا وغفرانك أي نسألك أن تعيذنا من
[ 172 ]
ذلك وأن تغفر لنا وقال الاستاذ أبو عبد الله بن سليمان معناه تظهر على القلوب أي تظهر لها فتنة بعد أخرى وقوله كالحصير أي كما ينسج الحصير عودا عودا وشظية بعد أخرى قال القاضى وعلى هذا يترجح رواية ضم العين وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عودا أخذ آخر ونسجه فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدا بعد واحد قال القاضى وهذا معنى الحديث عندي وهو الذى يدل عليه سياق لفظه وصحة تشبيهه والله اعلم قوله ص = (فأى قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء واى قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء) معنى أشربها دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب ومنه قوله تعالى في قلوبهم العجل أي حب العجل ومنه قولهم ثوب مشرب بحمرة أي خالطته الحمرة مخالطة لا انفكاك لها ومعنى نكت نكتة نقط نقطة وهى بالتاء المثناة في آخره قال ابن دريد وغيره كل نقطة في شئ بخلاف لونه فهو نكت ومعنى أنكرها ردها والله اعلم وقوله ص = (حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا الا ما اشرب من هواه) قال القاضى عياض رحمه الله ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه لكن صفة أخرى لشدته على عقد الايمان وسلامته من الخلل وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر الاملس الذى لا يعلق به شئ وأما قوله مربادا فكذا هو في روايتنا وأصول بلادنا وهو منصوب على الحال وذكر القاضى عياض رحمه الله خلافا في ضبطه وأن منهم من ضبطه كما
[ 173 ]
ذكرناه ومنهم من رواه مربئد بهمزة مكسورة بعد الباء قال القاضى وهذه رواية أكثر شيوخنا وأصله أن لا يهمز ويكون مربد مثل مسود ومحمر وكذا ذكره أبو عبيد والهروى وصححه بعض شيوخنا عن أبى مروان بن سراج لانه من اربد الا على لغة من قال احمأر بهمزة بعد الميم لالتقاء الساكنين فيقال اربأد ومربئد والدال مشددة على القولين وسيأتى تفسيره وأما قوله مجخيا فهو بميم مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم خاء معجمة مكسورة معناه مائلا كذا قاله الهروي وغيره وفسره الراوى في الكتاب بقوله منكوسا وهو قريب من معنى المائل قال القاضى عياض قال لى ابن سراج ليس قوله كالكوز مجخيا تشبيها لما تقدم من سواده بل هو وصف آخر من أوصافه بأنه قلب ونكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة ومثله بالكوز المجخى وبينه بقوله لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا قال القاضى رحمه الله شبه القلب الذى لا يعى خيرا بالكوز المنحرف الذى لا يثبت الماء فيه وقال صاحب التحرير معنى الحديث ان الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الاسلام والقلب مثل الكوز فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخله شئ بعد ذلك وأما قوله في الكتاب (قلت لسعد ما أسود مربادا فقال شدة البياض في سواد) فقال القاضى عياض رحمه الله كان بعض شيوخنا يقول انه تصحيف وهو قول القاضى أبى الوليد الكنانى قال أرى ان صوابه شبه البياض في سواد وذلك أن شدة البياض في سواد لا يسمى ربدة وانما يقال لها بلق إذا كان في الجسم وحورا إذا كان في العين والربدة انما هو شئ من بياض يسير يخالط السواد كلون أكثر النعام ومنه قيل للنعامة ربداء فصوابه شبه البياض لا شدة البياض قال أبو عبيد عن ابى عمرو وغيره الربدة لون بين السواد والغبرة وقال ابن دريد الربدة لون أكدر وقال غيره هي ان يختلط السواد بكدرة وقال الحربى لون النعام بعضه أسود وبعضه أبيض ومنه اربد لونه إذا تغير ودخله سواد وقال نفطويه المربد الملمع بسواد
[ 174 ]
وبياض ومنه تربد لونه أي تلون والله اعلم قوله حدثته ان بينك وبينها بابا مغلقا يوشك ان يكسر قال عمر رضى الله عنه أكسرا لا أبا لك فلو أنه فتح لعله كان يعاد أما قوله ان بينك وبينها بابا مغلقا فمعناه ان تلك الفتن لا يخرج شئ منها في حياتك وأما قوله يوشك فبضم الياء وكسر الشين ومعناه يقرب وقوله أكسرا أي أيكسر كسرا فان المكسور لا يمكن اعادته بخلاف المفتوح ولأن الكسر لا يكون غالبا الا عن اكراه وغلبة وخلاف عادة وقوله لا أبا لك قال صاحب التحرير هذه كلمة تذكرها العرب للحث على الشئ ومعناها أن الانسان إذا كان له أب وحزبه أمر ووقع في شدة عاونه أبوه ورفع عنه بعض الكل فلا يحتاج من الجد والاهتمام الى ما يحتاج إليه حالة الانفراد وعدم الأب المعاون فإذا قيل لا أبا لك فمعناه جد في هذا الأمر وشمر وتأهب تأهب من ليس له معاون والله اعلم قوله وحدثته ان ذلك الباب رجل يقتل أو يموت حديثا ليس بالأغاليط أما الرجل الذى يقتل فقد جاء مبينا في الصحيح أنه عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقوله يقتل أو يموت يحتمل أن يكون حذيفة رضى الله عنه سمعه من النبي ص =
[ 175 ]
هكذا على الشك والمراد به الابهام على حذيفة وغيره ويحتمل أن يكون حذيفة علم أنه يقتل ولكنه كره أن يخاطب عمر رضى الله عنه بالقتل فان عمر رضى الله عنه كان يعلم أنه هو الباب كما جاء مبينا في الصحيح أن عمر كان يعلم من الباب كما يعلم ان قبل غد الليلة فاتى حذيفة رضى الله عنه بكلام يحصل منه الغرض مع أنه ليس اخبارا لعمر بأنه يقتل وأما قوله حديثا ليس بالأغاليط فهى جمع أغلوطة وهى التي يغالط بها فمعناه حدثته حديثا صدقا محققا ليس هو من صحف الكتابيين ولا من اجتهاد ذى رأى بل من حديث النبي ص = والحاصل أن الحائل بين الفتن والاسلام عمر رضى الله عنه وهو الباب فما دام حيا لا تدخل الفتن فإذا مات دخلت الفتن وكذا كان والله اعلم وأما قوله في الرواية الأخرى عن ربعى قال لما قدم حذيفة من عند عمر رضى الله عنهما جلس فحدثنا فقال ان أمير المؤمنين أمس لما جلست إليه سأل أصحابه أيكم يحفظ قول رسول الله ص = في الفتن الى آخره فالمراد بقوله أمس الزمان الماضي لا أمس يومه وهو اليوم الذى يلى يوم تحديثه لأن مراده لما قدم حذيفة الكوفة في انصرافه من المدينة من عند عمر رضى الله عنهما وفى أمس ثلاث لغات قال الجوهرى أمس اسم حرك آخره لالتقاء الساكنين واختلف العرب فيه فأكثرهم يبنيه على الكسر معرفة ومنهم من يعربه معرفة وكلهم يعربه إذا دخلت عليه الألف واللام أو صيره نكرة أو أضافة تقول مضى الأمس المبارك ومضى أمسنا وكل غد صائر أمسا وقال سيبويه جاء في الشعر مذ أمس بالفتح هذا كلام الجوهرى وقال الأزهري قال الفراء ومن العرب من يخفض الأمس وأن ادخل عليه الألف واللام والله أعلم باب بيان ان الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا (وأنه يأرز بين المسجدين) فيه قوله ص = (بدأ الاسلام غربيا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء
[ 176 ]
وهو يأزر بين المسجدين كما تأزر الحية في جحرها) وفى الرواية الاخرى (ان الايمان ليأرز الى المدينة كما تأرز الحية الى جحرها) أما ألفاظ الباب ففيه أبو حازم عن أبى هريرة واسم أبى حازم هذا سلمان الاشجعى مولى عزة الاشجعية وتقدم ان اسم ابى هريرة عبد الرحمن ابن صخر على الأصح من نحو ثلاثين قولا وقوله ص = بدأ الاسلام غريبا كذا ضبطناه بدأ بالهمز من الابتداء وطوبى فعلى من الطيب قاله الفراء قال وانما جاءت الواو لضمة الطاء قال وفيها لغتان تقول العرب طوباك وطوبى لك وأما معنى طوبى فاختلف المفسرون في معنى قوله تعالى لهم وحسن مآب فروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن معناه فرح وقرة عين وقال عكرمة نعم ما لهم وقال الضحاك غبطة لهم وقال قتادة حسنى لهم وعن قتادة ايضا معناه أصابوا خيرا وقال ابراهيم خير لهم وكرامة وقال ابن عجلان دوام الخير وقيل الجنة وقيل شجرة في الجنة وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث والله اعلم وفى
[ 177 ]
الاسناد شبابة بن سوار فشبابة بالشين المعجمة المفتوحة وبالباء الموحدة المكررة وسوار بتشديد الواو وشبابة لقب واسمه مروان وقد تقدم بيانه وفيه عاصم بن محمد العمرى بضم العين وهو عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهم وقوله ص = وهو يأرز بياء مثناة من تحت بعدها همزة ثم راء مكسورة ثم زاى معجمة هذا هو المشهور وحكاه صاحب المطالع مطالع الأنوار عن أكثر الرواة قال وقال أبو الحسين بن سراج ليأرز بضم الراء وحكى القابسى بفتح الراء ومعناه ينضم ويجتمع هذا هو المشهور عند أهل اللغة والغريب وقيل في معناه غير هذا مما لا يظهر وقوله ص = بين المسجدين أي مسجدي مكة والمدينة وفى الاسناد الآخر خبيب بن عبد الرحمن وهو بضم الخاء المعجمة وتقدم بيانه والله أعلم وأما معنى الحديث فقال القاضى عياض رحمه الله في قوله غريبا روى ابن أبى أويس عن مالك رحمه الله أن معناه في المدينة وأن الاسلام بدأ بها غريبا وسيعود إليها قال القاضى وظاهر الحديث العموم وأن الاسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر ثم سيلحقه النقص والاخلال حتى لا يبقى الا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ وجاء في الحديث تفسير الغرباء وهم النزاع من القبائل قال الهروي أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا أوطانهم الى الله تعالى قال القاضى وقوله ص = وهو يأرز الى المدينة معناه أن الايمان أولا وآخرا بهذه الصفة لأنه في أول الاسلام كان كل من خلص ايمانه وصح اسلامه أتى المدينة اما مهاجرا مستوطنا واما متشوقا الى رؤية رسول الله ص = ومتعلما منه ومتقربا ثم بعده هكذا في زمن الخلفاء كذلك ولأخذ سيرة العدل منهم والاقتداء بجمهور الصحابة رضوان الله عليهم فيها ثم من بعدهم من العلماء الذين كانوا سرج الوقت وأئمة الهدى لأخذ السنن المنتشرة بها عنهم فكان كل ثابت الايمان منشرح الصدر به يرحل إليها ثم بعد ذلك في كل وقت الى زماننا لزيارة قبر النبي ص = والتبرك بمشاهده وآثاره وآثار أصحابه الكرام فلا يأتها الا مؤمن هذا كلام القاضى والله أعلم بالصواب
[ 178 ]
باب ذهاب الايمان آخر الزمان فيه قوله ص = (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) وفى الرواية الأخرى (لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله) أما معنى الحديث فهو أن القيامة انما تقوم على شرار الخلق كما جاء في الرواية الاخرى (وتأتى الريح من قبل اليمن فتقبض أرواح المؤمنين عند قرب الساعة) وقد تقدم قريبا في باب الريح التى تقبض أرواح المؤمنين بيان هذا والجمع بينه وبين قوله ص = (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق الى يوم القيامة) وأما ألفاظ الباب ففيه عبد بن حميد قيل اسمه عبد الحميد وقد تقدم بيانه وفيه قوله ص = على أحد يقول الله الله هو برفع اسم الله تعالى وقد يغلط فيه بعض الناس فلا يرفعه واعلم أن الرويات كلها متفقة على تكرير اسم الله تعالى في الروايتين وهكذا هو في جميع الاصول قال القاضى عياض رحمه الله وفى رواية ابن أبى جعفر يقول لا الله الا الله والله سبحانه وتعالى أعلم باب جواز الاستسرار بالايمان للخائف قال مسلم رحمه الله (حدثنا أبو بكر بن أبى سيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب واللفظ لابي كريب قالوا حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال كنا مع رسول الله
[ 179 ]
ص = فقال أحصوا لى كم يلفظ الاسلام فقلنا يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة الى السبعمائة قال انكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا قال فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلى الا سرا) هذا الاسناد كله كوفيون وأما متنه فقوله ص = (أحصوا) معناه عدوا وقد جاء في رواية البخاري اكتبوا وقوله ص = (كم يلفظ الاسلام) هو بفتح الياء المثناة من تحت والاسلام منصوب مفعول يلفظ باسقاط حرف الجر أي يلفظ بالاسلام ومعناه كم عدد من يتلفظ بكلمة الاسلام وكم هنا استفهامية ومفسرها محذوف وتقديره كم شخصا يلفظ بالاسلام وفى بعض الاصول تلفظ بتاء مثناة من فوق وفتح اللام والفاء المشددة وفى بعض الروايات للبخاري وغيره اكتبوا من يلفظ بالاسلام فكتبنا وفى رواية النسائي وغيره أحصوا لى من كان يلفظ بالاسلام وفى رواية أبى يعلى الموصلي أحصوا كل من تلفظ بالاسلام وأما قوله ونحن ما بين الستمائة الى السبعمائة فكذا وقع في مسلم وهو مشكل من جهة العربية وله وجه وهو ان يكون مائة في الموضعين منصوبا على التمييز على قول بعض أهل العربية وقيل أن مائة في الموضعين مجرورة على أن تكون الألف واللام زائدتين فلا اعتداد بدخولهما ووقع في رواية غير مسلم ستمائة الى سبعمائة وهذا ظاهر لا اشكال فيه من جهة العربية ووقع في رواية البخاري فكتبنا له ألفا وخمسمائة فقلنا تخاف ونحن ألف وخمسمائة وفى رواية للبخاري أيضا فوجدناهم خمسمائة وقد يقال وجه الجمع بين هذه الالفاظ أن يكون قولهم ألف وخمسمائة المراد به النساء والصبيان والرجال ويكون قولهم ستمائة الى سبعمائة الرجل خاصة ويكون خمسمائة المراد به المقاتلون ولكن هذا الجواب باطل برواية البخاري في أواخر كتاب السير في باب كتابة الامام الناس قال فيها فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل والجواب الصحيح ان شاء الله تعالى أن يقال لعلهم أرادوا بقولهم ما بين الستمائة الى السبعمائة رجال المدينة خاصة وبقولهم فكتبنا له ألفا وخمسمائة هم مع المسلمين حولهم وأما قوله ابتلينا فجعل الرجل لا يصلى الا سرا فلعله كان في بعض الفتن التى جرت
[ 180 ]
بعد النبي ص = فكان بعضهم يخفى نفسه ويصلى سرا مخافة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب والله أعلم باب تألف قلب من يخاف على ايمانه لضعفه (والنهى عن القطع بالايمان من غير دليل قاطع) فيه حديث سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه أما ألفاظه فقوله (قسم رسول ص = قسما) هو بفتح القاف وقوله ص = (أو مسلم) هو باسكان الواو وقوله ص = (مخافة أن يكبه الله في النار) يكبه بفتح الياء يقال أكب الرجل وكبه الله وهذا بناء غريب فان العادة أن يكون الفعل اللازم بغير همزة فيعدى بالهمزة وهنا عكسه والضمير في يكبه يعود على المعطى أي أتألف قلبه بالاعطاء مخافة من كفره إذا لم يعط وقوله (أعطى رهطا) أي جماعة وأصله الجماعة دون العشرة وقوله (وهو أعجبهم الى) أي أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي وقوله (انى لأراه
[ 181 ]
مؤمنا) هو بفتح الهمزة من لأواه أي لأعلمه ولا يجوز ضمها فانه قال غلبنى ما أعلم منه ولأنه راجع النبي ص = ثلاث مرات ولو لم يكن جازما باعتقاده لما كرر المراجعة وقوله عن صالح عن ابن شهاب قال حدثنى عامر بن سعد هؤلاء ثلاثة تابعيون يروى بعضهم عن بعض وهو من رواية الاكابر عن الأصاغر فان صالحا أكبر من الزهري وأما فقهه ومعانية ففيه الفرق بين الاسلام والايمان وفى هذه المسألة خلاف وكلام طويل وقد تقدم بيان هذه المسألة وايضاح شرحها في أول كتاب الايمان وفيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم ان الاقرار باللسان لا ينفع الا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب خلافا للكرامية وغلاة المرجئة في قولهم يكفى الاقرار وهذا خطأ ظاهر يراه اجماع المسلمين والنصوص في اكفار المنافقين وهذه صفتهم وفيه الشفاعة الى ولاة الامور فيما ليس بمحرم وفيه مراجعة المسئول في الأمر الواحد وفيه تنبيه المفضول الفاضل على ما يراه مصلحة وفيه ان الفاضل لا يقبل ما يشار عليه به مطلقا بل يتأمله فان لم تظهر مصلحته لم يعمل به وفيه الأمر بالتثبت وترك القطع بما لا يعلم القطع فيه وفيه أن الامام يصرف المال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم وفيه أنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين الا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم وهذا مجمع عليه عند أهل السنة وأما قوله ص = أو مسلما فليس فيه انكار كونه مؤمنا بل معناه النهى عن القطع بالايمان وان لفظة الاسلام أولى به فان الاسلام معلوم بحكم الظاهر وأما الايمان فباطن لا يعلمه الا الله تعالى وقد زعم صاحب التحرير أن في هذا الحديث اشارة الى أن الرجل لم يكن مؤمنا وليس كما زعم بل فيه اشارة الى ايمانه فان النبي ص = قال في جوابه سعد (انى لاعطى الرجل وغيره
[ 182 ]
احب الى منه) معناه أعطى من اخاف عليه لضعف ايمانه ان يكفر وأدع غيره ممن هو أحب الى منه لما أعلمه من طمأنينة قلبه وصلابة أيمانه وأما قول مسلم رحمه الله في أول الباب (حدثنا أبن أبى عمر قال حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر) فقال أبو على الغساني قال الحافظ أبو مسعود الدمشقي هذا الحديث انما يرويه سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري قاله الحميدي وسعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن الصباح الجرجاني كلهم عن سفيان عن معمر عن الزهري باسناده وهذا هو المحفوظ عن سفيان وكذلك قال أبو الحسن الدار قطني في كتابه الاستدراكات قلت وهذا الذى قاله هؤلاء في هذا الاسناد قد يقال لا ينبغى أن يوافقوا عليه لأنه يحتمل أن سفيان سمعه من الزهري مرة وسمعه من معمر عن الزهري مرة فرواه على الوجهين فلا يقدح أحدهما في الآخر ولكن انضمت أمور اقتضت ما ذكروه منها أن سفيان مدلس وقد قال عن ومنها أن أكثر أصحابه رووه عن معمر وقد يجاب عن هذا بما قدمناه من أن مسلما رحمه الله لا يروى عن مدلس قال عن الا أن يثبت انه سمعه ممن عنعن عنه وكيف كان فهذا الكلام في الاسناد لا يؤثر في المتن فانه صحيح على كل تقدير متصل والله اعلم
[ 183 ]
باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة فيه قوله ص = (نحن أحق بالشك من ابراهيم ص = إذ قال أرنى كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى قال ويرحم الله لوطا لقد كان يأوى الى ركن شديد ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي) اختلف العلماء في معنى نحن أحق بالشك من ابراهيم على أقوال كثيرة أحسنها وأصحها ما قاله الامام أبو ابراهيم المزني صاحب الشافعي وجماعات من العلماء معناه ان الشك مستحيل في حق ابراهيم فان الشك في احياء الموتى لو كان متطرقا الى الانبياء لكنت أنا أحق به من ابراهيم وقد علمتم أنى لم أشك فاعلموا ان ابراهيم عليه السلام لم يشك وانما خص ابراهيم ص = لكون الآية قد يسبق الى بعض الاذهان الفاسدة منها احتمال الشك وانما رجح ابراهيم على نفسه ص = تواضعا وأدبا أو قبل أن يعلم ص = أنه خير ولد آدم قال صاحب التحرير قال جماعة من العلماء لما نزل قول الله تعالى تؤمن قالت طائفة شك ابراهيم ولم يشك نبينا فقال النبي ص = نحن أحق بالشك منه فذكر نحو ما قدمته ثم قال ويقع لى فيه معنيان أحدهما أنه خرج مخرج العادة في الخطاب فان من أراد المدافعة عن انسان قال للمتكلم فيه ما كنت قائلا لفلان أو فاعلا معه من مكروه فقله لى وافعله معى ومقصودة لا تقل ذلك فيه والثانى أن معناه أن هذا الذى تظنونه شكا أنا أولى به فانه ليس بشك وانما هو طلب لمزيد اليقين وقيل غير هذا من الاقوال
[ 184 ]
فنقصر على هذه لكونها أصحها وأوضحها والله أعلم وأما سؤال ابراهيم ص = فذكر العلماء في سببه أوجها أظهرها أنه أراد الطمأنينة بعلم كيفية الاحياء مشاهدة بعد العلم بها استدلالا فان علم الاستدلال قد تتطرق إليه الشكوك في الجملة بخلاف علم المعاينة فانه ضروري وهذا مذهب الامام أبى منصور الازهرى وغيره والثانى أراد اختبار منزلته عند ربه في اجابة دعائه وعلى هذا قالوا معنى قوله تعالى تؤمن أي تصدق بعظم منزلتك عندي واصطفائك وخلتك والثالث سأل زيادة يقين وان لم يكن الاول شكا فسأل الترقي من علم اليقين الى عين اليقين فان بين العلمين تفاوتا قال سهل بن عبد الله التسترى رضى الله عنه سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكنا الرابع انه لما احتج على المشركين بأن ربه سبحانه وتعالى يجيى ويميت طلب ذلك منه سبحانه وتعالى ليظهر دليله عيانا وقيل أقوال أخر كثيرة ليست بظاهرة قال الامام أبو الحسن الواحدى رحمه الله اختلفوا في سبب سؤاله فالاكثرون على أنه رأى جيفة بساحل البحر يتناولها السباع والطير ودواب البحر فتفكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة وتطلعت نفسه الى مشاهدة ميت يحييه ربه ولم يكن شاكا في إحياء الموتى ولكن أحب رؤية ذلك كما أن المؤمنين يحبون أن يروا النبي ص = والجنة ويحبون رؤية الله تعالى مع الايمان بكل ذلك وزوال الشكوك عنه قال العلماء والهمزة في قوله تعالى تؤمن همزة اثبات كقول جرير ألستم خير من ركب المطايا والله اعلم وأما قول النبي ص = ويرحم الله لوطا لقد كان يأوى الى ركن شديد فالمراد بالركن الشديد هو الله سبحانه وتعالى
[ 185 ]
فانه أشد الأركان واقواها وأمنعها ومعنى الحديث والله اعلم أن لوطا ص = لما خاف على أضيافه ولم يكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين ضاق ذرعه واشتد حزنه عليهم فغلب ذلك عليه فقال في ذلك الحال لو أن لى بكم قوة في الدفع بنفسى أو آوى الى عشيرة تمنع لمنعتكم وقصد لوط ص = اظهار العذر عند أضيافه وانه لو استطاع دفع المكروه عنهم بطريق ما لفعله وأنه بذل وسعه في اكرامهم والمدافعة عنهم ولم يكن ذلك اعراضا منه ص = عن الاعتماد على الله تعالى وانما كان لما ذكرناه من تطيب قلوب الاضياف ويجوز ان يكون نسى الالتجاء الى الله تعالى في حمايتهم ويجوز أن يكون التجأ فيما بينه وبين الله تعالى وأظهر للأضياف التألم وضيق الصدر والله أعلم وأما قوله ص = (ولو لثبت في السجن طول لبث يوسف لاجبت الداعي) فهو ثناء على يوسف ص = وبيان لصبره وتأنيه والمراد بالداعى رسول الملك الذى أخبر الله سبحانه تعالى أنه قال به فلما جاءه الرسول قال ارجع الى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن أيديهن فلم يخرج يوسف ص = مبادرا الى الراحة ومفارقة السجن الطويل بل تثبت وتوقر وراسل الملك في كشف أمره الذى سجن بسببه ولتظهر براءته عند الملك وغيره ويلقاه مع اعتقاده براءته مما نسب إليه ولا خجل من يوسف ولا غيره فبين نبينا ص = فضيلة يوسف في هذا وقوة نفسه في الخير وكمال صبره وحسن نظره وقال النبي ص = عن نفسه ما قاله تواضعا وايثارا للابلاغ في بيان كمال فضيلة يوسف ص = والله اعلم وأما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه مما تقدم بيانه المسيب والد سعيد وهو بفتح الياء على المشهور الذى قاله الجمهور ومنهم من يكسرها وهو قوله أهل المدينة وفيه أو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف واسمه عبد الله على المشهور وقيل اسمه اسماعيل وقل لا يعرف اسمه وفيه قول مسلم رحمه الله وحدثني به ان شاء الله تعالى عبد الله بن اسماء هذا مما قد ينكره على مسلم من العلم عنده ولا خبرة لديه لكون مسلم رحمه الله قال وحدثني به ان شاء الله تعالى فيقول كيف يحتج بشئ يشك فيه وهذا خيال باطل من قائله فان مسلما رحمه الله لم يحتج بهذا الاسناد وانما ذكره متابعة واستشهادا وقد قدمنا أنهم يحتملون في المتابعات والشواهد مالا يحتملون في الأصول والله
[ 186 ]
تعالى أعلم وفيه أبو عبيد عن أبى هريرة واسم أبى عبيد هذا سعد بن عبيد المدنى مولى عبد الرحمن بن أزهر ويقال مولى عبد الرحمن بن عوف وفيه أبو أويس واسمه عبد الله بن عبد الله بن مالك بن أبى عامر الاصبحي المدنى ومن ألفاظ الباب قوله قرأ الآية حتى جازها وفى الرواية الأخرى معنى جازاها فرغ منها ومعنى أنجزها أتمها وفيه يوسف وفيه ست لغات ضم السين وكسرها وفتحها مع الهمز فيهن وتركه والله أعلم باب وجوب الايمان برسالة نبينا محمد ص = (الى جميع الناس ونسخ الملل بملته) فيه قوله ص = (ما من نبى من الانبياء الا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وانما كان الذى أوتيته وحيا أوحى الله أي فارجو أن أكون اكثرهم تابعا يوم القيامة) وفى الرواية الأخرى (والذى نفس محمد بيده لا يسمع بى احد من هذه الأمة يهودى ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذى أرسلت به الا كان من اصحاب النار) وفيه حديث (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين) أما ألفاظ الباب فقوله ص = ما مثله آمن عليه البشر
[ 187 ]
آمن بالمد وفتح الميم ومثله مرفوع وفيه قول مسلم حدثنى يونس قال حدثنا ابن وهب قال وأخبرني عمرو أن أبا يونس حدثه فقوله وأخبرني عمرو هو بالواو في أول وأخبرني وهى واو حسنة فيها دقيقة نفيسة وفائدة لطيفة وذلك أن يونس سمع من ابن وهب أحاديث من جملتها هذا الحديث وليس هو أولها فقال ابن وهب في روايته الحديث الاول أخبرني عمرو بكذا ثم قال وأخبرني عمرو بكذا وأخبرني عمرو بكذا الى آخر تلك الأحاديث فإذا روى يونس عن ابن وهب غير الحديث الأول فينبغي أن يقول قال ابن وهب وأخبرني عمرو فيأتى بالواو لانه سمعه هكذا ولو حذفها لجاز ولكن الأولى الاتيان بها ليكون راويا كما سمع والله أعلم وأما أبو يونس فاسمه سليم بن جبير وفيه (هشيم عن صالح بن صالح الهمداني عن الشعبى قال رأيت رجلا من أهل خراسان سألى الشعبى فقال يا أبا عمرو) أما هشيم فبضم الهاء وهو مدلس وقد قال عن صالح وقد قدمنا أن مثل هذا إذا كان الصحيح محمول على أن هشيما ثبت سماعه لهذا الحديث من صالح وأما صالح فهو صالح ابن صالح بن مسلم بن حيان ولقب حيان حى قاله أبو على الغساني وغيره وأما الهمداني فباسكان الميم وبالدال المهملة وأما الشعبى بفتح الشين فاسمه عامر وفى هذا الاسناد لطيفة يتكرر مثلها وقد تقدم بيانها وهو أنه قال عن صالح عن الشعبى قال رأيت رجلا سأل الشعبى وهذا الكلام ليس منتظما في الظاهر ولكن تقديره حدثنا صالح عن الشعبي قال رأيت رجلا سأل الشعبي بحديث وقصة طويلة قال فيها صالح رأيت رجلا سأل الشعبى والله أعلم وفيه أبو بردة
[ 188 ]
عن أبى موسى اسم ابى بردة عامر وقيل الحرث واسم أبى موسى عبد الله بن قيس وفيه قوله ص = (فغذاها فأحسن غذاءها) أما الأول فبتخفيف الذال وأما الثاني فبالمد أما معاني الحديث فالحديث الأول اختلف فيه على أقوال احدها أن كل نبى أعطى من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله من الأنبياء فآمن به البشر وأما معجزتي العظيمة الظاهرة فهى القرآن الذى لم يعط أحد مثله فلهذا قال أنا أكثرهم تابعا والثانى معناه أن الذى أوتيته لا يتطرق إليه تخييل بسحر وشبهة بخلاف معجزة غيرى فانه قد يخيل الساحر بشئ مما يقارب صورتها كما خيلت السحرة في صورة عصا موسى ص = والخيال قد يروج على بعض العوام والقرق بين المعجزة والسحر والتخييل يحتاج الى فكر ونظر وقد يخطئ الناظر فيعتقدهما سواء والثالث معناه ان معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ولم يشاهدها الا من حضرها بحضرتهم ومعجزة نبينا ص = القرآن المستمر الى يوم القيامة مع خرق العادة في اسلوبه وبلاغته واخباره بالمغيبات وعجز الجن والانس عن أن يأتوا بسورة من مثله مجتمعين أو متفرقين في جميع الأعصار مع اعتنائهم بمعارضته فلم يقدروا وهم أفصح القرون مع غير ذلك من وجوه اعجازه المعروفة والله اعلم وقوله ص = فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا علم من أعلام النبوة فانه أخبر عليه السلام بهذا في زمن قلة المسلمين ثم من الله تعالى وفتح على المسلمين البلاد وبارك فيهم حتى انتهى الامر واتسع الاسلام في المسلمين الى هذه الغاية المعروفة ولله الحمد على هذه النعمة وسائر نعمه التى لا تحصى والله أعلم وأما الحديث الثاني ففيه نسخ المللم كلها برسالة نبينا ص = وفى مفهومه دلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور وهذا جار على ما تقدم في الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح والله أعلم وقوله ص = لا يسمع بى أحد من هذه الامة أي من هو موجود في زمنى وبعدي الى يوم القيامة فكلهم يجب عليهم الدخول في طاعته وانما ذكر اليهودي والنصراني تنبيها على من سواهما وذلك لأن اليهود النصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى والله أعلم وأما الحديث الثالث ففيه فضيلة من آمن من أهل الكتاب
[ 189 ]
بنبينا ص = وأن له أجرين لايمانه بنبيه قبل النسخ والثانى لا يمانه بنبينا ص = وفيه فضيلة العبد المملوك القائم بحقوق الله تعالى وحقوق سيدة وفضيلة من أعتق مملوكته وتزوجها وليس هذا من الرجوع في الصدقة في شئ بل هو احسان إليها بعد احسان وقول الشعبى (خذ هذا الحديث بغير شئ فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا الى المدينة) ففيه جواز قول العالم مثل هذا تحريضا للسامع على حفظ ما قاله وفيه بيان ما كان السلف رحمهم الله عليه من الرحلة الى البلدان البعيدة في حديث واحد أو مسألة واحدة والله أعلم باب بيان نزول عيسى بن مريم حاكما (بشريعة نبينا محمد ص =) (واكرام الله تعالى هذه الامة زادها الله شرفا وبيان الدليل على أن هذه الملة لا تنسخ) (وانه لا تزال طائفة منها ظاهرين على الحق الى يوم القيامة) فيه الاحاديث المشهورة فنذكر ألفاظها ومعانيها وأحكامها على ترتيبها فقوله ص = (ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم ص = حكما مقسطا فيكسر
[ 190 ]
الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) أما ليوشكن فهو بضم الياء وكسر الشين ومعناه ليقربن وقوله فيكم أي في هذه الأمة وان كان خطابا لبعضها ممن لا يدرك نزوله وقوله ص = (حكما) أي ينزل حاكما بهذه الشريعة لا ينزل نبيا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة بل هو حاكم من حكام هذه الامة والمقسط العادل يقال أقسط يقسط اقساطا فهو مقسط إذا عدل والقسط بكسر القاف العدل وقسط يقسط قسطا بفتح القاف فهو قاسط إذا جار وقوله ص = (فيكسر الصليب) معناه يكسره حقيقة ويبطل ما يزعمه النصارى من تعظيمه وفيه دليل على تغيير المنكرات والآت الباطل وقتل الخنزير من هذا القبيل وفيه دليل للمختار من مذهبنا ومذهب الجمهور أنا إذا وجدنا الخنزير في دار الكفر أو غيرها وتمكنا من قتله قتلناه وابطال لقول من شذ من أصحابنا وغيرهم فقال يترك إذا لم يكن فيه ضراوة وأما قوله ص = (ويضع الجزية) فالصواب في معناه أنه لا يقبلها ولا يقبل من الكفار الا الاسلام ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها بل لا يقبل الا الاسلام أو القتل هكذا قاله الامام أبو سليمان الخطابى وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى وحكى القاضى عياض رحمه الله عن بعض العلماء معنى هذا ثم قال وقد يكون فيض المال هنا من وضع الجزية وهو ضربها على جميع الكفرة فانه لا يقاتله أحد فتضع الحرب أوزارها وانقياد جميع الناس له اما بالاسلام واما بالقاء يد فيضع عليه الجزية ويضربها وهذا كلام القاضى وليس بمقبول والصواب ما قدمناه وهو أنه لا يقبل منه الا الاسلام فعلى هذا قد يقال هذا خلاف حكم الشرع اليوم فان الكتابى إذا بذل الجزية وجب قبولها ولم يجز قتله ولا اكراهه على الاسلام وجوابه ان هذا الحكم ليس بمستمر الى يوم القيامة بل هو مقيد بما قبل عيسى عليه السلام وقد أخبرنا النبي ص = في هذه الأحاديث الصيحية بنسخة وليس عيسى عليه السلام هو الناسخ بل نبينا ص = هو المبين للنسخ فان عيسى يحكم بشرعنا فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد ص = وأما قوله ص = (ويفيض المال) فهو بفتح الياء ومعناه يكثر وتنزل البركات وتكثر الخيرات بسبب العدل
[ 191 ]
وعدم التظالم وتقئ الأرض أفلاذ كبدها كما جاء في الحديث الآخر وتقل أيضا الرغبات لقصر الآمال وعلمهم بقرب الساعة فان عيسى ص = علم من أعلام الساعة والله اعلم وأما قوله في الرواية الأخرى (حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها) فمعناه والله اعلم أن الناس تكثر رغبتهم في الصلاة وسائر الطاعات لقصر آمالهم وعلمهم بقرب القيامة وقلة رغبتهم في الدنيا لعدم الحاجة إليها وهذا هو الظاهر من معنى الحديث وقال القاضى عياض رحمه الله معناه أن أجرها خير لمصلهيا من صدقته بالدنيا وما فيها لفيض المال حينئذ وهوانه وقلة الشح وقلة الحاجة إليه للنفقة في الجهاد قال والسجدة هي السجدة بعينها أو تكون عبارة عن الصلاة والله اعلم واما قوله (ثم يقول أبو هريرة اقرؤا ان شئتم من اهل الكتاب الا ليؤمنن به قبل موته) ففيه دلالة ظاهرة على أن مذهب أبى هريرة في الآية أن الضمير في موته يعود على عيسى عليه السلام ومعناها وما من أهل الكتاب يكون في زمن عيسى عليه السلام الا من آمن به وعلم أنه عبد الله وابن أمته وهذا مذهب جماعة من المفسرين وذهب كثيرون أو الاكثرون الى ان الضمير يعود على الكتابى ومعناها وما من أهل الكتاب احد يحضره الموت الا آمن عند الموت قبل خروج روحه بعيسى ص = وانه عبد
[ 192 ]
الله وابن امته ولكن لا ينفعه هذا الايمان لأنه في حضرة الموت وحالة النزع وتلك الحالة لا حكم لما يفعل أو يقال فيها فلا يصح فيها اسلام ولا كفر ولا وصية ولا بيع ولا عتق ولا غير ذلك من الأقوال لقول الله تعالى التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال انى تبت الآن وهذا المذهب أظهر فان الأول يخص الكتابى وظاهر القرآن عمومه لكل كتابي في زمن عيسى وقبل نزله ويؤيد هذا قراءه من قرأ موتهم وقيل ان الهاء في به يعود على نبينا محمد ص = والهاء في موته تعود على الكتابى والله أعلم قوله في الاسناد (عن عطاء بن ميناء) هو بكسر الميم بعدها ياء مثناة من تحت ساكنة ثم نون ثم ألف ممدودة هذا هو المشهور وقال صاحب المطالع يمد ويقصر والله أعلم وأما قوله ص = (وليتركن القلاص فلا يسعى عليها) فالقلاص بكسر القاف جمع قلوص بفتحها وهى من الابل كالفتاة من النساء والحدث من الرجال ومعناه أن يزهد فيها ولا يرغب في اقتنائها لكثرة الأموال وقلة الآمال وعدم الحاجة والعلم بقرب القيامة وانما ذكرت القلاص لكونها أشرف الابل التى هي أنفس الأموال عند العرب وهو شبيه بمعنى قول الله عز وجل العشار عطلت ومعنى لا يسعى عليها لا يعتنى بها أي يتساهل أهلها فيها ولا يعتنون بها هذا هو الظاهر وقال القاضى عياض وصاحب المطالع رحمهما الله معنى لا يسعى عليها أي لا تطلب زكاتها إذ لا يوجد من يقبلها وهذا تأويل باطل من وجوه كثيرة تفهم من هذا الحديث وغيره بل الصواب ما قدمناه والله أعلم وأما قوله ص = (ولتذهبن الشحناء) فالمراد به العداوة وقوله ص = (وليدعون الى المال فلا يقبله أحد) هو بضم العين
[ 193 ]
وفتح الواو وتشديد النون وانما لا يقبله أحد لما ذكرنا من كثرة الأموال وقصر الآمال وعدم الحاجة وقلة الرغبة للعلم بقرب الساعة وأما قوله ص = (ولا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين الى يوم القيامة) فقد قدمنا بيانه والجمع بينه وبين حديث
[ 194 ]
لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله وقوله (تكرمة الله هذه الامة) هو بنصب تكرمة على المصدر أو على أنه مفعول له والله أعلم باب بيان الزمن الذى لا يقبل فيه الايمان فيه قوله ص = (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت
[ 195 ]
في ايمانها خيرا أو وفى الرواية الاخرى (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض) قال القاضى عياض رحمه الله هذا الحديث على ظاهره عند أهل الحديث والفقه والمتكلمين من أهل السنة خلافا لما تأولته الباطنية وأما قوله ص = في الحديث الآخر في الشمس (مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة) فهذا مما اختلف المفسرون فيه فقال جماعة
[ 196 ]
بظاهر الحديث قال الواحدى وعلى هذا القول إذا غربت كل يوم استقرت تحت العرش الى أن تطلع من مغربها وقال قتادة ومقاتل معناه تجرى الى وقت لها وأجل لا تتعداه قال الواحدى وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وهذا اختيار الزجاج وقال الكلبى تسير في
[ 197 ]
منازلها حتى تنتهى الى آخر مستقرها الذى لا تجاوزه ثم ترجع الى أول منازلها واختار ابن قتيبة هذا القول والله أعلم وأما سجود الشمس فهو بتميز وادراك بخلق الله تعالى فيها وفى الاسناد عبد الحميد بن بيان الواسطي هو بباء موحدة ثم ياء مثناة من تحت وفى هذا الحديث بقايا تأتى في آخر الكتاب ان شاء الله تعالى حيث ذكره مسلم رحمه الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب باب بدء الوحى الى رسول الله ص = فيه الاحاديث المشهورة فنذكرها ان شاء الله تعالى على ترتيب ألفاظها ومعانيها فقوله في الاسناد (أبو الطاهر بن السرح) هو بالسين والحاء المهملتين والسين مفتوحة قوله (ان عائشة رضى الله عنها قالت كان أول ما بدئ به رسول الله ص = من الوحى الرؤيا الصادقة) هذا الحديث من مراسيل الصحابة رضى الله عنهم فان عائشة رضى الله عنها لم تدرك هذه القضية فتكون قد سمعتها من النبي ص = أو من الصحابي وقد قدمنا في الفصول أن مرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء الا ما انفرد به الاستاذ أبو اسحاق الاسفراينى والله اعلم وقولها رضى الله عنها (الرؤيا الصادقة) وفى رواية البخاري رحمه الله الرؤيا الصاحلة وهما بمعنى واحد وفى من هنا قولان أحدهما أنها لبيان الجنس والثانى للتبعيض ذكرهما القاضى وقولها (فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح) قال أهل اللغة فلق الصبح وفرق الصبح بفتح الفاء واللام والراء هو ضياؤه وانما يقال هذا في الشئ الواضح البين قال القاضى رحمه الله وغيره من
[ 198 ]
العلماء انما ابتدئ ص = بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوى البشرية فبدئ بأول خصال النبوة وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة قولها (ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه وهو التعبد الليالى أولات العدد قبل أن يرجع الى أهله ويتزود ثم يرجع الى خديجة رضى الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق) أما الخلاء فممدود وهو الخلوة وهى شأن الصالحين وعباد الله العارفين قال أبو سليمان الخطابى رحمه الله حببت العزلة إليه ص = لأن معها فراغ القلب وهى معينة على التفكر وبها ينقطع عن مألوفات البشر ويتخشع قلبه والله أعلم وأما الغار فهو الكهف والنقب في الجبل وجمعه غيران والمغار والمغارة بمعنى الغار وتصغير الغار غوير وأما حراء فبكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد وهو مصروف ومذكر هذا هو الصحيح وقال القاضى فيه لغتان التذكير والتأنيث والتذكير أكثر فمن ذكره صرفه ومن أنثه لم يصرفه أراد البقعة أو الجهة التى فيها الجبل قال القاضى وقال بعضهم فيه حرى بفتح الحاء والقصر وهذا ليس بشئ قال أبو عمر الزاهد صاحب ثعلب وأبو سليمان الخطابى وغيرهما أصحاب الحديث والعوام يخطئون في حراء في ثلاثة مواضع يفتحون الحاء وهى مكسورة ويكسرون الراء وهى مفتوحة ويقصرون الألف وهى ممدودة وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة الى منى والله أعلم وأما التحنث بالحاء المهملة والنون والثاء المثلة فقد فسره بالتعبد وهو تفسير صحيح وأصل الحنث الاثم فمعنى يتحنث يتجنب الحنث فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث ومثل يتحنث يتحرح ويتأثم أي يتجنب الحرج والاثم وأما قولها الليالى أولات العدد فمتعلق يتحنث لا بالتعبد ومعناه يتحنث الليالى ولو جعل متعلقا بالتعبد فسد المعنى فان التحنث لا يشترط فيه الليالى بل يطلق على القليل والكثير وهذا التفسير اعتراض بين كلام
[ 199 ]
عائشة رضى الله عنها وأما كلامها فيتحنث فيه الليالى أولات العدد والله أعلم وقولها فجئه الحق أي جاءه الوحى بغتة فانه ص = لم يكن متوقعا للوحي ويقال فجئه بكسر الجيم وبعدها همزة مفتوحة ويقال فجأه بفتح الجيم والهمزة لغتان مشهورتان حكاهما الجوهرى وغيره قوله ص = (ما أنا بقارئ) معناه لا أحسن القراءة فما نافية هذا هو الصواب وحكى القاضى عياض رحمه الله فيها خلافا بين العلماء منهم من جعلها نافية ومنهم من جعلها استفهامية وضعفوه بادخال الباء في الخبر قال القاضى ويصحح قول من قال استفهامية رواية من روى ما أقرأ ويصح أن تكون ما في هذه الرواية أيضا نافية والله أعلم قوله ص = (فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني) أما غطني فبالغين المعجمة والطاء المهملة ومعناه عصرني وضمني يقال غطه وغته وضغطه وعصره وخنقه وغمزه كله بمعنى واحد وأما الجهد فيجوز فتح الجيم وضمها لغتان وهو الغاية والمشقة ويجوز نصب الدال ورفعها فعلى النصب بلغ جبريل منى الجهد وعلى الرفع بلغ الجهد منى مبلغه وغايته وممن ذكر الوجهين في نصب الدال ورفعها صاحب التحرير وغيره وأما أرسلني فمعناه أطلقني قال العلماء والحكمة في الغط شغله من الالتفات والمبالغة في أمره باحضار قلبه لما يقول له وكرره ثلاثا مبالغة في التنبيه ففيه أنه ينبغى للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم وأمره باحضار قلبه والله أعلم قوله ص = (ثم أرسلني فقال باسم ربك الذى خلق أو هذا دليل صريح في أن أول ما نزل من القرآن وهذا هو الصواب الذى عليه الجماهير من السلف والخلف وقيل أوله أيها المدثر وليس بشئ وسنذكره بعد هذا في
[ 200 ]
موضعه من هذا الباب ان شاء الله تعالى واستدل بهذا الحديث بعض من يقول ان بسم الله الرحمن الرحيم ليست من القرآن في أوائل السور لكونها لم تذكر هنا وجواب المثبتين لها أنها لم تنزل أولا بل نزلت البسملة في وقت آخر كما نزل باقى السورة في وقت آخر قولها (ترجف بوادره) بفتح الباء الموحدة ومعنى ترجف ترعد وتضطرب وأصله شدة الحركة قال أبو عبيد وسائر أهل اللغة والغريب وهى اللحمة التى بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الانسان قوله ص = (زملوني زملوني) هكذا هو في الروايات مكرر مرتين ومعنى زملوني غطوني بالثياب ولفونى بها وقولها فزملوه حتى ذهب عنه الورع هو بفتح الراء وهو الفزع قوله ص = (لقد خشيت على نفسي) قال القاضى عياض رحمه الله ليس هو بمعنى الشك فيما أتاه من الله تعالى لكنه ربما خشى أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر ولا يقدر على حمل أعباء الوحى فتزهق نفسه أو يكون هذا لأول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك وتحققه رسالة ربه فيكون خاف أن يكون من الشيطان الرجيم فأما منذ جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى فلا يجوز عليه الشك فيه ولا يخشى من تسلط الشيطان عليه وعلى هذا الطريق يحمل جميع ما ورد من مثل هذا في حديث البعث هذا كلام القاضى رحمه الله في شرح صحيح مسلم وذكر أيضا في كتابه الشفاء هذين الاحتمالين في كلام مبسوط وهذا الاحتمال الثاني ضعيف لانه خلاف تصريح الحديث لان هذا كان بعد غط الملك واتيانه باقرأ باسم ربك خلق والله اعلم قولها (قالت له خديجة كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا والله انك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم
[ 201 ]
وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق) أما قولها كلا فهى هنا كلمة نفى وابعاد وهذا أحد معانيها وقد تأتى كلا بمعنى حقا وبمعنى ألا التى للتنبيه يستفتح بها الكلام وقد جاءت في القرآن العزيز على أقسام وقد جمع الامام أبو بكر بن الانباري أقسامها ومواضعها في باب من كتابه الوقف والابتداء وأما قولها لا يخزيك فهو بضم الياء وبالخاء المعجمة كذا هو في رواية يونس وعقيل وقال معمر في روايته يحزنك بالحاء المهملة والنون ويجوز فتح الياء في أوله وضمها وكلاهما صحيح والخزى الفضيحة والهوان وأما صلة الرحم فهى الاحسان الى الاقارب على حسب حال الواصل والموصول فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك وأما الكل فهو بفتح الكاف وأصله الثقل ومنه قوله تعالى وهو كل على مولاه ويدخل في حمل الكل الانفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك وهو من الكلال وهو الاعياء وأما قولها وتكسب المعدوم فهو بفتح التاء هذا هو الصحيح المشهور ونقله القاضى عياض عن رواية الأكثرين قال ورواه بعضهم بضمها قال أبو العباس ثعلب وأبو سليمان الخطابى وجماعات من أهل اللغة يقال كسبت الرجل مالا وأكسبته مالا لغتان أفصحها باتفاقهم كسبته بحذف الألف وأما معنى تكسب المعدوم فمن رواه بالضم فمعناه تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه أياه تبرعا فحذف أحد المفعولين وقيل معناه تعطى الناس مالايجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق وأما رواية الفتح فقيل معناها كمعنى الضم وقيل معناها تكسب المال المعدوم وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله وكانت العرب تتمادح بكسب المال المعدوم لا سيما قريش وكان النبي ص = محظوظا في تجارته وهذا القول حكاه القاضى عن ثابت صاحب الدلائل وهو ضعيف أو غلط وأى معنى لهذا القول في هذا الموطن الا أنه يمكن تصحيحه بأن يضم إليه زيادة فيكون معناه تكسب المال العظيم الذى يعجز عنه غيرك ثم تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم كما ذكرت من حمل الكل وصلة الرحم وقرى الضيف والاعانة على نوائب الحق فهذا هو
[ 202 ]
الصواب في هذا الحرف وأما صاحب التحرير فجعل المعدوم عبارة عن الرجل المحتاج المعدم العاجز عن الكسب وسماه معدوما لكونه كالمعدوم الميت حيث لم يتصرف في المعيشة كتصرف غيره قال وذكر الخطابى أن صوابه المعدم بحذف الواو قال وليس كما قال الخطابى بل ما رواه الرواة صواب قال وقيل معنى تكسب المعدوم أي تسعى في طلب عاجز تنعشه والكسب هو الاستفادة وهذا الذى قاله صاحب التحرير وان كان له بعض الاتجاه كما حررت لفظه فالصحيح المختار ما قدمته والله اعلم وأما قولها وتقري الضيف فهو بفتح التاء قال أهل اللغة يقال قريت الضيف أقريه قرى بكسر القاف مقصور وقراء بفتح القاف والمد ويقال للطعام الذى يضيفه به قرى بكسر القاف مقصور ويقال لفاعله قار مثل قضى فهو قاض وأما قولها وتعين على نوائب الحق فالنوائب جمع نائبة وهى الحادثة وانما قالت نوائب الحق لان النائبة قد تكون في الخير وقد تكون في الشر قال لبيد نوائب من خير وشر كلاهما * فلا الخير ممدود ولا الشر لازب قال العلماء رضى الله عنهم معنى كلام خديجة رضى الله عنها انك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل وذكرت ضروبا من ذلك وفى هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء وفيه مدح الانسان في وجهه في بعض الأحوال لمصلحة نظر أو فيه تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره وذكر أسباب السلامة له وفيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضى الله عنها وجزالة رأيها وقوة نفسها وثبات قلبها وعظم فقهها والله أعلم قولها (وكان امرأ تنصر في الجاهلية) معناه صار نصرانيا والجاهلية ما قبل رسالته ص = سموا بذلك لما كانوا عليه من فاحش الجهالة والله اعلم قولها (وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الانجيل بالعربية ما شاء الله تعالى أن يكتب) هكذا هو في مسلم الكتاب العربي ويكتب بالعربية ووقع في أول صحيح البخاري يكتب
[ 203 ]
الكتاب العبراني فيكتب من الانجيل بالعبرانية وكلاهما صحيح وحاصلهما أنه يمكن من معرفة دين النصارى بحيث أنه صار يتصرف في الانجيل فيكتب أي موضع شاء منه بالعبرانية ان شاء وبالعربية ان شاء والله اعلم قولها (فقالت له خديجة رضى الله عنها أي عم اسمع من ابن أخيك) وفى الرواية الأخرى (قالت خديجة أي ابن عم) هكذا هو في الأصول في الأول عم وفى الثاني ابن عم وكلاهما صحيح وأما الثاني فلأنه ابن عمها حقيقة كما ذكره أولا في الحديث فانه ورقة بن نوفل بن أسد وهى خديجة بنت خويلد بن أسد وأما الاول فسمته عما مجازا للاحترام وهذه عادة العرب في آداب خطابهم يخاطب الصغير الكبير بياعم احتراما له ورفعا لمرتبته ولا يحصل هذا الغرض بقولها يا ابن عم والله اعلم قوله (هذا الناموس الذى أنزل على موسى ص =) الناموس بالنون والسين المهملة وهو جبريل ص = قال أهل اللغة وغريب الحديث الناموس في اللغة صاحب سر الخير والجاسوس صاحب سر الشر ويقال نمست السر بفتح النون والميم أنمسه بكسر الميم نمسا أي كتمته ونمست الرجل ونامسته ساررته واتفقوا على أن جبريل عليه السلام يسمى الناموس واتفقوا على أنه المراد هنا يقال الهروي سمى بذلك لأن الله تعالى خصه بالغيب والوحى وأما قوله الذى أنزل على موسى ص = فكذا هو في الصحيحين وغيرهما وهو المشهور ورويناه في غير الصحيح نزل على عيسى ص = وكلاهما صحيح قوله (يا ليتني فيها جذعا) الضمير فيها يعود الى أيام النبوة ومدتها وقوله جذعا يعنى شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك والأصل في الجذع للدواب وهو هنا استعارة وأما قوله جذعا فهكذا هو الرواية المشهورة في الصحيحين وغيرهما بالنصب قال القاضى ووقع في رواية ابن ماهان جذع بالرفع وكذلك هو في رواية الأصيلي في البخاري وهذه الرواية ظاهرة وأما النصب فاختلف العلماء في وجهه فقال الخطابى والمازري وغيرهما
[ 204 ]
نصب على أنه خبر كان المحذوفة تقديره ليتنى أكون فيها جذعا وهذا يجئ على مذهب النحويين الكوفيين وقال القاضى الظاهر عندي أنه منصوب على الحال وخبر ليت قوله فيها وهذا الذى اختاره القاضى هو الصحيح الذى اختاره أهل التحقيق والمعرفة من شيوخنا وغيرهم ممن يعتمد عليه والله أعلم قوله ص = (أو مخرجى هم) هو بفتح الواو وتشديد الياء هكذا الرواية ويجوز تخفيف الياء على وجه والصحيح المشهور تشديدها وهو مثل قوله تعالى وهو جمع مخرج فالياء الأولى ياء الجمع والثانية ضمير المتكلم وفتحت للتخفيف لئلا يجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين قوله (وان يدركنى يومك) أي وقت خروجك قوله (أنصرك نصرا مؤزرا) هو بفتح الزاى وبهزة قبلها أي قويا بالغا قوله في الرواية الأخرى (أخبرنا معمر قال قال الزهري وأخبرني عروه) هكذا هو في الاصول واخبرني عروه بالواو وهو الصحيح والقائل وأخبرني هو الزهري وفى هذه الواو فائدة لطيفة قدمناها في مواضع وهى أن معمرا سمع من الزهري أحاديث قال الزهري فيها أخبرني عروة بكذا وأخبرني عروة بكذا الى آخرها فإذا أراد معمر رواية غير الأول قال قال الزهري وأخبرني عروة فأتى بالواو ليكون راويا كما سمع وهذا من الاحتياط والتحقيق والمحافظة على الالفاظ والتحرى فيها والله اعلم قوله في هذه الرواية أعنى رواية معمر (فوالله لا يحزنك الله) هو بالحاء المهملة والنون وقد قدمنا بيانه قوله
[ 205 ]
في رواية عقيل وهو بضم العين (يرجف فؤاده) قد قدمنا في حديث أهل اليمن أرق قلوبا بيان الاختلاف في القلب والفؤاد وأما علم خديجة رضى الله عنها برجفان فؤاده ص = فالظاهر أنها رأته حقيقة ويجوز أنها لم تره وعلمته بقرائن وصورة الحال والله أعلم قوله (أن جابر بن عبد الله الانصاري وكان من أصحاب النبي ص =) هذا نوع مما يتكرر في الحديث ينبغى التنبيه عليه وهو أنه قال عن جابر وكان من أصحاب النبي ص = ومعلوم أن جابر بن عبد الله الانصاري رضى الله عنهما من مشهورى الصحابة أشد شهرة بل هو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله ص = وجوابه ان بعض الرواة خاطب به من يتوهم أنه يخفى عليه كونه صحابيا فبينه ازالة للوهم واستمرت الرواية به فان قيل فهؤلاء الرواة في هذا الاسناد أئمة جلة فكيف يتوهم خفاء صحبة جابر في حقهم فالجواب أن بيان هذا لبعضهم كان في حالة صغره قبل تمكنه ومعرفته ثم رواه عند كماله كما سمعه وهذا الذى ذكرته في جابر يتكرر مثله في كثيرين من الصحابة وجوابه كله ما ذكرته والله اعلم قوله (يحدث عن فترة الوحى) يعنى احتباسه
[ 206 ]
وعدم تتابعه وتواليه في النزول قوله ص = (فإذا الملك الذى جاءني بحراء) جالسا) هكذا هو في الاصول جالسا منصوب على الحال قوله ص = (فجئثت منه) رواه مسلم من رواية يونس وعقيل ومعمر ثم كلهم عن ابن شهاب وقال في رواية يونس فجئثت بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضمير وقال في رواية عقيل ومعمر فجثثت بعد الجيم ثاءان مثلثتان هكذا هو الصواب في ضبط رواية الثلاثة وذكر القاضى عياض رحمه الله تعالى أنه ضبط على ثلاثة أوجه منهم من ضبطه بالهمزة في المواضع الثلاثة ومنهم من ضبطه بالثاء في المواضع الثلاثة قال القاضى وأكثر الرواة للكتاب على أنه بالهمز في الموضعين الأولين وهما رواية يونس وعقيل وبالثاء في الموضع الثالث وهى رواية معمر وهذه الأقوال التى نقلها القاضى كلها خطأ ظاهر فان مسلما رحمه الله قال في رواية عقيل (ثم ذكر بمثل حديث يونس غير أنه قال فجثثت منه فرقا) ثم قال مسلم في رواية معمر أنها
[ 207 ]
نحو حديث يونس الا انه قال فحثثت منه كما قال عقيل فهذا تصريح من مسلم بأن رواية معمر وعقيل متفقتان في هذه اللفظة وأنهما مخالفتان لرواية يونس فيها فبطل بذلك قول من قال الثلاثة بالثاء أو الهمزة وبطل أيضا قول من قال ان رواية يونس وعقيل متفقة ورواية معمر مخالفة لرواية عقيل وهذا ظاهر لاخفاء به ولا شك فيه والله أعلم وقد ذكر صاحب المطالع أيضا روايات اخر باطلة مصحفة تركت حكايتها لظهور بطلانها والله أعلم وأما معنى هذه اللفظة فالروايتان بمعنى واحد أعنى رواية الهمز ورواية الثاء ومعناها فزعت ورعبت وقد جاء في رواية البخاري فرعبت قال أهل اللغة جئث الرجل إذا فزع فهو مجؤوث قال الخليل والكسائي جئث وجث فهو مجؤوث ومجثوث أي مذعور فزع والله أعلم قوله ص = (هويت الى الارض) هكذا في الرواية هويت وهو صحيح يقال هوى الى الأرض وأهوى إليها لغتان أي سقط وقد غلط وجهل من أنكر هوى وزعم أنه لا يقال الا أهوى والله أعلم قوله (ثم حمى الوحى وتتابع) هما بمعنى فأكد أحدهما بالآخر ومعنى حمى كثر نزوله وازداد من قولهم حميت النار والشمس أي قويت حرارتها قوله (أن أول ما انزل قوله تعالى أيها المدثر) ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما أنزل على الاطلاق باسم ربك كما صرح به في حديث عائشة رضى الله عنها واما أيها المدثر فكان نزولها بعد فترة الوحى كما صرح به في رواية الزهري عن أبى سلمة عن جابر والدلالة صريحة فيه في مواضع منها قوله وهو يحدث عن فترة الوحى الى أن قال فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ومنها قوله ص = فإذا الملك الذى جاءني بحراء ثم قال فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ومنها قوله ثم تتابع
[ 208 ]
الوحى يعنى بعد فترته فالصواب أن أول ما نزل اقرأ وأن اول ما نزل بعد فترة الوحى أيها المدثر وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر والله أعلم قوله ص = (فاستبطنت الوادي) أي صرت في باطنه قوله ص = في جبريل عليه الصلاة والسلام (فإذا هو على العرش في الهواء) المراد بالعرش الكرسي كما تقدم في الرواية الاخرى على كرسى بين السماء والأرض قال أهل اللغة العرش هو السرير وقيل سرير الملك قال الله تعالى ولها عرش عظيم والهواء هنا ممدود يكتب بالالف وهو الجو بين السماء والارض كما في الرواية الاخرى والهواء الخالى قال الله تعالى هواء قوله ص = (فاخذتنى رجفة شديدة) هكذا هو في الروايات المشهورة رجفة بالراء قال القاضى ورواه السمرقندى وجفة بالواو وهما صحيحان متقاربان ومعناهما الاضطراب قال الله تعالى يومئذ واجفة وقال تعالى ترجف الراجفة ترجف الارض والجبال قوله ص = (فصبوا على ماء) فيه أنه ينبغى أن يصب على الفزع الماء ليسكن فزعه والله اعلم وأما تفسير قوله تعالى أيها المدثر فقال العلماء المدثر والمزمل والمتلفف والمشتمل بمعنى واحد ثم الجمهور على أن معناه المدثر بثيابه وحكى الماوردى قولا عن عكرمة أن معناه المدثر بالنبوة وأعبائها وقوله تعالى فأنذر معناه حذر العذاب من لم يؤمن وربك فكبر
[ 209 ]
أي عظمه ونزهه عما لا يليق به فطهر قيل معناه طهرها من النجاسة وقيل قصرها وقيل المراد بالثياب النفس أي طهرها من الذنب وسائر النقائص إلى بكسر الراء في قراءة الاكثرين وقرأ حفص بضمها وفسره في الكتاب بالاوثان وكذا قاله جماعات من المفسرين والرجز في اللغة العذاب وسمى الشرك وعبادة الأوثان رجزا لانه سبب العذاب وقيل المراد بالرجز في الآية الشرك وقيل الذنب وقيل الظلم والله اعلم باب الاسراء برسول الله ص = (الى السموات وفرض الصلوات) هذا باب طويل وأنا أذكر ان شاء الله تعالى مقاصده مختصرة من الالفاظ والمعاني على ترتيبها وقد لخص القاضى عياض رحمه الله في الاسراء جملا حسنة نفيسة فقال اختلف الناس في الاسراء برسول الله ص = فقيل انما كان جميع ذلك في المنام والحق الذى عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسرى بجسده ص = والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها ولا يعدل عن ظاهرها الا بدليل ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج الى تأويل وقد جاء في رواية شريك في هذا الحديث في الكتاب اوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله فقدم وأخر وزاد ونقص منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه فان الاسراء أقل ما قيل فيه انه كان بعد مبعثه ص = بخمسة عشر شهرا وقال الحربى كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة وقال الزهري كان ذلك بعد مبعثه ص = بخمس سنين وقال ابن اسحاق أسرى به ص = وقد فشا الاسلام بمكة والقبائل
[ 210 ]
وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن اسحاق إذ لم يختلفوا أن خديجة رضى الله عنها صلت معه ص = بعد فرض الصلاة عليه ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة بمدة قيل بثلاث سنين وقيل بخمس ومنها أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه وأما قوله في رواية شريك وهو نائم وفى الرواية الاخرى بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة كلها هذا كلام القاضى رحمه الله وهذا الذى قاله في رواية شريك وأن أهل العلم أنكروها قد قاله غيره وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه وأتى بالحديث مطولا قال الحافظ عبد الحق رحمه الله في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكر هذه الرواية هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبى نمر عن أنس وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بالفاظ غير معروفة وقد روى حديث الاسراء جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البنانى وقتادة يعنى عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث قال والأحاديث التى تقدمت قبل هذا هي المعول عليها هذا كلام الحافظ عبد الحق رحمه الله قول مسلم (حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البنانى عن أنس رضى الله عنه) هذا الاسناد كله بصريون وفروخ عجمى لا ينصرف تقدم بيانه مرات والبنانى بضم الباء منسوب الى بنانة قبيلة معروفة قوله ص = (أتيت بالبراق) هو بضم الباء الموحدة قال أهل اللغة البراق اسم الدابة التى ركبها رسول الله ص = ليلة الاسراء قال الزبيدى في مختصر العين وصاحب التحرير هي دابة كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يركبونها وهذا الذى قالاه من اشتراك جميع الانبياء فيها يحتاج الى نقل صحيح قال ابن دريد اشتقاق البراق من البرق ان شاء الله تعالى يعنى لسرعته وقيل سمى بذلك لشدة صفائه وتلألئه وبريقه وقيل
[ 211 ]
لكونه أبيض وقال القاضى يحتمل أنه سمى بذلك لكونه ذا لونين يقال شاة برقاء إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود قال ووصف في الحديث بأنه أبيض وقد يكون من نوع الشاة البرقاء وهى معدودة في البيض والله اعلم قوله ص = (فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التى تربط به الأنبياء صلوات الله عليهم) أما بيت المقدس ففيه لغتان مشهورتان غاية الشهرة احداهما بفتح الميم واسكان القاف وكسر الدال المخففة والثانية بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة قال الواحدى أما من شدده فمعناه المطهر وأما من خففه فقال أبو على الفارسى لا يخلو أما أن يكون مصدرا أو مكانا فان كان مصدرا كان كقوله تعالى مرجعكم ونحوه من المصادر وان كان مكانا فمعناه بيت المكان الذى جعل فيه الطهارة أو بيت مكان الطهارة وتطهيره اخلاؤه من الأصنام وابعاده منها وقال الزجاج البيت المقدس المطهر وبيت المقدس أي المكان الذى يطهر فيه من الذنوب ويقال فيه أيضا ايلياء والله اعلم وأما الحلقة فباسكان اللام على اللغة الفصيحة المشهورة وحكى الجوهرى وغيره فتح اللام أيضا قال الجوهرى حكى يونس عن ابى عمرو بن العلاء حلقة بالفتح وجمعها حلق وحلقات وأما على لغة الاسكان فجمعها حلق وحلق بفتح الحاء وكسرها وأما قوله ص = الحلقة التى يربط به فكذا هو في الأصول به بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة وهو الشئ قال صاحب التحرير المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس والله اعلم وفى ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطى الأسباب وأن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى والله أعلم قوله ص = (فجاءني جبريل باناء من خمر واناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة) هذا اللفظ وقع مختصرا هنا والمراد أنه ص = قيل له اختر أي الاناءين شئت كما جاء مبينا بعد هذا في هذا الباب من رواية أبى هريرة فألهم ص = اختيار اللبن
[ 212 ]
وقوله (اخترت الفطرة) فسروا الفطرة هنا بالاسلام والاستقامة ومعناه والله أعلم اخترت علامة الاسلام والاستقامة وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين سليم العاقبة وأما الخمر فانها أم الخبائث وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمال والله أعلم قوله ص = (ثم عرج بنا الى السماء فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل له من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه) أما قوله عرج فبتح العين والراء أي صعد وقوله جبريل فيه بيان الأدب فيمن استأذن بدق الباب ونحوه فقيل له من أنت فينبغي أن يقول زيد مثلا إذا كان اسمه زيدا ولا يقول أنا فقد جاء الحديث بالنهي عنه ولآنه لا فائدة فيه وأما قول بواب السماء وقد بعث إليه فمراده وقد بعث إليه للاسراء وصعود السموات وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة فان ذلك لا يخفى عليه الى هذه المدة فهذا هو الصحيح والله أعلم في معناه ولم يذكر الخطابى في شرح البخاري وجماعة من العلماء غيره وان كان القاضى قد ذكر خلافا أو أشار الى خلاف في أنه استفهم عن أصل البعثة أو عما ذكرته قال القاضى وفى هذا أن للسماء أبوابا حقيقية وحفظة موكلين بها وفيه اثبات الاستئذان والله أعلم قوله ص = (فإذا أنا بآدم ص = فرحب بى ودعا لى بخير) ثم قال ص = في السماء الثانية (فإذا أنا بابنى الخالة فرحبا بى ودعوا) وذكر ص = في باقى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم نحوه فيه استحباب لقاء اهل الفضل بالبشر والترحيب والكلام الحسن والدعاء
[ 213 ]
لهم وان كانو أفضل من الداعي وفيه جواز مدح الانسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب وغيره من أسباب الفتنة وقوله ص = فإذ أنا بابنى الخالة قال الأزهري قال ابن السكيت يقال هما ابنا عم ولا يقال ابنا خال ويقال هما ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة وقوله ص = (فإذا أنا بابراهيم ص = مسندا ظهره الى البيت المعمور) قال القاضى رحمه الله يستدل به على جواز الاستناد الى القبلة وتحويل الظهر إليها قوله ص =
[ 214 ]
(ثم ذهب بى الى السدرة المنتهى) هكذا وقع في الأصول السدرة بالألف واللام وفى الروايات بعد هذا سدرة المنتهى قال ابن عباس والمفسرون وغيرهم سميت سدرة المنتهى لان علم الملائكة ينتهى إليها ولم يجاوزها أحد الا رسول ص = وحكى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنها سميت بذلك لكونها ينتهى إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله تعالى قوله ص = (وإذا ثمرها كالقلال) هو بكسر القاف جمع قلة والقلة جرة عظيمة تسع قربتين أو أكثر قوله ص = (فرجعت الى ربى) معناه رجعت الى الموضع الذى ناجيته منه أولا فناجيته فيه ثانيا وقوله ص = (فلم أزل أرجع بين ربى تبارك وتعالى وبين موسى ص =)
[ 215 ]
معناه بين موضع مناجاة ربى والله أعلم قوله عقب هذا الحديث (قال الشيخ أبو أحمد حدثنا أبو العباس الماسرجسى حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة بهذا الحديث) أبو أحمد هذا هو الجلودى راوي الكتاب عن ابن سفيان عن مسلم وقد علا له هذا الحديث برجل فانه رواه أولا عن سفيان عن مسلم عن شيبان بن فروخ ثم رواه عن الماسرجسى عن شيبان واسم الماسرجسى أحمد بن محمد بن الحسين النيسابوري وهو بفتح السين المهملة واسكان الراء وكسر الجيم وهو منسوب الى جده ماسرجس وهذه الفائدة وهى قوله قال الشيخ أبو أحمد الى آخره تقع في بعض الأصول في الحاشية وفى أكثرها في نفس الكتاب وكلاهما له وجه فمن جعلها في الحاشية فهو الظاهر المختار لكونها ليست من كلام مسلم ولا من كتابه فلا يدخل في نفسه انما هي فائدة فشأنها أن تكتب في الحاشية ومن أدخلها في الكتاب فلكون الكتاب منقولا عن عبد الغافر الفارسى عن شيخه الجلودى وهذه الزيادة من كلام الشيخ الجلودى فنقلها عبد الغافر في نفس الكتاب لكونها من جملة المأخوذ عن الجلودى مع أنه ليس فيه لبس ولا ايهام أنها من أصل مسلم والله أعلم قوله ص = (فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت) معنى شرح شق كما قال في رواية التى بعد هذه وقوله ص = ثم أنزلت هو باسكان اللام وضم التاء هكذا ضبطناه
[ 216 ]
وكذا هو في جميع الأصول والنسخ وكذا نقله القاضى عياض رحمه الله عن جميع الروايات وفى معناه خفاء واختلاف قال القاضى قال الوقشى هذا وهم من الرواة وصوابه تركت فتصحف قال القاضى فسألت عنه ابن سراج فقال أنزلت في اللغة بمعنى تركت صحيح وليس فيه تصحيف قال القاضى وظهر لى أنه صحيح بالمعنى المعروف في أنزلت فهو ضد رفعت لانه قال انطلقوا بى الى زمزم ثم أنزلت أي ثم صرفت الى موضعي الذى حملت منه قال ولم أزل أبحث عنه حتى وقعت على الجلاء فيه من رواية الحافظ أبى بكر البرقانى وانه طرف حديث وتمامه ثم أنزلت على طست من ذهب مملوءة حكمة وايمانا هذا آخر كلام القاضى عياض رحمه الله ومتقضى رواية البرقانى أن يضبط أنزلت بفتح اللام واسكان التاء وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين للحميدي وحكى الحميدى هذه الزيادة المذكورة عن رواية البرقانى وزاد عليها وقال أخرجها البرقانى باسناد مسلم وأشار الحميدى الى أن رواية مسلم ناقصة وأن تمامها ما زاده البرقانى والله أعلم قوله ص = (ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه) أما الطست فبفتح الطاء واسكان السين المهملتين وهى أناء معروف وهى مؤنثة قال وحكى القاضى عياض كسر الطاء لغة والمشهور الفتح كما ذكرنا ويقال فيها طس بتشديد السين وحذف التاء وطسة أيضا وجمعها طساس وطسوس وطسات وأما لأمه فبفتح اللام وبعدها همزة على وزن ضربه وفيه لغة أخرى للامه بالمد على وزن آذنه ومعناه جمعه وضم بعضه الى بعض وليس في هذا ما يوهم جواز استعمال اناء الذهب لنا فان هذا فعل الملائكة واستعمالهم وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا ولأنه كان أول الأمر قبل تحريم النبي ص = أواني الذهب والفضة قوله (يعنى ظئره) هي بكسر الظاء
[ 217 ]
المعجمة بعدها همزة ساكنة وهي المرضعة ويقال ايضا لزوج المرضعة ظئر قوله (فاستقبلوه وهو منتقع اللون) هو بالقاف المفتوحة اي متغير اللون قال اهل اللغة امتقع لونه فهو ممتقع وانتفع فهو منتقع وابتقع بالباء فهو مبتقع فيه ثلاث لغات والقاف مفتوحة فيهن قال الجوهري وغيره والميم افصحهن ونقل الجوهري اللغات الثلاث عن الكسائي قال ومعناه تغير من حزن أو فزع وقال الهروي في الغريبين في تفسير هذا الحديث يقال انتقع لونه وابتقع وامتقع واستقع والتمى وانتسف وانتشف بالسين والشين والتمع والتمغ بالعين والغين وابتسر والتهم قوله (كنت ارى أثر المخيط في صدره) هو بكسر الميم واسكان الخاء وفتح الياء وهى الابرة وفى هذا دليل على جواز نظر الرجل الى صدر الرجل ولا خلاف في جوازه وكذا يجوز ان ينظر الى ما فوق سرته وتحت ركبته الا أن ينظر بشهوة فانه يحرم النظر بشهوة الى كل آدمى الا الزوج لزوجته ومملوكته وكذا هما إليه والا أن يكون المنظور إليه أمرد حسن الصورة فانه يحرم النظر إليه الى وجهه وسائر بدنه سواء كان بشهوة أو بغيرها الا أن يكون لحاجة البيع والشراء والتطبيب والتعليم ونحوها والله أعلم قوله (حدثنا هارون الأيلي وحدثني حرماة التجيبى) قد تقدم ضبطهما مرات فالأيلى بالمثناة والتجيبى
[ 218 ]
بضم التاء وفتحها وأوضحنا أصله وضبطه في المقدمة قوله (جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وايمانا فأفرغها في صدري) قد قدمنا لغات الطست وأنها مؤنثة فجاء ممتلئ على معناها وهو الاناء وأفرغها على لفظها وقد تقدم بيان الايمان في اول كتاب الايمان وبيان الحكمة في حديث الحكمة يمانية والضمير في أفرغها يعود على الطست كما ذكرناه وحكى صاحب التحرير قولا أنه يعود على الحكمة وهذا القول وان كان له وجه فالأظهر ما قدمناه لأن عوده على الطست يكون تصريحا بافراغ الايمان والحكمة وعلى قوله يكون افراغ الايمان مسكوتا عنه والله اعلم وأما جعل الايمان والحكمة في اناء وافراغهما مع أنهما معنيان وهذه صفة الاجسام فمعناه والله أعلم أن الطست كان فيها شئ يحصل به كمال الايمان والحكمة وزيادتهما فسمى ايمانا وحكمة لكونه سببا لهما وهذا من أحسن المجاز والله أعلم قوله ص = (فإذا رجل عن يمينه أسودة) فسر الاسودة في الحديث بأنها نسم بنيه أما الأسودة فجمع سواد كقذال وأقذلة وسنام وأسنمة وزمان وأزمنة وتجمع الأسودة على أساود وقال أهل اللغة السواد الشخص وقيل السواد الجماعات وأما النسم فبفتح النون والسين والواحدة نسمة قال الخطابى وغيره هي نفس الانسان والمراد أرواح بنى آدم قال القاضي عياض رحمه الله في هذا الحديث أنه ص = وجد آدم ونسم بنيه من أهل
[ 219 ]
الجنة والنار وقد جاء أن أرواح الكفار في سجين قيل في الأرض السابعة وقيل تحتها وقيل في سجن وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة فيحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا فوافق وقت عرضها مرور النبي ص = ويحتمل أن كونهم في النار والجنة أنما هو في أوقات دون أوقات بدليل قوله تعالى يعرضون عليها غدوا وعشيا وبقوله ص = في المؤمن عرض منزله من الجنة عليه وقيل له هذا منزلك حتى يبعثك الله إليه ويحتمل أن الجنة كانت في جهة يمين آدم عليه السلام والنار في جهة شماله وكلاهما حيث شاء الله والله أعلم قوله ص = (إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله وبكى) فيه شفقة الوالد على ولده وسروره بحسن حاله وحزنه وبكاؤه لسوء حاله قوله في هذه الرواية (وجد ابراهيم ص = في السماء السادسة) وتقدم في الرواية الأخرى أنه في السابعة فان كان الاسراء مرتين فلا اشكال فيه ويكون في كل مرة وحده في سماء واحداهما موضع استقراره ووطنه والاخرى كان فيها غير مستوطن وان كان الاسراء مرة واحدة فلعله وجده في السادسة
[ 220 ]
ثم ارتقى ابراهيم أيضا الى السابعة والله أعلم قوله ص = في ادريس ص = (مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح) قال القاضى عياض رحمه الله هذا مخالف لما يقوله أهل النسب والتاريخ من أن ادريس أب من آباء النبي ص = وانه وجد أعلى لنوح ص = وأن نوحا هو ابن لامك بن متوشلخ بن خنوخ وهو عندهم ادريس بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آم ! عليه السلام ولا خلاف عندهم في عدد هذه الأسماء وسردها على ما ذكرناه وانما يختلفون في ضبط بعضها وصورة لفظه وجاء جواب الآباء هنا ابراهيم وآدم مرحبا بالابن الصالح وقال ادريس مرحبا بالاخ الصالح كما قال موسى وعيسى وهارون ويوسف ويحيى وليسوا بابآء صلوات الله وسلامه عليهم وقد قيل عن ادريس انه الياس وانه ليس بجد لنوح فان الياس من ذرية ابراهيم وانه من المرسلين وان أول المرسلين نوح عليه السلام كما جاء في حديث الشفاعة هذا كلام القاضى عياض رحمه الله وليس في هذا الحديث ما يمنع كون ادريس عليه السلام أبا لنبينا محمد ص = فان قوله الاخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفا وتأدبا وهو أخ وان كان ابنا فالانبياء اخوة والمؤمنون اخوة والله اعلم قوله (ان ابن عباس وأبا حبة الانصاري يقولان) أبو حبة بالحاء المهملة والباء الموحدة هكذا ضبطناه هنا وفى ضبطه واسمه اختلاف فالاصح
[ 221 ]
الذى عليه الاكثرون حبة بالباء الموحدة كما ذكرنا وقيل حية بالياء المثناة تحت وقيل حنة بالنون وهذا قول الواقدي وروى عن ابن شهاب والزهرى وقد اختلف في اسم أبى حبة فقيل عامر وقيل مالك وقيل ثابت وهو بدرى باتفاقهم واستشهد يوم أحد وقد جمع الامام أبو الحسن بن الاثير الجزرى رحمه الله الاقوال الثلاثة في ضبطه والاختلاف في اسمه في كتابه معرفة الصحابة رضى الله عنهم وبينها بيانا شافيا رحمه الله قوله ص = (حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الاقلام) معنى ظهرت علوت والمستوى بفتح الواو قال الخطابى المراد به المصعد وقيل المكان المستوى وصريف الاقلام بالصاد المهملة تصويتها حال الكتابة قال الخطابى هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه وما ينسخونه من اللوح المحفوظ أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره قال القاضى في هذا حجة لمذهب أهل السنة في الايمان بصحة كتابة الوحى والمقادير في كتب الله تعالى من اللوح المحفوظ وما شاء بالاقلام التى هو تعالى يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات من كتاب الله تعالى والاحاديث الصحيحة وأن ما جاء من ذلك على ظاهره لكن كيفية ذلك وصورته وجنسه ممالا يعلمه الا الله تعالى أو من أطلعه على شئ من ذلك من ملائكته ورسله وما يتأول هذا ويحيله عن ظاهره الا ضعيف النظر والايمان إذ جاءت به الشريعة المطهرة ودلائل العقول لا تحيله والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد حكمة من الله تعالى واظهارا لما يشاء من غيبه لمن يشاء من ملائكته وسائر خلقه والا فهو غنى عن الكتب والاستذكار سبحانه وتعالى قال القاضى رحمه الله وفى علو منزلة نبينا ص = وارتفاعه فوق منازل سائر الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبلوغه حيث بلغ من ملكوت السموات دليل على علو درجته وابانة فضله وقد ذكر البزار خبرا في الاسراء عن على كرم الله وجهه وذكر مسير جبريل عليه السلام على البراق حتى أتى الحجاب وذكر كلمة وقال خرج ملك من وراء الحجاب فقال جبريل والذى بعثك بالحق ان هذا الملك ما رأيته منذ خلقت وانى أقرب الخلق مكانا وفى حديث آخر فارقني جبريل وانقطعت عنى الاصوات
[ 222 ]
هذا آخر كلام القاضى رحمه الله والله تعالى أعلم قوله ص = (ففرض الله تعالى على أمتى خمسين صلاة الى قوله ص = فراجعت ربى فوضع شطرها وبعده فراجعت ربى فقال هي خمس وهى خمسون) وهذا المذكور هنا لا يخالف الرواية المتقدمة انه ص = قال حط عنى خمسا الى آخره فالمراد بحط الشطر هنا أنه حط في مرات بمراجعات وهذا هو الظاهر وقال القاضى عياض رحمه الله المراد بالشطر هنا الجزء وهو الخمس وليس المراد به النصف وهذا الذى قاله محتمل ولكن لا ضرورة إليه فان هذا الحديث الثاني مختصر لم يذكر فيه كرات المراجعة والله اعلم واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشئ قبل فعله والله أعلم قوله ص = (ثم انطلق بى حتى نأتى سدرة المنتهى) هكذا هو في الأصول حتى نأتى بالنون في أوله وفى بعض الاصول حتى أتى وكلاهما صحيح قوله ص = (ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ) أما الجنابذ فبالجيم المفتوحة وبعدها نون مفتوحة ثم ألف ثم باء موحدة ثم ذال معجمة وهى القباب واحدتها جنبذة
[ 223 ]
ووقع في كتاب الانبياء من صحيح البخاري كذلك ووقع في أول كتاب الصلاة منه حبائل بالحاء المهملة والباء الموحدة وآخره لام قال الخطابى وغيره هو تصحيف والله اعلم واما اللؤلؤ فمعروف وفيه أربعة أوجه بمهزتين وبحذفهما وباثبات الاولى دون الثانية وعكسه والله أعلم وفى هذا الحديث دلالة لمذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان وأن الجنة في السماء والله أعلم قوله (حدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبى عدى عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضى الله عنه لعله قال عن مالك بن صعصعة) قال أبو على الغساني هكذا هو هذا الحديث في رواية ابن ماهان وأبى العباس الرازي عن أبى أحمد الجلودى وعند غيره عن أبى أحمد عن قتادة عن
[ 224 ]
أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة بغير شك قال أبو الحسن الدارقطني لم يروه عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة غير قتادة والله أعلم قوله ص = في موسى عليه السلام (فلما جاوزته بكى فنودى ما يبكيك قال رب هذا غلام بعثته بعدى يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتى) معنى هذا والله أعلم أن موسى عليه السلام حزن على قومه لقلة المؤمنين منهم مع كثرة عددهم فكان بكاؤه حزنا عليهم وغبطة لنبينا ص = على كثرة أتباعه والغبطة في الخير محبوبة ومعنى الغبطة أنه ود أن يكون من أمته المؤمنين مثل هذه الأمة لا أنه ود أن يكونوا أتباعا له وليس لنبينا ص = مثلهم والمقصود أنه انما بكى حزنا على قومه وعلى فوات الفضل العظيم والثواب الجزيل بتخلفهم عن الطاعة فان من دعا الى الخير وعمل الناس به كان له مثل أجورهم كما جاءت به الأحاديث الصحيحة ومثل هذا يبكى عليه ويحزن على فواته والله أعلم (وحدث نبى الله ص = أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار قال أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات) هكذا هو في أصول صحيح مسلم يخرج من أصلها والمراد من اصل سدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره قال مقاتل الباطنان هما السلسبيل والكوثر قال القاضى عياض رحمه الله هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض
[ 225 ]
لخروج النيل والفرات من أصلها قلت هذا الذى قاله ليس بلازم بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الارض وتسير فيها وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه والله اعلم واعلم أن الفرات بالتاء الممدودة في الخط في حالتى الوصل والوقف وهذا وان كان معلوما مشهورا فنبهت عليه لكون كثير من الناس يقولونه بالهاء وهو خطأ والله أعلم قوله (هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) قال صاحب مطالع الأنوار ورويناه آخر ما عليهم برفع الراء ونصبها فالنصب على الظرف والرفع على تقدير ذلك آخر ما عليهم من دخوله قال والرفع أوجه وفى هذا أعظم دليل على كثرة الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم والله اعلم قوله ص = (أتيت باناءين أحدهما خمر والآخر لبن فعرضا على فاخترت اللبن فقيل أصبت أصاب الله بك امتك على الفطرة) قد تقدم في أول الباب الكلام في هذا الفصل والذى يزاد هنا معنى أصبت أي اصبت الفطرة كما جاء في الرواية المتقدمة وتقدم بيان الفطرة ومعنى اصاب الله بك أي أراد بك الفطرة والخير والفضل وقد جاء أصاب بمعنى أراد قال الله تعالى فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب أي حيث أراد اتفق عليه المفسرون وأهل اللغة كذا نقل الواحدى اتفاق أهل اللغة عليه وأما قوله أمتك على الفطرة فمعناه أنهم أتباع لك وقد أصبت الفطرة فهم يكونون عليها والله
[ 226 ]
أعلم قوله ص = (فشق من النخر الى مراق البطن) هو بفتح الميم وتشديد القاف وهو ما سفل من البطن ورق من جلده قال الجوهرى لا واحد لها وقال صاحب المطالع واحدها مرق قول مسلم رحمه الله (حدثنى محمد بن مثنى وابن بشار قال ابن مثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة قال سمعت ابا العالية يقول حدثنى ابن عم نبيكم ص = يعنى ابن عباس رضى الله عنهما) هذا الاسناد كله بصريون وشعبة وان كان واسطيا فقد انتقل الى البصرة واستوطنها وابن عباس ايضا سكنها واسم أبى العالية رفيع بضم الراء وفتح الفاء ابن مهران الرياحي بكسر الراء وبالمثناة من تحت والله أعلم قوله ص = (موسى آدم طوال كأنه من رجال شنوءة وقال عيسى جعد مربوع) أما طوال فبضم الطاء وتخفيف الواو ومعناه طويل وهما لغتان وأما شنوءة فبشين معجمة مفتوحة ثم نون ثم واو ثم همزة ثم هاء وهى قبيلة معروفة قال ابن قتيبة في أدب الكاتب سموا بذلك من قولك رجل فيه شنوءة أي تقزز قال ويقال سموا بذلك لأنهم تشانؤا وتباعدوا وقال الجوهرى النشوءة التقزز وهو التباعد من الأدناس ومنه أزدشنوءه وهم حى من اليمين ينسب إليهم شنئ قال قال ابن السكيت وربما قالوا أزدشنوة بالتشديد غير المهموز وينسب إليها شنوى وأما قوله ص = مربوع فقال أهل اللغة هو الرجل بين الرجلين في القامة ليس بالطويل البائن ولا بالقصير الحقير وفيه لغات ذكرهن صاحب المحكم وغيره مربوع ومرتبع ومرتبع بفتح الباء وكسرها وربع وربعة وربعة الأخيرة بفتح الباء والمرأة ربعة وربعة وأما قوله ص = في عيسى ص = أنه جعد ووقع في أكثر
[ 227 ]
الروايات في صفته سبط الرأس فقال العلماء المراد بالجعد هنا جعودة الجسم وهو اجتماعه واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر وأما الجعد في صفة موسى عليه السلام فقال صاحب التحرير فيه معنيان أحدهما ما ذكرناه في عيسى عليه السلام وهو اكتناز الجسم والثانى جعودة الشعر قال والأول أصح لأنه قد جاء في رواية أبى هريرة في الصحيح أنه رجل الشعر هذا كلام صاحب التحرير والمعنيان فيه جائزان وتكون جعودة الشعر على المعنى الثاني ليست جعودة القطط بل معناها أنه بين القطط والسبط والله أعلم والسبط بفتح الباء وكسرها لغتان مشهورتان ويجوز اسكان الباء مع كسر السبن وفتحها على التخفيف كما في كتف وبابه قال أهل اللغة الشعر السبط هو المسترسل ليس فيه تكسر ويقال في الفعل منه سبط شعره بكسر الباء يسبط بفتحها سبطا بفتحها أيضا والله أعلم قوله في الرواية الأخرى (قال رسول الله ص = مررت ليلة أسرى بى على موسى بن عمران) هكذا وقع في بعض الأصول وسقطت لفظة مررت في معظمها ولا بد منها فان حذفت كانت مرادة والله أعلم قوله ص = (وأرى مالكا خازن النار) هو بضم الهمزة وكسر الراء ومالكا بالنصب ومعناه أرى النبي ص = مالكا وقد ثبت في صحيح البخاري في هذا الحديث ورأيت مالكا ووقع في أكثر الأصول مالك بالرفع وهذا قد ينكر ويقال هذا لحن لا يجوز في العربية ولكن عنه جواب حسن وهو أن لفظة مالك منصوبة ولكن أسقطت الألف في الكتابة وهذا يفعله المحدثون كثيرا فيكتبون سمعت أنس بغير ألف ويقرؤنه بالنصب وكذلك مالك كتبوه بغير ألف ويقرؤنه بالنصب فهذا ان شاء الله تعالى من أحسن
[ 228 ]
ما يقال فيه وفيه فوائد يتنبه بها على غيره والله أعلم قوله (وأرى مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهن الله اياه فلا تكن في مرية من لقائه قال كان قتادة يفسرها أن نبى الله ص = قد لقى موسى عليه السلام) هذا الاستشهاد بقوله تعالى فلا تكن في مرية هو من استدلال بعض الرواة وأما تفسير قتادة فقد وافقه عليه جماعة منهم مجاهد والكلبي والسدى وعلى مذهبهم معناه فلا تكن في شك من لقائك موسى وذهب كثيرون من المحققين من المفسرين وأصحاب المعاني الى أن معناها فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب وهذا مذهب ابن عباس ومقاتل والزجاج وغيرهم والله أعلم قوله (حدثنا أحمد بن حنبل وسريج بن يونس) هو بالسين المهملة والجيم قوله ص = (كأنى انظر الى موسى ص = هابطا من الثنية وله جؤار الى الله تعالى بالتلبية) ثم قال ص = في يونس بن متى ص = (رأيته وهو يلبى) قال القاضى عياض رحمه الله أكثر الروايات في وصفهم تدل على أنه ص = رأى ذلك ليلة أسرى به وقد وقع ذلك مبينا في رواية أبى العالية عن ابن عباس وفى رواية ابن المسيب عن أبى هريرة وليس فيها ذكر التلبية قال فان قيل كيف يحجون ويلبون وهم أموات وهم في الدار الآخرة وليست دار عمل فاعلم أن للمشايخ وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة احدهما أنهم كالشهداء بل هم أفضل منهم والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما ورد في الحديث الآخر وأن يتقربوا الى الله تعالى بما استطاعوا لانهم وان كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التى هي دار العمل حتى إذا فنيت
[ 229 ]
مدتها وتعقبتها الآخرة التى هي دار الجزاء انقطع العمل الوجه الثاني أن عمل الآخرة ذكر ودعاء قال الله تعالى دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام الوجه الثالث أن تكون هذه رؤية منام في غير ليلة الاسراء أو في بعض ليلة الاسراء كما قال في رواية ابن عمر رضى الله عنهما بينا أنا نائم رأيتنى أطوف بالكعبة وذكر الحديث في قصة عيسى ص = الوجه الرابع أنه ص = أرى أحوالهم التى كانت في حياتهم ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا وكيف حجهم وتلبيتهم كما قال ص = كأنى أنظر الى موسى وكأني أنظر الى عيسى وكأني أنظر الى يونس عليهم السلام الوجه الخامس أن يكون أخبر عما أوحى إليه ص = من أمرهم وما كان منهم وان لم يرهم رؤية عين هذا آخر كلام القاضى عياض رحمه الله والله أعلم قوله ص = له جؤار بضم الجيم وبالهمز وهو رفع الصوت قوله (نية هرشى) هي بفتح الهاء واسكان الراء وبالشين المعجمة مقصورة الالف وهو جبل على طريق الشام والمدينة قريب من الجحفة قوله ص = على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف خظام ناقته خلبه قال هشيم يعني ليفا أما الجعدة فهي مكتنزة اللحم كما تقدم قريبا وأما الخطام بكسر الخاء فهو الحبل الذي يقاد به البعير يجعل على خطمه وقد تقدم بيانه واضحا في أول كتاب الإيمان وأما الخلبة فبضم الخاء المعجمة بالباء الموحدة بينهما لام فيها لغتان مشهورتان الضم والإسكان حكاهما ابن السكيت والجوهري وآخرون وكذلك الخلب والخلب وهو الليف كما فسره هشيم والله أعلم قوله ص = كأني أنظر إلى موسى واضعا اصبعيه
[ 230 ]
في أذنيه) أما الأصبع ففيها عشر لغات كسر الهمزة وفتحها وضمها مع فتح الباء وكسرها وضمها والعاشرة أصبوع على مثال عصفور وفي هذا دليل على استحباب وضع الاصبع في الاذن عند رفع الصوت بالاذان ونحوه مما يستحب له رفع الصوت وهذا الاستنباط والاستحباب يجئ على مذهب من يقول من أصحابنا وغيرهم أن شرع من قبلنا شئ لنا والله أعلم قوله (فقال أي ثنية هذه قالوا هرشى أو لفت) هكذا ضبطناها لفت بكسر اللام واسكان الفاء وبعدها تاء مثناة من فوق وذكر القاضى وصاحب المطالع فيها ثلاثة أوجه أحدها ما ذكرته والثانى فتح اللام مع اسكان الفاء والثالث فتح اللام والفاء جميعا والله أعلم قوله ص = (خطام ناقته ليف خلبة) روى بتنوين ليف وروى باضافته الى خلبة فمن نون جعل خلبة بدلا أو عطف بيان قوله (عن مجاهد قال كنا عند ابن عباس رضى الله عنهما فذكروا الدجال فقال انه مكتوب بين عينيه كافر قال فقال ابن عباس لم اسمعه قال ذلك ولكنه قال أما ابراهيم فانظروا الى صاحبكم) كذا هو في الاصول وهو صحيح وقوله فقال انه مكتوب أي قال قائل من الحاضرين ووقع في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق في هذا الحديث من رواية مسلم فذكروا الدجال فقالوا انه مكتوب بين عينيه هكذا رواه فقالوا وفى رواية الحميدى عن الصحيحين وذكروا الدجال بين عينيه كافر فحذف لفظة قال وقالوا وهذا كله يصحح ما تقدم
[ 231 ]
وقوله فقال ابن عباس لم أسمعه يعنى النبي ص = قوله ص = (كأنى أنظر إليه إذا انحدر) هكذا هو في الاصول كلها إذا بالالف بعد الذال وهو صحيح وقد حكى القاضى عياض عن بعض العلماء أنه أنكر اثبات الالف وغلط روايه وغلطه القاضى وقال هذا جهل من هذا القائل وتعسف وجسارة على التوهم لغير ضرورة وعدم فهم بمعاني الكلام إذ لا فرق بين إذا واذ هنا لانه وصف حاله حين انحداره فيما مضى قوله ص = (فإذا موسى عليه السلام ضرب من الرجال) هو باسكان الراء قال القاضى عياض هو الرجل بين الرجلين في كثرة اللحم وقلته قال القاضى لكن ذكر البخاري فيه من بعض الروايات مضطرب وهو الطويل غير الشديد وهو ضد جعد اللحم مكتنزه ولكن يحتمل أن الرواية الاولى أصح يعنى رواية ضرب لقوله في الرواية الاخرى حسبته قال مضطرب فقد ضعفت هذه الرواية للشك ومخالفة الاخرى التى لا شك فيها وفى الرواية الأخرى جسيم سبط وهذا يرجع الى الطويل ولا يتأول جسيم بمعنى سمين لأنه ضد ضرب وهذا انما جاء في صفة الدجال هذا كلام القاضى وهذا الذى قاله من تضعيف رواية مضطرب وأنها مخالفة لرواية ضرب لا يوافق عليه فإنه لا مخالفة بينهما فقد قال أهل اللغة الضرب هو الرجل الخفيف اللحم كذا قاله ابن السكيت في الاصلاح وصاحب المجمل والزبيدى والجوهري وآخرون لا يحصون والله أعلم
[ 232 ]
قوله (دحية بن خليفة) هو بفتح الدال وكسرها لغتان مشهورتان قوله ص = (رجل الرأس) هو بكسر الجيم أي رجل الشعر وسيأتى قريبا ان شاء الله تعالى بيان ترجيل الشعر قوله ص = في صفة عيسى ص = (فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس يعنى حماما) أما الربعة فباسكان الباء ويجوز فتحها وقد تقدم قريبا بيان اللغات فيه وبيان معناه وأما الديماس فبكسر الدال واسكان الياء والسين في آخره مهملة وفسره الراوى بالحمام والمعروف عند أهل اللغة أن الديماس هو السرب وهو أيضا الكن قال الهروي في هذا الحديث قال بعضهم الديماس هنا هو الكن أي كأنه مخدر لم ير شمسا قال وقال بعضهم المراد به السرب ومنه دمسته إذا دفتنه وقال الجوهرى في صحاحه في هذا الحديث قوله خرج من ديماس يعنى في نضارته وكثرة ماء وجهه كأنه خرج من كن لانه قال في وصفه كأن رأسه يقطر ماء وذكر صاحب المطالع الأقوال الثلاثة فيه فقال الديماس قيل هو السرب وقيل الحمام هذا ما يتعلق الديماس وأما الحمام فمعروف وهو مذكر باتفاق اهل اللغة وقد نقل الازهرى في تهذيب اللغة تذكيره عن العرب والله أعلم وأما وصف عيسى صلوات الله عليه وسلامه في هذه الرواية وهي رواية أبى هريرة رضى الله عنه بانه أحمر ووصفه في رواية ابن عمر رضى الله عنهما بعدها بأنه آدم والآدم الاسمر وقد روى
[ 233 ]
البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما انه أنكر رواية أحمر وحلف ان النبي ص = لم يقله يعنى وأنه اشتبه على الراوى فيجوز أن يتأول الاحمر على الآدم ولا يكون المراد حقيقة الادمة والحمرة بل ما قاربها والله اعلم قوله ص = (أرانى ليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم قد رجلها فهى تقطر ماء متكئا على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت فسألت من هذا فقيل هذا المسيح ابن مريم ثم إذا أنا برجل جعد قطط أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فسألت من هذا فقيل هذا المسيح الدجال) أما قوله ص = أرانى فهو بفتح الهمزة وأما الكعبة فسميت كعبة لارتفاعها وتربعها وكل بيت مربع عند العرب فهو كعبة وقيل سميت كعبة لاستدارتها وعلوها ومنه كعب الرجل ومنه كعب ثدى المرأة إذا علا واستدار وأما اللمة فهى بكسر اللام وتشديد الميم وجمعها لمم كقربة وقرب قال الجوهرى ويجمع على لمام يعنى بكسر اللام وهو الشعر المتدلى الذى جاوز شحمة الاذنين فإذا بلغ المنكبين فهو جمة وأما رجلها فهو بتشديد الجيم ومعناه سرحها بمشط مع ماء أو غيره واما قوله ص = يقطر ماء فقد قال القاضى عياض يحتمل ان يكون على ظاهره أي يقطر بالماء الذى رجلها به لقرب ترجيله
[ 234 ]
والى هذا نحا القاضى الباجى قال القاضى عياض ومعناه عندي أن يكون ذلك عبارة عن نضارته وحسنه واستعارة لجماله وأما العواتق فجمع عاتق قال أهل اللغة هو ما بين المنكب والعنق وفيه لغتان التذكير والتأنيث والتذكير أفصح وأشهر قال صاحب المحكم ويجمع العاتق على عواتق كما ذكرنا وعلى عتق وعتق باسكان التاء وضمها وأما طواف عيسى عليه السلام فقال القاضى عياض رحمه الله ان كانت هذه رؤيا عين فعيسى حى لم يمت يعنى فلا امتناع في طوافه حقيقة وان كان مناما كما نبه عليه ابن عمر رضى الله عنهما في روايته فهو محتمل لما تقدم ولتأويل الرؤيا قال القاضى وعلى هذا يحمل ما ذكر من طواف الدجال بالبيت وأن ذلك رؤيا إذ قد ورد في الصحيح أنه لا يدخل مكة ولا المدينة مع أنه لم يذكر في رواية مالك طواف الدجال وقد يقال ان تحريم دخول المدينة عليه انما هو في زمن فتنته والله أعلم وأما المسيح فهو صفة لعيسى ص = وصفة للدجال فأما عيسى فاختلف العلماء في سبب تسميته مسيحا قال الواحدى ذهب أبو عبيد والليث الى أن أصله بالعبرانية مشيحا فعربته العرب وغيرت لفظه كما قالوا موسى واصله موشى أو ميشا بالعبرانية فلما عربوه غيروه فعلى هذا لا اشتقاق له قال وذهب أكثر العلماء الى أنه مشتق وكذا قال غيره انه مشتق على قول الجمهور ثم اختلف هؤلاء فحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال لأنه لم يمسح ذا عاهة الا برئ وقال ابراهيم وابن الأعرابي المسيح الصديق وقيل لكونه ممسوح أسفل القدمين لا أخمص له وقيل لمسح زكريا اياه وقيل لمسحه الأرض أي قطعها وقيل لأنه خرج من بطن امه ممسوحا بالدهن وقيل لأنه مسح بالبركة حين ولد وقيل لان الله تعالى مسحه أي خلقه خلقا حسنا وقيل غير ذلك والله أعلم وأما الدجال فقيل سمى بذلك لأنه ممسوح العين وقيل لانه أعور والأعور يسمى مسيحا وقيل لمسحه الارض حين خروجه وقيل غير ذلك قال القاضى ولا خلاف عند أحد من الرواة في اسم عيسى انه بفتح الميم وكسر السين مخففة واختلف في الدجال فأكثرهم يقوله مثله ولا فرق بينهما في اللفظ ولكن عيسى ص = مسيح هدى والدجال مسيح ضلالة ورواه بعض الرواة مسيح بكسر الميم والسين المشددة وقاله غير واحد كذلك الا أنه بالخاء المعجمة وقاله بعضهم بكسر الميم وتخفيف السين والله اعلم وأما تسمية الدجال فقد تقدم بيانها في شرح المقدمة وأما قوله ص =
[ 235 ]
في وصفة الدجال جعد قطط فهو بفتح القاف والطاء هذا هو المشهور قال القاضى عياض رويناه بفتح الطاء الأولى وبكسرها قال وهو شديد الجعودة وقال الهروي الجعد في صفات الرجال يكون مدحا ويكون ذما فإذا كان ذما فله معنيان أحدهما القصير المتردد والآخر البخيل يقال رجل جعد اليدين وجعد الاصابع أي بخيل وإذا كان مدحا فله أيضا معنيان أحدهما أن يكون معناه شديد الخلق والآخر يكون شعره جعدا غير سبط فيكون مدحا لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم قال القاضى قال غير الهروي الجعد في صفة الدجال ذم وفى صفة عيسى عليه السلام مدح والله أعلم وأما قوله ص = أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فروي بالهمز وبغير الهمز فمن همز معناه ذهب ضوؤها ومن لم يهمز معناه ناتئة بارزة ثم انه جاء هنا أعور العين اليمنى وجاء في رواية أخرى أعور العين اليسرى وقد ذكرهما جميعا مسلم في آخر الكتاب وكلاهما صحيح قال القاضى عياض رحمه الله روينا هذا الحرف عن أكثر شيوخنا بغير همز وهو الذى صححه أكثرهم قال وهو الذى ذهب إليه الاخفش ومعناه ناتئة كنتوء حبة العنب من بين صواحبها قال وضبطه بعض شيوخنا بالهمز وأنكره بعضهم ولا وجه لانكاره وقد وصف في الحديث بأنه مسموح العين وأنها ليست جحراء ولا ناتئة بل مطموسة وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها وهذا يصحح رواية الهمز وأما ما جاء في الاحاديث الاخر جاحظ العين وكأنها كوكب وفى رواية لها حدقة جاحظة كأنها نخاعة في حائط فتصحح رواية ترك الهمزة ولكن يجمع بين الاحاديث وتصحح الروايات جميعا بأن تكون المطموسة والممسوحة والتى ليست بجحراء ولا ناتئة هي العوراء الطافئة بالهمز وهى العين اليمنى كما جاء هنا وتكون الجاحظة والتى كأنها كوكب وكأنها نخاعة هي الطافية بغير همز وهى العين اليسرى كما جاء في الرواية الاخرى وهذا جمع بين الاحاديث والروايات في الطافية بالهمز وبتركه وأعور العين اليمنى واليسرى لان كل واحدة منهما عوراء فان الاعور من كل شئ المعيب لا سيما ما يختص بالعين وكلا عينى الدحال معيبة عوراء احداهما بذهابها والاخرى بعيبها هذا آخر كلام القاضى وهو في نهاية من الحسن والله أعلم قوله (حدثنا محمد بن اسحاق المسيبى) هو بفتح الياء منسوب الى جد له وهو محمد
[ 236 ]
ابن اسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المسيب بن أبى السائب أبو عبد الله المخزومى قوله (بين ظهرانى الناس) هو بفتح الظاء واسكان الهاء وفتح النون أي بينهم وتقدم بيانه أيضا قوله ص = (ان الله تبارك وتعالى ليس بأعور ألا ان المسيح الدجال أعور عين اليمنى) معناه أن الله تعالى منزه عن سمات الحدث وعن جميع النقائص وأن الدجال مخلوق من خلق الله تعالى ناقص الصورة فينبغي لكم أن تعلموا هذا وتعلموه الناس لئلا يغتر بالدجال من يرى تخييلاته وما معه من الفتنة وأما أعور عين اليمنى فهو عند النحويين من الكوفيين على ظاهره من الاضافة وعند البصريين يقدر فيه محذوف كما يقدر في نظائره فالتقدير أعور عين صفحة وجهه اليمنى والله أعلم قوله ص = (كأشبه من رأيت بابن قطن) ضبطناه
[ 237 ]
رأيت بضم التاء وفتحها وهما ظاهران وقطن هذا بفتح القاف والطاء قوله ص = (فجلا الله لى بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته) روى فجلا بتشديد اللام وتخفيفها وهما ظاهران ومعناه كشف وأظهر وتقدم بيان لغات بيت المقدس واشتقاقه في أول هذا الباب وآياته علاماته قوله ص = (ينطف رأسه ماء أو يهراق) أما ينطف فمعناه يقطر ويسيل يقال نطف بفتح الطاء ينطف بضمها وكسرها وأما يهراق فبضم الياء وفتح الهاء ومعناه ينصب قوله (حدثنا حجين بن المثنى) هو بحاء مهملة مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم ياء ثم نون قوله ص =
[ 238 ]
(فكربت كربة ما كربت مثله قط) هو بضم الكافين والضمير في مثله يعود على معنى الكربة وهو الكرب أو الغم أو الهم أو الشئ قال الجوهرى الكربة بالضم الغم الذى يأخذ بالنفس وكذلك الكرب وكربه الغم إذا اشتد عليه قوله ص = (وقد رأيتنى في جماعة من الانباء صلوات الله عليهم فإذا موسى ص = قائم يصلى وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلى وإذا ابراهيم عليه السلام قائم يصلي فحانت الصلاة فأممتهم قال القاضي عياض رحمه الله قد تقدم الجواب في صلاتهم عند ذكر طواف موسى وعيسى عليهما السلام قال وقد تكون الصلاة هنا بمعنى الذكر والدعاء وهى من أعمال الآخرة قال القاضى فان قيل كيف رأى موسى عليه السلام يصلى في قبره وصلى النبي ص = بالانبياء ببيت المقدس ووجدهم على مراتبهم في السموات وسلموا عليه ورحبوا به فالجواب أنه يحتمل أن تكون رؤيته موسى في قبره عند الكثيب الاحمر كانت قبل صعود النبي ص =
[ 237 ]
رأيت بضم التاء وفتحها وهما ظاهران وقطن هذا بفتح القاف والطاء قوله ص = (فجلا الله لى بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته) روى فجلا بتشديد اللام وتخفيفها وهما ظاهران ومعناه كشف وأظهر وتقدم بيان لغات بيت المقدس واشتقاقه في أول هذا الباب وآياته علاماته قوله ص = (ينطف رأسه ماء أو يهراق) أما ينطف فمعناه يقطر ويسيل يقال نطف بفتح الطاء ينطف بضمها وكسرها وأما يهراق فبضم الياء وفتح الهاء ومعناه ينصب قوله (حدثنا حجين بن المثنى) هو بحاء مهملة مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم ياء ثم نون قوله ص =
[ 238 ]
(فكربت كربة ما كربت مثله قط) هو بضم الكافين والضمير في مثله يعود على معنى الكربة وهو الكرب أو الغم أو الهم أو الشئ قال الجوهرى الكربة بالضم الغم الذى يأخذ بالنفس وكذلك الكرب وكربه الغم إذا اشتد عليه قوله ص = (وقد رأيتنى في جماعة من الانباء صلوات الله عليهم فإذا موسى ص = قائم يصلى وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلى وإذا ابراهيم عليه السلام قائم يصلي فحانت الصلاة فأممتهم قال القاضي عياض رحمه الله قد تقدم الجواب في صلاتهم عند ذكر طواف موسى وعيسى عليهما السلام قال وقد تكون الصلاة هنا بمعنى الذكر والدعاء وهى من أعمال الآخرة قال القاضى فان قيل كيف رأى موسى عليه السلام يصلى في قبره وصلى النبي ص = بالانبياء ببيت المقدس ووجدهم على مراتبهم في السموات وسلموا عليه ورحبوا به فالجواب أنه يحتمل أن تكون رؤيته موسى في قبره عند الكثيب الاحمر كانت قبل صعود النبي ص = الى السماء وفى طريقه الى بيت المقدس ثم وجد موسى قد سبقه الى السماء ويحتمل أنه ص = رأى الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم وصلى بهم على تلك الحال لأول ما رآهم ثم سألوه ورحبوا به أو يكون اجتماعه بهم وصلاته ورؤيته موسى بعد انصرافه ورجوعه عن سدرة المنتهى والله أعلم