[1]
الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل
طبعة جديدة منقّحة مع إضافات
تَأليف
العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى
الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي
المجَلّد الخامس
[2]
[3]
[4]
[5]
الآيات
يبَنِى ءَادَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِبَاسَاً يُورِى سَوْءَتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقوى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ ءَايَـتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ26 يَـبَنِى ءَادَمَ لاَيَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُما لِبَاسَهُمـا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَتِهِمآ إِنَّهُ يَرَيكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنا الشَّيطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ 27 وَإِذَا فَعَلُوا فَـحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَآءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 28
التّفسير
إنذار إلى كل أبناء آدم:
إنّ قصة آدم ومشكلته مع الشيطان ـ كما أسلفنا في آخر بحث في الآيات السابقة ـ عكست تصويراً واقعياً عن حياة جميع أفراد البشر على الارض، ولهذا بيّن الله تعالى في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم، وهي تعتبر في الحقيقة إستمراراً لبرامج آدم في الجنّة.
ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سَوءات البدن التي كان لها دور
[6]
مهم في قصّة آدم، إذ يقول: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم).
ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءآت، بل للتجمل والزينة أيضاً حيث يجعل أجسامكم أجمل ممّا هي عليه. (وريشاً).
وكلمة "ريش" في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور، وحيث أنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها، لهذا أُطلِق على نوع من أنواع الألبسة، ولكن حيث أنّ ريش الطير في الأغلب مختلف الألوان جميلها، لذلك تتضمّن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال، هذا مضافاً إلى أنّه تطلق كلمة الريش على الأقمشة التي تلقى على سَرْج الفرس أو جهاز البعير.
وقد أطلق بعض المفسّرين وأهل اللغة هذه اللفظة على معنى أوسع أيضاً، وهو كل نوع من أنواع الأثاث والحاجيات التي يحتاج إليها الإنسان، ولكن الأنسب في الآية الحاضرة هو الألبسة الجميلة وثياب الزينة.
ثمّ تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري، عن حدّ اللباس المعنوي تبعاً لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي، الظاهري والباطني إذ قال: (ولباس التقوى ذلك خير).
وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة، معبّرٌ جدّاً، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار، ويستر العيوب الجسمانية، وهو بالإضافة الى هذا وذاك زينة للإنسان، ومصدر جمال. كذلك روح التقوى، فإنّها مضافاً إلى ستر عيوب الانسان، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والإجتماعية، تعدّ زينة كبرى له ... زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّواً، وتزيدها جلالا وبهاءً.
ثمّ إنّ هناك مذاهب متعددة للمفسّرين في تحديد المراد من لباس التقوى،
[7]
وأنّه ما هو؟
فبعض فسّره بـ "العمل الصالح" و بعض بـ "الحياء" و بعض بـ "لباس العبادة"، و بعض بـ " "لباس الحرب" مثل الدرع والخوذة، وحتى الترس، لأنّ لفظة التقوى مشتقّة من مادة "الوقاية" بمعنى الحفظ والحماية، وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم أيضاً، كما نقرأ في سورة النحل الآية (81): (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأسكم...).
ولكن للآيات القرآنية ـ كما قلنا مراراً ـ معنىً واسعاً في الغالب، ولها مصاديق متعددة ومختلفة، وفي الآية الحاضرة ـ أيضاً ـ يمكن إستفادة جميع هذه المعاني منها.
وحيث أنّ لباس التقوى في هذه الآية موضوع في مقابل اللباس الساتر للبدن، لهذا يبدو للنظر أنّ المراد منه هو "روح التقوى" التي تحفظ الإنسان، وتنطوي تحتها معاني "الحياء" و"العمل الصالح" وأمثالهما.
ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية: (ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم، سواء الألبسة المادية أو المعنوية، اللباس الجسماني أو لباس التقوى، كلّها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الربّ تعالى.
نزول اللباس!
نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ الله سبحانه يقول في صعيد توفير اللباس للبشر: "وأنزلنا" وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل، إذ يقول: (قد أنزلنا عليكم لباساً) في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم أمّا أنّه يُتَّخَذ من الصوف، أو يتّخذ من مواد نباتيّة وما شاكل ذلك من أشياء الأرض.
كما أننا نقرأ في الآية (6) من سورة الزمر (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) وفي سورة الحديد الآية (35) (وأنزلنا الحديد). فماذا يعني هذا؟
[8]
يصرّ كثير من المفسّرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنّزول المكاني أي من فوق إلى تحت، مثلا يقولون: إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات، من هنا تكون مواد اللباس قد نزلت ـ بهذا المعنى ـ من السماء إلى الأرض.
وفي مجال الحديد أيضاً يقولون: إنّ الأحجار والصخور السماوية العظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض.
ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النّزول المقامي، وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيراً، فيقال مثلا: أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه، أو يقال: رفعت شكواي إلى القاضي، لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنّزول المكاني.
فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الرّبوبي الرفيع إلى البشر، لهذا عُبّرَ عن هذا المفهوم بهذا اللفظ، وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة.
ويُشبه هذا الموضوع ما نلاحظه في ألفاظ الإشارة القريبة والبعيدة أيضاً، فقد يكون شيء ما ذا بال أو موضوع مهمّ في متناول أيدينا، ولكنّه ـ لما كان من حيث الشأن ـ يتمتّعِ بمقام مهمّ رفيع، فإنّنا نشير إليه بإسم الإشارة البعيد، فنقول في محاوراتنا مثلا: تلك الشّخصية، ونحن نقصد رجلا حاضراً قريباً، وقد جاء في القرآن الكريم: (ذلك الكتاب لا ريب منه). والمقصود من الكتاب المشار إليه بالإشارة البعيدة القرآن الحاضر، ولكن تعظيماً له أستعيض في الإشارة إليه عن أداة الإشارة القريبة بأداة الإشارة البعيدة.
اللباس في الماضي والحاضر:
لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب، ولكن
[9]
الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعاً بالغاً عبر الزمن، فقد كانت الثياب تلبس فيما سبق ـ و في الأغلب ـ لأجل حفظ الجسم من الحرّ و القرّ وكذا للزينة والتجمل، والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة، ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأُولى من الأهمية في كثير من الحقول، فرجال الفضاء ورجال الإطفاء، وعمال المعادن والمناجم والغواصون، وغيرهم كثيرون، يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار.
لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطوراً هائلا، واتسع نطاقها اتساعاً كبيراً، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى.
يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا: "لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير (قيصرها) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ماوصلت إليه من الإتقان، فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه، وأراد الخروج قدّموا له معطفاً ليلبسه تذكاراً لهذه الزيارة، وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله، فهم قد نظفوه في الآلات المنظِّفة، فغزلوه بآلات الغزل، فنسجوه بآلات النسج، ففصَّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور".(1)
ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة و تعددت كثيراً إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.
لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر، وإشاعة الفساد، وتحريك الشهوات، والتكبر والإسراف والتبذير، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المنار، ج8، ص 359.
[10]
ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصّة الشباب المتغرب ـ يفوق طابُعها الجنوني على الطابع العقلاني، وتكون أشبه بكل شيء إلاّ باللباس والثوب.
والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة، هو أنّ للعُقد النفسية دوراً مهمّاً في إرتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة، فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم و ملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الاسلوب ويحاولون بإرتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم، ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة، أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من إرتداء مثل هذه الثياب.
وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّاً تهدر و تبدّد ـ اليوم ـ في سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها و تبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الإجتماعية بها، ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية.
هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها، إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفداً من النصارى قدم على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة، وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جداً، والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها، فلما حضروا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سلموا عليه، لم يردَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على سلامهم، بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة، وأعرض عنهم، فلمّا سألوا عليّاً(عليه السلام) عن سبب إعراض النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم، قال(عليه السلام) لهم: أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكم ثمّ تعودون إليه.
ففعل النصارى ما قاله لهم الإمام(عليه السلام)، ثمّ دخلوا على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم. ثمّ قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "والذي بعثني بالحق لقد أتوني
[11]
المرّة الأُولى وإنّ إبليس لمعهم".(1)
الآية اللاحقة يحذّر فيها الله سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره، ويدعو إلى مراقبته، والحذر منه، لأنّ الشيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم، فكما أنّه نزع عنه لباس الجنّة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى، ولهذا يقول تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشّيطان كما أخرج أبوبكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءتهما).
وفي الحقيقة إنّ الأمر الذي يربط الآية الحاضرة بالآية السابقة هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن اللباس الظاهري والمعنوي للإنسان (لباس التقوى)، وهذه الآيه تضمنت تحذيراً ودعوة له لمراقبة الشيطان والحذر من نزعه لباس التقوى عنكم.
على أنّ ظاهر عبارة (لا يفتننكم الشيطان) هو نهي الشيطان عن هذا العمل، ولكن أمثال هذه العبارات تعتبر كنايات لطيفة لنهي المخاطب، وتشبه ما إذا خاطبنا صديقاً نحبه قائلين: لا يصح أن يوجه إليك فلان ضربة، أى راقبه حتى لا تتعرض لضربته وأذاه.
ثمّ إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) فلابدّ من شدّة الحذر من مثل هذا العدّو.
وفي الحقيقة عند ما تظن أنك وحيد، فإنّه من الممكن أن يكون حاضراً معك، فيجب عليك الحذر من هذا العدوّ الخفيّ الذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدوانه المباغت، ولابدّ من اتخاذ حالة الدفاع الدائم أمامه.
وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي في الحقيقة إجابة على سؤال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار، المجلد الثاني، ص 4 ـ 5، مادة لبس.
[12]
مهم، فقد يتساءل أحد: كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّاً بهذه القوة على الإنسان ... عدوّاً لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان ... عدواً يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته، بل إنّه ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث ـ يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟!
الآية الشريفة ـ في خاتمتها ـ ترد على هذا السؤال الإحتمالي إذ تقول: (إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون).
أي إنّ الشياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينفذوا إلى قلوب وأرواح المؤمنين الذين لم يكونوا على استعداد لقبول الشيطان والتعامل معه.
وبعبارة أُخرى: إنّ الخطوات الأُولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع إجتياز حدود الروح ويعبرها إلاّ بعد موافقة من الإنسان نفسه، فاذا أغلق الانسان نوافذ قلبه في وجه الشياطين والأبالسة، فسوف لا تتمكن من النفوذ إلى باطنه.
إن الآيات القرآنية الأُخرى شاهدة أيضاً على هذه الحقيقة، ففي سورة النحل في الآية (100) نقرأ (إنّما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)، فالذين يتعشقون الشيطان ويسلمون إليه زمام أمرهم ويعبدونه هم الذين يتعرضون لسيطرته ووساوسه.
وفي الآية (47) من سورة الحجر نقرأ (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتبعك من الغاوين).
وبعبارة أُخرى: صحيح أنّنا لا نرى الشيطان وجنوده وأعوانه، إلاّ أننا نستطيع أن نرى آثار أقدامهم، ففي كل مجلس معصية، وفي كل مكان تهيّأت فيه وسائل الذنب، وفي كل مكان توفرت فيه زبارج الدنيا وبهارجها، وعند طغيان الغرائز، وعند اشتعال لهيب الغضب، يكون حضور الشيطان حتمياً ومسلَّماً، وكأنَّ
[13]
الإنسان يسمع في هذه المواقع صوت وساوس الشيطان بآذان قلبه، ويرى آثار قدمه بأُمّ عينيه.
وقد روي ـ في هذا الصعيد ـ حديث رائع عن الإمام الباقر(عليه السلام) إذ يقول:
"لما دعا نوحٌ ربّه عزوجل على قومه أتاه إبليس لعنة الله فقال: يا نوح إنّ لك عندي يداً! أُريد أن أكافئك عليها.
فقال نوح: إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد، فما هي؟
قال: بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم، فلم يبق أحد أغويه، فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر وأغويهم.
فقال نوح: ما الذي تريد أن تكافيني به؟
قال: أُذكرني في ثلاثة مواطن، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحدهن:
اُذكرني إذا غضبتَ؟
واُذكرني إذا حكمت بين اثنين!
واُذكرني إذا كنتَ مع امرأة خالياً ليس معكما أحد!"(1).
النقطة الأُخرى التي يجب الإنتباه إليها هنا، هي أنّ ثلّة من المفسّرين استنبطوا من هذه الآية أنّ الشيطان غيرقابل للرؤية للإنسان مطلقاً، في حين يستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الأمر ممكن أحياناً.
ولكن الظاهر أنّ هذين الإتجاهين غير متعارضين، لأنّ القاعدة الأولية والأصلية هي أن لا يُرى، ولكن لهذه القاعدة ـ كغيرها ـ استثناءات، فلا تناف.
في الآية التالية يشير تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمّة والتي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحارالانوار، الطبعة الجديدة، الجزء 11، الصفحة 318.
[14]
تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضاً، وهي أنّه عندما يُسأل الشخص لدى ارتكابه عملا قبيحاً، عن دليله يجيب قائلا: هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا).
ثمّ يضيفون إلى هذه الحجّة حجّة كاذبة أُخرى قائلين: (والله أمرنا بها).
إنّ مسألة التقليد الأعمى للآباء، بالإضافة إلى الإفتراء على الله، عذران مختلفان، وحجّتان داحضتان يتشبث بهما العصاة المتشيطنون لتبرير أعمالهم القبيحة غالباً.
والملفت للنظر أنَّ القرآن الكريم لم يَعبأ بالدليل الأوّل (يعني التقليد الأعمى للآباء والأسلاف) ولم يعتن به، وكأنّه وجد نفسه في غنىً عن الرّدّ عليه وإبطاله، لأنّ العقل السليم يدرك بطلانه، هذا مضافاً إلى أنّه قد ردّ عليه في مواضع عديدة من القرآن الكريم. وإنّما اكتفى بالردّ على الحجّة الثّانية، أو بالأحرى (التبرير الثّاني) حيث قال: (قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء).
إنّ الأمر بالفحشاء حسب تصريح الآيات القرآنية عمل الشيطان لا عمل الله، فإنّه تعالى لا يأمر إلاّ بالمعروف والخير(1).
ثمّ يختم الآية بهذه العبارة: (أتقولون على اللّه ما لا تعلمون).
ورغم أنّ الأنسب أن يقول: لماذا تنسبون ما هو كذب و ليس له واقع إلى الله؟ لكنّه قال بدل ذلك: لماذا تقولون ما لا تعلمون على الله؟ وهذا في الحقيقة استناداً الى الحدّ الأدنى من موضع قبول الطرف الآخر، فيقال: إذا كنتم لا تتيقنون كذب هذا الكلام، فعلى الأقل ليس لديكم دليل على إثباته، فلماذا تتهمون الله و تقولون على الله ما لا تعلمون؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع سورة البقرة، 268 و 269.
[15]
ما هو المقصود من الفحشاء؟
ما هو المراد من الفحشاء هنا؟ قالت طائفة كبيرة من المفسّرين: إنّها إشارة إلى تقليد كان سائداً بين جماعة من العرب في العهد الجاهلي، وهو الطواف حول بيت الله المعظم عرياناً "رجالا ونساءً" ظناً منهم بأنّ الثياب التي ارتكبت فيها الذنوب لا تليق بأن يطاف بها حول الكعبة المعظمة.
على أنّ هذا التّفسير يتناسب مع الآيات السابقة التي دار الحديث فيها عن الثّياب والألبسة.
ولكنّنا نقرأ في روايات متعددة أنّ المراد من الفحشاء هنا هو كلام حكّام الجور الذين يدعون الناس إلى أنفسهم، ويعتقدون بأنّ الله فرض طاعتهم على الناس.
ولكن بعض المفسّرين ـ مثل كاتب "المنار" و "الميزان" ـ أخذوا للآية مفهوماً واسعاً إذ قالوا: إنّ الفحشاء تشمل كل عمل قبيح منكر، وبملاحظة سعة مفهوم لفظة الفاحشة، فإنّ الأنسب هو أنّ للآية معنىً واسعاً سعة معنى الكلمة، ومسألة "الطواف بالبيت عرياناً" و "اتباع القادة والزعماء الظلمة" تعدّ من المصاديق الواضحة لذلك، فلا منافاة بين الطائفتين من الرّوايات.
هذا وقد أعطينا توضيحاً كافياً حول التسليم المطلق لتقاليد الأسلاف وأعرافهم عند تفسير الآية (170) من سورة البقرة.
* * *
[16]
الآيتان
قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكَمْ تَعُودُونَ 29 فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَلَةُ إِنَّهُمُ اًتَّخَذُوا الشَّيطِينَ أؤْلِيَآءَ مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُهْتَدُونَ 30
التّفسير
حيث أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهوماً كلّ أنواع الفعل القبيح، وتأكَّدَ أنّ الله يأمر بالفحشاء اطلاقاً لهذا أُشير في هذه الآية إلى أصول ومبادىء التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة، ثمّ تبعه بيان أصول العقائد الدينية، أي المبدأ والمعاد، بصورة مختصرة موجزة.
يقول أوّلا: أيها النّبي (قل أمر ربي بالقسط) والعدل.
ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوماً واسعاً يشمل جميع الأعمال الصالحة، لأنّ حقيقة العدل هي استخدام كل شيء في مجاله، ووضع كل شيء في محلّه.
ثمّ إنّه وإن كان بين "العدالة" و "القسط" تفاوتاً، إذ تطلق "العدالة" ويراد
[17]
منها إعطاء كل ذي حق حقه، ويقابلها "الظلم" وهو منع ذوي الحقوق من حقوقهم، بينما يعني "القسط" أن لا تعطي حق أحد لغيره.
وبعبارة أُخرى: أن لا يرضى بالتبعيض، ويقابله أن يعطي حقّ أحد لغيره.
ولكن المفهوم الواسع لهاتين الكلمتين اللتين قد تستعملان منفصلتين، متساو تقريباً، وهما يعنيان رعاية الإعتدال والتوازن في كل شيء وفي كل عمل، وبالتالي وضع كل شيء في مكانه.
ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كلّ ألوان الشرك وأنواعه، إذ قال: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) أي وجهوا قلوبكم نحو الله الواحد دون سواه، (وادعوه مخلصين له الدين).
وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد، وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة، إذ قال: (كما بدأكم تعودون).
* * *
بحثان
هنا نقطتان يجب الإلتفات إليهما والوقوف عندهما:
1 ـ ما المقصود من "أقيموا وجوهكم ..."
ذكر المفسّرون في تفسير (أقيموا وجوهكم عند كل مسجد) تفاسير متنوعة، فتارة قالوا: المراد هو التوجه صوب القبلة.
وأُخرى: إنّ المراد هو المشاركة في المساجد أثناء الصلوات اليومية.
وثالثة احتملوا أيضاً أن يكون الهدف منه هو حضور القلب والنية الخالصة عند العبادة.
ولكن التّفسير الذي ذكرناه أعلاه (أي التوجه إلى الله، ومحاربة كل ألوان
[18]
الشرك والتوجه إلى غير الله) يبدو للنظر أنّه أنسب مع ما سبق وما يلحق هذه الجملة، وإن لم تكن إرادة كل هذه المعاني بعيدة عن مفهوم الآية أيضاً.
2 ـ أقصر الأدلة على المعاد
لقد بحث أمر المعاد والبعث في يوم القيامة كثيراً، ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هضم هذه المسألة كان أمراً صعباً وعسيراً بالنسبة إلى كثير من الناس في العصور الغابرة، إلى درجة أنّهم كانوا يتخذون أحياناً من طرح مسألة القيامة والمعاد من قبل الأنبياء دليلا على عدم صحة دعوتهم، وبل حتى (والعياذ بالله) دليلا على الجنون ويقولون: (افترى على الله كذباً أم به جنّة)(1).
ولكن يجب الإنتباه إلى أنّ ما كان يدعو لمزيد من تعجبهم ودهشتهم، هو مسألة المعاد الجسماني، لأنّهم ما كانوا يصدّقون بأنّ الأبدان بعد صيرورتها تراباً، و تبعثر ذراتها بفعل الرياح والاعاصير وتناثرها في أرجاء الأرض. أن تجتمع هذه الذرات المتبعثرة من بين أكوام التراب. وأمواج البحار، ومن بين ثنايا ذرات الهواء، ويلبس ذلك الإنسان لباس الوجود والحياة مرّة أُخرى.
إن القرآن الكريم أجاب في آيات متنوعة على هذا الظن الخاطيء، والآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في هذا المجال، إذ تقول: أُنظروا إلى بداية الخلق، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثمّ تبخّرت وتبدلت إلى السُّحب، ثمّ نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة، أو خضروات مختلفة جُمعت من مختلف نقاط الأرض.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة سبأ، 8.
[19]
وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه إلى حالته الأُولى تجتمع تلك الذرّات ثانية، وتتواصل و تترابط ويتشكل الجسم الأوّل، فلو كان هذا الأمر محالا فلماذا وقع في مبدأ الخلقة.
إذاً "كما بدأكم" الله "تعودون" أي يعيدكم في الآخرة، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.
في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول: (فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضّلالة).(1)
ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ الله يهدي فريقاً أو يضلّ فريقاً من دون سبب، أضاف في الجملة ما يلي: (أنّهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) أي إنّ الضالين هم الذين اختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية الله، فضلوا.
والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وإنحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقون (ويحسبون أنّهم مهتدون).
إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية، وكان انغماسهم في الفساد، والضلال والإنحراف، والوثنية، كبيراً إلى درجة أنّه انقلبت حاسة تمييزهم رأساً على عقب، فحسبوا القبيح حسناً، والضلالات هداية، وفي هذه الحالة أُغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جملة "فريقاً هدى" من حيث الإعراب والتركيب تكون كالتالي: فريقاً مفعول هدى فعل وفاعل مؤخرين، وفريقاً (الثّانية) مفعول مقدم.
وأضل فعل وفاعل مؤخران مقدران دل عليهما جملة "حق عليهم الضلالة".
[20]
الآيتان
يَـبَنِى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد وَ كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَتُسْرِفُوا إِنَّه لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبـتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيا خَالِصَةً يَومَ الْقِيامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَْيتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ 32
التّفسير
الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصّة آدم في الجنّة، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة، وكيفية الإستفادة الصحيحة منها.
في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي، يشمل جميع الأعصار والقرون، أن يتخذوا زينتهم عندما يذهبون إلى المساجد (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد).
هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل "زينة جسمانية" ممّا يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة، ومشط الشعر، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضاً أن تكون إشارة إلى كل "زينة معنوية" يعني الصفات
[21]
الإنسانية والملكات الأخلاقية، وصدق النية وطهارتها وإخلاصها.
وإذا رأينا أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تشير ـ فقط ـ إلى اللباس الجيّد أو مشط الشعر، أو إذا رأينا أنّ بعضها الآخر يتحدث ـ فقط ـ عن مراسيم صلاة العيد وصلاة الجمعة، فإنّ ذلك لا يدل على الإنحصار، بل الهدف هو بيان مصاديقها الواضحة(1).
وهكذا إذا رأينا أنّ طائفة أُخرى من الرّوايات تفسر الزينة بالقادة الصالحين(2)، فإنّ كل ذلك يدل على سعة مفهوم الآية الذي يشمل جميع أنواع الزينة الظاهرية والباطنية.
وهذا الحكم وإن كان يتعلق بجميع أبناء آدم في كل زمان ومكان، إلاّ أنّه ينطوي ضمناً على ذم عمل قبيح كان يقوم به جماعة من الأعراب في العهد الجاهلي عند دخولهم في المسجد الحرام والطواف بالكعبة المعظمة، حيث كانوا يطوفون بالبيت المعظم عراةً من دون ساتر يستر عوراتهم، كما أنّه يتضمن ـ أيضاً ـ نصيحة لأولئك الذين يرتدون عند إقامة الصلاة أو الدخول إلى المساجد ثياباً وسخة خلقة أو ألبسة تخصّ المنزل، ويشتركون في مراسيم عبادة وهم على تلك الهيئة المزرية، الأمر الذي نشاهده اليوم ـ وللأسف ـ بين بعض الغفلة السذج من المسلمين، في حين أننا مكلّفون ـ طبقاً للآية الحاضرة، والرّوايات الواردة في هذا الصعيد ـ بأن نرتدي لدى ارتيادنا للمساجد أفضل ثيابنا وألبستنا.
ثمّ في العبارة اللاحقة يشير سبحانه إلى مواهب أُخرى، يعني الأطعمة والأشربة الطاهرة الطيبة، ويقول: (وكلوا واشربوا).
ولكن حيث أنّ الإنسان حريص بحكم طبيعته البشرية، يمكن أن يسيء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ للإطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير البرهان المجلد 2، الصفحة الثّانية 9 و 10 وتفسير نورالثقلين المجلد الثّاني الصفحة 18 و 19.
2 ـ المصدر السابق.
[22]
استخدام هذين التعليمين، وبدل أن يستفيد من نعمة اللباس والغذاء الصحيح بالشكل المعقول والمعتدل، يسلك سبيل الإسراف والتبذير والبذخ، لهذا أضاف مباشرة قائلا: (ولا تسرفوا إنّ الله لا يحبّ المسرفين).
وكلمة "الإسراف" كلمة جامعة جدّاً بحيث تشمل كل إفراط في الكم والكيف، وكذا الأعمال العابثة والإتلاف وما شابه ذلك، وهذا هو أسلوب القرآن خاصّة، فهو عند الحث على الإستفادة من مواهب الحياة والطبيعة يحذّر فوراً من سوء إستخدامها، ويوصي برعاية الإعتدال.
وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الردّ ـ بلهجة أكثر حدّةً ـ على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والإجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد، وسبباً للتقرب إلى الله فيقول: أيّها النّبي (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)؟
إذا كانت هذه الأُمور قبيحة فإنّ الله تعالى لا يخلق القبيح، وإذا خلقها الله ليتمتع بها عباده فكيف يمكن أن يحرّمها؟ وهل يمكن أن يكون هناك تناقض بين جهاز الخلق، وبين التعاليم الدينية؟!
ثمّ أضاف للتأكيد: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)أي أنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة، وإن كان الآخرون ـ أيضاً ـ يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب، فإنّ هذه المواهب والنّعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط، ويحرم منها الآخرون حرماناً كليّاً.
وعلى هذا الأساس فإنّ ما هو للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وخاص بهم في العالم الآخر كيف يمكن أن يحرّم عليهم؟ إنّ الحرام هو ما يورث مفسدة، لا ما هو نعمة وموهبة.
[23]
هذا وقد احتمل أيضاً في تفسير هذه العبارة من الآية أنّ هذه المواهب وإن كانت في هذه الدنيا ممزوجة بالآلام والمصائب والبلايا، إلاّ أنّها توضع تحت تصرف المؤمنين وهي خالصة من كل ذلك في العالم الآخر (ولكن التّفسير الأوّل يبدو أنّه أنسب).
وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد: (كذلك نفصل الآيات لقوم يَعْلَمون).
الزّينة والتّجمل من وجهة نظر الإسلام:
لقد اختار الإسلام ـ كسائر الموارد ـ حدّ التوسط والإعتدال في مجال الإنتفاع والإستفادة من أنواع الزينة، لا كما يظن البعض من أنّ التمتع والإستفادة من الزينة والتجمل ـ مهما كان بصورة معتدلة ـ أمر مخالف للزّهد، ولا كما يتصور المفرطون في إستعمال الزينة والتجمل الذين يجوّزون لأنفسهم فعل كل عمل شائن بغية الوصول إلى هذا الهدف الرخيص.
ولو أننا أخذنا بناء الجسم والروح بنظر الإعتبار، لرأينا أنّ تعاليم الإسلام في هذا الصعيد تنسجم تماماً مع خصائص الروح الإنسانية وبناء الجسم البشري ومتطلباتهما، واحتياجاتهما الذاتية.
توضيح ذلك: إنّ غريزة حبّ الجمال ـ باعتراف علماء النفس ـ هي إحدى أبعاد الروح الإنسانية الأربعة، والتي تشكل مضافاً إلى غريزة حب الخير، وغريزة حب الإستطلاع، وغريزة التّدين، الأبعاد الأصيلة في النفس الإنسانية. ويعتقدون بأنّ جميع الظواهر الجمالية الأدبية والشعرية، والصناعات الجميلة، والفن بمعناه الواقعي، إنّما هو نتيجة هذه الغريزة وهذا الإحساس.
ومع هذا كيف يمكن أن يعمد قانون صحيح إلى خنق هذا الحس المتأصل والمتجذر في أعماق الروح الإنسانية، ويتجاهل العواقب السيئة في حال عدم
[24]
إشباعه بصورة صحيحة.
ولهذا لم يكتف في الإسلام بتجويز التمتع بجمال الطبيعة والإستفادة من الألبسة الجميلة والمناسبة، واستعمال كل أنواع العطور، وما شابه ذلك، بل أوصى بذلك وَحُثَّ عليه أيضاً، ورويت في هذا المجال أحاديث كثيرة عن أئمّة الدين في المصادر والكتب الموثوقة.
فإننا نقرأ ـ مثلا ـ في تاريخ حياة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) أنّه عندما كان ينهض إلى الصلاة كان يرتدي أحسن ثيابه، ولما سئل: لماذا يلبس أحسن ثيابه؟ قال: "إنّ الله جميل يحبّ الجمال، فأتجمل لربّي وهو يقول: خذوا زينتكم عند كل مسجد"(1).
وفي الحديث أنّ أحد الزهاد، ويدعى عباد بن كثير البصري، رأى الإمام الصادق(عليه السلام) وهو يلبس ثياباً غالية الثمن فقال معترضاً عليه: يا أبا عبدالله، إنّك من أهل بيت نبوة وكان أبوك وكان، فما لهذه الثياب المزينة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): "ويلك ـ يا عباد ـ من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرّزق؟"(2).
وأحاديث أُخرى.
إنّ هذا التعبير، أي أنّ الله جميل يحب الجمال، أو أنّ الله مصدر الجمال إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي : أنّ الإستفادة من كل نوع من أنواع الزينة والجمال لو كان ممنوعاً لما خلق الله تلك الزينة أبداً، إنّ خلق الأشياء الجميلة في عالم الوجود دليل على أنّ خالقها يحبّ الجمال.
ولكن المهم هنا أنّ الناس يسلكون ـ غالباً ـ في مثل هذه المواضيع طريق الإفراط والمبالغة، ويعمدون إلى الترف بمختلف الحجج والمعاذير.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الوسائل، المجلد الثالث، أبواب أحكام الملابس.
2 ـ الوسائل، أبواب أحكام الملابس الباب 7، ح 3.
[25]
ولهذا يعمد القرآن الكريم فوراً وبعد ذكر هذا الحكم الإسلامي ـ كما أسلفنا ـ إلى تحذير المسلمين من الإسراف والإفراط والمبالغة في الإستفادة من هذه الأُمور، ففي أكثر من عشرين موضعاً من القرآن الكريم يشير إلى مسألة الإسراف ويذمّه بشدّة (وقد تحدثنا بإسهاب حول الإسراف في تفسير الآيات المناسبة).
وعلى كل حال، فإنّ أُسلوب القرآن الكريم والإسلام في هذا الصعيد أسلوب يتسم بالتوازن والإعتدال، فلا جمود فيه يقمع الرغبات المودعة في الروح الإنسانية إلى الجمال، ولا هو يؤيد مسلك المسرفين المتطرفين وذوي البطنة والجشع في التمتع بالزينة والجمال.
بل هو ينهي حتى عن التزين والتجمل المعتدل في المجتمعات التي يعيش فيها محرومين مساكين، ولهذا نلاحظ في بعض الرّوايات والأحاديث أنّه عندما يُسأل أحد الأئمّة: لماذا يلبس ثياباً فاخرة، وقد كان جدّه لا يلبس مثل هذه الثياب؟ فيجيب الإِمام(عليه السلام) قائلا: "إنّ على بن أبي طالب(عليه السلام) كان في زمان ضيق، فإذا اتّسع الزمان فأبرار الزّمان أولى به"(1).
توصية صحية هامّة:
إنّ عبارة (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) التي جاءت في الآية الحاضرة، وإن كانت تبدو للنظر أمراً بسيطاً جدّاً، إلاّ أنّه ثبت اليوم أنّه واحد من أهم الأوامر والتعاليم الصحية، وذلك لأنّ تحقيقات العلماء توصلت إلى أنّ منبع الكثير من الأمراض والآلام هو الأطعمة الإضافية الزائدة التي تبقي في بدن الإنسان إنّ هذه المواد الإضافية تشكل من جانب عبئاً ثقيلا على القلب وغيره من أجهزة الجسم، وهي من جانب آخر منبع مهيَّأ لمختلف أنواع العفونات والأمراض، ولهذا فإنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الوسائل، ج3، أبواب الملابس الباب 7، ح 11.
[26]
الخطوة الأُولى لعلاج الكثير من الأمراض هو أن تحترق هذه المواد الزائدة التي تمثل ـ في الحقيقة ـ فضلات الجسم، وتتم عملية تطهير الجسم منها عملياً.
إنّ العامل الأصل في وجود هذه المواد الزائدة هو الإسراف، والإفراط في الأكل والبطنة، والطريق إلى تجنب هذه الحالة ليس إلاّ رعاية الإعتدال في الأكل، وخاصّة في عصرنا هذا الذي كثرت فيه أمراض مختلفة مثل السكري، وتصلب الشرايين، وأنواع السكتة، وما شابه ذلك من الأمراض التي يُعدّ الإفراط في الأكل مع عدم الحركة البدنية بالمقدار الكافي أحد العوامل الاساسية لها، وليس هناك من سبيل لإزالة هذه الأمراض وتجنبها إلاّ الحركة البدنية الكافية، والإعتدال في المأكل والمشرب.
وقد نقل المفسّر الكبير العلامة "الطبرسي" في "مجمع البيان" قصة رائعة في هذا المجال وهي أنّه: حكي أنّ هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان.
فقال له علي: قد جمع الله الطب كلَّه في نصف آية من كتابه وهو قوله: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) وجمع نبيّنا(صلى الله عليه وآله وسلم) الطب في قوله: "المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء، واعط كل بدن ما عودته".
فقال الطبيب: ماترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً(1).
فمن كان يظن أنّ هذه التوصية سطحية، فما عليه إلاّ أن يجرّبها في حياته كما يدرك أهميتها ويسبر غورها، ويشاهد المعجزة في سلامة الجسم برعاية هذا الدّستور الصحي.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، المجلد 4، ص 413.
[27]
الآية
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاِْثمّ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 33
التّفسير
المحرمات الإلهية:
لقد شاهدنا مراراً أنّ القرآن الكريم كلّما تحدث عن أمر مباح أو لازم، تحدث فوراً عن ما يقابله، من الأُمور القبيحة والمحرمات، ليكمِّل كل واحد منهما الآخر.
وهنا أيضاً تحدّث ـ عقيب السماح بالتمتع والإستفادة من المواهب الإلهية وإباحة كل ما هو زينة وجمال ـ عن المحرمات على نحو العموم، ثمّ أشار بصورة خاصّة إلى عدة نقاط مهمّة.
ففي البداية تحدث عن تحريم الفواحش وقال: يا أيّها النّبى (قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن).
و "الفواحش" جمع "فاحشة" وتعني الأعمال القبيحة البالغة في القبح
[28]
والسوء لا جميع الذنوب، ولعلّ التأكيد على هذا المطلب (ماظهر منها وما بطن) هو لأجل أنّ العرب الجاهليين كانوا لا يستقبحون عمل الزنا إذا أُتي به سرّاً، ويحرّمونه إذا كان ظاهراً مكشوفاً.
ثمّ إنّه عمّم الموضوع، وأشار إلى جميع الذنوب وقال "والإثم" أي كل إثم.
والإِثمّ في الأصل يعني كل عمل مضرّ، وكل ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وتردّي منزلته، ويمنعه ويحرمه من نيل الثواب والأجر الحسن. وعلى هذا يدخل كل نوع من أنواع الذنوب في المفهوم الواسع للإثم.
ولكن بعض المفسّرين أخذوا الإثمّ هنا فقط بمعنى "الخمر" واستدلوا لذلك بالشعر المعروف.
شربت الإِثمّ حتى ضلّ عقلي***كذاك الإِثمّ يصنع بالعقول(1)
ولكنّ الظاهر أنّ هذا المعنى ليس هو تمام مفهوم الكلمة، بل أحد مصاديقه.
ومرّة أُخرى يشير بصورة خاصّة إلى عدد من كبريات المعاصي والآثام، فيقول: (والبغي بغير الحق) أي كل نوع من أنواع الظلم، والتجاوز على حقوق الآخرين.
و"البغي" يعني السعي والمحاولة لتحصيل شيء، ولكن يراد منه غالباً الجهود المبذولة لغصب حقوق الآخرين، ولهذا يكون مفهومه ـ في الغالب ـ مساوياً لمفهوم الظلم.
ومن الواضح أنّ وصف "البغي" في الآية المبحوثة بوصف "غير الحق" من قبيل التوضيح والتأكيد على معنى "البغي".
ثمّ أشار تعالى إلى مسألة الشرك وقال: (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً) فهو أيضاً محرّم عليكم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التبيان عند تفسير الآية المبحوثة، وتاج العروس مادة "إثم".
[29]
ومن الواضح أنّ جملة (ما لم ينزل به سلطاناً) للتأكيد، ولإلفات النظر إلى حقيقة أنّ المشركين لا يملكون أي دليل منطقي وأي برهان معقول، وكلمة "السلطان" تعني كل دليل وبرهان يوجب تسلّط الإنسان وانتصاره على من يخالفه.
وآخر ما يؤكّد عليه من المحرمات هو نسبة شيء لم يستند إلى علم الله (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
ولقد بحثنا حول القول على الله بغير علم عند تفسير الآية (28) من نفس هذه السورة أيضاً.
ولقد أُكِّد في الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية على هذه المسألة كثيراً، ومُنِع المسلمون بِشدة عن قول ما لا يعلمون إلى درجة أنّه روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض".(1)
ولو أنّنا أمعنا النظر ودققنا جيداً في أوضاع المجتمعات البشرية، والمصائب والمتاعب التي تعاني منها تلكم المجتمعات، لعرفنا أنّ القسط الأكبر من هذا الشقاء ناشيء من بث الشائعات، والقول بغير علم، والشهادة بغير الحق، وإبداء وجهات نظر لا تستند إلى برهان أو دليل.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، طبقاً لرواية تفسير نورالثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 26.
[30]
الآية
وَلِكلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ 34
التّفسير
لكلّ أُمّة أجل:
في هذه الآية يشير الله تعالى إلى واحدة من سنن الكون والحياة، يعني فناء الأُمم وزوالها، ويلقي ضوءاً أكثر على الأبحاث التي تتعلق بحياة أبناء البشر على وجه الأرض ومصير العصاة، التي سبق الحديث عنها في الآيات السابقة.
فيقول أوّلا: (ولكلّ أُمّة أجل).
ثمّ يشير إلى أنّ هذا الأجل لا يتقدم ولا يتأخر إن جاء (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
أي أنّ الأُمم والشعوب مثل الأفراد، لها موت وحياة، وأنّ الأُمم تندثر وينمحي أثرها من على وجه الأرض، وتحل مكانها أُمم أُخرى، وإنّ سنّة الموت وقانون الفناء لا يختصان بأفراد الإنسان، بل تشمل الجماعات والأقوام والأُمم أيضاً، مع فارق وهو أنّ موت الشعوب والأمم يكون ـ في الغالب ـ على أثر
[31]
إنحرافها عن جادة الحق والعدل، والإقبال على الظلم والجور، والإنغماس في بحار الشهوات، والغرق في أمواج الإفراط في التجمل والرفاهية.
فعندما تسلكُ الأمم في العالم هذه المسالك وتنحرف عن سنن الكون وقوانين الخلقة، تفقد مصادرها الحيوية الواحد تلو الآخر، وتسقط في النهاية.
إنّ دراسة زوال مدنيات كبرى، مثل حضارة بابل، وفراعنة مصر، وقوم سبأ، والكلدانيين والآشوريين، ومسلمي الأندلس وأمثالها، توضح الحقيقة التالية، وهي أنّه لدى صدور الأمر بزوال هذه المدنيات والحضارات الكبرى إثر بلوغ الفساد أوجه فيها لم تستطع حكوماتها أن تحفظ أسسها المتزعزعة حتى ساعة واحدة.
ويجب الإلتفات إلى أنّ "الساعة" في اللغة تعني أصغر وحدة زمنية، فربّما تكون بمعنى لحظة، وربّما تكون بمعنى أقل قدر من الزمن، وإن كانت الساعة تعني في عرفنا الحاضر اليوم مدة واحد من أربع وعشرين ساعة في اليوم.
الردّ على خطأ:
رأت بعض المذاهب المختلفة التي ظهرت في القرون الأخيرة بغية الوصول إلى أهدافها، أن تزعزع ـ بظنها ـ قبل أي شيء أُسس خاتمية رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا تمسكت ببعض الآيات القرآنية التي لا تدل على هدفها، وبمعونة من تفسيرها بالرأي، وشيء من المغالطة والسفسطة للتدليل على مقصودها.
ومن تلك الآيات الآية المبحوثة هنا. فقالوا: إنّ القرآن يصرّح بأنّ لكل أُمّة أجلا ونهاية، والمراد من الأُمّة الدين والشريعة، ولهذا فإنّ للدِّين الإسلامي أمداً ونهاية أيضاً!.
إنّ أفضل الطرق لتقييم هذا الإستدلال هو أن ندرس المعنى الواقعي للفظة
[32]
الأُمّة في اللغة، ثمّ في القرآن الكريم.
يستفاده من كتب اللغة، وكذا من موارد استعمال هذه اللفظة في القرآن الكريم، والتي تبلغ 64 موضعاً، إنّ الأُمّة في الأصل تعني الجماعة.
فمثلا في قصة موسى نقرأ هكذا: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أُمّة من الناس يسقون)(1) أي يمتحون الماء من البئر لأنفسهم ولأنعامهم.
وكذا نقرأ في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (ولتكن منكم أُمّة يدعون إلى الخير)(2).
كما نقرأ أيضاً: (وإذا قالت أُمّة منهم لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم)(3). والمعنيون بالأُمّة هم أهالي مدينة إيلة من بني إسرائيل.
ونقرأ حول بني إسرائيل: (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أُمماً)(4).
من هذه الآيات يتّضح جيداً أنّ الأُمّة تعني الجماعة، ولا تعني الدين، ولا أتباع الدين، ولو أنّنا لاحظنا استعمالها في أتباع الدين، فإنّما هو بلحاظ أنّهم جماعة.
وعلى هذا الأساس يكون معنى الآية المبحوثة هنا هو أنّ لكل جماعة من الجماعات البشرية نهاية، فليس آحاد الناس هم الذين يموتون، وتكون لأعمارهم آجال وآماد فحسب، بل الأُمم هي الأُخرى تموت، وتتلاشى وتنقرض.
وأساساً لم تستعمل لفظة الأُمّة في الدين أبداً، ولهذا فإنّ الآية لا ترتبط بمسألة الخاتمية مطلقاً.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ القصص، 23.
2 ـ آل عمران، 104.
3 ـ الاعراف، 164.
4 ـ الاعراف، 160.
[33]
الآيتان
يَـبَنِى ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ35وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَـتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ أُولَئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ 36
التّفسير
تعليم آخر لأبناء آدم:
مرّة أُخرى يخاطب الله سبحانه أبناء آدم وذريّته، إذ يقول: (يا بني آدم إمّا يأتينّكم رسل منكم يقصّون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(1) أي إذا أتاكم رسلي يتلون عليكم آياتي فاتّبعوهم، لأنّ من اتّقى منكم واتبعهم وأصلح نفسه والآخرين كان في أمن من عذاب الله الأليم، فلا يخاف ولا يحزن.
وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه وتعالى قائلا: (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أُولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "أمّا" مركبة في الأصل من "أن"، و "ما" و "إن" حرف شرط و "ما" حرف للتأكيد.
[34]
فتلك عاقبة المؤمنين، وهذه عاقبة المكذبين لهم.
رد على سفَسطة أُخرى:
أقدم جماعة من مختلقي الأديان والمذاهب في العصور الأخيرة ـ على غرار ما قلنا في تفسير الآيات السابقة ـ على التمسك بطائفة من الآيات القرآنية بغية تعبيد الطريق لأهدافهم والتمهيد لتحقيقها، وادعوا كونها دليلا على نفي خاتمية رسول الإسلام، على حين لا ترتبط هذه الآيات بتلك المسألة قط.
ومن تلكم الآيات الآية الحاضرة، فهم من دون أن يلاحظوا ما يسبقها وما يلحقها من الآيات قالوا: إن "يأتينّكم" فعل مضارع، ويدلّ على أنّه من الممكن أن يبعث الله رسلا آخرين في المستقبل.
ولكن لو رجعنا إلى الوراء قليلا، واستعرضنا الآيات التي تتحدث عن خلقة آدم وسكونته في الجنّة، ثمّ إخراجه منها هو وزوجته. ولاحظنا أنّ المخاطبين في هذه الآيات ليسوا المسلمين، بل مجموع البشر وجميع أبناء آدم، لاتضح جواب هذه الشّبهة وردّ هذا الإستدلال، لأنّه لا شك أنّه قد بعث لمجموع أبناء آدم رسل كثيرون، جاء ذكر أسماء طائفة معتد بها في القرآن الكريم، وجاء ذكر آخرين في كتب التواريخ.
غاية ما في الأمر أنّ هذا الفريق من مختلقي المذاهب والأديان، تجاهلوا الآيات السابقة بغية إضلال الناس وخداعهم، وقالوا: إنّ المخاطبين في هذه الآية هم خصوص المسلمين، وإستنتجوا من ذلك إمكان وجود رسل آخرين.
إنّ لأمثال هذه السفسطات نظائر كثيرة في السابق، وبخاصّة في حالة الفصل بين آية وأُخرى وجملة وأُخرى، والتغافل عن سوابق الآية ولواحقها، فينتزعون منها مفهوماً يوافق رغباتهم وإن كان يقابل المفهوم الواقعي للآية في الحقيقة.
* * *
[35]
الآية
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِايَـتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَـبِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَـفِرِينَ 37
التّفسير
من هذه الآية فما بعد تتضمّن الآيات بيان أقسام مختلفة من المصير السيء الذي ينتظر المفترين والمكذبين لآيات الله تعالى، وفي البداية تشير إلى كيفية حالهم عند الموت، إذ تقول: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته).
وكما أسلفنا ـ في سورة الأنعام في ذيل الآية 21 ـ لقد عرف "أظلم الناس" في عدّة آيات من القرآن الكريم بتعابير مختلفة، ولكن الصفات التي ذكرت لهم تعود كلّهم إلى جذر واحد، وهو الشرك وعبادة الأصنام وتكذيب آيات الله سبحانه. وفي الآية المبحوثة هنا ذكرت مسألة الإفتراء على الله سبحانه كصفة بارزة من صفاتهم، مضافاً إلى صفة التكذيب بالآيات الإِلهية.
[36]
ونظراً إلى أنّ منشأ جميع أنواع الشقاء في نظر القرآن هو الشرك، ورأس مال جميع السعادات هو التوحيد، يتّضح لماذا يكون هؤلاء الضالون المضلون أظلم الناس. إنّ هؤلاء ظلموا أنفسهم كما ظلموا المجتمع الذي يقيمون فيه، إنّهم يغرسون النفاق والتفرقة في كل مكان، ويشكّلون سدّاً ومانعاً كبيراً في طريق وحدة الصفوف والتقدم والإصلاحات الواقعية(1)
ثمّ إنّه تعالى يصف وضعهم عند الموت فيقول: (أُولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم). أي أنّ هؤلاء سيأخذون ما هو نصيبهم وما هو مقدر مكتوب لهم من النعم المختلفة، حتى إذا استوفوا حظهم من العمر، وانتهوا إلى آجالهم النهائية، حينئذ تأتيهم ملائكتنا الموكلون بقبض أرواحهم.
والمراد من "الكتاب" هي المقدرات من النعم المختلفة التي قدرها الله تعالى لعباده في هذا العالم، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب هو العذاب الإلهي، أو ما هو أعمّ من المعنيين.
ولكن بالنظر إلى كلمة (حتى) التي تشير عادة إلى إنتهاء الشىء، يتّضح أنّ المراد هو فقط نعم الدنيا المتنوعة المختلفة التي لكل أحد فيها حظ ونصيب، سواء المؤمن أو الكافر، الصالح والطالح، والتي تؤخذ عند الموت، لا العقوبات الإلهية التي لا تنتهي بحلول الموت، والتعبير بالكتاب عن هذه النعم والمقدرات إنّما هو لأجل شبهها بالأُمور التي تخضع للتقسيم والأسهم وتكتب.
وعلى كل حال، فإنّ عقوباتهم تبدأ منذ لحظة حلول الموت، ففي البداية يواجهون التوبيخ وعتاب الملائكة المكلّفين بقبض أرواحهم، فيسألونهم: أين معبوداتكم الّتي اتخذتموها من دون الله والتي طالما تحدثتم عنها، وكنتم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية (21) من سورة الأنعام.
[37]
تسوقون إليها ثرواتكم سفهاً. (قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله).
فيجيبهم هؤلاء بعد أن يرون أنفسهم منقطعين عن كلّ شيء، ويرون كيف تبددت جميع أوهامهم وتصوراتهم الخاطئة حول آلهتهم وذهبت أدراج الرياح، قائلين: لا نرى منها أثراً وإنّها لا تملك أن تدافع عنّا، وإنّ جميع ما فعلناه من العبادة لها كان عبثاً وباطلا (قالوا ضلّوا عنّا).
وهكذا يشهدون على أنفسهم بالكفر والضلال (وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين).
إنّ ظاهر المسألة وإن كان يوحي بأنّ الملائكة تسأل وأنّهم يجيبون، ولكنّه في الحقيقة نوع من العقوبة النفسية لهم يُلفتون بها نظرهم إلى الوضع المأساوي الذي يصيبهم من جراء أعمالهم، ويرونهم كيف ضلوا وتاهوا في المتاهات والضلالات مدة طويلة من العمر، وضيّعوا كل رؤوس أموالهم الثمينة دون جدوى دون أن يحصدوا منها حصيلة مسِرَّة مشرّفة في حين أغلق في وجههم طريق العودة، وهذا هو أوّل سوط جهنّمي من سياط العقوبة الإلهية التي تتعرض لها أرواحهم.
* * *
[38]
الآيتان
قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمِ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِّنَ الْجِنّ وَالاِْنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتَ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَيهُمْ لاُِولَيهُمْ رَبَّنَا هَؤلاَءِ أَضَلُّونَا فَأتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعلَمُونَ 38 وَقَالَتْ أُولَيهُمْلاُِخْرَيهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 39
التّفسير
تنازع القادة والاتباع في جهنم!
في هذه الآية يواصل القرآن الكريم بيان المصير المشؤوم للمكذبين بآيات الله.
ففي الآيات السابقة صُور لنا وضعهم عند حلول الموت، وسؤال الملائكة القابضة للأرواح لهم، وهنا يرسم لنا ما يجري بين الجماعات المظلّة والغاوية، وبين من تعرضوا للإغواء في يوم القيامة.
ففي يوم القيامة يقول الله لهم: التحقوا بمن يشابهكم من الجن والإنس ممن
[39]
سبقوكم، وذوقوا نفس مصيرهم النّار (قال ادخلوا في أُمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النّار).
إنّ هذا الأمر يمكن أن يكون بشكل أمر تكويني، يعني أن يجعلهم جميعاً في مكان واحد، أو يكون شبيهاً بأمر تشريعي يصدر إليهم يسمعونه بآذانهم، ويكونون مجبورين على إطاعته.
وعندما يدخل الجميع في النّار تبدأ مصادماتهم مع زملائهم وأشباههم في المسلك، وهي مصادمات عجيبة، فكلّما دخلت جماعة منهم في النّار لعنت الأُخرى واعتبرتها سبباً لشقائها ومسؤولة عن بلائها ومحنتها (كلّما دخلت أُمّة لعنت أختها).(1)
ولعلنا قلنا مراراً: إنّ ساحة القيامة وما يجري فيها انعكاس واسع وكبير لمجريات هذه الدنيا. فلطالما رأينا في هذا العالم الجماعات والفرق والأحزاب المنحرفة تلعن إحداها الأُخرى، وتبدي تنفرها منها. على العكس من أنبياء الله، والمؤمنين الصالحين، والمصلحين الخيّرين، فإنّ كل واحد منهم يؤيّد برنامج الآخر، ويعلن عن ارتباطه به واتحاده معه في الأهداف والغايات.
إلاّ أنّ الأمر لا ينتهي إلى هذا الحدّ، بل عندما يستقر الجميع ـ بمنتهى الذلّة والصغار ـ في الجحيم والعذاب الأليم، تبدأ كل واحدة منها برفع شكايتها إلى الله من الأُخرى.
فقي البداية يبدأ المخدوعون المغرّر بهم بعرض شكايتهم، وحيث أنّهم لا يجدون مناصاً ممّا هم فيه يقولون: ربّنا إنّ هؤلاء المغوين هم الذين أضلونا وخدعونا، فضاعف يا ربّ عذابهم، عذاباً لضلالهم وعذاباً لإضلالهم إيّاناً. وهذا هو ما يتضمّنه قوله تعالى: (حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أُخراهم لأُوليهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التعبير بالاُخت كناية عن الإرتباط الفكري والصّلة الرّوحية بين هذه الفرق المنحرفة، وحيث أنّ الأُمّة مؤنث لفظي، لهذا عبّر عنها بالاُخت، لا الأخ.
[40]
ربّنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النّار).
ولا شك أنّ هذا الطلب منطقي ومعقول جدّاً، بل إنّ المضلين سينالون ضعفاً من العذاب حتى من دون هذا الطلب، لأنّهم يتحملون مسؤولية انحراف من أضلوا أيضاً دون أن ينقص من عذابهم شيء، ولكن العجيب هو أن يقال لهم في معرض الإجابة على طلبهم: سيكون لكلتا الطائفتين ضعفان من العذاب وليس للمضلين فقط (قال لكل ضعفٌ ولكن لا تعلمون).
ومع الإمعان والدقة يتّضح لماذا ينال المخدوعون المضللون ضعفاً من العذاب أيضاً، لأنّه لا يستطيع أئمّة الظلم والجور ورؤوس الإنحراف والضلال أن ينفذوا لوحدهم برامجهم، بل هؤلاء الأتباع المعاندُون المتعصبون لأسيادهم هم الذين يمدون قادة الضلال ورؤوس الإنحراف بالقوّة والمدّد الذي يوصلهم إلى أهدافهم الشريرة، وعلى هذا الأتباع يجب أن ينالوا ضعفاً من العذاب أيضاً، عذاباً لضلالهم هم، وعذاباً لمساعدتهم للظالمين وإعانتهم قادة الإنحراف.
ولهذا نقرأ في حديث معروف عن الإمام الكاظم(عليه السلام) حول أحد شيعته يدعى صفوان، حيث نهاه عن التعاون مع هارون الرشيد قائلا: "يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً".
قلت: جعلت فداك أي شيءً؟
قال(عليه السلام): إكراؤك جمالك من هذا الرجل (هارون الرشيد العباسي).
قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق (يعني طريق مكّة)...
فقال لي(عليه السلام): ياصفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك.
فقال لي: أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك. قلت: نعم.
[41]
قال(عليه السلام): "من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النّار". (1)
وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والإنحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت، فإذا قلنا فقد أيدتم، وإذا خطونا فقد ساعدتم، وإذا ظلمنا فقد عاونتم، وإذن فذوقوا بإزاء أعمالكم عذاب اللّه الأليم، (وقالت أُولهم لأُخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون).
والمقصود من "الأُولى" الطائفة الأُولى أي القادة (قادة الضلال الإنحراف) والمقصود من "الأُخرى" الأتباع، والأنصار.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، ج17، ص182، 17.
[42]
الآيتان
إنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُْمجْرِمِينَ 40 لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاش وَكَذلِكَ نَجْزِى الظَّلِمينَ 41
التّفسير
مرّة أُخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين، يعني أُولئك الذين لا يخضعون لآيات الله ولا يستسلمون للحق، فيقول: (إنّ الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء).
وقد جاء في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام): "أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد: اهبطوا به إلى سجّين".(1)
وقد رويت بهذا المضمون أحاديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير الطبري وسائر التفاسير، في ذيل الآية المبحوثة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان في ذيل الآية المبحوثة.
[43]
من الممكن أن يكون المقصود من السماء هنا معناه الظاهر، وكذا يمكن أن تكون كناية عن مقام القرب الإلهي، كما نقرأ في الآية (9) من سورة فاطر: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).
ثمّ أضاف قائلا: (ولا يدخلون الجنّة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط)، أي حتى يدخل البعير في ثقب الاُبرة.
إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسّي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنّة، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الاُبرة، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنّة مطلقاً.
و "الجمل" في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثاً، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضاً(1).
وحيث إنّ بين الحبل والإبرة تناسباً أقوى وأكثر، لهذا ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية، ولكن أكثر المفسّرين الإسلاميين رجّح المعنى الأوّل، وهم على حق في هذا الإتجاه لأُمور:
أوّلا: إنّ في أحاديث أئمّة الإسلام كذلك تعابير تناسب التّفسير الأوّل.
ثانياً: إنّه يلاحظ نظير هذا التّفسير حول الأثرياء (المتكبرين الأنانيين) في الإنجيل أيضاً، ففي إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25 نقرأ هكذا: إنّ عيسى قال: "ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله".
ولا أقل يستفاد من هذه العبارة أنّ هذه الكناية كانت متداولة بين الشعوب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع "تاج العروس"، و "القاموس" مادة الجمل.
[44]
منذ قديم الزمان.
وقد نستعمل هذا المثل أيضاً، في محاوراتنا اليومية الآن، فيقال عن الأشخاص المتشدّدين جدّاً أحياناً، والمتساهلين جدّاً أحياناً أُخرى: (إنّ فلاناً تارةً لا يدخل من باب المدينة، وتارةً يدخل من ثقب إبرة).
ثالثاً: بالنظر إلى أنّ استعمال لفظة الجمل في المعنى الأوّل (أي البعير) أكثر، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جداً، لهذا يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب.
وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلا: (وكذلك نجزي المجرمين).
وفي الآية اللاحقة يشير إلى قسم آخر من عقوبتهم المؤلفة إذ يقول: (لهم من جهنّم مهاد و من فوقهم غواش)(1).
ثمّ يضيف للتأكيد (وكذلك نجزي الظّالمين).
والملفت للنظر والطريف: أنّه يعبّر عنهم مرّة بـ "المجرم" ومرّة بـ "الظالم" وثالثة بـ "المكذبين" لآيات الله، ورابعة بـ "المستكبرين"، وترجع جميعها إلى حقيقة واحدة في الواقع.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المهاد جمع مهد وزان عهد أي الفرش، والغواش في الاصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء، كما أنّه يطلق على الخيمة أيضاً، وفي الآية الحاضرة يمكن أن يكون بمعنى الخيمة أو بمعنى الغطاء.
[45]
الآيتان
وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَآ أُولئِكَ أَصْحبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُون 42 وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الاَْنْهرُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِى هَدَينَا لِهَذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاَ أَنْ هَدَينَا اللهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 43
التّفسير
الطّمأنينة الكاملة والسّعادة الخالدة:
إنّ أُسلوب القرآن ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ هو عرض الطوائف المختلفة وبيان مصائرها جنباً إلى جنب لتأكيد الموضوع، وشرح أوضاعها عن طريق المقارنة والمقايسة بينها.
ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات الله، والمستكبرين والظالمين، وهنا يشرح ويبيّن المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول: (والذين آمنوا وعملوا الصّالحات ... أُولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون).
[46]
وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة(1). توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول: (لا نكلّف نفساً إلاّ وسعها).
وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الايمان بالله، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين، أمر متعسر غير مقدور إلاّ لأفراد معدودين، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها، وبهذا فتح الطريق في وجه كل أحد عالماً كان أو جاهلا، صغيراً كان أو كبيراً، ودعا الجميع إلى اللحاق بهذا الصف، فالمطلوب من كل أحد العمل بمقدار قابليته الفكرية والبدنية وإمكانياته.
إنّ هذه الآية ـ مثل سائر الآيات القرآنية ـ تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل الصالح، وهكذا تفنَّد العقيدة النّصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة، ويقولون: إنّه قربان لخطايا الإنسانية.
إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.
وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة، والتي تكون سبباً لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية، إذ قال (ونزعنا ما في صدورهم من غلّ).
و (الغِل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّاً، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل)، وإنّما يطلق "الغلول" على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّاً لإرتكاب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ينبغي أن لا يتصور أحد بأنّ معنى الجملة المعترضة هو أنّ مفادها أجنبي وغريب من الموضوع المعترض، بل لابدّ أنّ هناك ارتباطاً ما بينها و بين ما قلبها وما بعدها، وإن كانت من حيث التركيب توسطت كلاماً متصلا، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة المعترضة معترضة من حيث التركيب اللفظي، لا من حيث ا لمعنى.
[47]
خيانة.(1)
وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة، ومصدر الكثير من الصراعات الإجتماعية الواسعة التي تؤدي ـ مضافاً إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس ـ الى زعزعة الاستقرار الروحي، هو الحسد والحقد.
فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية.
إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معاً في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة.
إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون مَن فوقهم أبداً، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي.
ولقد نقل بعض المفسّرين حديثاً في المقام عن السدّي قال: "إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأُخرى فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبداً"(2).
إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو "السّدي" ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ للمزيد من التوضيح راجع الآية (161) من سورة آل عمران.
2 ـ تفسير المنار، المجلد 8، الصفحة 421.
[48]
الأصل، لأنّ هذه الأُمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الإطلاع عليها.
وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطناً وظاهراً، جسماً وروحاً، فهم يتحلون بالجمال الجسماني، والجمال الروحاني معاً، ولهذا فهم لا يعانون، ـ مطلقاً ـ من الحسد والحقد.
فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أُخرى، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة.
وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية، يُشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية، فيقول: (تجري من تحتها الأنهار).
ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).
وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم (ونودوا أن تلكم الجنّة أورثتموها بما كنتم تعملون).
ومرّة أُخرى نصل إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح، وليسن بالأماني والظنون الخاوية.
و"الإرث" في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الإنتقال عبر مسير طبيعي تلقائي، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خَلَفه.
لماذا عبّر بالإرث؟
وهنا ينقدح سؤال وهو: كيف يقال لأهل الجنّة: هذه النعم أُورثتموها لقاء أعمالكم؟
[49]
والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)حيث يقول: "ما من أحد إلاّ وله منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون".(1)
فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة، أو من أهل النّار، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.
ومن البديهي أنّه عندما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.
وعلى كل حال، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر، وثبوت الإِختيار وحرية الإرادة في الإِنسان.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 31، وتفسير القرطبي، المجلد الرّابع، الصفحة 2645، وتفاسير أُخرى.
[50]
الآيتان
وَنَادَى أَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَـبَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهلْ وَجَدتُم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقَّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّلمِينَ 44 الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَْخِرَةِ كَـفِرُونَ45
التّفسير
بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار، أشار هنا إلى حوار هذين الفريفين في ذلك العالم، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.
فيقول أوّلا: (ونادى أصحابُ الجنّة أصحابَ النّار أن قد وجدنا ما وَعَدَنا ربُّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً).
فيجيبهم أهل النّار قائلين: نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة (قالوا: نعم).
ويجب الإِلتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضياً، إلاّ أنّه هنا يعطي معنى المضارع، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم، حيث يذكر الحوادث التي تقع فى المستقبل حتماً بصيغة الفعل الماضي، وهذا يعدّ نوعاً من التأكيد، يعني أنّ
[51]
المستقبل واضح جدّاً، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.
على أنّ التعبير بـ "نادى" الذي يكون عادةً للمسافة البعيدة، يصوّر بُعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.
وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو: وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟
وجواب هذا السؤال معلوم، لأنّ السؤال ليس دائماً للحصول على المزيد من المعلومات، بل قد يتّخذ أحياناً صفة العتاب والتوبيخ والملامة، وهو هنا من هذا القبيل. و هذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عندما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة، والملامات المزعجة، فلابدّ ـ في الآخرة ـ أن ينالوا عقاباً من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة، منها ما في آخر سورة المطففين.
ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع: أن لعنة الله على الظالمين (فأذّنَ مُؤَذِّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين).
ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله: (الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون)(1).
ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أُخرى أنّ جميع الإنحرافات والمفاسد قد إجتمعت في مفهوم "الظلم" وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب، والآثام، وخصوصاً الضالون المضِلُّون.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يبغونها عوجاً بمعنى يطلبونها عوجاً، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسمومة عن الطريق المستقيم. كما أنّ الراغب قال في "المفردات": عَوج (بفتح العين) يعني الإعوجاج الحسي، وعوج بكسر العين يطلق على الإعوجاجات التي تدرك بالفكر والعقل، ولكن هذا التفصيل لا ينسجم مع ظاهر طائفة من الآيات القرآنية مثل الآية (107) من سورة طه (فتأمل بدقّة).
[52]
من هو المُؤذِّن! والمنادي؟
مَن هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟
لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين علي(عليه السلام).
روى الحاكم أبوالقاسم الحسكاني ـ الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن "محمّد بن الحنفية" عن علي(عليه السلام) أنّه قال: "أنا ذلك المؤذّن".
وهكذا روى بسنده عن "ابن عباس" أنّ لعلّي(عليه السلام) أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس، منها "المؤذّن" في قول الله تعالى: (فأذن مؤذنُ بينهم) فهو الذي ينادي بين الفريفين أهل الجنّة وأهل النّار، ويقول: "ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي"(1).
ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة، منها ما رواه الصّدوق(رحمه الله) بسنده عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) خطب بالكوفة منصرفه في نهروان، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه، فقام خطيباً (إلى أن قال): "وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة، قال الله عزَّوجلَّ (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة اللّه على الظالمين) أنا ذلك المؤذن، وقال: (وأذان من اللّه ورسوله) أنا ذلك الأذان"(2).
ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) مؤذناً ومنادياً في ذلك الوقت هو:
أوّلا: لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا أيضاً، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأُولى من سورة البراءة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.
2 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 17.
[53]
على مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج، تلك الآيات التي تبدأ بقوله: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسوله)(1).
ثانياً: إنّ موقف الإمام علي(عليه السلام) طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم، والنضال ضدالظالمين، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.
أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.
فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق، لم يبق أي مجال لإستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار، بأمر من الله والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو على(عليه السلام).
من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب "المنار" الذي شكك في كون هذا المقام لعلي(عليه السلام) فضيلة، إذ يقول: ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأدين إليه كرم الله وجهه معنىً يعدُّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح.(2)
إذ يجب أن نقول له: كما أنّ النيابة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائله(عليه السلام)، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمراراً لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضاً.
كما يتّضح ممّا قلناه ـ أيضاً ـ الردّ على ما كتبه "الآلوسي" كاتب تفسير "روح المعاني" الذي قال: ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التوبة، 3.
2 ـ تفسير المنار، ج 8، ص 426.
[54]
الله تعالى وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنّة(1).
لأن هذا الحديث ـ كما أسلفنا ـ نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم، فلا مجال للتشكيك في صدوره.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روح المعاني، ج 8، ص 123.
[55]
الآيات
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاَْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ أَن سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ 46 وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـرُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـبِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَومِ الظَّلِمِينَ 47 وَنَادَى أَصْحبُ الاَْعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَهُمْ قَالُوا مَآ أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ 48 أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ 49
التّفسير
الأعراف معبر مهم إلى الجنّة:
عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانباً من قصّة أهل الجنّة وأهل النّار، تحدث في هذه الآيات حول "الأعراف" التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنّة والنّار مع خصوصياتها.
[56]
وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنّة وأهل النّار، إذ يقول: (وبينهما حجاب).
ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو "الأعراف" وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه، كما مرّ في الآيات السابقة.
فلطالما رأينا جيرة يتحادثون من وراء الجدار، ويستجلي أحدهما حال الآخر دون أن يراه، على أنّ الذين يقفون على الأعراف، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع، يرون كلا الفريقين (تأملوا جيداً).
ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم، مثل الآيه (55) من سورة الصافات، أن أهل الجنّة ربّما تطّلعوا من أماكنهم وشاهدوا أهل النّار، ولكن مثل هذه الموارد الإستثنائية لا تنافي ما عليه وضع الجنّة والنّار أساساً، وإنّ ما قلناه آنفا يعكس ويصور الكيفية لهذين المكانين، وإن كان لهذا القانون ـ أيضاً ـ بعض الإستثناءات، فيمكن أن يشاهد بعض أهل الجنّة أهل النّار في شرائط خاصّة.
إنّ ما يجب أن نذكر به مؤكدين قبل الخوض في بيان كيفية الأعراف هو أن التعابير الواردة حول القيامة والحياة الأُخرى لا تستطيع ـ بحال ـ أن تكشف القناع عن جميع خصوصيات تلكم الحياة، بل للتعابير ـ أحياناً ـ صفة التشبيه والتمثيل.
وأحياناً تكشف بعض تلك التعابير عن مجرّد شبح في هذا المجال، لأنّ الحياة في ذلك العالم تكون في آفاق أعلى، وهي أوسع بمراتب كثيرة من الحياة في هذا العالم، تماماً مثل سعة الحياة الدنيا هذه بالقياس إلى عالم الرحم والجنين. وعلى هذا فلا عجب إذا كانت الألفاظ والمفاهيم المتداولة في هذا العالم لا تستطيع أن تعكس بصورة كاملة ومعبّرة تلك المفاهيم.
[57]
ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاًّ بسيماهم)يرون كلاًّ من أهل الجنّة وأهل النّار ويعرفونهم بملامح وجوههم.
و "الأعراف" في اللغة جمع "عرف" بمعنى المحل والموضع المرتفع، ولهذا يطلق على شعر ناصية الفرس، والريش الموجود على عنق الديك لفظ العُرف، فيقال "عرف الفرس" أو "عرف الديك"، ومن هذا المنطلق يطلق على المكان المرتفع من البدن لفظ العرف أيضاً (وسوف نتحدث بتفصيل حول خصوصيات منطقة الأعراف التي جاء ذكرها في هذه الآية بعد الفراغ من تفسير الآيات).
ثمّ يقول: إنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنّة ويسلّمون عليهم، ولكنّهم لا يدخلون الجنّة وإن كانوا يرغبون في ذلك (ونادوا أصحاب الجنّة أن سلام عليكم. لم يدخلوها وهم يطمعون).
ولكن عندما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النّار يصطلون فيها، يتضرعون إلى الله طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النّار قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)(1).
والجدير بالذكر أنّه استخدم في رؤية أهل النّار في الآية لفظة (وإذا صرفت أبصارهم) يعني عندما تعطف أبصارهم نحو جهنم لمشاهدة أهلها، وهذه إشارة إلى أنّهم يكرهون مشاهدة أهل النّار، وكأنّ نظرهم إليهم مقرون بالإكراه والإجبار.
وفي الآية اللاحقة يضيف: إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقاً من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين: أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبّر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئاً، فأين تلك الأموال و أُولئك الأعوان؟ وماذا حصدتم من تلك المواقف والصفات السيّئة؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تلقاء" في الأصل ـ حسب قول بعض المفسّرين وأهل الأدب ـ مصدر، وهو بمعنى المقابلة، ولكن استعمل فيما بعد في معنى ظرف المكان، أي في المكان المقابل والمحاذي.
[58]
(ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم، وما كنتم تستكبرون).
ومرّة أُخرى يقولون موبخين ومعاتبين، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف: (أهؤلاء الذين اقسمتم لا ينالهم الله برحمة).
وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين، ويقال لهم (ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
من كل ما قلنا اتضح أنّ المراد من ضعفاء المؤمنين هم الذين آمنو وعملوا الصالحات، ولكنّهم بسبب تورطهم في بعض الذنوب كانوا موضع ازدراء من قبل أعداء الحق في الدنيا، وكانوا يركزون على هؤلاء ويقولون: كيف يمكن لمثل هؤلاء أن تشملهم الرحمة الإلهية؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يسعدوا؟ ولكن روح الإيمان والحسنات التي كانت عندهم فعلت فعلتها ـ في المآل ـ وفي ظلّ اللطف الرّباني والرحمة الإلهية، فسعدوا ودخلوا الجنّة.
من هم أصحاب الأعراب:
"الأعراف" في الأصل ـ و كما أسلفنا ـ منطقة مرتفعة، ويتّضح في ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئمّة الإسلام، أنّه مكان خاص بين قطبي السعادة والشقاء، أي الجنّة والنّار. وهو كحجاب حائل بين هذين، أو كأرض مرتفعة فصلت بين هذين الموضعين بحيث يشرف من يقف عليها على الجنّة والنّار، ويشاهد كلا الفريقين، ويعرفهم بوجوههم المبيضة أو المسودة، المشرقة أو المظلمة المكفهرة.
والآن لنرى من هم الواقفون على الأعراف؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟
إنّ دراسة الآيات الأربع المبحوثة هنا تفيد أنّه ذكر لهؤلاء الأشخاص نوعين متناقضين مختلفين من الصفات.
[59]
فقي الآية الأُولى والثّانية وصف الواقفون على الأعراف بأنّهم يتمنون أن يدخلوا الجنّة، ولكنّ ثمّة موانع تحول دون ذلك، وعندما ينظرون إلى أهل الجنّة يحيونهم ويسلمون عليهم ويودون لو يكونون معهم، ولكنّهم لا يستطيعون فعلا أن يكونوا معهم، وعندما ينظرون إلى أهل النّار يستوحشون ممّا آلوا إليه من المصير، ويتعوذون بأنّه من ذلك المصير، ومن أن يكونوا منهم.
ولكن يستفاد من الآية الثّالثة والرّابعة بأنّهم أفراد ذوو نفوذ وقدرة، يوبخون أهل النّار ويعاتبونهم، ويساعدون الضعفاء في الأعراف على العبور إلى منزل السعادة.
وقد قسمت الرّوايات الواردة في هذا المجال أهل الأعراف الى هذين الفريقين المختلفين أيضاً.
ففي بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) نقرأ: "نحن الأعراف"(1) أو عبارة: "آل محمّد هم الأعراف"(2) وما شابه هذه التعابير.
ونقرأ في طائفة أُخرى عبارة: "هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى"(3) أو "هم الشهداء على الناس والنّبيون شهداؤهم"(4) وروايات أُخرى تحكي أنّهم الأنبياء والأئمّة والصلحاء والأولياء.
ولكن طائفة أُخرى مثلما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) تقول: "هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فإن أدخلهم النّار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته".(5)
وثمّة روايات متعددة أُخرى في تفاسير أهل السنة قد رويت عن "حذيفة" و
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثاني، الصفحة 17 و18 و19.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ نورالثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 33 و 34.
5 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 17.
[60]
"عبدالله بن عباس" و "سعيد بن جبير" وأمثالهم بهذا المضمون(1).
ونرى في هذه التفاسير أيضاً مصادر تفيد أنّ أهل الأعراف هم الصلحاء والفقهاء والعلماء أو الملائكة.
وبالرغم من أنّ ظاهر الآيات وظاهر هذه الرّوايات تبدو متناقضة في بدو النظر، ولعله لهذا السبب أبدى المفسّرون في هذا المجال أراءً مختلفة، ولكن مع التدقيق والإمعان يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ومنافاة، لا بين الآيات ولا بين الأحاديث، بل جميعها تشير إلى حقيقة واحدة.
وتوضيح ذلك: إنّه يستفاد من مجموع الآيات والرّوايات ـ كما أسلفنا ـالأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنّة والسعادة الأبدية.
ومن الطبيعي أنّ الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة، أمّا الضعفاء الذي خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً فيعجزون عن العبور.
كما أنّه من الطبيعي أيضاً أن تقف قيادات الجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع. يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.
وعلى هذا الأساس، فأصحاب الأعراف فريقان: ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة، والأئمّة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.
وعلى هذا فإن الطائفة الأُولى من الآيات والأحاديث تشير إلى الفريق الأوّل من الواقفين على الأعراف، وهم الضعفاء، والطائفة الثّانية منها تشير إلى الفريق
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الطبري، المجلد 7، الصفحة 137 و 138 عند تفسير الآية.
[61]
الثّاني من أصحاب الأعراف، وهم السادة والأنبياء والأئمّة والصلحاء.
ونرى في بعض الرّوايات ـ أيضاً ـ شاهداً واضحاً وجلياً على هذا الجمع مثل الحديث المنقول عن الإمام الصّادق(عليه السلام) الذي قال فيه: "الأعراف كثبان بين الجنّة والنّار، والرجال الأئمّة يقفون على الأعراف مع شيعتهم وقد سبق المؤمنون إلى الجنّة بلا حساب". ويقصد من الشيعة الذي يقفون مع الأئمّة على الأعراف العصاة منهم.
ثمّ يضيف قائلا: "فيقول الأئمّة لشيعتهم من أصحاب الذنوب: انظروا إلى إخوانكم في الجنّة قد سبقوا إليها بلا حساب، وهو قوله تبارك وتعالى: (سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) ثمّ يقال: انظروا إلى أعدائكم في النّار، وهو قوله تعالى: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النّار قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)ثمّ يقولون لمن في النّار من أعدائهم: هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تختلفون (تحلفون) في الدنيا أن لا ينالهم الله برحمة، ثمّ تقول الأئمّة لشيعتهم: ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم وأنتم تحزنون(1).
ونظير هذا المضمون روي في تفاسير أهل السنة عن حذيفة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).
ونكرر مرّة أُخرى هنا أنّ الحديث حول تفاصيل وجزئيات القيامة وخصوصيات الحياة في العالم الآخر أشبه بما لو أننا أردنا أن نصف شبحاً من بعيد، في حين أنّ بين ذلك الشبح وبين حياتنا تفاوتاً واسعاً واختلافاً كبيراً، فما نفعله في هذه الصورة هو أنّنا نستطيع بألفاظنا المحدودة والقاصرة أن نشير إليه إشارة ناقصة قصيرة.
هذا، والنقطة الجديرة بالإلتفات هي أنّ الحياة في العالم الآخر مبتنية على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 19 و 20.
2 ـ تفسير الطبري، ج8 الصفحة، 142 و 143.
[62]
أساس النماذج والعيّنات الموجودة في هذه الدنيا، فهكذا الحال بالنسبة إلى الأعراف، لأنّ الناس في هذه الدنيا ثلاث فرق: المؤمنون الصادقون الذين وصلوا إلى الطمأنينة الكاملة في ضوء الإيمان، ولم يدخروا وسعاً في طريق المجاهدة. والمعاندون وأعداء الحق المتصلبون المتمادون في لجاجهم الذين لا يهتدون بأية وسيلة. والفريق الثّالث هم الذين يقفون في هذا الممر الصّعب عبوره ـ في الوسط بين الفريقين، وأكثر عناية القادة الصادقين وأئمّة الحق موجهة إلى هؤلاء، فهم يبقون إلى جانب هؤلاء، ويأخذون بأيديهم لإنقاذهم وتخليصهم من مرحلة الأعراف ليستقروا في صف المؤمنين الحقيقيين.
ومن هنا يتّضح أن تدخّل الأنبياء والأئمّة في انقاذ هذا الفريق في الآخرة كتدخلهم لذلك في الدنيا لا ينافي أبداً قدرة الله وحاكميته على كل شيء، بل كل ما يفعلونه إنّما هو بإذن الله تعالى وأمره.
* * *
[63]
الآيتان
وَنَادَى أَصْحَـبُ النَّارِ أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَآءِ أَوْ ممّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَـفِرينَ50الَّذِينَ اتّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيوةُ الدُّنيَا فَالْيَوْمَ نَنَسـهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُوا بِآيَـتِنَا يَجْحَدُونَ 51
التّفسير
نِعَم الجنّة حرام على أهل النّار:
بعد أن استقر كل من أهل الجنّة وأهل النّار في أماكنهم ومنازلهم، تدور بينهم حوارات نتيجتها العقوبة الروحية والمعنوية لأهل النّار.
وفي البداية يبدأ الكلام من جانب أهل النّار: (ونادى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله). فهم يطلبون أن يجودوا عليهم بشيء من الماء أو من نِعم الجنّة.
ولكن أهل الجنّة يبادرون إلى رفض هذا المطلب (قالوا إنّ الله حرمهما على الكافرين).
[64]
بحوث
هنا عدّة نقاط يجب أن نتوقف عندها ونلتفت إليها:
1 ـ يبدأ القرآن الكريم بأحاديث أهل النّار مع أهل الجنّة بلفظة (ونادى) التي تستعمل عادة للتخاطب من مكان بعيد، وهذا يفيد بأنّ بين الفريقين فاصلة كبيرة ومع ذلك يتمّ هذا الحوار ويسمع كل منهما حديث الآخر، وهذا ليس بعجيب، فلو أن المسافه بلغت ملايين الفراسخ لأمكن أن يسمع كل واحد منهما كلام الآخر، بل ويرى ـ في بعض الأحيان ـ الطرف الآخر.
ولو كان القبول بهذا أمراً متعذراً أو متعسراً في الماضي، وكانت تشكل مشكلة بالنسبة إلى السامعين، فإنّه مع انتقال الصوت والصورة في عصرنا الحاضر من مسافات بعيدة جداً انحلّت هذه المشكلة، ولم تعد الآية موضع تعجب وغرابة.
2 ـ إنّ أوّل طلب يطلبه أهل النّار هو الماء، وهذا أمر طبيعي، لأنّ الشخص الذي يحترق في النّار المستعرة يطلب الماء قبل أي شيء حتى يبرد غليلة ويرفع به عطشه.
3 ـ إنّ عبارة (ممّا رزقكم الله) التي هي عبارة مجملة، وتتسم بالإبهام، تفيد أنّه حتى أهل النّار لا يمكنهم أن يعرفوا بشيء من حقيقة النعم الموجودة في الجنّة وأنواعها. وهذا الموضوع يتفق وينسجم مع بعض الأحاديث التي تقول: (إنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
ثمّ إنّ عطف الجملة بـ "أو" يشير الى أنّ النعم الاخروية الأُخرى وخاصّة الفواكه يمكنها أن تحلّ محل الماء وتطفيء عطش الإنسان.
4 ـ إنّ عبارة (حرمهما الله على الكافرين) إشارة إلى أهل الجنّة بأنفسهم، ليسوا هم الذين يمتنعون عن إعطاء شيء من هذه النعم لأهل النّار، لأنّه لا يقلّ منها شيء بسبب الإعطاء، ولا أنّهم يحملون حقداً أو ضغينة على أحد في
[65]
صدورهم، حتى بالنسبة إلى أعدائهم، ولكن وضع أهل النّار بشكل لا يسمح لهم أن يستفيدوا من نعم الجنّة.
إنّ هذا الحرمان ـ في الحقيقة ـ نوع من "الحرمان التكويني" مثل حرمان كثير من المرضى من الأطعمة اللذيذة المتنوعة.
في الآية اللاحقة يبيّن سبب حرمانهم، ويوضح بذكر صفات أهل النّار أهل هذا المصير الأسود قد هيّأوه هم لأنفسهم، فيقول أوّلا: إنّ هؤلاء هم الذين اتخذوا دينهم لعباً (الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً).
وهذا إلى جانب أنّهم خدعتهم الدنيا واغتروا بها (وغرتهم الحياة الدنيا).
إنّ هذه الأُمور سببت في أن يغرقوا في وحل الشهوات، وينسوا كل شيء حتى الآخرة، وينكروا أقوال الأنبياء، ويكذبوا بالآيات الإلهية، ولهذا أضاف قائلا: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، وما كانوا بآياتنا يجحدون).
ومن البديهي أنّ المراد من "النسيان" الذي نُسِبَ هنا إلى الله هو بمعنى أنّنا نعاملهم معاملة الناسي تماماً، مثل أن يقول شخص لصديقه: (كما أنّك نسيتني فسوف أنساك أن أيضاً) أي أنني سوف أعاملك معاملة المتناسي لشيء.
كما أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ أوّل مرحلة من مراحل الإنحراف والضلال، هو أن لا يأخذ الإنسان قضاياه المصيرية بمأخِذ الجدّ، بل يتعامل معها معاملة المتسلّي والهازل، فتؤدي به هذه الحالة إلى الكفر المطلق، وإنكار جميع الحقائق.
* * *
[66]
الآيتان
وَلَقَدْ جِئْنَـهُم بِكِتَـب فَصَّلْنَـهُ عَلَى عِلْم هُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوم يُؤْمِنُونَ 52 هَلْ يَنْظرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأَتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُوا لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ 53
التّفسير
هذه الآية إشارة ـ في الدرجة الأُولى ـ إلى أنّ حرمان الكفار ومصيرهم المشؤوم إنّما هو نتيجة تقصيراتهم أنفسهم، وإلاّ فليس هناك من جانب الله أي تقصير في هدايتهم وقيادتهم وإبلاغ الآيات إليهم وبيان الدروس التربوية لهم، لهذا يقول تعالى: إنّنا لم نألُ جهداً ولم ندخر شيئاً في مجال الهداية والإرشاد، بل أرسلنا لهم كتاباً شرحنا فيه كل شيء بحكمة ودراية (ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم).
وهو كتاب فيه رحمة وهداية، لا للمعاندين الأنانيين، بل للمؤمنين (هدى ورحمة لقوم يؤمنون).
[67]
الآية اللاحقة تشير إلى الطريقة الخاطئة في تفكير العصاة والمنحرفين في صعيد الهداية الإلهية فيقول: (هل ينظرون إلاّ تأويله) أي كأنّ هؤلاء يتوقعون أن يروا نتيجة الوعد والوعيد الإلهي بعيونهم (أي يروا أهل الجنّة وهم فيها، وأهل النّار وهم فيها) حتى يؤمنوا.
ولكنّه توقّع سخيف، لأنّه عندما تُترجم الوعود الإلهية على صعيد الواقع ينتهي الامر، ولم يعد هناك مجال للرجوع ولا طريق للعودة، وهناك سيعترفون بأنّهم قد تناسوا كتاب الله وتجاهلوا التعاليم الإلهية التي أنزلها على رسله بالحق، وكان قولهم حقّاً أيضاً: (يوم يأتي تأويله يقول الذين نَسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق).
سيغرقون في هذا الوقت في قلق واضطراب، ويفكرون في مخلص ينقذهم من هذه المشكلة ويقولون (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا).
وإذا لم يكن هناك شفعاء لنا، أو إنّنا لا نصلح أساساً للشّفاعة، أفلا يمكن أن نرجع إلى الدنيا ونقوم بأعمال غير ما عملناه سابقاً، ونسلّم للحق والحقيقة (أو نردَّ فنعمل غير الذي كنّا نعمل).
ولكن هذا التنبيه جاء ـ وللأسف ـ متأخراً جداً، فلا طريق للعودة ولا صلاحية لهم للشفاعة، لأنّهم قد خسروا كل رؤوس أموالهم، وتورطوا في خسران جميع وجودهم (قد خسروا أنفسهم).
وسوف يثبت لهم أنّ أصنامهم ومعبوداتهم ليس لها أي دور هناك، وفي الحقيقة ضاعت ـ في نظرهم ـ جميعاً (وضلّ عنهم ماكانوا يفترون).
وكأنّ الجملتين الأخيرتين ردّ على طلبهم، يعني إذا كانوا يريدون شفعاء يشفعون فإنّ عليهم حتماً أن يتوسّلوا بأصنامهم التي كانوا يسجدون لها، في حين أنّ تلك الأصنام ولأوثان لا تكون مؤثرة هناك مطلقاً.
وأمّا عودتهم إلى الدنيا فإنّها ممكنة في ما لو بقي لديهم رأس مال، ولكنّهم
[68]
قد خسروا كل رؤوس أموالهم وفقدوا كل وجودهم.
من هذه الآية يستفاد أوّلا أنّ الإنسان حرّ مختار في أعماله، وإلاّ لما طلب العودة والرجوع إلى الدنيا لملافاة ما فات، وثانياً: إنّ العالم الآخر ليس مكان العمل واكتساب الفضائل والنجاة.
* * *
[69]
الآية
إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّام ثمّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثَاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَْمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَلَمِينَ 54
التّفسير
في الآيات السابقة قرأنا أنّ المشركين يقفون يوم القيامة على خطأهم الكبير في صعيد انتخاب المعبود، والآية الحاضرة تصف المعبود الحقيقي مع ذكر صفاته الخاصّة حتى يستطيع الذين يطلبون الحقيقة وينشدونها أن يعرفوه بوضوح في هذا العالم وقبل حلول يوم القيامة، ويبدأ حديثه هذا بقوله: (إنّ ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيام) أي أنّ المعبود لا يمكن أن يكون إلاّ من كان خالقاً.
هل خلق العالم في ستّة أيّام؟
لقد ورد البحث عن خلق العالم وتكوينه في ستّة أيّام، في سبعة موارد من
[70]
آيات القرآن الكريم(1)، ولكنّه في ثلاثة موارد أضيف إلى السماوات والأرض لفظة "وما بينهما" أيضاً. والتي هي في الحقيقة توضيح للجملة السابقة، لأنّ جميع هذه الأشياء تدخل في معنى السماوات والأرض، لأنّنا نعلم أنّ السماء تشمل جميع الأشياء التي توجد في الأعلى، والأرض هي النقطة المقابلة للسماء.
وهنا يتبادر هذا السؤال فوراً وهو: قبل أن تخلق السماوات والأرض لم يكن ليل ولا نهار ليقال: خلقت السماوات والأرض فيهما، لأنّ الليل والنهار ناشئان من دوران الأرض حول نفسها في مقابل الشمس.
هذا مضافاً إلى أنّ ظهور المجموعة الكونية في ستّة أيام ـ يعني أقل من اسبوع ـ يخالف العلم، لأنّ العلم يقول: لقد استغرق تكوّن الأرض والسماء حتى وصل الى الواضع الحالي ملياردات من السنوات والأعوام.
ولكن نظراً إلى المفهوم الواسع للفظة "يوم" وما يعادلها في مختلف اللغات، يكون جواب هذا السؤال واضحاً، لأنّه كثيراً ما يستعمل اليوم بمعنى الدورة، سواء استغرقت مدة سنة، أو مائة سنة، أو مليون سنة أو ملياردات السنين، والشواهد التي تثبت هذه الحقيقة، وتفيد أنّ أحد معاني اليوم هو الدورة، كثيرة:
1 ـ لقد استعملت لفظة اليوم والأيّام في القرآن الكريم مئات المرات، وفي كثير من الموارد لم تكن بمعنى الليل والنهار، مثلا يعبر عن عالم البعث بيوم القيامة، وهذا يشهد بأنّ مجموع عملية القيامة التي هي دورة طويلة الأمد والمدّة، تسمى يوم القيامة.
ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ يوم القيامة ومحاسبة أعمال الناس يستغرق خمسين ألف سنة (سورة المعارج الآية 4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وهي: الآية المبحوثة هنا، و3 يونس، و 7 هود، و 59 الفرقان و 4 السجدة و 38 ق، و4 الحديد.
[71]
2 ـ نقرأ في كتب اللغة أيضاً أنّ اليوم ربّما يطلق على الزمن بين طلوع الشمس وغروبها، وربّما على مقدار من الزمان مهما كان قدره، قال الراغب في المفردات: "اليوم يعبّر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يعبّر عن مدة من الزمان أي مدّة كانت".
3 ـ جاء في روايات أئمّة الدين وأحاديثهم ـ كذلك ـ استعمال اليوم بمعنى الدهر، كما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه قال: "الدّهر يومان: يوم لك، ويوم عليك".
ونقرأ في تفسير البرهان في تفسير هذه الآية، عن تفسير علي بن إبراهيم الإمام(عليه السلام) قال: "في ستة أيّام، أي في ستة أوقات"، أي في ست دورات.
4 ـ كثيراً ما نشاهد في المحاورات اليومية، وأشعار الشعراء في اللغات المختلفة، أنّ كلمة اليوم وما يعادلها قد استعملت بمعنى الدورة والعهد، مثلا نقول يوم كانت الكرة الأرضية حارة ومشتعلة، ويوم صارت باردة وظهرت فيها آثار الحياة، في حين أنّ فترة سخونة الأرض واشتعالها استغرقت ملياردات من الأعوام.
أو عندما نقول غصب آل أُمية الخلافة الإسلامية يوماً، وغصبها بنو العباس يوماً آخر. في حين أنّ فترة اغتصاب الأمويين للخلافة استغرقت عشرات السنين وفترة اغتصاب العباسيين لها استغرقت المئات.
من مجموع الحديث السابق نستنتج أنّ الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ست دورات متوالية، وإن استغرقت كل دورة من هذه الدورات ملايين أو ملياردات السنين، والعلم الحديث لم يبيّن أي أمر يخالف هذا الموضوع.
وهذه الدورات ـ احتمالا ـ هي على الترتيب:
1 ـ يوم كان الكون في شكل كتلة غازية الشكل، فانفصلت منها أجزاء
[72]
بسبب دورانها حول نفسها، وتشكلت من المواد المنفصلة الكرات والأنجم.
2 ـ هذه الكرات قد تحولت تدريجاً إلى هيئة كتلة من المواد الذائبة المشعة أم الباردة القابلة للسكنى.
3 ـ في دورة أُخرى تألفت المنظومة الشمسية وانفصلت الأرض عن الشمس.
4 ـ في الدورة الرّابعة بردت الأرض وأصبحت قابلة للحياة.
5 ـ ثمّ ظهرت النباتات والأشجار على الأرض.
6 ـ وبالتالي ظهرت الحيوانات والإنسان فوق سطح الأرض.
وكل ما ذكرناه أعلاه من الأدوار الستة لعملية خلق وتكوين السماوات والأرض تنطبق على الآيات (8) إلى (11) من سورة فصلت التي سيأتي تفسيرها في المستقبل إن شاء الله.
لماذا لم يخلق الله العالم في لحظة واحدة؟
وهنا يطرح سؤال آخر نَفسَه وهو: لماذا خلق الله السماوات والأرض في دورات عديدة وطويلة، وهو القادر على خلقها في لحظة واحدة؟
إنّ جواب هذا السؤال يمكن الوقوف عليه بالإلتفات إلى نقطة واحدة، وهي أنّ الخلق لو تمّ في لحظة واحدة، لكان ذلك أقل دلالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه، ولكن لما تمّت عملية الخلق والتكوين في مراحل مختلفة وأشكال متنوعة، وفق برنامج منظم محسوب، كان لذلك دلالة أوضح على معرفة الخالق.
ففي المثل لو كانت النّطفة البشرية تتبدل في لحظة واحدة إلى وليد كامل، لمّا كان ذلك يحكي عظمة الخلق والتكوين، ولكن عندما ظهر الوليد خلال 9 أشهر، وضمن برنامج دقيق واتخذ في كل يوم وشهر شكلا خاصاً وصورة خاصّة، استطاعت كل واحدة من هذه المراحل أن تقدّم آية جديدة من آيات العظمة
[73]
الإلهية، وتكون دليلا جديداً على قدرة الخالق.
ثمّ يقول القرآن الكريم: إنَّ الله تعالى بعد خلق السماوات والأرض أخذ زمام إدارتها بيده (أي ليس الخلق منه فقط، بل منه الإدارة والتدبير أيضاً) فقال تعالى: (ثمّ استوى على العرش).
وهذا جواب لمن يعتقد أنّ الكون محتاج إلى الله تعالى في الخلق والإيجاد دون البقاء.
ماهوالعرش؟
"العرش" في اللغة هو ما له سقف، وقد يطلق العرش على نفس السقف، مثل قوله تعالى: (أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها)(1).
وربّما يأتي بمعنى الأسرة الكبيرة المرتفعة، مثل أُسرة الملوك والسلاطين، كما جاء في قصة سليمان: (أيكم يأتيني بعرشها)(2).
وهكذا يطلق لفظ العرش على الأسقف التي يقيمها المزارعون لحفظ بعض الأشجار، وبخاصّة المتسلقة منها، كما نقرأ في القرآن الكريم (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات)(3).
ولكن عندما ينسب الى الله سبحانه وتعالى ويقال: عرش الله، يراد منه مجموعة عالم الوجود، الذي يعدّ في الحقيقة سرير حكومة الله تعالى.
وأساساً فإنّ عبارة (استوى على العرش) كناية عن سيطرة حاكم من الحكام على أُمور بلده، كما أنّ المراد من جملة "ثلّ عرشه" هو خروج زمام الأمر من يده وفقدان السيطرة عليه، وقد استعملت هذه الكناية في اللغة بكثرة إذ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البقرة، 259.
2 ـ النمل، 28.
3 ـ الأنعام، 141.
[74]
يقال: إنّ جماعة من الناس ثارت في البلد الفلاني، وأنزلت حاكمه من سريره وعرشه، في حين من الممكن أن لا يكون لذلك الزعيم والحاكم تخت أصلا.
أو يقال: إنّ جماعة من الناس أيدوا فلاناً، وأجلسوه على العرش، فكل هذه كناية عن امتلاك السلطة أو فقدانها.
وعلى هذا تكون عبارة (استوى على العرش) كناية عن الإحاطة الكاملة لله تعالى وسيطرته على تدبير أمور الكون ـ سماءاً وأرضاً ـ بعد خلقها.
ومن هنا يتّضح أنّ الذين أخذوا هذه الجملة دليلا على "جسمانيّة الله" كأنّهم لم يلتفتوا إلى موارد استعمال هذه الجملة العديدة في هذا المعنى الكنائي.
وهناك معنى آخر للعرش، وهو أنّه قد ورد أحياناً في قبال "الكرسي" وفي مثل هذه الموارد يمكن أن يكون الكرسي (الذي يطلق عادة على المقعد القصير القوائم) كناية عن العالم المادي، والعرش كناية عن عالم ما فوق المادة (أي عالم الأرواح والملائكة) كما جاء في تفسير آية (وسع كرسيه السماوات والأرض)التي مرّت في سورة البقرة.
ثمّ يقول بأنّه تعالى هو الذي يلقي بالليل ـ كغشاء ـ على النهار، ويستر ضوء النهار بالأستار المظلمة (يُغشي الليلَ النهارَ).
والملفت للنظر أنّ العبارة المذكورة ذكرت في مجال الليل فقط، ولم يقل (ويغشي النهار الليلَ) لأنّ الغطاء والغشاء يناسب الظلمة فقط ولا يناسب النور والضوء.
ثمّ يضيف بعد ذلك قائلا: إنّ الليل يطلب النهارَ طلباً حثيثاً (يطلبه حثيثاً).
إنّ هذا التعبير ـ نظراً لوضع الليل والنهار في الكرة الأرضية ـ تعبير في غاية الروعة والجمال، لأنّه لو نظر أحد إلى كيفية حركة الكرة الأرضية من الخارج، وكيفية دورانها حول نفسها ووقوع ظلها المخروطي الشكل على نفسها، مع العلم أنّ الكرة الأرضية تدور بسرعة فائقة حول نفسها (أي في حدود 30 كيلومتراً في
[75]
الدقيقة) لأحس أنّ غول الظلّ المخروطي الأسود يجري بسرعة كبيرة على هذه الكرة خلف ضوء النهار.
ولكن هذا الأمر غير صادق بالنسبة إلى ضوء النهار، لأنّ ضوء الشمس منتشر في نصف الكرة الأرضية وفي جميع الفضاء المحيط بأطراف الأرض، ولا يتخذ لنفسه شكلا خاصاً، وإنّما ظلمة الليل فقط هي التي تدور مثل شبح غامض الأسرار حول الأرض.
ثمّ يضيف تعالى أنّه هو الذي خلق الشمس والقمر والنجوم، وهي خاضعة لأمره بعد خلقها: (والشمس والقمر والنجوم وهي مسخرات بأمره).
(وسوف نبحث حول تسخير الشمس والقمر والنجوم ومعاني ذلك في ذيل الآيات المناسبة بإذن الله تعالى).
ثمّ بعد ذكر خلق العالم ونظام الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر والنجوم، قال مؤكّداً: اعلموا أنّ خلق الكون وتدبير أُموره كلّه بيده سبحانه دون سواه، (ألا له الخلق والأمر).
ماهو "الخلق" و "الأمر"؟
هناك كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من "الخلق" و "الأمر" أنّه ما هو؟
ولكن بالنظر إلى القرائن الموجودة في هذه الآية ـ والآيات القرآنية الأُخرى يستفاد أنّ المراد من "الخلق" هو الخلق والإيجاد الأوّل. والمراد من "الأمر" هو السنن والقوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر الله تعالى، والتي تقود الكون في مسيره المرسوم له.
إن هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ ردّ على الذين يتصورون أنّ الله خلق الكون ثمّ تركه لحاله وأهله، وجلس جانباً. أي إنّ العالم بحاجة إلى الله في وجوده
[76]
وحدوثه، دون بقائه واستمراره.
إنّ هذه الجملة تقول: كلاّ، بل إنّ العالم كما يحتاج إلى حدوثه إلى الله، كذلك يحتاج إليه في تدبيره واستمرار حياته وإدارة شؤونه إلى الله، ولو أنّ الله صرف عنايته ولطفه عن الكون لحظة واحدة لتبدد النظام وانهار وانهدم بصورة كاملة.
وقد مال بعض الفلاسفة إلى أن يفسّر عالم "الخلق" بعالم "المادة" وعالم "الأمر" بعالم "ما وراء المادة" لأنّ لعالم الخلق جانباً تدريجياً، وهذه هي خاصية المادة. ولعالم الأمر جانباً دفعياً وفورياً، وهذه هي خاصية عالم ما وراء المادة، كما نقرأ في قوله تعالى: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(1).
ولكن بالنظر إلى موارد استعمال لفظة الأمر في آيات القرآن، وحتى عبارة (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) الواردة في الآية المبحوثة يستفادالأمر يعني كل أمر إلهي سواء في عالم المادة أو في عالم ما وراء المادة (تأملوا رجاءً).
ثمّ في ختام الآية يقول: (تبارك الله رب العالمين).
في الحقيقة إنّ هذه الجملة ـ بعد ذكر خلق السماوات والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وتدبير عالم الوجود ـ نوع من الثناء على الذات الربوبية المقدسة، وقد سيق لتعليم العباد.
و "تبارك" من مادة البركة وأصلها "بَرْك" ومعناها صدر البعير، حيث أنّ الإبل عندما تستقر في مكان ما تلصق صدورها على الأرض، لهذا اتخذت هذه الكلمة تدريجياً معنى الثبوت والإستقرار والإستتباب، ثمّ وصفت وسمّيت كل نعمة مستقرة ودائمة، وكل كائن طويل العمر، ومستمر الآثار والخيرات، بأنّه موجود مبارك، ويقال أيضاً للمكان الذي يتجمع فيه الماء "بركة" لبقائه في ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة يس، 82.
[77]
المكان مدة طويلة.
من هنا يتّضح أنّ رأس المال "المبارك" هو الذي يتصف بالدوام، والكائن "المبارك" هو الموجود المستديم الآثار، ومن البديهي أنّ أليق وجود لهذه الصفة هو وجود الله تعالى، فهو وجود مبارك أزلي أبدي، وهو بالتالي منشأ جميع البركات والخيرات، ومنبع الخير المستمر (تبارك الله رب العالمين) (وسوف نتحدث في هذا المجال في تفسير الآية (92) من سورة الأنعام أيضاً).
* * *
[78]
الآيتان
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ55 وَلاَتُفْسِدُا فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَريبٌ مِّنَ الُْمحْسِنينَ 56
التّفسير
شروط استجابة الدعاء:
لقد أثبتت الآية السابقة ـ في ضوء ما أقيم من برهان واضح ـ هذه الحقيقة، وهي أنّ الذي يستحق للعبادة فقط هو الله، وفي عقيب ذلك ورد الأمر هنا بالدعاء، الذي هو مخ العبادة وروحها، يقول أوّلا: (ادعوا ربّكم تضرعاً وخفيةً).
و"التضرع" في الأصل من مادة "ضَرْع" بمعنى الثدي، وعلى هذا يكون فعل التضرع بمعنى حلب اللبن من الضرع، وحيث إنّه عند حلب اللبن تتحرك الأصابع على حلمة الثدي من جهاتها المختلفة استداراً للحليب، لهذا استعملت هذه الكلمة في من يظهر حركات خاصّة إظهاراً للخضوع والتواضع.
وعلى هذا فإنّ الآية المبحوثة، وعبارة (ادعو ربّكم تضرّعاً) تحثّنا على أن نقبل على الله بمنتهى الخضوع والخشوع والتواضع، بل يجب أن تنعكس روح
[79]
الدعاء في أعماق روحه، وعلى جميع أبعاد وجوده، ويكون اللسان مجرّد ترجمانها، ويتحدث نيابة عن جميع أعضائه.
وأمره تعالى ـ في الآية الحاضرة ـ بأن يدعى الله "خفية" وفي السّر، لأنّه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، ولأجل أن يكون الدعاء مقروناً بتمركز الفكر وحضور القلب.
ونحن نقرأ في حديث أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لما كان في إحدى غزواته، ووصل جنود الإسلام إلى واد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قائلين: "لا إله إلاّ الله" و "الله أكبر" فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "يا أيّها الناس اربعوا على أنفسكم، أمّا إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنّكم تدعون سميعاً قريباً، إنّه معكم"(1).
كما ويحتمل في هذه الآية أيضاً أن يكون المراد من "التضرع" هو الدعاء الظاهر العلني، والمراد من "الخفية" الدعاء الخفي السّري، لأنّ لكل مقام اقتضاءً خاصاً، فقد يقتضي أن يكون الدعاء علناً، وربّما يقتضي خفية وسراً، وهناك رواية وردت في ذيل هذه الآية تؤيد هذا الموضوع.
ثمّ قال تعالى في ختام الآية: (إنّه لا يحبّ المعتدين) أي أنّ الله لا يحب المعتدين.
ولهذه العبارة معنى وسيع يشمل كل نوع من أنواع العدوان والتجاوز، سواء الصراخ ورفع الصوت عالياً جداً حين الدعاء، أو التظاهر وممارسة الرياء، أو التوجه إلى غير الله حين الدعاء.
وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى حكم هو في الحقيقة شرط من شروط تأثير الدعاء، إذ قال: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).
ومن المسلم أنّ الأدعية إنّما تكون عند الله أقرب إلى الإجابة إذا تحققت فيها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، المجلد الرابع، الصفحة 429.
[80]
الشرائط اللازمة، ومن جملة ذلك أن يكون الدعاء مقترنا بالجوانب البناءة والعملية في حدود المستطاع، وأن تراعى حقوق الناس، وأن تلقي حقيقة الدعاء بأنوارها وظلالها على وجود الإنسان الداعي بأسره، ولهذا فلا تستجاب أدعية المفسدين والعصاة، ولا تنتهي إلى أية نتيجة مرجوّة.
والمراد من "الفساد بعد الإصلاح" يمكن أن يكون الإصلاح من الكفر أو الظلم أو كليهما، جاء في رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام): (إنّ الأرض كانت فاسدة فأصلحها نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)"(1).
ومرّة أُخرى يعود إلى مسألة الدعاء ويذكر شرطاً آخر من شرائطه فيقول: (وادعوه خوفاً وطمعاً).
أي لا تكونوا راضين معجبين بأفعالكم بحيث تظنون أنّه لا توجد في حياتكم أية نقطة سوداء، إذ أنّ هذا الظن هو أحد عوامل التقهقر والسقوط، كما لا تكونوا يائسين إلى درجة أنّكم لا ترون أنفسكم لائقين للعفو الإِلهي ولإجابة الدعاء، إذ أنّ هذا اليأس والقنوط هو الآخر سبب لإنطفاء شعلة السعي والإجتهاد، بل لابد أن تعرجوا نحوه تعالى بجناحي (الخوف) و (الأمل) الخوف من المسؤوليات والعثرات، والأمل برحمته ولطفه.
وفي خاتمة الآية يقول تعالى للمزيد من التأكيد على أسباب الأمل بالرحمة الإِلهية (إنّ رحمة الله قريب من المحسنين).
ويمكن أن تكون هذه العبارة إحدى شرائط إجابة الدعاء، يعني إذا كنتم تريدون أن لا تكون أدعيتكم خاوية، ومجرّد لقلقة لسان، فيجب أن تقرنوها بعمل الخير والإحسان، لتشملكم الرحمة الإلهية بمعونة ذلك وتثمر دعواتكم، وبهذا تكون الآية قد تضمنت الإشارة إلى خمسة من شرائط قبول الدعاء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، المجلد الرابع، الصفحة 429.
[81]
وإجابته، وهي باختصار كالتالي:
1 ـ أن يكون الدعاء عن تضرّع وخفية.
2 ـ أن لا يتجاوز حدّ الإعتدال.
3 ـ أن لا يكون مقروناً بالإفساد والمعصية.
3 ـ أن يكون مقروناً بالخوف والاصل المعتدلين.
4 ـ أن يكون مقروناً بالبرّ والإحسان، وفعل الخيرات.
* * *
[82]
الآيتان
وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالا سُقْنَـهُ لِبَلَد مَّيِّت فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْكُلِّ الَّثمَرَتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 57 وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَْيَتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ 58
التّفسير
لابد من المربي والقابليّة:
في الآيات الماضية مرّت إشارات عديدة إلى مسألة "المبدأ" أي التوحيد ومعرفة الله، من خلال الوقوف على أسرار الكون، وفي هذه الآيات ضمن بيان طائفة من النعم الإلهية وردت الإشارة إلى مسألة "المعاد" والبعث، ليكمل هذان البحثان أحدهما الآخر.
وهذه هي سيرة القرآن الكريم ودأبه في كثير من الموارد، حيث يقرن بين "المبدأ" و "المعاد"، والملفت للنظر أنّه يستعين لمعرفة الله، وكذا لتوجيه الأنظار إلى أمر المعاد معاً بالإستدلال بالأسرار الكامنة في خلق موجودات هذا العالم.
[83]
فيقول تعالى أولا: (وهو الّذي يرسل الرياح بشرىً بين يدي رحمته).
ثمّ يقول: إنّ هذه الرياح التي تهب من المحيطات تحمل معها سحباً ثقيلة مشبّعة بالماء (حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالا).
ثمّ يسوق تلك السحب إلى الأراضي الظامئة اليابسة، ويكلفها بأن تروي تلك العطاشي (سقناه لبلد ميت).
وبذلك ينهمر ماء الحياة في كل مكان (فأنزلناه به الماء).
وبمعونة هذا الماء نخرج للبشر أنواعاً متنوعة من الثمار والفواكة (وأخرجنا به من كل الثمرات).
نعم، إنّ الشمس تسطع على المحيطات والبحار، فيتبخر الماء ويتصاعد البخار إلى الأعلى، وهناك في الطبقات العالية الباردة من الجو يتراكم البخار ويشكل كتلا ثقيلة من السحب، ثمّ تحمل الرياح كتل السحاب العظيمة على ظهرها، وتتوجه إلى الأراضي التي كُلِفت بسقيها، فتجري بعض هذه الرياح قدام كتل السحاب، وتكون مزيجة بشيء من الرطوبة الخفيفة، فتحدث نسيماً مريحاً تستشم منه رائِحة المطر اللذيذة الباعثة للحياة والنشاط.
إنّها ـ في الحقيقة ـ المبشرات بنزول المطر، ثمّ تُرسل كتل الغيم العظيمة حبات المطر من بين ثناياها، لكنّها ليست بالكبيرة جدّاً فتتلف الزروع والأراضي، ولا بالصغيرة جدّاً فتضيع في الفضاء ولا تصل إلى الأرض، ثمّ تحط هذه الحبات على الأرض برفق وهدوء، وتنفذ في ترابها شيئاً فشيئاً، فتنبت البذور والحبات. وتبدل الأرض المحترقة بالجفاف، والتي كانت أشبه شيء بمقبرة مظلمة وساكنة وهامدة، إلى مركز فعّال نابض بالحياة والحركة، وتنشأ الجنائن الخضراء الغنية بالأزاهير والثمار.
ثمّ عقيب ذلك يضيف فوراً (كذلك نخرج الموتى) ونلبسهم حلّة الوجود والحياة مرّة أُخرى.
ولقد أتينا بهذا المثال لأجل أن نريكم أنموذجاً من المعاد في هذه الدنيا،
[84]
الذي يتكرر أمام عيونكم كل يوم (لعلكم تذكّرون).
وفي الآية اللاحقة ـ وحتى لا يظن أحد أن نزول المطر على نمط واحد يدل على أنّ جميع الأراضي تصير حيّة على نمط واحداً أيضاً، وحتى يتّضح أنّ القابليات والإستعدادات متفاوته تسبّبت في أن تتفاوت حالات الإستفادة والإنتفاع بالمواهب الإلهية يقول: (والبلد الطيب يُخرج نباتُه بإذن ربّه) أي أنّ الأرض الصالحة هي التي تستفيد من المطر، وتثمر خير إثمار بإذن ربّها.
أمّا الأراضي السبخة والخبيثة فلا تثمر إلاّ بعض الأعشاب غير النافعة (والذي خبث لا يخرج إلاّ نكداً).(1)
هكذا يكون الأمر بالبعث، وإن كان سبباً لعودة الحياة إلى جميع أفراد البشر، إلاّ أنّ جميع الناس لا يحشرون على نمط واحد وهيئة واحدة، إنّهم مختلفون متفاوتون في ذلك مثل تفاوت الأرض الحلوة، والأرض المالحة، نعم يتفاوتون، ويكون هذا التفاوت ناشئاً من الأعمال والعقائد والنيات.
ثمّ في ختام الآية يقول تعالى: إنّ هذه الآيات نبيّنها لمن يشكرونها، ويستفيدون من عِبَرها ومداليلها، ويسلكون في ضوئها سبيل الهداية (كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون).
إن الآية الحاضرة ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى مسألة مهمّة تتجلى في هذه الحياة وفي الحياة الأُخرى في كل مكان، وهي أنّ فاعلية الفاعل وحدها لا تكفي للإثمار والإنتاج الصحيح المطلوب، بل لابدّ من "قابلية القابل" فهي شرط للتأثير والإثمار. فإنّه ليس هناك شيء ألطف وأكثر بعثاً للحياة والنشاط من حبات المطر، ولكن هذا المطر نفسه الذي لا شك في لطافة طبعه، يورق ويورد في مكان، وينبت الشوك والحنظل في مكان آخر.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النّكد: هو البخيل الممسك الذي يتعذر أخذ شيء منه بسهولة، ولو أنّه أعطى لأعطى الشيء اليسير الحقير. ولقد شبهت الأراضي المالحة السبخة غير المساعدة للزرع بمثل هذا الشخص.
[85]
الآيات
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم 59 قَالَ الْمَلاَُ مِن قَومِهِ إِنَّا لَنَرَيكَ فِى ضَلَـل مُّبِين 60 قَالَ يَـقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَـلَةٌ وَلَـكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ 61 أُبَلِّغُكُمْ رِسَـلَـتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 62 أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُل مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 63 فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ وَأَعْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَـتِنآ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ64
التّفسير
رسالة نوح أوّل الرّسل من أولي العزم:
تقدم أنّ هذه السورة ـ بعد ذكر سلسلة من القضايا الجوهرية والعامّة في صعيد معرفة الله والمعاد والهداية الإلهية للبشر، ومسألة الشعور بالمسؤولية ـ
[86]
تشير إلى قصص ثلة من الأنبياء الكرام والرسل العظام مثل "نوح" و"هود" و"صالح" و"شعيب" وبالتالي "موسى بن عمران"(عليهم السلام) أجمعين، كي تقدم أمثلة حية لهذه الأبحاث وبصورة عملية في ثنايا تاريخهم الحافل بالحوادث والعبر.
فيبدأ سبحانه من قصة نوح النّبي، ويستعرض قسماً من حواراته مع قومه الوثنيين المعاندين.
وقد وردت قصة نوح في سور قرآنية متعددة، مثل سورة هود، الأنبياء، والمؤمنون، الشعراء، كما أنّ هناك سورة قصيرة في القرآن الكريم باسم "سورة نوح" وهي السورة الحادية والسبعون من سور الكتاب العزيز.
وسوف يأتي شرح ودراسة جهود هذا النّبي العظيم، وكيفية صنعه للسفينة، والطوفان الرهيب، وغرق قومه الأنانيين الفاسدين والوثنيين بإسهاب في السور المذكورة، وهنا أكتفي ـ فقط ـ بإعطاء فهرست عن ذلك ضمن ست آيات هي:
يقول أوّلا: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه).
إنّ أوّل شيء ذكّرهم به هو إلفات نظرهم إلى حقيقة التوحيد، ونفي أي نوع من أنواع الوثنية (فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
إنّ شعار التوحيد ليس شعار نوح وحده، بل هو أوّل شعار عند جميع الأنبياء والمرسلين الإلهين، ولهذا يشاهد في آيات متعددة من هذه السورة ـ وغيرها من السور القرآنية ـ أنّ أوّل ما يفتتح أكثر الأنبياء دعواتهم به هو هذا الشعار: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (راجع الآيات 65، و 73 و 85 من نفس هذه السورة).
من هذه العبارات يستفاد جيداً أنّ الوثنية كانت أسوأ مانع في طريق سعادة البشرية جمعاء، وأنّ حملة غصون التوحيد هؤلاء كانوا أوّل ما يفعلونه لغرس هذه الغصون في مزرعة الحياة البشرية وتربية أنواع الورود الزاهية والأشجار المثمرة فيها، هو أنّهم يشمرون عن ساعد الجدّ ليطهروا الحياة البشرية بمنجل
[87]
تعاليمهم البناءة من الأشواك، أشواك الوثنية والشرك والعبودية لغير الله تعالى.
ويستفاد من الآية (23) في سورة نوح خاصّة أنّ الناس في زمن النّبي نوح(عليه السلام) كانوا يعبدون أصناماً متعددة تدعى "ودّ" و"سواع" و"يغوث" و"يعوق" و"نسر"، التي سيأتي الحديث عنها عند تفسير تلك الآية بإذن الله.
وبعد أن أيقظ نوح ضمائرهم وفطرتهم الغافية، حذّرهم من مغبة الوثنية وعاقبتها المؤلمة إذ قال: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).
والمراد من (عذاب يوم عظيم) يمكن أن يكون الطوفان المعروف بطوفان نوح، الذي قلّما شوهد مثله في العقوبات في العظمة والسِعة، كما ويمكن أن يكون إشارة إلى العقوبة الإلهية في يوم القيامة، لأنّ هذا التعبير قد ورد في معنيين من القرآن الكريم. فإنّنا نقرأ في سورة الشعراء الآية (189): (فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنّه كان عذاب يوم عظيم) الآية وردت حول العقوبة التي نزلت بقوم شعيب في هذه الدنيا بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، ونقرأ في سورة المطففين الآية (5): (ألا يظن أُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم)(1).
إنّ عبارة "أخاف" (أي أخشى أن تصيبكم هذه العقوبة، بعد ذكر مسألة الشرك في الآية المبحوثة، يمكن أن تكون لأجل أن نوحاً يريد أن يقول لهم: إذا لم تتيقنوا وقوع هذه العقوبة، فعلى الأقل ينبغي أن تخافوا منها، ولهذا لا يجيز العقل أن تسلكوا ـ مع هذا الإحتمال ـ هذا السبيل الوعر، وتستقبلو عذاباً عظيماً أليماً كهذا.
ولكن قوم نوح بدل أن يستقبلوا دعوة هذا النّبي العظيم الإصلاحية، المقرونة بقصد الخير والنفع لهم، فينضوون تحت راية التوحيد ويكفون عن الظلم والفساد، قال جماعة من الأعيان والأثرياء الذين كانوا يحسون بالخطر على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة عظيم في الآية أعلاه صفة "ليوم" لا للعذاب.
[88]
مصالحهم بسبب يقظة الناس وانتباههم، ويرون الدين مانعاً من عبثهم ومجونهم وشهواتهم، قالوا لنوح بكل صراحة وقحة: نحن نراك في ضلال واضح (قال الملأ من قومه إنّا لنراك في ضلال مبين).
و"الملأ" تطلق عادة على الجماعة التي تختار عقيدة وفكرة واحدة، ويملأ اجتماعها وجلالها الظاهري عيون الناظرين، لأن مادة "الملأ" أصلا من "الملء"، وقد استعملها القرآن على الأغلب في الجماعات الأنانية المستبدة ذات المظهر الأنيق والباطن الفاسد الملوث بالأوضاد والشرور، والذين يملأون ساحات المجتمع المختلفة بوجودهم.
ولقد جابه نوح(عليه السلام) تعنتهم وخشونتهم بلحن هاديء ولهجة متينة تطفح بالمحبّة والرحمة، فقال في معرض الردّ عليهم: أنا لست بضال، بل ليست فيّ أية علامة للضلال، ولكنّي مرسل من الله (قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكنّي رسول الله من ربّ العالمين).
وهذه إشارة إلى أنّ الارباب التي تعبدوها وتفترضون لكل واحد منها مجالا للسيادة والحاكمية، مثل إله البحر، إله السماء، إله السلام والحرب، وما شاكل ذلك، كله لا أساس لها من الصحة، ورب العالمين ما هو إلاّ الله الواحد الذي خلقها جميعاً وأوجدها من العدم.
ثمّ إنّ هدفي إنّما هو إبلاغ ما حمّلت من رسالة (أبلغكم رسالات ربّي).
ولن آلو جهداً في تقديم النصح لكم، وقصد نفعكم، وإيصال الخير إليكم (وانصح لكم).
"أنصح" من مادة "نُصْح" يعني الخلوص والغلو عن الغش وعن الشيء الدخيل، لهذا يقال للعَسل الخالص: ناصح العسل، ثمّ أطلقت هذه اللفظة على الكلام الصادر عن سلامة نية، وبقصد الخير، ومن دون خداع ومكر.
ثمّ أضاف تعالى (وأعلم من الله ما لا تعلمون).
[89]
إنّ هذه العبارة يمكن أن يكون لها جانب تهديد في مقابل معارضاتهم ومخالفتهم، وكأنّه يريد أن يقول: أنا أعلم بعقوبات إلهية أليمة تنتظر العصاة لا تعلمون شيئاً عنها، أو تكون إشارة إلى لطف الله ورحمته، وتعني أنّكم إذا أطعتم اللّه، وكففتم عن تعنتكم، فإنّي أعلم مثوبات عظيمة لكم لا تعلمونها ولم تقفوا لحدّ الآن على سعتها. أو تكون إشارة إلى أنّني إذا كنت قد كلفت بهدايتكم فإنّني أعلم أُموراً عن الله العظيم وعن أوامره لا تعرفونها، ولهذا يجب أن تطيعوني وتتبعوني. ولا مانع من أن تكون كل هذه المعاني مقصودة ومجتمعة في مفهوم الجملة الحاضرة.
وفي الآية اللاحقة نقرأ لنوح كلاماً آخر قاله في مقابل استغراب قومه من أنّه كيف يمكن لبشر أن يكون حاملا لمسؤولية إبلاغ الرسالة الإلهية، إذ قال: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربّكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا ولعلكم ترحمون).
يعني: أيّ شيء في هذه القضية يدعو إلى الإستغراب والتعجب، لأنّ الانسان الصالح هو الذي يمكنه أن يقوم بهذه الرسالة أحسن من أي كائن آخر. هذا مضافاً إلى أنّ الإنسان هو القادر على قيادة البشر، لا الملائكة ولا غيرهم.
ولكن بدل أن يقبلوا بدعوة مثل هذا القائد المخلص الواعي كذبه الجميع، فأرسل الله عليهم طوفاناً فغرق المكذبون ونجا في السفينة نوح ومن آمن (فكذبوه فأنجيناه والذين معه فى الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا).
وفي خاتمة الآية بين دليل هذه العقوبة الصعبة، وأنّه عمى القلب الذي منعهم عن رؤية الحق، وأتباعه (إنّهم كانوا قوماً عمين(1)).
وهذا العمى القلبي كان نتيجة أعمالهم السيئة وعنادهم المستمر، لأنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "عمين" جمع عمي، وهو يطلق عادة على من تعطلت بصيرته الباطنية، ولكن الأعمى يطلق على من فقد بصره الظاهري، وكذلك يطلق على من فقد بصيرته الباطنية أيضاً (وعَمْي حينما يدخل عليها الإعراب تتبدل إلى عم).
[90]
التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا بقي في الظلام مدة طويلة، أو أغمض عينيه لسبب من الأسباب وامتنع عن النظر مدة من الزمن، فإنّه سيفقد قدرته على الرؤية تدريجاً وسيصاب بالعمى في النهاية.
وهكذا سائر أعضاء البدن إذا تركت الفعالية والعمل مدّة من الزمن يبست وتعطلت عن العمل نهائياً.
وبصيرة الإنسان هي الأُخرى غير مستثناة عن هذا القانون، فالتغاضي المستمر عن الحقائق، وعدم استخدام العقل والتفكير في فهم الحقائق والواقعيات بصورة مستمرة، يضعف بصيرة الإنسان تدريجاً إلى أن تعمى عين القلب والعقل في النهاية تماماً.
هذه لمحة عن قصة نوح، وأمّا بقية هذه القصّة وكيفية وقوع الطوفان وتفاصيلها الأُخرى، فسوف نشير إليها في السور التي أشرنا إليها في مطلع هذا البحث.
* * *
[91]
الآيات
وَإِلَى عَاد أَخَاهُمْ هُودَاً قَالَ يَـقَومِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ 65 قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنَّا لَنَريكَ فِى سَفَاهَة وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـذِبينَ 66 قَالَ يَـقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَـكِنِّىَ رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ 67 أُبَلِّغُكُمْ رِسَـلَتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ 68 أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلى رَجُل مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَومِ نُوح وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَصطَةً فاذْكُرُوا ءَالآءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 69 قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقينَ 70 قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّنْ رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَدِلُنَنى فِى أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّا نَزَّلَ اللهَ بِهَا مِن سُلْطن فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ71 فَأَنْجَيْنهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَة مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَـتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمِنينَ72
[92]
التّفسير
لمحة عن قصّة قوم هود:
عقيب ذكر رسالة نوح والدروس الغنية بالعبر الكامنة فيها، عمد القرآن الكريم إلى إعطاء لمحة سريعة عن قصّة نبي آخر من الأنبياء العظام، وهو النّبي هود(عليه السلام)، وذكر ما جرى بينه وبين قومه.
وهذه القصّة ذكرت في سور أُخرى من القرآن الكريم مثل سورة "الشعراء" وسورة "هود" التي تناولت هذه القصّة بشيء من التفصيل، وأمّا في الآيات الحاضرة فقد ذكر شيء مختصر عمّا دار بين هود والمعارضين له ونهايتهم.
يقول تعالى أوّلا: ولقد أرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هوداً (وإلى عاد أخاهم هوداً).
وقوم "عاد" كانوا أُمّةً تعيش في أرض "اليمن" وكانت أُمّة قوية من حيث المقدرة البدنية والثروة الوافرة التي كانت تصل إليهم عن طريق الزراعة والرعي، ولكنّها كانت متخمة بالانحرافات الإعتقادية وبخاصّة الوثنية والمفاسد الأخلاقية المتفشية بينهم.
وقد كُلِّف "هود" الذي كان منهم ـ وكان يرتبط بهم بوشيجة القربى ـ من جانب الله بأن يدعوهم إلى الحق ومكافحة الفساد، ولعل التعبير بـ "أخاهم" إشارة إلى هذه الوشيجة النسبية بين هود وقوم عاد.
ثمّ إنّه يحتمل أيضاً أن يكون التعبير بـ "الأخ" في شأن النّبي هود، وكذا في شأن عدّة أشخاص آخرين من الأنبياء الإلهيين مثل نوح(عليه السلام) (سورة الشعراء الآية 106) وصالح (سورة الشعراء الآية 142) ولوط (سورة الشعراء الآية 161) وشعيب (سورة الأعراف الآية 85) إنّما هو لأجل أنّهم كانوا يتعاملون مع قومهم في منتهى الرحمة، والمحبّة مثل أخ حميم، ولا يألون جهداً في إرشادهم وهدايتهم ودعوتهم إلى الخير والصلاح.
[93]
إنّ هذه الكلمة تستعمل في من يعطف على أحد أو جماعة غاية العطف، ويتحرق لهم غاية التحرق، مضافاً إلى أنّها تحكي عن نوع من التساوي ونفي أي رغبة في التفوق والزعامة، يعني أن رسل الله لا يحملون في نفوسهم أية دوافع شخصية في صعيد هدايتهم، إنما يجاهدون فقط لإنقاذ شعوبهم وأقوامهم من ورطة الشقاء.
وعلى كل حال، فإنّ من الواضح والبيّن أنّ التعبير بـ "أخاهم" ليس إشارة إلى الأخوة الدينية مطلقاً، لأنّ هؤلاء الأقوام لم تستجب ـ في الأغلب ـ لدعوة أنبيائها الإصلاحية.
ثمّ يذكر تعالى أنّ هود شرع في دعوته في مسألة التوحيد ومكافحة الشرك والوثنية: (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون).
ولكن هذه الجماعة الأنانية المستكبرة، وبخاصّة أغنياؤها المغرورون المعجبون بأنفسهم، والذين يعبّر عنهم القرآن بلفظة "الملأ" باعتبار أنّ ظاهرهم يملأ العيون، قالوا لهود نفس ما قاله قوم نوح لنوح(عليه السلام) (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين).
"السفاهة" وخفة العقل كانت تعني في نظرهم أن ينهض أحد ضد تقاليد بيئته مهما كانت تلكم التقاليد خاوية باطلة، ويخاطر حتى بحياته في هذا السبيل.
لقد كانت السفاهة في نظرهم ومنطقهم هي أن لا يوافق المرء على تقاليد مجتمعه وسننه البالية، بل يثور على تلك السنن والتقاليد، ويستقبل برحابة صدر كل ما تخبئه له تلك الثورة والمجابهة.
ولكن هوداً ـ وهو يتحلى بالوقار والمتانة التي يتحلى بها الأنبياء والهداة الصادقون الطاهرون ـ من دون أن ينتابه غضب، أو تعتريه حالة يأس (قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكنّي رسول من ربّ العالمين).
ثمّ إنّ هوداً أضاف: إنّ مهمته هي إبلاغ رسالات الله إليهم، وإرشادهم إلى ما
[94]
فيه سعادتهم وخيرهم، وانقادهم من ورطة الشرك والفساد، كل ذلك مع كامل الإخلاص والنصح والأمانة والصدق (أبلغكم رسالات ربّي وأنا لكم ناصح أمين).
ثمّ إنّ هوداً أشار ـ في معرض الردّ على من تعجب من أن يبعث الله بشراً رسولاً ـ إلى نفس مقولة نوح النّبي لقومه: (أو عجبتم أن جاءكم ذِكرٌ من ربّكم على رجل منكم لينذركم) أي هل تعجبون من أن يرسل الله رجلا من البشر نبيّاً، ليحذركم من مغبة أعمالكم، وما ينتظركم من العقوبات في مستقبلكم؟
ثمّ إنّه إستثارةً لعواطفهم الغافية، وإثارة لروح الشكر في نفوسهم، ذكر قسماً من النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، فقال: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح)، فقد ورثتم الأرض بكل ما فيها من خيرات عظيمة بعد أن هلك قوم نوح بالطوفان بسبب طغيانهم وبادوا.
ولم تكن هذه هي النعمة الوحيدة، بل وهب لكم قوة جسدية عظيمة (وزادكم في الخلق بصطة).
إنّ جملة (زادكم في الخلق بصطة) يمكن أن تكون ـ كما ذكرنا ـ إشارة إلى قوة قوم عاد الجسدية المتفوقة، لأنّه يستفاد من آيات قرآنية عديدة، وكذا من التواريخ، أنّهم كانوا ذوي هياكل عظمية قوية وكبيرة، كما نقرأ ذلك من قولهم في سورة "فصلت" الآية 15 (من أشدّ منا قوة) وفي الآية (7) من سورة الحاقة نقرأ ـعند ذكر ما نزل بهم من البلاء بذنوبهم ـ (فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية) حيث شبه جسومهم بجذوع النخل الساقطة على الأرض.
ويمكن أن تكون إشارة ـ أيضاً ـ إلى تعاظم ثروتهم وإمكانياتهم المالية، ومدنيتهم الظاهرية المتقدمة، كما يستفاد من آيات قرآنية وشواهد تاريخية أُخرى، ولكن الإحتمال الأوّل أنسب مع ظاهر الآية.
وفي خاتمة الآية يذكّر تلك الجماعة الأنانيّة بأن يتذكروا نعم الله لتستيقظ
[95]
فيهم روح الشكر فيخضعوا لأوامره، علّهم يفلحون (فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون).
ولكن في مقابل جميع المواعظ والإرشادات المنطقية، والتذكير بنعم الله ومواهبه، انبرت تلك الثلة من الناس الذين كانوا يرون مكاسبهم المادية في خطر، وقبول دعوة النّبي تصدّهم عن التمادي في أهوائهم وشهواتهم، انبرت إلى المعارضة، وقالوا بصراحة،: إنّك جئت تدعونا إلى عبادة الله وحده وترك ما كان أسلافنا يعبدون دهراً طويلا، كلاّ، لا يمكن هذا بحال (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبُدُ آباؤنا)؟
لقد كان مستوى تفكير هذه الثّلة منحطاً جدّاً ـ كما تلاحظ ـ إلى درجة أنّهم كانوا يستوحشون من عبادة الله وحده، بينما يعتبرون تعدّد الآلهة والمعبودات مفخرةً من مفاخرهم.
والجدير بالتأمل أنّ دليلهم في هذا المجال لم يكن إلاّ التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأسلاف، وإلاّ فكيف يمكن أن يبرروا خضوعهم لقطعات من الصخور والأخشاب؟!
وفي النهاية، ولأجل أن يقطعوا أمل هود فيهم تماماً، ويقولوا كلمتهم الأخيرة قالوا: إذا كان حقاً وواقعاً ما تنذرنا به من العذاب، فلتبادر به، أي أنّنا لا نخشى تهديداتك أبداً (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).
وعندما بلغ الحوار إلى هذه النقطة، وأطلق أُولئك المتعنتون كلمتهم الأخيرة الكاشفة عن رفضهم الكامل لدعوة هود، وأيس هود ـ هو الآخر ـ من هدايتهم تماماً، قال: إذن ما دام الأمر هكذا فسيحلّ عليكم عذاب ربّكم (قال قد وقع عليكم من ربّكم رجس وغضب).
و"الرّجس" في الأصل بمعنى الشيء غير الطاهر، ويرى بعض المفسّرين أنّ لأصل هذه اللفظة معنى أوسع، فهو يعني كل شيء يبعث على النفور والتقزز
[96]
والقرف، ولهذا يطلقُ على جميع أنواع الخبائث والنجاسات والعقوبات لفظ "الرجس" لأنّ جميع هذه الأُمور توجب نفور الإنسان، وابتعاده.
وعلى كل حال فإنّ هذه الكلمة في الآية المبحوثة يمكن أن تكون بمعنى العقوبات الإِلهية، ويكون ذكرها مع جملة "قد وقع" التي هي بصيغة الفعل الماضي إشارة إلى أنّكم قد أصبحتم مستوجبين للعقوبة حتماً وقطعاً، وأن العذاب سيحل بكم لا محالة.
كما يمكن أن يكون بمعنى النجاسة وتلوث الروح، يعني أنّكم قد غرقتم في دوّامة الإنحراف والفساد إلى درجة أنّ روحكم قد دفنت تحت اوزار كثيفة من النجاسات، وبذلك استوجبتم غضب الله، وشملكم سخطه.
ثمّ لأجل أن لا يبقى منطق عبادة الاوثان من دون ردّ أضاف قائلا: (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباءكم ما نزل الله بها من سلطان) فهذه بُراء، وجئتم تجادلونني في عبادتها في حين لم ينزل بذلك أي دليل من جانب الله.
وفي الحقيقة، أنّ هذه الأصنام لا تملك من الألوهية إلاّ أسماء من دون مسمّيات، وهي أسماء من نسج خيالكم وخيال أسلافكم، وإلاّ فهي كومة أحجار وأخشاب لا تختلف عن غيرها من أحجار البراري وأخشاب الغابات.
ثمّ قال: فإذا كان الأمر هكذا فلننتظر جميعاً، انتظروا أنتم أن تنفعكم أصنامكم ومعبوداتكم وتنصركم، وأنتظر أنا أن يحلّ بكم غضب الله وعذابه الأليم جزاء تعنتكم، وسيكشف المستقبل أي واحد من هذين الإنتظارين هو الأقرب إلى الحقيقة والواقع (فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين).
وفي نهاية الآية بيّن القرآن مصير هؤلاء القوم المتعنتين في عبارة قصيرة موجزة: (فأنجيناه والذين معه برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) أجل، لقد أنجى الله هوداً ومن اتبعه من القوم بلطفه ورحمته، وأمّا
[97]
الذين كذبوا بآيات الله، ورفضوا الإنضواء تحت لواء دعوته، والإنصياع للحق، فقد أبيدوا نهائياً.
و"دابر" في اللغة بمعنى آخر الشيء ومؤخرته، وبناء على هذا المفهوم يكون معنى الآية: أنّنا أبدنا هؤلاء القوم إبادة كاملة واستأصلنا شأفتهم.
(وسوف نبحث بالتفصيل حول قوم عاد وبقية خصوصيات حياتهم وكيفية عقوبة الله لهم والعذاب الذي نزل وحلّ بهم عند تفسير سورة هود بإذن الله).
* * *
[98]
الآيات
وَإِلى ثَمُودُ أَخَاهُمْ صَـلِحاً قَالَ يَـقَوم اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللهِ وَلاَتَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 73 واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَاد وَبَوَّأَكُمْ فِى الاَْرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا ءَالاَءَ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِى الاَْرْضِ مَفْسِدينَ 74 قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَومِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَـلِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلُ بِهِ مُؤمِنُونَ 75 قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِهِ كَـفِرُونَ76 فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَـصَـلِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ77 فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَـثِمِينَ 78 فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَـقَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّـصِحِينَ 79
[99]
التّفسير
قصة قوم صالح وما فيها من عبر
في هذه الآيات جاءت الإشارة إلى قيام "صالح" النّبي الإلهي العظيم في قومه "ثمود" الذين كانوا يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام، وبهذا يواصل القرآن أبحاثه السابقة الغنية بالعبر حول قوم نوح وهود.
وقد أُشير إلى هذا القصة أيضاً في سورة: "هود" و"الشعراء" و"القمر" و"الشمس" وجاءت بصورة أكثر تفصيلا في سورة "هود" أمّا هذه الآيات فقد اُوردت ما دار بين صالح(عليه السلام) وقومه قوم ثمود، وعن مصيرهم، وعاقبة أمرهم بصورة مختصرة.
فيقول تعالى في البداية: (وإلى ثمود أخاهم صالحاً).
وقد مر بيان العلة في إطلاق لفظة "الأخ" على الأنبياء عند تفسير الآية (65) من نفس هذه السورة في قصة هود.
ولقد كانت أوّل خطوة خطاها نبيّهم صالح في سبيل هدايتهم، هي الدعوة إلى التوحيد، وعبادة الله الواحد (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من آله غيره).
ثمّ أضاف: إنّه لا يقول شيئاً من دون حجة أو دليل، بل قد جاء إليهم ببيّنة من ربّهم (قد جاءتكم بيّنة من ربّكم هذه ناقة الله لكم آية).
و"النّاقة" أنثى الإبل، وقد أشير إلى ناقة صالح في سبعة مواضع من القرآن الكريم(1).
وأمّا حقيقه هذه الناقة، وكيف كانت معجزة صالح الساطعة، وآيته المفحمة لقومه، فذلك ما سنبحثه في سورة هود، في ذيل الآيات المرتبطة بقوم ثمود بإذن الله.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قال الطبرسي في المجمع: الناقة أصلها من التوطئة والتذليل يقال بعير منوق أي مذلل موطأ، ولعل إطلاقها على اُثنى الإبل لكونها أكثر ذلولا للإمتطاء والركوب.
[100]
على أنّه ينبغي الإلتفات إلى أنّ إضافة "الناقة" إلى "الله" في الآيات الحاضرة من قبيل الإضافة التشريفية ـ كما هو المصطلح ـ فهي إشارة إلى أنّ هذه الناقة المذكورة لم تكن ناقة عادية، بل كانت لها ميزات خاصّة.
ثمّ إنّه يقول لهم: اتركوا الناقة تأكل في أرض الله ولا تمنعوها (فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم).
وإضافة الأرض إلى "الله" إشارة إلى أنّ هذه الناقة لا تزاحم أحداً، فهي تعلف من علف الصحراء فقط، ولهذا يجب أن لا يزاحموها.
ثمّ يقول في الآية اللاحقة (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض) أي من جانب لا تنسوا نعم الله الكثيرة، ومن جانب آخر انتبهوا إلى أنّه قد سبقكم أقوام (مثل قوم عاد) طغوا فحاق بهم عذاب الله بذنوبهم وهلكوا.
ثمّ ركز على بعض النعم الإِلهية كالأرض فقال: (تتخذون من سهولها قصوراً، وتنحنون الجبال بيوتاً)، فالأرض قد خُلِقَت بنحو تكون سهولها المستوية والمزودة بالتربة الصالحة لإقامة القصور الفخمة، كما تكون جبالها صالحة لأن تنحت فيها البيوت القوية المحصنة لفصل الشتاء والظروف الجوية القاسية.
ويبدو للنظر من هذا التعبير هو أنّهم كانوا يغيرون مكان سكناهم في الصيف والشتاء، ففي فصل الربيع والصيف كانوا يعمدون إلى الزراعة والرعي في السهول الواسعة والخصبة، ولهذا كانت عندهم قصور جميلة في السهول، وعند حلول فصل البرد والإنتهاء من الحصاد يسكنون في بيوت قوية منحوتة في قلب الصخور، وفي أماكن آمنة تحفظهم من خطر السيول والعواصف والاخطار.
وفي ختام الآية يقول تعالى: (فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض
[101]
مفسدين)(1).
ثمّ إنّنا نلاحظ أيضاً أنّ جماعة الأغنياء والمترفين ذوي الظاهر الحسن، والباطن القبيح الخبيث، الذين عبر عنهم بالملأ أخذوا بزمام المعارضة لهذا النّبي الإِلهيّ العظيم، وحيث أنّ عدداً كبيراً من أصحاب القلوب الطيبة والافكار السليمة كانت ترزح في أسر الأغنياء والمترفين، قد قبلت دعوة النّبي صالح واتبعته، لهذا بدأ الملأ بمخالفتهم لهؤلاء المؤمنين.
فقال الفريق المستكبر من قوم صالح للمستضعفين الذين آمنوا بصالح: هل تعلمون يقيناً أنّ صالحاً مرسَل من قبل الله (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أنّ صالحاً مرسَل من ربّه).
على أنّ الهدف من هذا السؤال لم يكن هو تحري الحق، بل كانوا يريدون بإلقاء هذه الشبهات زعزعة الإيمان في نفوس من آمن، وإضعاف معنوياتهم، وظناً منهم بأن هذه الجماهير ستطيعهم وتكف عن متابعة صالح وحمايته، كما كانت مطيعة لهم يوم كانت تحت سيطرتهم ونفوذهم.
ولكن سرعان ما واجهوا ردّ تلك الجموع المؤمنة القاطع، الكاشف عن إرادتها القوية وعزمها على مواصلة طريقها، حيث قالوا: إنّنا لسنا نعتقد بأنّ صالحاً رسول من قبل الله فحسب، بل نحن مؤمنون أيضاً بما جاء به (قالوا إنّا بما أرسل به مؤمنون).
ولكن هؤلاء المغرورين المتكبرين لم يكفوا عن عملهم، بل عادوا مرّة أُخرى إلى إضعاف معنوية المؤمنين (قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتم به كافرون). وكانت هذه محاولة منهم لجرّ هؤلاء المستضعفين الى صفوفهم مرّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تعثوا" مشتقة من مادة "عثى" معنى إيجاد الفساد، غاية ما هنالك أنّ هذه المادة تستعمل في الأغلب في المفاسد الأخلاقية والمعنوية، في حين تطلق مادة "عبث" على المفاسد الحسية، وبناء على هذا يكون كلمة "المفسدين" بعد جملة "لا تعثوا" لغرض التأكيد، لأنّ كليهما يعطيان معنىً واحداً.
[102]
أُخرى.
كانوا المقدّمين في المجتمع والأُسوة للآخرين على الدوام بما كانوا يتمتّعون به من قوة وثراء، لهذا كانوا يظنون أنّهم بإظهار الكفر سيكونون أسوة للآخرين أيضاً، وأن الناس سوف يتبعونهم كما كانوا يفعلون ذلك من قبل، ولكنّهم سرعان ما وقفوا على خطأهم، وعلموا أنّ الناس قد اكتسبوا بالإيمان بالله على شخصيّة حضارية جديدة واستقلال فكري، وقوة إرادة.
والجدير بالإنتباه أنّ الأغنياء والملأ وُصِفُوا في الآيات الحاضرة بالمستكبرين، ووصفت الجماهير الكادحة المؤمنة بالمستضعفين، وهذا يفيدالفريق الأوّل قد وصلوا بشعورهم بالتفوق، وغصب حقوق الناس واستغلالهم إلى مرتبة ما يسمى في لغة العصر بـ "الطبقة المستغلّة"، والفريق الآخر بالطبقة المستغلَّة.
عندما يئس الملأ والأغنياء المستكبرون من زعزعة الإيمان في نفوس الجماهير المؤمنة بصالح(عليه السلام)، ومن جانب آخر رأوا أنّ وساوسهم وشائعاتهم لا تجدي نفعاً مع وجود "الناقة" التي كانت تُعَدّ معجزة صالح(عليه السلام)، لهذا قرّروا قتل الناقة، مخالفين بذلك أمر ربّهم(فعقروا النّاقة وعتوا عن أمر ربّهم)(1).
ولم يكتَفوا بهذا أيضاً، بل أَتَوا إلى صالح نفسه وبصراحة (قالو يا صالح أئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين).
يعني أنّنا لا نخاف تهديداتك مطلقاً، وأن هذه التهديدات جميعها لا أساس لها ... والحقيقة أنّ هذا الكلام نوع من الحرب النفسية ضد صالح(عليه السلام)، بهدف إضعاف روحيته وروحية المؤمنين به.
وعندما وصل المعارضون بطغيانهم وتمرّدهم إلى آخر درجة، وأطفأوا في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المراد من العقر هو قطع عصب خاص خلف رجل الناقة أو الفرس هو سبب حركتها، فإذا قطع سقط الحيوان، وفقد القدرة على الحركة، والتنقل.
[103]
نفوسهم آخر بارقة أمل في الإيمان، حلّت بهم العقوبة الإِلهية طبقاً لقانون انتخاب الأصلح، وإهلاك ومحو الكائنات الفاسدة والمفسدة (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).
إنّها كانت زلزلة و رجفة عظيمة تهاوت على أثرها قصورهم وبيوتهم القوية، واندثرت حياتهم الجميلة، حتى أنّه لم يبق منهم إلاّ أجساد ميتة... هكذا أصبحوا.
و"جاثم" في الأصل مشتق من مادة "جثم" بمعنى القعود على الركب، والتوقف في مكان واحد، ولا يبعد أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الزلزلة والرجفة جاءتهم وهم في حالة نوع هنيئة، فجلسوا على أثرها فجأة، وبينما كانوا قاعدين على ركبهم لم تمهلهم الرجفة، بل ماتوا وهم على هذه الهيئة، إمّآ خوفاً، وإمّا بسبب إنهيار الجدران عليهم، وإمّا بفعل الصاعقة التي رافقت الزلزال!!
بأيّ شيء اُهلِكَ قوم ثمود:
وهنا يطرح سؤال وهو: يستفاد من الآية الحاضرة أنّ الشيء الذي أهلك هؤلاء المتمردون كان هو الزلزال، ولكن يظهر من الآية (13) من سورة فصلت أنّه كان الصاعقة، بينما نقرأ في الآية (15) من سورة الحاقة (أمّا ثمود فاهلكوا بالطاغية)يعني أنّ قوم ثمود اُهلكوا بشيء مدمّر، فهل هناك تناقض بين هذه التعابير؟
إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يلخص في جملة واحدة، وهي جميع هذه العبارات ترجع إلى معنى واحد، أو أنّه يلازم بعضها بعضاً، فكثيراً ما تحدث الرجة الأرضية في منطقة ما بفعل صاعقة عظيمة، أي أنّه تحدث صاعقة أوّلا، ثمّ تحدث على أثرها رجة أرضية.
وأمّا "الطاغية" فهي بمعنى كائن تجاوز عن حدّه، وهذا ينسجم مع الزلزلة وكذا مع الصاعقة، ولهذا فلا يوجد أي تناقض بين الآيات.
[104]
وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يقول: (فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين) أي بعد هذه القضية تولى صالح وهو يقول: لقد أديت رسالتي إليكم، ونصحت لكم ولكنّكم لا تحبّون من ينصحكم.
وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: هل كلام صالح هذا كان بعد هلاك المتمردين من قومه، أو أنّ هذا الكلام هو الحوار الأخير الذي جرى بينه وبين قومه قبيل هلاك القوم وموتهم، أي بعد إتمام الحجّة عليهم... ولكن ذكر في عبارة القرآن بعد قضية هلاكهم وموتهم بالرجفة؟
هناك احتمالان: والحقيقة أنّ الإحتمال الثّاني أنسب مع ظاهر الخطاب، لأنّ الحديث مع قوم ثمود يفيد أنّهم كانوا أحياء. ولكن الإحتمال الأوّل هو أيضاً غير بعيد، لأنّه كثيراً ما تتم محادثة أرواح الموتى بمثل هذا الكلام ليعتبر الباقون الحاضرون، تماماً كما نقرأ نظير ذلك في تاريخ الإمام علي(عليه السلام) فإنّه(عليه السلام) وقف ـ بعد معركة الجمل ـ عند جسد طلحة وقال: "ويل أُمّك، طلحة! لقد كان لك قدم لو نفعك، ولكن الشيطان أضلك فأزلك، فعجلك إلى النّار".(1)
كما نقرأ ـ أيضاً ـ في أواخر نهج البلاغة أنّ الإمام علياً(عليه السلام) عندما عاد من معركة صفّين وقف عند مدخل الكوفة والتفت إلى مقابر الموتى، فسلّم على أرواح الماضين أوّلا، ثمّ قال: "أنتم السابقون ونحن اللاحقون".
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج1، ص248.
[105]
الآيات
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَومِهِ أَتَأْتُونَ الْفَـحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَد مِّنَ الْعَـلَمِينَ 80 إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُّسْرِفُونَ 81 وَمَا كَانَ جَوابَ قَومِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ 82 فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَـبِرِينَ 83 وَأمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الُْمجْرِمِينَ84
التّفسير
مصير قوم لوط المؤلم:
في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريمُ فَصلا آخر غنياً بالعبر من قصص الأنبياء، وبذلك يواصل هدف الآيات السابقة ويكمله، والقصة هذه المرّة هي قصة النّبي الإِلهي العظيم "لوط".
ولقد ذكرت هذه القصة في عدّة سور من القرآن الكريم، منها سورة "هود" و"الحجر" و"الشعراء" و"الأنبياء" و"النمل" و"العنكبوت".
وهنا يشير القرآن الكريم ـ ضمن آيات خمس ـ إلى خلاصة سريعة عن
[106]
الحوار الذي دار بين لوط، وقومه.
ويظهر أنّ الهدف الوحيد في هذه السورة (الأعراف) هو تقديم عصارات وخلاصات من مواجهات الأنبياء وحواراتهم مع الجماعات المتمردة من أقوامهم، ولكن الشرح الكامل لقصصهم موكول إلى السور القرآنية الأُخرى (وسوف نأتي بقصّة هذه الجماعة بصورة مفصلة في سورة هود والحجر إن شاء الله).
الآية الأُولى تقول في البدء: اذكروا وإذ قال لوط لقومه: أترتكبون فعلا قبيحاً لم يفعله أحد قبلكم من الناس؟ (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ماسبقكم بها من أحد من العالمين)؟!
فهذه المعصية مضافاً إلى كونها عملا قبيحاً جدّاً ـ لم يفعلها أحد قبلكم من الأقوام ـ وبذلك يكون قبح هذا العمل الشنيع مضاعفاً، لأنّه أصبح أساساً لسنّة سيئة، وسبباً لوقوع الآخرين في المعصية عاجلا أو آجلا.
ويستفاد من الآية الحاضرة أنّ هذا العمل القبيح ينتهي ـ من الناحية التأريخية ـ إلى قوم لوط، وكانوا قوماً أثرياء مترفين شهوانيين، سنذكر أحوالهم بالتفصيل في السور التي أشرنا إليها إن شاء الله تعالى.
وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول: (إنّكم لتأتون الرّجال شهوة من دون النّساء).
وأي انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد، وهو مقاربة الرجل للمرأة، والذي أودعه الله في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية، ويعمد إلى "الجنس الموافق"، ويفعل بالتالي ما يخالف ـ أساساً ـ الفطرة، والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين، والغريزة السوية الصحيحة، وتكون نتيجة عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية.
وبعبارة أُخرى: يكون أثره الوحيد، هو الإشباع الكاذب والمنحرف للحاجة
[107]
الجنسية، والقضاء على الهدف الأصلي، وهو إستمرار النسل البشري.
ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية: (بل أنتم قوم مسرفون) أي تجاوزتم حدود الله، ووقعتم في متاهة الإنحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.
ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى أنّهم لم يسلكوا سبيل الإسراف في مجال الغريزة الجنسية فحسب، بل تورطوا في مثل هذا الإنحراف والإسراف في كل شي، وفي كل عمل.
والجذير بالذكر أنّ الآية الأُولى ذكرت الموضوع بصورة مجملة، ولكن الآية الثّانية ذكرته بصورة مبيّنة وواضحة، وهذا هو أحد فنون البلاغة عند بيان القضايا الهامة، فإذا فعل أحد عملا شيئاً قال له مرشده ووليه الواعي الحكيم، لبيان أهمية الموضوع: أنت إرتكبت ذنباً عظيماً، فإذا قال له الشخص، ماذا فعلت؟ يقول له مرّة أُخرى: أنت إرتكبت ذنباً عظيماً، وفي المآل يكشف القناع عن فعله ويشرحه.
إنّ هذا النوع من البيان يهيء فكر الطرف الآخر ونفسه للوقوف تدريجاً على شناعة عمله القبيح وخطورته، وهو أبلغ في التأثير.
وفي الآية اللاحقة أشار القرآن الكريم إلى الجواب المتعنت وغير المنطقي لقوم لوط، وقال: إنّهم لم يكن لديهم أي جواب في مقابل دعوة هذا النّبي الناصح المصلح، إلاّ أن قالوا: أخرجوا لوطاً وأتباعه من مدينتكم. ولكن ما كان ذنبهم؟ إنّ ذنبهم هو أنّهم كانوا جماعة طاهرين لم يلوثوا أنفسهم بأدران المعصية (وماكان جواب قومه إلاّ أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنّهم أناس يتطهرون).
وهذا ليس موضع تعجب وإستغراب أن يطرد جماعة من العصاة الفسقة أشخاصاً طاهرين لا لشيء إلاّ لأنّهم أنقياء الجيب، يجتنبون المنكرات، وذلك لأنّ هؤلاء القوم يعتبرون هؤلاء مزاحمين لشهواتهم، فكانت نقاط القوة لدى أُولئك الأطهار نقاط ضعف وعيب في نظرهم.
[108]
ويحتمل أيضاً في تفسير جملة (إنّهم أناس يتطهرون) أنّ قوم لوط كانوا يريدون بهذه العبارة أن يتهموا ذلك النّبي العظيم وأتباعه الأتقياء بالرياء والتظاهر بالتطهر، كما سمعنا وقرأنا في الأشعار كثيراً حيث يتهم الخمارون الأشخاص الطيبين النزيهين بالرياء والتظاهر، ويعتبرون (خرفتهم الملوثة بالخمر) أفضل من (سجادة الزاهد) وهذا نوع من التزكية الكاذبة للنفس التي يتذرع بها هؤلاء العصاة الأشقياء.
مع ملاحظة كل ما قيل في الآيات الثلاثة أعلاه، يستطيع كل قاض منصف أن يصدر حكمه بحق مثل هذه الجماعات والأقوام الذين يتوسلون ـ في مقابل إصلاح المصلحين ونصيحة الناصحين، ودعوة نبي إلهيّ عظيم ـ بالتهديد والإتهام، ولا يعرفون إلاّ لغة القوة والقهر، ولهذا قال الله تعالى في الآية اللاحقة: (فأنجيناه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين)(1) أي لما بلغ الأمر إلى هذا الحد أنجينا لوطاً وأتباعه الواقعين وأهله الطيبين، إلاّ زوجته التي كانت على عقيدة قومه المنحرفين فتركناها.
قال البعض: إنّ كلمة "أهل" وإن كان المتعارف إطلاقها على العائلة، ولكن في الآية الحاضرة استعملت في الأتباع الصادقين ـ أيضاً ـ يعني أنّهم كانوا معدودين جزءاً من أهله وعائلته أيضاً، ولكن يستفاد من الآية (36) من سورة الذاريات أنّه لم يؤمن بلوط ودعوته أحد من قومه قط إلاّ عائلته وأقرباؤه، وعلى هذا الأساس يكون لفظ الأهل هنا مستعملا في معناه الأصلي، أي أقرباؤه.
من الآية (10) من سورة التحريم إجمالا أنّ زوجة لوط كانت في البداية امرأة صالحة، ولكنّها سلكت سبيل الخيانة فيما بعد، وجرأت أعداء لوط عليه.
وفي آخر آية من الآيات إشارة قصيرة جداً ـ ولكن ذات مغزى ومعنى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يقال "الغابر" لمن ذهب أهله وفنوا وبقي هو وحده، كما ذهبت عائلة لوط معه، وبقيت زوجته وحدها معه، وأصيبت بما أصيب به العصاة.
[109]
عميق ـ إلى العقوبة الشديدة والرهيبة التي حلّت بهؤلاء القوم، إذ قال تعالى: (وأمطرنا عليهم مطراً) أيّ مطر ... إنّه كان مطراً عجيباً حيث إنهالت عليهم الشهب والنيازك كالمطر وأبادتهم عن آخرهم!!.
إنّ هذه الآية وإن لم تبيّن نوع المطر الذي نزل على القوم، ولكن من ذكر لفظة "المطر" بصورة مجملة اتضح أنّ ذلك المطر لم يكن مطراً عادياً، بل كان مطراً من الحجارة، كما سيأتي في سورة هود الآية (83).
(فانظر كيف كان عاقبة المجرمين).
إنّ هذا الخطاب وإن كان موجهاً إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّه من الواضح أنّ الهدف هو إعتبار جميع المؤمنين به.
هذا وسيأتي تفصيل قصّة هذه الجماعة، وكذا مضار اللواط المتعددة، وحكمه في الشريعة الإسلامية، عند تفسير آيات سورة "هود" و"الحجر".
* * *
[110]
الآيات
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبَاً قَالَ يَـقَوْم اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَتَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنينَ85 وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَط تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً واذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 86 وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يُؤمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحَـكِمِينَ 87
التّفسير
رسالة شعيب في مدين:
في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا خامساً من قصص الأقوام الماضين، ومواجهة الأنبياء العظام معهم، وهذا الفصل يتناول قوم شعيب.
[111]
بعث شعيب(عليه السلام) الذي ينتهي نسبه ـ حسب كتب التاريخ ـ إلى إبراهيم عبر خمس طبقات، إلى أهل مدين. وهي مدينة من مدن الشام، كان أهلها أهل تجارة وترف قد سادت فيهم الوثنية، وكذا الحيلة، والتطفيف في المكيال والميزان، والبخس في المعاملة.
وقد جاء تفصيل هذه المواجهة بين هذا النّبي العظيم و بين أهل مدين، في سور متعددة من القرآن الكريم، وبخاصّة في سورة "هود" و"الشعراء"، ونحن تبعاً للقرآن الكريم سنبحث بتفصيل هذه القصّة في ذيل آيات سورة هود إن شاء الله. أمّا هنا فنذكر شيئاً عن هذه القصّة باختصار طبقاً للآيات المطروحة هنا.
في البداية يقول سبحانه: ولقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيباً (وإلى مدين أخاهم شعيباً).
روى جماعة من المفسّرين، مثل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان، والفخر الرازي في تفسيره المعروف، أن "مدين" في الأصل اسم لأحد أبناء إبراهيم الخليل، وحيث أنّ أبناءه وأحفاده سكنوا في أرض على طريق الشام سميت تلك الأرض "مدين".
هذا وقد أوضحنا السرّ في إستعمال لفظة "أخاهم" في الآية (65) من هذه السورة.
ثمّ إنّه تعالى أضاف: إنّ شعيباً مثل سائر الأنبياء بدأ دعوته بمسألة التوحيد و (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
وقال: إنّ هذا الحكم مضافاً إلى كونه من وحي العقل، ثابت بواسطة الأدلة الواضحة التي جاءتهم من جانب الله أيضاً: (قد جاءتكم بيّنة من ربّكم).
أمّا أنّ هذه "البيّنة" ماهي؟ فإنّه لم يرد كلام حولها في الآيات الحاضرة، ولكن الظاهر أنّها إشارة إلى معجزات شعيب(عليه السلام).
[112]
ثمّ أنّه(عليه السلام) بعد الدعوة إلى التوحيد أخذ في محاربة المفاسد الإجتماعية والأخلاقية والإقتصادية السائدة فيهم، وفي البدء منعهم من ممارسة التطفيف، والغش في المعاملة، يقول: (فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم)(1).
وواضح أن تسرّب أيّ نوع من أنواع الخيانة والغش في المعاملات يزعزع بل ويهدم أسس الطمأنينة والثقة العامّة التي هي أهم دعامة لإقتصاد الشعوب وتلحق بالمجتمع خسائر غير قابلة للجبران. ولهذا السبب كان أحد الموضوعات الهامّة التي ركز عليها شعيب هو هذا الموضوع بالذات.
ثمّ يشير إلى عمل آخر من الأعمال الأثيمة، وهو الإفساد في الأرض بعد أن أُصلحت أوضاعها بجهود الأنبياء، وفي ضوء الإيمان فقال: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).
ومن المسلّم أنّه لا يستفيد أحد من إيجاد الفساد ومن الإفساد، سواء كان فساداً أخلاقياً، أو من قبيل فقدان الإيمان، أو عدم وجود الأمن، لهذا أضاف في آخر الآية قائلا: (ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين).
وكأنّ إضافة عبارة: "إن كنتم مؤمنين" إشارة إلى أنّ هذه التعاليم الإجتماعية والأخلاقية إنما تكون متجذرة ومثمرة إذا كانت نابعة من الإيمان ومستمدة من نوره. أمّا لو كانت قائمة على أساس سلسلة من ملاحظة المصالح المادية، لم يكن لها بقاء ودوام.
وفي الآية اللاحقة يشير إلى رابع نصيحة لشعيب، وهي منعهم عن الجلوس على الطرقات وتهديد الناس، وصدّهم عن سبيل الله، وتضليل الناس بإلقاء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البخس يعني نقص حقوق الأشخاص، والنّزول عن الحد بصورة توجب الظلم والحيف.
[113]
الشبهات وتزييف طريق الحق المستقيم في نظرهم، فقال: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون، وتصدون عن سبيل الله من آمن به، وتبغونها عوجاً).
وأمّا أنّه كيف كانوا يهدّدون الراغبين في الإِيمان، فقد ذكر المفسّرون في هذا المجال إحتمالات متعددة، فالبعض إحتمل أنّه كان ذلك عن طريق التهديد بالقتل، وبعض آخر احتمل أنّه كان عن طريق قطع الطريق ونهب أموال المؤمنين، ولكن المناسب مع بقية العبارات الأُخرى في الآية هو المعنى الأوّل.
وفي ختام الآية جاءت النصيحة الخامسة لشعيب، التي ذكّر فيها قومه بالنعم الإلهية لتفعيل حسّ الشكر فيهم، فيقول: تذكّروا عندما كنتم أفراداً قلائل فزادكم الله في الأفراد وضاعف من قوتكم: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم).
ثمّ يلفت نظرهم إلى عاقبة المفسدين ونهاية أمرهم ومصيرهم المشؤوم حتى لا يتبعوهم في السلوك فيصابوا بما أصيبوا به، فيقول: (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين).
ويستفاد من الجملة الأخيرة أنّه على العكس من الدعايات غير المدروسة لتحديد النسل في هذه الأيّام فإنّ كثرة أفراد المجتمع، يمكن أن تكون منشأ القوّة وعظمة وتقدم المجتمع في أكثر الموارد، طبعاً شريطة أن تضمن معيشتهم وفقاً لبرامج منظمة، من الناحية المادية والمعنوية.
إنّ آخر آية من الآيات المبحوثة هنا بمثابة إجابة على بعض استفهامات المؤمنين والكفار من قومه، لأنّ المؤمنين ـ على أثر الضغوط التي كانت تتوجه إليهم من جانب الكفار ـ كان من الطبيعي أن يطرحوا هذا السؤال على نبيّهم: إلى متى نبقى في العذاب ونتحمل الأذى؟
وكان معارضوهم ـ أيضاً ـ والذين تجرأوا لأنّهم لم تصبهم العقوبة الإلهية فوراً يقولون: إذا كنت من جانب الله حقّاً فلماذا لا يصيبنا شيء رغم كل ما نقوم به
[114]
من إيذاء ومعارضة؟ فيقول لهم شعيب: إن كانت طائفة منكم آمنت بما بُعِثت به، وأعرض أُخرى فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً لغرور الكفار، ويأس المؤمنين، اصبروا حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فالمستقبل سوف يكشف عمن يكون على حق، ومن يكون على باطل (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلتُ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين).
* * *
[115]
الآيتان
قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَـشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَـرِهِينَ 88 قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّْنا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْء عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَـتِحِينَ 89
التّفسير
هذه الآيات تستعرض ردّ فعل قوم شعيب مقابل كلمات هذا النّبي العظيم المنطقية، وحيث أنّ الملا والأثرياء المتكبرين في عصره كانوا أقوياء في الظاهر، كان رد فعلهم أقوى من رد فعل الآخرين.
إنّهم كانوا ـ مثل كل المتكبرين المغرورين يهددون شعيباً معتمدين على قوتهم وقدرتهم، كما يقول القرآن الكريم: (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا).
قد يتصور البعض من ظاهر هذا التعبير "لتعودن إلى ملتنا" أنّ شعيباً كان قبل
[116]
ذلك في صفوف الوثنيين، والحال ليس كذلك، بل حيث إنّ شعيباً لم يكن مكلّفاً بالتبليغ، لذلك كان يسكت على أعمالهم، وكانوا يظنون أنّه كان على دين الوثنية، في حين أنّ أحداً من النّبيين لم يكن وثنياً حتى قبل زمان النّبوة، وإنّ عقول الأنبياء ودرايتهم كانت أسمى من أن يرتكبوا مثل هذا العمل غير المعقول والسخيف، هذا مضافاً إلى أنّ هذا الخطاب لم يكن موجهاً إلى شعيب وحده، بل يشمل المؤمنين من أتباعه ـ أيضاً ـ ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم.
على أن تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا، بل كانت هناك تهديدات أُخرى سنبحثها في سائر الآيات المرتبطة بشعيب.
وقد أجابهم شعيب في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية، إذ قال لهم: وهل في إمكانكم أن تعيدوننا إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك: (قال أو لو كنّا كارهين)(1)؟
وفي الحقيقة يريد شعيب أن يقول لهم: هل من العدل أن تفرضوا عقيدتكم علينا، وتكرهوننا على أن نعتنق ديناً ظهر لنا بطلانه وفساده؟ هذا مضافاً إلى أنّه ما جدوى عقيدة مفروضة، ودين جبريّ؟!
وفي الآية اللاحقة يواصل شعيب قوله: (قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها).
إن هذه الجملة في الحقيقة توضيح للجملة السابقة المجملة، ومفهوم هذه الجملة هو: نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء، وسمعنا الأمر الإِلهي في التوحيد بأُذن القلب، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك ـ والحال هذه ـ نكون حينئذ قد إفترينا على الله عن وعي وشعور، ومن المسلم أنّ الله سيعاقبنا على ذلك بشدة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إنّ في هذه الجملة حذفاً وتقديراً، فالكلام في الأصل على هذه الصورة: "أتردوننا في ملتكم ولو كنّا كارهين".
[117]
ثمّ يضيف شعيب قائلا: (وما يكون لنا أن نعود فيها إلاّ أن يشاء الله).
ومراد شعيب من هذا الكلام هو أنّنا تابعون لأمر الله، ولا نعصيه قيد شعرة، فعودتنا غير ممكنة إلاّ إذا أمر الله بذلك.
ثمّ من دون إبطاء يضيف: إنّ الله يأمر بمثل هذا، لأنّ الله يعلم بكل شيء ويحط علماً بجميع الأُمور (وسع ربّنا كل شيء علماً) وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه، لأنّه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلاّ من كان علمه محدوداً، واشتبه ثمّ ندم على أمره، أمّا الذي يعلم بكل شيء ويحيط بجميع الأُمور علماً فيستحيل أن يعيد النظر.
ثمّ لأجل أن يفهمهم بأنّه لا يخاف تهديداتهم، وأنّه ثابت في موقفه، قال: (على الله توكلنا).
وأخيراً لأجل أن يثبت حسن نيّته، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول: (ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين).
أي: يا ربّ أنت أحكم بيننا وبين هؤلاء بالحق، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء، وافتح علينا أبواب رحمتك، فأنت خير الفاتحين.
وقد روي عن ابن عباس أنّه قال: ما كنت أعرف ماذا يعني الفتح في الآية حتى سمعت امرأة تقول لزوجها: أفاتحك عند القاضي، يعني أطلبك عند القاضي للفصل بيننا، فعرفت معنى الفتح في مثل هذه الموارد، وأنّه بمعنى القضاء والحكم (لأن القاضي يفتح العقدة في مشكلة الطرفين)(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير منهج الصادقين.
[118]
الآيات
وَقَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـسرُونَ 90 فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَـثِمِينَ91 الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبَاً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِين كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَـسِرينَ 92 فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَـقَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـلَـتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلى قَوْم كَـفِرِينَ 93
التّفسير
تتحدث الآية الأُولى عند الدعايات التي كان يبثّها معارضو شعيب ضدّ من يحتمل فيهم الميل إلى الإيمان به فتقول: (وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيباً إنّكم إذاً لخاسرون).
والمقصود من الخسارة ـ هنا ـ الخسارات المادية التي تصيب المؤمنين بدعوة شعيب، إذ من المسلّم عدم عودتهم إلى عقيدة الوثنية، وعلى هذا الأساس كان يجب يخرجوا من بلدهم وديارهم بالقهر، ويتركوا بيوتهم وأملاكهم.
وهناك إحتمال آخر في تفسير الآية، وهو أنّ مرادهم هو الأضرار المعنوية
[119]
بالإضافة إلى الأضرار المادية، لأنّهم كانوا يتصورون أنّ طريق النجاة يتمثل في الوثنية لا في دين شعيب.
وعندما وَصَل أمرهُم إلى الإصرار على ضلاتهم، وَعلى إضلال غيرهم أيضاً، ولم يبق أي أمل في إيمانهم وهدايتهم، حلّت بهم العقوبة إلالهية بحكم قانون حسم مادة الفساد، فأصابهم زلزالٌ رهيبٌ شديدٌ بحيث تهاوى الجميع أجساداً ميّتة، في داخل بيوتهم ومنازلهم (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).
وقد مرّ في ذيل الآية (78) من هذه السورة ـ تفسير لفظة "جاثمين" وقلنا هناك أنّه قد استعملت عبارات وألفاظ مختلفة للتعبير عن عامل هلاك هذه الجماعة لا منافاة بينها.
فمثلا: جاء في شأن قوم شعيب ـ في الآية الحاضرة ـ أنّ عامل هلاكهم كان هو: "الزلزال" وفي الآية (94) من سورة هود أنّه "صيحة سماوية" وفي الآية (189) من سورة الشعراء: أنّه "ظلة من السحاب القاتل" وتعود كلها إلى موضوع واحد، وهو أنّ العذاب المهلك كان صاعقة سماوية مخيفة، اندلعت من قلب السحب الكثيفة المظلمة، واستهدفت مدينتهم، وعلى أثرها حدث زلزال شديد (هو خاصية الصواعق العظيمة) ودمّر كل شيء.
في الآية اللاحقة شرح القرآن الكريم أبعاد هذا الزلزال العجيب المخيف الرهيب بالعبارة التالية: (الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها)(1). أي أنّ الذين كذبوا شعيباً أُبيدوا إبادة عجيبة، وكأنّهم لم يكونوا يسكنون تلك الديار.
وفي ختام الآية يقول: (الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرون).
وكأنّ هاتين الجملتين جواباً لأقوال معارضي شعيب، لأنّهم كانوا قد هدّدوا بأن يخرجوه هو وأتباعه في حالة عدم انصرافهم من دين التوحيد إلى الدين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "يغنوا" مشقة من مادة "غنيَ" بمعنى "الإقامة في المكان" يقول الطبرسي في مجمع البيان: لا يبعد أن يكون المفهوم الأصلي للغنى هو عدم الحاجة، لأنّ من كان عنده منزل حاضر، فهو مستغن عن منزل آخر.
[120]
السابق، فقال القرآن: إنّهم أُبيدوا كاملة، وكأنّهم لم يسكنوا في تلك المنازل، فضلا عن أن يستطيعوا إخراج غيرهم من البلد.
وفي مقابل قولهم: إنّ أتباع شعيب يستلزم الخسران، قال القرآن الكريم: إنّ نتيجة الأمر أثبتت أنّ مخالفة شعيب هي العامل الأصلي في الخسران.
وفي آخر آية ـ من الآيات المبحوثة ـ نقرأ آخر كلام لشعيب مع قومه بعد اعراضه عنهم حيث قال: لقد بلّغت رسالات ربّي، ونصحتكم بالمقدار الكافي، ولم آلُ جهداً في إرشادكم: (فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم).
ثمّ قال (فكيف آسي على قوم كافرين) أي لست متأسّفاً على مصير الكافرين، لأنني قد بذلت كل ما في وسعي لهدايتهم وإرشادهم، ولكنّهم لم يخضعوا للحق ولم يسلّموا، فكان يجب أن ينتظروا هذا المصير المشؤوم.
أمّا أنّه هل قال شعيب هذا الكلام بعد هلاكهم، أم قبل ذلك؟ هناك احتمالان، فيمكن أن يكون قبل هلاكهم، ولكن عند شرح القصة جاء ذكره بعد ذلك.
ولكن مع الإلتفات إلى آخر عبارة، والتي يقول فيها: إنّ مصير هؤلاء الكافرين المؤلم لا يدعو إلى الأسف أبداً، يترجح للنظر أنّ هذه الجملة قيلت بعد نزول العذاب، وأنّ هذه التعابير ـ كما أشرنا في ذيل الآية (79) من هذه السورة قيلت وتقال للأموات كثيراً (وقدأشرنا إلى شواهد ذلك).
* * *
[121]
الآيتان
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة مِّن نَّبِيٍّ إِلاّ أَخَذَنَآ أَهْلَهَا بِالْبَأسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ 94 ثمّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَّقَالَوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرِّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنـَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ 95
التّفسير
إذ لم تنفع المواعظ:
إنّ هذه الآيات ـ التي ذكرت بعد استعراض قصص مجموعة من الأنبياء العظام، مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وقبل أن يعمد القرآن الكريم إلى استعراض قصّة موسى بن عمران ـ إشارة إلى عدّة أصول وقواعد عامّة تحكم في جميع القصص والحوادث، وهي قواعد وأُصول إذا فكَّرنا فيها كشفت القناع عن حقائق قيمة ترتبط بحياتنا ـ جميعاً ـ ارتباطاً وثيقاً.
في البداية يقول: (وما أرسلنا في قرية من نبي إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرعون) فالصِعاب والمشاق والبلايا التي تصيب الأفراد إنّما يفعلها الله بهم عسى أن ينتبهوا، ويتركوا طغيانهم، ويرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه.
[122]
وذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء والرفاه فهم في غفلة وقلما يكون لديهم استعداد وقابلية لقبول الحق. أمّا عندما يتورّطون في المحنة والبلاء، يشرق نور فطرتهم وتوحيدهم ويتذكرون الله قهراً بلا اختيار، وتستعد قلوبهم لقبول الحق.
ولكن هذه اليقظة والنهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء، فهي في كثير من الناس سريعة وعابرة وغير ثابتة، وبمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم وغفوتهم، ولكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة، ويعودون إلى الحق إلى الأبد.
والأقوام الذين جرى الحديث ـ في الآيات السابقة ـ حولهم كانوا من النمط الأوّل.
ولهذا قال تعالى في الآية اللاحقة: عندما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها ومسيرها تحت ضعظ المشكلات والحوادث، بل بقوا في الضلال، رفعنا عنهم المشكلات وجعلنا مكانها النعم والرخاء فازدهرت حياتهم وكثر عددهم وزادت أموالهم (ثمّ بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا) .
و"عفوا" من مادة "عفو" التي تكون أحياناً بمعنى الكثرة، وأحياناً بمعنى الترك والإعراض، وتارة تكون بمعنى محو آثار الشيء. ولكن لا يبعد أن يكون أصل جميع تلك الأُمور هو الترك، غاية ما هنالك قد يترك شيء لحاله حتى يتجذر، ويتوالد ويتناسل ويزداد، وربّما يترك حتى يهلك وينهدم تدريجاً وشيئاً فشيئاً. ولهذا جاء بمعنى الزيادة والهلاك معاً.
وقد احتمل المفسّرون في الآية المبحوثة ثلاثة احتمالات أيضاً:
الأوّل: أنّنا أعطيناهم إمكانيات حتى يزدادوا فيستعيدوا كل ما فقدوه ـ في فترة الشدّة والضراء ـ من الأفراد والاموال.
الآخر: أنّنا أعطيناهم نعماً كثيرة جداً بحيث غرتهم، فنسوا الله، وتركوا شكره.
الثّالث: أنّنا أعطيناهم نعماً كي يستطيعوا بها أن يزيلوا أثار فترة النكبة
[123]
ويمحوها.
إنّ هذه التفاسير وإن كانت متفاوتة من حيث المفهوم، ولكنّها من حيث النتيجة متقاربة فيما بينها.
ثمّ أضاف: أنّهم عند زوال المشكلات بدل أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وهي"النعمة" و"النقمة" بيدالله، وأنّهم راجعون إلى الله، يتذرعون ـ لخداع أنفسهم ـ بهذا المنطق، وهو إذا تعرضنا للمصائب والبلايا، فإنّ ذلك ليس بجديد، فقد مس آباءنا الضراء والسراء، وكانت لهم حالات رخاء وحالات بلاء، فالحياة لها صعود ونزول، والصعاب أمواج غير ثابتة وسريعة الزوال (وقالوا قد مسّ آباءَنا الضّراء والسّراء). فهي إذن قضية طبيعية، ومسألة إعتيادية.
فيقول القرآن الكريم في الختام: إنّ الأمر عندما بلغ إلى هذا الحد، ولم يستفيدوا من عوامل التربية ـ أبداً ـ بل ازدادوا غروراً وعنجهيّة وتكبراً أهلكناهم فجأة ومن غير سابق انذار، لأنّ ذلك أشد إيلاماً ونكالا لهم، وعبرة لغيرهم: (فأخذناهم بغتة وهم لايشعرون).
* * *
[124]
الآيات
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَـت مِّن السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَـهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ96 أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ 97 أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ 98أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَـسِرُونَ 99أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الاَْرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَـهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ 100
التّفسير
التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى:
في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان
[125]
النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحاً فتقول: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فسحب، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.
ولكن للأسف ـ تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن، وكذبوا الأنبياء، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية، فعاقبناهم بسبب أعمالهم (ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون).
* * *
بحوث
وهنا مواضيع ينبغي الوقوف عندها:
1 ـ بركات الأرض والسماء
لقد وقع حديث بين المفسّرين في ما هو المراد من "بركات" الأرض والسماء؟ فقال البعض: إنّها المطر، والنباتات التي تنبت من الأرض.
وفسّرها البعض بإجابة الدعاء، وحل مشاكل الحياة.
ولكن هناك احتمال آخر ـ أيضاً ـ هو أنّ المراد من البركات السماوية هي البركات المعنوية، والمراد من البركات الأرضية هي البركات المادية.
ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يكون التّفسير الأوّل أنسب من الجميع، لأنّه في الآيات السابقة التي شرحت العقوبات الشديدة التي حلّت بالمجرمين والطغاة، فأشارت تارة إلى نزول السيول من السماء وطغيان الينابيع والعيون من الأرض (مثل طوفان نوح) وأُخرى إلى الصواعق والصيحات السماوية، وثالثة إلى الزلازل الأرضية الرهيبة.
[126]
وفي الآية المطروحة هنا طرحت هذه الحقيقة على بساط البحث، وهي: أنّ العقوبات ما هي إلاّ لأفعالهم هم، وإلاّ فلو كان الإنسان طاهراً مؤمناً، فإنّه بدل أن يحل العذاب السماوي أو الأرضي بساحته، تتواتر عليه البركات الإلهية من السماء والأرض.... أجل، إنّ الإنسان هو الذي يبدل البركات بالبلايا.
2 ـ معنى "البركات"
"البركات" جمع "بركة" وهذه الكلمة ـ كما أسلفنا ـ تعني في الأصل "الثبات" والإستقرار، ويطلق على كل نعمة وموهبة تبقى ولا تزول، في مقابل الموجودات العارية عن البركة، والسريعة الفناء والزوال، والخالية عن الأثر.
والملفت للنظر أنّ فائدة التقوى والإيمان لا تقتصر على نزول البركات الإِلهية، بل هما سبب في أن يَصرف الإنسان مالديه في المصارف اللازمة الصَحيحة.
ففي المثل نلاحظ اليوم أنّ قسماً كبيراً من الطاقات الإنسانية، والمصادر الإقتصادية تصرف في سبيل سباق التسلح وصنع الأسلحة المدمّرة. وبذلك تنعدم البركة فيها، ولا تثمر سوى الدمار والخراب، ولكن المجتمعات البشرية اذا تحلّت بالتقوى والإيمان، فإنّ هذه المواهب الإِلهية سيكون لها وضع آخر، ومن الطبيعي أن تبقى آثارها وتخلد، وتكون مصداقاً لكلمة البركات.
3 ـ ماذا يعني "الأخذ"؟
في الآية أعلاه استعملت كلمة "أخذ" في مفهوم المجازاة والعقوبة، وهذا في الحقيقة لأجل أنّ الشخص الذي يراد عقوبته يؤخذ أوّلا في العادة، ثمّ يُوَثق بوسائل خاصّة حتى لا تبقى له قدرة على الفرار، ثمّ يعاقب.
[127]
4 ـ المفهوم الواسع للآية
إنّ الآية الحاضرة وإن كانت ناظرة إلى وضع الأقوام الغابرة، ولكنّه من المسلّم أن مفهومها مفهوم واسع وعام ودائم، ولا تنحصر في شعب معين أو قوم خاص، فإنّها سنة إلهية أن يبتلى غير المؤمنين، والمتورطين في المعاصي والذنوب بأنواع مختلفة ومتنوعة من البلايا في هذه الدنيا، فربّما ينزل عليهم البلاء السماوي والأرضي، وربّما تشتعل نيران الحروب العالمية أو المحلية فتبتلغ أموالهم وتبيدها وربّما يفارقهم الأمن والإستقرار، فتسحق المخاوف والهواجس بأظلافها أبدانهم ونفوسهم، وحسب تعبير القرآن يكون كل ذلك بما كسبت أيديهم ورد فعل لأعمالهم.
إن فيض الله ليس محدوداً ولا ممنوعاً، كما أنّ عقوباته لا تختص بقوم أو شعب.
لماذا تعيش الأُمم الكافرة في الرخاء؟
من كل ما قلناه يتّضح الجواب على سؤال يدور كثيراً بين جماعة من الناس، وهو: إذا كان الإيمان والتقوى يبعثان على نزول أنواع البركات الإِلهية، ويكون العكس موجباً لسلب البركات، فلماذا نشاهد الشعوب غيرالمؤمنة ترفل في الرخاء والرفاه، في حين يعيش جماعة من أهل الإيمان بعسر ومشقّة؟
إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة نقطتين:
1 ـ إنّ تصوّر أنّ الشعوب غيرالمؤمنة الفاقدة للتقوى ترفل في النعمة والرخاء وتغرق في السعادة هو تصور خاطيء ينبع من اشتباه أكبر، وهو إعتبار الثروة دليلا على السعادة.
إنّ الناس يتصورون ـ عادة ـ أنّ كل شعب امتلك صناعة أكثر تقدماً، وثروة أكبر، كان أسعد من غيره، في حين لو تسنى لنا أن ننفذ إلى أعماق هذه
[128]
المجتمعات ونلاحظ الآلام الممضة التي تحطم روح هذه الشعوب وجسمها عن كثب، فسوف نُسلّم أن أكثر تلك الشعوب هي من أشقى سكان الأرض.
هذا بغض النظر عن أنّ هذا التقدم النسبيّ إنّما هو نتيجة استخدامهم لأُصول ومباديء مثل السعي والإجتهاد، والنظم والشعور بالمسؤولية التي هي جزء من تعاليم الأنبياء، ومن صلب توجيهاتهم.
في هذه الأيّام ـ التي نكتب فيها هذا القسم من التّفسير ـ نشرت الجرائد والصحف أنّه حدث في نيويورك ـ التي هي واحدة من أكبر نقاط العالم المادي ثروة وأكثرها تقدماً ـ حادث جدّ عجيب على أثر انقطاع فجائي للتيار الكهربائي، وذلك الحادث هو أنّ كثيراً من الناس هاجموا المحلات والمخازن وسرقوا كل ما فيها بحيث أن ثلاثة آلاف من المغيرين على المحلات اعتقلوا بواسطة البوليس.
إنّ من المسلّم أن عدد المغيرين ـ في الواقع ـ أكثر بأضعاف من هذا العدد، وهذا العدد هم الذين لم يمكنهم الفرار والهرب والنجاة من قبضة البوليس، كما أنّه من المسلّم أن المغيرين لم يكونوا سراقاً محترفين هيّأوا أنفسهم من قبل لمثل هذه الإغارة العمومية، لأنّ الحادثة المذكورة كانت حادثة فجائية.
من هذا نستنتج أنّه مع حالة إنقطاع عابر للتيار الكهربائي يتحول عشرات الالآف من سكان مدينة ثرية ومتقدمة ـ كما يشاؤون تسميتها ـ إلى لصوص وسراق، إن هذا لا يدل على الإنحطاط الخلقي لدى شعب من الشعوب فحسب، بل يدل على فقدان الأمن الإجتماعي الشديد أيضاً.
والخبر الآخر الذي نقلته الصحف، ويكمل ـ في الحقيقة ـ هذا الخبر، وهو أن أحد الشخصيات المعروفة كان يقيم في تلك الأيّام في نيويورك، في أحد الفنادق الشهيرة ذات العشرات من الطوابق، قال: إنّ انقطاع التيار الكهربائي تسبب في أن يمسي التجول في معابر وصالات ذلك الفندق عملا بالغ الخطورة، بحيث أنّ
[129]
مسؤولي الفندق ما كانوا يسمحون لأحد بأن يغادر مكانه إلى غرفته منعاً من أن يتعرض للمغيرين داخل صالات الفندق، ولهذا نظموا المسافرين والنزلاء في جماعات مكونة من عشرة أو أكثر، وتولى موظفون مسلحون إيصالهم إلى غرفهم تحت حراسة مشددة.
ثمّ يضيف ذلك الشخص المذكور: أنّه ما لم يعانِ من الجوع الشديد لم يجرؤ على الخروج من غرفته.
ولكن انقطاع التيار الكهربائى هذا يقع في البلاد المتأخرة الشرقية كثيراً، ولكن لا تحدث مثل هذه المشاكل، وهذا يفيد أن سكان البلدان المتقدمة رغم كونهم يمتلكون ثروة عظيمة، وصنائع عظيمة، لا يملكون أدنى قدر من الأمن في بيئتهم.
هذا مضافاً إلى أنّ شهود عيان يقولون: إنّ القتل والإغتيال في تلك البيئات كشرب الماء من حيث السهولة واليسر.
ونحن نعلم أنّنا أعطينا الدنيا كلها لأحد وكان يعيش في مثل هذه الظروف، كان من أشقى أهل الأرض... على أنّ مشكلة الأمن هي واحدة من مشكلاتهم، وإلاّ فهناك مفاسد إجتماعية أُخرى كل واحد منها بدوره حالة مؤلمةً جداً ... ومع الإلتفات إلى هذه الحقائق فلا معنى لتوهّم أنّ الثروة سعادة.
2 ـ أمّا ما يقال عن سبب تخلّف المجتمعات المتحلية بالإيمان والتقوى، فإذا كان المقصود من الإيمان والتقوى هو مجرّد ادعاء الإسلام وإدعاء أتباع مبادىء الأنبياء وتعاليمهم، فالاعتراض وجيه. ولكننا لا نعتبر حقيقة الإيمان والتقوى إلاّ نفوذهما في جميع أعمال الإنسان، وجميع شؤون الحياة، وهذا أمر لا يتحقق بمجرّد الإدعاء والزعم.
إنّ من المؤسف جدّاً أن نجد التعاليم الإسلامية ومبادىء الأنبياء متروكة أو شبه متروكة في كثير من المجتمعات الإسلامية، فملامح هذه المجتمعات ليست
[130]
ملامح مجتمعات المسلمين الصادقين الحقيقيين.
لقد دعا الإسلام إلى الطهارة والإستقامة والأمانة والإجتهاد والجد، فأين تلك الأمانة والإجتهاد؟
إنّ الإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة واليقظة والوعي، فأين ذلك العلم والوعي واليقظة؟!
وإن الإسلام يدعو إلى الإتحاد والتضامن ووحدة الصفوف والتفاني، فهل سادت هذه الأصول والمبادىء في المجتمعات الإسلامية الحاضرة بصورة كاملة، ومع ذلك بقيت متخلّفة؟!
لهذا يجب أن نعترف بأنّ الإسلام شيء، والمسلمون اليوم شيء آخر.
في الآيات اللاحقة ولمزيد من التأكيد على عمومية هذا الحكم، وأن القانون أعلاه ليس خاصاً بالأقوام الغابرة بل يشمل الحاضر والمستقبل أيضاً ـ يقول: هل أنّ المجرمين الذين يعيشون في نقاط مختلفة من الأرض يرون أنفسهم في أمن من أن تحل بهم العقوبات الإلهية، فتنزل بهم صاعقة أو يصبهم زلزال في الليل وهم نائمون (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون).
وهل هم في أمان من ذلك العذاب في النهار وهم غارقون في أنواع اللهو واللعب (أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون).
يعني أنّهم في قبضة القدرة الإِلهية في جميع الأحوال والأوقات، ليلا ونهاراً، في اليقظة والنوم، في ساعات الفرح والترح، وبإشارة واحدة وأمر واحد يقضى عليهم جميعاً، ويطوي صفحة حياتهم نهائياً، دون الحاجة الى مقدمات وأسباب قبلية، أو لمرور الزمان لهذا العمل.
أجل في لحظة واحدة، ومن دون أية مقدمات يمكن أن تحل أنواع المصائب والنوائب بهذا الإنسان الغافل.
والعجيب أنّ البشرية الحاضرة، رغم كل ما أحرزته من تقدم ورقي في
[131]
الصنائع وفي التكنولوجيا، ومع أنّها سخرت طاقات الكون والطبيعة المختلفة لخدمة نفسها، فإنّها ضعيفة وعاجزة تجاه هذه الحوادث، بنفس المقدار من العجز والضعف الذي كان عليه إنسان العصور السابقة. يعني أن الإنسان لم يتغير حاله تجاه الزلازل والصواعق وما شابهها، حتى بالنسبة إلى إنسان ما قبل التاريخ. وهذه علامة قوية على نهاية عجز الإنسان وشدة ضعفه رغم قدرته وقوته... وهذه حقيقة يجب أن يجعلها الإنسان نصب عينيه دائماً وأبداً.
وفي الآية اللاحقة يعود القرآن الكريم إلى ذكر وتأكيد هذه الحقيقة بشكل آخر فيقول: أفأمن المجرمون من المكر الإِلهي في حين لا يأمن مكره إلاّ الخاسرون (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون).
و"المكر" ـ كما قلنا في ذيل الآية 94 من سورة آل عمران ـ يعني في اللغة العربية كل حيلة ووسيلة لصرف الشخص عن الهدف الذي يمضي إليه، سواء كان حقاً أو باطلا، وقد أخذ في مفهوم هذه اللغة نوع من التدرج والنفوذ التدريجي.
وعلى هذا فالمراد من المكر الإِلهي، هو أنّ الله تعالى يصرفهم بخططه القوية التي لا تقهر عن حياة الرفاه واللذة دون اختيارهم ويقطعها عليهم. وهذه إشارة إلى العقوبات الإِلهية الفجائية والمهلكة.
جواب على سؤال:
إنّ الجملة التي وردت في ختام الآية الحاضرة تقول: لا يأمن أحد ـ إلاّ الخاسرون ـ من المكر الإلهي والعقوبة الإلهية، وهنا يطرح هذا السؤال، وهو: هل تشمل هذه العبارة الأنبياء والأئمّة العظام والصالحين؟
لقد تصوّر البعض أنّهم خارجون من هذا الحكم، وأنّ الآية تختص بالمجرمين. ولكن الظاهر أن هذا الحكم عام يشمل الجميع، لأنّه حتى الأنبياء والأئمّة كانوا مراقبين لأعمالهم دائماً كي لا تصدر منهم أدنى زلة أو عثرة، لأنّنا
[132]
نعلم أن مقام العصمة ليس مفهومه أن المعصية مستحيلة عليهم، بل يعني أنّهم مصونون عن الإثمّ والمعصية بفعل إرادتهم وإيمانهم وحسن إختيارهم، إلى جانب العنايات الربانية.
إنّهم كانوا يخافون من ترك الأولى ويتجنبونه، ويخشون أن لا يتمكنوا من القيام بمسؤولياتهم الثقيلة. ولهذا نقرأ في الآية (15) من سورة الأنعام حول الرّسول الأعظم (قل إنّي أخاف إن عصيتُ ربي عذاب يوم عظيم).
ولقد رويت في تفسير الآية الحاضرة ـ أيضاً ـ أحاديث تؤيد ما قلناه: "صليت خلف أبي عبدالله (الصادق)(عليه السلام)، فسمعته يقول: "اللّهم لا تؤمني مكرك. ثمّ جهر فقال: (فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون)".
ونقرأ في نهج البلاغة أيضاً: "لا تأمنن على خير هذه الأُمّة عذاب الله، لقول الله سبحانه: (فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون)"(1).
إنّ عدم الأمن من المكر الإِلهي ـ في الحقيقة ـ يعني الخوف من المسؤوليات والخوف من التقصير فيها، ومن المعلوم أن الخوف يجب أن يكون في قلوب المؤمنين دائماً إلى جانب الأمل بالرحمة الإلهية بشكل متساو، وأن التوازن بين هذين هو منشأ كلّ حركة ونشاط، وهو الذي يعبّر عنه في الرّوايات بالخوف والرجاء.
وقد جاء التصريح في هذه الرّوايات بوجوب أن يكون المؤمنون دائماً بين الخوف والرجاء، ولكن المجرمين الخاسرين نسوا العقوبات الإِلهية بحيث صاروا يرون أنفسهم في منتهى الأمن المكر الإِلهي.
وفي الآية اللاحقة يقول القرآن الكريم ـ بهدف إيقاظ عقول الشعوب الغافية وإلفات نظرهم إلى العبر التي كانت في حياة الماضيين: ألا يتنبه الذين ورثوا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 377.
[133]
السيادة على الأرض ـ من الأقوام الماضية ـ إلى ما في حياة الماضيين وقصصهم من عبر، فلو أنّنا أردنا أن نهلكهم بذنوبهم لفعلنا (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم).
ويمكننا أيضاً أن نتركهم أحياء ونسلب منهم الشعور وحس التشخيص والتمييز بالمرّة بسبب توغّلهم في الذنوب، بحيث لا يسمعون معها حقيقة، ولا يقبلون نصيحة، ويعيشون بقية حياتهم حيرى (ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون).
أمّا كيف يسلب الله تعالى من هذا الفريق من المجرمين حس التمييز والتشخيص، فيمكنك الوقوف على مزيد التوضيح في هذا المجال في تفسير الآية (7) من سورة البقرة.
* * *
[134]
الآيتان
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالبَيِّنَـتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَـفِرِينَ 101 وَمَا وَجَدْنَا لاَِكْثَرِهِم مِّنْ عَهْد وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَـسِقِينَ102
التّفسير
في هاتين الآيتين ركّز القرآن الكريم على العبر المستفادة من بيان قصص الماضين، والخطاب متوجه هنا إلى الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أن الهدف هو الجميع، يقول القرآن الكريم أوّلا: هذه هي القرى والأقوام التي نقص عليك قصصهم: (تلك القرى نقص عليك من أنبائها)(1).
ثمّ يقول: لم يكن إهلاكهم قبل إتمام الحجة عليهم، بل لقد جاءهم الأنبياء أوّلا بالبراهين الجلية وبذلوا قصارى جهدهم في إيقاظهم وإرشادهم (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات).
ولكنّهم قاوموا الأنبياء وخالفوا دعوتهم، وأصروا ولجّوا في عنادهم، ولم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "نُقُصُّ" من مادة "قص" وقد مر شرحها في ذيل الآية 7.
[135]
يكونوا على استعداد لأن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل، بل استمروا على تكذيبهم حتى مع مشاهدتهم البينات: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل).
من هذه الجملة يستفاد أنّ الأنبياء الإِلهيين قاموا بدعوتهم وإرشادهم مراراً وتكراراً، ولكن المشركين لجوا في عنادهم، وبقوا متصلبين في مواقفهم المتعنتة الرافضة، وأعرضوا عن قبول دعوة الأنبياء حتى بعد وضوح الكثير من الحقائق.
وفي العبارة اللاحقة يبيّن تعالى علّة هذا التعنت واللجاج: (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين).
يعني أنّ الذين يسيرون في درب خاطيء، ويستمرون في السير في ذلك الطريق، ينتقش الإِنحراف والكفر على قلوبهم نتيجة تكرار العمل السيء. ويتجذر الفساد في نفوسهم، كما يثبت النقش على السكة (والطبع في اللغة نقش صورة على شيء كالسكة) وهذا في الحقيقة هو أثر العمل وخاصيته.
وقد نسب إلى الله هو تعالى مسبب الأسباب، وهو منشأ تأثير كل مؤثر، فهو يهب الفعل هذه الخاصية عند تكراره، حيث يجعله "مَلَكة" في نفس الشخص.
ولكن من الواضح والبيّن أن مثل الضلال ليس له أي صفة جبرية وقهرية، بل إنّ موجد الأسباب هو الإنسان وإن كان التأثير بأمر الله تعالى (فتأمل).
وفي الآية اللاحقة يبيّن تعالى قسمين آخرين من نقاط الضعف الأخلاقي لدى هذه الجماعات، والتي تسببت في ضلالها وهلاكها.
في البداية يقول: إنّهم كانوا لا يحترمون العهود والمواثيق بل ينقضونها (وما وجدنا لأكثرهم من عهد).
وهذا العهد يمكن أن يكون إشارة إلى "العهد الفطري" الذي أخذه الله على جميع عباده بحكم الجبلة والفطرة، لأنّه عندما أعطاهم العقل والذكاء والقابلية، كان مفهوم ذلك هو أخذ العهد الميثاق منهم بأن يفتحوا عيونهم وآذانهم، ويروا الحقائق ويسمعوها، وهذا هو ما أشارت إليه الآيات الأخيرة من هذه السورة (أي
[136]
الآية 173) وهو المعروف بـ "عالم الذّر" الذي سنشرحه بإذن الله في ذيل تلك الآيات.
كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى العهد الذي كان الأنبياء الإلهيون يأخذونه من الناس، وكان أكثر الناس يقبلونه، ولكنّهم ينقضونه.
أو يكون إشارة إلى جميع المواثيق "الفطرية" و"التشريعية".
وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق، والإبتلاء بعواقبها المشؤومة.
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى عامل آخر إذ يقول: (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين).
يعني أن روح التمرد والتجاوز على القانون، والخروج عن نظام الخلقة والقوانين الإلهية، كان عاملا آخر من عوامل استمرارهم على الكفر، وإصرارهم على مخالفة الدعوة الإِلهية.
ويجب الإِنتباه إلى أن الضمير في "أكثرهم" يرجع إلى جميع الأقوام والجماعات السالفة.
وما ورد في الآية من أن أكثرهم ينقضون العهد إنّما هو من باب رعاية حال الأقليات التي آمنت بالأنبياء السابقين، وبقيت وفيّة لهم، وهذه الجماعات المؤمنة وإن كانت قليلة وضئيلة العدد جدّاً بحيث أنّها ما كانت تتجاوز أحياناً أُسرة واحدة. ولكن روح الواقعية وتحري الحق المتجلّية في كل آيات القرآن أوجبت أن لا يتجاهل القرآن الكريم حق هذه الجماعات القليلة أو الأفراد المعدودين، بل يراعيها فلا يصف جميع الأفراد في المجتمعات السالفة بالإِنحراف والضلال ونقض العهد والفسق.
وهذا موضوع جميل جدّاً، وجدير بالإِهتمام، وهو ما نشاهده ونلحظه في آيات القرآن كثيراً.
* * *
[137]
الآيات
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِأيَـتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 103 وَقَالَ مُوسَى يَـفِرْعَوْنُ إِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ104 حَقِيقٌ عَلى أَن لاَّ أَقُولَ عَلى اللهِ إِلاّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيَّنَة مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَئيلَ 105 قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِأَيَة فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ 106 فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ107 وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـظِرِينَ 108
التّفسير
المواجهة بين موسى وفرعون:
بعد ذكر قصص ثلة من الأنبياء العظام باختصار في الآيات السابقة بيّن تعالى في هذه الآيات والآيات الكثيرة اللاحقة قصّة موسى بن عمران، وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة أمره.
وعلّة بيان هذه القصّة بصورة أكثر تفصيلا من قصص الأنبياء الآخرين في هذه السورة قد تكون لأجل أنّ اليهود أتباع موسى بن عمران كانوا أكثر من
[138]
غيرهم في بيئة نزول القرآن، وكان إرشادهم إلى الإسلام أوجب.(1)
وثانياً: لأنّ قيام النّبي الأكرم كان أشبه بقيام موسى بن عمران من غيره من الأنبياء.
وعلى كل حال فإنّ هذه القصة الزاخرة بالعبر قد أشير إلى فصول أُخرى منها أيضاً في سور أُخرى، مثل: سورة البقرة، طه، الشعراء، النمل، القصص، وسور أُخرى، ولو أنّنا درسنا آيات كل سورة على حدة، ثمّ وضعناها جنباً إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصوره البعض، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به. وحيث أنّ مصر كانت أوسع، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدماً من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني ـ بنفس النسبة ـ أكثر وأكبر، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية أكبر، وحوى عبراً ونكات أكثر، وقد ركّز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة.
وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النّبي الإِلهي العظيم في خمس دورات ومراحل:
ا ـ مرحلة الولادة، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعون.
2 ـ مرحلة فراره من مصر، وحياته في أرض "مدين" في كنف النّبي شعيب(عليه السلام).
3 ـ مرحلة بعثته، ثمّ المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.
4 ـ مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون، والحوادث التي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ صحيح أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، ولم تكن مكّة مركز تجمع اليهود، ولكن من دون شك كان لحضور في المدينة وسائر نقاط الحجاز أثر واسع في المجتمع المكّي.
[139]
جرت عليه في الطريق، وعند وروده إلى بيت المقدس.
5 ـ مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل.
ويجب الإنتباه إلى أن القرآن الكريم تناول في كل سورة من سور قسماً ـ أو عدّة أقسام ـ من هذه المراحل الخمس.
ومن تلك الآيات التي تناولت جوانب من قصّة موسى(عليه السلام) هذه الآيات، وعشرات الآيات الأخر من هذه السورة، وهي تشير إلى مراحل مابعد بعثة موسى بن عمران بالنبوة. ولهذا فإنّنا نوكل الأبحاث المتعلقة بالمراحل السابقة على هذه المرحلة إلى حين تفسير الآيات المرتبطة بتلك الأقسام في السور الأُخرى، وبخاصّة سورة القصص.
في الآية الأُولى من الآيات الحاضرة يقول تعالى: (ثمّ بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه) أي من بعد قوم نوح وهود وصالح.
ويجب الإلتفات إلى أنّ "فرعون" اسم عام، وهو يطلق على كل ملوك مصر، كما يطلق على ملوك الروم "قيصر" وملوك فارس "كسرى" .
ولفظة "الملأ" ـ كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ـ تعني الأعيان والأشراف الذين يملأون ببريقهم وظواهرهم الباذخة العيون، ولهم حضور ملفت للنظر في جميع ميادين المجتمع.
والسر في إرسال موسى في بداية الدعوة إلى فرعون وملأه هو أنّه علاوة على أنّ إحدى برامج موسى كان هو نجاة بني اسرائيل من براثن استعمار الفراعنة وتخليصهم من أرض مصر ـ وهذا لا يمكن أن يتم من دون الحوار مع فرعون ـ إنّما هو لأجل أن المفاسد الإجتماعية وانحراف البيئة لا تعالج بمجرّد الإِصلاحات الفردية والموضعية فقط، بل يجب أن يُبدأ بإصلاح رؤوس المجتمع وقادته الذين يمسكون بأزمة السياسة والإقتصاد والثقافة، حتى تتهيأ الأرضية لإِصلاح البقية، كما يقال عرفاً: إنّ تصفية الماء يجب أن تكون من المنبع.
[140]
وهذا هو الدرس الذي يعطيه القرآن الكريم لجميع المسلمين، لإِصلاح المجتمعات الإسلامية.
ثمّ يقول تعالى: (فظلموا بها).
ونحن نعلم أنّ لفظ الظلم بالمعنى الواسع للكلمة هو: وضع الشيء في غير محلّة، ولا شك في أن الآيات الإِلهية توجب أن يسلّم الجميع لها، وبقبولها يصلح الإِنسان نفسه ومجتمعه، ولكن فرعون وملأه بإنكارهم لهذه الآيات ظلموا هذه الآيات.
ثمّ يقول تعالى في ختام الآية: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين).
وهذه العبارة إشارة إجمالية إلى هلاك فرعون وقومه الطغاة المتمردين، الذي سيأتي شرحه فيما بعد.
وهذه الآية تشير إشارة مقتضبة إلى مجموع برنامج رسالة موسى، وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة أمرهم.
أمّا الآيات اللاحقه فتسلّط الاضواء بصورة أكثر على هذا الموضوع.
فيقول أوّلا: (وقال موسى يا فرعون إنّي رسول من ربّ العالمين).
وهذه هي أوّل مواجهة بين موسى وبين فرعون، وهي صورة حية وعملية من الصراع بين "الحق" و"الباطل".
والطريف أنّ فرعون كأنّه كان ينادى لأوّل مرّة بـ "يا فرعون" وهو خطاب رغم كونه مقروناً برعاية الأدب، خال عن أي نوع من أنواع التملق والتزلف وإظهار العبودية والخضوع، لأنّ الآخرين كانوا يخاطبونه عادة بألفاظ فيها الكثير من التعظم مثل: يا مالكنا، يا سيدنا، يا ربنا، وما شابه ذلك.
وتعبير موسى هذا، كان يمثل بالنسبة إلى فرعون جرس إنذار وناقوس خطر. هذا مضافاً إلى أن عبارة موسى (إنّي رسول من ربّ العالمين) كانت ـ في الحقيقة ـ نوعاً من إعلان الحرب على جميع تشكيلات فرعون، لأنّ هذا التعبير
[141]
يثبت أن فرعون و نظراءه من أدعياء الرّبوبية يكذبون جميعاً في ادعائهم، وأن ربّ العالمين هو الله فقط، لا فرعون ولا غيره من البشر.
وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى عقيب دعوى الرسالة من جانب الله قال: فالآن إذ أنا رسول ربّ العالمين ينبغي ألا أقول عن الله إلاّ الحق، لأنّ المرسل من قبل الله المنزّه عن جميع العيوب لا يمكن أن يكون كاذباً (حقيق عليّ أن لا أقول على الله إلاّ الحق).
ثمّ لأجل توثيق دعواه للنّبوة، أضاف: أنا لا أدعي ما أدّعيه من دون دليل، بل إنّ معي أدلة واضحة من جانب الله (قد جئتكم ببينة من ربّكم).
فإذا كان الأمر هكذا (فأرسل معي بني إسرائيل).
وكان هذا في الحقيقة قسماً من رسالة موسى بن عمران الذي حرّر بني إسرائيل من قبضة الإستعمار الفرعوني، ووضع عنهم إصرهم وأغلال العبودية التي كانت تكبّل أيديهم وأرجلهم، لأنّ بني إسرائيل كانوا في ذلك الزمان عبيداً أذلاّء بأيدي القبطيين (أهالي مصر) فكانوا يستفيدون منهم في القيام بالأعمال السافلة والصعبة والثقلية.
ويستفاد من الآيات القادمة ـ وكذا الآيات القرآنية الأُخرى بوضوح وجلاء أنّ موسى كان مكلفاً بدعوة فرعون وغيره من سكان أرض مصر إلى دينه، يعني أن رسالته لم تكن منحصرة في بني إسرائيل.
فقال فرعون بمجرّد سماع هذه العبارة ـ (أي قوله: قد جئتكم ببيّنة) ـ هات الآية التي معك من جانب الله إن كنت صادقاً (قال إن كنتَ جئتَ بآية فأت بها إن كنت من الصادقين).
وبهذه العبارة اتّخذ فرعون ـ ضمن إظهار التشكيك في صدق موسى ـ هيئة الطالب للحق المتحري للحقيقة ظاهراً، كما يفعل أي متحر للحقيقة باحث عن الحق.
[142]
ومن دون تأخير أخرج موسى معجزتيه العظميتين التي كانت إحداهما مظهر "الخوف" والأُخرى مظهر "الأمل" وكانتا تكملان مقام إنذاره ومقام تبشيره، وألقى في البداية عصاه: (فالقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين)(1).
والتعبير بـ "المبين" إشارة إلى أنّ تلك العصا التي تبدلت إلى ثعبان حقّاً، ولم يكن سحراً وشعبذة وما شاكل ذلك، على العكس من فعل السحرة لأنّه يقول في شأنهم: إنّهم مارسوا الشعبذة والسحر، وعملوا ما تصوره الناس حيات تتحرك، وما هي بحيات حقيقة وواقعاً.
إنّ ذكر هذه النقطة أمرٌ ضروري، وهي أنّنا نقرأ في الآية (10) من سورة النمل، والآية (31) من سورة القصص، أن العصا تحركت كالجانّ، و "الجانّ" هي الحيات الصغيرة السريعة السير، وإنّ هذا التعبير لا ينسجم مع عبارة "ثعبان" التي تعني الحية العظيمة ظاهراً.
ولكن مع الإلتفات إلى أنّ تينك الآيتين ترتبطان ببداية بعثة موسى، والآية المبحوثة هنا ترتبط بحين مواجهته لفرعون، تنحل المشكلة، وكأن الله أراد أن يوقف موسى على هذه المعجزة العظيمة تدريجاً فهي تظهر في البداية أصغر، وفي الموقف اللاحق تظهر أعظم.
هل يمكن قلب العصا إلى حية عظيمة؟!
على كل حال لا شك في أنّ تبديل "العصا" إلى حية عظيمة معجزة، ولا يمكن تفسيرها بالتحليلات المادية المتعارفة، بل هي من وجهة نظر الإلهي الموحد ـ الذي يعتبر جميع قوانين المادة محكومة للمشيئة الربانية ـ ليس فيها ما يدعو للعجب فلا عجب أن تتبدل قطعة من الخشب إلى حيوان بقوة ما فوق
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إحتمل "الراغب" في "المفردات" أن تكون كلمة ثعبان متخذة من مادة "ثعب" بمعنى جريان الماء، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهر التي تجري بصورة ملتوية.
[143]
الطبيعة.
ويجب أن لا ننسى أن جميع الحيوانات في عالم الطبيعة توجد من التراب، والأخشاب والنباتات هي الأُخرى من التراب، غاية ما هنالك أن تبديل التراب إلى حية عظيمة يحتاج عادة إلى ملايين السنين، ولكن في ضوء الإِعجاز تقصر هذه المدّة إلى درجة تتحقق كل تلك التحولات والتكاملات في لحظة واحدة وبسرعة، فتتخذ القطعة من الخشب ـ التي تستطيع وفق الموازين الطبيعية أن تغير بهذه الصورة بعد مضي ملايين السنين ـ تتخذ مثل هذه الصورة في عدّة لحظات.
والذين يحاولون أن يجدوا لمعاجز الأنبياء تفسيرات طبيعية ومادية ـ وينفوا طابعها الإعجازي، ويظهروها في صورة سلسلة من المسائل العادية مهما كانت هذه التفاسير مخالفة لصريح الكتب السماوية. إنّ هؤلاء يجب أن يوضحوا موقفهم: هل يؤمنون بالله وقدرته ويعتبرونه حاكماً على قوانين الطبيعة، أم لا؟ فإذا كانوا لا يؤمنون به وبقدرته، لم يكن كلام الأنبياء ومعجزاتهم إلاّ لغواً لديهم. وإذا كانوا مؤمنين بذلك، فما الداعي لنحت، مثل هذه التّفسيرات والتبريرات المقرونة بالتكلف والمخالفة لصريح الآيات القرآنية. (وإن لم نر أحداً من المفسّرين ـ على ما بينهم من اختلاف السليقة ـ عمد إلى هذا التّفسير المادي ، ولكن ما قلناه قاعدة كلية).
ثمّ إنّ الآية اللاحقة تشير إلى المعجزة الثّانية للنّبي موسى(عليه السلام) التي لها طابع الرجاء والبشارة، يقول تعالى: (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين).
"نزع" تعني في الأصل أخذ شيء من مكان، مثلا أخذ العباءة من الكتف واللباس عن البدن يعبر عنه في اللغة العربية بالنزع فيقال: نزع ثوبه ونزع عباءته، وهكذا أخذ الروح من البدن يطلق عليه النزع. وبهذه المناسبة قد يستعمل في الإستخراج، وقد جاءت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بهذا المعنى.
ومع أنّ هذه الآية لم يرد فيها أي حديث عن محل إخراج اليد، ولكن من
[144]
الآية (32) من سورة القصص (اُسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء) يستفاد أنّ موسى كان يدخل يده في جيبه ثمّ يخرجها ولها بياض خاص، ثمّ تعود إلى سيرتها وحالتها الأُولى.
ونقرأ في بعض الأحاديث والرّوايات والتفاسير أنّ يد موسى كانت مضافاً إلى بياضها تشعّ بشدّة، ولكن الآيات القرآنية ساكتة عن هذا الموضوع، مع عدم تناف بينهما.
إنّ هذه المعجزة والمعجزة السابقة حول العصا ـ كما قلنا سابقاً ـ ليس لها جانب طبيعي وعادي، بل هي من صنف خوارق العادة التي كان يقوم بها الأنبياء، وهي غير ممكنة من دون تدخل قوة فوق طبيعية في الأمر.
وهكذا أراد موسى بإظهار هذه المعجزة أن يوضح هذه الحقيقة، وهي أن برامجه ليس لها جانب الترهيب والتهديد، بل الترهيب والتهديد للمخالفين والمعارضين، والتشويق والإصلاح والبناء والنورانية للمؤمنين.
* * *
[145]
الآيات
قَالَ الْمَلاَُ مِن قَومِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَـحِرٌ عَلِيمٌ 109 يُرِيُد أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ 110 قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَـشِرِينَ 111 يَأْتُوكَ بِكُلِّ سـحِر عَلِيم112
التّفسير
بدء المواجهة:
في هذه الآيات جاء الحديث عن أوّل ردّ فعل لفرعون وجهازه في مقابل دعوة موسى(عليه السلام) ومعجزاته.
الآية الأُولى تَذكر عن ملأ فرعون أنّهم بمجرّد مشاهدتهم لأعمال موسى الخارقة للعادة اتهموه بالسحر، وقالوا: هذا ساحر عليم ماهر في سحره: (قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم).
ولكن يستفاد من آيات سورة الشعراء الآية (34) أن هذا الكلام قاله فرعون حول موسى: (قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم).
ولكن لا منافاة بين هاتين الآيتين، لأنّه لا يبعد أن يكون فرعون قال هذا
[146]
الكلام في البداية، وحيث أن عيون الملأ كانت متوجهة إليه، ولم يكن لهذا الملأ المتملق المتزلف هدف إلاّ رضى رئيسه وسيده، وما ينعكس على محياه، وما توحي به إشارته، كرّر هو أيضاً ما قاله الرّئيس، فقالوا: أجل، إن هذا لساحر عليم.
وهذا السلوك لا يختص بفرعون وحواشيه، بل هو دأب جميع الجبارين في العالم وحواشيهم.
ثمّ أضافوا: إنّ هدف هذا الرجل أن يخرجكم من وطنكم (يريد أن يخرجكم من أرضكم).
يعني أنّه لا يهدف إلاّ إستعماركم واستثماركم، وإنّ الحكومة على الناس، وغصب أراضي الآخرين، وهذه الأعمال الخارقة للعادة وادعاء النّبوة كلّها لأجل الوصول إلى هذا الهدف.
ثمّ قالوا بعد ذلك: مع ملاحظة هذه الأوضاع فما هو رأيكم: (فماذا تأمرون)؟
يعني أنّهم جلسوا يتشاورون في أمر موسى، ويتبادلون الرأي فيما يجب عليهم اتّخاذه تجاهه، لأنّ مادة "أمر" لا تعني دائماً الإِيجاب والفرض، بل تأتي ـ أيضاً ـ بمعنى التشاور.
وهنا لابدّ من الإِلتفات إلى أنّ هذه الجملة وردت في سورة الشعراء الآية (35) أيضاً، وذلك عن لسان فرعون، حيث قال لملائه: فماذا تأمرون. وقد قلنا: إنّه لا منافاة بين هذين.
وقد احتمل بعض المفسّرين ـ أيضاً ـ أن تكون جملة "فماذا تأمرون" في الآية الحاضرة خطاباً وجهه ملأ فرعون وحاشيته إلى فرعون، وصيغة الجمع إنما هي لرعاية التعظيم، ولكن الإحتمال الأوّل ـ وهو كون هذا الخطاب موجهاً من ملأ فرعون إلى الناس ـ أقرب إلى النظر.
وعلى كل حال فقد قال الجميع لفرعون: لا تعجل في أمر موسى وهارون، وأجلّ قرارك بشأنهما إلى ما بعد، ولكن ابعث من يجمع لك السحرة من جميع
[147]
أنحاء البلاد (قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين).
نعم ابعث من يجمع لك كل ساحر ماهر في حرفته عليم في سحره (يأتوك بكل ساحر عليم).
فهل هذا الإقتراح من جانب حاشية فرعون كان لأجل أنّهم كانوا يحتملون صدق ادعاء موسى للنّبوة، وكانوا يريدون اختباره؟
أو أنّهم على العكس كانوا يعتبرونه كاذباً في دعواه، ويريدون افتعال ذريعة سياسية لأي موقف سيتخذونه ضد موسى كما كانوا يفعلون ذلك في بقية مواقفهم ونشاطاتهم الشخصية؟ ولهذا اقترحوا ارجاء أمر قتل موسى وأخيه نظراً لمعجزتيه اللتين أورثتا رغبة في مجموعة كبيرة من الناس في دعوته وانحيازهم إليه، ومزجت صورة "نبوته" بصورة "المظلومية والشهادة" وأضفت بضم الثّانية إلى الأُولى ـ مسحة من القداسة والجاذبية عليه وعلى دعوته.
ولهذا فكروا في بداية الأمر في إجهاض عمله بأعمال خارقة للعادة مماثلة، ويسقطوا اعتباره بهذه الطريقة، ثمّ يأمرون بقتله لتنسى قصة موسى وهارون وتمحى عن الأذهان إلى الأبد.
يبدو أن الإحتمال الثّاني بالنظر إلى القرائن الموجودة في الآيات ـ أقرب إلى النظر.
* * *
[148]
الآيات
وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَونَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لاََجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَـلِبِينَ113 قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ 114 قَالُوا يَـمُوسى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ 115 قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّآ أَلْقُوا سَحَرُوا أعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْر عَظِيم116 وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ117 فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ118 فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وانْقَلَبُوا صَـغِرِينَ119وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـجِدِينَ120 قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ 121 رَبِّ مُوسَى وَهَـرُونَ 122
التّفسير
كيف انتصر الحقّ في النهاية؟
في هذه الآيات جرى الحديث حول المواجهة بين النّبي موسى(عليه السلام)، وبين السحرة، وما آل إليه أمرهم في هذه المواجهة، وفي البداية تقول الآية: إنّ السحرة بادروا إلى فرعون بدعوته، وكان أوّل ما دار بينهم وبين فرعون هو: هل لنا من
[149]
أجر إذا غلبنا العدوّ (وجاء السحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين)؟!
وكلمة "الأجر" وإن كانت تعني أي نوع من أنواع الثواب، ولكن نظراً إلى ورودها هنا في صورة "النكرة"، و"النكرة" في هذه الموارد إنّما تكون لتعظيم الموضوع وإبراز أهميته بسبب إخفاء ماهيته ونوعيته، لهذا يكون الأجر هنا بمعنى الأجر المهم والعظيم وبخاصّة أنّه لم يكن ثمّة نزاع في أصل استحقاقهم للأجر والمثوبة، فالمطلوب من فرعون هو الوعد بإعطائهم أجراً عظيماً وعوضاً مهمّاً.
فوعدهم فرعون ـ فوراً ـ وعداً جيداً وقال: إنّكم لن تحصلوا على الأجر السخي فقط، بل ستكونون من المقرّبين عندي (قال نعم وإنّكم من المقرّبين).
وبهذه الطريقة أعطاهم وعداً بالمال ووعداً بمنصب كبير لديه، ويستفاد من هذه الآية أنّ التقرب إلى فرعون في ذلك المحيط، وتلك البيئة كان أعلى وأسمى وأهم من المال والثروة، لأنّه كان يعني منزلة معنوية كان من الممكن أن تصبح منشأ لأموال كثيرة وثروات كبيرة.
وفي المآل حُدِّدَ موعدٌ معين لمواجهة السحرة لموسى، وكما جاء في سورة "طه" و"الشعراء" دُعي جميع الناس لمشاهدة هذا النزال، وهذا يدل على أنّ فرعون كان مؤمناً بانتصاره على موسى(عليه السلام).
وحلّ اليوم الموعود، وهيّأ السحرة كل مقدمات العمل ... حفنة من العصىّ والحبال التي يبدو أنّها كانت معبئة بمواد كيمياوية خاصّة، تبعث على حركتها إذا سطعت عليها الشمس، لأنّها تتحول إلى غازات خفيفة تحرّك تلك العصي والحبال المجوفة.
وكانت واقعة عجيبة، فموسى وحده (ليس معه إلاّ أخوه) يواجه تلك المجموعة الهائلة من السحرة، وذلك الحشد الهائل من الناس المتفرجين الذين
[150]
كانوا على الأغلب من أنصار السحرة ومؤيديهم.
فالتفت السحرة في غرور خاص وكبير إلى موسى(عليه السلام) وقالوا: إمّا أن تشرع فتلقي عصاك، وإمّا أن نشرع نحن فنلقي عصيّنا؟ (قالوا ياموسى إمّا أن تلقى وإمّا أن نكون نحن المُلقين).
فقال موسى(عليه السلام) بمنتهى الثقة والإِطمئنان: بل اشرعوا أنتم (قال ألقوا).
وعندما ألقى السحرة بحبالهم وعصيّهم في وسط الميدان سحروا أعين الناس، وأوجدوا بأعمالهم وأقاويلهم المهرجة ومبالغاتهم وهرطقاتهم خوفاً في قلوب المتفرجين، وأظهروا سحراً كبيراً رهيباً: (فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم).
وكلمة "السحر" ـ كما مرّ في المجلد الأوّل من هذه الموسوعة التفسيرية، عند تفسير الآية (102) من سورة البقرة ـ تعني في الأساس الخداع والشعبذية، وقد يطلق أيضاً على كل عامل غامض، ودافع غير مرئي.
وعلى هذا الأساس، فإن هذه الجماعة كانت توجد أفعالا عجيبة بالإعتماد على سرعة حركة الأيدي، والمهارة الفائقة في تحريك الأشياء لتبدو وكأنّها أمورٌ خارقة للعادة وكذلك الأشخاص الذين يستفيدون من الخواص الكيمياوية والفيزياوية الغامضة الموجودة في الأشياء والمواد، فيظهرون أعمالا مختلفة خارقة للعادة. كل هؤلاء يدخلون تحت عنوان "الساحر".
هذا علاوة على أن السحرة يستفيدون ـ عادة ـ من سلسلة من الإيحاءات المؤثرة في مستميعهم، ومن العبارات والجمل المبالغة، وربّما الرهيبة المخوفة لتكميل عملهم، والتي تترك آثاراً جدّ عجيبة في مستمعيهم ومتفرجيهم وجمهورهم.
ويستفاد من آيات مختلفة في هذه السورة ومن سور قرآنية أُخرى حول قصة سحرة فرعون، أنّهم استخدموا كل هذه العوامل والأدوات، وعبارة "سحروا
[151]
أعين الناس" وجملة "استرهبوهم" أو تعبيرات أُخرى في سور "طه" و"الشعراء" جميعها شواهد على هذه الحقيقة.
* * *
بحوث
وهنا لابدّ من الإشارة إلى نقطتين:
1 ـ المشهد العجيب لسحر السّاحرين
لقد أشار القرآن الكريم إشارة إجمالية من خلال عبارة(وجاؤوا بسحر عظيم) إلى الحقيقة التالية وهي: أنّ المشهد الذي أوجده السحرة كان عظيماً ومهماً، ومدروساً ومهيباً، وإلاّ لما استعمل القرآن الكريم لفظة "عظيم" هنا.
ويستفاد من كتب التاريخ ومن روايات وأحاديث المفسّرين في ذيل هذه الآية، وكذا من آيات مشابهة ـ بوضوح ـ سعة أبعاد ذلك المشهد.
فبناء على ما قاله بعض المفسّرين كان عدد السحرة يبلغ عشرات الألوف، وكانت الأجهزة والوسائل المستعملة كذلك تبلغ عشرات الآلاف، ونظراً إلى أن السحرة المهرة والمحترفين لهذا الفن في مصر كانوا في ذلك العصر كثيرين جدّاً، لهذا لا يكون هذا الكلام موضع استغراب وتعجب. خاصّة أنّ القرآن الكريم في سورة "طه" الآية (67) يقول: (فأوجس في نفسه خيفةً موسى) أي أنّ المشهد كان عظيماً جدّاً ورهيباً إلى درجة أن موسى شعر بالخوف قليلا، وإن كان ذلك الخوف ـ حسب تصريح نهج البلاغة ـ (1) لأجل أنّه خشي أن من الممكن أن يتأثر الناس بذلك المشهد العظيم، فيكون إرجاعهم إلى الحق صعباً، وعلى أي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الخطبة، 4.
[152]
حال فإنّ ذلك يكشف عن عظمة ذلك المشهد ورهبته.
2 ـ الإستفادة من السلاح المشابه
من هذا البحث يستفاد ـ بجلاء ووضوح ـ أنّ فرعون بالنظر إلى حكومته العريضة في أرض مصر، كانت له سياسات شيطانية مدروسة، فهو لم يستخدم لمواجهة موسى وأخيه هارون من سلاح التهديد والإِرعاب، بل سعى للاستفادة من أسلحة مشابهة ـ كما يظن ـ في مواجهة موسى، ومن المسلّم أنّه لو نجح في خطّته لما بقي من موسى ودينه أي أثر أو خبر، ولكان قتل موسى(عليه السلام) في تلك الصورة أمراً سهلا جداً، بل وموافقاً للرأي العام، جهلا منه بأنّ موسى لا يعتمد على قوة إنسانية يمكن معارضتها ومقاومتها، بل يعتمد على قوّة أزلية إلهية مطلقة، تحطّم كلّ مقاومة، وتقضي على كل معارضة.
وعلى أية حال، فإنّ الإستفادة من السلاح المشابه أفضل طريق للإنتصار على العدو المتصلّب، وتحطيم القوى المادية.
في هذه اللحظة التي اعترت الناس فيها حالة من النشاط والفرح، وتعالت صيحات الإِبتهاج من كل صوب، وعلت وجوه فرعون وملائه ابتسامة الرضى، ولمع في عيونهم بريق الفرح، أدرك الوحي الإلهي موسى(عليه السلام) وأمره بإلقاء العصى، وفجأة انقلب المشهد وتغير، وبدت الدهشة على الوجوه، وتزعزت مفاصل فرعون وأصحابه كما يقول القرآن الكريم: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف مايأفكون).
و"تلقف" مشتقة من مادة "لَقْف" (على وزن سَقف) بمعنى أخذ شىء بقوة وسرعة، سواء بواسطة الفم، والأسنان، أو بواسطة الأيدي، ولكن تأتي في بعض الموارد بمعنى البلع والإبتلاع أيضاً، والظاهر أنّها جاءت في الآية الحاضرة بهذا المعنى.
[153]
و "يأفكون" مشتقّة من مادة "إفك" على وزن "مسك" وهي تعني في الأصل الإنصراف: عن الشيء، وحيث أن الكذب يصرف الإنسان من الحق أطلق على الكذب لفظ "الإفك".
وهناك احتمال آخر في معنى الآية ذهب إليه بعض المفسّرين، وهو أن عصا موسى بعد أن تحولت إلى حيّة عظيمة لم تبتلع أدوات سحر السحرة، بل عطّلها عن العمل والحركة وأعادها إلى حالتها الأُولى. وبذلك أوصد هذا العمل طريق الخطأ على الناس، في حين أن الإبتلاع لا يمكنه أن يقنع الناس بأنّ موسى لم يكن ساحراً أقوى منهم.
ولكن هذا الإحتمال لا يناسب جملة "تلقف" كما لا يناسب مطالب الآية، لأنّ "تلقف" ـ كما أسلفنا ـ تعني أخذ شيء بدقة وسرعة لا قلب الشيء وتغييره.
هذا مضافاً إلى أنّه لو كان المقرر أن يظهر إعجاز موسى(عليه السلام) عن طريق إبطال سحر السحرة، لم تكن حاجة إلى أن تتحول العصى إلى حيّة عظيمة، كما قال القرآن الكريم في بداية هذه القصّة.
وبغض النظر عن كل هذا، لو كان المطلوب هو إيجاد الشك والوسوسة في نفوس المتفرجين، لكانت عودة وسائل السحرة وأدواتهم إلى هيئتها الأُولى ـ أيضاً ـ قابلة للشك والترديد، لأنّه من الممكن أن يحتمل أن موسى بارع في السحر براعة كبرى بحيث أنّه استطاع إبطال سحر الآخرين وإعادتها إلى هيئتها الأُولى.
بل إن الذي تسبب في أن يعلم الناس بأن عمل موسى أمر خارق للعاده، وأنّه عمل إلهي تحقق بالإعتماد على القدرة والإِلهية المطلقة، هو أنّه كان في مصر آنذاك مجموعة كبيرة من السحرة الماهرين جدّاً، وكان أساتذه هذا الفن وجوهاً معروفة في تلك البيئة، في حين أن موسى الذي لم يكن متصفاً بأي واحدة من هذه الصفات، وكان ـ في الظاهر ـ رجلا مغموراً، نهض من بين بني إسرائيل،
[154]
وأقدم على مثل ذلك العمل الذي عجز أمامه الجميع. ومن هنا عُلِمَ أن هناك قوة غيّبة تدخلت في عمل موسى، وأن موسى ليس رجلا عادياً.
وفي هذا الوقت ظهر الحق، وبطلت أعمالهم المزّيفة (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون). لأنّ عمل موسى كان عملا واقعياً، وكانت أعمالهم حفنة من الحيل ومن أعمال الشعبذة، ولا شك أنّه لا يستطيع أي باطل أن يقاوم الحق دائماً.
وهذه هي أوّل ضربة توجهت إلى أساس السلطان الفرعوني الجبّار.
ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة: وبهذه الطريقة ظهرت آثار الهزيمة فيهم، وصاروا جميعاً أذلاء: (فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين).
وبالرغم من أنّ المؤرخين ذكروا في كتب التاريخ قضايا كثيرة حول هذه الواقعة، ولكن حتّى من دون نقل ما جاء في التواريخ يمكن الحدس أيضاً بما حدث في هذه الساعة من اضطراب في الجماهير المتفرجة ... فجماعة خافوا بشدّة بحيث أنّهم فرّوا وهربوا، وأخذ آخرون يصيحون من شدّة الفزع، وبعض أُغمي عليه.
وأخذ فرعون وملأه ينظرون إلى ذلك المشهد مبهوتين مستوحشين، وقد تحدّرت على وجوههم قطرات العرق من الخجل والفشل، فأجموا يفكرون في مستقبلهم الغامض المبهم، ولم يدر في خلدهم أنّهم سيواجهون مثل هذا المشهد الرهيب الذي لا يجدون له حلاًّ.
والضربة الأقوى كانت عندما تغير مشهد مواجهة السحرة لموسى(عليه السلام) تغييراً كلّياً، وذلك عندما وقع السحرة فجأة على الأرض ساجدين لعظمة الله (وألقي السحرة ساجدين).
ثمّ نادوا بأعلى صوتهم و (قالوا آمنا بربّ العالمين ربّ موسى وهارون).
وبذكر هذه الجملة بينوا ـ بصراحة ـ الحقيقة التالية وهي: أنّنا آمنا بربّ هو غير الربّ المختلق، المصطنع، إنّه الربّ الحقيقي.
[155]
بل لم يكتفوا بلفظة "ربّ العالمين" أيضاً، لأنّ فرعون كان يدعي أنّه ربّ العالمين، لهذا أضافوا: "ربّ موسى وهارون" حتى يقطعوا الطريق على كل استغلال.
ولم يكن فرعون والملأ يتوقعون هذا الامر مطلقاً، يعني أنّ الجماعة التي كان يعلّق الجميع آمالهم عليها للقضاء على موسى و دعوته، أصبحت في الطليعة من المؤمنين بموسى ودعوته، ووقعوا ساجدين لله أمام أعين الناس عامّة، وأعلنوا عن تسليمهم المطلق وغير المشروط لدعوة موسى(عليه السلام).
على أنّ هذا الموضوع الذي غيّر أناساً بمثل هذه الصورة، يجب أن لا يكون موضوع استغراب وتعجب، لأنّ نور الإيمان والتوحيد موجود في جميع القلوب، ويمكن أن تخفيه بعض الموانع والحجب الإِجتماعية مدّة طويلة أو قصيرة، ولكن عندما تهب بعض العواصف بين حين وآخر تنزاح تلك الحجب، ويتجلّى ذلك النور ويأخذ بالابصار.
وبخاصّة أن السحرة المذكورين كانوا أساتذة مهرة في صناعتهم، وكانوا أعرف من غيرهم بفنون عملهم ورموز سحرهم، فكانوا يعرفون ـ جيداً ـ الفرق بين "المعجزة" و"السحر" فالامر الذي يحتاج الآخرون لمعرفته إلى المطالعة الطويلة والدقة الكبيرة، كان واضحاً عند السحرة وبيناً، بل أوضح وأبين من الشمس في رابعة النهار.
إنّهم مع معرفتهم بفنون ورموز السحر الذي تعلموه طوال سنوات، عرفوا وأدركوا أن عمل موسى لم يكن يشبه ـ أبداً ـ السحر، وأنّه لم يكن نابعاً من قدرة البشر، بل كان نابعاً من قدرة فوق الطبيعة وفوق البشر، وبذلك لا مجال للإستغراب والتعجب في اعلانهم إيمانهم بموسى بمثل تلك السرعة والصراحة والشجاعة وعدم الخوف من المستقبل.
وجملة "ألقى السحرة" التي جاءت في صيغة الفعل المبني للمجهول ، شاهد
[156]
ناطق على الإستقبال البالغ لدعوة موسى وتسليم السحرة المطلق له(عليه السلام). يعني أنّ جاذبية موسى كان لها من الأثر القوي البالغ في قلوب ونفوس أُولئك السحرة، بحيث أنّهم سقطوا على الأرض من دون اختيار، ودفعهم ذلك إلى الإقرار والإعتراف.
* * *
[157]
الآيات
قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنْتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْإِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ123 لاَُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَـف ثُمَّ لاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ 124 قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ 125 وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِأيتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ 126
التّفسير
التّهديدات الفرعونية الجوفاء:
عندما توجهت ضربة جديدة ـ بانتصار موسى على السحرة وإيمانهم به ـ إلى أركان السلطة الفرعونية، استوحش فرعون واضطرب بشدّة ورأى أنّه إذا لم يظهر أي ردّ فعل في مقابل هذا المشهد، فسيؤمن بموسى كل الناس أو أكثرهم، وستكون السيطرة على الأوضاع غير ممكنة، لهذا عمد فوراً إلى عملين مبتكرين:
في البداية وجه اتهاماً (لعلّه مرغوب عند السواد من الناس) إلى السحرة، ثمّ
[158]
هددهم بأشدّ التهديدات، ولكن على العكس من توقعات فرعون أظهر السحرة مقاومة عجيبة تجاه هذين الموقفين، مقاومة أغرقت فرعون وجهازه في تعجب شديد، وأفشلت جميع خططه. وبهذه الطريقة وجهوا ضربة ثالثة إلى أركان السلطان الفرعوني المتزلزل، وقد رسمت الآيات اللاحقة هذا المشهد بصورة رائعة.
في البداية يقول: إنّ فرعوناً قال للسحرة: هل آمنتم بموسى قبل أن آذن لكم (قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم)؟!
وكأنّ التغيير بـ "به" لأجل تحقير موسى والإزدراء به، وكأنّه بجملة "قبل أن آذن لكم" أراد أن يظهر أنّه يتحرى الحقيقة ويطلب الحق، فلو كان عمل موسى(عليه السلام)يتسم بالحقيقة والواقعية لأذنت أنا للناس بأن يؤمنوا به، ولكن استعجالكم اكشفت عن زيفكم، وأنّ هناك مؤامرة مبيّنة ضد شعب مصر.
وعلى أية حال، أفادت الجملة أعلاه أنّ فرعون الجبار الغارق في جنون السلطة كان يدعي أن لا يحق للشعب أن يتصرف أو يعمل أو يقول شيئاً من دون إجازته وإذنه، بل لا يحق لهم أن يفكروا ويؤمنوا بدون أمره وإذنه أيضاً!!
وهذه هي أعلى درجات الإستعباد والاستحمار، أن يكون شعبٌ من الشعوب أسيراً وعبداً بحيث لا يحق له حتى التفكير والإِيمان القلبي بأحد أو بعقيدة.
وهذا هو البرنامج الذي يواصله "الإستعمار الجديد"، يعني أنّ المستعمرين لا يكتفون بالإستعمار الإِقتصادى والسياسي والإِجتماعي، بل يسعون إلى تقوية جذورهم عن طريق الإِستعمار الفكري.
وتتجلى مظاهر هذا الإِستعباد الفكري في البلاد الشيوعية أكثر فأكثر، بالحدود المغلقة، والأسوار الحديدية والرقابة الشديدة المفروضة على كل شيء، وبخاصّة على الأجهزة الثقافية.
[159]
ولكن في البلاد الرأسمالية الغربية التي يظن البعض أنّه لا يوجد استعباد فكري وثقافي على الأقل وأن لكل أحد أن يفكر ويختار بحرية; يمارس الإستعباد بنحو آخر، لأنّ الرأسماليين الكبار بتسلّطهم الكامل على الصحف المهمّة، والإذاعات، ومحطات التلفزيون، وجميع سبل الإِرتباط الجمعي ووسائل الإِعلام، يفرضون على المجتمع أفكارهم وآراءهم في لباس الحرية الفكرية، ويوجهون المجتمع ـ عن طريق عملية غسيل دماغ واسعة ومستمرة ـ إلى الوجهة التي يريدون، وهذا بلاء عظيم يعاني منه عصرنا الحاضر.
ثمّ يضيف فرعون قائلا (إن هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها).
ونظراً إلى الآية (71) من سورة "طه" التي تقول (إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر) يتّضح أنّ مراد فرعون هو أنّ هناك مؤامرة مدروسة وتواطؤاً مبيّتاً قد دبرتموه قبل مدّة للسيطرة على أوضاع مصر واستلام زمام السلطة، لا أنّكم دبرتموه للتو وقبل قليل في لقاء محتمل بينكم وبين موسى.
ومن هنا يتّضح أنّ المراد من "المدينة" هو مجموع القطر المصري، والألف واللام ألف ولام الجنس، والمراد من "لتخرجوا منها أهلها" هو تسلط موسى(عليه السلام)وبني إسرائيل على أوضاع مصر، وإقصاء حاشية فرعون وأعوانه عن جميع المناصب الحساسة، أو إبعاد بعضهم إلى النقاط البعيدة من البلاد، والآية (110) في هذه السورة شاهدة على ذلك أيضاً.
وعلى كل حال، فإنّ هذه التهمة كانت خاوية ومفضوحة، إلى درجة أنّه لم يكن يقتنع بها إلاّ العوام والجهلة من الناس، لأنّ موسى(عليه السلام) لم يكن حاضراً في مصر، ولم يلتق بأحد من السحرة من قبل، ولو كان أستاذهم وكبيرهم الذي علمهم السحر، لوجب أن يكون معروفاً ومشهوراً في جميع الأماكن، وأن يعرفُه أكثر الناس، وهذه لم تكن أُموراً يمكن إخفاؤها وكتمانها، لأنّ التواطؤ مع
[160]
أشخاص المنتشرين في شتى مناطق مصر على أمر بهذا القدر من الاهمية غير ممكن عملا.
ثمّ إنّ فرعون هدَّدهم بتهديد غامض ولكنّه شديد ومحكم، إذ قال: (فسوف تعلمون)!!
وفي الآية اللاحقة بيّن تفاصيل ذلك التهديد الذي هدَّد به السحرة فاقسم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم، إذ قال: (لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ثمّ لأصلبنكم أجمعين).
وفي الحقيقة كان مراده أن يقتلهم بالتعذيب والتنكيل، ويجعل من هذا المشهد الرهيب درساً للآخرين، لأن قطع الأيدي والأرجل، ثمّ الصلب على الشجر أمام الناس، ومنظر تدفق الدم من أجسامهم وما يرافق هذا من حالات النزع فوق المشانق إلى أن يموتوا، سيكون عبرة لمن يعتبر (ولابدّ من ملاحظة أن الصلب في ذلك الزمان لم يكن يتمّ على النحو الذي يتمّ به الآن، وهو تعليق المشنوق بوضع الحبل في عنقه، بل كان الحبل يوضع تحت كتفيه حتى لا يموت بسرعة).
ولعل قطع اليد والرجل من خلاف، كان لأجل أن هذا العمل يتسبب في أن يموتوا بصورة أبطأ، ويتحملوا قدراً أكثر من الألم والعذاب.
والجدير بالتأمل أن البرامج التي انتهجها فرعون لمكافحة السحرة الذين آمنوا بموسى، كانت برامج عامّة في مكافحة الجبارين وتعاملهم الوحشي الرخيص مع أنصار الحق والمنادين به، فهم من جانب يستخدمون حربة التهمة حتى يزعزعوا مكانة أنصار الحق في نفوس الجماهير، ومن جانب آخر يتوسلون بسلاح القوة والقهر والتهديد لتحطيم إرادتهم، ولكن ـ كما نقرأ في ذيل قصّة موسى ـ لم يستطع هذان السلاحان أن يفعلا شيئاً في نفوس أنصار الحق، ولن يفعلا.
[161]
لقد قاوم السحرة كلتا حربتي فرعون، و أجابوه جواب رجل واحد: إنّنا نرجع إلى ربّنا إذن (قالوا إنّا إلى ربّنا منقلبون).
يعني إذا تحقق تهديدك الثّاني (وهو القتل) فمعناه أنّنا سننال الشهادة في سبيل الدفاع عن الحق، وهذا لا يوجب ضرراً علينا، ولا ينقصنا شيئاً، بل يُعدّ سعادة وفخراً عظيماً لنا.
ثمّ إنّهم للردّ على تهمة فرعون، ولايضاح الحقيقة لجماهير المتفرجين على هذا المشهد، واثبات براءتهم من أي ذنب، قالوا: إنّ الإشكال الوحيد الذي تورده علينا هو أنّنا آمنا بآيات الله وقد جاءتنا (وما تنقم منّا إلاّ أن آمنا بآيات ربّنا لما جاءتنا).
يعني أنّنا لسنا مشاغبين، ولا متآمرين، ولا متواطئين ضدك، وليس إيماننا بموسى يعني أنّنا نريد استلام أزمة الحكم، ولا أن نخرج أهل هذه البلاد من ديارهم، وأنت نفسك تعلم أننا لسنا بهذا الصدد، بل نحن عندما رأينا الحق وشاهدنا علائمه بوضوح أجبنا داعي الله ولبينا نداءه وآمنا به، وهذا هو ذنبنا الوحيد في نظرك ليس غير.
وهكذا أظهروا لفرعون بالجملة الأُولى أنّهم لا يخافون أي تهديد، وأنّهم يستقبلون جميع الحوادث والتبعات حتى الشهادة بمنتهى الشهامة. وبالجملة الثّانية ردّوا بصراحة على الإتهامات التي وجهها فرعون إليهم.
إن جملة "تنقم" مشتقة من مادة "نقمة" على وزن "نعمة" وهي في الأصل تعني رفض شيء باللسان أو بالعمل والعقوبة. وعلى هذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون بمعنى إنّ العمل الوحيد الذي تنكره علينا هو أنّنا آمنا، أو يعني أنّ العقوبة التي تريد أن تعاقبنا بها إنما هو لأجل إيماننا.
ثمّ إنّهم أشاحوا بوجوههم عن فرعون وتوجهوا إلى الله سبحانه، وطلبوا منه الصبر والإستقامة، لأنّهم كانوا يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يقاوموا تلك
[162]
العقوبات الثقيلة من دون نصره وتأييده وعونه، لهذا قالوا: (ربّنا افرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين).
والملفت للنظر أنّهم بعبارة (أفرغ علينا صبراً) أظهروا أن الخطر المحدق بهم بلغ الدرجة القصوى، فأعطنا يا ربّ أنت ـ أيضاً ـ آخر درجات الصبر والإستقامة، لأنّ "أفرغ" من مادة "الإفراغ" بمعنى صبّ السائل من وعاء حتى يفرغ.
الاستقامة الواعية:
يمكن أن يتملك الإنسان عجب شديد عند أوّل إطلاعة على قصّة السحرة في زمان موسى(عليه السلام) الذين صاروا من المؤمنين الصادقين، هل يمكن أن يحدث مثل هذا الإنقلاب والتحول العميق في الروح الإنسانية في مثل هذه المدّة القصيرة، بحيث يقطع الشخص كل علاقاته مع الصف المخالف، ويصير في صف الموافق، ثمّ يدافع عن عقيدته الجديدة بإصرار وعناد عجيبين إلى درجة أنّه يتجاهل مكانته ومصالحه وحياته جميعاً، ويستقبل الشهادة بشجاعة منقطعة النظير، وبوجه مستبشر؟
ولكن هذا الإِستغراب يتبدد إذا التفتنا إلى هذه النقطة، وهي أنّ هؤلاء ـ نظراً إلى سوابقهم الكثيرة في علم السحر ـ وقفوا جيداً على عظمة معجزة النّبي موسى(عليه السلام) وحقانيته، وسلكوا هذا السبيل عن وعي كامل ... وهذا الوعي صار منشأ لعشق ملتهب سربل كل وجودهم وكيانهم، وهو عشق لا يعرف حدّاً وسدّاً، وفوق جميع النوازع والرغبات البشرية.
إنّهم كانوا يعلمون جيداً أي طريق يسلكونه؟ ولماذا يجاهدون؟ ومن يكافحون؟ وأي مستقبل مشرق ينتظر هذا الجهاد العظيم؟
أجل، إذا كان الإيمان مقروناً بالوعي الكامل فإنّه ينتهي إلى مثل هذا العشق
[163]
الملتهب الذي لا يكون هذا التفاني في سبيله مثار للعجب.
ولهذا نرى كيف أن السحرة قالوا بصراحة وشجاعة (كما في سورة طه الآية (72): (قالوا لن نؤثرك على ماجاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنّما أنت تقض هذه الحياة الدنيا).
وأخيراً ـ وكما جاء في الرّوايات وكتب التأريخ ـ استقام أُولئك الجماعة من السحرة الذين آمنوا بموسى حتى نفّذ فرعون تهديداته، ومثّل بأجسامهم تمثيلا مروعاً، وصلبهم على جذوع النخل على مقربة من نهر النيل. وهكذا كتبت أسماؤهم مع أحرار التاريخ بأحرف من نور، وكانوا كما وصفهم المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي: كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة، وآخر النهار شهداء وبررة.
ولكن مع الإلتفات إلى أنّ مثل هذا الإِنقلاب والتحول والإِستقامة ليس ممكناً إلاّ في ظلّ الإمدادات الإِلهية، ومن المسلّم أن كلّ من اختار سلوك طريق الحق، شملته هذه العنايات الرّبانية، والإمدادات الإلهية.
* * *
[164]
الآيات
وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَومِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الاَْرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـهِرُونَ 127 قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ واصْبِرُوا إِنَّ الاَْرضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَقِبَهُ لِلْمُتَّقِينَ 128 قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاَْرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ129
التّفسير
في هذه الآيات يبيّن لنا القرآن الكريم مشهداً آخر من الحوار الذي دار بين فرعون وبين ملائه حول وضع موسى(عليه السلام)، ويستفاد من القرائن الموجودة في نفس الآية أنّ محتوى هذه الآيات يرتبط بفترة ما بعد المواجهة بين موسى وبين السحرة.
تقول الآية في البداية: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك).
[165]
يستفاد من هذا التعبير ـ جيداً ـ أنّ فرعون بعد هزيمته أمام موسى(عليه السلام) ترك موسى وبني إسرائيل أحراراً (طبعاً الحرية النسبية) مدّة من الزمن، ولم يترك بنو إسرائيل بدورهم هذه الفرصة من دون أن يشتغلوا بالدعوة والتبليغ لصالح دين موسى(عليه السلام) إلى درجة أن قوم فرعون قلقوا من انتشاره ونفوذ دعوتهم، فحضروا عند فرعون وحرضوه على اتّخاذ موقف مشدد تجاه موسى و بني اسرائيل.
فهل فترة الحرية النسبية هذه كانت لأجل الخوف والرعب الذي أصاب فرعون بسبب ما رأى من معجزة موسى(عليه السلام) القوية، أو للإختلاف الذي برز في شعب مصر (وحتى القبطيين منهم) حول موسى ودينه، حيث أنّ جماعة رغبوا في دينه، وكان فرعون شاهداً لهذه الحالة فلم يمكنه أن يتخذ في مثل هذه الأجواء والظروف موقفاً متشدداً من موسى ودينه.
كلا الإحتمالين قريبان إلى ذهن فرعون، ويمكن أن يكون كلاهما معاً قد تركا أثراً في نفسه وفكره.
وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ بسبب تحذيرات أعوانه وحاشيته ـ صمم على اتّخاذ موقف متشدد من بني إسرائيل، فقال لحاشيته في معرض الجواب على تحريضهم وتحذيرهم: سأقتل أبناءهم وأستخدام نساءهم ونحن متفوقون عليهم على كل حال: (قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون).
وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من لفظة "آلهتك" والظاهر من الآية هو أنّ فرعون كانت له معبودات وأصنام، وإن كان يُفهم من الآية (4) من سورة النازعات (أنا ربّكم الأعلى) ومن الآية (38) من سورة القصص (ما علمت لكم من إله غيري) إنّ فرعون كان أعظم إله لشعب مصر، أو على الأقل كان فرعون يعتبر نفسه أعظم معبود لشعب مصر ولكن مع ذلك كان قد اختار آلهة لنفسه وكان يعبدها.
والنقطة الأُخرى أن فرعون عمد هنا إلى مكافحة جذرية وعميقة، وقرر
[166]
تحطيم قوة بنى إسرائيل تحطيماً كاملا، وذلك بالقضاء على المقاتلين ورجال الحرب بقتل أبناء بني إسرائيل واستئصالهم، ويستبقي نساءهم وبناتهم لاسترقاقهن واستخدامهن، وهذا هو نهج كل مستعمر قديم وجديد، فهو يقضي على الرجال العالمين والقوى المؤثرة في المواجهة، أو يقتل فيهم روح الرجولة والشهامة والغيرة والحمية بالوسائل المختلفة، ويستبقي غير المؤثرين في هذا المجال.
على أنّه يحتمل ـ أيضاً ـ أن فرعون كان يريد أن يبلغ هذا الكلام إلى مسامع بني إسرائيل، فتتحطم معنوياتهم من جهتين: أوّلاهما من جهة قتل أبنائهم ورجال مستقبلهم، والأُخرى: من جهة وقوع نسائهم وأعراضهم في أيدي العدو.
وعلى كل حال أراد بعبارة (إنّا فوقهم قاهرون) أن يزيل الخوف والقلق من قلوب حاشيته وأعوانه، ويخبرهم بأنّه مسيطر على الأوضاع سيطرة كاملة.
سؤال:
وهنا يطرح سؤال، وهو: لماذا لم يقرر فرعون قتل موسى، وإنّما قرر ـ فقط ـ القضاء على أبناء بني إسرائيل؟
جواب:
يستفاد من آيات سورة المؤمن ـ جيداً ـ أنّ فرعون كان عازماً في البداية على قتل موسى، ولكن نصائح مؤمن آل فرعون المقترنة بالتهديد، في أنّ قتل موسى يمكن أن يقترن بالخطر فيحتمل أن يكون مرسلا من الله حقيقة وواقعاً، وأن كل ما يقوله من العقوبات الإِلهية يتحقق بمقتله، أثرت في روح فرعون وفكره.
هذا مضافاً إلى أنّ خبر انتصار موسى على السحرة انتشر في كل مكان،
[167]
ووقع بسببه خلاف بين شعب مصر في مخالفة أو تأييد موسى. ولعل فرعون خاف إن هو اتّخذ من موسى(عليه السلام) موقفاً حاداً واجه ردّ فعل قوي من جانب الناس الذين تأثروا بهذه المسألة، ولهذا انصرف عن فكرة قتل موسى(عليه السلام).
والآية اللاحقة بيّنت ـ في الحقيقة ـ خطّة موسى التي اقترحها على بني إسرائيل لمواجهة تهديدات فرعون، وشرح فيها شروط الغلبة على العدو، وذكرهم بأنّهم إذا عملوا بثلاث مباديء انتصروا على العدو حتماً:
أوّلها: الإِتكال على الله فقط (قال موسى لقومه استعينوا بالله).
والآخر: أن يثبتوا ولا يخافوا من تهديدات العدو: (واصبروا).
وللتأكيد على هذا المطلب، ومن باب ذكر الدليل، ذكّرهم بأنّ الأرض كلّها ملك الله، وهو الحاكم عليها والمالك المطلق لها، فهو يعطيها لمن يشاء (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده).
وآخر هذه المباديء هو أن يعتمدوا التقوى لأنّ العاقبة لمن اتّقى (والعاقبة للمتقين).
هذه المبادىء والشروط الثلاثة ـ أحدها في العقيدة (الإستعانة بالله) والثّاني في الأخلاق (الصبر والثبات) والأخير في العمل (التقوى) ـ ليست شرائط انتصار قوم بني إسرائيل وحدهم على العدو، بل كل شعب أراد الغلبة على أعدائه لابدّ له من تحقيق هذه البرامج الثلاثة فالأشخاص غير المؤمنين والجبناء الضعفاء الإرادة، والشعوب الفاسقة الغارقة في الفساد، إذا ما انتصرت فإنّ انتصارها يكون لا محالة مؤقتاً غير باق.
والملفت للنظر أنّ هذه الشروط الثلاثة كل واحد منها متفرع على الآخر، فالتقوى لا تتوفر من دون الثبات والصبر في مواجهة الشهوات، وأمام بهارج العالم المادّي، كما أنّ الصبر والثبات لا يكون لهما أي بقاء ودوام من دون الإِيمان
[168]
بالله.
وفي آخر آية من الآيات الحاضرة يعكس القرآن الكريم شكايات بني إسرائيل وعتابهم من المشكلات التي ابتلوا بها بعد قيام موسى(عليه السلام) فيقول: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) فإذاً متى يحصل الفرج؟!
وكأنّ بني إسرائيل مثل كثير منّا كانوا يتوقعون أن تصلح جميع الأُمور بقيام موسى(عليه السلام) في ليلة واحدة .... أن يزول فرعون ويسقط، ويهلك الجهاز الفرعوني برمته، وتصبح مصر بجميع ثرواتها تحت تصرف بني إسرائيل، ويتحقق كل ذلك عن طريق الإِعجاز، من دون أن يتحمل بنو إسرائيل أيّ عناء.
ولكن موسى(عليه السلام) أفهمهم بأنّهم سينتصرون في المآل، ولكن أمامهم طريقاً طويلا، وإنّ هذا الإنتصار ـ طبقاً للسنة الإِلهية ـ يتحقق في ظل الإِستقامة والثبات والسعي والإِجتهاد، كما جاء ذلك في الآية الحاضرة(قال عسى ربّكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض).
وذكر كلمة "عسى" مثل كلمة "لعلّ" التي وردت في كثير من الآيات القرآنية إشارة ـ في الحقيقة ـ إلى أنّ لهذا التوفيق والإنتصار شرائط، من دونها لا يصلون إليه، (للوقوف على المزيد في هذا المجال راجع ما كتبناه في تفسير الآية 84 من سورة النساء).
ثمّ يقول في ختام الآية: إنّ الله أعطاكم هذه النعمة، وأعاد إليكم حريتكم المسلوبة كي ينظر كيف تتصرفون أنتم(فينظر كيف تعملون)؟
يعني ستبدأ ـ بعد الإنتصار ـ مرحلة امتحانكم واختباركم، اختبار شعب كان فاقداً لكل شيء ثمّ حصل على كل شيء في ضوء الهداية الإِلهية.
إنّ هذا التعبير ـ هو ضمناً ـ إشعار بأنّكم سوف لا تخرجون من هذا الإختبار ـ في المستقبل ـ بنجاح، وستفسدون وتظلمون كما فعل من كان قبلكم.
[169]
ونقرأ في رواية وردت في كتاب الكافي مروية عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: "وجدنا في كتاب علي صلوات الله عليه: إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون".(1)
وهذه إشارة إلى أن الحكم المذكور في هذه الآية حكم شامل، وقانون عام، والأرض هي الآن ـ في الحقيقة ـ للمتقين.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التّفسير نورالثقلين، المجلد الثاني، الصفحة 56.
[170]
الآيتان
وَلَقَدْ أَخَذَنَآ ءَالَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْص مِّنَ الَّثمَرتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ 130 فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَن مَّعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَـئِرُهُمْ عِندَ اللهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ 131
التّفسير
العقوبات التنبيهية:
لقد كان القانون الإِلهي العام في دعوة الأنبياء ـ كما قلنا في تفسير الآية (94) من نفس هذه السورة ـ هو أنّهم كلّما واجهوا معارضة كان الله تعالى يبتلي الاقوام المعاندين بأنواع المشاكل والبلايا، حتى يحسّوا بالحاجة في ضمائرهم وأعماق نفوسهم، وتستيقظ فيهم فطرة التوحيد المتكّسلة تحت حجاب الغفلة عند الرفاه والرخاء، فيعودوا إلى الإحساس بضعفهم وعجزهم، ويتوجهوا إلى المبدأ القادر مصدر جميع النعم.
وفي أوّل آية من الآيتين الحاضرتين إشارة إلى نفس هذا المطلب في قصّة فرعون، إذ يقول تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات
[171]
لعلّهم يذكّرون).
و"السنين" جمع "سنة" بمعنى العام، ولكنّها إذا قرنت بلفظة "أخذ" أعطت معنى الإبتلاء بالقحط والجدب، وعلى هذا يكون معنى أخذته السنة هو: أُصيب بالقحط والجدب، ولعل علّة ذلك هي أن أعوام القحط والجدب قليلة بالقياس إلى أعوام الخصب والخير، وعلى هذا إذا كان المراد من السنة السنين العادية لم يكن ذلك موضوعاً جديداً، ويتبيّن من ذلك أنّ المراد من السنين هي السنين الإِستثنائية، أي سنوات القحط وأعوام الجدب.
وكلمة "آل" كانت في الأصل "أهل" ثمّ قلبت فصارت هكذا، والأهل بمعنى أقرباء الإِنسان وخاصته، سواء أقرباؤه أو زملاؤه ونظراؤه في المسلك والتفكير وأعوانه.
ومع أنّ القحط والجدب أصابا حاشية فرعون ومؤيديه أجمع، ولكن الخطاب فى الآية موجه إلى خصوص أقربائه وخاصته، وهو إشارة إلى أن المهم هو أن يستيقظ هؤلاء، لأنّ بيدهم أزمة الناس..... أن يضلوا الناس، أو يهدونهم، ولهذا توجه الخطاب إليهم فقط، وإن كان البلاء قد أصاب الآخرين أيضاً.
ويجب أن لا نستبعِد هذه النقطة، وهي أن الجدب كان يعدّ بلاءً عظيماً لمصر، لأنّ مصر كانت بلداً زراعياً، فكان الجدب مؤذياً لجميع الطبقات، ولكن من المسلّم أنّ آل فرعون ـ وهم الأصحاب الأصليين للأراضي الزراعية وإنتاجها ـ كانوا أكثر تضرراً بهذا البلاء.
ثمّ إنّه يُعلَم من الآية الحاضرة أنّ الجدب استمر عدّة سنوات، لأنّ كلمة "سنين" صيغة جمع، وخاصّة أنّه أُضيف إليها عبارة (نقص من الثمرات) لأنّ الجدب المؤقت والعابر يمكن أن يترك شيئاً من الأثر في الأشجار ولكن عندما يكون الجدب طويلا فإنّه يبيد الاشجار أيضاً. ويحتمل أيضاً أنّه علاوة على الجدب فانّ الفواكه والثمار اُصيبت بآفات قاتلة كذلك.
[172]
وكأنّ جملة (لعلَّهم يذكرون) إشارة إلى هذه النقطة، وهي: أنّ التوجه إلى حقيقة التوحيد موجودة من البداية في الروح الآدمية، ولكنّه على أثر التربية غير الصحيحة أو بطر النعمة ينساها الإِنسان، وعند حلول البلايا والأزمات يتذكر ذلك مجدداً، ومادة "تذكر" تناسب هذا المعنى.
هذا والجدير بالإنتباه أنّ جملة (لعلّهم يضرّعون) جاءت في ذيل الآية (94) وهي مقدمة أُخرى ـ في الحقيقة ـ لأنّ الإِنسان يتذكر أوّلا، ثمّ يخضع ويسلّم ، أو يطلب من الله الصفح والمغفرة.
ولكن بدل أن يستوعب "آل فرعون" هذه الدروس الإلهية، ويستيقظوا من غفلتهم وغفوتهم العميقة، أساءوا استخدام هذا الظرف والحالة، وفسّروها حسب مزاجهم، فإذا كانت الأحوال مؤاتية ومطابقة لرغبتهم، وكانوا يعيشون في راحة واستقرار قالوا: إنّ الوضع الحسن هو بسبب جدارتنا، وصلاحنا (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه).
ولكن عندما تنزل بهم النوائب فإنّهم ينسبون ذلك إلى موسى(عليه السلام) وجماعته فوراً ويقولون هذا من شومهم: (وإن تصبهم سيئةٌ يطّيروا بموسى ومن معه).
و"يطّيروا" مشتقة من مادة "تطيُّر" بمعنى التشاؤم، وأصلها من الطير، فقد كان العرب غالباً ما يتشاءمون بواسطة الطيور. وربّما تشاءموا بصوت الغراب، أو بطيران الطير، فإذا طار من ناحية اليسار اعتبروا ذلك علامة الشقاء والفشل، وكلمة التطير تعني مطلق التشاؤم.
ولكن القرآن الكريم قال في معرض الردّ عليهم: اعلموا أنّ منشأ كل شؤم وبلاء أصابكم انّما هو من قبل الله، وأنّ الله تعالى أراد أن تصيبكم نتيجة أعمالكم المشؤومة، ولكن أكثرهم لا يعلمون (ألا إنّما طائرهم عندالله ولكن أكثرهم لا يعلمون).
والجدير بالتأمل أن هذا النمط من التفكير لم يكن خاصاً بالفرعونيين، بل
[173]
هو أمر نلاحظه بوضوح الآن بين الشعوب المصابة بالأنانية والضلال، فهي ـ بغية قلب الحقائق، وخداع ضميرها أو ضمائر الآخرين ـ كلما أصابها نجاح وتقدم اعتبرت ذلك ناشئاً من جدارتها وكفاءتها، وإن لم يَكن في ذلك النَجاح والتقدم أدنى شيء من تلك الكفاءة والجدارة، وبالعكس إذا أصابها أي إخفاق وشقاء نسبت ذلك فوراً إلى الأجانب وإلى أيادي العدو الخفيّة أو المكشوفة، وإن كانوا هم بأنفسهم سبب ذلك الشقاء والإخفاق.
يقول القرآن الكريم: إنّ أعداء الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتوسلون بمثل هذا المنطق أيضاً في مقابل رسول الله (كما نقرأ في الآية 78 من سورة النساء).
وفي مكان آخر يقول: إنّ المنحرفين هم هكذا (كما في سورة فصلت الآية 50) وهذا في الحقيقة هو أحد مظاهر الأنانية واللجاج البارز.(1)
التفاؤل والتشاؤم (الفأل والطيرة):
مسألة التطيّر والتفاؤل والتشاؤم قد تكون منتشرة في مختلف المجتمعات البشرية، فيتفاءلون بأُمور وأشياء ويعتبرونها دليل النجاح، ويتشاءمون بأمور وأشياء ويعتبرونها آية الهزيمة والفشل. في حين لا توجد أية علاقة منطقية بين النجاح والإخفاق وبين هذه الأُمور، وبخاصّة في مجال التشاؤم حيت كان له غالباً جانب خرا في غير معقول.
إنّ هذين الأمرين وإن لم يكن لهما أي أثر طبيعي إلاّ أنّه يمكن أن يكون لهما أثر نفسي لا ينكر، وإنّ التفاؤل غالباً يوجب الأمل والتحرك، والتشاؤم يوجب اليأس والوهن والتراجع.
ولعله لأجل هذا لم يُنْه في الرّوايات والأحاديث الإسلامية عن التفاؤل،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذكر "حسنة" محلاةً بالألف واللام و "إذا" وذكر "سيئة" مع (إن) بصورة النكرة إشارة إلى النعم كانت تنزل عليهم بصورة متتابعة، بينما كانت البلايا تنزل أحياناً.
[174]
بينما نهي عن التشاؤم بشدّة، ففي حديث معروف مروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "تفاءلوا بالخير تجدوه" وقد شوهد في أحوال النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) الهداة(عليهم السلام) ـ أنفسهم ـ أنّهم ربّما تفاءلوا بأشياء، مثلا عندما كان المسلمون في "الحديبية" وقد منعهم الكفار من الدخول إلى مكّة جاءهم "سهيل بن عمرو" مندوب من قريش، فلمّا علم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإسمه قال متفاءلا باسمه: "قد سهل عليكم أمركم"(1).
وقد أشار العالم المعروف "الدميري" وهو من كتّاب القرن الثامن الهجري، في إحدى كتاباته إلى نفس هذا الموضوع، وقال: إنّما أحب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الفأل لأنّ الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبلاء(2).
ولكن في مجال التشاؤم الذي يسمّيه العرب "التطير" و"الطيرة" ورد في الأحاديث الإِسلامية ـ كما أسلفنا ـ ذم شديد، كما أُشير إليه في القرآن الكريم مراراً وتكراراً أيضاً، وشجب بشدّة(3).
ومن جملة ذلك ما روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "الطيرة شرك"(4) وذلك لأن من يعتقد بالطيرة كأنّه يشركها في مصير الإنسان.
وتشير بعض الأحاديث أنّه إذا كان للطيرة أثر سيء فهو الأثر النفسي، قال الإمام الصادق(عليه السلام): "الطيرة على ما تجعلها، إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشدّدت، وإن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً"(5).
وورد أنّ طريقة مكافحة الطيرة تتمثل في عدم الإِعتناء بها، فقد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والحسد والظن. قيل: فما
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الميزان، المجلد 19، الصحفة 86.
2 ـ سفينة البحار، المجلد الثاني، الصفحة 102.
3 ـ مثل سورة "يس" الآية (19)، وسورة النمل الآية (47)، والآية المطروحة على بساط البحث هنا.
4 ـ الميزان في ذيل الآية المبحوثة هنا.
5 ـ الميزان، في ذيل الآية المبحوثة هنا.
[175]
نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامض (أي لا تعتنِ بها) وإذا حسدت فلا تبغ (أي لا تعمل بوحي منه شيئاً) وإذا ظننتَ فلا تحقق".
والعجيب أنّ مسألة الفأل والطيرة كانت ولا تزال موجودة حتى في البلاد الصناعية المتقدمة، وفي أوساط من يسمّون بالمثقفين، بل وحتى النوابغ المعروفين، ومن جملتها: يعتبر المرور من تحت السلم عند الغربيين ـ وسقوط المملحة، وإهداء سكين، أموراً يتشاءم بها بشدّة.
على أنّ وجود الفأل الجيد ـ كما قلنا ـ ليس مسألة مهمّة، بل لها غالباً آثارٌ حسنة طيبة، ولكن يجب مكافحة عوامل التشاؤم وفكرة الطيرة، ونبذها من الأذهان، وأفضل وسيلة لمكافحتها هي تقوية روح التوكل، والثقة بالله والإِعتماد عليه كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الإِسلامية.
* * *
[176]
الآيتان
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَة لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنينَ132 فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ والضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَـت مُّفَصَّلَـت فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ133
التّفسير
النّوائب المتنوعة:
في هاتين الآيتين أُشير إلى مرحلة أُخرى من الدروس المنبهة التي لقّنها الله لقوم فرعون، فعندما لم تنفع المرحلة الأُولى، يعني أخذهم بالجدب والسنين وما ترتب عليه من الأضرار المالية في إيقاظهم وتنبيههم، جاء دور المرحلة الثّانية وتمثلت في عقوبات أشدّ، فأنزل الله عليهم نوائب متتابعة مدمِرة، ولكنّهم ـ وللأسف ـ لم ينتبهوا مع ذلك.
وفي الآية الأُولى من الآيات المبحوثة يقول القرآن الكريم من باب المقدمة لنزول النّوائب: إنّهم بقوا يلجّون في إنكار دعوة موسى، وقالوا: مهما تأتنا من آية وتريد أن تسحرنا بها فإننا لن نؤمن بك: (وقالوا مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها
[177]
فما نحن لك بمؤمنين).
إنّ التعبير بـ "الآية" لعلّه من باب الإِستهزاء والسخرية، لأنّ موسى(عليه السلام)وصف معاجزه بأنّها آيات الله، ولكنّهم كانوا يفسرونها بالسحر.
إنّ لحن الآيات والقرائن يفيد أنّ الجهاز الإعلامي الفرعوني الذي كان ـ تبعاً لذلك العصر ـ أقوى جهاز إعلامي، وكان النظام الحاكم في مصر يستخدمه كامل الإِستخدام ... إنّ هذا الجهاز الإِعلامي قد عبّأ قواه في توكيد تهمة السحر في كل مكان، وجعلها شعاراً عاماً ضد موسى(عليه السلام)، لأنّه لم يكن هناك تهمة منها أنسب بالنسبة إلى معجزات موسى(عليه السلام) للحيلولة دون إنتشار الدعوة الموسوية ونفوذها المتزايد في الأوساط المصرية.
ولكن حيث أن الله سبحانه لا يعاقب أُمّة أو قوماً من دون أن يتمّ عليهم الحجّة قال في الآية اللاحقة: نحن أنزلنا عليهم بلايا كثيرة ومتعددة لعلهم يتنبهون ... فقال أولا: (فأرسلنا عليهم الطوفان).
وكلمة "الطوفان" مشتقّة من مادة "الطوف" على وزن "خَوف" وتعني الشيء الذي يطوف ويدور، ثمّ أُطلقت هذه اللفظة على الحادثة التي تحيط بالإِنسان، ولكنّها أطلقت ـ في اللغة ـ على السيول والأمواج المدمرة التي تأتي على كل شيء في الأغلب، وبالتالي تدمر البيوت،وتقتلع الأشجار من جذورها.
ثمّ سلط الجراد على زروعهم وأشجارهم (والجراد).
وقد جاء في الأحاديث أن هجوم أسراب الجراد كان عظيماً جدّاً إلى درجة أنّها وقعت في أشجارهم وزروعهم أكلا وقضماً وإتلافاً، حتى أنّها أفرغتها من جميع الغصون والأوراق، وحتى أنّها أخذت تؤذي أبدانهم، بحيث تعالت صيحاتهم واستغاثاتهم.
وكلّما كان يُصيبهم بلاء كانوا يلجأون إلى موسى(عليه السلام) ويسألونه أن يطلب من الله أن يرفع عنهم ذلك البلاء، فقد فعلوا هذا بعد الطوفان والجراد أيضاً، وقبل
[178]
موسى(عليه السلام)، وارتفع عنهم البلاء ولكنّهم مع ذلك لم يكفّوا عن لجاجهم وتعنتهم.
وفي المرّة الثّالثة سلط عليهم القمل (والقمل).
وأمّا ما هو المراد من "القمل" فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين، ولكن الظاهر أنّه نوع من الآفات الزراعية التي تصيب الغلات، وتفسدها وتتلفها.
وعندما خفت أمواج هذا البلاء، واستمرّوا في عنادهم سلط الله عليهم في المرحلة الرّابعة، الضفادع، فقد تزايد نسل الضفادع تزايداً شديداً حتى أنّه تحول إلى بلاء عظيم عكّر عليهم صفو حياتهم: (والضفادع)(1).
ففي كل مكان كانت الضفادع الصغيرة والكبيرة تزاحمهم، حتى في البيوت والغرف والموائد وأواني الطعام، بحيث ضاقت عليهم الحياة بما رحبت، ولكنّهم مع ذلك لم يخضعوا للحق، ولم يسلّموا.
وفي هذا الوقت بالذات سلّط الله عليهم (الدّم).
قال البعض: إنّ داء الرعاف (وهو نزيف الدم من الأنف) شاع بينهم كداء عام، وأُصيب الجميع بذلك. ولكن أكثر الرّواة والمفسّرين ذهبوا إلى أن نهر النيل العظيم تغير وصار لونه كلون الدم، بحيث صار تعافه الطباع، ولم يعد قابلا للإِنتفاع.
وقال تعالى في ختام ذلك: إنّ هذه الآيات والمعاجز الباهرة ـ رغم أنّها أظهرت لهم حقانية موسى ـ ولكنّهم استكبروا عن قبول الحق وكانوا مجرمين. (آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين).
وفي بعض الرّوايات نقرأ أن كل واحدة من هذه البلايا كانت تقع في سنة واحدة، يعني أنّه أصابهم الطوفان في سنة، والجراد في سنة أُخرى، والآفات الزراعية في سنة ثالثة، وهكذا. ولكن نقرأ في بعض الرّوايات أنّه كان يفصل بين كل بلاء وآخر شهر واحد لا أكثر وعلى أي حال، لاشك أنّها كانت تقع بصورة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الضّفادع جمع ضفدعة وقد جاء ذكر هذا البلاء في الآية بصورة الجمع، ولكن البلايا السابقة جاءت في صورة المفرد. ولعل هذا يفيد أن الله سلّط عليهم أنواعاً مختلفة من الضفادع.
[179]
منفصلة، وفي فواصل زمينة مختلفة (كمايقول القرآن: مفصلات) كي تكون هناك فرصة للتفكر والتنبه واليقظة.
هذا والجدير بالإِنتباه أنّنا نقرأ في الرّوايات أن هذه البلايا كانت تصيب آل فرعون وقومه خاصّة، وكان بنو إسرائيل في معزل عن ذلك، ولا شك أنّ هذا نوع من الإِعجاز، ولكن يمكن أن نبرر قسماً من ذلك بتبرير علمي معقول، لأنّنا نعلم أنّ أجمل نقطة في بلد مثل مصر هي شاطئا النيل وضفتاه، وكانت هذه الشواطيء والضفاف برمتها تحت تصرف الفرعونيين والقبطيين ومحل سكناهم، فقصورهم الجميلة الشامخة، ومزارعهم الخضراء وبساتينهم العامرة، كانت في هذه الضفاف. وبطبيعة الحال كان نصيب بني إسرائيل الذين كانوا عبيداً للفرعونيين والقبطيين هي النقاط النائية والصحاري البعيدة الشحيحة الماء.
ومن الطبيعي أنّ الطوفان عندما يحدث يكون الأقرب إلى الخطر ضفتا النيل وشاطئاه ومن يسكنها، وكذا عندما كانت الضفادع تخرج من الماء، وكذا انقلاب الماء إلى هيئة الدم كان يظهر في مياه الفرعونيين الذين كانوا يسكنون إلى جانب النيل دون بني إسرائيل، وأمّا الجراد والآفات النباتية فقد كانت تتعرض لها المناطق الزراعية والبساتين الخضراء الوفيرة المحصول في الدرجة الأُولى.
كل ما قيل في الآيات السابقة جاء في التوراة أيضاً، ولكن ثمّة فروق واضحة بين محتويات القرآن الكريم وما جاء في التوراة راجع سفر الخروج الفصل السابع إلى العاشر من التوراة).
* * *
[180]
الآيات
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَـمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَءِيل 134 فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَل هُم بَـلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ 135 فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـهُمْ فِى الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَـتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَـفِلِينَ 136
التّفسير
نقض العهد المتكرر:
في هذه الآيات نلاحظ رد فعل الفرعونيين في مقابل النوائب والبلايا المنبّهة الإِلهيّة، ويستفاد من مجموعها أنّهم عندما كانوا يقعون في مخالب البلاء ينتبهون من غفوتهم بصورة مؤقتة شأنهم شأن جميع العصاة، وكانوا يبحثون عن حيلة للتخلص منها، ويطلبون من موسى(عليه السلام) أن يدعو لهم، ويسأل الله في خلاصهم، ولكن بمجرّد أن يزول عنهم طوفان البلاء وتهدأ أمواج الحوادث، ينسون كل شيء ويعودون إلى سيرتهم الأُولى.
وفي الآية الأُولى نقرأ: (ولمّا وقع عليهم الرّجز قالوا يا موسى اُدع لنا ربّك
[181]
بما عهد عندك).
إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم، وأن يفي الله بما وعده له من استجابة دعائه: (وعهد عندك).
ثمّ يقولون: إذا دعوتَ فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل: (لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل).
ولفظة "الرجز" استعملت في معاني كثيرة: البلايا الصعبة، الطاعون، الوثن والوثنية، وسوسة الشيطان، والثلج أو البَرَد الصلب.
ولكن جميع ذلك مصاديق مختلفة لمفهوم يشكّل الجذر الأصلي لتلك المعاني، لأن أصل هذه اللفظة كما قال "الراغب" في "المفردات" هو الإِضطراب. وحسب ما قال "الطبرسي" في "مجمع البيان" مفهومه الأصلي هو الإِنحراف عن الحق.
وعلى هذا الأساس إطلاق لفظ "الرجز" على العقوبه والبلاء، لأنّها تصيب الإِنسان لانحرافه عن الحق، وارتكاب الذنب، وكذا يكون الرجز نوعاً من الإِنحراف عن الحق، والإِضطراب في العقيدة، ولهذا أيضاً يطلق العرب هذا اللفظ على داء يصيب الإبل، ويسبب اضطراب أرجلها حتى أنّها تلجأ للمشي بخطوات قصيرة، أو تمشي تارة وتتوقف تارة أُخرى، فيقال لهذا الداء "الرَجَز" على وزن "المَرضْ".
والسبب في إطلاق الرَجَز على الأشعار الحربيّة، لأنّها ذات مقاطع قصيرة ومتقاربة.
وعلى كل حال، فإنّ المقصود من "الرجز" في الآيات الحاضرة هو العقوبات المنبهة الخمسة التي أُشير إليها في الآيات السابقة، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون إشارة إلى البلايا الأُخرى التي أنزلها الله عليهم ولم يرد ذكرها
[182]
في الآيات السابقة، ومنها الطاعون أو الثلج والبرد القاتل، الذي وردت الإِشارة إليها في التوراة.
هذا، وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من عبارة (بما عهد عندك) وأنّه ما هو المقصود من ذلك العهد الإلهي الذي أعطاه سبحانه لموسى؟
إنّ ما هو الأقرب إلى النظر هو أن المقصود من ذلك الوعد الإِلهي هو أن يستجيب دعاءه إذا دعاه، ولكن يحتمل أيضاً أن يكون المقصود هو عهد "النبوة" وتكون "الباء" باء القسم، يعني نقسم عليك بحق مقام نبوتك إلاّ ما دعوت الله ليرفع عنّا هذا البلاء.
وفي الآية اللاحقة يشير إلى نقضهم للعهد ويقول: (فلمّا كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون).(1)
إنّ جملة (إلى أجل هم بالغوه) إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتاً وعيّن أمداً، فكان يقول لهم: في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم، حتى يتّضح لهم أنّ إرتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمراً اتفاقياً وصدقة، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.
إنّ جملة (إذا هم ينكثون) وبالنظر إلى أن "ينكثون" فعل مضارع يدلّ على الإستمرارية يفيد أنّه قد تكرر تعهدّهم لموسى(عليه السلام) ثمّ نقضهم للعهد، حتى أصبح نقض العهد جزءاً من برنامجهم وسلوكهم الدائم.
وآخر هذه الآيات تبيّن ـ من خلال جملتين قصيرتين ـ عاقبة كلّ هذا التعنت، ونقض العهد، فتقول بصورة مجملة (فانتقمنا منهم).
ثمّ تشرح هذا الإنتقام وتذكر تفصيله (فأغرقناهم في إليم بأنّهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النكث على وزن مَكْث، يعني فل الحبل المفتول، ثمّ أُطلق على نقض الميثاق والعهد.
2 ـ يستفاد من مصادر اللغة، وكتب الأحاديث أن المراد من اليم هو "البحر"، وهو يطلق على نهر النيل أيضاً، أمّا أن لفظة اليم هل هي عربية أو سريانية أو هيرغلوفية، فقد وقع في ذلك كلام بين العلماء، يقول صاحب تفسير المنار وهو أحد علماء مصر المعروفين والذي جمع وجوه إشتراك اللغات الهيروغلوفية والعربية وألف كتاب المعجم الكبير في هذا المجال نقل: أنه وجد بعد التحقيق أن لفظة اليم كانت في اللغة المصرية تعني البحر، وعلى هذا الأساس حيث أن هذه القصة تتعلق بمصر لهذا استفاد القرآن من لغات المصريين في بيان هذه الحادثة.
[183]
إنّهم لم يكونوا غافلين واقعاً، لأنّ موسى(عليه السلام) ذكّرهم مراراً وبالوسائل المختلفة المتعددة ونبههم، بل أنّهم تصرّفوا عملياً كما يفعل الغافلون، فلم يعتنوا بآيات الله أبداً.
ولا شك أن المقصود من الإنتقام الإِلهي ليس هو أنّ الله كان يقوم بردّ الفعل في مقابل أعمالهم، كما يفعل الأشخاص الحاقدون الذين ينطلقون في ردود أفعالهم من مواقع الحقد والإنتقام، بل المقصود من الإِنتقام الإِلهي هو أن الجماعة الفاسدة وغير القابلة للإِصلاح لا يحق لها الحياة في نظام الخلق، ولابدّ أن تمحى من صفحة الوجود.
والإِنتقام في اللغة العربية ـ كما أسلفنا ـ يعني العقوبة والمجازاة، لا ما هو شائع في عرف الناس اليوم.
* * *
[184]
الآية
وَأَوْرَثْنَا الْقَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـرِقَ الاَْرْضِ وَمَغَـرِبَهَا الَّتِي بَـرَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلى بَنِى إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ 137
التّفسير
قوم فرعون والمصير المؤلم:
بعد هلاك قوم فرعون، وتحطّم قدرتهم، وزوال شوكتهم، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية اراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها).
و "الإرث" كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة، سواء كان المنتَقَل منه حياً أو ميّتاً.
و"يستضعفون" مشتقّة من مادة "الإستضعاف" وتطابق كلمة "الإستعمار" التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف
[185]
جماعة أُخرى حتى يمكن للجماعة الأُولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتاً بين هذه اللفظة ولفظة الإِستعمار، وهو: أن الإِستعمار ظاهره تعمير الأرض، وباطنه الإِبادة والتدمير، ولكن الإِستضعفاف ظاهره وباطنه واحد.
والتعبير بــ(كانوا يستضعفون) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية: ضعف فكري، وضعف أخلاقي، وضعف إقتصادي، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.
والتعبير بـ (مشارق الأرض ومغاربها) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة، وبعبارة أُخرى "ليس لها آفاق متعددة" ولكن الأراضي الواسعة جداً من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّاً.
وجملة (باركنا فيها) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة ـ يعني مصر والشام ـ التي كانت تعدّ آنذاك، وفي هذا الزمان أيضاً، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب: إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّاً بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضاً.
وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتماً. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم.
ثمّ يقول: (وتمت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) أي تحقق الوعد الإِلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين، بسبب صبرهم وثباتهم.
وهذا هو الوعد الذي أُشير إليه في الآيات السابقة (الآية 128 و 129 من نفس هذه السورة).
[186]
صحيح أنَّ هذه الآية تحدّثت عن بني إِسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط، إلاّ أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأُخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والإستعمار، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون.
ثمّ يضيف في آخر الآية: نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة، وأبنيتهم الجميلة الشامخة، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة (ودمرّنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون).
و"صنع" كما يقول "الراغب" في "المفردات" يعني الأعمال الجميلة، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجميلة الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.
و"ما يعرشون" في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.
و"دمرنا" من مادة "التدمير" بمعنى الإِهلاك والإبادة.
وهنا يطرح السؤال التالي وهو: كيف اُبيدت هذه القصور والبساتين، ولماذا؟
ونقول في الجواب: لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل، بل غَرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسى(عليه السلام)، ومن المسلَّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة، والإمكانيات الإقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيراً جداً لاستعادوا بها شوكتهم، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل، أو الحاق الاذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.
* * *
[187]
الآيات
وَجَـوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْم يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنَام لَّهُمْ قَالُوا يَـمُوسَى اجْعَل لَّنَآ إِلَـهَاً كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَومٌ تَجْهَلُونَ 138 إِنَّ هَـؤُلاَءِ مَتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبـطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ 139 قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ140وَإِذْ أَنجَيْنَـكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ 141
التّفسير
الاقتراح على موسى بصنع الوثن:
في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإِنتصار على الفرعونيين، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (86) إلى (97)، وبصورة مختصرة في الآية (148) فما بعد من هذه السورة.
[188]
وفي الحقيقية فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسى(عليه السلام) وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.
في الآية الأُولى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) أي النيل العظيم.
ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام (فأَتَوا على قوم يعكفون على أصنام لهم).
و"عاكف" مشتقّة من مادة "العكوف" بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لإِحترامه وتبجيله.
فتأَثَّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء: يا موسى اتّخذ لنا معبوداً على غرار معبودات هؤلاء (قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلِهة).
فانزعج موسى(عليه السلام) من هذا الإِفتراح الأحمق بشدّة، وقال لهم: (قال إنّكم قوم تجهلون).
* * *
بحوث
وهنا لابدّ من الانتباه إلى نقاط:
1 ـ الجهل منشأ الوثنية
يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب، وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل.
ومن جانب آخر جهل الإِنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب
[189]
أحياناً في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام.
ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة، وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلاّ بالقضايا الحسية.
إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت، وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام، وإلاّ فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته، عارف بعلل الحوادث، عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطبيعة. قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا، فيستعمل قسماً منها في بناء بيته، أو صنع سلالم منزله، ويتخذ قسماً آخر معبوداً يسجد أمامه، ويسلّم مقدراته بيده.
والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسى(عليه السلام) في الآية الحاضرة كيف يقول لهم: أنتم غارقون في الجهل دائماً، (لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالباً على الإِستمرارية) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية، وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته.
والاغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم (اجعل لنا إلهاً) أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثميناً ـ بمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليه ـ وتوجب عبادته التقرب إلى الله، وعدم عبادته البعد عنه تعالى، وتكون عبادته منشأ للخير والبركة، واحتقاره منشأ للضرر والخسارة، وهذه هي نهاية الجهل والغفلة.
صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم، بل كان مقصودهم هو: إجعل لنا معبوداً نتقرب بعبادته إلى الله، ويكون مصدراً للخير والبركة، ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقداً للروح والتأثير مصدراً للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبوداً وإلهاً؟ هل الدافع لذلك العمل شيء سوى
[190]
الجهل والخرافة، والخيال الواهي والتصور الخاوي؟!(1)
2 ـ أرضية الوثنية عند بني إسرائيل
لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل ـ قبل مشاهدة هذا الفريق من الوثنيين ـ أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سبباً لأنواع المفاسد والشقاء، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا إهتم الإِسلام بإصلاح البيئة إهتماماً بالغاً.
3 ـ الكفرة بالنعم في بني إسرائيل
الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآيه بوضوح، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أُتي بها موسى(عليه السلام)، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإِلهية التي خصّهم الله بها، فإنّه لم ينقصِ عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأُمور دفعة واحدة، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناماً ليعبدوها!!
ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنين(عليه السلام) قائلا: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مرّت أبحاث أُخرى حول تاريخ الوثنية في تفسير الآية (258) سورة البقرة.
[191]
عليه قائلا: "إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعَلْ لنا إِلهاً كما لهم آلهة، فقال إنّكم قوم تجهلون".
أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلاّ واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة، وقال موسى: إنّكم قوم تجهلون.
وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى(عليه السلام) ـ لتكميل حديثه لبني إسرائيل ـ قال: إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له (إن هؤلاء متبرٌّ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون).
فعمل هذه الجماعة باطل، وجهودهم غير منتجة، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار. (لأنّ "متبَّر" مشتّقة من التبار أي الهلاك).
ثمّ تضيف الآية التوكيد: إنّ موسى(عليه السلام) (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين).
يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما، فإنّ ذلك أيضاً يرتبط بالله سبحانه، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقاً لها.
وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإِلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل، ليبعث بالإِلتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإِلهية المقدسة فحسب، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئاً أبداً.
[192]
يقول في البداية: تذكَّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائماً (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب).
و"يسومون" مشتقّة من مادة "سوم" وتعني في الأصل ـ كما قال "الراغب" في "المفردات" ـ الذهاب في طلب شيء، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الإِستمرار والمضّي أيضاً، وعلى هذا يكون معنى (يسومونكم سوء العذاب)أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.
ثمّ تمشياً مع أسلوب القرآن في بيان الأُمور بتفصيل بعد إحمال شرح هذا العذاب المستمر، وهو: قتل الأبناء، واستبقاء النساء للخدمة والإسترقاق (يقتلون أبناءكم، ويستحيون نساءكم).
وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم (وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيم).
وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسى(عليه السلام) عن الله لنبي إسرائيل عندما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.
صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال: إن الآية كانت في الأصل هكذا: قال موسى: قال ربّكم ... وهذا خلاف الظاهر.
ولكن مع الإلتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لإنقطع إرتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.
هذا ولابدّ ـ ضمناً ـ من الإلتفات إلى أن نظير هذه الآية مرّ في سورة البقرة الآية (49) مع فارق جداً بسيط، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (49) من سورة البقرة.
* * *
[193]
الآية
وَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَهَا بِعَشْر فَتَمَّ مِيقَتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لاَِخيهِ هَـرُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ 142
التّفسير
الميعاد الكبير:
في هذا الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل، ومشكلة موسى(عليه السلام) معهم، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرَك بالأبصار، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وإنحرافهم عن مسير التوحيد، وضجّة السامريّ العجيبة.
يقول تعالى أوّلا: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربّه أربعين ليلة).
وكلمة "الميقات" مشتقّة من مادة "الوقت" بمعنى الموعد المضروب للقيام
[194]
بعمل ما، ويطلق عادة على الزمان، ولكنّه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه، مثل "ميقات الحج" يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلاّ محرماً.
ثمّ ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه، وأن لا يتبع سبيل المفسدين: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين).
* * *
بحوث
وهنا عدّة نقاط ينبغي التوقف عندها والإِلتفات إليها:
1 ـ لماذا التفكيك بين الثلاثين والعشر؟
إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه في مجال الآية الحاضرة، هو: لماذا لم يبيّن مقدار الميقات بلفظ واحد هو الأربعين، بل ذكر أنّه واعده ثلاثين ليلة ثمّ أتمّه بعشر، في حين أنّه تعالى ذكر ذلك الموعد في لفظ واحد هو أربعين في الآية (151) من سورة البقرة.
ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لهذا التفكيك، والذي يبدو أقرب إلى النظر وأكثر انسجاماً مع أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) هو أنّه وإن كان الواقع هو أربعين يوماً، إلاّ أنّه في الحقيقة وعد الله موسى في البداية ثلاثين يوماً ثمّ مدّده عشرة أيّام أُخرى، اختباراً لبني إسرائيل كي يُعرف المنافقون في صفوف بني إسرائيل.
فقد روي عن الإِمام محمّد الباقر(عليه السلام) أنّه قال: إنّ موسى(عليه السلام) لما خرج وافداً إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوماً، فلمّا زاده الله على الثلاثين عشراً قال قومه، قد أخلفنا
[195]
موسى فصنعوا ما صنعوا (من عبادة العجل)(1).
وأمّا أن هذه الأيّام الأربعين صادفت أيّام أي شهر من الشهور الإِسلامية، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّها بدأت من أوّل شهر ذي القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى). وقد جاء التعبير بلفظ أربعين ليلة في القرآن الكريم لا أربعين يوماً، فالظاهر أنّه لأجل أن مناجاة موسى لربّه كانت تتمّ غالباً في الليالي.
2 ـ كيف نصب موسى(عليه السلام) هارون قائداً وإماماً؟
السؤال الثّاني الذي يطرح نفسه هنا، هو: إنّ هارون كان نبيّاً، فكيف نصبه موسى(عليه السلام) خليفة له وإماماً وقائد لبني إسرائيل؟
والجواب على هذا السؤال يتّضح بعد الإلتفات إلى أنّ مقام النّبوة شيء ومقام الإمام شيء آخر، ولقد كان هارون نبيّاً، ولكن لم يكن قد أنيط به مقام الإمامة العامّة لبني اسرائيل، بل كان مقام الإمامة ومنصب القيادة العامّة خاصاً بموسى(عليه السلام)، ولكنّه عندما قصد أن يفارق قومه إلى ميقات ربّه اختار هارون إماماً وقائداً.
3 ـ لماذا طلب موسى(عليه السلام) من أخيه الإصلاح وعدم اتّباع المفسدين؟
السؤال الثّالث الذي يطرح نفسه هنا، هو: لماذا قال موسى(عليه السلام) لأخيه: اصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، مع أن هارون نبي معصوم من المستحيل أن يتبع طريق المفسدين وينهج نهجهم الفاسد؟
نقول في الجواب: إنّ هذا ـ في الحقيقة ـ نوع من التوكيد لإلفات نظر أخيه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 33 ـ نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 61.
[196]
إلى أهمية مكانته في بني إسرائيل. ولعله أراد بهذا الموضوع أن يوضح لبني إسرائيل ويفهمهم أن عليهم أن يمتثلوا لتعاليم هارون ونصائحه ومواعظه الحكيمة، ولا يستثقلوا أوامره ونواهيه، ولا يعتبروا تلك الأوامر والنواهي وكذلك قيادة هارون لهم دليلا على قِصَرِهم وصغرهم ... بل يفعلون كما يفعل هارون حيث كان رغم منزلته البارزة ومقام نبوته تابعاً ومطيعاً لنصائح موسى(عليه السلام).
4 ـ ميقات واحد أو مواقيت متعددة؟
السؤال الرّابع الذي يطرح نفسه هنا، هو: هل ذهب موسى إلى ميقات ربّه مرّة واحدة، وهي هذه الأربعون يوماً، وتلقى أحكام التوراة وشريعته السماوية عن طريق الوحي في هذه الأربعين يوماً، كما اصطحب معه جماعة من شخصيات بني إسرائيل معه كممثلين عن قومه، ليشهدوا نزول أحكام التوراة عليه، وليفهمهم أن الله لا يدرك بالأبصار أبداً، في هذه الأربعين يوماً نفسها؟
أم أنّه كانت له مع الله أربعينات متعددة، أحدها لأخذ الأحكام، وفي الأُخرى اصطحب كبار قومه، وله ـ احتمالا ـ أربعون ثالثة لمقاصد ومآرب أُخرى غير هذه، (كما يستفاد من سفر الخروج من التوراة الفعلية الفصل 19 إلى 24).
وهنا أيضاً وقع كلام بين المفسّرين، ولكن الذي يبدو أنّه أقرب إلى الذهن ـ بملاحظة الآية المبحوثة والآيات السابقة عليها واللاحقة لها ـ أن جميع هذه الأُمور ترتبط بحادثة واحدة لا متعددة، لأنّه بغض النظر عن أن عبارة الآية اللاحقة (ولما جاء موسى لميقاتنا) تناسب تماماً وحدة هاتين القصّتين، فإنّ الآية (145) من نفس هذه السورة تفيد ـ بجلاء ـ أن قصّة ألواح التوراة، واستلام أحكام هذه الشريعة قد تمّت جميعُها في نفس هذا السفر أيضاً.
[197]
5 ـ حديث المنزلة
أشار كثير من المفسّرين الشيعة والسنة ـ في ذيل الآية المبحوثة ـ إلى حديث "المنزلة" المعروف، بفارق واحد هو: أنّ الشيعة اعتبروا هذا الحديث من الأدلة الحيّة والصريحة على خلافة علي(عليه السلام) لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة وبلا فصل.
ولكي يتّضح هذا البحث ندرج هنا أوّلا أسانيد ونص هذا الحديث باختصار، ثمّ نبحث في دلالته، ثمّ نتكلم حول الحملات التي وجهها بعض المفسّرين إلى الشيعة.
أسانيد حديث المنزلة:
1 ـ روى جمع كبير من صحابة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حول غزوة تبوك: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إلى تبوك واستخلف علياً فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبيّ بعدي".
وهذا النص ورد في أوثق الكتب الحديثية لدى أهل السنّة، يعني صحيح البخاري وعن سعد بن أبي وقاص.(1)
وقد روى هذا الحديث ـ أيضاً ـ في صحيح مسلم الذي يعدّ من المصادر الرئيسية عن أهل السُنّة، في باب "فضائل الصحابة" عن سعد أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"(2).
في هذا الحديث الذي نقله صحيح مسلم أعلن عن الموضوع بصورة كليّة، ولم يرد فيه ذكر عن غزوة تبوك.
وهكذا نقل حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا في سياق ذكر غزوة تبوك بعد ذكر الحديث بصورة كلّية، بصورة مستقلة كما جاء في صحيح البخاري.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ صحيح البخاري، الجزء السّادس، الصفحة 3، طبعة دار إحياء التراث العربي.
2 ـ صحيح مسلم، المجلد الرّابع، الصفحة 187، طبعة دار إحياء التراث العربي.
[198]
وقد ورد عين هذا الموضوع في سنن ابن ماجه أيضاً(1).
وقد أضيف في سنن الترمذي مطلب آخر، وهو أنّ معاوية قال لسعد ذات يوم: ما يمنعك أن تسبَّ أبا تراب؟! قال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فلن أسبَّه، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حُمْر النَعَم. ثمّ عدد الأُمور الثلاثة فكان أحدها ما قاله رسول الله لعلي في تبوك وهو قوله: "أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوة بعدي"(2).
وقد أشير إلى هذا الحديث في عشرة موارد من مسند أحمد بن حنبل، تارة ذكرت فيه غزوة تبوك، وتارة من دون ذكر غزوة تبوك بل بصورة كلّية(3).
وقد روي في أحد هذه المواضع أنّه أتى ابن عباس ـ بينما هو جالس ـ تسعة رهط، فقالوا: يا ابن عباس، إمّا أن تقوم معنا، وإمّا أن تخلونا هؤلاء، فقال ابن عباس: بل أقوم معكم (إلى أن قال) وخرج بالناس (أي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)) في غزوة تبوك ثمّ نقل كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام) وأضاف: "إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي"(4).
وجاء نفس هذا الحديث في "خصائص النسائي"(5) وهكذا في مستدرك الحاكم(6)، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي(7) وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(8)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المجلد الأوّل، الصفحة 43، طبعة دار إحياء الكتب العربية.
2 ـ المجلد الخامس، الصفحة 638، طبعة المكتبة الإِسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.
3 ـ مسند أحمد بن حنبل، المجلد الأول، الصفحة 173 و 175 و 177 و 179 و 183 و 185 و 231، و المجلد السّادس، الصفحة 369 و 438.
4 ـ مسند أحمد، المجلد الأوّل، الصفحة 231.
5 ـ خصائص النسائي، ص 4 و 14.
6 ـ المجلد الثالث، الصفحة 108 و 109.
7 ـ المجلد الأوّل، الصفحة 65.
8 ـ الصفحة 177.
[199]
وسيرة ابن هشام(1) والسيرة الحلبية(2) وكتب كثيرة أُخرى.
ونحن نعلم أن هذه الكتب من الكتب المعروفة، والمصادر الأُولى لأهل السنة.
والجدير بالذكر أن هذا الحديث لم يروه "سعد بن أبي وقاص" عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وحده، بل رواه ـ أيضاً ـ مجموعة كبيرة من الصحابة الذين يتجاوز عددهم عشرين شخصاً منهم: "جابر بن عبدالله" و "أبو سعيد الخدري" و"أسماء بنت عميس" و"ابن عباس" و"أم سلمة" و"عبدالله بن مسعود" و"أنس بن مالك" و"زيد بن أرقم" و"أبو أيوب" والأجدر بالذكر أنّ هذا الحديث رواه عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) "معاوية بن أبي سفيان" و"عمر بن الخطاب" أيضاً.
وينقل "محب الدين الطبري" في "ذخائر العقبى" أنّه جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال: سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. قال: يا أمير المؤمنين (ويقصد به معاوية) جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ.
فال: بئسما قلتَ، لقد كرهت رجلا كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يغره بالعلم غراً، وقد قال له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، وكان عمر إذا أشكل عليه أخذ منه(3).
وروى أبو بكر البغدادي في "تأريخ بغداد" بسنده عن عمر بن الخطّاب أنّه رأى رجلا يسبّ عليّاً(عليه السلام) فقال: إنّي أظنّك منافقاً، سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "إنّما عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي"(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ السيرة النبوية، المجلد الثّالث، الصفحة 163 طبعة مصر.
2 ـ السيرة الحلبية، المجلد الثّالث، الصفحة 151 طبعة مصر.
3 ـ ذخائر العقبى، الصفحة 79، طبعة مكتبة القدس، الصواعق المحرقة، ص 177، طبعة مكتبة القاهرة.
4 ـ تاريخ بغداد، المجلد السابع، الصفحة 452 طبعة السعادة.
[200]
حديث المنزلة في سبعة مواضع:
النقطة الأُخرى، إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ و خلافاً لما يتصوّره البعض ـ لم يقل هذا البحث في علي(عليه السلام) في غروة تبوك فقط، بل قال هذه العبارة في عدّة مواضع منها:
1 ـ في المؤاخاة الأُولى: يعني في المرّة الأُولى التي آخى فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بين المهاجرين واختار عليّاً(عليه السلام) في هذه المؤاخاة لنفسه وقال: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"(1).
2 ـ في يوم المؤاخاة الثّانية: وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار، واصطفى لنفسه منهم عليّاً واتخذه من دونهم أخاه، وقال له: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي"(2).
3 ـ أم سليم ـ التي كانت على جانب من الفضل والعقل، وكانت تعدّ من أهل السوابق، وهي من الدعاة إلى الإِسلام، واستشهد أبوها وأخوها بين يدي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفارقت زوجها لأنّه أبى أن يعتنق الإِسلام، وكان رسولُ الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يزورها في بيتها بين الحين والآخر ويسلّيها ـ تروي أم سليم هذه أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لها ذات يوم: "إنّ عليّاً لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى"(3).
4 ـ قال ابن عباس: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كُفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيتُ من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه خصالا لئن تكون لي واحدة منهن في آل الخطّاب أحبَّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس، كنتُ أنا وأبوبكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فانتهينا إلى باب أمّ سلمة وعلي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كنز العمال، الحديث 918، المجلد الخامس، الصفحة 40، والمجلد السّادس، الصفحة 390.
2 ـ منتخب كنزالعمال، (في حاشية مسند أحمد)، المجلد الخامس، من مسند أحمد، الصفحة 31.
3 ـ كنز العمال، المجلد السّادس، الصفحة 164.
[201]
قائم على الباب، فقلنا: أردنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يخرج إليكم، فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فسرنا إليه، فأتكأ على علي بن أبي طالب ثمّ ضرب بيده منكبة ثمّ قال: "أنت (يا علي) أوّل المومنين إيماناً، وأوّلهم إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى"(1).
5 ـ روى النسائي في كتاب "الخصائص" أن علياً وزيداً وجعفر اختصموا في من يكفل ابنة حمزة، وكان كل واحد منهم يريد أن يكفلها هو دون غيره فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلى: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى"(2).
6 ـ روى جابر بن عبدالله أنّه عندما أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بسدّ جميع أبواب المنازل التي كانت مشرعة إلى المسجد إلاّ باب بيت علي(عليه السلام)، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي، وإنّك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"(3).
هذه الموارد الستّة النّبي هي غير غزوة تبوك، أخذناها برمتها من المصادر المعروفة لأهل السنّة، وإلاّ فإن هناك في الرّوايات المرويّة عن طريق الشيعة موارد أُخرى قال فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هذه العبارة في شأن علي(عليه السلام) أيضاً.
من مجموع ذلك يستفاد ـ بوضوح وجلاء ـ أنّ حديث المنزلة لم يكن مختصاً بغزوة تبوك، بل هو أمر عام ودائم في شأن علي(عليه السلام).
ومن هنا يتّضح أيضاً ـ أنّ ما تصوره بعض علماء السنّة مثل "الآمدي" من أن هذا الحديث يتكفل حكماً خاصاً في مجال خلافة علي(عليه السلام) وأنّه يرتبط بظرف غزوة تبوك خاصّة، ولا يرتبط بغيره من الظروف والأوقات، تصوّر باطل أساساً، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كرّر هذه العبارة في مناسبات متنوعة ممّا يفيد أنّه كان حكماً عاماً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كنز العمال، المجلد السّادس، الصفحة 395.
2 ـ خصائص النسائي، الصفحة 19.
3 ـ ينابيع المودة، آخر باب 17، الصفحة 88 الطبعة الثّانية دار الكتب العراقية.
[202]
محتوى حديث المنزلة:
لو درسنا ـ بموضوعية وتجرّد ـ هذا الحديث، وتجنَّبْنا الأحكام المسبَّقة والتحججات الناشئة من العصبية، لاستفدنا من هذا الحديث أنّ عليّاً(عليه السلام) كان له ـ بموجب هذا الحديث ـ جميع المنازل التي كانت لهارون في بني إسرائيل ـ إلاّ النّبوة ـ لأنّ لفظ الحديث عام، والاستثناء (إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي) يؤكّد هو الآخر هذه العموميّة، ولا يوجد أيّ قيد أو شرط في هذا الحديث يخصصه ويقيّده.
وعلى هذا الأساس يمكن أن يستفاد من هذا الحديث الأُمور التالية:
1 ـ إنّ الإمام علياً(عليه السلام) أفضل الأئمّة بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان لهارون مثل هذا المقام.
2 ـ إنّ علياً وزير النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعاونه الخاص وعضده، وشريكه في قيادته، لأنّ القرآن أثبت جميع هذه المناصب لهارون عندما يقول حاكياً عن موسى قوله: (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي، أشدد به أزري واشركه في أمري)(1).
3 ـ إنّه كان لعلي(عليه السلام) ـ مضافاً إلى الأخوة الإِسلامية العامّة مقام الأخوة الخاصّة والمعنوية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
4 ـ إنّ عليّاً(عليه السلام) كان خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع وجوده لم يكن أي شخص آخر يصلح لهذا المنصب.
أسئلة حول حديث المنزلة:
لقد أورد بعض المتعصبين إشكالات وإعتراضات على هذا الحديث والتمسك به لإثبات خلافة علي لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة طه، 29 الى 32.
[203]
بعض الإشكالات والإِعتراضات واهية جداً إلى درجة لا تصلح للطرح على بساط المناقشة، بل لا يملك المرء عند السماع بها إلاّ أن يتأسف على حال البعض كيف صدّتهم الأحكام المسبقة غير المدروسة عن قبول الحقائق الواضحة؟
أمّا البعض الآخر من الإشكالات القابلة للمناقشة والدراسة فنطرحها على بساط البحث تكميلا لهذه الدراسة:
الإشكال الأوّل: إن هذا الحديث يبين ـ فقط ـ حكماً خاصاً محدوداً، لأنّه ورد في غزوة تبوك، وذلك عندما انزعج علي(عليه السلام) من استبقائه في المدينة بين النساء والصبيان، فسلاّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه العبارة:
وعلى هذا الأساس كان المقصود هو: إنّك وحدك الحاكم والقائد لهذه النسوة والصبيان دون غيرك.
وقد اتضح الجواب على هذا الإشكال من الأبحاث السابقة ـ بجلاء ـ وتبيّن أنّه ـ على خلاف تصور المعترضين ـ لم يرد هذا الحديث في واقعة واحدة، ولم يصدر في واقعة تبوك فقط، بل صدر في موارد عديدة على أساس كونه يتكفل حكماً كليّاً، وقد أشرنا إلى سبعة موارد ومواضع منها مع ذكر أسانيدها من مؤلفات علماء أهل السنة.
هذا مضافاً إلى أنّ بقاء عليّ(عليه السلام) في المدينة لم يكن أمراً بسيطاً يهدف المحافظة على النساء والصبيان فقط، بل لو كان الهدف هو هذا، لتيّسر للآخرين القيام به، وإنّ النّبي لم يكن ليترك بطل جيشه البارز في المدينة لهدف صغير، وهو يتوجه إلى قتال امبراطورية كبرى (هي إمبراطورية الروم الشرقية).
إنّ من الواضح أنّ الهدف كان هو منع أعداء الرسالة الكثيرين الساكنين في أطراف المدينة والمنافقين القاطنين في نفس المدينة، الذين كانوا يفكرون في استغلال غيبة النّبي الطويلة لإجتياح المدينة قاعدة الإِسلام، ولهذا عمد رسول
[204]
الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يخلف في غيبته شخصيّةً قويّةً يمكنه أن يحفظ هذا المركز الحساس، ولم تكن هذه الشخصية سوى علي(عليه السلام).
الإشكال الثّاني: نحن نعلم ـ كما اشتهر في كتب التاريخ أيضاً ـ أنّ هارون توفي في عصر موسى(عليه السلام) نفسه، ولهذا لا يُثبت التشبيه بهارون أن عليّاً(عليه السلام) خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولعل هذا هو أهم إشكال أورد على هذا البحث والتمسك به، ولكن جملة "إلاّ أنّه لا نبي بعدي" تجيب على هذا الإشكال بوضوح، لأنّه إذا كان كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي يقول: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، خاصاً بزمان حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما كانت هناك ضرورة إلى جملة "إلاّ أنّه لا نبي بعدي" لأنّه إذا اختص هذا الكلام بزمان حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكان التحدث حول من يأتي بعده غير مناسب أبداً (إذ يكون لهذا الإِستثناء ـ كما اصطلح في العربية ـ طابع الإِستثناء المنقطع الذي هو خلاف الظاهر).
وعلى هذا الأساس يكشف وجود هذا الإستثناء ـ بجلاء ـ أنّ كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ناظر إلى مرحلة ما بعد وفاته، غاية ما هنالك ولكي لا يلتبس الأمر، و لا يعتبر أحدٌ عليّاً(عليه السلام) نبيّاً بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ لك جميع هذه المنازل ولكنّك لن تكون نبيّاً بعدي.
فيكون مفهوم كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أن لك جميع ما لهارون من المناصب والمنازل، لا في حياتي فقط، بل أنّ هذه المنازل تظلّ مستمرة وباقية لك إلاّ مقام النّبوة.
وبهذه الطريقة يتّضح أن تشبية علي(عليه السلام) بهارون، إنّما هو من حيث المنازل والمناصب، لا من حيث مدّة إستمرار هذه المنازل والمناصب، ولو أنّ هارون كان يبقى حياً لكان يتمتع بمقام الخلافة لموسى ومقام النّبوة معاً.
ومع ملاحظة أنّ هارون كان له ـ حسب صريح القرآن ـ مقام الوزارة
[205]
والمعاونة لموسى، وكذا مقام الشركة في أمر القيادة (تحت إشراف موسى) كما أنّه كان نبيّاً، تثبت جميع هذه المنازل لعلي(عليه السلام) إلاّ النّبوة، حتى بعد وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بشهادة عبارة (إلاّ أنّه لا نبي بعدي).
الإشكال الثّالث: إنّ الاستدلال بهذا الحديث يستلزم أنّه كان لعلي(عليه السلام) منصب الولاية والقيادة حتى في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حين لا يمكن أن يكون هناك إمامان وقائدان في عصر واحد.
ولكن مع الإِلتفات إلى النقطة التالية يتّضح الجواب على هذا الإشكال أيضاً، وهي أنّ هارون كان له ـ من دون شك ـ مقام قيادة بني إسرائيل حتى في عصر موسى(عليه السلام)، ولكن لا بقيادة مستقلة، بل كان قائداً يقوم بممارسة وظائفه تحت إشراف موسى. وقد كان علي(عليه السلام) في زمان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) معاوناً للنّبي في قيادة الأُمّة أيضاً، وعلى هذا الأساس يصير قائداً مستقلا بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى كل حال، فإنّ حديث المنزلة الذي هو من حيث الأسانيد من أقوى الأحاديث والرّوايات الإسلامية التي وردت في مؤلفات جميع الفرق الإسلامية بلا إستثناء، إنّ هذا الحديث يوضح لأهل الإِنصاف من حيث الدلالة أفضلية علي(عليه السلام)على الأُمّة جمعاء، وأيضاً خلافته المباشرة (وبلا فصل) بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولكن مع العجب العجاب أنّ البعض لم يكتف برفض دلالة الحديث على الخلافة، بل قال: إنّه لا يتضمّن ولا يثبت أدنى فضيلة لعليّ(عليه السلام).. وهذا حقّاً أمر محيّر.
* * *
[206]
الآية
وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرانِى وَلَـكِن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَـنَكَ تُبْتُ إِليْكَ وَأَنَا أوَّلُ الْمُؤْمِنينَ143
التّفسير
المطالبة برؤية الله:
في هذه الآيات والآيات اللاحقة يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل، وذلك عندما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسى(عليه السلام) ـ بإلحاح وإصرار ـ أن يَروا الله سبحانه، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه، فاختار موسى سبعين رجلا من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه، وهناك رفع طلبهم إلى الله سبحانه، فسمع جواباً أوضح لبني إسرائيل كل شيء في هذا الصعيد.
وقد جاء قسم من هذه القصّة في سورة البقرة الآية (55) و (56)، وقسم آخر
[207]
منه في سورة النساء الآية (153)، وقسم ثالث في الآيات المبحوثة هنا في الآية (155) من هذه السورة.
ففي الآيات الحاضرة يقول أوّلا: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك).
ولكن سرعان ما سمع الجواب من جانب المقام الرّبوبي: كلا، لن تراني أبداً (قال لن تراني ولكن اُنطر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلى ربّه للجبل جعله دكاً)(1).
فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمىً عليه (وخرّ موسى صعقاً).
وعندما أفاق قال: ربّاه سبحانك، أنبتُ إليك، وأنا أوّل من آمن بك (فلمّا أفاق قال سبحانك تبتُ إليك وأنا أوّل المؤمنين).
* * *
بحوث
وفي هذه الآية نقاط ينبغي التوقف عندها والإلتفات إليها:
1 ـ لماذا طلب موسى رؤية الله؟
إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه هنا هو: كيف طلب موسى(عليه السلام) ـ و هو النّبي العظيم ومن أُولي العزم ـ رؤية الله وهو يعلم جيداً أن الله ليس بجسم، وليس له مكان، ولا هو قابل للمشاهدة والرؤية، والحال أن مثل هذا الطلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من الناس؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "دك" في الأصل بمعنى سوّى الأرض، وعلى هذا فالمقصود من عبارة "جعله دكّاً" هو أنّه حطم الجبال وسواها كالأرض و جاء في بعض الرّوايات أنّ الجبل تناثر أقساماً، سقط كلّ قسم منه في جانب أو غار في الأرض نهائياً.
[208]
صحيح أنّ المفسّرين ذكروا أجوبة مختلفة على هذا السؤال، ولكن أوضح الأجوبة هو أن موسى(عليه السلام) طرح مطلب قومه، لأنّ جماعة من جَهَلة بني إسرائيل أصرّوا على أن يروا الله حتى يؤمنوا (والآية 153 من سورة النساء خير شاهد على هذا الأمر) وقد أمر موسى (عليه السلام) من جانب الله أن يطرح مطلب قومه هذا على الله سبحانه حتى يسمع الجميع الجواب الكافي، وقد صُرّح بهذا في رواية مرويّة عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في كتاب عيون أخبار الرضا أيضاً(1).
ومن القرائن الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير ما نقرأه في الآية (155) من نفس هذه السورة، من أنّ موسى(عليه السلام) قال بعدما حدث ما حدث: (أتهلِكُنا بما فَعَل السفهاءُ منّا).
فيتّضح من هذه الجملة أنّ موسى(عليه السلام) لم يطلب لنفسه مثل هذا الطلب اطلاقاً، بل لعلّ الرجال السبعين الذين صعدوا معه إلى الميقات هم أيضاً لم يطلبوا مثل هذا الطلب غير المعقول وغيرالمنطقي، إنّهم كانوا مجرّد علماء، ومندويين من جانب بني إسرائيل خرجوا مع موسى(عليه السلام) لينقلوا فيما بعد مشاهداتهم لجماعات الجهلة والغافلين الذين طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى ومشاهدته.
2 ـ هل يمكن رؤية الله أساساً؟
نقرأ في الآية الحاضرة أن الله سبحانه قال لموسى(عليه السلام): (انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) فهل مفهوم هذا الكلام هو أن الله قابل للرؤية أساساً؟
الجواب هو أن هذا التعبير هو كناية عن استحالة مثل هذا الموضوع، مثل جملة (حتى يلج الجمل في سمّ الخياط) وحيث أنّه كان من المعلوم أنّ الجبل يستحيل أن يستقر في مكانه عند تجلّي الله له، لهذا ذكر هذا التعبير.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 65.
[209]
3 ـ ما هو المراد من تجلّي الله؟
لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين في هذا الصعيد، ولكن ما يبدو للنظر من مجموع الآيات أنّ الله أظهر إشعاعة من أحد مخلوقاته على الجبل (وتجلّي آثاره بمنزلة تجليه نفسه) ولكن ماذا كان ذلك المخلوق؟ هل كان إحدى الآيات الإلهية العظمية التي بقيت مجهولة لنا إلى الآن، أو أنّه نموذج من قوة الذرَّة العظيمة، أو الأمواج الغامضة العظيمة التأثير والدفع، أو الصاعقة العظيمة الموحشة التي ضربت الجبل وأوجدت برقاً خاطفاً للأبصار وصوتاً مهيباً رهيباً وقوّة عظيمة جداً، بحيث حطّمت الجبل ودكّته دكّاً(1)؟!
وكأنّ الله تعالى أراد أن يُرِىَ ـ بهذا العمل ـ شيئين لموسى(عليه السلام) وبني إسرائيل:
الأوّل: أنّهم غير قادرين على رؤية ظاهرة جد صغيرة من الظواهر الكونية العظيمة، ومع ذلك كيف يطلبون رؤية الله الخالق.
الثاني: كما أن هذه الآية الإلهية العظيمة مع أنّها مخلوق من المخلوقات لا أكثر، ليست قابله للرؤية بذاتها، بل المرئي هو آثارها، أي الرجة العظيمة، والمسموع هو صوتها المهيب. أمّا أصل هذه الأشياء أي تلك الأمواج الغامصة أو القوة العظيمة فلا هي ترى بالعَين، ولا هي قابلة للإدراك بواسطة الحواس الأُخرى، ومع ذلك هل يستطيع أحد أن يشك في وجود مثل هذه الآية، ويقول: حيث أنّنا لا نرى ذاتها، بل ندرك فقط آثارها فلا يمكن أن نؤمن بها.
فإذا يصح الحكم هذا حول مخلوق من المخلوقات، فكيف يصح أن يقال عن الله تعالى: بما أنّه غير قابل للرؤية، إذن لا يمكننا الإيمان به، مع أنّه ملأت
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الصاعقة عبارة عن التبادل الكهربائي بين قطع الغيوم والكرة الأرضية، فالسحب ذات الكهربية الموجبة عندما تقترب إلى الأرض ذات الكهربية السلبية تندلع شرارة من بينهما يعني السطح المجاور من الكرة الأرضية، وهي خطرة مدمرة في الغالب، ولكن البرق والرعد ينشآن من التبادل الكهربائي بين قطعتين من السحاب أحدهما موجب، والآخر سلبي، وحيث أنّهما يحدثان في السماء لذلك لا يشكلان خطراً في العادة إلاّ للطائرات. والسفن الفضائية.
[210]
آثاره كل مكان؟
وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية وهو أنّ موسى(عليه السلام) طلب لنفسه هذا المطلب حقيقة، ولكن لم يكن مقصوده مشاهدته بالعين التي تستلزم جسمانيته تعالى، وتنافي نبوة موسى(عليه السلام)، بل المقصود هو نوع من الإدراك الباطني والمشاهدة الباطنية، نوع من الشهود الكامل الروحيّ والفكري، لأنّه كثيراً ما تستعمل الرؤية في هذا المعنى مثلما نقول: "أنا أرى في نفسي قدرةً على القيام بهذا العمل" في حين أنّ القدرة ليست شيئاً قابلا للرؤية، بل المقصود هو أنّني أجد هذه الحالة في نفسي بوضوح.
كان موسى(عليه السلام) يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الشهود والمعرفة، في حين أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن ممكناً في الدنيا، وإن كان ممكناً في عالم الآخرة الذي هو عالم الشهود.
ولكن الله تعالى أجاب موسى(عليه السلام) قائلا: إنّ مثل هذه الرؤية غير ممكنة لك، ولإثبات هذا المطلب تجلّى للجبل، فتحطَّم الجبل وتلاشى، وبالتالي تاب موسى من هذا الطلب.(1)
ولكن هذا التّفسير مخالف لظاهر الآية المبحوثة هنا، ويتطلب ارتكاب التجوّز من جهات عديدة(2) هذا مضافاً إلى أنّه ينافي بعض الرّوايات الواردة في تفسير الآية أيضاً، فالحق هو التّفسير الأول.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ملخص من تفسير الميزان، المجلد الثامن، الصفحة 249 إلى 254.
2 ـ فهو مخالف لمفهوم الرؤية، ولإطلاق جملة "لن تراني" وجملة "أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا".
هذا بغض النظر عن أن طلب الشهود الباطني ليس أمراً سيئاً ليتوب منه موسى، فقد طلب إبراهيم من الله مثل هذا المطلب في مجال المعاد أيضاً ولبى الله طلبه.
ولو أن الجواب في مجال الشهود الباطني لله بالنفي لما كان دليلا على المؤاخذة والعقاب.
[211]
4 ـ مم تاب موسى(عليه السلام)؟
إنّ آخر سؤال يطرح نفسه هنا هو: أن موسى(عليه السلام) بعد أن أفاق قال: (تبتُ إليك) في حين أنّه لم يرتكب إثماً أو معصية، لأن هذا الطلب كان من جانب بني إسرائيل، وكان طرحه بتكليف من الله، فهو أدى واجبه إذن، ثمّ إذا كان هذا الطلب لنفسه وكان مراده الشهود الباطني لم يُحسب هذا العمل إثماً؟؟
ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال من جانبين:
الأوّل: أن موسى طلب مثل هذا الطلب بالنيابة عن بني إسرائيل، ومع ذلك طلب من الله أن يتوب عليه، وأظهر الإِيمان.
الآخر: أنّ موسى(عليه السلام) وإن كان مكلَّفاً بأن يطرح طلب بني إسرائيل، ولكنّه عندما تجلى ربّه للجبل واتّضحت حقيقة الأمر، انتهت مدّة هذا التكليف، وفي هذا الوقت لا بدّ من العودة إلى الحالة الأُولى يعني الرجوع إلى ما قبل التكليف، وإظهار إيمانه حتى لا تبقى شبهة لأحد، وقد بيّن ذلك بجملة، (إنّي تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين).
5 ـ الله غير قابل للرؤية مطلقاً
إنّ هذه الآية من الآيات التي تشهد بقوة وجلاء أنّ الله غير قابل للرؤية والمشاهدة مطلقاً، لأنّ كلمة "لن" حسب ما هو مشهور بين اللغويين للنفي الأبدي، وعلى هذا الأساس يكون مفهوم جملة (لن تراني) إنّك لا تراني لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر.
ولو أنّ أحداً شكّك ـ افتراضاً ـ في أن يكون "لن" للنفي التأبيدي يدل إطلاق الآية، وكون نفي الرؤية ذكر من دون قيد أو شرط على أن الله غير قابل للرؤية في مطلق الزمان وجميع الظروف.
إنّ الأدلة العقلية هي الأُخرى تهدينا إلى هذه الحقيقة، لأنّ الرؤية تختص
[212]
بالأجسام.
وعلى هذا الأساس، إذا جاء في الأحاديث والأخبار الإسلامية أو الآيات القرآنية عبارة "لقاء الله" فإن المقصود هو المشاهدة بعين القلب والعقل، لأنّ القرينة العقلية والنقلية أفضل شاهد على هذا الموضوع وقد كان لنا أبحاث أُخرى في ذيل الآية (102) من سورة الأنعام في هذا الصعيد.
* * *
[213]
الآيتان
قَالَ يَـمُوسَى إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَـلَتِى وَبِكَلَـمِى فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّـكِرِينَ144 وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاَْلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَيء فَخُذْهَا بِقُوَّة وَامُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأحْسَنِهَا سَأُوِريكُمْ دَارَ الْفَـسِقِينَ145
التّفسير
ألواح التوراة:
وفي النهاية أنزل الله شرائع وقوانين دينه على موسى(عليه السلام).
ففي البداية: (قال يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي).
فإذا كان الأمر كذلك (فخذ ما آيتناك وكن من الشاكرين).
فهل يستفاد من هذه الآية أن التكلم مع الله كان من إمتيازات موسى الخاصّة به دون بقية الأنبياء، يعني اصطفيتك لمثل هذا الأمر من بين الأنبياء؟
الحق أنّ هذه الآية ليست بصدد إثبات مثل هذا الأمر، بل إن هدف الآية ـ بقرينة ذكر الرسالات التي كانت لجميع الأنبياء ـ هو بيان امتيازين كبيرين
[214]
لموسى على الناس: أحدهما تلقي رسالات الله وتحمّلها، والآخر التكلّم مع الله، وكلا هذين الأمرين من شأنهما تقوية مقام قيادته بين أمته.
ثمّ أضاف تعالى واصفاً محتويات الألواح التي أنزلها على موسى(عليه السلام) بقوله: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء).
ثمّ أمره بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر مأخذ الجد، ويحرص عليها بقوة (فخذها بقوّة).
وأن يأمر قومه أيضاً بأن يختاروا من هذه التعاليم أحسنها (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها).
كما يحذرهم بأن مخالفة هذه الأوامر والتعاليم والفرار من المسؤوليات والوظائف تستتبع نتائج مؤلمة، وأن عاقبتها هي جهنم وسوف يرى الفاسقون مكانهم (سأوريكم دار الفاسقين).
* * *
بحوث
ثمّ إن ها هنا نقاط عديدة ينبغي التوقف عندها والإلتفات إليها:
1 ـ نزول الألواح على موسى
إنّ ظاهر الآية الحاضرة يفيد أن الله تعالى أنزل ألواحاً على موسى(عليه السلام) قد كتب فيها شرائع التوراة وقوانينها، لا أنّه كانت في يدي موسى(عليه السلام) ألواح ثمّ انتقشت فيها هذه التعاليم بأمر الله.
ولكن ماذا كانت تلك الألواح، ومن أي مادة؟ إنّ القرآن لم يتعرض لذكر هذا الأمر، وإنما أشار إليها بصورة الإِجمال وبلفظة "الألواح" فقط، وهذه الكلمة جمع "لوح"، وهي مشتّقة من مادة "لاح يلوح" بمعنى الظهور والسطوع، وحيث
[215]
أنّ المواضيع تتّضح وتظهر بكتابتها على صفحة، تسمى الصفحة لوحا(1).
ولكن ثمّة احتمالات مختلفة في الرّوايات وأقوال المفسّرين حول كيفية وجنس هذه الألواح، وحيث إنّها ليست قطعية أعرضنا عن ذكرها والتعرض لها.
2 ـ كيف كلّم الله موسى؟
يستفاد من الآيات القرآنية المتنوعة أنّ الله تعالى كلّم موسى(عليه السلام)، وكان تكليم الله لموسى عن طريق خلق أمواج صوتية في الفضاء أو في الأجسام، وربّما انبعثت هذه الأمواج الصوتية من خلال "شجرة الوادي الأيمن" وربّما من "جبل طور" وتبلغ مسمع موسى فما ذهب اليه البعض من أن هذه الآيات تدلّ على جسمانية الله تعالى جموداً على الألفاظ تصوُّر خاطىء بعيد عن الصواب.
على أنّه لا شك في أن ذلك التكلُّم كان من جانب الله تعالى بحيث أن موسى(عليه السلام) كان لا يشك عند سماعه له في أنّه من جانب الله، وكان هذا العلم حاصلا لموسى، إمّا عن طريق الوحي والإِلهام أو من قرائن أُخرى.
3 ـ عدم وجوب جميع تعاليم الألواح
يستفاد من عبارة (من كل شيء موعظة) أنّه لم تكن جميع المواعظ والمسائل موجودة في ألواح موسى(عليه السلام) لأنّ الله يقول: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة) وهذا لأجل أن دين موسى(عليه السلام) لم يكن آخر دين، ولم يكن موسى(عليه السلام) خاتم الإنبياء، ومن المسلّم أن الأحكام الإلهية التي نزلت كانت في حدود ما يحتاجه الناس في ذلك الزمان، ولكن عندما وصلت البشرية إلى آخر مرحلة حضارية للشرايع السماوية نزل آخر دستور إلهي يشمل جميع حاجات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير التبيان، المجلد الرّابع، الصفحة 539.
[216]
الناس المادية والمعنوية.
وتتّضح من هذا أيضاً علة تفضيل مقام علي(عليه السلام) على مقام موسى(عليه السلام) في بعض الرّوايات(1)، وهي أن علياً(عليه السلام) كان عارفاً بجميع القرآن، الذي فيه تبيان كل شيء (نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء) في حين أنّ التوراة لم يرد فيها إلاّ بعض المسائل.
4 ـ هل في الألواح تعاليم حسنة وأُخرى غير حسنة؟
إنّ ما نقرؤه في الآية (وامر قومك يأخذوا بأحسنها) لا يعني أنّه كانت في ألواح موسى تعاليم "حسنة" وأُخرى "سيئة" وأنّهم كانوا مكلَّفين بأن يأخذوا بالحسنة ويتركوا السيئة، أو كان فيها الحسن والأحسن، وكانوا مكلّفين بالأخذ بالأحسن فقط، بل ربّما تأتي كلمة "أفعل التفضيل" بمعنى الصفة المشبهة، والآية المبحوثة من هذا القبيل ظاهراً، يعني أن "الأحسنْ" هنا بمعنى "الحسن" وهذا إشارة إلى أن جميع تلك التعاليم كانت حسنة وجيدة.
ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في الآية الحاضرة ـ أيضاً ـ وهو أن الأحسن بمعنى أفعل التفضيل، وهو إشارة إلى أنّه كان بين تلك التعاليم أُمور مباحة (مثل القصاص) وأُمور أُخرى وصفت بأنّها أحسن منها (مثل العفو) يعني: قل لقومك ومن اتبعك ليختاروا ما هو أحسن ما استطاعوا، وللمثال يرجحوا العفو على القصاص (إلاّ في موارد خاصّة).(2)
5 ـ في مجال قوله: (سأوريكم دار الفاسقين) الظاهر أن المقصود منها هو جهنم، وهي مستقرّ كل أُولئك الذين يخرجون من طاعة الله، ولا يقومون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ للوقوف على هذه الرّوايات يراجع تفسير نورالثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 68.
2 ـ ويحتمل أيضاً أن الضمير في "أحسنها" يرجع إلى "القوة" أو "الأخذ بقوة" وهو إشارة إلى أن عليهم أن يأخذوا بها بأفضل أنواع الجدية والقوة والحرص.
[217]
بوظائفهم الإلهية.
ثمّ إنّ بعض المفسّرين احتمل أيضاً أن يكون المقصود هو أنّكم إذا خالفتم هذه التعاليم فإنكم سوف تصابون بنفس المصير الذي أصيب به قوم فرعون والفسقة الآخرون، وتتبدل أرضكم إلى دار الفاسقين(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير المنار المجلد التاسع الصفحة 193.
[218]
الآيتان
سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـتِى الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَة لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَ إِن يَرَوْا سَبيلَ الْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِأيَـتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَـفِلينَ 146 وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَـتِنَا وَلِقَآءِ الاْخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَـلُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 147
التّفسير
مصير المتكبرين:
البحث في هاتين الآيتين هو في الحقيقة نوع من عملية استنتاج من الآيات الماضية عن مصير فرعون وملئَه والعصاة من بني إسرائيل، فقد بيّن الله في هذه الآيات الحقيقة التالية وهي: إذا كان الفراعنة أو متمرّدو بني إسرائيل لم يخضعوا للحق مع مشاهدة كل تلك المعاجز والبينات، وسماع كل تلكم الحجج والآيات الإلهية، فذلك بسبب أنّنا نصرف المتكبرين والمعاندين للحق ـ بسبب أعمالهم ـ عن قبول الحق.
[219]
وبعبارة أُخرى: إنّ الإصرار على تكذيب الآيات الإِلهية قد ترك في نفوسهم وأرواحهم أثراً عجيباً، بحيث خلق منهم أفراداً متصلبين منغلقين دون الحق، لا يستطيع نور الهدى من النفوذ إلى قلوبهم.
ولهذا يقول أوّلا: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحقّ).
ومن هنا يتّضح أنّ الآية الحاضرة لا تنافي أبداً الأدلة العقلية حتى يقال بتأويلها كما فعل كثير من المفسّرين ـ إنّها سنة إِلهية أن يسلب الله من المعاندين الألدّاء توفيق الهداية بكل أشكاله وأنواعه فهذه هي خاصية أعمالهم القبيحة أنفسهم، ونظراً لإنتساب جميع الأسباب إلى الله الذي هو علّة العلل ومسبب الأسباب في المآل نسبت إليه.
وهذا الموضوع لا هو موجب للجبر، ولا مستلزم لأي محذور آخر، حتى نَعمد إلى توجيه الآية بشكل من الأشكال.
هذا، ولابدّ من الإلتفات ـ ضمنياً ـ إلى أنّ ذكر عبارة (بغير الحق) بعد لفظة: (التّكبر) إنّما هو لأجل التأكيد، لأنّ التكبر والشعور بالإستعلاء على الآخرين وإحتقار عباد الله يكون دائماً بغير حق، وهذا التعبير يشبه الآيه (61) من سورة البقرة، عندما يقول سبحانه: (ويقتلون النّبيين بغير الحق) فقيد بغير الحق هنا قيد توضيحي، وتوكيدي لأنّ قتل الأنبياء هو دائماً بغير حق.
خاصّة أنّها أُردِفَت بكلمة "في الأرض" الذي يأتي بمعنى التكبر والطغيان فوق الأرض، ولا شك أنّ مثل هذا العمل يكون دائماً بغير حق.
ثمّ أشار تعالى إلى ثلاثة أقسام من صفات هذا الفريق "المتكبر المتعنت" وكيفية سلب توفيق قبول الحق عنهم.
الأُولى قوله تعالى: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) إنّهم لا يؤمنون حتى ولو رأوا جميع المعاجز والآيات والثّانية، (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه
[220]
سبيلا)والثّالثة إنّهم على العكس (وإن يروا سبيل الغي يتّخذوه سبيلا).
بعد ذكر هذه الصفات الثلاث الحاكية برمتها عن تصلب هذا الفريق تجاه الحق، أشار إلى عللها وأسبابها، فقال: (ذلك بأنّهم كذّبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين).
ولا شك أنّ التكذيب لآيات الله مرّة ـ أو بضع مرات ـ لا يستوجب مثل هذه العاقبة، فباب التوبة مفتوح في وجه مثل هذا الإنسان، وإنّما الإصرار في هذا الطريق هو الذي يوصل الإنسان إلى نقطة لا يعود معها يميّز بين الحسن والقبيح، والمستقيم والمعوج، أي يسلب القدرة على التمييز بين "الرشد" و"الغي".
ثمّ تبيّنُ الآيةُ اللاحقةُ عقوبةَ مثل هؤلاء الأشخاص وتقول: (والذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم).
و "الحبط" يعني بطلان العمل وفقدانه للأثر والخاصيه، يعني أنّ مثل هؤلاء الأفراد حتى إذا عملوا خيراً فإنّ عملهم لن يعود عليهم بنتيجة (وللمزيد من التوضيح حول هذا الموضوع راجع ما كتبناه عند تفسير الآية 217 من سورة البقرة).
وفي ختام الآية أضاف بأن هذا المصير ليس من باب الإنتقام منهم، إنما هو نتيجة أعمالهم هم، بل هو عين أعمالهم ذاتها وقد تجسمت أمامهم (هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون)؟!
إنّ هذه الآية نموذج آخر من الآيات القرآنية الدالة على تجسّم الأعمال، وحضور أعمال الإنسان خيرها وشرها يوم القيامة.
* * *
[221]
الآيتان
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَـلِمينَ 148 وَلَمَّا سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـسِرِينَ149
التّفسير
اليهود وعبادتهم للعجل:
في هذه الآيات يقصّ القرآن الكريم إحدى الحوادث المؤسفة، وفي نفس الوقت العجيبة التي وقعت في بني إسرائيل بعد ذهاب موسى(عليه السلام) إلى ميقات ربّه، وهي قصّة عبادتهم للعجل التي تمّت على يد شخص يدعى "السامري" مستعيناً بحلي بني إسرائيل وما كان عندهم من آلات الزّينة.
إنّ هذه القصّة مهمّة جدّاً بحيث إنّ الله تعالى أشار إليها في أربع سور، في سورة البقرة الآية (51) و (54) و (92) و (93)، وفي سورة النساء الآية (153)، والأعراف الآيات المبحوثة هنا، وفي سورة طه الآية (88) فما بعد.
على أنَّ هذه الحادثة مثل بقية الظواهر الإِجتماعية لم تكن لتحدث من دون
[222]
مقدمة وأرضيَّة، فبنوا إسرائيل من جهة قضوا سنين مديدة في مصر وشاهدوا كيف يعبد المصريون الأبقار أو العجول. ومن جانب آخر عندما عبروا النيل شاهدوا في الضفة الأُخرى مشهداً من الوثنية، حيث وجدوا قوماً يعبدون البقر، وكما مرّ عليك في الآيات السابقة طلبوا من موسى(عليه السلام) صنماً كتلك الأصنام، ولكن موسى(عليه السلام)وبّخهم وردّهم، ولامهم بشدّة.
وثالث، تمديد مدّة ميقات موسى(عليه السلام) من ثلاثين إلى أربعين، الذي تسبب في أن تشيع في بني إسرائيل شائعة وفاة موسى(عليه السلام) بواسطة بعض المنافقين، كما جاء في بعض التفاسير.
والأمر الرابع، جهل كثير من بني إسرائيل بمهارة السامريّ في تنفيذ خِطته المشؤومة، كل هذه الأُمور ساعدت على أن تُقبل أكثرية بني إسرائيل في مدّة قصيرة على الوثنية، ويلتفوا حول العجل الذي أوجده لهم السامريّ للعبادة.
وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا: إنّ قوم موسى(عليه السلام) بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا، وكان مجرّد تمثال لا روح فيه، ولكنّه كان له صوت كصوتِ البقر، واختاروه معبوداً لهم: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسداً له خوار).
ومع أنّ هذا العمل (أي صنع العجل من الحلي) صدر من السامريّ (كما تشهد بذلك آيات سورة طه) إلاّ أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيراً منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده، وبذلك كانوا شركاء في جريمته، في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم.
وظاهر هذه الآية وإن كان يفيد ـ في بدء النظر ـ أنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل، إلاّ أنّه بالتوجه إلى الآية (159) من هذه السورة، التي تقول: (ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة هنا ليس كلّهم، بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل، وذلك بشهادة الآيات
[223]
القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك.
كيف كان للعجل الذهبي خوار؟
و"الخوار" هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل، وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي، كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر.
ويقول آخرون: كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمَع منه صوتٌ على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعاً بِهيئة هندسية خاصّة.
أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئاً من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائناً حياً، وأخذ يخور خواراً طبيعياً فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم، كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه.
وكلمة "جسداً" شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيواناً حياً، لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح(1).
وبغض النظر عن جميع هذه الأُمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجلَ المنافق (مثل السامريّ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يُشبه معجزة النّبي موسى(عليه السلام)، ويحيي جسماً ميتاً، ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتماً ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده.
أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع الآيات (8) من سورة الأنبياء، و (34) من سورة ص.
[224]
وكان من الممكن أن يكون وسيلة لإختبار الأشخاص لا شيء آخر.
والنقطة الأُخرى التي يجب الإِنتباه إليها، هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسى(عليه السلام) قد عانوا سنين عديدة من الحرمان، مضافاً إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح المادية ـ كما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضر ـ ويولون الحليّ والذهب احتراماً خاصّاً، لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه إهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة.
أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة؟ فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإِقامة أحد أعيادهن، ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون، فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل(1).
ثمّ يقول القرآن الكريم معاتباً وموبّخاً: ألم ير بنوإسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء، فكيف يعبدونه؟ (ألم يرو أنّه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا).
يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرف ـ على الأقل ـ الحسن والقبيح، وتكون له القدرة على هداية أتباعه، ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل، ويعرّفهم على طريقة العبادة.
وأساساً كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئاً ميتاً صنعه وسوّاه بيده، حتى لو استطاع ـ افتراضاً ـ أن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده، لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل.
إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم، لهذا يقول في ختام الآية: (اتخذوه وكانوا ظالمين).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير مجمع البيان، ذيل الآية المبحوثة هنا.
[225]
بيد أنّه برجوع موسى(عليه السلام) إليهم، واتضاح الأمر عرف بنو إسرائيل خطأهم، وندموا على فعلهم، وطلبوا من الله أن يغفر لهم، وقالوا: إذا لم يرحمنا الله ولم يغفر لنا فإنّنا لا شك خاسرون (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنّه قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربُّنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين).
وجملة (سقط في أيديهم) أي عندما عثروا على الحقيقة، أو عندما وقعت نتيجة عملهم المشؤومة بأيديهم، أو عندما سقطت كل الحيل من أيديهم ولم يبق بأيديهم شيء في الأدب العربي كناية عن الندامة، لأنّه عندما يقف الإِنسان على الحقائق، ويطلع عليها، أو يصل إلى نتائج غير مرغوب فيها، أو تغلق في وجهه أبواب الحيلة، فإنّه يندم بطبيعة الحال، ولهذا يكون الندم من لوازم مفهوم هذه الجملة.
وعلى كل حال، فقد ندم بنو إسرائيل من عملهم، ولكن الأمر لم ينته إلى هذا الحدّ، كما نقرأ في الآيات اللاحقة.
* * *
[226]
الآيتان
وَلمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَـنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الاَْلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِليْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاَْعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ150 قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلاَِخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّحِمينَ151
التّفسير
ردة فعل شديدة تجاه عبادة العجل:
في هاتين الآيتين بيّن تعالى بالتفصيل ما جرى بين موسى(عليه السلام) وبين عبدة العجل عند عودته من ميقاته المشار اليه في الآية السابقة. فهاتان الآيتان تعكسان ردة فعل موسى(عليه السلام) الشديدة التي أدت إلى يقظة هذه الجماعة.
يقول في البدء: ولما عاد موسى(عليه السلام) إلى قومه غضبان ممّا صنع قومه من عبادة العجل، قال لهم: ضيعتم ديني وأسأتم الخلافة (ولمّا رجع موسى إلى قومه
[227]
غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي)(1).
إنّ هذه الآية تفيد بوضوح أن موسى عند رجوعه إلى قومه من الميقات وقبل أن يلتقي ببني إسرائيل كان غضبان أسفاً، وهذا لأجل أن الله تعالى كان قد أخبر موسى(عليه السلام) بأنّه اختبر قومه من بعده وقد أضلّهم السامريّ (قال فإنّا قد فتنا قومك من بعدك فَأضلّهم السامريّ )(2).
ثمّ إنّ موسى(عليه السلام) قال لهم: (أعجلتم أمر ربّكم).
للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الجملة، وقد ذكروا احتمالات عديدة مختلفة، إلاّ أن ظاهر الآيات يفيد أن المراد هو أنّكم تعجلتم في الحكم بالنسبة إلى أمر الله تعالى في قضية تمديد مدّة الميقات من ثلاثين إلى أربعين، فاعتبرتم عدم مجيئي في المدة المقررة ـ أوّلا ـ دليلا على موتي، في حين كان يتعين عليكم أن تتريثوا وتنتظروا قليلا ريثما تمرّ أيّام ثمّ تتّضح الحقيقة.
وفي هذا الوقت بالذات، أي عندما واجه موسى(عليه السلام) هذه الأزمة الخطيرة من حياة بني إسرائيل، وكان الغضب الشديد يسر بل كل كيانه، ويثقل روحه حزن عميق، وقلق شديد على مستقبل بني إسرائيل، لأنّ التخريب والإفساد أمر سهل، وربّما استطاع شخص واحد تخريب كيان عظيم ولكن الإِصلاح والتعمير أمر صعب وعسير جدّاً. خاصّة أنّه إذا سرت في شعب جاهل متعنت نَغمة مخالفة شاذة، وافقت هوى ورغبة، فإنّ محوها لا شك لن يكون أمراً ممكناً وسهلا.
فهنا لا بدّ أن يظهر موسى(عليه السلام) غضبه الشديد ويقوم بالحدّ الأعلى من ردّ الفعل والسخط، كي يوقظ الأفكار المخدَّرة لدى بني إسرائيل، ويوجد انقلاباً في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الأسف" كما يقول الراغب في "المفردات" بمعنى الحزن المقرون بالغضب، وهذه الكلمة قد تستعمل في أحد المعنيين أيضاً. وتعني في الأصل أن ينزعج الإنسان من شيء بشدة، ومن الطبيعي أن هذا الإنزعاج إذا كان بسبب من هو دونه ظهر مقروناً بالغضب، وبردة فعل غاضبة، وإذا كان ممن هو فوقه ممن لا يستطيع مقاومته ظهر من صورة الحزن المجرّد، وقد نقل عن ابن عباس أيضاً أن للحزن والغضب أصل واحد وإن اختلفا لفظاً.
2 ـ سورة طه، 85.
[228]
ذلك المجتمع الذي انحرف عن الحق، إذ العودة إلى الحق والصواب عسيرة في غير هذه الصورة.
إنّ القرآن يستعرض ردّة فعل موسى الشديدة في قبال ذلك المشهد وفي تلك الأزمة، إذ يقول: إنّ موسى ألقى ألواح التوراة التي كانت بيده، وعمد إلى أخيه هارون وأخذ برأسه ولحيته وجرهما إلى ناحيته ساخطاً غاضباً.
وكما يستفاد من آيات قرآنية أُخرى، وبخاصّة في سورة طه، أنّه علاوة على ذلك لام هارون بشدّة، وصاح به، لماذا قصّرتَ في المحافظة على عقائد بني إسرائيل وخالفت أمري(1).
وفي الحقيقة كان هذا الموقف يعكس ـ من جانب ـ حالة موسى(عليه السلام) النفسية، وانزعاجه الشديد تجاه وثنية بني إسرائيل وانحرافهم، ومن جانب آخر كان ذلك وسيلة مؤثرة لهزّ عقول بني إسرائيل الغافية، والفاتهم إلى بشاعة عملهم.
وبناء على هذا إذا كان إلقاء ألواح التوراة في هذا الموقف قبيحاً ـ فرضاً ـ وكان الهجوم على أخيه لا يبدو كونه عملا صحيحاً، ولكن مع ملاحظة الحقيقة التالية، وهي أنّه من دون إظهار هذا الموقف الإِنزعاجي الشديد لم يكن من الممكن إلفات نظر بني إسرائيل إلى بشاعة خطئهم... ولكان من الممكن أن تبقى رواسب الوثنية في أعماق نفوسهم وأفكارهم ... إنّ هذا العمل لم يكن فقط غير مذموم فحسب، بل كان يعد عملا واجباً وضرورياً.
ومن هنا يتّضح أنّنا نحتاج أبداً إلى التبريرات والتوجيهات التي ذهب إليها بعض المفسّرين، للتوفيق بين عمل موسى(عليه السلام) هذا وبين مقام العصمة التي يتحلى بها الأنبياء، لأنّه يمكن أن يقال هنا: إنّ موسى(عليه السلام) انزعج في هذه اللحظة من تأريخ بني إسرائيل انزعاجاً شديداً لم يسبق له مثيل، لأنّه وجد نفسه أمام أسوأ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة طه: 92 ـ 93.
[229]
المشاهد ألا وهو الإنحراف عن التوحيد إلى عبادة العجل، وكان يرى جميع آثارها وأخطارها المتوقعة.
وعلى هذا فإنّ إلقاء الألواح ومؤاخذة أخيه بشدّة في مثل هذه اللحظة مسألة طبيعية تماماً.
إنّ ردة الفعل الشديدة هذه وإظهار الغضب هذا، كان له أثر تربوي بالغ في بني إسرائيل، فقد قلب المشهد رأساً على عقبِ في حين أنّ موسى لو كان يريد أن ينصحهم بالكلمات اللينة والمواعظ الهادئة، لكان قبولهم لكلامه ونصحه أقلّ بكثير.
ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر أنّ هارون قال ـ وهو يحاول استعطاف موسى وإثبات برائته في هذه المسألة ـ : يا ابن أمّ هذه الجماعة الجاهلة جعلوني ضعيفاً إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونني، فإذن أنا بريء، فلا تفعل بي ما سيكون موجباً لشماتة الأعداء بي ولا تجعلني في صف هؤلاء الظالمين (قال ابنَ أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين).
إن التعبير بـ : "ابن أمّ" في الآية الحاضرة أو "يا ابن أمّ" (كما في الآية 94 من سورة طه) مع أن موسى وهارون كانا من أب وأم واحدة، إنّما هو لأجل تحريك مشاعر الرحمة والعطف لدى موسى(عليه السلام) في هذه الحالة الساخنة.
وفي المآل تركت هذه القصّة أثرها، وسرعان ما التفت بنو إسرائيل إلى قبح أعمالهم، فاستغفروا الله وطلبوا العفو منه.
لقد هدأ غضب موسى(عليه السلام) بعض الشيء، وتوجه إلى الله (قال ربّ اغفر لي ولأخي وادخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين).
إنّ طلب موسى(عليه السلام) العفو والمغفرة من الله تعالى لنفسه ولأخيه، لم يكن لذنب اقترفاه، بل كان نوعاً من الخضوع لله، والعودة إليه، وإظهار النفرة من أعمال
[230]
الوثنيين القبيحة، وكذا لإعطاء درس عملي للجميع حتى يفكروا ويروا إذا كان موسى وأخوه ـ وهما لم يقترفا إنحرافاً ـ يطلبان من الله العفو والمغفرة هكذا، فالأجدر بالآخرين أن ينتبهوا ويحاسبوا أنفسهم، ويتوجهوا إلى الله ويسألوه العفو والمغفرة لذنوبهم. وقد فعل بنو إسرائيل هذا فعلا ـ كما تفيد الآيتان السابقتان.
مقاربة بين تواريخ القرآن والتوراة الحاضرة:
يستفاد من الآيات الحاضرة، وآيات سورة طه أن بني إسرائيل هم الذين صنعوا العجل لا هارون، وأنّ شخصاً خاصاً في بني إسرائيل يدعى السامريّ هو الذي أقدم على مثل هذا العمل، ولكن هارون ـ أخا موسى ووزيره ومساعده ـ لم يكن يتفرج على هذا الأمر بل عارضه، ولم يأل جهداً في هذا السبيل، حتى أنّهم كادوا أن يقتلوه لمعارضته لهم.
ولكن العجيب أنّ التوراة الفعلية تنسب صنع العجل والدعوة إلى عبادته إلى هارون خليفة موسى(عليه السلام) ووزيره وأخيه، إذ نقرأ في الفصل 32 من سفر الخروج من التوراة، مايلي:
"لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النّزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. لأنّ هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون: إنزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإِزميل وصنعه عجلا مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.
فلمّا نظر هارون بنى مذبحاً أمامه ونادى هارون وقال: غداً عيد للربّ (ثمّ بين مراسيم تقديم القرابين لهذا العمل".
[231]
ثّم تشرح التوراة قصّة رجوع موسى(عليه السلام) غاضباً إلى بني إسرائيل وإلقاء التوراة، ثمّ تقول:
"وقال موسى لهارون: ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبتَ عليه خطيّة عظيمةً؟!
فقال هارون: لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب إنّه في شرّ".
إنّ ما ذكر هو قِسمٌ من قصة عبادة بني إسرائيل للعجل برواية التوراة الحاضرة بالنص، في حين أن التوراة نفسها تشير في فصول أُخرى إلى سمّو مقام هارون وعلو منزلته، ومن ذلك التصريح بأنّ بعض معاجز موسى قد ظهرت وتحققت على يدي هارون (الإِصحاح الثامن من سفر الخروج من التوراة).
كما أنّها تصف هارون بأنّه نبي قد أعلن عن نبوته موسى (الإِصحاح الثامن من سفر الخروج أيضاً).
وعلى كل حال، تعترف التوراة لهارون ـ الذي كان خليفة لموسى(عليه السلام) وعارفاً بتعاليم شريعته ـ بمنزلة سامية ... ولكن انظروا إلى الخرافة التي تصف بأنّه كان صانع العجل، ومن عوامل حصول الوثنية في بني إسرائيل، وحتى أنّه اعتذر لموسى(عليه السلام) عليه بما هو أقبح من الذنب حيث قال: إنّهم كانوا يميلون إلى الشرّ أساساً وقد شجعتهم عليه.
في حين أنّ القرآن الكريم ينزه هذين القائدين من كل ألوان التلوّث بأدران الشرك والوثنية.
على أنّه ليس هذا المورد هو المورد الوحيد الذي ينزّه فيه القرآنُ الكريمُ ساحة الأنبياء والرسل، وتنسب التوراة الحاضرة أنواع الإهانات والخرافات إلى الأنبياء المطهرين. وفي اعتقادنا أنّ أحد الطرق لمعرفة أصالة القرآن وتحريف التوراة والإِنجيل الفعليين، هو هذه المقارنة بين القضايا التأريخية التي وردت في هذه الكتب حول الأنبياء والرسل.
* * *
[232]
الآيات
إِنَّ الَّذيِنَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَـوةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ 152 وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمُّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ 153 وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاَْلْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ 154
التّفسير
لقد فعلت ردة فعل موسى(عليه السلام) الشديدة فعلتها في المآل فقد ندم عَبَدة العجل الإسرائيليون ـ وهم أكثرية القوم ـ على فعلهم، وقد طرح هذا الندم في عدّة آيات قبل هذه الآية أيضاً (الآية 149) ومن أجل أن لا يُتصور أن مجرّد الندم من مثل هذه المعصية العظيمة يكفي للتوبة، يضيف القرآن الكريم قائلا: (إنّ الذين اتّخذوا العجل سينالهم عضبٌ من ربّهم وذلّة في الحياة الدنيا).
وهكذا لأجل أن لا يُتصور أنّ هذا القانون يختص بهم أضاف قائلا: (وكذلك نجزي المفترين).
إن التعبير بـ "اتّخذوا" إشارة إلى أنّ الوثن ليس له أية واقعية، ولكن انتخاب
[233]
عَبَدة الأوثان هو الذي أعطاه تلك الشخصية والقيمة الوهمية، ولهذا أتى بكلمة "العجل" وراء هذه الجملة فوراً، يعني أنّ ذلك العجل هو نفس ذلك العجل حتّى بعد انتخابه للعبادة.
أمّا أنّ هذا الغضب ما هو؟ وهذه الذّلة ما هي؟ فالقرآن لم يصرح بشيء عنهما في هذه الآية، وإنّما اكتفى بإشارة مجملة، ولكن يمكن أن تكون إشارة إلى الشقاء والمصائب والمشكلات التي ابتلوا بها بعد هذه الحادثة وقبل دخولهم الارض المقدسة.
أو أنّه إشارة إلى مهمّة قتل بعضهم بعضاً العجيبة التي كُلّفوا بها كجزاء وعقوبة لمثل ذلك الذنب العظيم.
وهنا قد يطرح هذا السؤال، وهو أنّ من المرتكزات الفكرية هو أنّ حقيقة التوبة تتحقق بالندامة، فكيف لم يشمل العفو الإلهي بني إسرائيل مع أنّهم ندموا على فعلهم؟
والجواب هو أنّه ليس لدينا أي دليل على أنّ مجرّد الندامة لوحدها تنفع في جميع الأحوال والمواضع. صحيح أنّ الندامة هي أحد أركان التوبة، ولكنّها ليست كل شيء.
إنّ معصية عبادة الأوثان السجود للعجل في ذلك النطاق الواسع وفي تلك المدّة القصيرة، وبالنسبة إلى ذلك الشعب الذي شاهد بأُم عينيه كل تلكم المعاجز والآيات، لم تكن معصية يمكن التغاضي عنها بمثل هذه السهولة، وكفاية يقول مرتكبها: "أستغفر الله" وينتهي كلُّ شيء.
بل لابدّ أن يرى هذا الشعب غضب الله ويذوق طعم المذلة في هذه الحياة، ويساط الذين افتروا على الله الكذب بسوط البلاء حتى لا يفكروا مرّة أُخرى في ارتكاب مثل هذا الذنب العظيم.
وفي الآية اللاحقة يكمّل القرآن الكريم هذا الموضوع ويقول في صورة
[234]
قانون عام: (والذين عملوا السيئات ثمّ تابوا من بعدها وآمنوا إن ربّك من بعدها لغفور رحيم) فالذين يتوبون من بعد السيئة وتتوفر كل شروط التوبة لديهم يغفر الله لهم ويعفو عنهم.
جواب على سؤالين:
1 ـ هل الآيتان الحاضرتان جملة معترضة وقعت وسط قصّة بني إسرائيل كتذكير لِرسول الله والمسلمين؟ أو أنّه خطاب الله لموسى(عليه السلام) بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل؟
ذهب بعض المفسّرين إلى الإحتمال الأوّل، وارتضى بعضٌ آخر الإحتمال الثّاني.
والذين ارتضوا الإحتمال الأوّل استدلوا بجملة (إنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم) لأنّ الجملة في صورة خطاب إلى الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
والذين ارتضوا الإِحتمال الثّاني استدلوا بجملة (سينالهم غضب) الذي جاء في صورة الفعل المضارع.
ولكن ظاهر الآيات يفيد أنّ هذه الجملة قسم من خطاب الله إلى موسى(عليه السلام)في تعقيب قصّة العجل، وفعل المضارع (سينالهم) شاهد جيد على هذا الموضوع، وليس هناك مايمنع أن يكون "إنّ ربّك" خطاب موجه إلى موسى(عليه السلام)(1).
2 ـ لماذا جاء الإِيمان في الآية الحاضرة بعد ذكر التوبة والحال أنّه ما لم يكن هناك إيمان لا تتحقق توبة؟
إنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح من أن قواعد الإِيمان تتزلزل عند إرتكاب المعصية، ويصيبها نوع من الوهن، إلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فيكون التقدير في الآية الحقيقة هكذا: "قال الله لموسى أن الذين ....".
[235]
الإِسلامية:
"لا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا يزني وهو مؤمن" أي أن الإِيمان يتضاءل ضوؤه، ويفقد أثره.
ولكن عندما تتحقق التوبة يعود الإِيمان إلى ضوئه وأثره الأوّل، وكأنّ الإِيمان تجدّد مرّة أُخرى.
ثمّ إنّ الآيات الحاضرة ركزت ـ فقط ـ على الذلة في الحياة الدنيا، ويستفاد من ذلك أن توبة بني إسرائيل من هذه المعصية بعد الندامة من قضية الوثنية وتذوق العقوبة في هذه الدنيا، قد قبلت بحيث أنّها أزالت عقوبتهم في الآخرة، وإن بقيت أعباء الذنوب الأُخرى التي لم يتوبوا منها في أعناقهم.
الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة تقول: ولما سكن غضب موسى(عليه السلام)، وحصل على النتيجة التي كان يتوخاها، أخذ الألواح من الأرض، تلك الألواح التي كانت تحتوي ـ من أوّلها إلى آخرها ـ على الرحمة والهداية، رحمة وهداية للذين يشعرون بالمسؤولية، والذين يخافون الله، ويَخضعون لأوامره وتعاليمه (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدىً ورحمة للذين هم لربّهم يرهبون).
* * *
[236]
الآيتان
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِّمِيقَـتِنَا فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـفِرينَ155وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الاَْخِرَةِ إنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُم بِأيَـتِنَا يُؤْمِنُونَ 156
التّفسير
مندوبو بني إسرائيل في الميقات:
في الآيتين الحاضرتين يعود القرآن الكريم مرّة أُخرى إلى قصة ذهاب موسى إلى الميقات "الطور" في صحبة جماعة، ويقص قسماً آخر من تلك الحادثة.
[237]
هذا وقد وقع بين المفسّرين كلام في أنّه هل كان لموسى(عليه السلام) ميقات واحد مع ربّه، أو أكثر من ميقات واحد؟ وقد أقام كل واحد منهم شواهد لإِثبات مقصوده من القرآن الكريم، ولكنّه كما قلنا سابقاً ـ في ذيل الآية (142) من هذه السورة ـ أنّه يظهر من مجموع القرائن في القرآن الكريم والرّوايات أن موسى(عليه السلام) كان له ميقات واحد، وذلك برفقة جماعة من بني إسرائيل.
وفي هذا الميقات بالذات أنزل الله الألواح على موسى وكلمه(عليه السلام)، وفي نفس هذا الميقات اقترح بنو إسرائيل على موسى(عليه السلام) أن يطلب من الله أن يريهم نفسه جهرة. في هذا الوقت نفسه نزلت الصاعقة أو حدث الزلزال وغُشي على موسى(عليه السلام)وسقط بنو إسرائيل على الأرض مغشياً عليهم، وقد ورد هذا الموضوع في حديث مرويّ عن علي بن إبراهيم في تفسيره.
إنّ كيفية وضع آيات هذه السورة وإن كان يحدث ـ في بادىء النظر ـ إشكالا، وهو: كيف أشارالله تعالى أولا إلى ميقات موسى(عليه السلام) ثمّ ذكر قصّة عبادة العجل، ثمّ عاد مرّة أُخرى إلى مسألة الميقات؟
هل هذا النظم وهذا الطراز من الكلام يناسب الفصاحة والبلاغة التي يتسم بها القرآن الكريم؟
ولكن مع الإِلتفات إلى أنّ القرآن ليس كتاب تأريخ يسجل الحوادث حسب تسلسلها، بل هو كتاب هداية وتربية وبناء إنساني، وفي مثل هذا الكتاب توجب أهمية الموضوع أن يترك متابعة حادثة مؤقتاً، ويعمد إلى بحث ضروري آخر، ثمّ يعود مرّة أُخرى لنفس الحادثة الأُولى.
بناء على هذا لا توجد أية ضرورة إلى أن نعتبر الآية المذكورة هنا إشارة إلى بقية قصة عبادة العجل، ونقول: إنّ موسى(عليه السلام) ذهب مرّة أُخرى بصحبة بني إسرائيل إلى جبل الطور بعد قضية عبادة العجل للإِعتذار إلى الله والتوبة، كما قال بعض المفسّرين، لأنّ هذا الإِحتمال بغض النظر عن جهات أُخرى يبدو بعيداً في
[238]
النظر من جهة أنّه آل إلى هلاك جماعة ذهبت إلى الميقات للإِعتذار والتوبة، فهل من الممكن أن يُهلِكَ الله تعالى جماعة أتوا إلى الميقات للإِعتذار إلى الله بالنيابه عن قومهم؟!
وعلى كل حال، فقد قال القرآن الكريم في الآيتين الحاضرتين أوّلا: (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا).
ولكن بني إسرائيل حيث إنّهم سمعوا كلام الله طلبوا من موسى(عليه السلام) أن يطلب من الله تعالى أن يريهم نفسه ـ لبني إسرائيل ـ جهرة، وفي هذا الوقت بالذات أخذهم زلزال عظيم وهلك الجماعة، ووقع موسى(عليه السلام) على الأرض مغشياً عليه، وعندما أفاق قال: ربّاه لو شئتَ لأهلكتَنا جميعاً، يعني بماذا أجيبُ قومي لو هلك هؤلاء (فلمّا أخذتهم الرجفة قال ربّ لو شئت أهلكتَهم من قبل وإياي).
ثمّ قال: ربّاه إنّ هذا المطلب التافة إنّما هو فعل جماعة من السفهاء، فلا تؤاخذنا بفعلهم: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا)؟
ولقد اعتبر بعض المفسّرين ـ وجود كلمة "الرجفة" في هذه الآية، وكلمة "الصاعقة" في الآية (55) من سورة البقرة المتعلقة بطلب رؤية الله جهرةً ـ دليلا على التفاوت بين الميقاتين. ولكن ـ كما قلنا سابقاً ـ إن الصاعقة في كثير من الأوقات ترافق الرجفة الشديدة، لأنّه على أثر التصادم بين الشحنات الكهربائية الموجبة في السحب والسالبة في الأرض تبرق شرارة عظيمة تهزّ الجبال والأراضي بشدّة، وربّما تحطمها وتبعثرها كما جاء في قصّة البلاء الذي نزل على قوم صالح العصاة، حيث يعبر فيه عنه بالصاعقة تارة (سورة فصلت الآية 17) وتارة بالرجفة (سورة الأعراف الآية 78).
وقد استدل بعض المفسّرين بعبارة (بِما فعل السفهاء منا) على أنّ العقوبة هنا كانت لأجل الفعل الذي صدر من بني إسرائيل (مثل عبادة العجل) لا لأجل الكلام الذي قالوه في مجال طلب رؤية الله جهرة.
[239]
والجواب على هذا الكلام واضحٌ أيضاً، لأنّ الكلام فعل من أفعال الإنسان أيضاً، وإطلاق "الفعل" على "الكلام" ليس أمراً جديداً وغير متعارف، مثلا عندما نقول: إنّ الله يثيبنا يوم القيامة على أعمالنا، فإنّ من المسلّم أنَّ لفظة أعمالنا تشمل كلماتنا أيضاً.
ثمّ إنّ موسى(عليه السلام) قال في عقيب هذا التضرع والطلب من الله: ربّاه إنّي أعلم أن هذا كان اختبارك وامتحانك، فأنت تضلّ من تشاء (وكان مستحِقاً لذلك) وتهدي من تشاء (وكان لائقاً لذلك) (إن هي إلاّ فتنتك) وإختبارك.
وهنا أيضاً تكلّم المفسّرون في معنى "الفتنة" كثيراً وذهبوا مذاهب شتى، ولكن بالنظر إلى أن لفظة "الفتنة" جاءت في القرآن الكريم بمعنى الإِختبار والإِمتحان مراراً كما في الآية (28) من سورة الأنفال: (إنّما أموالكم وأولادكم فتنة) وكذا في الآية (2) من سورة العنكبوت، والآية (126) من سورة التوبة) لا يكون مفهوم الآية الحاضرة غامضاً. لأنّه لا شك في أن بني إسرائيل واجهوا في هذا المشهد اختباراً شديداً، فأراهم الله تعالى أن هذا الطلب (طلب رؤية الله) طلب تافة ومستحيل الوقوع.
وفي ختام الآية يقول موسى(عليه السلام): رباه: (أنت وليُّنا فاغفر لنا وارْحمنا وأنت خير الغافرين).
من مجموع الآيات والرّوايات يستفاد أنّ الهالكين قد استعادوا حياتهم في المآل وعادوا برفقة موسى(عليه السلام) إلى بني إسرائيل، وقصُّوا عليهم كلّ ما سمعوه وشاهدوه، وأخذوا في إرشاد الغافلين الجاهلين وهدايتهم.
وفي الآية اللاحقة يشير إلى طلب موسى(عليه السلام) من ربّه وتكميل مسألة التوبة التي ذكرت في الآيات السابقة، يقول موسى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة).
[240]
و"الحسنة" تعني كلَ خير وجمال، وعلى هذا الأساس تشمل جميع النعم، وكذا التوفيق للعمل الصالح، والمغفرة، والجنّة، وكل نوع من أنواع السعادة، ولا دليل على حصرها بنوع خاص من هذه المواهب، كما ذهب إليه بعض المفسّرين.
ثمّ يبيّن القرآن الكريم دليل هذا الطلب هكذا: (إنا هُدنا إليك) أي عدنا إليك واعتذرنا عمّا فعله سفهاؤنا، حيث طلبوا ما لا يليق بمقام عظمتك.
و"هدنا" مشتقة من مادة "هَوْد" بمعنى العودة المقترنة بالرفق والهدوء، وكما قال بعض اللغويين: تشمل العودة من الخير إلى الشر أيضاً، وكذا من الشر إلى الخير(1)، ولكن جاءت في كثير من الموارد بمعنى التوبة والعودة إلى طاعة الله.
يقول الراغب في "المفردات" نقلا عن بعض: "يهود في الأصل من قولهم: هُدنا إليك، وكان اسم مدح، ثمّ صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لهم، وإن لم يكن فيه معنى المدح".
ولكن بما أن بعض اللغويين ذكر أن معنى هذه اللفظة هو الرجوع من الشر إلى الخير، أو من الخير إلى الشر، يمكن القول بأن هذه الكلمة ليست متضمنة للمدح بحال، بل هي حاكية عن الاضطراب الروحي والقلق الأخلاقي الذي كانت تعاني منه تلك الجماعة.
وقال بعض آخر من المفسّرين أنّ علّة تسمية هؤلاء القوم بـ "اليهود" لا يرتبط مطلقاً بهذه اللفظة، بل لفظة يهود متخذة أصلا من مادة "يهوذا" الذي هو إسم لأحد أبناء يعقوب(عليه السلام) ثمّ تبدلت الذال إلى الدال، وصارت يهودا، فيطلق على المنسوب إليه يهودي(2).
ولقد أجاب الله ـ في النهاية ـ دعاء موسى(عليه السلام) وقَبِلَ توبته، ولكن لا بصورة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير المنار، المجلد التاسع، الصفحة 221، وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأعرابي.
2 ـ تفسير أبوالفتوح، المجلد الخامس، الصفحة 300، في تفسير الآية الحاضرة.
[241]
مطلقة، بل جاء ذلك في ختام الآية مشروطاً بشروط، أذ يقول: (قال عذابي أصيب به من أشاء) وكان مستحِقاً.
وقد قلنا مراراً: إنّ "المشيئة" في هذه الموارد، بل في جميع الموارد، ليس بمعنى الإِرادة المطلقة ومن غير قيد أو شرط، بل هي إرادة مقترنة بالحكمة والصلاحيات واللياقات، وبهذا يتّضح الجواب على كل إشكال في هذا الصعيد.
ثمّ يضيف تعالى قائلا (ورحمتي وسعت كل شيء).
إنّ هذه الرحمة الواسعة يمكن أن تكون إشارة إلى النعم والمواهب الدنيوية التي تشمل الجميع ويستفيد منها الكل، براً وفاجراً، صالحاً وطالحاً.
كما يمكن أن تكون إشارة إلى أنواع الرحمة المادية والمعنوية، لأنّ النعم المعنوية لا تختَص بقوم دون قوم، وإن كان لها شرائط تتوفر لدى الجميع.
وبعبارة أُخرى: إن أبواب الرحمة الإِلهية مفتوحة للجميع، وإنّ الناس هم الذين عليهم أن يقرروا دخول هذه الأبواب فلو لم تتوفر شرائط الورود في بعض الناس فإنّ ذلك دليل على تقصيرهم هم، لا محدودية الرحمة الإلهية (والتّفسير الثّاني أنسب مع مفهوم الآية والجملة التي ستأتي).
ولكن حتى لا يظن أحد أنّ قبول التوبة، أو سعة الرحمة الإِلهية وشموليتها، غير مقيدة وغير مشروطة، ومن دون حساب أو كتاب، يضيف في ختام الآية: سرعان ما أكتب رحمتي للّذين تتوفر فيهم ثلاثة أمور: اتقوا، وآتوا الزكاة، وآمنوا بآياتي (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون).
و"التقوى" إشارة إلى إجتناب كل معصية وإثم.
و"الزكاة" مرادة هنا بمعناها الواسع، وحسب الحديث المعروف "لكل شيء زكاة" يشمل جميع الأعمال الصالحة والطيبة.
وجملة (والذين هم بآياتنا يؤمنون) تشمل الإِيمان بالمقدسات.
[242]
وبهذه الطريقة تتضمّن الآية برنامجاً كاملا وجامعاً.
وإذا فسرنا الزكاة بمعنى خاص (أي المعنى المتعارف والمصطلح للزكاة) كان ذكرها من بين سائر الوظائف الإِلهية، لأجل أهميتها في صعيد العدالة الإجتماعية.
وقد روي في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قام في الصلاة فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللّهم ارحمني ومحمّداً ولا ترحم معنا أحداً، فلمّا سلّم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال للأَعرابي: لقد تَحَجرْتَ واسعاً ،أي جعلت شيئاً واسعاً، أمراً ضيقاً محدوداً فالرحمة الإلهية لا تنحصر في أحد من الناس(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان في تفسير هذه الآية.
[243]
الآية
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الاُْمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِى التَّوْرَيهِ وَالاِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهـهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبـتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبـئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلَـلَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُولـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 157
التّفسير
اتبعوا هذا النّبي:
هذه الآية في الحقيقة تكمل الآية السابقة التي تحدثت عن صفات الذين تشملهم الرحمة الإِلهية الواسعة، أي من تتوفر فيهم الصفات الثلاث: التقوى، وأداء الزكاة، والإِيمان بآيات الله. وفي هذه الآية يذكر صفات أُخرى لهم من باب التوضيح، وهي اتّباع الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ الإِيمان بالله غير قابل للفصل عن الإِيمان بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واتباع دينه، وهكذا التقوى والزكاة لا يتمان ولا يكملان من دون اتباع القيادة.
[244]
لهذا يقول تعالى: (الذين يتّبعون الرسول).
ثمّ يبيّن ست صفات لهذا الرّسول مضافاً إلى مقام الرسالة:
1 ـ أنّه نبيّ الله (النّبي).
والنّبي يطلق على كل من يبيّن رسالة الله إلى الناس، ويوحى إليه وإن لم يكن مكلَّفاً بالدعوة والتبليغ، ولكن الرّسول مضافاً إلى كونه نبيّاً ـ مكلّف بالدعوة إلى دين الله، وتبليغه والإستقامة في هذا السبيل.
وعلى هذا يَكون مقام الرسالة أعلى من مقام النّبوة، وبناءً على هذا يكون معنى النّبوة مأخوذاً في مفهوم الرسالة أيضاً، ولكن حيث أنّ الآية بصدد توضيح وتفصيل خصوصيات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا ذكرهما على نحو الإستقلال، وفي الحقيقة إنّ ما أُخذ في مفهوم الرّسول مجملا، ذكر في الآية بصورة مستقلة من باب توضيح وتحليل صفاته.
2 ـ أنّه نبيّ أُمّي لم يتعلم القراءة والكتابة، وقد نهض من بين جماهير الناس من أرض مكّة أم القرى قاعدة التوحيد الأصلية: (الأُمي).
وحول مفهوم "الأميّ" المشتقة من مادة "أمّ" بمعنى الوالدة، أو من "الأُمّة" بمعنى الجماعة، دار كلام كثير بين المفسّرين، فبعض فسّره بأنّه لم يتعلم ولم يدرس، يعني أنّه باق على الحالة التي ولد بها من أُمّه أوّل يوم، ولم يتتلمذ على أحد، وبعض فسّره بمن نهض من بين جماهير الأُمّة، لا من بين طبقة الأعيان والمترفين والجبارين، وفسّرته جماعة ثالثة بأنّه ظهر من مكّة "أُم القرى" لأنّ هذه الكلمة مرادفة لـ "المكي".
والأحاديث الإِسلامية الواردة في مصادر مختلفة هي أيضاً تفسّر هذه الكلمة تارة بأنّه: لم يدرس وأُخرى: بأنّه مكّي(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ للإِطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 78 و 79، وتفسير روح المعاني، المجلد التّاسع، الصفحة 70، في تفسير الآية الحاضرة.
[245]
ولكن لا مانع أبداً من أن تكون كلمة "الأُمّي" إشارة إلى كل المفاهيم والمعاني الثلاثة، وقد قلنا مراراً: إنّه لا مانع من استعمال لفظة واحدة في عدة معان، ولهذا الموضوع شواهد كثيرة في الأدب العربي. (وسنبحث بتفصيل حول أميّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الفراغ من تفسير هذه الآية).
3 ـ ثمّ إنّ هذا النّبي هو (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل).
وفي صعيد وجود البشارات المختلفة في كتب العهدين (التوراة والإنجيل) حتى التوراة والإِنجيل المحرفين الحاضرين أيضاً، سيكون لنا بحث تفصيلي بعد الفراغ من تفسير هذه الآية.
4 ـ ومن سمات هذا النّبي أنّ دعوته تتطابق لنداء العقل مطابقة كاملة، فهو يدعو إلى كل الخيرات وينهي عن كل الشرور والممنوعات العقلية: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر).
5 ـ كما أنّ محتوى دعوته منسجم مع الفطرة الإِنسانية السليمة، فهو يحل ما ترغب فيه الطباع السليمة ويحرم ما تنفر منه (ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث).
6 ـ أنّه ليس كأدعياء النّبوة والرسالة الذين يهدفون إلى توثيق الناس بأغلال الإستعمار والإستثمار والإِستغلال، بل هو على العكس من ذلك، إنّه يرفع عنهم إصرهم والأغلال التي تكبّل عقولهم وأفكارهم وتثقل كاهلهم (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(1).
وحيث أنّ هذه الصفات الست بالاضافة إلى الصفة السابعة وهي مقام الرسالة تشكّل من حيث المجموع علامة واضحة ودليل قاطع على صدق دعواه،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الإصر" يعني في الأصل عقد الشيء وحبسه، ويطلق على كل عمل يمنع الإنسان من الفعالية والحركة، ويطلق على العهد والميثاق أو العقوبات، لفظ الإصر، لأنّ هذه الأُمور تحدّ من حركة الإنسان.
[246]
فيضيف القرآن الكريم: (فالذين آمنوا به وعزروه، ونصروه، واتّبعوا النّور الذي أنزل معه أُولئك هم المفلحون).
و "عزروه" المشتقّة من مادة "تعزير" تعني الحماية والنصرة المقترنة بالإِحترام والتبجيل، ويقول البعض إن هذه اللفظة تعني ـ في الأصل ـ المنع، فإذا كان المنع من العدوّ، كان مفهومه النصرة، وإذا كان المنع من الذنب كان مفهومه العقوبة والتنبيه، ولهذا يقال للعقوبات الخفيفة "تعزير".
والجدير بالإِنتباه استعمال كلمة (أُنزل معه) بدل "أُنزل إليه" في حين أننا نعلم أنّه لم يكن لشخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نزول من السماء، ولكن حيث أن النبوة والرسالة نزلا مع القرآن من جانب الله، لهذا عبر بـ "أنزل معه".
* * *
بحوث
وهنا لا بد من الوقوف عند نقاط هامة هي:
1 ـ خمسة أدلة على النّبوة في آية واحدة
لم ترد في آية من آيات القرآن أدلة عديدة على حقانية دعوة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كما جاء في هذه الآية ... فلو أننا أمعنا النظر بدقة في الصفات السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية لنبيه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لوجدنا أنّها تحتوي على سبعة أدلة واضحة لإِثبات نبوته:
الأوّل: أنّه "أمّي" لم يدرس، ولكنّه مع ذلك أتى بكتاب لم يغيّر مصير أهل الحجاز فقط، بل كان نقطة تحول هام في التأريخ البشري، حتى أنّ الذين لم يقبلوا بنبوته لم يشكوا في عظمة كتابه وتعاليمه.
فهل يتفق والحسابات الطبيعية أن يقوم بهذا العمل شخص نشأ في بيئة
[247]
جاهلية ولم يتتلمذ على أحد؟
الثّاني: أنّ دلائل نبوته قد وردت بتعابير مختلفة في الكتب السماوية السابقة على نحو توجد علماً لدى المرء بحقانيته.... فإنّ البشارات التي جاءت في تلك الكتب لا تنطبق إلاّ عليه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقط.
الثّالث: أن محتويات دعوته تنسجم انسجاماً كاملا مع العقل، لأنّه يدعو إلى المعروف، والنهي عن المنكر والقبائح، وهذا الموضوع يتّضح بجلاء بمطالعة تعاليمه.
الرّابع: أنّ محتويات دعوته منسجمة مع الطبع السليم والفطرة السويّة.
الخامس: لو لم يكن من جانب الله لكان عليه أن يقوم بما يضمن مصالحه الخاصّة، وفي هذه الصورة كان يتعين عليه أن لا يرفع الأغلال والسلاسل عن الناس، بل عليه أن يبقيهم في حالة الجهل والغفلة لاستغلالهم بنحو أفضل، في حين أنّنا نجده يحرر الناس من الأغلال الثقيلة.
أغلال الجهل والغفلة عن طريق الدعوة المستمرة إلى العلم والمعرفة.
أغلال الوثنية والخلافة عن طريق الدعوة إلى التوحيد.
أغلال التمييز بكل أنواعه، والحياة الطبقية بجميع أصنافها، عن طريق الدعوة إلى الأخوة الدينية والإِسلامية، والمساواة أمام القانون.
وهكذا سائر الأغلال الأُخرى.
إنّ كل واحد من هذه الدلائل لوحده دليل على حقانية دعوته، كما أنّ مجموعها دليل أوضح وأقوى.
2 ـ كيف كان النّبي أُميّاً؟
هناك احتمالات ثلاثة معروفة حول مفهوم "الأُمّي" كما قلنا سابقاً:
أوّلها: أن معناه: الذي لم يدرس.
[248]
الثّاني: أنّ معناه: المولود في أرض مكّة، والناهض منها.
الثّالث: أنّ معناه الذي قام من بين صفوف الجماهير.
ولكن الرأي الأشهر هو التّفسير الأوّل، وهو أكثر انسجاماً مع موارد استعمال هذه اللفظة، ويمكن أن تكون المعاني الثلاثة مرادة برمتها أيضاً، كما قلنا.
ثمّ إنّه لا نقاش بين المؤرخين بأنّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدرس، ولم يكتب شيئاً، وقد قال القرآن الكريم ـ أيضاً ـ في الآية (48) من سورة العنكبوت حول وضع النّبي قبل البعثة: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لإرتاب المبطلون).
وأساساً كان عدد العارفين بالكتابة والقراءة في المحيط الحجازي قليلا جدّاً، حيث كان الجهل هو الحالة السائدة على الناس بحيث أن هؤلاء العارفين بالكتابة والقراءة كانوا معروفين بأعيانهم وأشخاصهم، فقد كان عددهم في مكّة من الرجال لا يتجاوز (17) شخصاً، ومن النساء أمرأة واحدة(1).
من المسلّم أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لو كان قد تعلّم القراءة والكتابة ـ في مثل هذه البيئة ـ لدى أستاذ لشاع ذلك وصار أمراً معروفاً للجميع، وعلى فرض أنّنا لم نقبل بنبوته، ولكن كيف يمكنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينفي ـ في كتابه ـ بصراحة هذا الموضوع؟ ألا يعترض عليه الناس ويقولون: إن دراستك وتعلّمك للقراءة والكتابة أمر مسلّم معروف لنا، فكيف تنفي ذلك؟
إنّ هذه قرينة واضحة على أُميّة النّبي.
وعلى كل حال، فإنّ وجود هذه الصفة في النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان تأكيداً على نبوته حتى ينتفي أي احتمال في إرتباطه إلاّ بالله وبعالم ما وراء الطبيعة في صعيد دعوته.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فتوح البلدان، للبلاذري، ط مصر، الصفحة 459.
[249]
هذا بالنسبة إلى فترة ما قبل النّبوة، وأمّا بعد البعثة فلم ينقل أحد المورّخين أنّه تلقى القراءة أو الكتابة من أحد، وعلى هذا بقي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمُيّته حتى نهاية عمره.
ولكن من الخطأ الكبير أن تتصوّر أنّ عدم التعلّم عند أحد يعني عدم المعرفة بالكتابة والقراءة، والذين فسّروا "الأّمّية" بعدم المعرفة بالكتابة والقراءة كأنّهم لم يلتفتوا إلى هذا التفاوت.
ولا مانع أبداً من أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان عارفاً بالقراءة والكتابة بتعليم الله، ومن دون أن يتتلمذ على يد أحد من البشر، لأنّ مثل هذه المعرفة هي بلا شك من الكمالات الإِنسانية ، ومكملة لمقام النّبوة.
ويشهد بذلك ما ورد في الأحاديث المروية عن أهل البيت(عليهم السلام)(1) أن نص الرواية
ولكنّه لأجل أن لا يبقى أي مجال لأدنى تشكيك في دعوته لم يكن(صلى الله عليه وآله وسلم)يستفيد من هذه المقدرة.
وقول البعض: إنّ القدرة على الكتابة والقراءة لا تعدّ كمالا، فهما وسيلة للوصول إلى الكمالات العلميّة، وليسا بحدّ ذاتها علماً حقيقياً ولا كمالا واقعياً فإن جوابه كامن في نفسه، لأنّ العلم بطريق الكمال كمال أيضاً.
قد يقال: إنّه نفي في روايتين عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بصراحة تفسير "الأُمّي" بعدم القراءة والكتابة، بل بالمنسوب إلى "أم القرى" (مكّة).
ونقول في الردّ: إنّ إحدى هاتين الروايتين "مرفوعة" حسب اصطلاح علم الحديث فلا قيمة لها من حيث السند، والرواية الأُخرى منقولة عن "جعفر بن محمّد الصوفي" وهو مجهول.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان المجلد الخامس، الصفحة 373 ذيل آيات سورة الجمعة.
[250]
وأمّا ما تصوَّره البعض من أن الآية الثّانية من سورة الجمعة(يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) وآيات أُخرى دليل على أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يتلو القرآن على الناس من شيء مكتوب، فهو خطأ بالغ، لأنّ التلاوة تطلق على التلاوة من مكتوب على شيء، كما تطلق على القراءة حفظاً ومن ظهر القلب، واستعمال لفظة التلاوة في حق الذين يقرأون الأشعار أو الأدعية حفظاً ومن على ظهر القلب كثير.
من مجموع ما قلناه نستنتج:
1 ـ أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتلق القراءة والكتابة من أحد حتماً، وبهذا تكون إحدى صفاته أنّه لم يدرس عند أستاذ.
2 ـ أنّنا لا نملك أي دليل معتبر على أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ أو كتب شيئاً قبل النبوة، أو بعدها.
3 ـ إنّ هذا الموضوع لا يتنافى مع تعليم الله تعالى القراءة أو الكتابة لنبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم).
3 ـ البشارات بظهور النّبي في العهدين:
إنّ الشواهد التأريخية القطعية، وكذا محتويات كتب اليهود والنصارى المقدسة (التوراة والإِنجيل) تفيد أن هذه الكتب ليست هي الكتب السماوية التي نزلت على موسى وعيسى(عليهما السلام) وأن يد التحريف قد طالتهما، بل إنّ بعضها اندرس واندثر، وأن ما هو موجود الآن باسم الكتب المقدسة بينهم ما هي إلاّ خليط من نسائج الأفكار والأدمغة البشرية وشيء من التعاليم التي نزلت على موسى وعيسى(عليهما السلام) ممّا بقي في أيدي تلامذتهم.
وعلى هذا الأساس لا غرور ولا عجب إذا لم نقف على عبارات صريحة حول البشارة بظهور النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
[251]
ولكن مع هذا فإنّه يلحظ في ثنايا هذه الكتب المحرفة عبارات تتضمّن اشارات معتدّ بها حول ظهور هذا النّبي العظيم، وقد جمعها ثلّة من علمائنا في كتب ومؤلفات مستقلة، أو مقالات تتحدث في هذا المجال. وحيث أن ذكر كل تلك البشائر وما حولها من حديث وكلام ممّا يطول به المقام، فإنّنا نكتفي بذكر بعض منها على سبيل المثال لا الحصر.
1 ـ جاء في سفر التكوين الإصطلاح 17 العبارة 17 إلى 20: "وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك، فقال الله... وأمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه (أي دعاءك في حقه) ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جيداً. اثني عشر رئيساً يلد وأجعله أُمّة كبيرة".
2 ـ "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجيله حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب".
والجدير بالإِنتباه أن أحد معاني شيلون ـ حسب تصريح المسترهاكس في كتاب قاموس الكتاب المقدس ـ هو الإِرسال، وهو يوافق كلمة "رسول" أو "رسول الله".
3 ـ وفي إنجيل يوحنا الباب 15 العبارة رقم 16 جاء ما يلي: "وأمّا المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم".
4 ـ وكذا جاء في إنجيل يوحنا ذاته الإصطلاح 16 العبارة رقم7: "لكنّي أقول لكم الحق: إنّه خير لكم أن أنطلق. لأنّه إن لَم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك هو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم
[252]
من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية".(1)
والنقطة الجديرة بالإِهتمام أنّه جاءت الكلمة في إنجيل يوحنا باللغة الفارسية "المسلّي" ولكنّها في الإِنجيل العربي طبعة لندن (مطبعة وليام وطس عام 1857) جاء مكانها: "فارقليطا".
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كل النصوص المنقولة هنا مقتبسة من كتاب العهد القديم والجديد طباعة وإصدار دارالكتاب المقدس في العالم العربي عام 1979.
[253]
الآية
قُلْ يَـأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالاَْرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَـأَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيّ الاُْمِّيّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَـتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 158
التّفسير
دعوة النّبي العالميّة:
جاء في حديث عن الإِمام الحسن المجتبى(عليه السلام) قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا محمّد، أنت الذي تزعم أنّك رسول الله، وأنّك الذي يوحى إليك كما يوحى إلى موسى بن عمران؟ فسكت النّبي ساعة ثمّ قال: "نعم أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النّبيين، وإمام المتقين، ورسول ربّ العالمين." قالوا: إلى من، إلى العرب أم إلى العجم، أم إلينا؟ فأنزل الله هذه الآية التي صرّحت بأنّ رسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رسالة عالمية(1).
ولكن مع ذلك لا يمكن إنكار إرتباط هذه الآية بالآية السابقة المتعلقة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ عن المجالس حسب نقل تفسير الصافي، ج 1، في ذيل هذه الآية.
[254]
بصفات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والدعوة إلى اتباع دينه وشريعته.
وفي البداية يأمر الله تعالى رسول الله قائلا: (قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعاً).
إنّ هذه الآية مثل آيات كثيرة أُخرى من القرآن الكريم دليل واضح على عالمية دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الآية (28) من سورة "سبأ" أيضاً نقرأ: (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس).
وفي الآية (19) من سورة الأنعام أيضاً نقرأ: (وأوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) أي بلغه القرآن.
وفي مطلع سورة الفرقان نقرأ: (تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) فهو أُرسل إلى الناس كافة ليحذرهم من المسؤوليات.
هذه نماذج من الآيات التي تشهد بعالمية دعوة الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسوف نبحث حول هذه المسألة أيضاً في ذيل الآية (7) من سورة الشورى، وقد مر لنا في ذيل الآية (92) من سورة الأنعام ـ أيضاً ـ بحثٌ مبسوط نوعاً ما في هذا الصعيد.
ثمّ إنّه وصف الإله الذي يدعو إليه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاث صفات:
1 ـ (الذي له ملك السماوات والأرض) فله الحاكمية المطلقة.
2 ـ (لا إله إلاّ هو) فلا معبود يليق للعبادة سواه.
3 ـ (يحي ويميت) بيده نظام الحياة والموت.
وبهذه الطريقة تنفي هذه الآية أُلوهية غير خالق السماوات والأرض، وأُلُوهيّة كل صنم، وكذا تنفي التثليث المسيحي، كما وتؤكّد على رسالة النّبي العالمية وقدرة الله تعالى على أمر المعاد.
وفي الختام تدعو جميع أهل العالم إلى الإِيمان بالله وبرسوله الذي لم يتعلّم
[255]
القرآءة والكتابة والقائم من بين الناس (فآمنوا بالله ورسوله النّبي الأُمّي).
النّبي الذي لا يكتفي بدعوة الآخرين إلى هذه الحقائق فحسب، بل يؤمن هو في الدرجة الأُولى ـ بما يقول، يعني الإِيمان بالله وكلماته (الذي يؤمن بالله وكلماته).
إنّه لا يؤمن فقط بالآيات التي نزلت عليه، بل يؤمن بجميع الكتب الحقيقة للأنبياء السابقين.
إنّ إيمانه بدينه والذي يتجلى من خلال أعماله وتصرّفاته دليل واضح على حقانيته، لأن عمل الآمر بشيء يعكس مدى إيمانه بما يأمر به ويدعو إليه. وإيمانه بقوله أحد الأدلة على صدقه. إنّ تأريخ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برمّته يشهد بهذه الحقيقة وهي أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان أكثر من غيره إلتزاماً بالتعاليم التي جاء بها.
أجل، لابدّ لكم من اتّباع مثل هذا النّبي حتى تسطع أنوار الهدايه على قلوبكم، لتهتدوا إلى طريق السعادة (واتّبعوه لعلكم تهتدون).
وهذا إشارة إلى أنّه لا يكفي مجرّد الإِيمان، وإنما يفيد الإِيمان إذا إقترن بالإِتباع العمليّ.
والجدير بالإِلتفات إلى أن الآية الحاضرة نزلت في مكّة يوم كان المسلمون يشكلون أقلية صغيرة جدّاً بحيث إنّه قلّما كان هناك من يحتمل أن يسيطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على مكّة فضلا عن جزيرة العرب، أو قسم كبير من العالم.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الذين يتصورون أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ادعى في البداية تبليغ الرسالة لأهل مكّة فقط، وعندما إنتشر دينه وعلا أمره فكر في السيطرة على الحجاز، ثمّ فكر في البلاد الأُخرى، وراسل ملوك العالم وأمراءه وقادته، وأعلن عن رسالته العالمية. تجيب الآية الحاضرة التي نزلت في مكّة على كل تصوراتهم هذه، فهي تصرح في غير إبهام ولا غموض بأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) اعلن عن دعوته العالمية منذ البداية.
* * *
[256]
الآيتان
وَمِن قَومِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ159 وَقَطَّعْنَـهُمٌ اثْنَتىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُممَاً وَأَوْحَيْنَآ إِلى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَـهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةً عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَـمَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيّبـتِ مَا رَزَقْنَـكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 160
التّفسير
جانب من نعم الله على بني إسرائيل:
في الآيات الحاضرة إشارة إلى حقيقة رأينا نظيرها في القرآن الكريم، وهذه الحقيقة هي تحري القرآن للحق، واحترامه لمكانة الأقليات الدينية الصالحة، يعني أنّه لم يكن ليصف جميع بني إسرائيل بأسرهم بالفساد والإِفساد، وبأنّ هذا العرق القومي برمته ضالّ متمرد من دون إستثناء، بل اعترف بأن منهم أقلية صالحة غير موافقة على أعمال الأكثرية، وقد أولى القرآن الكريم اهتماماً خاصاً بهؤلاء فيقول: (ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون).
[257]
إنَّ هذه الآية قد تشير إلى فريق صغير لم يسلّموا للسامريّ ودعوته، وكانوا يدافعون عن دين موسى دائماً وأبداً، أو إلى الفرق والطوائف الصالحة الأُخرى التي جاءت بعد موسى(عليه السلام).
ولكن هذا المعنى يبدو غير منسجم مع ظاهر الآية، لأن "يهدون" و"يعدلون" قعل مضارع، وهو على الأقل يحكي عن زمان الحال، يعني عصر نزول القرآن، ويثبت وجود مثل هذا الفريق في ذلك الزمان، إلاّ أن نقدّر فعل "كان" فتكون الآية إشارة إلى الزمان الماضي، ونعلم أن التقدير من دون قرينة خلاف الظاهر.
وكذلك يمكن أن يكون ناظراً إلى الأقلية اليهودية الذين كانوا يعيشون في عصر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والذين اعتنقوا الإسلام تدريجاً وبعد مطالعة دعوة النّبي ومحتوى رسالته، وانضموا إلى صفوف المسلمين الصادقين. وهذا التّفسير ينسجم أكثر مع ظاهر الفعلين المضارعين المستعملين فيها.
وما جاء في بعض روايات الشيعة والسنة من أنّ هذه الآية إشارة إلى فريق صغير من بني إسرائيل يعيشون فيما وراء الصين، عيشة عدل وتقوى وتوحيد وعبودية الله تعالى فغير مقبول، لأنّه مضافاً إلى عدم موافقته لما نعلمه من جغرافيا العالم اليوم، ومضافاً إلى أن التواريخ الحاضرة الموجودة لا تؤيد هذا الموضوع، فإنّ الأحاديث المذكورة غير معتبرة من حيث السند، ولا يمكن أن يُعتمد عليها كأحاديث صحيحة حسب قواعد علم الرجال.
وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى عدّة أقسام من نعم الله على بني إسرائيل.
فيقول أوّلا: (وقطعناهم إثنتى عشرة أسباطاً أُمماً) وهذا التقطيع والتقسيم إنّما هو لأجل أن يسودهم نظام عادل، بعيد عن المصادمات الخشنة.
وواضح أنّه عندما يكون في شعب من الشعوب تقسيمات إدارية صحيحة
[258]
ومنظمة، ويخضع كل قسم من تلك الأقسام لقيادة قائد قدير، فإنّ إدارتهم ورعاية العدالة بينهم تكون أسهل، ولنفس هذا السبب عمدت جميع الدول إلى مثل هذا العمل وأخذت بهذه القاعدة.
و"أسباط" جمع سبط (بفتح السين وبكسرها) تعني في الأصل الإِنبساط في سهولة، ثمّ يطلق السبط والأسباط على الأولاد وبخاصّة الأحفاد لأنّهم امتداد العائلة.
والمراد من الأسباط ـ هنا ـ هو قبائل بني إسرائيل وفروعها، الذين كان كل واحد منها منشعباً ومنحدراً من أحد أولاد يعقوب(عليه السلام).
والنّعمة الأُخرى هي: أنّه عندما كان بنو إسرائيل متوجهين إلى بيت المقدس وأصابهم العطش الشديد الخطير في الصحراء، وطلبوا من موسى(عليه السلام) الماء، أوحي إليه أن اضرب بعصاك الحجر... ففعل فنبع الماء فشربوا ونجوا من الهلاك (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاء قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا).
وقد كانت الينابيع هذه مقسمة بين أسباط بني إسرائيل بحيث عرف كل سبط منهم نبعه الذي يشرب منه(قد علم كل أناس مشربهم).
ويستفاد من هذه الجملة أنّ هذه الينابيع الإِثنى عشر التي نبعت من تلك الصخرة العظيمة كانت معلّمة بعلامات ومتميز بعضها عن بعض بفوارق، بحيث كان يعرف كل فريق من فرق بني إسرائيل نبعه المختص به والمقرّر له، لا يقع بينهم أي خلاف ويسود النظم والإِنضباط في جماعتهم، ويتمّ الشرب بصورة أسهل وأفضل.
والنّعمة الثالثة هي: أن الله تعالى أرسل لهم ـ في تلك الصحارى الملتهبة حيث لا سقف ولا ظلال ـ سحباً ظلّلتهم (وظلّلنا عليهم الغمام).
والنّعمة الرّابعة إنزال المنّ والسلوى عليهم كغذائين لذيذين ومقويين
[259]
(وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى).
ثمّ إنّ المفسّرين أعطوا تفسيرات متنوعة لهذين الغذاءين "المنّ" و"السلوى" اللذين أنزلهما الله على بني إسرائيل في تلك الصحراء القاحلة (وقد ذكرنا هذه التفاسير عند دراسة الآية 57 من سورة البقرة) وقلنا بأنّه لا يبعد أنّ "المن" كان نوعاً من العسل الطبيعي الذي كان في بطون الجبال المجاورة، أو عصارات وإفرازات نَباتية كانت تظهر على أشجار كانت نابتة هنا وهناك في تلك الصحراء، و"السلوى" نوع من الطير الحلال اللحم شبيه بالحمام.
ثمّ يقول الله تعالى: وقلنا (كلوا من طيبات ما رزقناكم).
ولكنّهم أكلوا وكفروا النعمة ولم يشكروها وبذلك ظلموا في الحقيقة أنفسهم (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
ويجب الإِنتباه إلى أن مضمون هذه الآية جاء في الآيات (57) و (60) من سورة البقرة مع فارق بسيط، غاية ما في الأمر أنّه عبر عن نبوع الماء من الصخر هنا بـ "انبجست" وهناك بـ "انفجرت"، وحسب اعتقاد جماعة من المفسّرين أنّ التفاوت بين هاتين العبارتين هو أن "انفجرت" تعني "خروج الماء بدفع، وكثرة" و"انبجست" تعني "خروج الماء بقلّة" ولعل هذا التفاوت لأجل الإشارة إلى أنّ عيون الماء المذكورة لم تنبع من الصخرة العظيمة دفعة حتى يصير ذلك سبباً لإستيحاشهم وخوفهم وقلقهم، ولا تكون لهم قدرة على تنظيم المياه المندفقة وحصرها، بل خرجت ابتداءً بهدوء وقلة، ثمّ توسعت المجاري وكثرت المياه النابعة.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ هاتين الكلمتين ترجعان إلى مفهوم واحد.
* * *
[260]
الآيتان
وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَتِكُمْ سَنَزِيدُ الُْمحْسِنِينَ 161 فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ162
التّفسير
في تعقيب الآيات السابقة تشير هاتان الآيتان إلى قسم آخر من المواهب الإِلهية لبني إسرائيل وطغيانهم تجاه تلك النعم، وكفرانهم بها.
يقول تعالى: (و) اذكروا (إذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم).
وقلنا لهم اطلبوا من الله حطّ الذنوب عنكم وعفوه عن خطاياكم، وادخلوا من باب بيت المقدس بخضوع (وقولوا حِطَّة وادخلوا الباب سجداً).
فاذا قمتم بهذه الأُمور غفرنا لكم خطاياكم، وأعطينا للمحسين ثواباً أكبر (ونغفر لكم خطيئاتكم وسنريد المحسنين).
[261]
وبالرغم من أن الله فتح أمامهم أبواب الرحمة، ولو أردوا إغتنام الفرصة لاستطاعوا حتماً إصلاح ماضيهم وحاضرهم، ولكن لم يغتنم الظالمين من بني إسرائيل هذه الفرصة فحسب، بل بدّلوا أمر الله، وقالوا خلاف ما أمروا أن يقولوه: (فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم).
وفي المآل نزل عليهم بسبب هذا الطغيان والظلم للنفس وللآخرين عذاب من السماء (فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون).
ويجب الإِنتباه إلى أنّ مضمون هاتين الآيتين جاء أيضاً ـ مع فارق بسيط ـ في سورة البقرة الآية (58) و (59)، وقد أوردنا تفسيراً أكثراً تفصيلا هناك.
والفرق الوحيد بين هذه الآيات المبحوثة هنا، وآيات سورة البقرة هو أنّه يقول هنا: (بما كانوا يظلمون)، وقال هناك: (بما كانوا يفسقون)، ولعل الفارق بين هذين إنما هو لأَجل أن الذنوب لها جانبان: أحدهما الجانب المرتبط بالله، والجانب الآخر مرتبط بنفس الإنسان. وقد أشار القرآن إلى الجانب الأوّل في آية سورة البقرة بعبارة "الفسق" الذي مفهومه الخروج عن طاعة الله، وإلى الثّاني في الآية الحاضرة بعبارة "الظلم".
ماهي "حطّة" وماذا تعني؟
الجدير بالذِكر أن بني إسرائيل كانوا مكلَّفين بأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم عند دخولهم بيت المقدس من أدران الذنوب بتوبة خالصة وواقعية تتلخص في كلمة "حطّة" وأن يطلبوا من الله المفغرة لكل تلك الجرائم التي إرتكبوها، وبخاصّة ما آذوا به نبيّهم العظيم موسى بن عمران قبل ورودهم بيت المقدس.
وكلمة "حطّة" التي كانت ـ في الحقيقة ـ شعارهم عند دخولهم بيت المقدس، هي صورة اختصارية لعبارة "مسألتنا حطّة" يعني نطلب منك يا ربّ أن تحطّ عنّا ذنوبنا بإنزال شآبيب الرحمة والعفو علينا، لأنّ "حطّة" معناها إنزال
[262]
الشيء من علو وهذا الشعار شأنه شأن جميع الشعارات الأُخرى لا يكفي فيه أن يكون مجرّد لقلقة لسان، بل يجب أن يكون اللسان ترجمان الروح ومرآة الوجدان، ولكنّهم ـ كما سيأتي في الآية اللاحقة ـ مسخوا كثيراً من تلك الشعارات حتى هذا الشعار التربوي، وجعلوه وسيلة للّهو والإِستهزاء والسخرية.
* * *
[263]
الآيات
وسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيِهمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيِهمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ 163 وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مَعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 164 فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِين يَنْهَونَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابِ بَئِيس بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ 165 فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَْسِئينَ 166
التّفسير
قصّة فيها عبرة:
في هذه الآيات يستعرض مشهداً آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أن الخطاب موجه فيها إلى الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول له: اسأل يهود
[264]
عصرك حول تلك الجماعة، يعني جدّد هذه الخاطرة في أذهانهم عن طريق السؤال ليعتبروا بها، ويجتنبوا المصير والعقاب الذي ينتظرهم بسبب طغيانهم وتعنتهم.
إنّ هذه القصّة ـ كما أُشير إليها في الأحاديث الإِسلامية ـ ترتبط بجماعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون عند ساحل أحد البحار (والظاهر أنّه ساحل البحر الأحمر المجاور لفلسطين) في ميناء يسمى بميناء "أيلة" (والذي يسمى الآن بميناء ايلات) وقد أمرهم الله تعالى على سبيل الإختبار والإِمتحان أن يعطّلوا صيد الأسماك في يوم السبت، ولكنّهم خالفوا هذا التعليم، فأصيبوا بعقوبة موجعة مؤلمة نقرأ شرحها في هذه الآيات.
في البداية تقول الآية: (واسألْهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر). أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.
ثمّ تقول: وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا ـ في يوم السبت ـ القانون الإِلهي (إذ يَعدون في السبت) لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة، ولكنّهم تجاهلوا هذا الأمر.
ثمّ يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبارة التالية: (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً) فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت، بينما كانت تختفي في غيره من الأيّام.
و"السبت" في اللغة تعني تعطيل العمل للإستراحة، وما نقرأوه في سورة النبأ (وجعلنا نومكم سباتاً) اشارة ـ كذلك ـ إلى هذا الموضوع، وسمّى "يوم السبتِ" بهذا الإسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم، ثمّ بقي هذا الإِسم لهذا اليوم علماً له.
ومن البديهي أنّ صيد الأسماك يشكّل لدى سكنة ساحل البحر مورد كسبهم وتغذيتهم، وكأنّ الأسماك بسبب تعطيل عملية الصيد في يوم السبت صارت
[265]
تحس بنوع من الأمن من ناحية الصيادين، فكانت تظهر على سطح الماء أفواجاً أفواجاً، بينما كانت تتوغل بعيداً في البحر في الأيّام الأُخرى التي كان الصيّادون فيها يخرجون للصيد.
إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي، كان وسيلة لإمتحان وإختبار هذه الجماعة، لهذا يقول القرآن الكريم: وهكذا اختبرناهم بشيء يخالفونه ويعصون الأمر فيه (كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون).
وجملة (بما كانوا يفسقون) إشارة إلى أنّ اختبارهم كان بما من شأنه أن يجذبهم ويدعوهم إلى نفسه، وإلى المعصية والمخالفة، وجميع الإختبارات كذلك، لأن الإختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.
عندما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الإِمتحان الكبير الذي كان متداخلا مع حياتهم تداخلا كاملا، انقسموا إلى ثلاث فرق:
"الفريق الأوّل" وكانوا يشكّلون الأكثرية، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإِلهي.
"الفريق الثّاني" وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية، وهم الذين قاموا ـ تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
"الفريق الثّالث" وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي الآية الثّانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين العصاة، وبين الذين نهوهم عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول: (وإذ قالت أُمّة
[266]
منهم لِمَ تعظون قوماً اللهُ مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً)(1).
فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر: بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدي واجبنا تجاه الله تعالى، وحتى لا نكون مسؤولين تجاهه، هذا مضافاً إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم، ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم (قالوا معذرة إلى ربّكم ولعلّهم يتقون).
ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّ هؤلاء الواعظين كانوا يفعلون ذلك بهدفين:
الأوّل: أنّهم كانوا يعظون العصاة حتى يكونوا معذورين عند الله.
والآخر: عسى أن يؤثروا في نفوس العصاة، ويفهم من هذا الكلام أنّهم حتى مع عدم احتمال التأثير، فإنّهم كانوا لا يحجمون عن الوعظ والنصيحة في حين أن المعروف هو أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطين باحتمال التأثير.
ولكن لابدّ من الإنتباه إلى أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإِلهية حتى مع عدم احتمال التأثير، وذلك عندما يكون عدم بيان الأحكام الإِلهية، وعدم إنكار المنكر سبباً لتناسي وتنامي البدع، وحينما يعدّ السكوت دليلا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإِلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.
إنّ هذه النقطة جديرة بالإلتفات، وهي أنّ الناهين عن المنكر كانوا يقولون: نحن نريد أن نكون معذورين عند (ربّكم) وكأنّ هذا إشارة إلى أنّكم أيضاً مسؤوولون أمام الله، وإنّ هذه الوظيفة ليست وظيفتنا فقط، بل هي وظيفتكم تجاه ربّكم في الوقت ذاته.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التعبير بـ "أُمّة منهم" يكشف عن أن الفريق الثّاني كانوا أقلّ من العصاة، لأنّه عبّر عنهم بلفظة "قوماً" بدون كلمة منهم) ونقرأ في بعض الآيات أنّ عدد نفوس هذه المدينة كان ثمانين ألف وبضعة آلاف، وقد ارتكب 70 ألفاً منهم هذه المعصية (راجع تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 42).
[267]
ثمّ إنّ الآية اللاحقة تقول: وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم، وتناسوا الأمر الإِلهي، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم منهم بسبب فسقهم وعصيانهم (فلمّا نسوا ما ذِكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون)(1).
ولا شك أنّ هذا النسيان ليس نسياناً حقيقياً غير موجب للعذر، بل هو نوع من عدم الإكتراث والإِعتناء بأمر الله، وكأنّه قد نسي بالمرّة.
ثمّ يشرح العقوبات هكذا: (فلمّا عتوا عمّا نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين)(2).
وواضح أن أمر "كونوا" هنا أمر تكويني مثل: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(3).
* * *
بحوث
وهنا نقاط عديدة يجب الإِلتفات إليها:
1 ـ كيفَ ارتكبوا هذه المعصية؟
وأمّا كيف بدأت هذه الجماعة عملية التجاوز على هذا القانون الإِلهي؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بئيس مشتقة من مادة "بأس" يعني الشديد.
2 ـ "عتوا" من مادة عتّو على وزن "غلوّ" بمعنى الإِمتناع عن طاعة أمر، وما ذكره بعض المفسّرين من تفسيره بمعنى الإِمتناع فقط يخالف ما قاله أرباب اللغة.
3 ـ سورة يس، 28.
[268]
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّهم عمدوا في البداية إلى ما يسمى بالحيلة الشرعية، فقد أحدثوا أحواضاً إلى جانب البحر، وفتحوا لها أبواباً إلى البحر، فكانوا يفتحون هذه الأبواب في يوم السبت فتقع فيها أسماك كثيرة مع ورود الماء إليها، وعند الغروب حينما كانت الأسماك تريد العودة إلى البحر يوصدون تلك فتحبس الأسماك في تلك الأحواض، ثمّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدها، وأخذها من الأحواض، وكانوا يقولون: إنّ الله أمرنا أن لا نصيد السمك، ونحن لم نصد الأسماك إنّما حاصرناها فقط(1).
ويقول بعض المفسّرين: إنّهم كانوا يرسلون كلاليبهم وصناراتهم وشباكهم في البحر يوم السبت، ثمّ يسحبونها يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك، وهكذا كانوا يصيدون السمك حتى في يوم السبتِ ولكن بصورة ماكرة.
ويظهر من بعض الرّوايات الأُخرى أنّهم كانوا يصيدون السمك يوم السبتِ من دون مبالاة بالنهي الإِلهي، وليس بواسطة أية حيلة.
ولكن من الممكن أن تكون هذه الرّوايات صحيحة بأجمعها وذلك أنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر، أو إلقاء الكلاليب والصنارات، ثمّ لما صُغرت هذه المعصية في نظرهم، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السب وحرمته، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجاً وعلناً، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جداً.
2 ـ من هم الذين نجوا؟
الظاهر من الآيات الحاضرة أنّ فريقاً واحداً من الفرق الثلاثة (العصاة، المتفرجون، الناصحون) هو الذي نجى من العذاب الإِلهي وهم افراد الفريق
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، المجلد 2، الصفحة 22، وقد روي هذا الكلام عن ابن عباس في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية.
[269]
الثّالث.
وكما جاء في الرّوايات، فإنّه عندما رأى هذا الفريق أن عظاته ونصائحه لا تجدي مع العصاة انزعجوا وقالوا: سنخرج من المدينة، فخرجوا إلى الصحراء ليلا، واتفق أن أصاب العذابُ الإِلهي كلا الفريقين الآخرين.
وأمّا ما إحتمله بعض المفسّرين من أنّ العصاة هم الذين أصيبوا بالعذاب فقط، ونجى الساكتون أيضاً، فهو لا يتناسب مع ظاهر الآيات الحاضرة.
3 ـ هل أنّ كلا الفريقين عوقبوا بعقاب واحد
يظهر من الآيات الحاضرة أنّ عقوبة المسخ كانت مقتصرة على العصاة، لأنّه تعالى يقول: (فلمّا عتوا عن ما نهوا عنه ...) ولكن من جانب آخر يستفاد من الآيات الحاضرة ـ أيضاً ـ أنّ الناصحين الواعظين فقط هم الذين نجوا من العقاب، لأنّه تعالى يقول: (أنجينا الذين ينهون عن السوء).
من مجموع هاتين الآيتين يتبيّن أنّ العقوبة نالت كلا الفريقين، ولكن عقوبة المسخ اختصت بالعصاة فقط، وأمّا عقوبة الآخرين فمن المحتمل أنّها كانت الهلاك والفناء، بالرغم من أن العصاة أيضاً هلكوا بعد مدّة من المسخ حسب ما جاء في هذا الصدد من الرّوايات.(1)
4 ـ هل المسخ كان جسمانياً أو روحانياً؟
"المسخ" أو بتعبير آخر "تغيير الشكل الإِنساني إلى الصورة الحيوانية" ومن المسلّم أنّه حدثٌ على خلاف العادة والطبيعة.
على أنّه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة، وتغيير الشكل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وإذا كان يستفاد من بعضِ الرّوايات خلاف هذا الموضوع، فإنّه مضافاً إلى أنّه لا يمكن الإِعتماد عليه في مقابل ظاهر الآيات فإنّما ضعيفة من حيث السند أيضاً، ويحتمل أن يكون الرواي قد أخطأ في نقل الرواية.
[270]
والصورة في الحيوانات إلى أشكال وصور أُخرى، وقد شكّلت أسُس فرضية التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة.
ولكنّ الموارد التي شوهدت فيها الـ "موتاسيون" والقفزة إنّما هي في صفات الحيوانات الجزئية، لا الصفات الكليّة، يعني أنّه لم يشاهَد إلى الآن نوعاً من أنواع الحيوان تغيّر على أثر الـ "موتاسيون" إلى نوع آخر، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوان، ناهيك عن أنّ هذه التغييرات إنّما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل، لا أن يحصل هذا التغيير في الحيوان يتولد من أُمّه.
وعلى هذا الأساس، يكون تغير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمراً خارقاً للعادة.
ولكن تقدم أنّ هناك أُموراً تحدث على خلاف العادة والطبيعة، وهذه الأُمور ربّما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء، وأحياناً تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر من بعض الأشخاص، وإن لم يكونوا أنبياء (وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعاً).
وبناء على هذا، وبعد القبول بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادة، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر. ولا يكون ذلك مستحيلا تأباه العقول.
ووجود مثل هذه الخوارق للعادة ـ كما قلنا في مبحث إعجاز الأنبياء ـ لا هو إستثناء وخرق لقانون العلية، ولا هو خلاف العقل، بل هو مجرّد كسر قضية "عاديّة طبيعيّة" في مثل هذه الموارد، ولها نظائر رأيناها في الأشخاص غير العاديين(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لقد جمع أحد الكتّاب المعاصرين نماذج كثيرة ـ من مصادر موثوقة ـ لأشخاص من البشر أو حيوانات استثنائية، ملفتة للنظر ومثيرة للعجب، ومن جملة ذلك: إنسان يستطيع قراءة السطور بأصابعه، أو امرأة وضعت مرتين في خلال شهرين، وفي كل مرة ولدت ولداً، أو طفلا كان قلبه خارج صدره، أو امرأة لم تكن تعرف أنّها حامل حتى لحظة وضعها لوليدها، وما شابه ذلك.
[271]
بناء على هذا لا مانع من قبول "المسخ" على ما هو عليه في معناه الظاهري الوارد في الآية الحاضرة وبعض الآيات القرآنية الأخرى، وأكثر المفسّرين قبلوا هذا التّفسير أيضاً.
ولكن بعض المفسّرين ـ و هم الأقليّة ـ قالوا: إنّ المسخ هو "المسخ الروحاني" والإِنقلاب في الصفات الأخلاقية، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين، مثل الإِقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. وهذا الإِحتمال نقل عن أحد المفسّرين القدامى وهو مجاهد.
وما أخذه البعض على مسألة المسخ، وأنّه خلاف التكامل، وأنّه يوجب العودة والرجوع والتقهقر في الخلقة غير صحيح، لأنّ قانون التكامل يرتبط بالذين يسيرون في طريق التكامل، لا أُولئك الذين انحرفوا عن مسيرة التكامل، وخرجوا عن دائره هذا القانون.
فعلى سبيل المثال: الإنسان السليم ينمو نمواً منتظماً في أعوام الطفولة، ولكنّه إذا حصلت في وجوده بعض النقائص، فيمكن أن لا يتوقف الرشد والنمو فحسب، بل يتقهقر ويفقد نموه الفكري والجسماني تدريجاً.
ولكن يجب الإِنتباه على كل حال إلى أنّ المسخ والتبدل والتحول الجسماني يتناسب مع الأعمال التي قام بها الشخص، يعني أنّ بعض العصاة يسلكون سبيل الطغيان تحت ضغط من دوافع الهوى والشهوة، وجماعة أُخرى تتلوث حياتهم بأدران الذنوب أثر التقليد الأعمى، ولهذا يظهر المسخ في كل فريق من هذه الفرق بصورة متناسبة مع كيفية أعمالهم.
على أنّه قد جرى الحديث في الآيات الحاضرة فقط عن "القردة" ولم يجرِ أي حديث عن "الخنازير" ولكن في الآية (60) من سورة المائدة يدور الحديث حول جماعة مسخ بعضهم في صورتين (بعض قردة وبعض خنازير) وهذه الآية
[272]
حسبما قال بعض المفسّرين: نزلت حول أصحاب السبت، فالكبار منهم الذين اطاعوا أمر الشهوة والبطن مسخوا خنازير، والشباب المقلد لهم تقليداً أعمى وكانوا يشكلون الأكثرية مسخوا قردة.
ولكن على كل حال يجب الإِلتفات إلى أنّ الممسوخين ـ حسب الرّوايات ـ بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا، ولم يتولد منهم نسل أبداً.
5 ـ المخالفة تحت غطاء الحيلة الشّرعية
إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت لا تتضمّن الإشارة إلى تحايل أصحاب السبت في صعيد المعصية، ولكن ـ كما أسلفنا ـ أشار كثير من المفسّرين في شرح هذه الآيات إلى قصّة حفر الأحواض، أو نصب الصنارات في البحر في يوم السبت، ويشاهد هذا الموضوع نفسه في الرّوايات الإِسلامية، وبناء على هذا تكون العقوبة الإِلهية التي جرت على هذا الفريق ـ بشدة ـ تكشف عن أن الوجه الحقيقي للذنب لا يتغير أبداً بانقلاب ظاهره، وباستخدام ما يسمى بالحيلة الشرعية، فالحرام حرام سواء أتي به صريحاً، أو تحت لفافات كاذبة، ومعاذير واهية.
إنَّ الذين تصوروا أنّه يمكن بالتغيير الصوري تبديل عمل حرام إلى حلال يخدعون أنفسهم في الحقيقة، ومن سوء الحظ أن هذا العمل رائج بين بعض الغفلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الدين وهذا هو الذي يشوّه وجه الدين في نظر الغرباء عن الدين، ويكرّهه إليهم بشدّة.
إن العيب الأكبر الذي يتسم به هذا العمل ـ مضافاً إلى تشويه صورة الدين ـ هو أن هذا العمل التحايلي يصغر الذنب في الأنظار ويقلّل من أهميته وخطورته وقبحه، ويجرّىء الإِنسان في مجال الذنب إلى درجة أنّه يتهيأ شيئاً فشيئاً لإرتكاب الذنوب والمعاصي بصورة صريحة وعلينة. فنحن نقرأ في نهج البلاغة
[273]
أنّ الإِمام عليّاً(عليه السلام) قال: "إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنون بدينهم على ربّهم، ويتمنون رحمته، ويأمنون سطوته، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ(1) والسحت بالهدية، والربا بالبيع" (الخطبة 156).
ويجب الإِنتباه إلى الدافع وراء أمثال هذه الحيل، إمّا إلباس الباطن القبيح بلباس قشيب وإظهاره بمظهر حَسَن أمام الناس، وإمّا خداع الضمير، وإكتساب طمأنينة نفسية كاذبة.
6 ـ أنواع الإبتلاء الإِلهي المختلفة
صحيح أنّ صيد السمك من البحر لسكان السواحل لم يكن مخالفة، ولكن قد ينهي الله جماعة من الناس وبصورة مؤقَّتة، وبهدف الإِختبار والإِمتحان عن مثل هذا العمل، ليرى مدى تفانيهم، ويختبر مدى إخلاصهم، وهذا هو أحد أشكال الإِمتحان الإِلهي.
هذا مضافاً إلى أنّ يوم السبت كان عند اليهود يوماً مقدساً، وكانوا قد كُلّفوا ـ احتراماً لهذا اليوم بالتفرغ للعبادة وممارسة البرامج الدينية ـ والكف ـ عن الكسب والإِشتغال بالأعمال اليومية، ولكن سكان ميناء "أيلة" تجاهلوا كلَّ هذه الإِعتبارات والمسائل، فعوقبوا معاقبة شديدة جعلت منهم ومن حياتهم المأساوية ومصيرهم المشؤوم درس وعبرة للأجيال اللاحقة.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان النبيذ عبارة عن وضع مقدار من التمر أو الشعير أو الزبيب في الماء، عدّة أيّام، ثمّ شربه وهذا وإن لم يكن حراماً شرعاً، ولكنّه على أثر سخونة الهواء تتبدل المواد السكرية فيه إلى مواد كحولية خفيفة.
[274]
الآيتان
وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيـمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ167 وَقَطَّعْنَهُمْ فِى الاَْرْضِ أُممَاً مِّنْهُمْ الصَّـلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَـهُمْ بِالْحَسَنَتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 168
التّفسير
تفرق اليهود وتشتتهم:
هذه الآيات إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر الله تعالى، وسحقت الحق والعدل والصدق.
فيقول في البداية: واذكروا يوم أخبركم الله بأنّه سيسلّط على هذه الجماعة العاصية المتمردة فريقاً يجعلها حليفة العذاب والأذى إلى يوم القيامة (وإذ تأذّن ربّك ليبعثنَّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب).
و"تأذَّن" و"أذّن" كلاهما بمعنى الإِخبار والإِعلام، وكذا جاء بمعنى الحلْف والقَسَم، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية أنّ الله تعالى أقسم بأن يكون مثل
[275]
هؤلاء الأشخاص في العذاب إلى يوم القيامة.
ويُستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الإستقرار والطمأنينة أبداً، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة، فإنّها مع ذلك ستعيش حالة اضطراب دائم وقلق مستمر، إلاّ أن تغيّر ـ بصدق ـ سلوكها، وتكفّ عن الظلم والفساد.
وفي ختام الآية يضيف تعالى قائلا: (إنّ ربّك لسريع العقاب وإنّه لغفور رحيم) فبالنسبة إلى الكفار سريع العقاب، وبالنسبة للمذنبين التائبين غفور رحيم.
وهذه الجملة تكشف عن أنّ الله قد ترك الباب مفتوحاً أمامهم حتى لا يظن أحد أنّه قد كُتب عليهم المصير المحتوم والشقاء الابدي الذي لا خلاص منه.
وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى تفرق اليهود في العالم فيقول: (وقطعناهم في الأرض أممّا منهم الصالحون ومنهم دون ذلك) فهم متفرقون منقسمون على أنفسهم بعضهم صالحون، ولهذا عندما سمعوا بنداء الإِسلام وعرفوا دعوة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) آمنوا به، وبعضهم لم يكونوا كذلك بل ألقوا الحق وراءهم ظهرياً، ولم يرتدعوا عن معصية في سبيل ضمان مصالحهم وحياتهم المادية.
ومرّة أُخرى تتجلى هذه الحقيقة في هذه الآية وهي أنّ الإِسلام لا يعادي العنصر اليهودي، ولا يشجبهم لكونهم أتباع دين معيّن، أو منتمين إلى عنصر وعرق معيّن، بل يجعل أعمالهم هي مقياس تقييمهم.
ثمّ يضيف تعالى قائلا: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون).
أي ربّما نكرمهم ونجعلهم في رفاه ونعمة حتى نثير فيهم روح الشكر، ويعودوا إلى طريق الحق. وربّما نغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتى ينزلوا عن مركب الغرور والأنانية والتكبر، ويقفوا على عجزهم، لعلهم يستيقظون
[276]
ويعودون إلى الله، والهدف في كلتا الحالتين هو التربية والهداية والعودة إلى الحق.
وعلى هذا الأساس تشمل "الحسنات" كل نعمة ورفاه واستقرار، كما تشمل "السيئات" كل نقمة وشدة، وحصر هذين المفهومين في دائر ضيّقة معيّنة لا دليل عليه.
* * *
[277]
الآيتان
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الاَْدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيهِمْ مِّيثَقُ الْكِتَـبِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ169 وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أجْرَ الْمُصْلِحِينَ 170
التّفسير
في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.
وفي البداية يقول تعالى: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.
و"خَلْف" على وزن "حَرْف" يأتي غالباً في الأولاد غيرالصالحين ـ كما
[278]
ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين، في حين أنّ "الخَلَف" على وزن "شَرَف" يأتي بمعنى الولد الصالح(1).
ثمّ يضيف قائلا: وعندما وقعوا بين مفترق طريقين: بين ضغط الوجدان من جهة، والرغبات والمنافع المادية من جهة أُخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا: لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواءً من حلال أو حرام، والله سيرحمنا ويغفر لنا (ويقولون سيُغفَر لنا).
إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية، ولكن هذه الندامة ـ كما يقول القرآن الكريم ـ لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم، ولهذا يقول تعالى: (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه).
و"عرض" على وزن "غرض" يعني الشيء الذي لا ثبات له ولا دوام ، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب، فهو يقصد الإِنسان يوماً ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإِنسان حسابه ولا يعود قادراً على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره، يوماً آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلاّ الحسرة والتذكر المؤلم، هذا مضافاً إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساساً غير دائمة، وغير ثابته(2).
وعلى كل حال، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الإِرتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.
ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، وتفسير ابن الفتوح الرازي، في ذيل الآية الحاضرة.
2 ـ يجب الإنتباه، إلى أن "عَرَض" على وزن "غَرض" يختلف عن "عرْض" على وزن (فرض) فالأوّل بمعنى كل رأس مال دنيوي، والثّاني بمعنى المال النقدي.
[279]
يقولوا على الله إلاّ الحق) أي أنّهم أُخذ عليهم الميثاق ـ بواسطة كتابهم السماوي التوراة ـ أن لا يفتروا على الله كذباً، ولا يحرفوا كلماته، ولا يقولوا إلاّ الحق.
ثمّ يقول: لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإِلهية، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذاراً، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مراراً وفَهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم (ودرسوا فيه).
و"الدرس" في اللغة يعني تكرار شيء، وحيث أن الإِنسان عند المطالعة، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع، لهذا أطلق عليه لفظ "الدرس" وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة "درس والاندراس" على إنمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأُخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.
وفي ختام الآية يقول: إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأُمور، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعاً (والدّار الآخرة خير للذين يتفون).
ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة (أفلا تعقلون)؟؟
وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقاً يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإِلهية وكتمانها فحسب، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفاً بحرف، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم، ويقول عنهم: (والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين).
وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من "الكتاب" وهل أنّه التوراة أو القرآن الكريم؟ بعض ذهب إلى الأوّل، وبعض إلى الثّاني. والظاهر أنّه إشارة إلى فريق من بني إسرائيل الذين انفصلوا عن الضالين الظالمين، وعاكسوهم فى سلوكهم وموقفهم. ولا شك أن التمسك بالتوراة والإنجيل وما فيهما من بشائر
[280]
بظهور نبيّ الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، لا ينفصل عن الإِيمان بهذا النّبي.
إنّ في التعبير بـ "يمسّكون" الذي هو بمعنى الإِعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والإلتصاق بشيء لحفظه وصيانته، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإِنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص، ويسعى في حفظها وحراستها.
إنّ التمسك بالكتاب الإِلهي ليس هو أن يمسك الإِنسان بيده أوراقاً من القرآن أو التوراة أو الإِنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة، ويجتهد في حفظ غلافه وورقه من التلف، بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم.
إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإِلهية، وهذا التعبير يؤكّد ـ مرّة أُخرى ـ هذه الحقيقة، وهي أنّ الدين ليس مجرّد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة، وبدار الآخرة، بل هو برنامج للحياة البشرية، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر، وإجراء مبادىء العدل والسلام والرفاه والإستقرار، وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة "الإِصلاح" الواسعة المعنى.
وما نراه من التركيز على خصوص "الصلاة" من بين الأوامر والتعاليم الإِلهية، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإِنسان بالله الذي يراه حاضراً وناظراً لجميع أعماله وبرامجه، ومراقباً لجميع أفعاله وأقواله، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أُخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإرتباط هذا الموضوع بإصلاح المجتمع الإِنساني أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
[281]
من كل ما قيل يتّضح أنّ هذا المبدأ والمرتكز الفكري لا يختص باليهود، بل هو أصل في حياة الأُمم والشعوب. وعلى هذا الأساس فإنّ الذين يجمعون متاعاً زائلا بواسطة كتمان الحقائق وتحريفها، ثمّ يرون نتائجه المشؤومة يتّخذون لأنفسهم حالة من التوبة الكاذبة، توبة سرعان ما تزول وتذوب أمام إبتسامة من منفعة مادية متجدّدة، كما يذوب الثلج في حرّ القيظ فهؤلاء هم المخالفون لإصلاح المجتمعات البشرية، وهم الذين يضحون بمصالح الجماعة في سبيل مصالح الفرد، سواء صدر هذا الفعل من يهوديّ أو مسيحي أو مسلم.
* * *
[282]
الآية
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـكُمْ بِقُوَّة وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 171
التّفسير
آخر كلام حول اليهود:
"نتقنا" من مادة "نتق" على وزن "قلع" تعني في الأصل قلع وانتزاع شيء من مكانه، وإلقاءه في جانب آخر، ويطلق على النساء اللواتي يلدن كثيراً أيضاً "ناتق" لأنّهن يفصلن الأولاد من أرحامهن ويخرجنهم بسهولة.
وهذه الآية آخر آية في هذه السورة تتحدث حول حياة بني إسرائيل، وهي تتضمّن تذكير قصّة أُخرى ليهود عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، قصّة فيها عبرة، كما أنّها دليل على إعطاء ميثاق وعهد، إذ يقول: واذكروا إذ قلعنا الجبل من مكانه وجعلناه فوق رؤوسهم كأنّه مظلّة (وإذ نتقنا الجيل فوقهم كأنّه ظلّة).
وقد ظنوا أنّه سيسقط على رؤوسهم، فإنتابهم اضطراب شديد وفزع: (وظنّوا أنّه واقع بهم).
وفي تلك الحالة قلنا لهم: خذوا ما أعطيناكم من الأحكام بقوة وجديّة
[283]
(خُذوا ما آتيناكم بقوّة)
واذكروا ما جاء فيه حتى تتقوا، وخافوا من العقاب الإِلهي واعملوا بما أخذناه فيه منكم من المواثيق (واذكروا ما فيه لعلكم تتقون).
إنّ هذه الآية نفسها جاءت ـ بفارق بسيط في الآية (63) من سورة البقرة، وكما قلنا هناك فإنّ هذه القصة وقعت ـ حسب ما قال المفسّر المعروف العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان عن ابن زيد ـ عندما عاد موسى(عليه السلام) من جبل الطور، واصطحب معه أحكام التوراة ... فعندما عرض على قومه الواجبات والوظائف وأحكام الحلال والحرام تصوروا أنّ العمل بكل هذه الوظائف أمر مشكل، ولهذا بنوا على المخالفة والعصيان... في هذا الوقت نفسه، رفعت قطعة عظيمة من الجبل فوق رؤوسهم، بحيث وقعوا في اضطراب عظيم، فالتجأوا إلى موسى(عليه السلام)وطلبوا منه رفع هذا الخطر والخوف عنهم، فقال لهم موسى(عليه السلام) في تلك الحالة: لوتعهدّتم بأن تكونوا أوفياء لهذه الأحكام لزال عنكم هذا الخطر... فسلَّموا وتعهَّدوا وسجدوا لله تعالى فزال عنهم الخطر، وأُزيحت الصخرة من فوق رؤوسهم.
أسئلة وأجوبة:
وهنا سؤالان أشرنا إليهما في سورة البقرة وإلى جوابيهما، ونذكر مختصراً عنهما هنا بالمناسبة.
السّؤال الأوّل: ألم يكن لأخذ الميثاق في هذه الحالة صفة الإجبار؟
والجواب: لا شك أنّه كانت تحكم في ذلك الظرف حالة من الإِجبار والإضطرار، ولكن من المسلَّم أنّه لمّا ارتفع وزال الخطر فيما بعد كان بإمكانهم مواصلة هذا السلوك باختيارهم.
[284]
هذا مضافاً إلى أنّه لا معنى للإِجبار في مجال الإِعتقاد، أمّا في مجال العمل فلا مانع من أن يجبر الناس على اُمور تربوية تضمن خيرهم وسعادتهم وصلاحهم. فهل من العيب لو أنّنا أجبرنا شخصاً على ترك عادة شريرة، أو سلوك طريق آمن من الخطر، وعدم سلوك طريق محفوف بالأخطار؟
السّؤال الثّاني: كيف رفع الجبل فوق رؤوسهم:
الجواب: ذهب بعض المفسّرين إلى أن الجبل قُلِعَ من مكانه بأمر الله، واستقر فو رؤوسهم كمظلّة.
وذهب آخرون إلى أنّه اهتز الجبل اهترازاً شديداً بفعل زلزال شديد بحيث شاهد الناس الذين كانوا يسكنون في سفح الجبل ظلَّ قسمُ منه فوق رؤوسهم.
ويحتمل أيضاً أن قطعة من الجبل انتزعت من مكانها واستقرت فوق رؤوسهم لحظة واحدة، ثمّ مرّت وسقطت في جانب آخر.
ولا شك في أنّ هذا الأمر كان أمراً خارقاً للعادة وليس حدثاً طبيعياً عادياً.
والموضوع الآخر الذي يجب الإِنتباه إليه هو أنّ القرآن لا يقول: إنّ الجبل صار مظلّة فوق رؤوسهم بل قال: (كأنّه ظلّة).
وهذا التعبير إنّما هو لأجل أنّ المظلّة تنصب على رؤوس الأشخاص لإظهار الحب، والحال أنّ هذه العملية ـ المذكورة في الآية الحاضرة ـ كانت من باب التهديد، أو لأجل أنّ المظلة شيء مستقر وثابت، ولكن رفع الجبل فوق رؤوسهم كان يتسم بعدم الثبات والدوام.
قلنا: مع هذه الآية تختم الآيات المتعلقة بقصة بني إسرائيل والحوادث المختلفة، والذكريات الحلوة والمرّة التي وقعت في حياتهم.
وهذه القصّة هي آخر قصص الأنبياء التي جاءت في هذه السورة. وذكر هذه القصّة في نهاية قصصهم ـ مع أنّها ليست آخر حدث من الحوادث المرتبطة بهذه
[285]
الجماعة ـ لعله لأجل أنّ الهدف من جميع هذه القصص هو التمسك بآيات الله والعمل بالمواثيق، ولأجل الوصول إلى التقوى الذي جاء بيانه في هذه الآية والآية السابقة.
يعني أنّ رسالة موسى(عليه السلام) وسائر الأنبياء وأعمالهم مواجهاتهم المستمرة والصعبة وما لقوا من صعاب ومتاعب وشدائد مضنية كانت لأجل تطبيق أوامر الله، وتنفيذ مبادىء الحق والعدالة والطهر والتقوى في المجتمعات البشرية بشكل كامل.
* * *
[286]
الآيات
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـذَا غَـفِلِينَ 172 أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ 173 وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَْيَـتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ174
التّفسير
العهدِ الأوّل وعالم الذّر:
الآيات المذكورة أعلاه، تشير إلى "التوحيد الفطري" ووجود الإِيمان في أعماق روح الإِنسان ... ولذلك فإنّ هذه الآيات تُكمل الأبحاث الواردة في الآيات المتقدمة من هذه السورة في شأن "التوحيد الإِستدلالي"!
وبالرغم من كثرة الأقوال والكلام بين المفسّرين في شأن عالم الذّر، إلاّ أنّنا نحاول أن نبيّن التّفسير الإجمالي لهذه الآيات الكريمة، ثمّ نختار الأهم من أبحاث المفسّرين، ونبيّن وجهة نظرنا بصورة استدلالية موجزة!
يقول الله سبحانه مخاطباً نبيّه في هذه الآية (وإذْ أخذ ربُّك من بني آدم من
[287]
ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا!...).
"الذريّة" كما يقول أهل اللغة وعلماؤها، معناها في الأصل الأبناء الصغار اليافعون، إلاّ أنّها تطلق في الغالب على عموم الأبناء، وقد تستعمل هذه الكلمة في معنى المفرد، كما قد تستعمل في معنى الجمع، إلاّ أنّها في الأصل تحمل معنى الجمع!
والجذر اللغوي لهذه الكلمة مُختَلفٌ فيه، إذ احتملوا له أوجهاً متعددة..
فقال بعضهم: إنّ جذر هذه الكلمة مأخوذ من "ذَرَأَ" على زنة "زَرَعَ" ومعناه الخلق، فعلى هذا الوجه يكون معنى الذرية مساوياً "للمخلوق".
وقال بعضهم: بل الجذر مأخوذ من "ذَرَّ" على وزن "شَرَّ" ويعني الموجودات الصغيرة جدّاً كذرّات الغبار مثلا والنمل الصغير، ومن هنا فإنّ أبناء الإِنسان تبدأ حياتهم من نطفة صغيرة جداً.
والإِحتمال الثّالث أنّه مأخوذ من مادة ذَرْو ومعناه النثر والتفريق والتنقية ]ومنه ذَرْوُ الحنطة(1)[ وإنما سمي أبناء الإِنسان بالذرية لأنّهم يتفرقون في أنحاء الأرض بعد التكاثر!
ثمّ يشير الله سبحانه إلى الهدف النهائي من هذا السؤال والجواب، وأخذ العهد من ذرية آدم في مسألة التوحيد، فيقول: (أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين).
الآية التّالية تشير إلى هدف آخر من أخذ هذا العهد، وهو أنّه إنّما أخذ ربّك هذا العهد من ذرية بني آدم لئلا تعتذروا (أوتقولوا إنّما أشرك آباؤنا من قبل وكنّا ذريّة من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون).
أجَلْ ... (وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يقال ذرأ فلان الحنطة ذروأ أو ذرّاها تذرية، أي نقّاها من الشوائب.
[288]
إيضاح لما ورد عن عَالَم الذَّرِ.
رأينا أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن أخذ العهد من ذريّة آدم، لكن كيف أُخِذَ هذا العهدُ؟!
لم يرد في النص إيضاح في جزئيات هذا الموضوع، إلاّ أنّ للمفسّرين آراء متعددة تعويلا منهم على الرّوايات الإِسلامية "الواردة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)" ومن أهم هذه الآراء رأيان.
1 ـ حين خُلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذّر إلى آخر نسلِ له من البشر "وطبقاً لبعض الرّوايات ظَهرَ هذا الذّر أو الذرّات من طينة آدم نفسه" وكان لهذا الذرّ عقلٌ وشعور كافً للإِستماع والخطاب والجواب، فخاطب الله سبحانه الذرّ قائلا (الستُ بربّكم)؟!...
فَأجاب الذرّ جميعاً: (بلى شهدنا).
ثمّ عاد هذا الذرّ "أو هذه الذرات" جميعاً إلى صُلب آدم "أو إلى طينته" ومن هنا فقد سُميَ بهذا العالم بعالم الذرّ ... وهذا العهدُ بعهد "ألست"؟
فبناءً على ذلك، فإنّ هذا العهد المشار إليه آنفاً هو عهد تشريعي، ويقوم على أساس "الوعي الذاتي" بين الله والناس.
2 ـ إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الإِستعداد "والكفاءات"، و"عهد الفطرة" والتكوين والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأُمهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم الله الإستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السرّ الإِلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي... كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها.
فبناءً على هذا، فإنّ جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إيّاهم: ألست بربكم؟ كان بلسان التكوين والخلق، وما أجابوه كان باللسان ذاته!
[289]
ومثل هذه التعابير غير قليلة في أحاديثنا اليوميّة، إذ نقول مثلا: لون الوجه يُخبر عن سره الباطني "سيماهم في وجوهم"، أو نقول: إنّ عيني فلان المجهدتين تنبئان أنّه لم ينم الليلة الماضية.
وقد رُوي عن بعض أُدباء العرب وخطبائهم أنّه قال في بعض كلامِهِ: سَل الأرض من شق أنهارَكِ وغرس أشجارَكِ وأينع ثمارَكِ؟ فإنّ لم تُجبكَ حواراً أجابتك اعتباراً!...
كما ورد في القرآن الكريم التعبير على لسان الحال، كالآية (11) من سورة فصلت، إذ جاءَ فيها (فقال لها وللأرض إتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين).
هذا باختصار هو خلاصة الرأيين أو النظرتين المعروفتين في تفسير الآيات آنفة الذكر...
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل فيه بعض الإشكالات، ونعرضها في ما يلي:
1 ـ ورد التعبير في نصّ الآيات المتقدمة عن خروج الذريّة من بني آدم من ظهورهم، إذ قال تعالى... (من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) مع أنّ التّفسير الأوّل يتكلم عن آدم نفسه أو عن طينة آدم.
2 ـ إذا كان هذا العهد قد أُخذ عن وعي ذاتي وعن عقل وشعور، فكيف نسيه الجميعُ؟! ولا يتذكر أحد مع أنّ الفاصلة الزمانية بين زماننا ليست بأبعدَ مدىً من الفاصلة بين هذا العالم والعالم الآخر "أو القيامة"؟ ونحن نقرأ في آيات عديدة من القرآن الكريم أنّ الناس سواءً كانوا من أهل الجنّة أو من أهل النّار لا ينسون أعمالهم الدنيوية في يوم القيامة، ويتذكرون ما اكتسبوه بصورة جيدة، فلا يمكن أن يُوجَّه هذا النسيان العمومي في شأن عالم الذر أبداً "ولا مجال لتأويله!".
3 ـ أيّ هدف كان من وراء مثل هذا العهد؟! فإذا كان الهدف أن يسير المعاهدون، في طريق الحق عند تذكرهم مثل هذا العهد، وألاّ يسلكوا إلاّ طريق معرفة الله، فينبغي القول بأنّ مثل هذا الهدف لا يتحقق أبداً وبأي وجه كان، لأنّ
[290]
الجميع نسوه!!...
وبدون هذا الهدف يعدّ هذا العهد لغواً ولا فائدة فيه.
4 ـ إنّ الإِعتقاد بمثل هذا العالم يستلزم ـ في الواقع ـ القبول بنوع من التناسخ، لأنّه ينبغي ـ طبقاً لهذا التّفسير ـ أن تكون روح الإِنسان قد خلقت في هذا العالم قبل ولادته الفعلية، وبعد فترة طويلة أو قصيرة جاء إلى هذا العالم ثانيةً، وعلى هذا فسوف تحوم حوله كثيراً من الإِشكالات في شأن التناسخ!
غير أنّنا إذا أخذنا بالتّفسير الثّاني، فلا يرد عليه أيُّ إشكال ممّا سبق، لأنّ السؤال والجواب، أو العهد المذكور ـ عهد فطري، وما يزال كلّ منّا يحس بآثاره في أعماق روحه، وكما يعبر عنه علماء النفس بـ "الشعور الديني" الذي هو من الإِحساسات الأصيلة في العقل الباطني للإِنسان. وهذا الإِحساس يقود الإنسان على امتداد التأريخ البشري إلى "طريق" معرفة الله... ومع وجود هذا الإِحساس أو الفطرة لا يمكن التذرّع بأنّ أباءنا كانوا عبدةً للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون!!....
(فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها)(1).
والإِشكال الوحيد الذى يَرِدُ على التّفسير الثّاني هو أنّ هذا السؤال والجواب يتخذ شكلا "كنائيّاً" ويتسم بلغة الحوار. إلاّ أنّه مع الإِلتفات إلى ما بيّناه آنفاً بأن مثل هذه التعابير كثير في لُغَةِ العرب وجميع اللغات، فلا يبقي أيّ إشكال في هذا المجال.
ويبدو أن هذا التّفسير أقرب من سواه!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الروم، 30.
[291]
عالم الذر في الرّوايات الإِسلاميّة:
وردت روايات كثيرة في مختلف المصادر الإِسلاميّة من كتب الشيعة وأهل السنة حول عالم الذّر... بحيث تتصور لأوّل وهلة وكأنّها رواية متواترة... فمثلا في تفسير البرهان وردت 37 روايةً، وفي تفسير نور الثقلين وردت ذيل الآيات الآنفة 30 رواية بعضها مشترك والآخر مختلف، وبملاحظة الإِختلاف فيها فقد يصل مجموع ما ورد من الرّوايات إلى أربعين روايةً....
إلاّ أنّنا سنجد ـ بعد التدقيق في مضامينها ومحتواها وتقسيمها إلى مجاميع، وفحصها ـ أنّه لا يمكن أن نعثر رواية واحدة معتبرة منها، فكيف يمكن الإِعتقاد بتواترها؟!
إنّ أكثر تلك الرّوايات منقول عن زرارة، وبعضها عن صالح بن سَهْل، وبعضها عن أبي بصير، وبعضها عن جابر، وبعضها عن عبدالله بن سنان، ومن ذلك يظهر لنا أنّه لو روى شخص واحد روايات كثيرة لكنّها متحدة المضمون فهي تعد بحكم الرواية الواحدة، وبناءً على ذلك فسيقلّ عدد تلك الرّوايات الكثيرة وتتضاءل نسبتها وتبلغ ما بين 10 إلى 20 رواية، هذا من ناحية السند.
أمّا من ناحية المضمومن والدليل فإنّ مضامينها تختلف بعضها عن بعض، فمنها ما يوافق التّفسير الأوّل، ومنها ما يوافق التّفسير الثّاني، وبعضها لا يوافق التّفسيرين...
فالرّوايات المرقمة (3) و(4) و(8) و(11) و(28) و(29) والمروية عن زرارة في تفسير البرهان ـ ذيل الآيات محل البحث ـ تتفق والتّفسير الأوّل. وما روى عن عبدالله بن سنان في الروايتين (7) و(12) في تفسير البرهان نفسه، يتفق والتّفسير الثاني...
أي أنّ بعض هذه الرّوايات مبهم، وبعضها يمثّلُ رموزاً وعبارات مجازية، كما في الروايتين (18) و(23) المرويتين عن أبي سعيد الخدري وعبدالله الكلبي،
[292]
الواردتين في التّفسير آنف الذكر.
وبعض الرّوايات يذكر "أرواح بني آدم" كما في الرواية (20) المرويّة عن المفضّل!...
ثمّ إن الرّوايات ـ المذكورة آنفاً ـ بعضها ذو سند معتبر، وبعضها فاقد للسند أو مرسل.
فبناءً على ذلك ـ وبملاحظة التعارض بين الرّوايات ـ لا يمكننا التعويل عليها على أنّها وثيقة معتبرة... وكما عبّر أكابر علمائنا في مثل هذه الموارد فإنّه ينبغي أن نتجنّب الحكم على مثل هذه الرّوايات، وأن نكلها إلى أصحابها ورواتها.
وفي هذه الصورة نبقى متمسّكين بالنص القرآني، وكما ذكرنا أنفاً فإن التّفسير الثّاني أكثر انسجاماً مع الآيات.
ولو كان أسلوبُنا في البحث التفسري يسمح لنا أن نذكر جميع طوائف الرّوايات، والتحقيق فيها ـ كنا أشرنا آنفاً ـ لفعلنا ذلك ليكون البحث أكثر وضوحاً.
إلاّ أنّ الراغبين يمكنهم الرجوع إلى التّفسير "نور الثقلين، وتفسير البرهان، وبحار الأنوار"، وليبحثوا في مجاميعها ويصنفوها، وينظروا في أسانيدها ومضامينها.
* * *
[293]
الآيات
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَـهُ ءَايَـتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـنُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَيهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَـتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176 سَآءَ مَثَلا الْقَومُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَـتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ177 مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ178
التّفسير
في هذه الآيات إشارة لقصّة أُخرى من قصص بني إسرائيل، وهي تعد مثلا وأنموذجاً لجميع أُولئك الذين يتصفون بمثل هذه الصفات.
وكما سنلاحظ خلال تفسير الآيات ـ محل البحث ـ فإنّ للمفسّرين احتمالات متعددة في الذي تتحدث عنه أو (عليه) الآيات ... إلاّ أنّه ممّا لا ريب
[294]
فيه أن مفهوم الآيات ـ كسائر الآيات النازلة في ظروف خاصّة ـ عامٌ وشامل.
والآية الأُولى من هذه الآيات يُخاطَبُ بها النّبيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول القرآن الكريم(واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين).
فهذه الآية واضحة أنّها تحكي قصّة رجل كان في البداية في صف المؤمنين، وحاملا للعلوم الإِلهية والآيات، إلاّ أنّه إنحرف عن هذا النهج، فوسوس له الشيطان، فكانت عاقبة أمره أن انجرّ إلى الضلال والشقاء!...
والتعبير بـ "إنسلخ" وهو من مادة "الإنسلاخ" معناه في الأصل الخروج من الجلد... يدلّ على أن الآيات والعلوم الإِلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن، إلاّ أنّه خرج منها على حين غرّة واستدار إلى الوراء وغيّر مسيره بسرعة!
كما أنّ التعبير القرآني "فأتبعه الشيطان" يستفاد منه أنّ الشيطان كان أوّل الأمر آيساً منه تقريباً، لأنّه كان يسلك سبيل الحق تماماً، وبعد أن انحرف لحقه الشيطان وتربص له وأخذ يوسوس له حتى انتهى أمره إلى أن يكون من الضالين المنحرفين الأشقياء(1).
والآية التّالية تكمل هذا الموضوع على النحو التّالي (ولو شئنا لرفعناه بها).
إلاّ أن من المسلّم أنّ إكراه الناس وإجبارهم على أن يسلكوا سبيل الحق لا ينسجم والسنن الإلهية وحرية الإِدارة، ولا يكون ذلك دليلا على عظمة الشخص، لهذا فإنّ الآية تضيف مباشرة. إنّنا تركناه وهواه، وبدلا من أن ينتفع من معارفه فإنّه هوى وانحطّ (ولكنّه أخلد إلى الأرض واتبع هواه).
وكلمة (أخلد) من (الإِخلاد) وهي تعني السكن الدائم في مكان واحد مع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تبع واتبع بمعنى لحق أو أدرك.
[295]
حرية الإِرادة، فجملة (أخلد إلى الأرض) تعني اللصوق الدائم بالأرض، وهي كناية عن عالم المادة وبهارجها، واللذائذ غير المشروعة للحياة المادية.
ثمّ تشبّه الآية هذا الفرد بالكلب الذي يُخرج لسانه لاهثاً دائماً كالحيوانات العطاشى فتقول (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث).
فهو لفرط اتّباعه الهوى وتعلقه بعالم المادة انتابته حالة من التعطش الشديد غير المحدود وراء لذائذ الدنيا، وكل ذلك لم يكن لحاجة، بل لحالة مرضيّة، فهو كالكلب المسعور الذي يظهر بحالة عطش كاذب لا يمكن إرواؤها وهي حالة عبيد الذين لا يهمهم غير جمع المال واكتناز الثروة فلا يحسون معه بشبع أبداً.
ثمّ تضيف الآية: إنّ هذا المثال الخاص لا يتعلق بفرد معين، بل: (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون).
العالِم المنحرف "بلعم بن باعوراء":
كما لاحظنا أنّ الآيات السالِفة لم تذكر اسم أحد بعينه، بل تحدثت عن عالم كان يسير في طريق الحق ابتداءً وبشكل لا يفكر معه أحد بأنّه سينحرف يوماً، إلاّ أنّه نتيجةً لإتّباعه لهوى النفس وبهارج الدنيا انتهى إلى السقوط في جماعة الضالين وأتباع الشياطين.
غير أنّنا نستفيد من أغلب الرّوايات وأحاديث المفسّرين أن هذا الشخص يسمّى (بعلم بن باعوراء) الذي عاصر النّبي موسى(عليه السلام) وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل، حتى أن موسى(عليه السلام) كان يعوّل عليه على أنّه داعية مقتدر، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجاباً لدى الباري جل وعلا، لكنّه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذ في جبهة
[296]
أعداء موسى(عليه السلام)(1).
إلاّ أننا نستبعد ما يحتمله بعضهم من أن المقصود هو (أمية بن الصلت) الشاعر المعروف في زمان الجاهلية، الذي كان باديء أمره ونتيجة لإطلاعه على الكتب السماوية ينتظر نبي آخر الزمان، ثمّ حصل له هاجس أن النّبي قد يكون هو نفسه، ولذلك بعد أن بُعث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أصابه الحسد له وعاداه.
وبعيد كذلك ما إحتمله بعضهم من أنّه كان (أبا عامر) الراهب المعروف في الجاهلية، الذي كان يبشر الناس بظهور رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّه بعد ظهوره صار من أعدائه. لأنّ جملة (واتل) وكلمة (نبأ) وجملة (فاقصص القصص) تدل على أنّ تلك الأُمور لا تتعلق بأشخاص عاصروا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم). بل بأقوام سابقين، مضافاً إلى تلك فإنّ سورة الأعراف من السور المكية وقضيتا ]أبي عامر الراهب[ و]أمية بن الصلت[ تتعلقان بحواث المدينة.
ولكن بما أن أشخاصاً على غرار "بلعم" كانوا موجودين في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كـ (أبي عامر) و(أمية بن الصلت) فإنّ الآيات محل البحث تنطبق على هذه الموارد في كل عصر وزمان، وإلاّ فإنّ مورد القصّة هو "بلعم بن باعوراء" لاغير.
وقد نقل تفسير (المنار) عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل كأُمية بن أبي الصلت في هذه الأُمّة.
وورد عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: "الأصل من ذلك بلعم، ثمّ ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هوى الله من أهل القبلة".
ومن هذا يتبيّن أن الخطر الاكيد الذي يهدد المجتمعات الإِنسانية هو خطر المثقفين والعلماء الذين يسخّرون معارفهم للفراعنة والجبارين لأجل أهوائهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في التوراة الحالية نجد ورود قضية "بلعم بن باعوراء" أيضاً، إلاّ أنّ التوراة تبرئه في النهاية من الإِنحراف، يراجع بذلك سفر الأعداد الباب 22.
[297]
وميولهم الدنيوية (والإِخلاد إلى الأرض) ويضعون كل طاقاتهم الفكرية في سبيل الطاغوت الذي يعمل ما في وسعه لإِستغلال مثل هذه الشخصيات لإغفال وإضلال عامّة الناس.
ولا يختص الأمر بزمن النّبي موسى(عليه السلام) أو غيره من الأنبياء، بل حتى بعد عصرالنّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا نجد أمثال بلعم بن باعوراء وأبي عامر الراهب وأمية بن الصلت، يضعون علومهم ومعارفهم ونفوذهم الإِجتماعي من أجل الدرهم والدينار، أو المقام، أو لأجل الحسد، تحت إختيار المنافقين وأعداء الحق والفراعنة أمثال بني أمية وبني العباس وسائر الطواغيت.
ويمكن معرفة أُولئك العلماء من خلال أوصاف أشارت إليها الآيات محل البحث، فإنّهم ممن نسي ربّه واتبع هواه، وهم ذوو نزوات سخروها للرذيلة بدل التوجه نحو الله وخدمة خلقه، وبسبب هذا التسافل فقدوا كل شيء ووقعوا تحت سلطة الشيطان ووساوسِه، فسهل بيعهم وشراؤهم، وهم كالكلاب المسعورة التي لا ترتوي أبداً، ولهذه الأُمور ترك هؤلاء سبيل الحقيقة وضلوا عن الطريق حتى غدوا أئمّة الضلال.
ويجب على المؤمنين معرفة مثل هؤلاء الأشخاص والحذر منهم وإجتنابهم.
والآيتان التاليتان ـ كنتيجة عامّة وشاملة لقضية ـ (بلعم) والعلماء الدنيويين فتقول أُولاهما (ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون).
فما أفحش ظلم الإنسان لنفسه وهو يسخّر ملكاته المعنوية وعلومه النافعة التي بإمكانها أن تعود عليه وعلى مجتمعه بالخير ـ ويضعها تحت إختيار المستكبرين وأصحاب القدرة الدنيوية ويبيعها بثمن بخس فيؤدي ذلك إلى سقوطه وسقوط المجتمع والآية الاخيرة تحذّر الإنسان وتؤكّد له أن الخلاص من مثل هذا الإِنحراف وما يكيده الشياطين لا يمكن إلاّ بتوفيق وتسديد من الله
[298]
عزوجل (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأُولئك هم الخاسرون).
وتقدم كرّات بأنّ (الهداية) و(الإِضلال) الإِلهيين لا يعدان إجباراً ولا بدون حساب أو دليل، ويقصد بهما إعداد الأرضية للهداية وفتح سبلها أو إيصادها، وذلك بسبب الأعمال الصالحة أو الطالِحة التي صدرت من الإِنسان من قبْل، وعلى أية حال فالتصميم النهائي بيد الإِنسان نفسه...
فبناءً على هذا فإنّ الآية محل البحث تنسجم مع الآيات المتقدمة التي تذهب إلى أصل حرية الإِرادة... ولا منافاة بين هذه الآية وتلكم الآيات بتاتاً...
* * *
[299]
الآيات
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرَاً مِّنَ الجِنِّ وَالاِْنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاَذانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُولَئِكَ كَالاْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَـئِكَ هُمُ الْغَـفِلُونَ 179 وَللهِ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أسْمَـئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون 180 وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون181
التّفسير
علائم أهل النّار:
هذه الآيات تكمل الموضوع الذي تناولته الآيات المتقدمة حول العلماء الذين ركنوا إلى الدنيا، وعوامل الهداية والضلال. والآيات ـ محل البحث ـ تقسم الناس إلى مجموعتين... وتحكي عن صفاتهما وهما أهل النّار، وأهل الجنّة.
فتتحدث عن المجموعة الأُولى ـ أهل النّار أوّلا، فتأتي بالقسم والتوكيد فتقول (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإِنس).
وكلمة "ذرأنا" مشتقّة من "ذَرَأَ"، وتعني هنا الإِيجاد والخلق، غير أنّها في
[300]
أصل اللغة تعني نشر الشيء وتفريقه، وقد وردت بهذا المعنى "الثّاني" في القرآن أيضاً، كما في عبارة (تذروه الرّياح)(1).
ولأنّ خلق الكائنات يستلزم تفريقها وتوزيعها وانتشارها على وجه الأرض، فقد جاءت هذه الكلمة بمعنى خلق "المخلوق" أيضاً:
وعلى كل حال، فإنّ الإشكال المهم في هذا التعبير هو كيف قال الله سبحانه (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس)؟ في حين قال في مكان آخر (وما خلقت الجن والإِنس إلاّ ليعبدون)(2) وطبقاً لمعنى هذه الآية فإنّ الجن والإنس لم يخلقوا لغير عبادة الله والرقي والتكامل والسعادة، أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير تُشمّ منه رائحة الجبر في الخلق، ومن هنا فقد استدل بعض مؤيدي مدرسة الجبر من أمثال الفخر الرازي بهذه الآية لإثبات مذهبه.
لكنّنا لو ضممنا آيات القرآن بعضها إلى بعض وبحثناها موضوعيّاً دون أن نُبتلى بالسطحيّة، لوجدنا الجواب على هذا السؤال كامناً في الآية محل البحث ذاتها، كما هو بيّن في آيات أُخرى من القرآن الكريم أيضاً ... بحيث لا يدع مجالا لأنّ تُستغل الآية ليُساء فهمها لدى بعض الأفراد. مثلُ هذا التعبير كمثل قول النجار إذ يقول مثلا: إنّ قسماً كبيراً من هذا الخشب وقد هيأته لكي أصنع منه أبواباً جميلة، والقسم الآخر هو للإحراق والإضرام... فالخشب الرائق الجيّد المناسب سأستعمله للقسم الأوّل، وأمّا الخشب الرديء غير المناسب فسأدعه للقسم الثّاني.
ففي الحقيقة أنّ للنجار هدفين: هدفاً "أصيلا" وهدفاً (تبعيّاً).
فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب والأُطر الخشبيّة الجيّدة وما إلى ذلك، وهو يبذل قصارى جهده وسعيه في هذا المضمار...
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكهف، 45.
2 ـ سورة الذاريات: 56.
[301]
إلاّ أنّه حين يجد أنّ بعض الخشب لا ينفعه شيئاً، فسيكون مضطراً إلى نبذه ليكون حَطباً للحرق والإشعال، فهذا الهدف "تبعيّ" لا أصلي.
والفرق الوحيد بين هذا المثال وما نحن فيه، أنّ الإختلاف بين أجزاء الخشب ليس اختياراً، واختلاف الناس له صلة وثيقة بأعمالهم أنفسهم، وهم مختارون وإرادتهم حرّة بإزاء أعمالهم.
وخير شاهد على هذا الكلام ما جاء من صفات لأهل النّار وصفات لأهل الجنّة في الآيات محل البحث، التي تدل على أنّ الأعمال هي نفسها أساس هذا التقسيم، إذ كان فريق منهم في الجنّة، وفريق في السعير.
وتعبير آخر فإنّ الله سبحانه ـ ووفقاً لصريح آيات القرآن المختلفة ـ خلق الناس جميعهم على نسق واحد طاهرين، ووفّر لهم أسباب السعادة والتكامل، إلاّ أنّ قسماً منهم إختاروا بأعمالهم جهنم فكانوا من أهلها فكان عاقبة أمرهم خُسراً ... وأن قسماً منهم إختاروا بأعمالهم الجنّة وكان عاقبة أمرهم السعادة....
ثمّ يلخّص القرآن صفات أهل النّار في ثلاث جمل، إذ تقول الآية: (لهم قلوب لا يفقهون بها)...
وقد قلنا مراراً: إنّ التعبير بـ "القلب" في مصطلح القرآن يعني الفكر والروح وقوّة العقل، أي أنّهم بالرّغم ممّا لديهم من استعداد للتفكير، وأنّهم ليسوا كالبهائم فاقدي الشعور والإِدراك، إلاّ أنّهم في الوقت ذاته لا يفكرون في عاقبتهم ولا يستغلون تفكيرهم ليبلغوا السعادة.
والصفة الثّانية التي ذكرتها الآية لأهل النّار (ولهم أعين لا يبصرون بها).
والصفة الثّالثة الواردة في حقهم (ولهم آذان لا يسمعون بها أُولئك كالأنعام بل هم أضل).
لأنّ البهائم والأنعام لا تملك هذه الإِستعدادات والإِمكانات، إلاّ أنّهم بما لديهم من عقل سالم وعين باصرة وأذن سامعة، بإمكانهم أن يبلغوا كل مراتب
[302]
الرقي والتكامل، إلاّ أنّهم نتيجةً لإتباعهم هواهم ورغبتهم ـ بكل هذه التوافه من الأُمور تركوا هذه الإِستعدادات جانباً ... وكان شقاؤهم كبيراً لهذا السبب: (أُولئك هم الغافلون).
فالمعين الذي يحييهم ويروي ظمأهم موجود إلى جانبهم وهم على مقربة منه، إلاّ أنّهم يتصارخون من الظمأ. وأبواب السعادة مفتحة أمامهم لكنّهم لا يلتفتون إليها.
ويتّضح ممّا ذكرناه أنفاً أنّهم إختاروا بأنفسهم سُبلَ شقائهم وهدروا النعم الكبرى "العقل والعين والأذن ..." لا أنّ الله أجبرهم على أن يكونوا من أهل النّار.
لماذا هم كالأنعام؟
لقد شبّه القرآن الكريم الجاهلين الغافلين عديمي الشعور بالأنعام والبهائم مراراً، إلاّ أن تشبيه القرآن هؤلاء بالأنعام لعلّه بسبب إنهماكهم باللذائذ والشهوات الجنسية والنوم فحسب، فهم كالأُمم التي تحلم في الوصول إلى حياة مادية مرفهة تحت شعارات برّاقة تخدع الإِنسان بأنّ آخر هدف للعدالة الإِجتماعية والقوانين البشرية هو الحصول على الخبز والماء...
وكما يشبهها الإِمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة قائلا: "كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها"(1).
وبتعبير آخر: إنّ جماعة منهم تنعم بالرفاه كالأغنام المربوطة التي تُدجن لتسمن، وجماعة آخرين كالغنم السائمة الباحثة عن العلف والماء في الصحراء، إلاّ أن هدف كل منهما هو ما يشبع البطن ليس إلاّ!.
وهذا الذي ذكرناه أنفاً قد يصدق على شخص معين كما قد يصدق أُمّة كاملة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، من كتاب له و 24 رقم 45.
[303]
برمّتها، فالأُمم التي لا تفكر بنفسها وتتلّهى بالأُمور التافهة غير الصائبة، ولا تعالج جذور شقائها ولا تطمح لأسباب الرقّي، ليس لها آذان سامعة ولا أعين باصرة، فهي من أهل النّار أيضاً، لا نار القيامة فحسب، بل هي مبتلاة بنار الدنيا وشقائها كذلك.
وفي الآية التّالية إشارة إلى حال أهل الجنّة وبيان لصفاتهم، فتبدأ الآية بدعوة الناس إلى التدبّر والتوجّه إلى أسماء الله الحسنى كمقدمة للخروج من صف أهل النّار، فتقول: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها).
والمرد من "أسماء الله الحسنى" هي صفات الله المختلفة التي هي حُسنى جميعاً، فنحن نعرف أنّ الله عالم قادر رازق عادل جواد كريم رحيم، كما أنّ له صفات أُخرى حسنى من هذا القبيل أيضاً.
فالمراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى، ليس هو ذكر هذه الألفاظ وجريانها على اللسان فحسب، كأن نقول مثلا: يا عالم يا قادر يا أرحم الراحمين. بل ينبغي أن نتمثّلَ هذه الصفات في وجودنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن يشع إشراق من علمه وشعاع من قدرته وجانب من رحمته الواسعة فينا وفي مجتمعنا.
وبتعبير آخر: ينبغي أن نتّصف بصفاته ونتخلّق بأخلاقه، لنستطيع بهذا الشعاع، شعاع العلم والقدرة والرحمة والعدل أن نخرج أنفسنا ومجتمعنا الذي نعيش فيه من سلك أهل النّار...
ثمّ تحذر الآية من هذا الأمر، وهو أن لا تُحرّف أسماؤه فتقول: (وذروا الذين يُلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون).
والإلحاد ـ في الأصل ـ مأخوذ من مادة "اللَّحْد" على زنة "المَهْد" التي تعني الحفرة التي تقع في طرف واحد، وعلى هذا الأساس فقد سمّيت الحفرة التي تكون في جانب القبر "لحداً".
ثمّ أُطلق هذا الإِستعمال "الإِلحاد" على كل عمل ينحرف عن الحدّ الوسط
[304]
نحو الإِفراط أو التفريط، ولذلك فقد سمّي الشرك وعبادة الأوثان إلحاداً أيضاً.
والمقصود من الإِلحاد في أسماء الله هو أن نحرف ألفاظها أو مفاهيمها. بحيث نصفه بصفات لا تليق بساحته المقدسة، كما يصفه المسيحيون بالتثليث "الله والابن وروح القدس" أو أن نطبّق صفاته على المخلوقين كما فعل ذلك المشركون وعبدة الأوثان إذ اشتقوا لأصنامهم أسماءً من أسماء الله فسمّوها... اللات والعزّى ومناة ..(وغيرها) فهذه الأسماء مشتقّة من الله والعزيز والمنان "على التوالي".
أو أنّهم حرفوا صفاته حتى شبّهوه بالمخلوقات، أو عطلوا صفاته، وما إلى ذلك.
أو أنّهم اكتفوا بذكر الإسم فحسب دون أن يتمثلوه ويعرفوا آثاره في أنفسهم وفي مجتمعاتهم.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى صفتين من أبرز صفات أهل الجنّة، إذ تقول الآية: (وممن خلقنا أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون).
وفي الواقع، إنّ لأهل الجنّة منهجين ممتازين فأفكارهم وأهدافهم ودعواتهم وثقافاتهم حقّة، وهي في اتجاه الحق أيضاً، كما أنّ أعمالهم وخططهم وحكوماتهم قائمة على أساس الحق والحقيقة.
* * *
بحوث
1 ـ ما هي الأسماء الحسنى؟
في كتب الأحاديث "لأهل السنة والشيعة" أبحاث كثيرة عن أسماء الله الحسنى، نورد خلاصتها في هذا المجال مضافاً إليها ما نعتقده نحن في هذا الصدد.
[305]
لا شك أنّ الأسماء الحسنى تعني الأسماء الكريمة، ونحن نعرف أن أسماء الله كلّها تحمل مفاهيم حُسنى، ولذلك فجميع أسمائه أسماءُ حسنى، سواءً كانت صفات لذاته المقدّسة الثبوتية كالعلم والقادر، أم كانت صفات سلبية كالقُدّوس مثلا، أو صفات تحكي فعلا من أفعاله كالخالق أو الغفور أو الرحمان أو الرحيم الخ...
ومن ناحية أُخرى، لا شك أنّ صفات الله لا يمكن إحصاؤها، لأنّ كمالاته غير متناهية، ويمكن أن يذكر لكل صفة من صفاته أو كمال من كمالاته اسم...
إلاّ أن ما نستفيده من الأحاديث أنّ لبعض صفاته أهمية أكثر من سواها، ولعل "الأسماء الحسنى" الواردة من الآية في الآية محل البحث إشارة إلى هذه الطائفة من الأسماء المتميّزة، إذ ورد عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) من أهل بيته روايات كثيرة بهذا المعنى كالرواية الواردة في كتاب التوحيد "للصّدوق" عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق، عن آبائه(عليهم السلام)، عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أنّه قال: "قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ لله تبارك وتعالى تسعةً وتسعين إسماً ـ مئة إلاّ واحدة ـ من أحصاها دخل الجنّة "(1).
كما ورد في كتاب التوحيد عن الإِمام علي بن موسى الرّضا(عليه السلام) عن آبائه عن علي(عليه السلام) أنّه قال: "إنّ لله عزوجل تسعة وتسعين إسماً من دعا الله بها استجاب له ومن أحصاها دخل الجنّة"(2).
وقد جاء في كتب أحاديث (أهل السنَّة) "كما في كتاب صحيح البخاري وصحيح مسلم ... والترمذي وكتب أُخرى" هذا المضمون ذاته: إنّ لله تسعة وتسعين إسماً فمن دعاء بها استجاب دعاءَه، ومن أحصاها فهو من أهل الجنّة(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الميزان، ومجمع البيان، ونور الثقلين، ذيل الآية.
2 ـ تفسير الميزان، ومجمع البيان، ونور الثقلين.
3 ـ المصدر السابق.
[306]
ويستفاد من بعض الأحاديث أن هذه الأسماء التسعة والتسعين كلها في القرآن، كالرّواية الواردة عن ابن عباس أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لله تسعة وتسعون إسماً من أحصاها دخل الجنّة، وهي في القرآن"(1).
ولذلك فقد سعى جماعة من العلماء إلى أن يستخرجوا أسماء الله الحسنى من القرآن، إلاّ أن ما جاء في القرآن من أسماء وصفات لله سبحانه تزيد على تسعة وتسعين إسماً، فبناءً على ذلك لعل الأسماء الحسنى من بين تلك الأسماء، لا أنّه لا يوجد في القرآن غير تسعة وتسعين اسماً لله المشار إليها آنفاً (في بعض الأحاديث)...
وقد صّرحت بعض هذه الرّوايات بالأسماء الحسنى "التسعة والتسعين"... ونحن نوردها هنا، إلاّ أنّه ينبغي الإِلتفات إلى أن بعض هذه الأسماء الواردة في هذه الرواية لم ترد في القرآن بالصيغة الواردة في الرواية ذاتها وإنّما ورد مضمونها أو مفهومها في القرآن.
فقد جاء في الرّواية المنقولة في كتاب "التوحيد" للصّدوق عن الإمام الصادق عن آبائه عن علي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فبعد أن أشار(عليه السلام) إلى أنّ لله تسعة وتسعين إسماً قال وهي: "الله، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأول، الآخر، السميع، البصير، القدير، القادر، العلي، الأعلى، الباقي، البديع، الباري، الأكرم، الباطن، الحي، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحق، الحسيب، الحميد، الحفي، الرب، الرحمن، الرحيم، الذاريء، الرازق، الرقيب، الرؤوف، الرائي، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، السيد، السبّوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الظاهر، العدل، العفو، الغفور، الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتاح، الفالق، القديم، الملك، القدوس، القوي، القريب، القيّوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
[307]
المجيد، المولى، المنان، المحيط، المبين، المغيث، المصوّر، الكريم، الكبير، الكافي، كاشف الضر، الوتر، النور، الوهّاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البرّ، الباعث، التواب، الجليل، الجواد، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديان، الشكور، العظيم، اللطيف، الشافي"(1)
لكن الأهم ـ هنا ـ وينبغي ملاحظته والإِلتفات إليه، هو أنّ المراد من دعاء الله بأسمائه الحسنى هل يعني أن نعدّ هذه الأسماء أو أن نجريها على الألسنة فحسب، بحيث أن من ذكر هذه التسعة والتسعين إسماً دون أن يتمثل محتواها ويفهمها كان من السعداء، أو أنّه ستجاب دعوته. بل الهدف هو أن يؤمن الإِنسان بهذه الأسماء والصفات، ثمّ يسعى ـ ما استطاع إلى ذلك سبيلا ـ لأنّ يعكس في وجوده إشراقاً من مفاهيم تلك الأسماء، أي للعالم، القادر، الرحمان، الرحيم، الغفور، القوي، الغني، الرازق، وأمثالها. فإنّ كان كذلك كان من أهل الجنّة، وكان دعاؤه مستجاباً ونال كل خير قطعاً.
ويستفاد ضمناً ممّا ذكرناه آنفاً أنّه لو وردت في بعض الرّوايات الأُخرى والأدعية أسماء غير هذه الأسماء لله سبحانه، حتى لو وصلت إلى الألف ـ مثلا ـ فلا منافاة بينها وبين ما نقلناه هنا أبداً، لأنّ أسماء الله لا حد لها ولا حصر، وهي ـ كذاته وكمالاته ـ لا نهاية لها. وإن كان لبعض هذه الأسماء أو الصفات ميزات خاصّة.
من ذلك الرواية الواردة في أُصول الكافي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية، إذ يقول: "نحن والله الأسماء الحسنى"(2) فهي إشار إلى أن إشعاعاً من صفاته قد انعكس فينا، فمن عرفنا فقد عرف ذاته المقدسة...
أو أنّه لو ورد مثلا في بعض الأحايث أنّ جميع الأسماء الحسنى تتلخص في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الميزان، ج8، ص 376، نقلا عن التوحيد للصدوق.
2 ـ نور الثقلين، ج2، ص 103.
[308]
التوحيد الخالص، فإنّما هو لأن جميع صفاته ترجع إلى ذاته المقدسة.
ويشير الفخر الرازي في تفسيره إلى أمر قابل للملاحظة، وهو أنّ جميع صفات الله تعالى يعود إلى إحدى حقيقتين "إستغناء ذاته عن كل شيء" أو "احتياج الآخرين إلى ذاته المقدسة..."(1).
2 ـ الأُمّةُ الهُداة!
قرأنا في الآيات محل البحث أنّ طائفة من عباد الله يدعون نحو الحق ويحكمون به (وممن خلقنا أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون).
هناك تعبيرات مختلفة في الرّوايات الواردة في كتب الأحاديث الإِسلامية، في المراد من هذه الأمّة. ومن جملة هذه الرّوايات ما ورد عن أميرالمؤمنين أنّه قال(عليه السلام). المراد من الآية هو "أمّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)"(2).
ويعني الإِمام بهم أتباع النّبي الصادقين المنزّهين عن كل بدعة وانحراف و تغيير أو حياد من تعاليمه الكريمة...
ولهذا فقد ورد في حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "والذي نفسي بيده لتَفرقنَ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ فرقة (وممن خلقنا أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون)، وهذه التي تنجو من هذه الأُمّة".
ولعل العدد ـ 73 ـ للكثرة، وهو إشارة إلى الطوائف المختلفة التي ظهرت في طول تاريخ الإسلام في عقائد عجيبة غريبة، ولحسن الحظ قد انقرض أغلبها فلم يبق منها إلاّ أسماؤها في كتب "تاريخ العقائد".
وفي حديث آخر ورد في كتب أهل السنة عن الإِمام علي(عليه السلام) ضمن إشارته لإختلاف الأُمم التي تظهر بعدئذ في الأُمّة الإِسلامية، أن قال(عليه السلام) "الفرقة الناجية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 15، ص 66.
2 ـ نورالثقلين، ج2، ص 105.
[309]
أنا وشيعتي وأتباع مذهبي"(1).
وجاء في بعض الرّوايات الأُخرى أنّ المراد من قول تعالى: (وممن خلقنا أُمّة يهدون بالحق)، هم الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)"(2).
وواضح أنّ الرّوايات المذكورة أنفاً كلّها تعالج حقيقةً واحدة، وهي بيان للمصاديق المختلفة لهذه الحقيقة، وهي أن الآية تشير إلى أُمّة تدعو إلى الحق وتعمل بالحق وتحكم به، وتسير في مسير الإِسلام الصحيح. غاية ما في الأمر أنّ بعضهم في قمة هذه الأُمّة ورأسها وبعضهم في مراحل أُخر...
وممّا يسترعي النظر أنّ هؤلاء الذين عبّرت عنهم الآية بقولها (وممن خلقنا أُمّة يهدون) على اختلاف لغاتهم وقوميّاتهم ومراحلهم العلمية وأمثالها، هم أُمّة واحدة لا غير، ولذلك فإنّ القرآن قال عنهم: (أُمّة يهدون بالحق وبه يعدلون)ولم يعبر عنهم بـ "أُمم يهدون إلخ ...".
3 ـ اسم الله الأعظم
جاء في بعض الرّوايات عن قصة بلعم بن باعورا الذي ورد ذكره ـ آنفاً ـ أنّه كان يعرف الإسم الأعظم، ولا بأس أن نشير إلى هذا الموضوع لمناسبة وُرود الأسماء الحُسنَى في الآيات محل البحث...
فقد وردت روايات مختلفة في شأن الإِسم الأعظم، ويستفاد منها أن من يعرف الإِسم الأعظم لا يكون مستجاب الدعاء فحسب، بل تكون له القدرة على أن يتصرف في عالم الطبيعة وأن يقوم بأعمال مهمّة...
والإسم الأعظم، أيُّ اسم هو من أسماء الله؟!
بحث علماء الإسلام كثيراً في هذا الشأن، وأغلب أبحاثهم تدور في أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، ج2، ص 53.
2 ـ نور الثقلين، ج2، ص 104 ـ 105.
[310]
يعثروا على اسم من بين أسماء الله له هذه الخصوصيّة العجيبة والأثر الكبير.
إلاّ أن الأهم في البحث أن نعثر على اسم أو صفة من صفاته تعالى بتطبيقها على وجودنا نحصل على تكامل روحي تترتب عليه تلك الآثار.
وبتعبير آخر: إنّ المسألة المهمّة هي التخلق بصفات الله والإِتصاف بها ووجودها في الإِنسان، وإلاّ كيف يمكن أن يكون الشخص الرديء الوضيع مستجاب الدعوة بمجرّد معرفته الإِسم الأعظم؟!
وإذا ما سمعنا أنّ بلعمَ بن باعوراء كان لديه هذا الإِسم الأعظم إلاّ أنّه فقده، فمفهوم هذا الكلام أنّه كان قد بلغ ـ بسبب بناء شخصيته وإيمانه وعلمه وتقواه ـ إلى مثل هذه المرحلة من التكامل المعنوي، بحيث كان مستجاب الدعوة عند الله، إلاّ أنّه سقط أخيراً في الوحل، فقد تلك الروحية بسبب اتباعه لهوى النفس وإنقياده لفراعنة زمانه، ولعل المراد من نسيان الإِسم الأعظم هو هذه الحالة أو هذا المعنى.
كما أنّنا لو قرأنا ـ أيضاً ـ أن الأنبياء والأئمّة الكرام كانوا يعرفون الإِسم الأعظم، فمهفوم هذا الكلام هو أنّهم جسّدوا اسم الله الأعظم في وجودهم، واستضاءوا بشعاعه، فأولاهم الله ـ بهذه الحال ـ مثل هذا المقامِ العظيمِ.
* * *
[311]
الآيتان
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَـتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ182 وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ183
التّفسير
الإِستدراج!...
تعقيباً على البحث السابق الذي عالجته الآيات المتقدمة ـ والذي يبيّن حال أهل النّار، تبيّن هاتان الآيتان واحدةً من سنن الله في شأن كثير من عباده المجرمين المعاندين، وهي ما عبّر عنها القرآن "بعذاب الإستدراج".
والإِستدراج جاء في موطنين من القرآن: أحدهما في الآيتين محل البحث، والآخر في الآية (44) من سورة القلم، وكلا الموطنين يتعلقان بمكذّبي آيات الله ومنكر بها.
وكما يقول أهل اللغة، فإنّ للإِستدراج معنيين:
أحدهما: أخذ الشيء تدريجاً، لأنّ أصل الإِستدراج مشتق من (الدرجة) فكما أنّ الإِنسان ينزل من أعلى العمارة إلى أسفلها بالسلالم درجةً درجة، أو يصعد من الأسفل إلى الأعلى درجةً درجة ومرحلة مرحلة، فقد سمي هذا الأمر
[312]
استدراجاً.
والمعنى الثّاني للإِستدراج هو، اللّف والطّي، كطي السّجل أو "الطومار" ولفّه. وهذان المعنيان أوردهما الراغب في مفرداته، إلاّ أنّ التأمل بدقّة في المعنيين يكشف أنّهما يرجعان إلى مفهوم كلي جامع واحد: وهو العمل التدريجي.
وبعد أن عرفنا معنى الإِستدراج نعود إلى تفسير الآية محل البحث.
يقول سبحانه في الآية الأُولى: (والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون).
أي سنعذبهم بالإِستدراج شيئاً فشيئاً، ونطوي حياتهم.
والآية الثّانية تؤكّد الموضوع ذاته، وتشير بأنّ الله لا يتعجل بالعذاب عليهم، بل يمهلهم لعلهم يحذرون ويتعظون، فإذا لم ينتبهوا من نومتهم ابتلوا بعذاب الله; فتقول الآية (واُملي لهم).
لأنّ الإِستعجال يتذرع به من يخاف الفوت، والله قوي ولا يفلت من قبضته أحد (إنّ كيدي متين).
و "المتين" معناه القوي المحكم الشديد، وأصله مأخوذ من المتن، وهو العضلة المحكمة التي تقع في جانب الكتف (في الظهر).
و"الكيد" والمكر متساويان في المعنى، وكما ذكرنا في ذيل الآية (54) من سورة آل عمران، أنّ المكر يعني في أصل اللغة الإِحتيال ومنع الآخر من الوصول إلى قصده.
ويستفاد من الآية ـ آنفة الذكر وآيات أُخرى وبعض الأحاديث الشريفة الواردة ـ في شأن الإِستدراج، أو العذاب الإِستدراجي، أنّ الله لا يتعجل بالعذاب على الطغاة والعاصين المتجرئين وفقاً لسنته في عباده، بل يفتح عليهم أبواب النعم. فكلّما ازدادوا طغياناً زادهم نعماً.
[313]
وهذا الأمر لا يخلو من إحدى حالتين، فإمّا أن تكون هذه النعم مدعاة للتنبيه والإيقاظ فتكون الهداية الإِلهية في هذه الحال عملية.
أو أنّ هذه النعم تزيدهم غروراً وجهلا، فعندئذ يكون عقاب الله لهم في آخر مرحلة أوجع، لأنّهم حين يغرقون في نعم الله وملذاتهم ويبطرون، فإنّ الله سبحانه يسلب عندئذ هذه النعم منهم، ويطوي سجل حياتهم، فيكون هذا العقاب صارماً وشديداً جدّاً...
وهذا المعنى بجميع خصوصياته لا يحمله لفظ الإستدراج وحده، بل يستفاد هذا المعنى يفيدِ (من حيث لا يعلمون) أيضاً.
وعلى كل حال، فهذه الآية تنذر جميع المجرمين والمذنبين بأنّ تأخير الجزاء من قبل الله لا يعني صحة أعمالهم أو طهارتهم، ولا عجزاً وضعفاً من الله، وأن لا يحسبوا أنّ النعم التي غرقوا فيها هي دليل على قربهم من الله، فما أقرب من أن تكون هذه النعم والإنتصارات مقدمة لعقاب الإستدراج. فالله سبحانه يغشيّهم بالنعم ويمهلهم ويرفعهم عالياً، إلاّ أنّه يكبسهم على الأرض فجأة حتى لا يبقى منهم أثر، ويطوي بذلك وجودهم وتأريخ حياتهم كله.
يقول الإمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه "من وسّع عليه في ذات يده فلم يَرَ ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً"(1).
كما جاء عنه(عليه السلام) في روضة الكافي أنّه قال: "ثمّ إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إلى أن قال ـ يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن فلا يطمئن جالساً حتى يخرج من الدين، ينتقل من دين ملك إلى دين ملك، ومن ولاية إلى ولاية ملك، ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك، ومن عهود ملك إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 106.
[314]
عهود ملك، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون"(1).
ويقول الإمام الصادق(عليه السلام): "كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه، وكم من مستدرج يستر الله عليه، وكم من مفتون بثناء الناس عليه"(2).
وجاء عنه(عليه السلام) في تفسير الآية المشار إليها آنفاً أنّه قال: "هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه، تلهيه تلك النعمة عن الإستغفار عن ذلك الذنب"(3).
وورد عنه(عليه السلام) في كتاب الكافي أيضاً: "إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكره الإِستغفار، وإذا أراد بعبد شرّاً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الإِستغفار، ويتمادى بها، وهو قوله عزّوجل: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون)بالنعم عند المعاصي"(4).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 106.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 53.
[315]
الآيات
أَو لَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمِ مِّن جِنَّة إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ184 أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيء وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَىِّ حَدِيثِ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 185 مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـنِهِمْ يَعْمَهُونَ186
سبب النّزول
روى المفسّرون أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حين كان بمكّة، صعد ذات ليلة على جبل الصفا ودعا الناس إلى توحيد الله، وخاصّة قبائل قريش، وحذرهم من عذاب الله، وقال: "إِنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا، لا إله إلاّ الله تفلحوا" فقال المشركون: إنّ صاحبهم قد جُنّ، بات ليلا يصوت حتى الصباح، فنزلت الآيات وألجمتهم وردت قولهم.
ورغم أنّ الآية لها شأن خاص، إلاّ أنّها في الوقت ذاته لمّا كانت تدعو إلى معرفة النّبي وهدف الخلق والتهيؤ للعالم الآخر، ففيها إرتباط وثيق بالمواضيع التي سبق بيانها في شأن أهل الجنّة وأهل النّار.
[316]
التّفسير
التُهم والأباطيل:
في الآية الأُولى من الآيات ـ محل البحث ـ يردُّ الله سبحانه على كلام المشركين الذي لا أساس له بزعمهم أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد جُنّ، فيقول سبحانه: (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنّة).(1)
وهذا التعبير يشير إلى أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن شخصاً مجهولا بينهم، وتعبيرهم بـ "الصاحب" يعني المحب والمسامر والصديق وما إلى ذلك. وكان النّبي معهم أكثر من أربعين عاماً يرون ذَهابه وإيابه وتفكيره وتدبيره دائماً وآثار النبوغ كانت باديةً عليه، فمثل هذا الإِنسان الذي كان يُعدّ من أبرز الوجوه والعقلاء قبل الدعوة إلى الله، كيف تلصق به مثل هذه التهمة بهذه السرعة؟! أمّا كان الأفضل أن يتفكروا ـ بدلا من إلصاق التهم به ـ أن يكون صادقاً في دعواه وهو مرسل من قبل الله سبحانه؟! كما عقب القرآن الكريم وبيّن ذلك بعد قوله أو لم يتفكروا؟ فقال: (إن هو إلاّ نذير مبين...)...
وفي الآية التّالية ـ استكمالا للموضوع آنف الذكر ـ دعاهم القرآن إلى النظر في عالم الملكوت، عالم السموات والأرض، إذ تقول الآية: (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء).
ليعلموا أنّ هذا العالم الواسع، عالم الخلق، عالم السموات والأرض، بنظامه الدقيق المحيّر المذهل لم يخلق عبثاً، وإنّما هناك هدف وراء خلقه. ودعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحقيقة، هي من أجل ذلك الهدف، وهو تكامل الإنسان وتربيته وارتقاؤه.
و"الملكوت" في الأصل مأخوذ من "الملك" ويعني الحكومة والمالكية،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الجنّة" كما يذهب إليه أصحاب اللغة معناها الجنون، ومعناها في الأصل: الحائل والمانع فكأنما يُلقى على العقل حائل عند الجنون.
[317]
والواو والتاء المزيدتان المردفتان به هما للتأكيد والمبالغة. ويُطلق هذا الإِستعمال على حكومة الله المطلقة التي لا حدّ لها ولا نهاية..
فالنظر إلى عالم الملكوت ونظامه الكبير الواسع المملوك لله سبحانه يقوّي الإِيمان بالله والإِيمان بالحق، كما أنّه يكشف عن وجود هدف مهم في هذا العالم الكبير المنتظم أيضاً. وفي الحالين يدعو الإِنسان إلى البحث عن ممثل الله ورَسول رحمته الذي يستطيع أن يطبق الهدف من الخلق في الأرض.
ثمّ تقول الآية معقبة ... لتنّبههم من نومة الغافلين (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون).
أي: أوّلا: ليس الأمر كما يتصورون، فأعمارهم لا تخلد والفرص تمر مرّ السحاب، ولا يدري أحد أهو باق إلى غد أم لا؟! فمع هذه الحال ليس من العقل التسويف وتأجيل عمل اليوم إلى غد.
ثانياً: إذ لم يكونوا ليؤمنوا بهذا القرآن العظيم الذي فيه ما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة الهادية إلى الإيمان بالله، فأي كتاب ينتظرونه خير من القرآن ليؤمنوا به؟ وهل يمكن أن يؤمنوا بكلام آخر ودعوة أُخرى غير هذه؟!
وكما نلاحظ فإنّ الآيات محل البحث تُوصد جميع سبل الفرار بوجه المشركين، فمن ناحية تدعوهم إلى أن يتفكروا في شخصيّة النّبي وعقله وسابق أعماله فيهم لئلا يتملّصوا من دعوته باتهامهم إيّاه بالجنون.
ومن ناحية أُخرى تدعوهم إلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، والهدف من خلقهما، وأنّهما لم يخلقا عبثاً.
ومن ناحية ثالثة تقول: (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) لئلا يسوّفوا قائلين اليوم وغداً وبعد غد الخ...
ومن ناحية رابعة تقول: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنّهم لن يؤمنوا بأي حديث آخر وأي كتاب آخر، إذ ليس فوق القرآن كتاب أبداً...
[318]
وأخيراً فإنّ الآية التالية، وهي آخر آية من الآيات محل البحث، تختتم الكلام بالقول (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون).
وكما ذكرنا مراراً فإن مثل هذه التعابير لا تشمل جميع الكفار والمجرمين، بل تختص بأُولئك الذين يقفون بوجه الحقائق معاندين ألدّاء، حتى كأنّما على أبصارهم غشاوة وفي سمعهم صمم وعلى قلوبهم طبع، فلا يجدون إلاّ أسدالا من الظلمات تحجب طريقهم. وكل ذلك هو نتيجة أعمالهم أنفسهم، وهو المقصود بالإضلال الإِلهي (من يضلل الله).
* * *
[319]
الآية
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى لاَ يُجَلِّيَها لِوَقْتَهآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَواتِ وَالاَْرْضِ لاَتَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغَتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنْ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ187
سبب النّزول
أيّان يومُ القيامة؟!
وفقاً لمّا ورد في بعض الرّوايات(1) فإنّ قريشاً أرسلت عدّة أنفار إلى نجران ليسألوا اليهود الساكنين فيها ـ إضافة إلى المسيحيين هناك ـ مسائل ملتوية ثمّ يلقوها على النّبي عند رجوعهم إليه، ظنّاً منهم أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سيعجز عن إجابتهم، ومن جملة هذه الأسئلة كان هذا السؤال: متى تقوم الساعة؟! فلما سألوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ذلك السؤال نزلت الآية محل البحث وأفحمتهم!(2)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، ج2، ص 54.
2 ـ يرى بعض المفسّرين كالمرحوم الطبرسي أن سبب النّزول هو في جماعة من اليهود الذين جاءوا النّبي وسألوه عن يوم القيامة، إلاّ أنّه لمّا كانت السورة نازلة في مكّة، ولم يكن بين النّبي واليهود فيها خصام وجدال، فهذا الموضوع مستبعد جدّاً.
[320]
التّفسير
مع أنّ هذه الآية ذات سبب خاص في النّزول ـ كما ذكروا ـ إلاّ أنّها في الوقت ذاته لها علاقة وثيقة بالآيات المتقدمة أيضاً، لأنّه قد وردت الإشارة إلى يوم القيامة ولزوم الإستعداد لمثل ذلك اليوم في الآيات السابقة. وبالطبع فإنّ موضوعاً كهذا يستدعي السؤال عن موعده وقيامه، ويستثير كثيراً من الناس أن يسألوه: أيّان يوم القيامة؟ لهذا فإنّ القرآن يقول: (يسألونك عن الساعة أيّان مرساها)؟!
وبالرغم من أنّ "الساعة" تعني زمان نهاية الدنيا، إلاّ أنّها في الغالب ـ أو دائماً كما ذهب البعض ـ تأتي بمعنى القيامة في القرآن الكريم، وخاصّة من بعض القرائن التي تكتنف الآية ـ محل البحث ـ إذ تؤكّد هذا الموضوع كجملة: متى تقوم الساعة؟ الواردة في شأن نزول الآية:
وكلمة "أيّان" تساوي "متى" وهما للسّؤال عن الزمان، والمرسى مصدر ميمي من الإِرساء، وهما بمعنى واحد، وهو ثبات الشيء أو وقوعه، لذلك يطلق على الحبل وصف "الراسي" فيقال: جبال راسيات، فبناءً على ذلك فإنّ "أيّان مرساها" تعني: في أي وقت تقع القيامة وتكون ثابتةً؟!
ثمّ تضيف الآية مخاطبة النّبي أن يردهم بصراحة قائلة: (قل إنّما علمها عند ربّي لا يجلّيها لوقتها إلاّ هو).
إلاّ أنّ الآية تذكر علامتين مجملتين، فتقول أوّلا: (ثقلت في السموات والأرض).
أية حادثة يمكن أن تكون أثقل من هذه، إذ تضطرب لهولها جميع الأجرام السماوية "قبيل القيامة" فتخمد الشمس ويُظلم القمر وتندثر النجوم، ويتكون
[321]
من بقاياها عالم جديد بثوب آخر!(1)
ثمّ إنّ قيام الساعة يكون على حين غرّة، وبدون مقدمات تدريجية، بل على شكل مفاجيء وانقلاب سريع.
ثمّ تقول الآية مرّة أُخرى: (يسألونك كأنّك حفىّ عنها)(2).
وتضيف الآية مخاطبة النّبي الكريم: (قل إنّما علمها عندالله ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
وربّما يسأل ـ أو يتساءل ـ بعض الناس: لِمَ كان علم الساعة خاصّاً بالله وذاته المقدسة، ولا يعلم بها حتى الأنبياء؟!
والجواب على ذلك: إن عدم معرفة الناس بوقوع يوم القيامة وزمانها "بضميمة كون القيامة لا تأتي إلاّ بغتة" ومع الإِلتفات إلى هول يوم القيامة وعظمتها، هذا الأمر يبعث على أن يتوقّع الناس وقوع يوم القيامة في أي وقت ويترقبوها باستمرار، ويكونوا على أهبة الإِستعداد والتهيؤ، لكي ينجوا من أهوالها. فعدم المعرفة هذا له أثر مثبت جلي في تربية النفوس والإِلتفات إلى المسؤولية واتقاء الذنوب.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قال بعض المفسّرين أنّ المراد من هذه الجملة هو أن معرفة القيامة أو علمها ثقيل على أهل الأرض والسماوات، إلاّ أنّ الحقّ هو التّفسير المذكور آنفاً "في المتن" لأنّ القول بحذف كلمتي العلم والأهل خلاف ظاهر الآية.
2 ـ الحفي في الأصل هو من يسأل عن الشيء بتتابع وإصرار، ولما كان الإصرار في السؤال باعثاً على زيادة العلم، فقد تستعمل هذه اللفظة على العالم كما هي هنا أيضاً.
[322]
الآية
قُل لاَّ أمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعاً وَ لاَ ضَرَّاً إلاّ مَا شَآءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوم يُؤْمِنُونَ188
سبب النّزول
روى بعض المفسّرين "كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان" أن أهل مكّة قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان لك إرتباط بالله، أفلا يطلعك الله على غلاء السلع أو زهادتها في المستقبل، لتهيء عن هذا الطريق ما فيه النفع والخير وتدفع عنك ما فيه الضرر والسوء; أو يطلعك الله على السَّنَة المُمْحِلَة "القَحط" أو العام المخصب العشب، فينتقل إلى الأَرض الخصيبة؟ فنزلت عندئذ الآية ـ محل البحث ـ وكانت جوابَ سؤالهم.
التّفسير
لا يعلم الغيب إلاّ الله:
بالرّغم من أنّ هذه الآية لها شأن خاص في نزولها، إلاّ أنّ إرتباطها بالآية
[323]
السابقة واضح، لأنّ الكلام كان في الآية السابقة على عدم علم أحد بقيام الساعة إلاّ الله، والكلام في هذه الآية على نفي علم الغيب عن العباد بصورة كلية.
ففي الجملة الأُولى من هذه الآية خطاب للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلاّ ما شاء الله).
ولا شك أنّ كل إنسان يستطيع أن ينفع نفسه، أو يدفع عنها الشر، ولكن على الرغم من هذه الحال فإنّ الآية ـ محل البحث، كما نلاحظ ـ تنفي هذه القدرة عن البشر نفياً مطلقاً. وذلك لأنّ الإنسان في أعماله ليس له قوّة من نفسه، بل القوّة والقدرة والإستطاعة كلّها من الله، وهو سبحانه الذي أودع فيه كل تلك القوّة والقدرة وما شاكلهما.
وبتعبير آخر: إن مالك جميع القوى والقدرات وذو الإِختيار المستقل ـ وبالذات ـ في عالم الوجود هو الله عزّوجلّ فحسب، والآخرون حتى الأنبياء والملائكة يكتسبون منه القدرة ويستمدون منه القوّة، وملكهم وقدرتهم هي بالغير لا بالذات...
وجملة "إلاّ ما يشاء الله" شاهد على هذا الموضوع أيضاً.
وفي كثير من آيات القرآن الأُخرى نرى نفي المالكية والنفع والضرر عن غير الله، ولذلك فقد نهت الآيات عن عبادة الأصنام وما سوى الله سبحانه ...
ونقرأ في الآيتين (3) و (4) من سورة الفرقان (واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخلَقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً) فكيف يملكون لغيرهم؟!
وهذه هي عقيدة المسلم، إذ لا يرى أحداً "بالذات" رازقاً ومالكاً وخالقاً وذا نفع أو ضرر إلاّ الله، ولذا فحين يتوجه المسلم إلى أحد طالباً منه شيئاً فهو يطلبه مع التفاته إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ ما عند ذلك الشخص فهو من الله (فتأمل بدقّة).
[324]
ويتّضح من هذا إنّ الذين يتذرعون بمثل هذه الآيات لنفي كل توسل بالأنبياء والأئمّة، ويعدون ذلك شركاً، في خطأ فاضح، حيث تصوروا بأنّ التوسل بالنّبي أو الإِمام مفهومه أن نعدّ النّبي أو الإِمام مستقلا بنفسه في قبال الله ـ والعياذ بالله ـ وأنّه يملك النفع والضرر أيضاً.
ولكن من يتوسل بالنّبي أو الإِمام مع الإِعتقاد بأنّه لا يملك شيئاً من نفسه، بل يطلبه من الله، أو أنّه يستشفع به إلى الله، فهذا الإِعتقاد هو التوحيد عينه والإِخلاص ذاته. وهو ما أشار إليه القرآن في الآية محل البحث بقوله: (إلاّ ما شاء الله) أو بقوله: (إلاّ بإذنه) في الآية (من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه).
فبناءً على ذلك فإنّ فريقين من الناس على خطأ في مسألة التوسل بالنّبي والأئمّة الطاهرين...
الفريق الأوّل: من يزعم أنّ النّبي أو الإمام له قدرة وقوة مستقلة بالذات في قبال الله، فهذا الإِعتقاد شرك بالله.
والفريق الآخر: من ينفي القدرة ـ بالغير ـ عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الطاهرين(عليهم السلام)، فهذا الإِعتقاد انحراف عن مفاد آيات القرآن الصريحة.
إذن: الحق هو أن النّبي والأئمّة يشفعون للمتوسل بهم بإذن الله وأمره، ويطلبون حل معضلته من الله.
وبعد بيان هذا الموضوع تشير الآية إلى مسألة مهمّة أُخرى ردّاً على سؤال جماعة منهم فتقول: (ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير وما مسّني السوء)(1).
لأنّ الذي يعرف أسرار الغيب يستطيع أن يختار ما هو في صالحه، وأن يجتنب عمّا يضرّه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في الحقيقة أن هناك حذفاً في الآية تقديره "لا أعلم الغيب" والجملة التي بعدها شاهدة على ذلك.
[325]
ثمّ تحكي الآية عن مقام النّبي الواقعي ورسالته، في جملة موجزة صريحة، فتقول على لسانه: (إن أنا إلاّ نذير وبشير لقوم يؤمنون).
* * *
ملاحظة
ألم يكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يعلم الغيب؟!
يحكم بعض السطحيين لدى قراءتهم لهذه الآية ـ وبدون الأخذ بنظر الإعتبار الآيات القرآنية الأخرى، بل حتى القرائن الموجودة في هذه الآية أيضاً ـ أنّ الآية آنفة الذكر دليل على نفي علم الغيب عن الأَنبياء نفياً مطلقاً...
مع أنّ الآية ـ محل البحث ـ تنفي علم الغيب المستقل وبالذات عن النّبي، كما أنّها تنفي القدرة على كل نفع وضرّ بصورة مستقلة. ونعرف أنّ كل إنسان يملك لنفسه وللآخرين النفع أو الضر.
فبناءً على ذلك فإنّ هذه الجملة المتقدمة شاهد واضح على أنّ الهدف ليس هو نفي مالكية النفع والضر أو نفي علم الغيب بصورة مطلقة، بل الهدف نفي الإِستقلال، وبتعبير آخر: إنّ النّبي لا يعرف شيئاً من نفسه، بل يعرف ما أطلعه الله عليه من أسرار غيبه، كما تقول الآيتان (26) و (27) من سورة الجن (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً).
وأساساً، فإنّ كمال مقام القيادة لا سيما إذا كان الهدف قيادة العالم بأسره، وفي جميع المجالات الماديّة والمعنوية، هو الاحاطة الواسعة بالكثير من المسائل الخفية عن سائر الناس، لا المعرفة بأحكام الله وقوانينه فحسب، بل المعرفة بأسرار عالم الوجود، والبناء البشري، وقسم من حوادث المستقبل والماضي، فهذا القسم من العلم يطلعه الله على رسله، وإذا لم يطلعهم عليه لم
[326]
تكمل قيادتهم!...
وبتعبير آخر: إنّ احاديث الأنبياء والرسل وسيرتهم ستكون محدودة بظروف عصرهم ومحيطهم، لكن عندما يكونون عارفين بهذا القسم من أسرار الغيب فسيقومون ببناء حضارة على مستوى الأجيال القادمة، فتكون مناهجهم صالحة لمختلف الظروف والمتغيّرات...
* * *
[327]
الآيات
هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْس وَاحِدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّـهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَـلِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـكِرينَ189 فَلَمَّآ ءَاتَيهُمَا صَـلِحاً جَعَلا لَهُ، شُرِكَآءِ فِيمَآ ءَاتَهُمَا فَتَعَـلى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 190 أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ 191 وَلاَ يَسْتَطِعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ 192 وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـمِتُونَ193
التّفسير
جحدُ نعمة عظمى:
في هذه الآيات إشارة إلى جانب آخر من حالات المشركين وأُسلوب تفكيرهم، والردّ على تصوّراتهم الخاطئة. لما كانت الآية السابقة تجعل جميع الوان النفع والضرّ وعلم الغيب منحصراً بالله، وكانت في الحقيقة إشارة إلى توحيد
[328]
أفعال الله. فالآيات محل البحث تعدّ مكملةً لها لأنّ هذه الآيات تشير إلى توحيد أفعال الله أيضاً.
تقول الآية الأُولى من هذه الآيات (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) فجعل الحياة والسكن جنباً إلى جنب (فلمّا تغشاها حملت حملا خفيفاً فمرّت به)(1).
وبمرور الأيّام والليالي ثقل الحمل (فلما أثقلت) كان كل من الزوجين ينتظر الطفل، ويتمنّى أن يهبه الله ولداً صالحاً، فلذلك (دعوا الله ربّهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين) وعندما استجاب الله دعاءهما، ورزقهما الولد الصالح أشركا بالله(فلما أتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما أتاهما فتعالى الله عمّا يشركون).
الجواب على سؤال مهم!
هناك بين المفسّرين كلام في المراد من الزوجين اللذين تكلمت عنهما الآيتان الأوليان من الآيات محل البحث...
هل أنّ المراد من "النفس الواحدة" وزوجها آدم وحواء؟ مع أنّ آدم من الأنبياء وحواء امرأة مؤمنة كريمة، فكيف ينحرفان عن مسير التوحيد ويسلكان مسير الشرك؟!
وإذا كان المراد من النفس الواحدة غير آدم وتشمل الآية جميع أفراد البشر، فكيفَ ينسجم التعبير إذاً وقوله تعالى (خلقكم من نفس واحدة)؟!
ثمّ بعد هذا ما المراد من الشرك، وأي عمل أو تفكير قام به الزوجان فجعلا لله شركاء؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تغشاها فعل يليه ضمير التأنيث وهو غشي، ومعناه غطّى، وهذه الجملة كناية لطيفة عن المقاربة الجنسية والمضاجعة.
[329]
وفي الجواب على مثل هذه الأسئلة نقول:
يوجد طريقان لتفسير الآيتين هاتين "وما بعدهما"، ولعل جميع ما قاله المفسّرون على اختلاف آرائهم يرجع إلى هذين الطريقين...
الأوّل: إنّ المراد من نفس "واحدة". هو الواحد الشخصي كما ورد هذا المعنى في آيات أُخرى من القرآن أيضاً، ومنها أوّل آية من سورة النساء.
والتعبير بالنفس الواحدة ـ أساساً ـ جاء في خمسة مواطن في القرآن المجيد، واحدة منها في الآية ـ محل البحث ـ والأربعة الأُخرى هي في سورة النساء (الآية الأُولى) وسورة الأنعام، الآية (98)، وسورة لقمان، الآية (28)، وسورة الزمر، الآية (6)، وبعض هذه الآيات لا علاقة لها ببحثنا هذا، وبعضها يُشبه الآية محل البحث. فبناءً على ذلك فالآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى آدم وزوجه حوّاء فحسب!
وعلى هذا فالمراد بالشرك ليس هو عبادة غيرالله أو الإِعتقاد بأُلوهية غيره، بل لعل المراد شي آخر من قبيل ميل الإِنسان لطفله، الميل الذي ربّما يجعله غافلا عن الله أحياناً.
والتّفسير الثاني: هو أنّ المراد من النفس الواحدة هو الواحد النوعي، أي أن الله خلقكم جميعاً من نوع واحد كما خلق أزواجكم من جنسكم أيضاً.
وبذلك فإنّ الآيتين وما بعدهما من الآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى نوع الناس، فهم يدعون الله وينتظرون الوالد الصالح في كمال الإِخلاص لله والإِنقطاع إليه، كمن يحدق بهم الخطر فيلتجؤوا إلى اللّه، ويعاهدون اللّه على شكره بعد حلّ معضلاتهم. ولكن عندما يرزقهم الله الولد الصالح، أو يحلّ مشاكلهم ينسون جميع عهودهم فإنّ كان الولد جميلا قالوا: إنّه اكتسب جماله من أبيه أو أُمّه، وهذا هو قانون الوراثة. وتارةً يقولون: إنّ غذاؤه والظروف الصحية تسببت في نموّه وسلامته. وتارةً يعتقدون بتأثير الأصنام ويقولون: إنّ ولدنا كان من بركة الأصنام
[330]
وعطائها! وأمثال هذا الكلام...
وهكذا يهملون التأثير الرّباني بشكل عام، ويرون العلّة الأصلية هي العوامل الطبيعية أو المعبودات الخرافية(1).
والقرائن في الآيات ـ محل البحث ـ تدل على أن التّفسير الثّاني أكثر انسجاماً وأكثر تفهماً لغرض الآية، لأنّه:
أوّلا: إن تعبيرات الآي تحكي عن حال زوجين كانا يعيشان في مجتمع ما من قبل، ورأيا الأبناء الصالحين وغيرالصالحين فيه، ولهذا طلبا من الله وسألاه أن يرزقهما الولد الصالح. ولو كانت الآيات تتكلم على آدم وحواء فهو خلاف الواقع، لأنّه لم يكن يومئذ ولد صالح وغير صالح حتى يسألا الله الولد الصالح.
ثانياً: الضمائر الواردة في آخر الآية الثّانية والآيات التي تليها، كلها ضمائر "جمع" ويستفاد من هذا أنّ المراد من ضمير التثنية هو إشارة إلى الفريقين لا إلى الشخصين.
ثالثاً: أنّ الآيات التي تلت الآيتين الأوّليين تكشف عن أنّ المقصود بالشرك هو عبادة الأصنام، لا محبّة الأولاد والغفلة عن الله، وهذا الأمر لا ينسجم والنّبي آدم وزوجه!
فبملاحظة هذه القرائن يتّضح أنّ الآيات ـ محل البحث ـ تتكلم عن نوع الإنسان وزوجه ليس إلاّ.
وكما ذكرنا في الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل أن خلق زوج الإِنسان من الإِنسان ليس معناه أن جزءاً من بدنه انفصل عنه وتبدل إلى زوج له يسكن إليه "كما ورد في رواية إسرائيلية أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر!".
بل المراد أن زوج الإنسان من نوعه وجنسه، كما نقرأ في الآية (21) من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يرى بعض المفسّرين أن بداية الآية يتعلق بآدم وحواء، وذيل الآية تتعلق بأبناء آدم وحواء، وهذا تكلّف، لأنّه يحتاج إلى حذف وتقدير، وهو لا ينسجم وظاهر الآية.
[331]
سورة مريم قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها).
رواية مجعولة:
جاء في بعض المصادر الحديثية لأهل السنّة، وبعض كتب الحديث الشيعية غير المعتبرة، في تفسير الآيات محل البحث، حديث لا ينسجم مع العقائد الإِسلامية، ولا يليق بشأن الأنبياء أبداً. وهذا الحديث كما جاء في مسند أحمد هو: أنّ سمرة بن جندب روى عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: لمّا ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سَميّه: عبدَ الحارث، فعاش وكان ذلك من وحي الشّيطان وأمره(1) "الحارث اسم من أسماء الشيطان".
وجاء في بعض الرّوايات الوارد فيها هذا المضمون ذاته أن آدم رضي بهذا الأمر!!
وسواءً أكان راوي هذه الرواية سمرة بن جندب ـ الكذاب المشهور ـ أم غيره أمثال كعب الأحبار أو وهب بن منبه اللذين كانا من علماء اليهود ثمّ أسلما، ويعتقد بعضهم أنّهما أدخلا في الثقافة الإِسلامية خرافات التوراة وبني إسرائيل. ومهما يكن الأمر فالرواية بنفسها خير دليل على فسادها وبطلائها، لأنّ آدم الذي هو خليفة الله "في أرضه" ونبيّه الكبير، وكان يعلم الأسماء، بالرغم من كونه بترك الأُولى هبط إلى الأرض، إلاّ أنّه لم يكن إنساناً يختار سبيل الشرك ويسمّي ولده عبد الشيطان، فهذا الأمر يصدق في مشرك جاهل فحسب لا في آدم...
والأعجب من ذلك أنّ الحدى أنف الذكر يتضمن معجزة للشيطان أو كرامةً له، إذ بتسميته الولد باسمه عاش الولد خلافاً للأبناء الآخرين. وإنّه لمدعاة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مسند بن حنبل، وفقاً لما وراه تفسير المنار، ج 9، ص 522.
[332]
للأسف الشديد أن ينساق كثير من المفسّرين تحت وطأة هذا الحديث المختلق وأضرابه، فيجعلون مثل هذه الأباطيل تفسيراً للآي. وعلى كل حال، فإنّ مثل هذا الكلام لما كان مخالفاً للقرآن، ومخالفاً للعقل أيضاً، فينبغي أن ينبذ في سلة المهملات.
وتعقيباً على هذا الأمر يردّ القرآن ـ بأُسلوب بيّن متين ـ عقيدة المشركين وأفكارهم مرة أُخرى، فيقول: (أيُشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون).
وليس هذا فحسب، فهم ضعاف (ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون).
والأوثان والأصنام في حالة لو ناديتموها لما استجابت لكم (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم).
فمن كان بهذه المنزلة وبهذا المستوى أنّى له بهداية الآخرين!
ويحتمل بعض المفسّرين احتمالا آخر في تفسير الآية، وهو أنّ الضمير "هم" يرجع إلى المشركين لا إلى الأصنام، أي أنّهم إلى درجة من الإِصرار والعناد بحيث لا يسمعونكم ولا يذعنون لكم ولا يسلمون.
كما ويحتمل أنّ المراد هو أنّكم لو طلبتم منهم الهداية، فلن يتحقق دعاؤكم وطلبكم على كل حال (سواء عليكم ادعوتموهم أو أنتم صامتون).
وطبقاً للإِحتمال الثّاني يكون معنى الجملة على النحو التالي: سواء عليكم أطلبتم من الأصنام شيئاً، أو لم تطلبوا ففي الحالين لا أثر لها، لأنّ لا تقدر على أداء أي شيء أو التأثير في شيء.
يقول الفخر الرازي في تفسيره: إذا المشركين إذا ابتلوا بمشكلة تضرعوا إلى الأصنام ودعوها، وإذا لم يُصبهم أذى أو سوء كانوا يسكتون عنها، فالقرآن يخاطبهم بالقول (سواءٌ عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون).
* * *
[333]
الآيتان
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَـدِقِينَ 194 أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْد يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ ثمّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ 195
التّفسير
هاتان الآيتان ـ محل البحث ـ تواصلان الكلام على التوحيد ومكافحة الشرك، وتكملان ما عالجته الآيات السابقة، فتعدّان كل شرك في العبادة عملا سفيها و بعيداً عن المنطق والعقل!
والتدفيق في مضمون هاتين الآيتين يكشف أنّهما تبطلان منطق المشركين بأربعة أدلة، والسرّ في كون القرآن يعالج إبطال الشرك باستدلالات مختلفة، وكل حين يأتي ببرهان مبين، لأن الشرك ألدُّ أعداء الإِيمان، وأكبر عدوّ لسعادة الفرد والمجتمع.
ولما كانت للشرك جذور مختلفة وأفانين متعددة في أفكار البشر، فإنّ
[334]
القرآن يستغل كل فرصة لقطع جذوره الخبيثة... وأفانينه التي تهدد المجتمع الإِنساني.
فتقول الآية الأُولى من هاتين الآيتين: (إنّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم).
فبناءً على ذلك لا معنى لأن يسجد الإِنسان لشىء مثله، وأن يمدّ يد الضراعة والحاجة إليه، وأن يجعل مقدّراته ومصيره تحت يده!
وبتعبير آخر: إنّ مفهوم هذه الآية هو أنّكم ـ أيّها المشركون ـ لو أنعمتم النظر لرأيتم معبودائكم ذات أجسام و أسيرة المكان والزمان، وتحكمها قوانين الطبيعة، وهي محدودة من حيث الحياة و العمر والإِمكانات الأُخرى. وخلاصة الأمر: ليس لها امتياز عليكم، وإنّما جعلتم لها امتيازاً عليكم بتصوراتكم وتخيلاتكم!
ثمّ إنّ كلمة "عباد" جمع "عبد" ويطلق هذا اللفظ على الموجود الحي، مع أن الآية استعملته في الأصنام، فكانت لذلك تفاسير متعددة...
التّفسير الأوّل: أنّه من المحتمل أن تشير الآية إلى المعبودين من جنس الإِنسان أو المخلوقات الأُخرى، كالمسيح إذ عبده النصارى، والملائكة إذ عبدتها جماعة من المشركين العرب.
والتّفسير الثاني: أنّ الآية تنزلت وحكت ما توهمه المشركين في الأصنام بأنّ لها القدرة، فكانوا يكلمونها ويتضرعون إليها، فالآية ـ محل البحث ـ تخاطبهم بأنّه على فرض أنّ للأصنام عقلا و شعوراً، فهي لا تعدو أن تكون عباداً أمثالكم.
التّفسير الثّالث: أنّ العبد في اللغة يطلق أحياناً على الموجود الذي يرزح تحت نيز الآخر ويخضع له، حتى لو لم يكن له عقل وشعور، ومن هذا القبيل أنّ العرب يطلقون على الطريق المطرّق بالذهاب والإياب أنّه "معبّد".
[335]
ثمّ تضيف الآية: أنّكم لو تزعمون بأنّ لهم عقلا وشعوراً (فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين).
وهذا هو الدليل الثّاني على إبطال منطق المشركين، وهو كون الأصنام لا تستطيع أن تعمل شيئاً، وهي ساكتة عاجزة عن الإِجابة والردّ ...
وفي البيان الثّالث تبرهن الآية على أنّ الأصنام أضعف حتى من عبادها المشركين، فتساءل مستنكرةً: (ألهم أرجل يمشون بها أو لهم أيد يبطشون(1) بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها).
وهكذا فإنّ الأصنام من الضعة بمكان حتى أنّها بحاجة إلى من يدافع عنها ويحامي عنها، فليس لها أعين تبصر بها، ولا آذان تسمع بها، ولا أرجل تمشي بها، ولا أي إحساس آخر. وأخيراً فإنّ الآية تبيّن ضمن تعبير هو في حكم الدليل الرّابع مخاطبة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلةً: (قل ادعوا شركاءكم ثمّ كيدون فلا تنظرون).
أي إذا كنت كاذباً، وأنّ الأصنام مقربات عندالله، وقد تجرأتُ عليها فلِمَ لا تعضبُ عليّ؟ وليس لها ولا لكم ولمكائدكم أي تأثير علي. فبناءً على ذلك فاعلموا أنّ هذه الأصنام موجودات غير مؤثرة، وإنّما تصوراتكم هي التي أضْفَتْ عليها ذلك التوهّم!.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يبطشون فعل مشتق من "البطش" على زنة "العرش" ومعناه الإِستيلاء بالشدّة والصولة والقدرة!...
[336]
الآيات
إِنَّ وَلِىَّ اللهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَـبَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّـلِحِينَ196 وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ 197 وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلىَ الْهُدَى لاَ يَسْمَعُوا وَتَرَيهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ 198
التّفسير
المعبودات التي لا قيمة لها:
تعقيباً على الآية المتقدمة التي كانت تخاطب المشركين بالقول (على لسان النّبي): (ادعُوا شركاءكم ثمّ كيدونِ فلا تُنظرونِ) منبهة إياهم أنّهم لا يستطيعون أن يصيبوا النّبي بأدنى ضرر، فإنّ الآية الأُولى ـ من الآيات ـ محل البحث ـ تذكر الدليل على ذلك فتقول: (إنّ وليَّ الله الذي نزل الكتاب).
وليس وليي وحدي فحسب، بل هو ولي جميع الصالحين (وهو يتولى الصالحين).
ثمّ يؤكّد القرآن بالآية التّالية على بطلان عبادة الأوثان مرّة أُخرى فيقول: (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون).
[337]
بل أبعد من ذلك (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا) وبالرغم من العيون المصنوعة لهم التي يخيل إلى الرائي أنّها تنظر: (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون).
وكما أشرنا سابقاً أيضاً، فالآية ـ محل البحث ـ يحتمل أن تشير إلى الأصنام كما يحتمل أن تشير إلى المشركين. ففي الصورة الأُولى مفهومها ـ كما قدمنا بيانه ـ أمّا في الصورة الثّانية فيكون مفهومها: أنّه لو دعا المسلمون هؤلاء المشركين المعاندين إلى طريق التوحيد الصحيح ما قبلوا ذلك منهم، وهم ينظرون إليك ويرون دلائل الصدق والحق فيك، إلاّ أنّهم لا يبصرون الحقائق!
ومضمون الآيتين الأخيرتين ورد في الآيات السابقة أيضاً، وهذا التكرار إنّما هو لمزيد التأكيد على مكافحة الشرك وقلع جذوره التي نفذت في أفكار المشركين وأرواحهم عن طريق التلقين والتقرير المتكرر.
* * *
[338]
الآيات
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـهِلِينَ 199 وَإِمَّا يَنزِغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 200 إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَـئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَنِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُّبْصِرُونَ 201 وَإِخْوَنُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ ثمّ لاَ يُقْصِرُونَ202 وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِأيَة قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَىَّ مِن رَّبِّى هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ203
التّفسير
وَساوِسُ الشّيطان:
في هذه الآيات يبيّن القرآن شروط التبليغ وقيادة الناس وإمامتهم بأُسلوب أخّاذ رائق وجيز، وهي في الوقت ذاته تتناسب والآيات المتقدمة التي كانت تشير إلى مسألة تبليغ المشركين أيضاً.
ففي الآية الأُولى ـ من الآيات محل البحث ـ إشارة إلى ثلاث من وظائف القادة والمبلغين، فتوجه الخطاب للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقولُ في البدايةُ (خذ العفوَ).
[339]
العفو: قد يأتي بمعنى الزيادة في الشيء أحياناً، كما قد يأتي بمعنى الحدّ الوسط، كما يأتي بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين، وتأتي أحياناً بمعنى استسهال الأُمور.
والقرائن الموجودة في الآية تدلّ على أنّ الآية محل البحث لا علاقة لها بالمسائل المالية وأخذ المقدار الإِضافي من أموال الناس، كما ذهب إليه بعض المفسّرين. بل مفهومها المناسب هو استسهال الأُمور، والصفح، واختيار الحدّ الوسط(1).
ومن البديهي أنّه لو كان القائد أو المبلغ شخصاً فظاً صعباً، فإنّه سيفقد نفوذه في قلوب الناس ويتفرقون عنه، كما قال القرآن الكريم: (ولو كنت فظّاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك)(2).
ثمّ تعقيب الآية بذكر الوظيفة الثّانية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتأمره بأن يرشد الناس إلى حميد الأفعال التي يرتضيها العقل ويدعو إليها الله عزّوجل قائلةً: (وأمر بالمعروف).
وهي تشير إلى أنّ ترك الشدّة لا يعني المجاملة، بل هو أن يقول القائد أو المبلغ الحق، ويدعو الناس إلى الحق ولا يخفي شيئاً.
أمّا الوظيفة الثّالثة للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فهي أن يتحمل الجاهلين، فتقول: (وأعرض عن الجاهلين).
فالقادة والمبلغون يواجهون في مسيرهم أفراداً متعصّبين جهلة يعانون من انحطاط فكري وثقافي وغير متخلقين بالأخلاق الكريمة، فيرشقونهم بالتهم، ويُسيؤون الظن بهم ويحاربونهم.
فطريق معالجة هذه المعضلة لا يكون بمواجهة المشركين بالمثل، بل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد من التوضيح يراجع الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل في هذا الصدد.
2 ـ آل عمران، 159.
[340]
الطريق السليم هو التحمل والجلد وعدم الإكثرات بمثل هذه الأُمور. والتجربة خير دليل على أنّ هذا الأُسلوب هو الأُسلوب الأمثل لمعالجة الجهلة، وإطفاء النائرة، والقضاء على الحسد والتعصب، وما إلى ذلك.
وفي الآية التّالية دستور آخر، وهو في الحقيقة يمثل الوظيفة الرّابعة التي ينبغي على القادة والمبلغين أن يتحملوها، وهي أن لا يدعوا سبيلا للشيطان إليهم، سواء كان متمثلا بالمال أم الجاه أم المقام وما إلى ذلك، وأن يردعوا الشياطين أو المتشيطنين ووساوسهم، لئلا ينحرفوا عن أهدافهم.
فالقرآن يقول: (وأمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنّه سميع عليم)(1).
أجمع آية أخلاقية...:
روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "لا آية في القرآن أجمع في "المسائل" الأخلاقية من هذه الآية"(2) "أي الآية الأُولى من الآيات محل البحث".
قال بعض الحكماء في تفسير هذا الحديث: إنّ أُصول الفضائل الأخلاقية وفقاً لأُصول القوي الإِنسانية "العقل" و"الغضب" و"الشّهوة" تتلخص في ثلاثة أقسام:
1 ـ الفضائل العقلية: وتدعى بالحكمة، وتتلخص بقوله تعالى: (وامر بالعرف).
2 ـ والفضائل النّفسية في مواجهة الطغيان والشهوة، وتدعى بالعفة، وتتلخص بـ "خذ العفو".
3 ـ والتسلط على القوة الغضبية، وتدعى بالشجاعة، وتتلخص في قوله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ينزغ مأخوذ من مادة "النزغ" على زنة "النزع" ومعناه الدخول في الأمر لإِفساده أو الإِثارة ضده!...
2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية.
[341]
تعالى (وأعرض عن الجاهلين).
وسواء كان الحديث الشريف يدلّ على ما فسّره المفسّرون وأشرنا إليه آنفاً، أو كما عبرنا عنه بشروط القائد أو المبلغ، فهو يبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الآية القصيرة الوجيزة تتضمّن منهجاً جامعاً واسعاً كليّاً في المجالات الأخلاقية والإِجتماعية، بحيث يمكننا أن نجد فيها جميع المناهج الإِيجابية البناءة والفضائل الإِنسانية. وكما يقول بعض المفسّرين: إنّ إعجاز القرآن بالنسبة إلى الإِيجاز في المبنى، والسعة في المعنى، يتجلى في الآية محل البحث تماماً.
وينبغي الإِلتفات إلى أنّ الآية وإن كانت تخاطب النّبي نفسه إلاّ أنّها تشمل جميع الأُمّة والمبلغين والقادة.
كما ينبغي الإِلتفات إلى أنّ الآيات محل البحث ليس فيها ما يخالف مقام العصمة أيضاً، لأنّ الأنبياء والمعصومين ينبغي أن يستعيذوا بالله من وساوس الشيطان، كما أنّ أيّ أحد لا يستغني عن لطف الله ورعايته والإِستعاذة به من وساوس الشياطين، حتى المعصومين.
وجاء في بعض الرّوايات أنّه لما نزلت الآية (خذ العفو...) سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جبرئيل عن ذلك فقال جبرئيل: لا أدري، حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال: "يا محمّد، إنّ الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك(1)".
وجاء في حديث آخر أنّه لما نزلت آية (خذ العفو وامر بالمعروف وأعرض عنالجاهلين) قال النّبي: كيف يا ربّ والغضب؟ فنزل قوله (وأمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنّه سميع عليم)(2).
وينبغي الإِشارة إلى أنّ الآية الثّانية هنا جاءت في سورة فصلت الآية (36)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث.
2 ـ روى ذلك صاحب المنار قائلا: رُوي عن جدنا الإِمام الصادق رضي الله عنه في ج 9، ص 538.
[342]
بتفاوت يسير بين الآيتين، إذ ورد التعبير مكان قوله تعالى:(إنّه سميع عليم)(إنّه هو السّميع العليم).
وفي الآية التّالية بيان للإِنتصار على وساوس الشيطان بهذا النحو (إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). أي يتذكرون ما أنعم الله عليهم، ويفكرون في سوء عاقبة الذنب وعذاب الاخرة فيتّضح لهم بذلك طريق الحق.
والطّائف: هو الذي يطوف ويدور حول الشيء، فكأن وساوس الشيطان تدور حول فكر الإنسان وروحه كالطائف حول الشيء ليجد منفذاً إليه، فإذا تذكر الإِنسان في مثل هذه الحالة ربّه، واستعاذ من وساوس الشيطان وعاقبة أمره، أبعدها عنه. وإلاّ أذعن لها وانقاد وراء الشيطان.
وأساساً فإنّ كل إنسان في أية مرحلة من الإِيمان، أو أي عمر كان، يُبتلى بوساوس الشياطين. وربّما أحس أحياناً أن في داخله قوة مهيمنة تدفعه نحو الذنب وتدعوه إليه، ولا شك أن مثل هذه الحالة من الوساوس في مرحلة الشباب أكثر منها في أية مرحلة أُخرى، ولا سيما إذا كانت البيئة أو المحيط كما هو في العصر الحاضر من التحلّل والحريّة، لا الحرية بمعناها الحقيقي، بل بما يذهب إليه الحمقى "من الإنسلاخ من كل قيد والتزام أخلاقي أو اجتماعي أو ديني" فتزداد الوساوس الشيطانية عندالشباب.
وطريق النجاة الوحيد من هذا التلوّث والتحلل في مثل هذه الظروف، هو تقوية رصيد التقوى أولا، كما أشارت إليه الآية (إن الذين اتقوا...) ثمّ المراقبة والتوجه نحو النفس، والإِلتجاء إلى الله وتذكر ألطافه ونعمه وعقابه الصارم للمذنب..
وهناك إشارات كثيرة في الرّوايات الإِسلاميّة إلى أثر ذكر الله العميق في معالجة الوساوس الشيطانية. حتى أن الكثير من المؤمنين والعلماء وذوي المنزلة
[343]
كانوا يحسون بالخطر عند مواجهة وساوس الشيطان، وكانوا يحاربونها "بالمراقبة" المذكورة في كتب علم الأخلاق بالتفصيل.
والوساوس الشيطانية مثلها مثل الجراثيم الضارة التي تبحث عن البنية الضعيفة لتنفذ فيها. إلاّ أنّ الأجسام القوية تطرد هذه الجرائم فلا تؤثر فيها.
وجملة (إذا هم مبصرون) إشارة إلى حقيقةِ أن الوساوس الشيطانية تلقي حجاباً على البصيرة "الباطنية" للإِنسان، حتى أنّه لا يعرف العدوّ من الصديق، ولا الخير من الشر. إلاّ أن ذكر الله يكشف الحجب ويزيد الإِنسان بصيرة وهدى، ويمنحه القدرة على معرفة الحقائق والواقعيات، المعرفة التي تخلّصه من مخالب الوساوس الشيطانية.
وملخص القول: أننا لاحظنا في الآية السابقة كيف ينجو المتقون من نزغ الشيطان ووسوسته بذكر الله، إلاّ أن الآثمين إخوة الشياطين يبتلون بمزيد الوساوس فلا ينسلخون عنها، كما تعبّر الآية التالية عن ذلك قائلة: (وإخوانهم يمدّونهم في الغي ثمّ لا يقصرون).
"الإخوان" كناية عن الشياطين، والضمير "هم" يعود على المشركين والآثمين، كما نقرأ هذا المصطلح في الآية (27) من سورة الإِسراء (إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين).
و "يمدونهم" فعل مأخوذ من الإِمداد ومعناه الإِعانة والإِدامة، أي أنّهم يسوقونهم في هذا الطريق دائماً.
وجملة (ثمّ لا يقصرون) تعني أنّ الشياطين لا يألون جهداً في إضلال المشركين والآثمين.
ثمّ تذكر الآية التّالية حال جماعة من المشركين والمذنبين البعيدين عن المنطق، فتقول: إنّهم يكذبونك ـ يا رسول الله ـ عندما تتلو عليهم آيات القرآن، ولكن عندما لا تأتيهم بآية، أو يتأخر الوحي يتساءلون عن سبب ذلك: (وإذا لم
[344]
تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها)(1) ولكن قل لهم انني لا اعمل ولا أقول إلاّ بما يوحى الله اليّ (قل إنّما اتبع ما يوحى إليّ من ربّي هذا بصائر من ربّكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).
ويتّضح من هذه الآية ـ ضمناً ـ أنّ جميع أقوال النّبي وأفعاليه مصدرها وحي السماء، ومن قال بغير ذلك فهو بعيد عن القرآن.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الإجتباء مأخوذ من الجباية، وأصلها جمع الماء في الحوض ونحوه، ولذلك يسمّي حوض الماء بـ "الجابية، وجمع الخراج يسمّى جباية أيضاً. ثمّ توسعوا في الإِستعمال فأطلقوا على جمع الأشياء وانتخابها واختيار ما يراد منها اجتباءً. فجملة "لولا اجتبيتها" تعني لولا اخترتها.
[345]
الآيات
وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ204 وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالاَْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّن الْغَـفِلِينَ 205 إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ206
التّفسير
وإذا قُرىء القرآن فاستمعوا وانصتوا:
لقد بدأت هذه السورة (سورة الأعراف) ببيان عظمة القرآن، وتنتهي بالآيات ـ محل البحث ـ التي تتكلم عن القرآن أيضاً.
وبالرغم من أنّ المفسّرين ذكروا أسباباً لنزول الآية الأُولى ـ من هذه الآيات محل البحث ـ منها مثلا ما روي عن ابن عباس وجماعة آخرين، أنّ المسلمين في باديء أمرهم كانوا يتكلمون في الصلاة، وربّما ورد شخص (جديد) أثناء الصلاة فيسأل المصلين وهم مشغولون بصلاتهم: كم ركعة صليتم؟ فيجيبونه: كذا ركعة. فنزلت الآية ومنعتهم أو نهتهم عن ذلك.
[346]
كما نقل الزّهري سبباً آخر لنزول الآية، وهو أنّه لما كان النّبي يقرأ القرآن، كان شاب من الأنصار يقرأ معه القرآن بصورت مرتفع، فالآية نزلت ونهت عن ذلك.
وأيّاً كان شأن نزول هذه الآية، فهي تقول: (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلّكم ترحمون).
والفعل "انصتوا" مأخوذ من مادة "الإنصات" ومعناه: السكوت المشفوع بالإصغاء والإِستماع.
وقد إختلف المفسّرون في أن الإِنصات والسكوت هنا في الآية، هل هو عند قراءة القرآن في جميع الموارد؟ أم هو منحصر وقت الصلاة وعند قراءة إمام الجماعة؟ أم هو عندما يقرأ إمام الجمعة ـ في خطبة الصلاة ـ القرآن؟
كما أنّ هناك أحاديث شتى في هذا الصدد في كتب الفريقين في تفسير هذه الآية. والذي يستفاد من ظاهر الآية أن هذا الحكم عام غير مختص بحال ما ولا وقت معيّن. إلاّ أنّ الرّوايات المتعددة الواردة عن الأئمّة الطاهرين، بالإضافة إلى إجماع العلماء واتفاقهم على عدم وجوب الإستماع عند قراءة القرآن في أية حال، يُستدل من ذلك على أن هذا الحكم بصورة كليّة حكم استحبابي، أي ينبغي إن قُرىء القرآن - حيثما كان، وكيف كان ـ أن يستمع الآخرون وينصتوا احتراماً للقرآن، لأنّ القرآن ليس كتاب قراءة فحسب، بل هو كتاب فهم وإدراك، ثمّ هو كتاب عمل أيضاً.
وهذا الحكم المستحب ورد عليه التأكيد إلى درجة أنّ بعض الرّوايات عبّرت عنه بالوجوب.
إذ ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: "يجب الإنصات للقرآن في الصّلاة وفي
[347]
غيرها وإذا قرىء عندك القرآن وجب عليك الإِنصات والإِستماع"(1).
حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أنّ لو كان إمام الجماعة مشغولا بالقراءة في الصلاة، وقرأ شخص آخر آية من القرآن فيستحب للإِمام السكوت حتى ينهي قراءة الآية، ثمّ يكمل الإمام قراءته. حيث ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام) أنّ أميرالمؤمنين عليّاً(عليه السلام) كان مشغولا بصلاة الصبح، وكان ابن الكوّا ـ ذلك المنافق الفظّ القلب ـ خلف الإمام مشغولا بالصلاة، فقرأ فجأة (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكونن من الخاسرين) وكان هدفه من قراءة الآية أن يعترض على الإمام عليّ مكنيّاً عن قبول الحكم في صفين ـ كما احتملوا ذلك ـ لكن الإمام سكت احتراماً للقرآن حتى ينتهي ابن الكوّا من قراءة الآية، ثمّ رجع الإمام إلى قراءته فأعاد ابن الكوا عمله مرّة ثانية، فسكت الإمام أيضاً، فكرر ابن الكوّا القراءة ثالثة فسكت علي(عليه السلام) أيضاً، ثمّ تلا قوله تعالى: (فاصبر إنّ وعدَ الله حق ولا يستخفنّك الذين لا يؤمنون) وهو يشير إلى أن عذاب الله وعقابه الأليم في إنتظار المنافقين وغير المؤمنين، وينبغي أن يتحمل الإِنسان أذاهم، ثمّ أن الإِمام أكمل السورة وهوى إلى الركوع(2).
ويستفاد من مجمع ما تقدّم، ولا سيما من البحث آنف الذكر، أن الإِستماع والسكوت عند قراءة آيات القرآن أمر حسن جدّاً إلاّ أنّه بشكل عام غير واجب... ولعلّ جملة (لعلّكم ترحمون) إضافة إلى الرّوايات والإجماع، تشير إلى استجباب هذا الحكم أيضاً.
والمورد الوحيد الذي يجب فيه السكوت أو يكون حكم السكوت فيه واجباً، هو في صلاة الجماعه، إذ على المأموم أن يسكت ويستمع لقراءة الإمام، حتى أنّ جمعاً من الفقهاء قالوا: إنّ هذه الآية تدل على سقوط الحمد والسورة من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، ج2، ص 57.
2 ـ تفسير البرهان.
[348]
قبل المأموم "عند صلاه الجماعة".
ومن جملة الرّوايات الدالة على هذا الحكم ما روي من حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) "وإذا قرىء القرآن في الفريضة خلف الإِمام فاستمعوا له وانصتوا لعلّكم تُرحمون"(1).
وأمّا استعمال "لعل" في هذه الجملة، فهو ـ كما أشرنا سابقاً ـ لغرض أن تشملكم رحمة الله، فمجرّد السكوت غير كاف، بل توجد أمور أُخرى منها العمل بالآي أيضاً.
ولا بأس أن نذكر الملاحظة التي بيّنها الفقيه المعروف الفاضل المقداد السيوري في كتابه "كنز العرفان" إذ فسّر الآية تفسيراً آخر فقال: إنّ المراد من الآية هو الإِصغاء للآيات وإدراك مفاهيمها والإِذعان لإعجازها.
ولعل هذا التّفسير كان بسبب أنّ الآية السابقة كانت تتكلم عن المشركين، إذ كانوا يتذرعون بحجج واهية في شأن نزول القرآن، فالقرآن يقول لهم: (فاستمعوا وانصتوا لعلكم تعرفون الحق)(2).
وليس هناك مانع من أن نعتبر مفهوم الآية واسعاً بحيث يشمل جميع الكفار والمسلمين، فغير المسلمين عليه أن يستمع وينصت للقرآن ويفكر فيه حتى يؤمن فينال رحمة ربّه، والمسلم عليه أن يستمع ويدرك مفهوم الآي ويعمل به لينال رحمة ربّه، لأنّ القرآن كتاب إيمان وعلم وعمل للجميع، لا لطائفة خاصّة أو فريق معين.
وفي الآية التّالية إكمالا للأمر السابق يخاطب القرآن النّبي الكريم ـ وهذا الحكم كلي وعام أيضاً وإن كان الخطاب موجهاً للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو الحال في سائر آيات القرآن الأُخرى وأحكامها ـ إذ يقول سبحانه في كتابه: (واذكر ربّك
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 57.
2 ـ كنزالعرفان، ج 1، ص 195.
[349]
في نفسك تضرّعاً وخيفة)(1).
ثمّ يضيف قائلا: (ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال).
]والآصال: جمع الأصيل، ومعناه قبيل المغرب أو عند الغروب[.
(ولا تكن من الغافلين).
فذكر الله في كل حال وفي كل وقت، صباحاً ومساءً، مدعاة لإِيقاظ القلوب وجلائها من الدرن، وإبعاد الغفلة عن الإِنسان. ومثله مثل مزنة الربيع، إذا نزلت أمرعت القلوب بأزهار التوجه والإِحساس بالمسؤولية والبصيرة، وكل عمل إيجابي بنّاء!...
ثمّ تختتم هذه الآية سورة الأعراف بهذه العبارة، وهي أنّكم لستم المكلّفون بذكر الله من يذكر الله ليس هو أنتم فحسب، بل (إنّ الذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون).
والتعبير بـ (عند ربّك) لا يعني القرب المكاني، لأنّ الله ليس له مكان خاص، بل هو إشارة إلى القرب المقامي، أي أنّ الملائكة وغيرهم من المقربين على رغم مقامهم و منزلتهم عندالله، فهم لا يقصرون في التسبيح والذكر لله والسجود له.
والسجدة عند تلاوة هذه الآية مستحبة، إلاّ أنّ بعض أهل السنة كأصحاب أبي حنيفة وأتباعه يقولون بوجوبها.
ربّنا نور قلوبنا بنور ذكرك، ذلك النور الذي يفتح لنا طريقنا نحو الحقيقة، ونستمد منه المدد في نصرة راية الحق ومكافحة الظالمين وأن تدرك مسؤولينا ونؤدي رسالتنا ـ آمين.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التضرّع مأخوذ من الضرع وهو الثدي، والفعل تضرع يطلق على من يتحلب اللبن بأصابعه، ثمّ توسع في هذا الإِستعمال فأُطلق على إظهار الخضوع والتواضع.
[350]
[351]
سورة الأنفال
وهي مَدينة
وعددُ آياتها خمس وسَبعُونَ آية
[352]
[353]
"سورة الأنفال"
نظرة خاطفة إلى محتويات هذه السورة
في الآيات الخمس والسبعين التي تتكون منها سورة الأنفال أثيرت مباحث مهمّة جدّاً.
ففي مستهلها إشارة إلى قسم مهم من المسائل المالية من جملتها الأنفال والغنائم التي يُعدّ كلُّ منهما دعامة لبيت المال. كما تضمّنت هذه السورة مباحث أُخرى منها:
صفات المؤمنين الصادقين وما يمتازون به، قصّة معركة بدر، وهي أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وأعدائهم، وما تضمّنت من أحداث عجيبة تلهم العبر.
بعض أحكام الجهاد ووظائف المسلمين إزاء هجوم العدوّ المتواصل.
ماجرى للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلته التاريخية "ليلة المبيت".
حال المشركين قبل الإِسلام وخرافاتهم.
ضعف المسلمين وعجزهم باديء الأمر ثمّ تقويتهم ببركة الإِسلام.
حكم الخمس وكيفية تقسيمه.
وجوب الإِستعداد "العسكري والسياسي والإِجتماعي" للجهاد في كل زمان ومكان.
رجحان قوى المسلمين المعنوية على عدوهم بالرغم من قلّة عددهم
[354]
ظاهراً.
حكم أسرى الحرب وكيفية معاملتهم.
المهاجرون والذين لم يهاجروا.
مواجهة المنافقين وطريقة التعرّف عليهم. وأخيراً نجد في هذه السورة سلسلة مسائل أُخرى أخلاقية وإجتماعية بنّاءة.
فلا غرابة أن نقرأ بعض الرّوايات الواردة في شأن هذه السورة وفضيلتها، كالرّواية الواردة عن الإِمام الصادق إذ تقول مثلا:
"من قرأ سورة الأنفال وبراءة في كل شهر لم يدخله نفاق أبداً، وكان من شيعة أميرالمؤمنين حقّاً، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم حتى يفرغ الناس من الحساب"(1).
وكما أشرنا من قبل فإنّ فضائل سور القرآن والثواب العظيم الذي وعد به من يتلو هذه السور، كل ذلك لا يتأتى بمجرّد قراءة الألفاظ، بل القراءة مقدمة للتفكّر، والتفكّر وسيلة للفهم، والفهم مقدّمة للعمل. وبما أنّ سورة الأنفال شرحت كيفية البراءة من صفات المنافقين، وكذلك ذكرت صفات المؤمنين الصادقين حقّاً، فمن قرأها وتمثلها في حياته لم يدخله نفاق أبداً.
وكذلك من قرأ صفات المجاهدين في هاتين السورتين، وجوانب من التّضحيات الواردة عن أمير المجاهدين علي(عليه السلام) وتمثلها، كان من شيعة أميرالمؤمنين(عليه السلام) حقاً.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير مجمع البيان، ذيل الآية.
[355]
الآية
يَسْئَلونَكَ عَنِ الاَْنفَالِ قُلِ الاَْنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ1
سبب النّزول
ورد عن ابن عباس أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عيّن في يوم معركة بدر جوائز للمقاتلين المسلمين ترغيباً، كأنّ يقول(صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا: من جاءني بفلان من الأعداء أسيراً فله عندي كذا "جائزة".
وكان هذا الترغيب ـ إضافة إلى اِيقاده روح الإِيمان والجهاد في وجودهم ـ مدعاة أن يثب المقاتلون الفتية في تسابق "افتخاري" نحو الهدف.
إلاّ أنّ الكهول والشيوخ ظلّوا ثابتين تحت ظلال الرايات، فلمّا إنتهت معركة بدر أسرع المقاتلون الفتيان لأخذ الجوائز من النّبي، إلاّ أنّ الشيوخ وكبار السنّ قالوا: إنّ لنا نصيباً أيضاً، لأنّنا كنّا سنداً وظهيراً لكم، ولو اشتدّ بكم الأمر لرجعتم إلينا حتماً. واحتدم النقاش حينئذ بين رجلين من الأنصار في شأن غنائم المعركة.
فنزلت الآية ـ محل البحث ـ وقالت بصراحة: إنّ الغنائم هي للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فله
[356]
أن يتصرّف فيها ما يشاء. فقسّمها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين بالتساوي، وأمر أن يصطلح الإخوة المسلمون فيما بينهم.
التّفسير
إنّ الآية ـ محل البحث ـ كما قرأنا في سبب النّزول، نزلت بعد معركة بدر وتتكلم على غنائم الحرب وتبيّن حكماً إسلامياً واسعاً بشكل عام، فتخاطب النّبي بالقول: (يسألونك عن الأنفال قلِّ الأنفال للّه والرّسول!).
فبناءً على ذلك (فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إنّ كنتم مؤمنين).
أي أنّ الإِيمان ليس بالكلام فحسب، بل هو الطاعة لله والرّسول دون قيد أو شرط وفي جميع مسائل الحياة لا في غنائم الحرب وحدها.
ماهي الأنفال؟
الأنفال في الأصل مأخوذة من مادة "نفل" على زنة "نفع" ومعناها الزيادة، وإنما سمّيت الصلوات المستحبة نافلة لأنّها زيادة على الصلوات الواجبة، وكذلك يُطلَق على الحفيد نافلة لأنّه زيادة في الأبناء.
ويطلق لفظ "نوفل" على من يهب المزيد من العطاء.
وإنّما سمّيت غنائم الحرب أنفالا أيضاً لأنّها كمية من الأموال الإِضافية التي تبقى دون صاحب، وتقع في أيدي المقاتلين دون أن يكون لها مالك خاص. أو لأنّ المقاتلين إنّما يحاربون للإِنتصار على العدو لا للغنائم، فالغنيمة أو الغنائم موضوع إضافي يقع في أيديهم.
* * *
[357]
ملاحظات
1 ـ بالرّغم من أنّ الآية محل البحث نازلة في شأن غنائم الحرب، إلاّ أنّ لمفهومها حكماً كلّياً وعامّاً، وهي تشمل جميع الأموال الإِضافية التي ليس لها مالك خاص. لهذا ورد في الرّوايات عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ الأنفال لها مفهوم واسع، إذ نقرأ في بعض الرّوايات المعتبرة عن الإِمامين "الباقر والصادق(عليهما السلام)" مايلي:
"إنّها ما أخذ من دار الحرب من غير قتال، كالذي إنجلى عنها أهلها وهو المسمّى فيئاً، وميراث من لا وارث له، وقطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة والآجام وبطون الأدوية والموات، فإنّها لله ولرسوله، وبعده لمن قام مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالحه ومصالح عياله"(1).
وبالرّغم من أنّ الحديث ـ أنف الذكر ـ لم يتحدّث عن جميع غنائم الحرب، إلاّ أنّنا نقرأ حديثاً آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: "إنّ غنائم بدر كانت للنّبي خاصّة فقسمها بينهم تفضلا منه"(2).
ونستنتج ممّا ذكر آنفاً أنّ مفهوم الأنفال أساساً لا يقتصر على غنائم الحرب فحسب، بل يشمل جميع الأموال التي ليس لها مالك خاص، وهذه الأموال جميعها لله وللرسول ولمن يلي أمره ويخلفه، وبتعبير آخر: إنّ هذه الأموال للحكومة الإِسلاميّة، وتصرف في منافع المسلمين العامّة.
غاية ما في الأمر أنّ قانون الإِسلام في غنائم الحرب والأموال المنقولة التي تقع في أيدي المقاتلين المسلمين عند القتال ـ كما سنفصل ذلك في هذه السورة ـ مبنيّ على أن يُعطى أربعةُ أخماسها ـ ترغيباً ـ للمقاتلين المسلمين وتعويضاً عن أتعابهم، ويصرف خمسها في المصارف التي أشارت إليها الآية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كنز العرفان، ج 1، ص 254.
2 ـ المصدر السابق.
[358]
(41) من هذه السورة.
وعلى هذا الأساس فإنّ الغنائم داخلة في مفهوم الأنفال العام، وهي في الأصل ملك الحكومة الإِسلامية، وإعطاء أربعة أخماسها للمقاتلين عطية وتفضل منها.
2 ـ قد يُتصور أنّ الآية محل البحث "بناءً على شمولها غنائم الحرب أيضاً" تتنافى والآية 41 من هذه السورة التي تقول: (واعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فإنّ لله خمسه وللرسول) وسائر المصارف. لأنّ مفهومها أنّ أربعة الأخماس الباقية هي للمقاتلين المسلمين.
إلاّ أنّه مع ملاحظة ما ذكرناه آنفاً يتّضح أنّ غنائم الحرب في الأصل كلها لله وللرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وإعطاء أربعة أخماسها للمقاتلين نوع من التفضل والهديّة، وبتعبير آخر: إنّ الحكومة الإِسلامية تهب أربعة الأخماس من حقها إلى المجاهدين، فلا يبقى عندئذ أي تناف بين الآيتين.
ويتّضح أيضاً أن آية الخمس لا تنسخ أية الأنفال، ـ كما تصوّر ذلك بعض المفسّرين ـ بل كلُّ منهما باق على قوّتِه!
3 ـ كما قرأنا في شأن النّزول آنفاً، أنّ مشاجرةً وقعت بين بعض الأنصار في شأن غنائم الحرب، وقطعاً لهذه المشاجرة فقد نفت الآية أن تكون الغنائم لغير الله والرّسول ثمّ أمرت المسلمين بإصلاح ذات البين.
وأساساً فإنّ إصلاح ذات البين وإيجاد التفاهم وقلع الكدروالبغضاء من صدور المسلمين، وتبديل كل ذلك بالمحبّة، يعدّ من أهم الاغراض الإِسلامية.
وكلمة "ذات" تعني الخلقة والبنية وأساس الشيء، والبين يعني حالة الإِرتباط والعلاقة بين شخصين أو شيئين. فبناءً على هذا فإنّ إصلاح ذات البين يعني إصلاح أساس الإِرتباطات، وتقوية العلاقات وتحكيمها، وإزالة عوامل التفرقة والنفاق.
[359]
وقد أولت التعاليم الإِسلامية عناية فائقة لهذا الموضوع حتى عدته من أفضل العبادات.
يقول أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في آخر وصاياه ـ عندما عممه ابن ملجم بالسيف ـ لولديه "إنّي سمعت جدّكما رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"(1).
وجاء عن الإمام الصادق(صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب الكافي أنّه قال: "صَدَقَةٌ يُحبُّها اللهُ إِصْلاحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذا تَفَاسَدُوا، وتَقارُبٌ بَيْنَهُمْ إذا تَبَاعَدُوا"(2).
كما ورد عنه(عليه السلام) في الكتاب آنف الذكر ذاته أنّه قال للمفضل: "إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فاقتدِها من مالي"(3).
ولهذا نقرأ في بعض الرّوايات عن أبي حنيفة سابق الحاجّ قال: مرَّ بنا المفضّل وأنا وختني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة ثمّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتّى إذا استوثق كلّ واحد منّا من صاحبه، قال أمّا إنّها ليست من مالي ولكن أبو عبدالله(عليه السلام)أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن اُصلح بينهما وأفتديها من ماله، فهذا من مال أبي عبدالله(عليه السلام)(4).
والسبب في كل هذا التأكيد في المسائل الإجتماعية يتجلى بقليل من التأمل، لأنّ عظمة الأُمّة وقدرتها وعزّتها لا يمكن تحقيقه إلاّ في ظل التفاهم والتعاون. فإذا لم يتمّ إصلاح ذات البين، ولم تطوِ الخلافات الصغيرة والمشاجرات، تنفذ جذور العداوة والبغضاء في القلوب تدريجاً، وتتحول الأُمّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة.
2 ـ الحديثان 1 و 2 من أصول الكافي باب إصلاح بين الناس.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ المصدر السابق.
[360]
القوية المتحدة إلى جماعات متفرقة متناحرة، وتضعف أمام الأعداء والحوادث، كما يحدق الخطر بالمسائل العبادية في مثل هذه الأُمّة من صلاة وصيام، وحتى بحيثية القرآن و (موجوديته).
ولذلك فقد أوجبت الشريعة الإِسلامية إصلاح ذات البين في بعض مراحله، وجازت الإِنفاق من بيت المال لتحقق هذا الأمر، وندبت إلى ذلك في مراحله الأُخرى التي لا تتعلق بمصير المسلمين مباشرة، وعدت ذلك مستحباً مؤكّداً... .
* * *
[361]
الآيات
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ 2 الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَـوةَ وَممّا رَزَقْنَـهُمْ يَنفِقُونَ 3 أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّاً لَّهُمْ دَرَجَتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ4
التّفسير
خمس صفات خاصّة بالمؤمنين:
كان الكلام في الآية السابقة عن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله بعد المشاجرة اللفظية بين بعض المسلمين في شأن الغنائم.
وإكمالا لهذا الموضوع فالآيات ـ محل البحث ـ تذكر صفات المؤمنين بحق في عبارات موجزة غزيرة المعنى.
فيشير الذكر الحكيم في هذه الآيات إلى خمس صفات بارزة في المؤمنين: ثلاث منها ذات جانب معنوي وروحاني وباطني، واثنتين منها لها جانب عملي
[362]
وخارجي...
فالثلاث الأُولى عبارة عن "الإحساس بالمسؤولية" و "الإِيمان" و"التوكل".
والإثنتان الأُخريان هما الإِرتباط بالله، والإِرتباط بخلق الله سبحانه.
فتقول الآيات أوّلا: (إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).
و"الوجل" حالة الخوف التي تنتاب الإِنسان، وهو ناشيءٌ عن أحد أمرين: فقد ينشأ عند إدراك المسؤولية وإحتمال عدم القيام بالوظائف اللازمة التي ينبغي على الإِنسان أداؤها بأكمل وجه امتثالا لأمر الله تعالى.
وقد ينشأ عند إدراك عظمة مقام الله، والتوجه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له، ومهابته التي لا حدّ لها.
وتوضيح ذلك: قد يتفق للإِنسان أن يمضي لرؤية شخص عظيم هو ـ بحق ـ جدير بالعظمة من جميع الجوانب، فالإِنسان الذي يمضي لرؤيته قد يقع تحت تأثير ذلك المقام وتلك العظمة، بحيث يحس بنوع من الرهبة في داخله ويضطرب قلبه حتى أنّه لو أراد الكلام لتعلثم، وقد ينسى ما أراد أن يقوله، حتى لو كان ذلك الشخص يحب هذا الإِنسان ويحب الآخرين جميعاً ولم يصدر عنه ما يدعو إلى القلق.
فهذا الخوف والإِضطراب أو المهابة مصدرها عظمة ذلك الشخص، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)(1).
كما نقرأ في آية أُخرى من قوله تعالى: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)(2).
وهكذا فإن العلاقة قائمة بين العلم والخوف أيضاً، وبناءً على ذلك فمن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الحشر، 21.
2 ـ فاطر، 28.
[363]
الخطأ أن نعدّ أساس الخوف والخشية عدم أداء الوظائف المطلوبة فحسب.
ثمّ تبيّن الآية الصفة الثّانية للمؤمنين فتقول: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً).
إنّ النمو والتكامل من خصائص جميع الموجودات الحية، فالموجودات الفاقد للنمو والتكامل إمّا أن يكون ميتاً أو في طريقه إلى الموت. والمؤمنون حقّاً لهم إيمان حيّ ينمو غرسه يوماً بعد يوم بسقيه من آيات الله، وتفتح أزهاره وبراعمه، ويؤتي ثماره أكثر فأكثر، فهم ليسوا كالموتى من الجمود وعدم التحرك، ففي كل يوم جديد يكون لهم فكر جديد وتكون صفاتهم مشرقة جديدة...
وهذه الدّرجات مبهمة لم يعين مقدارها وميزانها، وهذا الإِبهام يشير إلى أنّها درجات كريمة عالية.
وللمؤمنين إضافة لدرجاتهم رحمة من الله ومغفرة ورزق كريم.
والحق أنّنا ـ نحن المسلمين ـ الذين ندّعي الإسلام وقد نرى أنفسنا أُولي فضل على الإسلام والقرآن، نتهم القرآن والإِسلام جهلا بأنّهما سبب التأخر والإنحطاط، وتُرى لو أنّنا طبقنا فقط مضامين هذه الآيات محل البحث على أنفسنا و التي تمثل صفات المؤمنين بحق، ولم نتكل على هذا وذاك، وأن نطوي كل يوم مرحلة جديدة من الإِيمان والمعرفة، وأن نحس دائماً بالمسؤولية لتقوية علاقتنا بالله وبعباده فننفق ما رزقنا الله في سبيل تقدم المجتمع، أنكون بمثل ما نحن عليه اليوم؟!
وينبغي ذكر هذا الموضوع أيضاً، وهو أنّ الإِيمان ذو مراحل ودرجات، فقد يكون ضعيفاً في بعض مراحله حتى أنّه لا يبدو منه أي شيء عملي مؤثر، أو يكون ملوّثاً بكثير من السيّئات. إلاّ أنّ الإِيمان المتين الراسخ من المحال أن يكون غير بناءً أو غير مؤثر ومايراه البعض من أن العمل ليس جزءاً من الإِيمان، فلإقتصارهم على أدنى مراحل الإِيمان.
* * *
[364]
الآيتان
كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنينَ لَكَـرِهُونَ 5 يُجَـدِلُونَكَ فِى الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ 6
التّفسير
قرأنا في الآية الأُولى من هذه السورة أنّ بعض المسلمين من جديدي العهد بالإِسلام، كانوا غير راضين عن كيفية تقسيم غنائم معركة بدر (إلى حد ما).
ففي الآيتين محل البحث يقول الله سبحانه لأُولئك: هذه ليست أوّل مرّة تكرهون شيئاً مع أنّه فيه صلاحكم كما كان الأمر في أساس غزوة بدر وكانوا غير راضين باديء الأمر، إلاّ أنّهم رأوا كيف تمت هذه المعركة لصالح الإسلام والمسلمين.
فإذن لا ينبغي أن تقوّم أحكام الله بالنظرات الضيقة المحدودة، بل ينبغي الإِنصياع والتسليم لها ليستفاد من نتائجها النهائية.
تقول الآية الأُولى من الآيتين محل البحث: إنّ عدم رضا بعض المسلمين في شأن تقسيم الغنائم يشبه عملية إخراجك من مكّة وعدم رضى بعض المؤمنين
[365]
بذلك: (كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون).
والتعبير بالحق إشارة إلى أنّ أمر الخروج كان طبقاً لوحي الإِلهي ودستور سماوي، وكانت نتيجته الوصول إلى الحق واستقرار المجتمع الإسلامي، إلاّ أنّ هؤلاء الأفراد لا يرون إلاّ ظواهر الأُمور، ولهذا: (يجادلونك في الحق بعد ما تبيّن كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).
إلاّ أنّ الحوادث التالية كشفت لهم عن خطئهم في حساباتهم، وأنّ خوفهم وقلقهم دونما أساس، وأنّ هذه المعركة (معركة بدر) حققت للمسلمين انتصارات مشرقة، فمع رؤية مثل هذه النتائج علام يجادلون في الحق وتمتد ألسنتهم بالإِعتراض؟!
والتعبير بـ(فريقاً من المؤمنين) يكشف ضمناً ـ أوّلا ـ أن هذا التشاجر أو المحاورة لم تكن عن نفاق أو عدم إيمان، بل عن ضعف الإيمان وعدم إمتلاك النظرة الثاقبة في المسائل الإِسلامية.
وثانياً: إنّ الذين جادلوا في شأن الغنائم كانوا قلّة وفريقاً من المؤمنين، غير أنّ بقيتهم وغالبيتهم أذعنوا لأمر رسول الله واستجابوا له.
* * *
[366]
الآيتان
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَـتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَفِرينَ 7 لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الُْمجْرِمُونَ 8
غزوة بدر أوّل مواجهة مسلحة بين الإِسلام والكفر...
لما كانت الآيات السابقة قد أشارت إلى معركة بدر، فإنّ الآيتين أعلاه وما بعدهما من الآيات قد أماطت اللثام عن جوانب مهمّة وحساسة في تلك المعركة ليستلهم المسلمون من هذه الآيات الحقائق التي مرّت بهم في الماضي القريب، ويجعلوها أمام أعينهم للعبرة والإِتعاظ.
ولإِيضاح الآيتين محل البحث والآيات التّالية، من المناسب أن نلقي الضوء على ما جرى في هذه المعركة الحاسمة، وكيف كانت هذه المواجهة المسلحة الأُولى وهذا الجهاد الإِسلامي بوجه العدوّ اللدود؟ لتتجلى لنا دقائق الأُمور ولطائف ما أشارت إليه الآيات الكريمة في شأن معركة بدر الكبرى.
بدأت معركة بدر ـ طبقاً لما يقول المؤرخون والمحدّثون والمفسّرون ـ حين
[367]
كان أبوسفيان كبير مكّة عائداً بقافلة تجارية مهمّة مؤلفة من أربعين شخصاً، وتحوي على ثروة تجاربة تقدّر بحمسين ألف دينار من الشام نحو المدينة.
فأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه أن يتعبأوا ويتهيأوا لمواجهة هذه القافلة الكبيرة التي تحمل جل رأس مال العدوّ معها، وبمصادرة أموال القافلة لتوجيه ضربة إقتصادية نحو العدوّ وتعقبها ضربة عسكرية قاصمة.
وكان للنّبي وأصحابه الحق في مثل هذه الحملة أو الهجوم، لأنّه ـ أوّلا ـ عندما هاجر المسلمون من مكّة نحو المدينة استولى أهل مكّة على كثير من أموالهم، ونزلت بهم خسارة كبيرة. فكان لهم الحق أن يجبروا مثل هذه الخسارة.
ثمّ بعد هذا كلّه برهن أهل مكّة طيلة الثلاثة عشر عاماً التي أقام النّبي وأصحابه بمكّة خلالها أنّهم لا يألون جهداً في إيذاء النّبي وأصحابه، بل أرادوا به الوقيعة والمكيدة، فإنّ عدوّاً كهذا لن يسكت عن النّبي ودعوته بمجرّد هجرته إلى المدينة، ومن المسلم به أنّه سيعبىءُ قواه في المستقبل لمواجهة النّبي والإيقاع به.
إذن فالعقل والمنطق يوجبان أن يسارع المسلمون بمبادرة عاجلة لمصادرة أموال أهل مكّة لتدمير دعامتهم الإِقتصادية، وليوفروا على أنفسهم إمكانية التهيؤ العكسري والإِقتصادي لمواجهة العدو مستقبلا.
وهذه المبادرة كانت ولا تزال في جميع الخطط العسكرية قديمها وحديثها وأمّا من يرى أن توجّه النّبي نحو قافلة أبي سفيان ـ ودون الأخذ بنظر الإِعتبار هذه الجهات المشار إليها آنفاً ـ نوعاً من الإغارة، فإمّا أن يكون جاهلا لا يعرف جذور المسائل التأريخية في الإِسلام أو أنّه مغرض يريد تحوير الواقعيات والثوابت التاريخية.
وعلى كل حال، فإنّ أبا سفيان عرف عن طريق أتباعه وأصدقائه تصميم النّبي على مواجهة قافلته، هذا من جهة، كما أنّ القافلة حينما كانت متجهة نحو الشام للإِتيان بمال التجارة تعرضت لتحركات من هذا القبيل. لهذا فإنّ أبا سفيان
[368]
أرسل من يمضي إلى مكّة بسرعة ليخبر أهلها بما سيؤول إليه أمر القافلة.
فمضى رسول أبي سفيان بحالة مثيرة كما أوصاه أبو سفيان، إذ خرم أنف بعيره وبتر أذنيه والدماء تسيل على وجه البعير لهيجانه، وقد شقّ ثوبه ـ أو طمريه ـ وركب بعيره على خلاف ما يركب الناس "إذ ظهره كان إلى رقبة البعير ووجهه إلى عجزه" ليلفت الناس إليه من كل مكان. فلما دخل مكّة أخذ يصرخ قائلا: أيّها الناس الأعزة، أدركوا قافلتكم، أدركوا قافلتكم وأسرعوا وتعجلوا إليها، وإن كنت لا أعتقد أنّكم ستدركونها في الوقت المناسب، فإنّ محمّداً ورجالا مارقين من دينكم قد خرجوا من المدينة ليتعرضوا لقافلتكم.
وكانت عاتكة بنت عبدالمطلب عمّة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) آنئذ قد رأت رؤيا موحشة عجيبة، وقد تناقلت الأفواه رؤياها فيزداد الناس هيجاناً.
وكانت عاتكة قد رأت قبل ثلاثة أيّام من مجيء رسول أبي سفيان إلى مكّة، أنّ شخصاً يصرخ: أيّها الناس تعجّلوا إلى قتلاكم، ثمّ صعد هذا المنادي إلى أعلى جبل أبي قيس وأخذ حجراً كبيراً فرماه فتلاشى الحجر في الهواء، ولم يبق بيت في مكّة لقريش إلاّ نزل فيه منه شيء، كما أن وادي مكّة يجري دماً عبيطاً.
فلمّا استيقظت فزعة مرعوبة من نومها وقصّت رؤياها على أخيها العباس، ذهل الناس لهول هذه الرؤيا.
لكن أبا جهل لما بلغه ذلك قال: ما رأت عاتكة رؤيا، هذه نبيّة ثانية في بني عبدالمطلب، وباللات والعزّى لننظرن ثلاثة أيّام، فإن كان ما رأت حقّاً فهو كما رأت، وإن كان غير ذلك لنكتبنّ بيننا كتاباً: أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم.
ولكن لم يكد يمضي اليوم الثّالث حتى كان ما كان من أمر ذلك الرجل الذي هزّ مكّة وأهلها.
ولما كان أكثر أهل مكّة شركاء في هذه القافلة فقد تعبئوا بسرعة وتحركوا
[369]
نحو القافلة بحوالي 950 مقاتلا و 700 بعير ومئة فرس، وكان أبوجهل يقود هذا الجيش. ومن جهة أُخرى ولكي يسلم أبو سفيان من تعرض النّبي وأصحابه لقافلته، فقد غير مسيره واتجه نحو مكّة بسرعة.
وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قارب بدراً في نحو من ثلائمائة وثلاث عشر رجلا كانوا يمثلون رجال الإِسلام آنئذ "وبدر منطقة ما بين مكّة والمدينة" وقد بلغه خبر تهيؤ أبي جهل ومن معه لمواجهتِه.
فتشاور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه: هل يلحقون القافلة ويصادرون أموالها، أو أن عليهم أن يتهيأوا لمواجهة جيش العدوّ؟ فقالت طائفة من أصحابه: نقاتل عدوّنا، وكرهت طائفة أُخرى ذلك وقالت: إنّما خرجنا لمصادرة أموال القافلة.
ودليلها معها، إذ أنّها لم تخرج إلاّ لهذا السبب (من المدينة) ولم يكن النّبي وأصحابه عازمين على مواجهة جيش أبي جهل ولم يتعبأوا لذلك، في حين أن أبا جهل قد تعبأ لهم ويريد قتالهم.
وقد ازداد هذا التردد بين الطائفتين، خاصّة بعد أن عرف أصحاب النّبي أنّ جيش العدوّ ثلاثة أضعافهم وتجهيزاته أضعاف تجهيزاتهم، إلاّ أنّ النّبي بالرغم من كل ذلك قبل بالقول الأوّل "أي قتال العدوّ" فلما التقى الجيشان لم يصدق العدوّ أن المسلمين قد وردوا الميدان بهذه القلّة، بل ظن العدوّ أنّهم مختبئون وأنّهم سيحدقون به عند المواجهة، لذلك فقد أرسل شخصاً ليرصد الأُمور فرجع وأخبرهم بأنّ المسلمين ليسوا أكثر ممّا رأوهم.
ومن جهة أُخرى ـ كما أشرنا آنفاً ـ فإنّ طائفة من المسلمين كانت في قلق وإضطراب وكانت تصرّ على عدم مواجهة هذا الجيش اللجب، إذ لا موازنة بين أصحاب النّبي وأصحاب أبي جهل! لكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) طمأنهم بوعد الله وقال: "إنّ اللّه وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه الميعاد" قافلة قريش أو جيش قريش، ولن يخلف الله وعده، فوالله لكأنّي أرى مصرع أبي جهل وجماعة من
[370]
أصحابه بعينيّ.
ثمّ أمر النّبي أن ينزل أصحابه إلى بئر بدر "وبدر في الأصل اسم رجل من قبيلة جُهينة حفر بئراً في ذلك الموضوع فسُميّت باسمه، وسمّيت الأرض بأرض بدر أيضاً".
وفي هذه الأثناء استطاع أبو سفيان أن يفرّ بقافلته من الخطر المحدق به، واتّجه نحو مكّة عن طريق ساحل البحر الأحمر غير المطروق، وأرسل رسولا إلى قريش: إنّ الله نجيّ قافلتكم، ولا أظن أنّ مواجهة محمّد في هذا الظرف مناسبة، لأنّ له أعداءً يكفونكم أمره. إلاّ أنّ أبا جهل لم يرض باقتراح أبي سفيان وأقسم باللات والعزّى أنّه سيواجه محمّداً، بل سيدخل المدينة لتعقيب أصحابه أو سيأسرهم جميعاً ويمضي بهم لمكّة، حتى يبلغ خبر هذا الإِنتصار آذان العرب.
وأخيراً ورد جيش قريش أرض بدر وأرسلوا غلمانهم للإِستقاء من ماء بدر، فأسرهم أصحاب النّبي وأخذوهم للتحقيق إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسألهم النّبي: من أنتم؟ فقالوا: يا محمّد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم ؟! فقالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: كم ينحرون في كل يوم جزوراً؟ فقالوا: تسعة إلى عشرة.
فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): القوم تسعمائة الى ألف (كل مئة يأكلون بعيراً واحداً).
كان الجوّ مكفهراً بالرعب والوحشة، إذ كان جيش قريش معبّأ مدججاً بالسلاح، ولديه المؤونة والعُدّدِ، حتى النساء اللائي ينشدن الأشعار والمغنيات اللائي يثرن الحماسة. وكان جيش أبي جهل يرى نفسه أمام طائفة صغيرة أو قليلة من الناس، ولا يصدّق أنّهم سينزلون الميدان.
فلمّا رأي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن أصحابه قلقون وربّما لا ينامون الليل من الخوف فيواجهون العدو غداً بمعنويات مهزورة قال لهم كما وعده الله: لا تحزنوا فإنّ كان عددكم قليلا فإنّ الله سيمدكم بالملائكة، وسرّى عن قلوبهم حتى ناموا ليلتهم مطمئنين راجين النصر على عدوّهم.
[371]
المشكلة الأُخرى التي كان أصحاب النّبي يواجهونها، هي أن أرض بدر كانت غير صالحة للنزال لما فيها من الرمال، فنزل المطر تلك الليلة، فأفاد منه أصحاب النّبي فاغتسلوا منه وتوضأوا وأصبحت الأرض صُلبة صالحة للنزال، العجيب في ذلك أنّ المطر كان في جهة العدوّ شديداً بحيث أربكهم وأزعجهم.
والخبر الجديد الذي حصل عليه أصحاب النّبي من جواسيسهم الذين تحسسوا ليلا حالة العدو أنّ جيش قريش مع كل تلك الإمكانات العسكرية في حالة من الرعب بمكانة لا توصف، فكأنّ الله أنزل عليها جيشاً من الرعب والوحشة.
وعند الصباح اصطفّ جيش المسلمين الصغير بمعنويات عالية ليواجهوا عدوّهم، ولكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إتماماً للحجّة ولئلا يبقى مجال للتذرع بالذرائع الواهية ـ أرسل إلى قريش ممثلا عنه ليقول لهم: إنّ النّبي لا يرغب في قتالكم لا يحبّ أن تكونوا أوّل جماعة تحاربه. فوافق بعض قادة قريش على هذا الإِقتراح ورغبوا في الصلح، إلاّ أنّ أبا جهل امتنع وأبى بشدّة.
وأخيراً اشتعلت نار الحرب، فالتقى أبطال الإِسلام بجيش الشرك والكفر، ووقف حمزة عمّ النّبي وعلي ابن عمّ النّبي الذي كان أصغر المقاتلين سنّاً وجها لوجه مع صناديد قريش وقتلوا من بارزهم فإنهار ما تبقى من معنويات العدوّ، فأصدر أبو جهل أمراً عاماً بالحملة، وكان قد أمر بقتل أصحاب النّبي من أهل المدينة "الأنصار" وأن يؤسر المهاجرون من أهل مكّة. فقال النّبي لأصحابه: "غضّوا أبصاركم وعضو على نواجذ ولا تستلوا سيفاً حتى آذن لكم".
ثمّ مدّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يديه إلى الدعاء، ورفع بهما نحو السماء فقال: "يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لاتعبد..."
فهبت ريح عاصف على العدوّ، وكان المسلمون يحملون على عدوّهم والرياح تهب من خلفهم بوجه العدو، وأثبت المسلمون جدارة فائقة وصمدوا
[372]
للقتال حتى قتلوا منهم سبعين "وأبوجهل من القتلى" وأسروا سبعين، وانهزم الجمع وولّوا الدُبُر، ولم يُقتل من المسلمين إلاّ نفر قليل، وكانت هذه المعركة أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وعدوّهم من قريش، وإنتهت بالنصر الساحق للمسلمين على عدوّهم(1).
التّفسير
والآن وبعد أن عرفنا باختصار كيف كانت غزوة بدر، نعود ثانية إلى تفسير الآيتين.
في الآية الأُولى ـ من الآي محل البحث ـ إشارة إلى وعد الله بالنصر في معركة بدر إجمالا، إذ تقول الآية: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم).
لكنكم لخوفكم من الخسائر واخطار وبلايا الحرب لم تكونوا راغبين فيها (وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم).
وقد جاء في بعض الرّوايات الإِسلامية أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم: "إحدى الطائفتين لكم، إمّا العير وإمّا النفير".
وكلمة العير تعني القافلة، والنفير يعني الجيش.
إلاّ أنّه ـ كما يلاحظ في الآية الكريمة، أنّ التعبير جاء بذات الشوكة مكان الجيش والنفير، وبغير ذات الشوكة مكان القافلة أو العير.
وهذا التعبير يحمل في نفسه معنى لطيفاً، لأن الشوكة ترمز إلى القدرة وتعني الشدّة، وأصلها مأخوذ من الشوك، ثمّ استعملت هذه الكلمة "الشوكة" في نصول الرماح، ثمّ أطلق هذا الإِستعمال توسعاً على كل نوح من الأسلحة، ولما كان السلاح يمثل القوّة والقدرة، والشدّة فقد عُبر عنه بالشوكة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد من الإيضاح يراجع تفسير نور الثقلين، ج2، ص 121 إلى 136 و مجمع البيان ج 4، ص 521، 523، وما ذكرناه بتصرف واختصار.
[373]
فبناءً على هذا فإنّ ذات الشوكة تعني الجماعة المسلحة، وغير ذات الشوكة تعني الجماعة غيرالمسلحة، ولو إتفق أن يوجد فيها رجال مسلحون فهم معدودون لا يكترث بهم. أي أن فيكم من يرغب في مواجهة العدو غير مسلحة، وذلك بمصادرة أموال تجارته، وذلك ابتغاء الراحة أو حبّاً منه للمنافع المادية، في حين أن الحرب اثبتت بعد تمامها أن الصلاح يكمن في تحطيم قوى العدو العسكرية، لتكون الطريق لاحبةً لإِنتصارات كبيرة في المستقبل، ولهذا فإنّ الآية تعقب بالقول (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين)(1).
فعلى هذا، كانت واقعة بدر درساً كبير للمسلمين للإفادة منه في الحوادث الآتية، ويؤكّد لهم أن يتدبروا عواقب الأمور، ولا يكونوا سطحيين يأخذون بالمصالح الآنية، وبالرغم من أنّ بعد النظر يقترن بالمصاعب عادة، وقصر النظر على العكس من ذلك يقترن بالمنافع المادية والراحة المؤقتة، إلاّ أنّ النصر في الحالة الأُولى يكون شاملا ومتجذّراً، أمّا في الحالة الثّانية فهو انتصار سطحي موقت.
ولم يكن هذا درساً لمسلمي ذلك اليوم فحسب، بل ينبغي لمسلمي اليوم أن يستلهموا من ذلك التعليم السماوي، فعليهم ألاّ يغضوا أبصارهم عن المناهج الأصولية بسبب المشاكل والأتعاب ويستبدلوها بمناهج غير الأُصولية قليلة الأتعاب.
وفي آخر آية يماط اللثام عن الأمر بصورة أجلى، إذ تقول الآية الكريمة (ليحق الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
ترى هل الآية هذه تأكيد لما ورد في الآية السابقة، كما يبدو لأوّل وهلة، أم هو موضوع جديد تتضمنه الآية؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الدابر بمعنى ذيل الشيء وعقبه، فبناءً على هذا يكون معنى "ويقطع دابر الكافرين" هو استئصال جذورهم.
[374]
قال بعض المفسّرين، كالفخر الرّازي في تفسيره الكبير، وصاحب المنار: إنّ الحقَّ في الآية المتقدمة إشارةٌ لإِنتصار المسلمين في معركة بدر، إن الحقّ في الآية محل البحث، "الثّانية" إشارة لإِنتصار الإِسلام والقرآن الذي كان نتيجة الإِنتصار العسكري في معركة بدر، وهكذا فإنّ الإِنتصار العسكري ـ في تلك الظروف الخاصّة ـ مقدمة لإِنتصار الاسلام والمسملين.
كما يرد هذا الإِحتمال، وهو أن الآية السابقة تشير إلى إرادة الله "الإِرادة التشريعية" التي كانت جلية في أوامر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والآية الثّانية تشير إلى نتيجة هذا الحكم والأمر (فلاحظوا بدقة!)...
* * *
[375]
الآيات
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْف مِّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ 9 وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 10 إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطـنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاَْقْدَامَ 11 إِذ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَـئِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوْا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوقَ الاَْعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان 12 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ13 ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَفِرِينَ عَذابَ النَّارِ14
[376]
التّفسير
دروس مفيدة من ساحة المعركة:
إنّ هذه الآيات تتحدث عن اللحظات الحساسة من واقعة بدر، والألطاف الإِلهية الكثيرة التي شملت المسلمين لتثير في نفوسهم الإِحساس بالطاعة والشكر، ولتعبيد الدرب نحو إنتصارات المستقبل.
وتشير إبتداءً لإِمداد الملائكة فتقول: (وإذ تستغيثون ربّكم).
جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستغيث ويدعو ربّه مع بقية المسلمين، وقد رفع يديه نحو السماء قائلا: "اللّهم أنجز لي ما وعدتني، اللّهم إنّ تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)(1).
وعند ذلك (فاستجاب لكم أنّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين).
وكلمة (مردفين) من (الإِرداف) بمعنى اتّخاذ محل خلف الشيء، فيكون مفهومها أنّ الملائكة كانت تتابع بعضها بعضاً في النّزول لنصرة المسلمين.
واحتمل معنى آخر في الآية، وهو أنّ مجموعة الألف من الملائكة كانت تتبعها مجموعات أُخرى، ليتطابق هذا المعنى والآية (124) من سورة آل عمران، والتي تقول عن لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (إذ تقول للمؤمنين ألنْ يكفيكم أن يمدكم ربّكم بثلاثةِ آلاف من الملائكة منزلين).
إلاّ أنّ الظاهر أنّ عدد الملائكة في بدر هو الألف، وكلمة مردفين صفة هذا الألف. وآية سورة آل عمران كانت وعداً للمسلمين في أنزال ملائكة أكثر لنصرة المسلمين إذا ما اقتضى الأمر.
ولئلا يعتقد بعضٌ بأنّ النصر كان بيد الملائكة فحسب، فإنّ الآية تقول: (وما جعله الله إلاّ بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلاّ من عند الله إنّ الله عزيز
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ذيل الآية.
[377]
حكيم). لأنّ الله عزيز ومقتدر لا يستطيع أحد الوقوف مقابل إرادته، وحكيم لا ينزل نصرته إلاّ للأفراد الصالحين والمستحقين لذلك.
هل قاتلت الملائكة؟
لقد جرى البحث في هذه المسألة كثيراً بين المفسّرين، فبعضهم يرى أنّ الملائكة دخلت ساحة القتال وهاجمت الأعداء بأسلحتها الخاصّة، وقتلت بعضهم. ونقلت بعض الرّوايات في تأييد ذلك.
إلاّ أنّ القرائن تؤيد الرأي الذي يقول: إنّ الملائكة نزلت لتطمئن قلوب المؤمنين، ويزداد عزمهم، وهذا الرأي أقرب إلى الواقع لعدّة أدلة:
أوّلا: لقد قرأنا في الآية قوله تعالى: (ولتطمئن قلوبكم). فإذا ما علم المسلمون بهذا المدد فإنّهم يقاتلون بصورة أفضل، لا أن الملائكة شاركت في الحرب.
ثانياً: إذا كانت الملائكة هي التي قتلت جنود الأعداء، فأيّة فضيلة للمجاهدين في معركة بدر وما ورد عن مقامهم ومنزلتهم من روايات كثيرة؟
ثالثاً: كان عدد المقتولين في بدر هو (70 نفراً) وقد كان الكثير منهم قد سقط بسيف علي(عليه السلام)، والقسم الآخر بيد المقاتلين الآخرين، وهؤلاء معروفون بأسمائهم في التاريخ، فبناءً على ذلك ـ من الذي ـ بقي لتقتله الملائكة؟!
ثمّ تذكر الآية النعمة الثّانية التي اكتنفت المؤمنين فتقول: (إذ يغشيكم النعاس أمنةً منه).
و (يغشى) من مادة (الغشيان) بمعنى تغطية الشيء وإحاطته. فكأنّ النوم كالغطاء الذي وُضعَ عليهم فغطّاهم.
و(النعاس) يطلق على بداية النوم، أو النوم القليل أو الخفيف الناعم ولعلها إشارة إلى أنّه بالرغم من هدوئكم النفسِ لم يأتكم نوم عميق يمكّن الأعداء من
[378]
استغلاله والهجوم عليكم. وهكذا استفاد المسلمون من هذه النعمة العظيمة من تلك الليلة.
والرحمة الثّالثة التي وصلتكم هي: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشّيطان).
وهذا الرّجز قد يكون وساوس الشيطان، أو رجزاً بدنياً كجنابة بعضهم، أو الأمرين معاً. وعلى أية حال، فإنّ الماء ملأ الوديان من أطراف بدر بعد أن استولى الأعداء على آبار بدر وكان المسلمون بحاجة ماسة للغسل ورفع العطش، فاذا هذا الماء قد ذهب بكل تلك الأرجاس.
ثمّ أنّ الله تعالى أراد بذلك تقوية معنويات المسلمين وكذلك تثبيت الرمال المتحركة تحت أقدامهم بواسط المطر: (وليربط على قلوبكم ويثبّت به أقدامكم)... ويمكن أن يكون المراد من تثبيت الأقدام هو رفع المعنويات وزيادة الثبات والإِستقامة ببركة تلك النعمة، أو إشارة إلى هذين الأمرين.
والنعمة الأُخرى التي أنعمها الله على المجاهدين في بدر، هي الرعب الذي أصاب به الله قلوب أعدائهم، فزلزل معنوياتهم بشدة، فيقول تعالى (إذ يوحي ربّك إلى الملائكة إنّي معكم فثبّتوا الذين آمنوا).
(سألقي في قلوب الذين كفروا الرّعب).
وإنّه لمن العجب والغرابة أن ينهار جيش قريش القوي أمام جيش المسلمين القليل، وأن تذهب معنوياتهم ـ كما ينقل التاريخ ـ بصورة يخاف معها الكثير منهم من منازلة المسلمين، وحتى أنّهم كانوا يفكرون بأنّ المسلمين ليسوا أشخاصاً مألوفين، وكانوا يقولون بأنّ المسلمين قد جاؤوكم من قرب يثرب (المدينة) بهدايا يحملونها على إبلهم هي الموت.
ولا شك أنّ هذا الرعب الذي أصاب قلوب المشركين، والذي كان من عوامل النصر، لم يكن جزافاً، فلقد أثبت المسلمون شجاعتهم وأقاموا صلاة
[379]
الجماعة، وكانت شعارتهم قوية. فإظهار المؤمنون الصادقين وفاءهم وخطبة بعضهم مثل سعد بن معاذ نيابة عن الأنصار أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا:
"بأبي أنت وأمّي، يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به حق من عندالله فمرنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منه ما شئت والذي أخذت منه أحبّ اليّ من الذي تركت منه، والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لنحضنا معك .... إِنّنا لنرجوا أن يقرّ الله عزّوجلّ عينيك بنا....".
مثل هذا الحديث سرعان ما انتشر بين الأعداء والأصدقاء، أضف إِلى ذلك ما رآه المشركون من ثبات راسخ عند المسلمين يوم كانوا في مكّة رجالا ونساءً.
اجتمعت كل هذه الأُمور لترسم صورة الخوف عند المشركين.
ثمّ الريح العاتية التي كانت تهب على المشركين والمطر الشديد عليهم والخواطر المخفية لرؤيا (عاتكة) في مكّة، وغيرها من العوامل التي كانت تبعث فيهم الخوف والهلع الشديد.
ثمّ آن القرآن يذكّر المسلمين بالأمر الذي أصدره النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)للمسلمين بأنّ عليهم اجتناب الضرب غير المؤثر في المشركين، حال القتال لئلا تضيع قوتهم فيه، بل عليهم توجيه ضربات مؤثرة وقاطعة (فأضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان).
و(البنان) جمع (البنانة) بمعنى رؤوس أصابع الأيدي أو الأرجل، أو الأصابع نفسها، وفي هذه الآية يمكن أن تكون كناية عن الأيدي والأرجل أو بالمعنى الأصلي نفسه، فإنّ قطع الأصابع من الأيدي يمنع من حمل السلاح، وقطعها من الارجل يمنع الحركة، ويحتمل أن يكون المعنى هو إذا كان العدو مترجلا، فيجب أن تكون الأهداف رؤوسهم، وإذ كان راكباً فالأهداف أيديهم وأرجلهم.
كما أنّ بعضاً ى يرى أنّ هذه الجملة هي خطاب للملائكة، إلاّ أنّ القرائن تدل
[380]
على أنّ المخاطبين هم المسلمون، وإذا كان الملائكة هم المخاطبين فيها فيمكن أن يكون الهدف من الضرب على الرؤوس والأيدي والأرجل، هو إيجاد الرعب فيهم لترتبك أيديهم وأرجلهم فتسقط وتنحني رؤوسهم. (وبالطبع فإنّ هذا التّفسير يخالف الظاهر من العبارة، ويجب إثباته بالقرائن تحدثنا عنها سابقاً من مسألة عدم قتال الملائكة).
وبعد كل تلك الأحاديث، ولكيلا يقول شخص بأنّ هذه الأوامر الصادقة تخالف الرحمة والشفقة وأخلاق الرجولة، فإنّ الآية تقول: (ذلك بأنّهم شاقوا الله ورسوله).
و(شاقوا) من مادة (الشقاق) وهي في الأصل بمعنى الإِنفطار والإِنفصال، وبما أنّ المخالف أو العدوّ ويبتعد عن الآخرين فقد سمي عمله شقاقاً: (ومن يشاقق الله ورسوله فإنّ الله شديد العقاب).
ثمّ يؤكّد هذا الموضوع: ويقول: ذوقوا العذاب الدنيوي من القتل في ميدان الحرب والأسر والهزيمة السافرة، ومع ذلك انتظروا عذاب الاخرة أيضاً: (ذلكم فذوقوه وإنّ للكافرين عذاب النّار).
* * *
[381]
الآيات
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفَاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الاَْدْبَارَ15 وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَال أَوْ مُتَحَيَّزاً إِلَى فِئَة فَقَدْ بَآءَ بِغَضَب مِّنَ اللهَ وَمَأْوَهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ16 فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ و َمَا رَمَيْتَ إِذْ ر َمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنَينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ17 ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَـفِرِينَ18
التّفسير
الفرار من الجهاد ممنوع!
كما ذكرنا في تفسير الآيات السابقة، فإنّ الحديث عن قصّة معركة بدر وألطاف الله الكثيرة على المسلمين الأوائل من أجل أن يتّخذ منه المسلمين العبرة والدرس في المستقبل، لذلك فإنّ هذه الآيات توجه خطابها للمؤمنين وتأمرهم أمراً عاماً بالقتال: (يا آيّها الذين آمنوا إِذ لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار).،
[382]
و(لقيتم) من مادة (اللقاء) بمعنى الإِجتماع والمواجهة، وتأتي في أكثر أحيان بمعنى المواجهة في ميدان الحرب.
و(الزّحف) في الأصل بمعنى الحركة إِلى أمر ما بحيث تسحب الأقدام على الأرض كحركة الطفل قبل قدرته على المشي، أو الإِبل المرهقة التي تخط أقدامها على الأرض أثناء سيرها، ويطلق على الجيش الجرار الذي يشاهد من بعيد وكأنّه يحفر الأرض أثناء مسيره.
واستخدام كلمة (زحف) ـ في الآية آنفاً ـ تشير إِلى أنّه بالرغم من أنّ عدوكم قوي وكثير، وأنتم قليلون، فلا ينبغي لكم الفرار من ساحة الحرب، وكما كان عدوكم كثيراً في ميدان بدر فثبتّم وانتصرتم.
فالفرار من الحرب يعدّ في الإِسلام من كبائر الذنوب، إلاّ أنّ ذلك مرتبط ـ كما نبيّن بعض الآيات ـ بكون الأعداء ضِعفي عدد المسلمين، وسنبحث هذا الأمر بعون الله في الآيتين (65) و(66) من هذه السورة. ولذلك تذكر الآية بعدها جزاء من يفر من ميدان الحرب مع الإِشارة لمن يستثنون منهم فتقول: (ومن يُولّهم يومئذ دُبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله).
وكما نرى فقد استثنت الآية صورتين من مسألة الفرار، ظاهرهما أنّهما من صورة الفرار، غير أنّهما في الحقيقة والواقع صورتان للقتال والجهاد.
الصورة الأُولى:
عُبّر عنها بـ ("متحرّفاً لقتال) و"متحرف" من مادة (التحرّف) أي الإِبتعاد جانباً من الوسط نحو الأطراف والجوانب، والمقصود بهذه الجملة هو أنّ المقاتلين يقومون بتكتيك قتالي إزاء الأعداء، فيفرون من أمامهم نحو الأطراف ليلحقهم الأعداء: ثمّ يغافلوهم في توجيه ضربة قوية إليهم واستخدام فن الهجوم والإِنسحاب المتتابع وكما يقول العرب: (الحرب كرّ وفرّ).
الصورة الثّانية:
أن يرى المقاتل نفسه وحيداً في ساحة القتال، فينسحب للإلتحاق بأخوأنه المقاتلين وليهجم معهم من جديد على الأعداء.
[383]
وعلى كل حال، فلا ينبغي تفسير هذا التحريم بشكل جاف يتنافى وأساليب الحروب وخدعها، والتي هي أساس كثير من الإِنتصارات.
وتُختتم الآية محل البحث بالقول: إنّ جزاء من يفرّ مضافاً إِلى استحقاقه لغضب الله فانّ مصيره إِلى النّار: (ومأواه جهنم وبئس المصير).
والفعل "باء" مشتق من "البواء" ومعناه الرجوع وإِتّخاذ المنزل، جذره في الأصل يعني تصفية محل ما وتسطيحه، وحيث إنّ الإِنسان إذا نزل في محل عدله وسطحه، فقد جاءت هذه الكلمة هنا بهذا المعنى. وفي الآية إشارة إِلى أنّ غضب الله مستمر ودائم عليهم، فكأنّهم قد اتّخذوا منزلا عند غضب الله.
وكلمة "المأوى" في الأصل معناها "الملجأ" وما نقرؤه في الآية، محل البحث (ومأواه جهنم) فهو إشارة إِلى أنّ الفارين يطلبون ملجأ ومأوى من فرارهم لينقذوا أنفسهم من الهلكة، إِلاّ أنّ ما يحصل هو خلاف ما يطلبون، إذ ستكون جهنم مأواهم، وليس ذلك في العالم الآخر فحسب، بل هو في هذا العالم إذ سيحترقون في جهنم الذلة والإِنكسار والضياع.
ولذا فقد جاء في "عيون الأخبار" عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في جواب أحد أصحابه حين سأله عن فلسفة تحريم الفرار من الجهاد فقال: "وحرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والإِستخفاف بالرسل والأئمّة العادلة عليهم السلام، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة على إنكار ما دعوا إليه من الإِقرار بالرّبوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرءة العدوّ على المسلمين، وما يكون من السبي والقتل وإبطال دين الله عزّ وجلّ وغيره من الفساد".(1)
ومن ضمن الإِمتيازات الكثيرة التي كانت عند الإِمام علي(عليه السلام)، وربّما يشير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 138.
[384]
إِلى نفسه أحياناً ليكون نبراساً للآخرين قوله "إِنّي لم أفر من الزحف قطّ، ولم يبارزني أحد إلاّ سقيت الأرض من دمه"(1).
والعجيب أنّ بعض المفسّرين من أهل السنة يصرّ على أنّ حكم الآية السابقة يختص بمعركة بدر، وأنّ التهديد والوعيد من الفرار من الجهاد يتعلق بالمقاتلين في بدر فحسب، مع أنّه لا يوجد دليل في الآية على هذا التخصيص، بل لها مفهوم عام يشمل كل المقاتلين والمجاهدين.
وفي الرّوايات والآيات كثير من القرائن الذي يؤيد هذا المعنى "ولهذا الحكم شروط طبعاً سنتناولها نعالجها في الآيات المقبلة من هذه السورة إن شاء الله".
ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في إنتصارهم، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب، وليذكروا الله في قلوبهم دائماً، وليتعلقوا به طلباً لألطافه، فإنّ الآية التّالية تقول: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى).
لقد ورد في الرّوايات والتفاسير أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي يوم بدر: أعطني حفنة من تراب الأرض وحصاها، فناوله علي ذلك، فرمى النّبي جهة المشركين بذلك التراب وقال: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى).(2)
قالوا: كان لهذا الفعل أثر معجز إذ وقع ذلك التراب على وجوه المشركين وعيونهم فملأهم رعباً.
لاشك أنّ الظاهر يشير إِلى أنّ النّبي وأصحابه هم الذين أدّوا هذا الدور في معركة بدر، لكن القرآن يقول: إنكم لم تفعلوا ذلك أوّلا، لأنّ القدرات الروحية والجسمية والإِيمانية التي هي أصل تلك النتائج كلها من عطاء الله وقد تحركتم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 139.
2 ـ راجع نور الثقلين،ج2، ص140.
[385]
بقوة الله وفي سبيل الله. وثانياً قد حصلت في ساحة بدر معاجز كثيرة أشرنا إليها سابقاً، وقد بعثت في نفوس المجاهدين القوّة، وإنهارت بها قوى المشركين ومعنوياتهم، وكان كل ذلك بألطاف الله سبحانه.
وفي الحقيقة فإنّ الآية محل البحث تشير إِلى لطيفة في مذهب "لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين" لأنّها في الوقت الذي تخبر عن قتل المسلمين للكافرين، وتقول إنّ النّبي رمى التراب بوجوه المشركين تسلب منهم كل هذه الأُمور (فتأمل بدقّة).
ولا شك في عدم وجود تناقض في مثل هذه العبارة، بل الهدف هو القول بأنّ هذا الفعل كان منكم ومن الله أيضاً، لأنّه كان بإرادتكم والله منحكم القوة والمدد.
وبناء على ذلك فإنّ الذين اعتقدوا بمذهب الجبر مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية ذاتها.
والذين قالوا بوحدة الوجود مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية بأُسلوب لطيف، لأنّه إِذا كان المراد بأنّ الخالق والمخلوق واحد، فلا ينبغي أن ينسب الفعل إِليهم تارةً وينفي عنهم تارةً أُخرى، لأنّ النسبة ونفيها دليل على التعدد، وإذا تجردت الأفكار عن الحكم المسبق والتعصب المقيت لرأينا أن الآية لا ترتبط بأىَّ من المذاهب الضّالة، بل هي تشير إِلى المذهب الوسط "أمر بين أمرين" فحسب.
وهذه الإِشارة لأجل هدف تربوي، وهو إِزالة الغرور وآثاره، إذ يقع ذلك عادة في الأفراد بعد الإِنتصارات.
وتشير الآية في ختامها إِلى لطيفة مهمّة أُخرى، وهي أنّ ساحة بدر كانت ساحة امتحان وإختبار، إذ تقول: (وليبلي المؤمنون منه بلاءً حسناً).
والبلاء معناه الإختبار في الأصل، غاية ما في الأمر تارة يكون بالنعم فيسمى بلاءً حسناً، وتارةً بالمصائب والعقاب فيسمّى بلاءً سيئاً، كما تشير إِلى
[386]
ذلك الآية (168) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل (وبلوناهم بالحسنات والسيئات).
لقد شاء الله أن يذيق المؤمنين في أوّل مواجهة مسلحة بينهم وبين أعدائهم طعم النصر، وأن يجعلهم متفائلين للمستقبل، وهذه الموهبة الإِلهية كانت إختباراً لهم جميعاً، وإلاّ أنّه لا ينبغي لهم أن يغتروا بهذا الإِنتصار أبداً، فتكون النتيجة سلبية، وذلك بأن يروا عدوهم حقيراً وينسوا بناء ذواتهم ويغفلوا عن الإِعتماد على الله.
لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة (إنّ الله سميع عليم).
أي أنّ الله سمعَ صوت استغاثة النّبي والمؤمنين، واطلع على صدق نياتهم، فأنزل ألطافه عليهم جميعاً ونصرهم على عدوّهم، وأنّ الله يعامل عباده بهده المعاملة حتى في المستقبل، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم، فالمؤمنون المخلصون ينتصرون أخيراً، والمراؤن المدعون ينهزمون ويفشلون.
وفي الآية التالية يقول سبحانه تعميماً لهذا الموضوع وأنّ مصير المؤمنين والكفار هو ماسمعتم، فيقول: (ذلكم)(1) ثمّ يعقب القرآن مبيناً العلّة (وإن الله موهن كيد الكافرين).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في الحقيقة أن هذا الكلمة إشارة إِلى جملة مقدرة هي "ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين ...".
[387]
الآية
إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ19
التّفسير
لقد جرى بحث كثير بين المفسّرين حول الذين توجهت إليهم الآية بالحديث، فبعضهم يعتقد بأنّهم المشركين، لأنّهم قبل خروجهم من مكّة إِلى بدر اجتمعوا حول الكعبة وضربوا على ستائرها (لغرورهم واعتقادهم بأنّهم على الحق). وقالوا: "اللّهم أنصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين"(1).
وروي أنّ أباجهل دعا فقال: (اللهم ربّنا ديننا القديم ودين محمّد الحديث، فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فأنصر أهله اليوم)(2) ... ولذلك فقد نزلت هذه الآية لتقول لهم: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خيرلكم وإن تعودوا نَعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وإنّ الله مع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذه الجملة في الحقيقة "ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين".
2 ـ مجمع البيان وتفاسير أُخرى.
[388]
المؤمنين).
والذي يبعد هذا التّفسير أن الحديث في الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية موجه للمؤمنين، فيستبعد أن تكون بينها آية واحدة تتحدث مع المشركين، ويضاف لذلك الإِرتباط المعنوي الموجود بين مضامين كل هذه الآيات ـ ولذلك اعتبر بعض المفسّرين أنّ المخاطبين في الآية هم المؤمنون، وأحسن صورة لتفسير الآية على هذا الوجه هي:
لقد حصل بين بعض المؤمنين جدال حول تقسيم الغنائم بعد واقعة بدر ـ كما رأينا ـ ونزلت آيات توبخهم وتضع الغنائم تحت تصرف شخص الرّسول كاملا(صلى الله عليه وآله وسلم)فقام بتقسيمها بينهم بالتساوي، بغية تربيتهم وتعليمهم، ثمّ ذكّرهم بحوادث بدر وكيف نصرهم الله على عدوّهم القوي.
وهذه الآية تتابع الحديث عن الموضوع نفسه فتخاطب المسلمين وتقول لهم: إنّكم إذا سألتم الله الفتح والنصر فسوف يستجيب لكم وينصركم، وإذ تركتم الإِعتراض والجدال عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فبذلك مصلحتكم، وإذا عدتم لنفس الأُسلوب من الإِعتراض فسنعود نحن أيضاً، ونترككم وحيدين في قبضة الأعداء وحتى إذا كان عددكم كثيراً فبدون نصرة الله لن تقدروا أن تعملوا أي شيء، وإنّ الله مع المؤمنين المخلصين والطائعين لأوامره وأوامر نبيّه.
وهكذا يستفاد من الآيات وخاصّة من إلقاء اللوم على المسلمين لبعض مخالفتهم، وكذلك سياق الايات السابقة وما فيها من أواصر وروابط معنوية واضحة، فإن التّفسير الثّاني يكون أقرب إِلى النظر ... .
* * *
[389]
الآيات
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ 20 وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَيَسْمَعُونَ 21 إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَيَعْقِلُونَ22 وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لاََّسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ23
التّفسير
الذين قالوا سمعنا وهم لا يَسمعُونَ!
تتابع هذه الآيات البحوث السابقة، فتدعو المسلمين إِلى الطاعة التامة لأوامر الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في السلم أو الحرب أو في أي أمر آخر، وأُسلوب الآيات فيه دلالة على تقصير بعض المؤمنين في التفيذ والطاعة، فتبدأ بالقول: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله).
وتضيف لتؤكّد الأمر من جديد: (ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون).
لاشك في أنّ إطاعة أوامر الله تعالى واجبة على الجميع، المؤمنين وغير المؤمنين، ولكن بما أنّ المخاطبين والمعنيين بهذا الحديث التربوي هم المؤمنون
[390]
فلهذا كان الكلام في هذه الآية الشريفة موجهاً إليهم.
الآية الثّانية:
تؤكّد هذا المعنى أيضاً فتقول: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون).
إنّ هذا التعبير الطريف يُشير للذين يعلمون ولا يعملون، ويسمعون ولا يتأثرون، وفي ظاهرهم أنّهم من المؤمنين، ولكنّهم لا يطيعون أوامر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهؤلاء لهم آذان سامعة لكل الأحاديث ويعون مفاهيمها، وبما أنّهم لا يعملون بها ولا يطبقونها فكأنّهم صمُّ لا يسعمون، لأنّ الكلام مقدمة للعمل فلو عدم العمل فلا فائدة من أية مقدمة.
وأمّا المراد من هؤلاء الأشخاص الذين يحذّر القرآن المسلمين لكيلا يصيروا مثلهم، فيرى بعض أنّهم المنافقون الذين اتخذوا لأنفسهم مواقع في صفوف المسلمين، وقال آخرون: إنّما تشير إِلى طائفة من اليهود، وذهب بعض بأنّهم المشركون من العرب. ولا مانع من إنطباق الآية على هذه الطوائف الثلاث، وكل ذي قول بلا عمل.
ولما كان القول بلا عمل، والإِستماع بلا تأثر، أحد الأمراض التي تصّاب بها المجتمعات، وأساس الكثير من التخلفات، فقد جاءت الآية الأُخرى لتؤكّد على هذه المسألة بأُسلوب آخر، فقالت: (إنّ شرّ الدّواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)(1).
ولمّا كان القرآن كتاب عمل فإنّه ينظر إِلى النتائج دائماً، فيعتبر كل موجود لا فائده فيه كالمعدوم، وكل حي عديم الحركة والتأثير كالميت، وكل حاسّة من حواس الانسان مفقود اذا لم تؤثر فيه تأثيراً ايجابياً في مسيرة الهداية والسعادة، وهذه الآية اعتبرت الذين لهم آذن سالمة لكنّهم لا يستمعون لآيات الله ودعوة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "... صم" جمع "الأصم" وهو الذي لا يسمع و"البكم" جمع "الأبكم" وهو فاقد النطق.
[391]
الحق ونداء السعادة، كمن لا أذن له ولا سمع لديه، والذين لهم ألسنة سالمة لكنّها ساكتة عن الدعوة إِلى الحق ومكافحة الظلم والفساد، فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، بل يضيعون هذه النعمة في التملق والتذلل أمام الطواغيت أو تحريف الحق وتقوية الباطل، فهؤلاء كمن هو أبكم لا يقدر على الكلام، وكذلك الذين يتمتعون بنعمة الفكر والعقل ولكنّهم لا يصححون تفكيرهم، فهؤلاء في عداد المجانين.
وتقول الآية بعدها إن الله لايمتنع من دعوة هؤلاء إن كانوا صادقين في طلبهم وعلى استعدا لتقبل الحق: (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم).
وقد ورد في الرّوايات أنّ بعض عبدة الأصنام جاءوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: إذا أخرجت لنا جدنا الأكبر (قصي بن كلاب) حيّاً من قبره، وشهد لك بالنبوة، فسوف نسلم جميعاً! فنزلت الآية لتقول: إنّه لو كان حديثهم صادقاً لفعل الله ذلك لهم بواسطة المعجزة، لكنّهم يكذبون ويأتون بأعذار واهية، بهدف التخلص من الإِذعان لدعوة الحق ... .
ويقول تعالى: (ولو أسمعهم لتولوا وهو معرضون).
فالذين سمعوا دعوة الحق كثيراً، وبلغت آذانهم آيات القرآن، وفهموا مضامينها العالية، لكنّهم أنكروها بسبب عتوهم وعصبيّتهم، فهم غير مؤهلين للهداية لما اقترفت أيديهم، ولا شأن بعدئذ لله ورسوله بهم، فهم في ظلام دامس وضلال بهيم.
كما أنّ هذه الآية تعد جواباً قاطعاً للقائلين بمدرسة الجبر، لأنّها تقرر بأن يكمن في الانسان نفسه وأنّ الله يعامل الناس بما يبدونه من أنفسهم من استعداد وقابلية في طريق الهداية.
* * *
[392]
ملاحظتان:
1 ـ "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم"
لقد حاول بعض الناشئة عمل قياس منطقي من هذه الآية والخروج منه بنتيجة لصالحهم، فقالوا، إنّ القرآن يقول في الآية: (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم). وقال أيضاً: (ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون). فيمكن الإِستنتاج من هاتين الجملتين الجملة التّالية وهي: لو علم الله فيهم خيراً فهم سيعرضون. وهذا الإِستنتاج خطأ محض.
وقد أخطأ هؤلاء لأنّ معنى جملة: (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم). في قسمها الأوّل هو: لو كان لهؤلاء قابلية فسيوصل الحق لأسماعهم، ولكن القسم الثّاني معناه أن هؤلاء إذا لم تتهيأ لهم القابلية للهداية فسوف لن يستجيبوا وسوف يعرضون ... .
والنتيجة أن الجملة المذكورة آنفاً وردت في الآية بمعنيين مختلفين، وعلى هذا لا يمكن تأليف قياس منطقي منهما ... (1) (فتأمل).
وهذه المسألة تشبه من يقول: إنّني لو كنت أعتقد بأنّ فلاناً يستجيب لدعوتي لدعوته، لكنّه في الحال الحاضر إذا دعوته فسوف لن يستجيب، ولذلك فسوف لن أدعوه....
2 ـ لإِستماع الحق مراحل
إنّ الإِنسان قد يسمع أحياناً ألفاظاً وعبارات دون التفكير في مضامينها، إلاّ أنّ بعضاً لفرط لجاجتهم، كانوا يرفضون حتى هذا القدر من السمع، كما يقول
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وبحسب اصطلاح المنطق أنّ الحدّ الوسط غير موجود في القياس آنفاً، لأنّ الجملة الأُولى هي (لأسمعهم حال كونهم يعلم فيهم خيراً). والجملة الثّانية (لأسمعهم حال كونه لا يعلم فيهم فهماً) والنتيجة أنّ الحدّ الوسط المشترك غير موجود بين الجملتين لتمكين تأليف القياس منهما، لأنّ الجملتين مختلفتان ومنفصلتان (فتأمل).
[393]
عنهم القرآن (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون)(1).
وتارةً يقبل الإِنسان بإستماع الأحاديث، لكنّه لا يقرر أبداً العمل بها، كالمنافقين الذين ورد ذكرهم في الآية (16) من سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم): (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خروجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً).
وقد يصل وضع هؤلاء أعلى مراحل الخطر، إذ يُسلبون القدرة على معرفة الخيبث والطيب، وحتى إذا استمعوا الحديث الحق لا يكون بإِمكانهم استيعابه وهضمه.
والقرآن يقول عن هذه الطوائف الثلاث، إنّ هؤلاء في واقعهم صم بكم، لإنّ الذي يسمع في الحقيقة يجب عليه الإِدراك والتفكير والعزم على العمل بإخلاص.
وكم من أناس في عصرنا وزمننا الحاضر عندما يسمعون آيات القرآن يتفاعلون معها بشكل ملفت للنظر، لكنّهم في العمل لا يتطابقون بأي شكل مع مضمون القرآن الكريم.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة فصلت، الآية 26.
[394]
الآيات
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ24 وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ25 وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الاَْرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَأَوَكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ26
التّفسير
دعوة للحياة:
تتابع هذه الآيات دعوة المسلمين المتقدمة للعلم والعمل والطاعة والتسليم لكنّها تتابع الهدف ذاته عن طريق آخر، فتقول إبتداءاً: (يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
فهذه الآية تقول بصراحة: إنّ دعوة الإِسلام هي دعوة للعيش والحياة، الحياة المعنوية، الحياة المادية، الحياة الثقافية، الحياة الإِقتصادية، الحياة السياسية، الحياة الأخلاقية والإِجتماعية، وأخيراً الحياة والعيش بالمعنى الصحيح على
[395]
جميع الأصعدة، وهذه أقصر وأجمع عبارة عن الإِسلام ورسالته الخالدة، إذا سأل أحد عن أهداف الإِسلام، وما يمكن أن يقدمه، فنقول جملة قصيرة: إنّ هدفه هو الحياة على جميع الأصعدة، هذا ما يقدمه لنا الإسلام.
ترى هل كان الناس موتى قبل بزوغ الإِسلام ونزول القرآن ليدعوهم القرآن إِلى الحياة...؟
وجواب هذا التساؤل: نعم، فقد كانوا موتى وفاقدي الحياة بمعناها القرآني، لأنّ الحياة ذات مراحل مختلفة أشار إِلى جميعها القرآن الكريم.
فتارةً تأتي بمعنى (الحياة النباتية) كما يقول القرآن: (اعلموا أنّ الله يحيى الأرض بعد موتها)(1).
وتارةً تأتي بمعنى (الحياة الحيوانية) مثل: (إنّ الذي أحياها لمحي الموتى)(2).
وتارةً بمعنى (الحياة الفكرية والعقلية) مثل: (أوَ مَن كان ميتاً فأحييناه).(3)
وتارة بمعنى "الحياة الخالدة في العالم الآخر) مثل: (يا ليتني قدمت لحياتي)(4).
وتارة بمعنى (العالم والقادر بلا حد ولا نهاية) كما نقول عن الله: (هو الحي الذي لا يموت).
وبالنظر إِلى هذه الأقسام التي ذكرناها نعرف أنّ الناس في الجاهلية كانوا يعيشون الحياة الحيوانية والمادية، وكانوا بعيدين عن الحياة الإِنسانية والمعنوية والعقلية، فجاء القرآن ليدعوهم إِلى الحياة.
ومن هنا نعلم أنّ من يضع الدين في قوالب جامدة لا روح فيها بعيداً عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الحديد، 17.
2 ـ فصلت، 39.
3 ـ الأنعام، 22.
4 ـ الفجر، 24.
[396]
مجالات الحياة، ويختزله في مسائل فكرية واجتماعية صرفة فقد جانب الصواب كثيراً، لأنّ الدين الصحيح هو الذي يبعث الحركة في كل جوانب الحياة، ويحيي الفكر والثقافة والإِحساس بالمسؤولية، ويوجد التكامل والرّقي والوحدة والتألف، فهو إذاً يبعث الحياة في البشرية بكل معنى الكلمة.
وبذلك تتّضح هذه الحقيقة أيضاً وهي أن الذين فسّروا الآية بمعنى واحد هو الجهاد أو الإيمان أو القرآن أو الجنّة، واعتبروا كل واحد من هذه الأُمور هو العامل الوحيد للحياة في الآية المباركة، هؤلاء في الحقيقة حددوا مفهوم الآية، لأنّه يشتمل على كل ذلك وأكثر حيث يندرج، ـ ضمن مفهوم الآية ـ كل شيء، وكل فكر، وكل قانون يبعث الروح في جانب من جوانب الحياة.
ثمّ يقول تعالى: (واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون).
إنّ المقصود بالقلب هنا ـ كما ذكرنا سابقاً ـ الروح والعقل، أمّا كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟ فقد ذكروا لذلك احتمالات مختلفة ... .
فتارةً قيل: إنّه إشارة لشدّة قرب الله من عباده، فكأنّ الله في داخل روح العبد وجسمه، وكما يقول القرآن الكريم: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).
وقيل: إشارة إِلى أنّ تقلب القلوب والأفكار هو بيد الله، كما نقرأ في الدعاء: (يا مقلب القلوب والأبصار).
وقيل: إنّ المقصود هو أنّ الانسان لولا اللطف الإلهي غير قادر على معرفة الحق من الباطل.
وقيل أيضاً: إنّ المقصود هو أنّه ما دام للناس فرصة فينبغي عليهم أداء الطاعات وأعمال الخير، لأنّ الله قد يحول بواسطة الموت بين المرء وقلبه.
ويمكن بنظرة شاملة جمع كل التفاسير في تفسير واحد، هو أنّ الله عزّ وجلّ حاضر وناظر ومهيمن على كل المخلوقات. فإنّ الموت والحياة والعلم والقدرة والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة، كلّها بيديه وتحت قدرته، فلا يمكن
[397]
للإِنسان كتمان أمر ما عنه، أو أن يعمل أمراً بدون توفيقه، وليس من اللائق التوجه لغيره وسؤال من سواه. لأنّه مالك كل شيء والمحيط بجميع وجود الإِنسان. وإرتباط هذه الجُمل مع سابقتها من جهة أنّه لو دعا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إِلى الحياة، فذلك لأنّ الذي أرسله هو مالك الحياة والموت والعقل والهداية ومالك كل شي.
وللتأكيد على هذا الموضوع فإنّ الآية تريد أن تقول: إنّكم لستم اليوم في دائرة قدرته فحسب، بل ستذهبون إليه في العالم الآخر، فأنتم في محضره وتحت قدرته هنا وهناك.
ثمّ تشير إِلى عاقبة السوء لمن يرفض دعوة الله ورسوله إِلى الحياة فتقول: (واتقوا فتنة لا تصبينّ الذين ظلموا منكم خاصّة).
وكلمة (فتنة) استعملت في القرآن المجيد بمعان مختلفة، فقد جاءت تارةً بمعنى الإِختيار والإِمتحان، وتارة بمعنى البلاء والعذاب والمصيبة، وهي في الأصل بمعنى إدخال الذهب في بوتقة النّار ليتميز جيده من رديئه، ثمّ استعملت بمعنى الإِختيارات التي تكشف الصفات الباطنية للإِنسان، واستحدثت في الإِبتلاء والجزاء الذي يبعث الصفاء في روح الإِنسان ويطهّره من شوائب الذنوب، وأمّا في هذه الآية فإنّ كلمة (فتنة) بمعنى البلاء والمصائب الإِجتماعية التي يصاب بها الجميع فيحترق فيها الأخضر مع اليابس.
وفي الحقيقة فشأن الحوادث الإِجتماعية هو هكذا، فإذا ما توانى مجتمع ما عن أداء رسالته، وإنهارت القوانين على أثر ذلك، وإنعدم الأمن، فإنّ نار الفتنة ستحرق الأبرار مع الأشرار، وهذا هو الخطر الذي يحذر الله تبارك وتعالى منه ويحذر في هذه الآية المجتمعات البشرية كلّها.
ومفهوم الآية هنا هو أنّ أفراد المجتمع مسؤولين عن أداء وظائفهم، وكذلك فهم مسؤولون عن حثّ الآخرين لأداء وظائفهم أيضاً، لأنّ الإِختلاف والتشتت
[398]
في قضايا المجتمع يؤدي إِلى إنهياره، ويتضرر بذلك الجميع، فلا يصحّ أن يقول أحد بأنّنى أؤدي رسالتي الإِجتماعية ولا علاقة لي بالآثار السلبية الناجمة عن عدم أداء الآخرين لواجباتهم، لأنّ آثار القضايا الإِجتماعية ليست فردية ولا شخصية.
وهذا الموضوع يشبه تماماً ما لو احتجنا لصد هجوم الأعداء إِلى مئة ألف مقاتل، فإذا قام خمسون ألف مقاتل بأداء وظائفهم فمن اليقين أنّهم سيخسرون عند منازلتهم العدو، وهذا الإِنكسار سيشمل الذين أدوا وظائفهم والذين تقاعسوا عن أدائها وهذه هي خصوصية المسائل الإِجتماعية.
ويمكن إيضاح هذه الحقيقة بصورة أجلى وهي: أنّ الأخيار من أبناء المجتمع مسؤولون في التصدّي للاشرار لأنّهم لو اختاروا السكوت فسيشاركون أُولئك مصيرهم عند الله كما ورد ذلك في حديث مشهور عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: (إنّ الله عزّ وجلّ لا يعذب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصّة والعامّة)(1).
ويتّضح ممّا قلناه أنّ هذا الحكم يصدق في مجال الجزاء الإِلهي في الدنيا والآخرة، وكذلك في مجال النتائج وآثار الأعمال الجماعية(2).
وتُختتم الآية بلغة التهديد فتقول: (واعلموا أنّ الله شديد العقاب) لئلا يصاب هؤلاء بالغفلة بسبب الألطاف والرحمة الإِلهية وينسوا شدّة الجزاء الإِلهي، فتأكلهم الفتن وتحيط بهم من كل جانب، كما أحاطت المجتمع الإِسلامي، وأرجعته القهقرى بسبب نسيانه السنن والقوانين الإِلهية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير المنار، الجزء 9، ص 638.
2 ـ فقد جرى الحديث بين المفسّرين حول كلمة "لا تصيبنّ" في أنّها هل هي صيغة نفي أو نهي، فالذين قالوا بالنهي وفسّروها بمعنى اتّقوا الفتن لأنّها لا تصيب الظالمين وحدهم، وقال بعض: إنّها صيغة نفي ولكن لما يعتقده علماء العربية بأنّ نون التوكيد لا تظهر في النهي وجواب القسم، فقد إعتبروا الجملة جواباً لقسم مقدر.
[399]
فنظرة قصيرة إِلى مجتمعنا الإِسلامي في زماننا الحاضر والإِنكسارات التي أصابته أمام أعدائه، والفتن الكثيرة، كالإِستعمار والصهيونية، والإِلحاد والمادية، والفساد الخلقي وتشتت العوائل وسقوط شبابه في وديان الفساد، والتخلف العلمي، كل ذلك يجسد مضمون الآية، وكيف أنّ تلك الفتن أصابت كل صغير وكبير، وكل عالم وجاهل، وسيستمر كل ذلك حتى اليوم الذي تتحرك فيه الروح الإِجتماعية للمسلمين، ويهتم الجميع بصلاح المجتمع ولا يتخلفوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ويأخذ القرآن الكريم مرّة أُخرى بأيدي المسلمين ليعيدهم نحو تاريخهم، فكم كانوا في بداية الأمر ضعفاء وكيف صاروا لعلهم يدركون الدرس البليغ الذي علّمهم إيّاه في الآيات السابقة فيقول: (واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض تخافون أنّ يتخطفكم الناس).
وهذه عبارة لطيفة تشير إِلى الضعف وقلّة العدد التي كان عليها المسلمون في ذلك الزمن، وكأنّهم كانوا شيئاً صغيراً معلقاً في الهواء بحيث يمكن للأعداء أخذه متى أردوا، وهي إشارة لحال المسلمين في مكّة قبل الهجرة قبال المشركين الأقوياء. أو إشارة لحال المسلمين في المدينة بعد الهجرة في مقابل القوى الكبرى كالفرس والروم: (فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).
* * *
[400]
الآيتان
يَـأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـنَـتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ27 وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَلُكُمْ وَأَوْلَـدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ28
سبب النّزول
لقد وردت عدّة روايات في سبب نزول هاتين الآيتين، منها ما ورد عن الإِمامين الباقر والصّادق(عليهما السلام) من أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بمحاصرة يهود (بني قريضة) واستمرت هذه المحاصرة واحداً وعشرين يوماً، حتى أُجبروا على المطالبة بالصلح، كما جرى ذلك مع اليهود من (بني النضير) وذلك بأن يرحلوا عن أرض المدينة إِلى أرض الشام، لكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رفض ذلك العرض (لعلّه كان يشك في صدق نيّاتهم) وقال: يجب القبول بحكم (سعد بن معاذ) لكنّهم طلبوا من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أن يرسل إليهم (أبا لبابة) وهو من أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، وكانت له معهم صداقة قديمة، وكانت عائلته وأبناؤه وأمواله عندهم.
فقبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك الطلب وأرسل (أبا لبابة) إليهم فاستشاروه: هل من مصلحتهم القبول بتحكيم (سعد بن معاذ)؟ فأشار أبو لبابة إِلى حلقه، بمعنى أنّكم
[401]
لو قبلتم فسوف تقتلون فلا ترضوا بهذا العرض، فهبط أمين الوحي جبرائيل(عليه السلام)إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بذلك.
يقول أبو لبابة: فواللّه ما زالت قدماي حتى عرفت إنّي خنت الله ورسوله، وعند ذاك نزلت هذه الآيات في أبي لبابة. وقد عاد أبو لبابة معلناً ندمه الشديد وأتى بحبل وربط نفسه به إِلى أحد أعمدة مسجد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم). وقال: واللّه لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى يموت أو يقبل الله توبته. واستمر على هذه الحال دون أكل وشرب إِلى سبعة أيّام، حتى فقد وعيه وسقط على الأرض مغشياً عليه، فقبل الله توبته، وقام المؤمنون بإبلاغة الخبر، لكنّه أقسم أن لا يفكّ نفسه من العمد حتى يأتيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويفك عنه الحبل، فجاءه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفكّ حبله، وقال (أبولبابة): إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي اصبت فيها بالذنب وأن انخلع من مالي، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)له: "يجزيك الثلث أن تصدّق به"(1).
وقد جاء هذا المضمون نفسه في كتب أهل السنة حول سبب النّزول، إلاّ أنّ بعضهم استبعد النّزول في شأن (بني قريضة)، لأنّ سابقاتها من الآيات تتعلق بحادثة بدر، ولأنّ هذه القضية لم تقع إلاّ بعد مدّة طويلة من واقعة بدر، لهذا قالوا: إنّ المقصود في الرّوايات هو أنّ حادثة بني قريضة من مصاديق الآية، لا أنّها نزلت فيها، وإنّ هذه العبارة يوردها الكثيرون في أسباب النّزول. فعلى سبيل المثال فقد جاء في بعض الكتب نقلا عن بعض الصحابة أنّ الآية الفلانية قد نزلت في قتل عثمان، غير أنّ من المعلوم أنّ قتل عثمان حدث بعد سنين طويلة من وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
ويحتمل أيضاً أن الآية قد نزلت في بني قريضة، ولكن بما أنّها كانت تتناسب والآيات النازلة في قضية بدر، فقد أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإلحاقها بتلك الآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 143.
[402]
التّفسير
الخيانة وأساسها:
يوجه الله سبحانه في الآية الأُولى من الآي محل البحث الخطاب إِلى المؤمنين فيقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله).
إنّ الخيانة لله ورسوله، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرف أعدائهم، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم، أو بصورة عامّة ترك الواجبات والمحرمات والأوامر الإِلهية، ولذلك فقد ورد عن (ابن عباس): إنّ من ترك شيئاً من الأوامر الإِسلامية فقد ارتكب خيانة بحق الله ورسوله.
ثمّ تقول الآية: (وتخونوا أمّاناتكم)(1).
و(الخيانة) في الأصل معناها: الإِمتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به، وهي ضد (الأمانة) والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالباً، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشملُ شؤون الحياة الإِجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة، ولذلك جاء في الأحاديث: "المجالس بالأمانة".
ونقرأ في حديث آخر: "إذا حدث الرجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة. ومن ذلك تكون أرض الإِسلام أمانة إلهية بأيدي المسلمين وأبنائهم أيضاً. وفوق كل ذلك فإنّ القرآن المجيد وتعاليمه كل ذلك يعد أمانة إلهية كبرى، وقد قال بعضهم: إنّ أمانة الله هي أوامره، وأمانة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سنته، وأمانة المؤمنين أموالهم وأسرارهم، ولكن الأمانة في الآية ـ آنفاً ـ تشتمل على كل ذلك.
على كل حال، فإنّ الخيانة في الأمانة من أقبح الأعمال وشرّ الذنوب. فإنّ من يخون الأمانة منافق في الحقيقة، كما ورد في الحديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم). حيث قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تخونوا) في الأصل (لا تخونوا) وقد حذفت (لا) بقرينة الجملة السابقة.
[403]
ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم".
كما أن ترك الخيانة في الأمانة يُعدّ من الحقوق والواجبات الإِنسانية، حتى إذا كان صاحب الأمانة غير مسلم فلا تجوز خيانة أمانته.
ويقول القرآن في آخر الآية: (وأنتم تعلمون) أي أنّه قد يصدر منكم على نحو الخطأ ما هو خيانة، ولكن تُقدموا على الخيانة وأنتم تعلمون، فإنّ عملا كعمل (أبي لبابة) لم يكن لجهل أو خطأ، بل بسبب الحب المفرط للمال والبنين وحفظ المصالح الشخصية الذي قد يسد في لحظة حساسة كل شيء بوجه الإِنسان، فكأنّه لا يرى بعينه ولا يسمع بأذنيه ... فيخون الله ورسوله، وهذه في الحقيقة خيانة مع العلم; والمهم أن يستيقظ الإِنسان بسرعة كما فعل (أبو لبابة) ليصلح ما قام بتخريبه.
والآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة، لئلا تلقى على عيونهم وآذاتهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إِلى الخطر فتقول: (واعلموا إنّما أموالكم وأولادكم فتنة).
وكلمة "فتنة" ـ كما ذكرنا ـ تأتي في مثل هذه الموارد بمعنى وسيلة الإِمتحان، والحقيقة أنّ أهم وسيلة لإِمتحان الإِيمان والكفر والشخصية وفقدانها، وميزان القيم الإِنسانية للأفراد هو هذان الموضوعان (المال والأولاد).
فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه، والمحافظة عليه و ميزان التعلق به، كل تلك ميادين لإِمتحان البشر، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين، حتى المستحبات يلتزمون بشدّة في أدائها، لكنّهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية، تراهم ينسون كل شيء ويدعون الأوامر الإِلهية ومسائل الحق والعدل والإِنسانية جانباً.
أمّا عن الأبناء فهم ثمار قلب الإِنسان وبراعم حياته المتفتحة، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإِنسانية، لا يراعوا الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم، فكأنّ ستاراً يلقى على
[404]
أفكارهم فينسون كل الأُمور، ويصير حبّهم لأبنائهم سبباً ليحُلُّوا الحرام ويحرموا الحلال، ومن أجل توفير المستقيل لأبنائهم يستحقون كل حق ويقدمون على كل منكر، فيجب علينا الإِعتصام بالله العظيم في هذين الميدانين العظيمين للإِمتحان، وأن نحذر بشدّة، فكم من الناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما، وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبداً بذلك. فإذا زلت لنا قدم يوماً، فيجب علينا الإِسراع في تصحيح المسير كـ (أبي لبابة) وإذا كان المال هو السبب في الإِنحراف، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل الله.
وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصراً، فتقول: (وإنّ الله عنده أجر عظيم).
فمهما كان حبّ الأبناء كبيراً، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة، فإنّ جزاء الله وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك.
وهنا تثارُ أسئلة كثيرة، منها: لماذا يمتحن الله الناس مع إحاطته العلمية بكل شيء؟ ولماذا يكون الإِمتحان شاملا للجميع حتى الأنبياء؟ وما هي مواد الإِمتحان الإِلهي وما هي السبل للتغلب عليها؟ وقد أجبنا على كل تلك الأسئلة في المجلد الأُولى من التّفسير الأمثل.
* * *
[405]
الآية
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ29
التّفسير
الإِيمان ووضوح الرّؤية:
تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإِنسان، لكن العمل بها غير ممكن إِلاّ في ظلال التقوى، لذلك جاءت هذه الآية المباركة لتؤكّد أهمية التقوى وآثارها في مصير الإِنسان، وقد بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى.
فقالت إبتداءاً: (يا أيّها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً...).
وكلمة "فرقان" صيغة مبالغة من مادة (فرق) وهي هنا بمعنى الشيء الذي يفصل بين الحق والباطل تماماً.
إنّ هذه الجملة الموجزة والكبيرة في معناها قد بيّنت إحدى أهم المسائل المؤثره في مصير الإِنسان، وهي أنّ درب الإِنسان نحو النصر محفوف دائماً بالمصاعب والحفر فإذا لم يبصرها جيداً ويحسنُ معرفتها واتقاءها فسيسقط فيها
[406]
لامحالة، فأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل، معرفة الحسن والقبيح، معرفة الصديق والعدو، معرفة الفوائد والأضرار، معرفة عوامل السعادة والضياع، فإذا استطاع الإِنسان معرفة هذه الحقائق جيداً فسيسهل عليه الوصول إِلى الهدف.
إنّ المشكلة التي تعترض الانسان غالباً هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحق، وإنتخاب العدوّ بدل الصديق، وطريق الضلال بدل طريق الهداية، وهنا يحتاج الإِنسان إِلى بصر وبصيرة قويّة، ووضوح رؤية. إنّ هذه الآية المباركة تقول: إنّ هذه البصيرة ثمرة لشجرة التقوى. أمّا كيف تعطي هذه التقوى البصيرة للإِنسان؟ فقد يكون الأمر مبهماً لدى البعض، لكن قليلا من الدقّة والتأمل كافية لتوضيح العلاقة الوثيقة بين هذين الإِثنين، ولإِيضاح ذلك نقول:
أوّلا:
إنّ قوّة عقل الإِنسان تستطيع إدراك الحقائق بقدر كاف، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحبّ النفس والحسد، والحبّ المفرط للمال والأزواج والأولاد والجاه والمنصب كل ذلك يغدُوّ كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل، أو كالغبار الغليظ الذي يملأ الآفاق، وهنا لا يمكن للإِنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة، أمّا إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود، عند ذاك تسهل عليه رؤية نور الحق.
ثانياً:
أنّنا نعلم أنّ كل كمال في أي مكان إنّما هو قبس من كمال الحق، وكلّما اقترب الإِنسان من الله فإنّ نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر، وعلى ذلك فإنّ أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى، وكلّما تقدّم الإِنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من الله، ذابت قطرة وجوده في بحر وجود العظيم أكثر، وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة.
وبعبارة أُخرى فإنّ قلب الإِنسان كالمرآة، ووجود الله كالشمس الساطعة على الوجود، فإذا تلوثت مرآة قلبه من الأهواء حتى اسودت، فسوف لا تعكس
[407]
النور، فإذا تمّ جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها، فإنّ تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان.
ولذلك فإنّنا نرى على مدى التأريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحاً من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبداً، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية، ويرون وجود أعداء الحق وإن حجبتها آلاف الستائر الخادعة.
وهذا الأثر العجيب للتقوى في معرفة الواقع، جاء ذكره في الكثير من الرّوايات والآيات الأُخرى، ففي سورة البقرة تقول الآية 282: (اتقوا الله ويعلمكم الله)، وجاء في الحديث المعروف: "المؤمن ينظر بنور الله".
وفي نهج البلاغة في قصار الكلم : "أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع".
ثالثاً:
بالتحليل العقلي يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين التقوى وإدراك الحقائق أيضاً، لأنّ المجتمعات التي تسير في دروب الفساد والرذيلة وأجهزة الإِعلام فيها تطبل لذلك الميسر، والصحافة والراديو والتلفزيون كلها تدعو للتلوث والإِنحراف وخدمة الفساد، فمن البديهي أن يصعب على الناس تمييز الحق من الباطل، الجيد من الرديء، ونتيجة الأمر، فإنّ إنعدام التقوى يكون سبباً لفقدان القدرة على هذه المعرفة أو سوء المعرفة.
ومثال آخر: فإنّ عائلة غير متقيّة، وصغارها يشبون في محيط ملوث بالفساد والرّذيلة، فمن العسير على هؤلاء في المستقبل تمييز الجيد من الرديء، وإهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب بقاء الناس على مستوى دان من البصيرة والمعرفة وانحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية.
وبناءً على ما تقدم فإنّنا نرى أنّ ادنى انحراف عن التقوى يسبب نوعاً من
[408]
العمى وسوء المعرفة، لذلك نرى في العالم الصناعي اليوم مجتمعات متقدمة جدّاً في العلم والصناعة، ولكنّها في حياتها اليومية مصابة بأمراض ومشاكل شديدة تبعث على الإِستغراب والتعجب، وهنا تتجلى عظمة ما قاله القرآن الكريم.
ونظراً إِلى أنّ التقوى لا تنحصر بالتقوى في العمل، بل تشمل التقوى في الفكر والعقل، فإنّ هذه الحقيقة تتّضح بصورة أجلى. فالتقوى في الفكر تعني مواجهة التسيّب وعدم الإِنضباط في التفكير، بمعنى أن نبحث في دراساتنا وتحقيقاتنا عن أصح الأدلة وأوثق البراهين، وأن لا نلتزم بعقيدة دون التحقيق الكافي والدقة اللازمة.
والذين يراعون التقوى ويلتزمونها في تفكيرهم سيبلغون النتائج الصحيحة أسرع بكثير ممن لا يلتزم بها، كما أنّ الخلط والخطأ يكثر عند من لايتقي الله في استدلالاته وأسلوب تفكيره.
وهناك أمر آخر يجب الإِنتباه إليه، لأنّ الكثير من مفاهيمنا الإِسلامية قد تعرضت للتشويه بين المسلمين، وهو أنّ الكثير من الناس يتصور أنّ الإِنسان المتقي هو الذي يكثر من غسل بدنه ولباسه ويعتبر كل فرد وكل شيء نجساً ومشكوكاً فيه، وينزوي جانباً متجنباً الخوض في الأُمور الإِجتماعية، ويسكت أمام كل واقعة، فهذه النظرات المغلوطة عن التقوى والمتقين في الحقيقة إحدى عوامل انحطاط المجتمعات الإِسلامية، لأنّ هذه التقوى لا تنتج معرفة ولا وضوح رؤية ولا تكون فرقاناً بين الحق والباطل.
وعلى كل حال، وبعد أن إتّضح أوّل ثواب للمتقين نعود لتفسير بقية الآية وسائر الثمار الإربعة لها.
يقول القرآن الكريم: إنّه إضافة إِلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم (ويكفر عنكم سيئاتكم).
[409]
مضافاً إِلى ذلك، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته (ويغفرلكم).
وثمار كثيرة أُخرى تنتظركم لا يعلمها إلاّ الله: (والله ذو الفضل العظيم). فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى الله تبارك وتعالى، لأنّنا وكما قلنا مراراً في هذا التّفسير فإنّ أي موجود ذي آثار إنّما تحصل بمشيئة الله وقدرته، فيمكن نسبة تلك الآثار إِلى الله عزّ وجلّ، وإِلى ذلك الموجود أيضاً.
وأمّا الفرق بين (تكفير السيئات) و(الغفران). فقد قال بعض المفسّرين بأنّ الأُولى إشارة إِلى الحجب من الدنيا، والثّانية إِلى النجاة من الجزاء الأخروي، ويردُ احتمال آخر هنا وهو أن (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والإِجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى، ولكن (الغفران) إشارة إِلى مسألة العفو الإِلهي والخلاص من الجزاء ... .
* * *
[410]
الآية
إذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْيُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ الْمَـكِرِينَ30
سبب النّزول
ذكر المفسّرون والمحدثون أن الآية ـ محل البحث ـ تشير إِلى الحوادث التي أدت إِلى هجرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إِلى المدينة.
هذه الحوادث وإن رويت بعبارات مختلفة إلاّ أنّها تتفق جميعاً على حقيقة أنّ الله عزّ وجلّ قد أنقذ نبيّه الكريم عن طريق الإِعجاز من خطر محدق به، ونروي هذه الحادثة وفقاً لمّا ورت في الدّر المنثور ومجمع البيان ذيل الآية آنفاً ... .
قال المفسّرون: إنّها نزلت في شأن "دار النّدوة" وذلك أنّ نفراً من قريش اجتمعوا فيها وهي دار قصيّ بن كلاب، وتآمروا في أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عروة بن هشام: نتربص به ريب المنون، وقال أبوا البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبوجهل: ما هذا برأي، ولكن اُقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد... فيرضى بنو هاشم حينئذ بالديّة، فصوّب
[411]
إبليس هذا الرأي، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد، وخطّأ الأولّين.
فاتفقوا على هذا الرأي وأعدّو الرجال والسلاح وجاء جبرئيل(عليه السلام) فأخبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج إلى الغار وأمَر عليّاً فبات على فراشه، فلمّا أصبحوا وفتشوا عن الفراش، وجدوا عليّاً(عليه السلام) وقد ردّ الله مكرهم فقالوا: أين محمّد؟ فقال: لا أدري، فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار رأوا على بابه نسجَ العنكبوت، فقالوا: لو كان ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثاً ثمّ قدم المدينة"(1).
التّفسير
سِرّ بداية الهِجرَة:
يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية، وخمس آيات تليها، نزلت في مكّة لأنّها تشير إِلى هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن سياقها يدل على نزولها بعد الهجرة، إذ تتكلم على حادثة سابقة.
فبناءً على ذلك تكون هذه الآية قد نزلت في المدينة بالرغم من حديثها عن هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتحدث عن الذكرى الكبرى والنعمة العظمى التي منّ الله بها على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، فتقول في بدايتها (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك).
كلمة "المكر" كما ذكرنا سلفاً تعني في اللغة التدبير والتخطيط والحيلة.
ثمّ تضيفُ الآية قائلة: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
فإذا أمعنّا النظر في موضوع هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّنا سنجد أنّ المشركين قد بذلوا كل ما في وسعهم وجهدهم من طاقات فكرية وجسدية للقضاء على نبيّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الدر المنثور وفقاً لما نقل عنه صاحب المنار، ومجمع البيان ذيل الآية.
[412]
الاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى أنّهم أعدّوا جائزة لهذا الغرض وهي مئة ناقة، وهذا العدد من الإِبل كانَ يُعَدُّ ثروة كبرى يومئذ "هذه الجائزة لكلّ من يقبض على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حتى بعد أن خرج عن قبضتهم" وقد طفق الكثير يجوبون الفيافي والجبال ليبحثوا عنه طلباً لتلك الجائزة الكبرى حتى بلغوا الغار، ولكن الله سبحانه أذهب بأتعابهم أدراج الرياح بواسطة نسيج العنكبوت!
ونظراً إِلى أنّ هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تمثل مرحلة جديدة في التأريخ الإِسلامي، بل التأريخ الإِنساني، فإنّنا نستنتج أنّ الله قد غير مسيرة التأريخ البشري بما نسجته العنكبوت من خيوط! ...
وهذا الأمر لا ينحصر بهجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل في جميع تأريخ الأنبياء، فإنّ الله سبحانه أذل أعداءهم ودمرهم وأباد قوى الضلال بأسباب هيّنة كالريح ـ مثلا ـ أو كثرة البعوض، أو الطير الصغيرة التي تُسمّى بالأبابيل، ليبيّن حالة الضعف البشري والعجز إزاء قدرته اللامتناهية وليردع الإِنسان عن التفكير بالطغيان والعناد.
وممّا يسترعي النظر أنّ الإِلتجاء إِلى هذه الأساليب الثّلاثة: السجن والنفي والقتل، لم يكن منحصراً بالمشركين في مواجهة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، فإنّ الطغاة يلجأون إِلى هذه الإساليب الثّلاثة دائماً للقضاء على المصلحين وإسكاتهم، والحيلولة دون بسط نفوذهم بين المستضعفين، إلاّ أنّه كما كانت النتيجة خلاف ما أراده مشركو مكّة في شأن النّبي وأضحت مقدمة لتحرك إسلامي جديد، فكذلك مثل هذه الموجهات الشديدة قد باءت نتائجها في مواطن أُخرى بعكس ما كان متوقعاً.(1)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الملاحظة اللطيفة هنا هو أنّ كتابة هذا التّفسير كانت في الاجزاء السابقة تسير مسيراً بطيئاً، ولكن بما أن راقم هذه السّطور حين كتابة هذا الجزء من التّفسير كان قد نُفي من قبل حكومة الطاغوت إِلى مدينة "مهاباد" و"أنارك" فإنّ كتابة هذا التّفسير قد سارعت الخطى بحيث إنّني أكلمت تمام هذا الجزء في ذلك المنفى.
[413]
الآيات
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَآ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ31 وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَاب أَلِيم32 وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ33 وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ34 وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ35
التّفسير
القائلون شططاً:
ذُكر في الآية السابقة مثل خرافي من منطق المشركين العملي، وفي هذه الآيات مثل آخر من منطقهم الفكري، ليتّضح أنّ هؤلاء لم يمتلكوا سلامةً في
[414]
الفكر ولا صحة في العمل، فجميع أساليبهم خاوية بغير أساس.
تقول
الآية الأُولى
من الآيات محل البحث: (وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذه إن هذا إلاّ أساطير الأولين).
كانوا يقولون مثل هذا الكلام عند ما يعجزون عن مواجهة القرآن ومعارضته، وكانوا يعرفون جيداً أنّهم غير قادرين على معارضة القرآن، إلاّ أنّهم ولحقدهم وعصبيتهم، أو لأنّهم يريدون إضلال الناس، كانوا يقولون: إنّ الإتيان بمثل هذه الآيات غير عسير ولو نشاء لقلنا مثلها، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثلها أبداً، وما هذا القول منهم سوى ادعاء فارغ يهدفون بذلك إِلى ابقاء كيانهم الاجتماعي ـ كسائر الجبايرة في التأريخ ـ إِلى أمر معدود.
والآية التّالية
تتحدث عن منطق عجيب آخر فتقول: (وإذ قالوا اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم).
لقد كانوا يقولون ذلك لشدّة تعصبهم وعنادهم، وكانوا يتصورون أنّ الدين الإسلامي لا أساس له أبداً، وإلاّ فإنّ أحداً يحتمل حقانية الإِسلام كيف يمكنه أن يدعو على نفسه بمثل هذا الدعاء؟
كما ويحتمل أيضاً أنّ شيوخ المشركين وسادتهم يقولون ذلك الكلام لتضليل الناس وليثبتوا لبساطائهم أنّ رسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باطلة تماماً، في حين أنّهم لا يعتقدون بما يقولون. وكأنّهم ـ أي المشركين ـ يريدون أن يقولوا للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّك تتكلم عن الأنبياء السابقين، وإنّ الله قد أهلك أعداءَهم بحجارة أمطرها عليهم "كما هي الحال في شأن قوم لوط" فإن كنت صادقاً فيما تقول فأمطر علينا حجارة من السماء!
وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) (في مجمع البيان) أنّه لما نصب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام) يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد، فقدم على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) النعمان بن الحارث الفهري، فقال: أمرتنا من الله
[415]
أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عندالله؟
فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): "واللّه الذي لا إله إلاّ هو، إن هذا من الله". فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله(1).
وهذا الحديث لا ينافي نزول الآية في قصّة الغدير، لأنّ سبب النّزول لم يكن موضوع النعمان، بل إن النعمان قد اقتبس من الآية في الدعاء على نفسه، وهذا يشبه قولنا في الدعاء مقتبسين ذلك من القرآن (ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) "وسيأتي تفصيل هذا الموضوع وما ذكرته كتب أهل السنة من أساتيد كثيرة له في ذيل الآية الأُولى من سورة المعارج (سأل سائل بعذاب واقع) بإذن الله".
وفي ماتقدم من الآيات نلاحظ أنّ المشركين وجّهوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)اشكالين.
الأوّل منهما:
واضح البُطلان، وهو قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا. فلم يردّ عليه القرآن. بديهي أن هذا الإِدعاء أجوف كاذب، لأنّهم لو استطاعوا لما توانوا عنه أبداً ولجاءوا به، فلا حاجة إذن للردّ عليه.
والإِشكال الثّاني:
لو كانت هذه الآيات نازلة من قبل الله فأنزل علينا العقاب والبلاء، فيرد عليهم القرآن في الآية الثّالثة، من الآيات محل البحث، بقوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم).
وفي الحقيقة أنّ وجودك ـ يا رسول الله ـ الذي هو رحمة للعالمين، يمنع من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع مجمع البيان، ج 5، ص 352 و تفسير نورالثقلين، ج 2، ص 151.
[416]
نزول البلاء بسبب هذه الذنوب، فيهلك قومُك كما هلكت الأُمم السابقة جماعات أو متفرقين.
ثمّ تعقيب الآية بالقول: (وما كان الله معذبهم وهم يسغفرون).
وللمفسّرين احتمالات متعددة في تفسير الجملة آنفة الذكر، منها أنّ بعض المشركين ندموا على قولهم الذي ذكرته الآية فقالوا: غفرانك ربّنا، وكان ذلك سبباً لأن لا ينزل عليهم العذاب حتى بعد خروج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة.
وقال بعضهم: إنّ الآية تشير إِلى من بقي من المؤمنين في مكّة، لأنّ بعضاً ممن لم يستطع الهجرة بقي فيها بعد خروج النّبي، فوجودهم الذي هو شعاع من وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) منع من نزول العذاب.
كما يحتمل أن تكون هذه الجملة التي ذكرتها الآية تتضمّن مفهوم جملة شرطية، أي أنّهم لو ندموا على فعلهم توجهوا إِلى الله واستغفروه فسيرتفع عنهم عقاب الله.
كما لا يبعد ـ في الوقت ذاته ـ الجمع بين هذه الإِحتمالات كلّها في تفسير الآية، أي يمكن أن تكون الآية إشارة إِلى جميع هذه الإِحتمالات.
وعلى أية حال، فإنّ مفهوم الآية لا يختصُّ بمعاصري النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو قانون عام كليّ يشمل جميع الناس. لهذا فقد روي في مصادرنا عن الإِمام علي، وفي مصادر أهل السنة عن تلميذ الإِمام علي "ابن عباس" أنّه قال(عليه السلام): "كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به. وقرأ هذه الآية"(1).
ويتّضح من الآية ـ محل البحث، والحديث آنف الذكر ـ أنّ وجود الأنبياء(عليهم السلام)مدعاة لأمن الناس من عذاب الله وبلائه الشديد، ثمّ الإِستغفار والتوبة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغه، الكلمات القصار.
[417]
والتوجه والضراعة نحو الله، إذ يعدُّ الإِستغفار والتوبة ممّا يدفع به العذاب.
فإذا انعدم الإِستغفار فإنّ المجتمعات البشرية ستفقد الأمن من عذاب اللّه لما اقترفته من الذنوب والمعاصي.
وهذا العذاب أو العقاب قد يأتي في صورة الحوادث الطبيعية المؤلمة، كالسيل مثلا، أو الحروب المدمّرة، أو في صور أُخرى. وقد جاء في دعاء كميل بن زياد عن الإِمام على(عليه السلام) قوله "اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء".
فهذا التّعبير يدل على أنّه لولا الإِستغفار فإنّ كثيراً من الذنوب قد تكون سبباً في البلاء والكوارث.
وينبغي التذكير بهذه اللطيفة، وهي أنّ الإِستغفار لا يعني تكرار ألفاظ معينة، كأن يقول المرءُ "اللهم اغفر لي" بل المراد منه روح الإِستغفار الذي هو حالة العودة نحو الحق والتهيؤ لتلافي ما مضى من العبد قبال ربّه.
والآية التّالية:
تقول: إنّ هؤلاء حقيقون بعذاب الله (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام).
وهذا التعبير في الآية يشير إِلى يوم كان المسلمون في مكّة، ولم يكن لهم الحق أن يقيموا صلاة الجماعة بتمام الحرية، والإِطمئنان عند المسجد الحرام، إذ كانوا يتعرضون للإيذاء والتعذيب.
أو أنّ هذا التعبير يشير إِلى منع المشركين المسلمين وصدهم إياهم بعد أدائهم مناسك الحج والعمرة، فلم يأذنوا لهم بالتردد إِلى المسجد الحرام.
والعجيب أنّ هؤلاء المشركين كانوا يتصورون أنّ لهم حق التصرف كيفَما شاءوا في المسجد الحرام، وأنّهم أولياؤه. إلاّ أنّ القرآن يضيف في هذه الآية قائلا: (وما كانوا أولياءه) وبالرغم من زعمهم أنّهم أولياؤه فـ(إن أولياؤه إلاّ المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون).
ومع أنّ هذا الحكم ورد في شأن المسجد الحرام، إلاّ أنّه يشمل جميع المراكز
[418]
الدينية والمساجد فإنّ سدنتها ينبغي أن يكونوا من أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم وأكثرهم إهتماماً بالمحافظة على مراكز العبادة، ليجعلوها منطلقاً للتعليم وبثّ الوعي والإِيقاظ. إذ لا يصلح لإدارة هذه المراكز حفنةٌ من الحمقى أو باعة الضمائر الملوّثين والمرتبطين بالأجانب، الذين يسعون إِلى تحويل المساجد ومراكز العبادة إِلى محال تجاربة، أو جعلها مكاناً لتخدير الأفكار، والإِبتعاد عن الحقّ. وفي اعتقادنا أنّ المسلمين لو كانوا ملتزمين بتعاليم القرآن في شأن المساجد، لكانت المجتمعات الإِسلامية اليوم لها وجه آخر وصورةٌ مشرقةٌ!
والأعجب في هذا الشأن أنّ المشركين كانوا يدّعون أنّهم يصلّون ويعبدون الله بما كانوا يقومون به من أعمال قبيحة كالصفير والتصدية عند البيت، ولهذا فقد قالت الآية التالية عنهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءاً وتصدية).
ونقرأ في التأريخ أنّ طائفة من الأعراب في زمان الجاهلية عندما كانوا يطوفون بالبيت العتيق، كانوا يخلعون ثيابهم ويصفرون ويصفقون ويسمّون أعمالهم هذه عبادة، وورد أيضاً أنّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما كان يقف بجانب الحجر الأسود ويتجه بوجهه نحو الشمال ليكون في مقابل الكعبة وبيت المقدس، ويشرع بالصلاة، كان يقف إِلى يمينه ويساره رجلان من بني سهم فيأخذ أحدهم بالصياح والآخر بالتصفيق ليؤذياه في صلاته.
تعقب الآية على ما تقدم لتقول: إنّ أعمالكم ـ بل حتى صلاتكم ـ مدعاة للخجل والسفاهة ولذلك (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).
إنّ الإِنسان حين يقلّب صفحات التأريخ ويتوغّل فيه باحثاً عن جوانب من تاريخ عرب الجاهلية التي وردت الإشارة إليها في القرآن، يرى ـ ويا للعجب العجاب! ـ في عصرنا الحاضر الذي عُرف بعصر الفضاء والذرة من يُعيد تلك الأعمال التي كانت في زمان الجاهلية، ويتصوّر نفسه في عبادة، فيقرؤون الآيات
[419]
القرآنية أو الأشعار في مدح النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والامام علي(عليه السلام) بالألحان الموسيقية ذات الإِيقاع المثير، وتهتزّ أيديهم ورؤوسهم بما يشبه حالة الرقص، ويسمّون ذلك ذكراً ومدائح، ويقيمونها في التكايا وغيرها. مع أنّ الإسلام يبرأ من جميع هذه الأعمال، وهي مثل آخر من أمثلة أعمال "الجاهلية".
ويبقى هنا سؤال واحد، وهو أنّ الآية الثّالثة من الآيات محل البحث قد نفت نزول العذاب بتوفر شرطين طبعاً، والآية الرّابعة أثبتت تُرىْ ألا يقع التضاد بين الآيتين؟
والجواب: إنّ الآية السابقة إِلى العقاب الدنيوي، والآية اللاحقة لعلها إشارة إِلى العقاب الأُخروي، أو أنّها إشارة إِلى أنّ هؤلاء يستحقون العقاب في الدنيا وهو محدق بهم، فإذا مضى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يتوبوا ويستغفروا ربّهم فإنّه سينزل بهم لا محالة.
* * *
[420]
الآيتان
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثمّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ36 لِيـَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْض فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُونَ37
سبب النّزول
جاء في تفسير علي بن إبراهيم وكثير من التفاسير الأُخرى، أنّ الآية ـ محل البحث ـ نزلت في معركة بدر، وما بذله أهل مكّة للصدّ عن سبيل الله، لأنّهم لما عرفوا ما حصل ـ إذ جاءهم مبعوث أبي سفيان ـ قاموا بجمع الأموال الكثيرة ليعينوا بها مقاتليهم، إلاّ أنّهم خابوا وقتلوا وآبوا إلى جهنم وساءت مصيراً، وكان ما أنفقوه في هذا الصدد وبالا وحسرة عليهم. والآية الأُولى تشير إلى سائر معوناتهم التي قدموها في سبيل مواجهة الإِسلام ومحاربته، وقد طرحت الموضوع في صياغة كلّية.
وقال بعضهم: إنّ الآية نزلت في ما بذله أبوسفيان لألفي مقاتل "مرتزق" في
[421]
معركة أحد.
إلاّ أنّه لما كانت الآية محل البحث واقعة في سياق الآيات النازلة في معركة بدر، فإنّ الرأي الأوّل في شأن نزولها يبدو أقرب للصحة.
التّفسير
مهما يكن شأن نزول الآية، فمفهومها مفهوم جامع يحمل في معناه كلّ ما بذله أعداء الحق والعدل من أموال لنيل مقاصدهم المشؤومة، إذ تقول في مستهلها: (إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله).
إلاّ أنّ هذا الإِنفاق والبذل لن يحقق لهم نصراً (فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون).
ولا يبتلون بالحسرة والهزيمة في الدنيا فحسب، بل هم كذلك في الآخرة أيضاً (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون).
* * *
ملاحظات
1 ـ يستفاد من الآية محل البحث أنّ "هؤلاء" يحسّون بعدم جدوى أعمالهم حتى قبل غَلبهم وانهزامهم، وحيث إنّهم لا يرون نتيجة مثمرة لما أنفقوه من الأموال، فسيبتلون بالألم والحسرة، وهذا الأمر هو نوع من جزائهم الدنيوي وأحد عقوباتهم فيها.
أمّا الجزاء الآخر الذي ينالونه، فهو فشل خططهم ومناهجهم، لأنّ الذين يقاتلون وهم متعلقون بالأموال والثروة لا يستطيعون مواجهة المقاتلين من أجل المبدأ والأهداف المقدسة.
وقد برهنت الحوادث في عصرنا هذا على أن الدول القوية التي تُغري
[422]
مقاتليها بالمال والرغبات المادية، كثيراً ما تصاب بالخزي والإِفتضاح والهزيمة بوجه الأمم المستضعفة التي تقاتل عن إيمان وعقيدة راسخة!...
وبالإِضافة إِلى هذين الجزاءين فهناك جزاء ثالث ينتظرهم يوم القيامة، وهو "الغضب الإِلهي".
2 ـ ما ذكرته الآية محل البحث، نجد له أمثلةً في عصرنا الحاضر، كقوى الإِستكبار، واتباع الظلم والفساد، ودعاة المذاهب الخرافية الباطلة، وباذلي الأموال الطائلة لتحقيق أهدافهم وتضليل الناس وصدهم عن سبيل الحق، وهم يظهرون بأزياء متعددة، فتارة في صورة المساعدات المالية ـ ظاهراً ـ كبناء المستشفيات، وأُخرى في صورة التعاون الثقافي، ومرّة في ثوب المقاتلين المرتزقة.
لكن الهدف النهائي واحد والماهية واحدة، فكل همّهم التوسعة الإِستعمارية والظلم والجور، ولو وقف المؤمنون حقّاً صفاً بوجه هذه المحاولات كما وقف أصحاب بدر لأحبطوا جميع هذه المحاولات ولباءت بالفشل، ولجعلوا هذا الإِنفاق وبالا وحسرة على المسكتبرين، ولساقوهم إِلى جهنم وساءت مصيراً.
3 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية واحدة من دلائل صدق دعوة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّها تخبر عن حوادث لم تكن وقعت بعد، وقد غُلب بها أعداء الإِسلام، ومع أن أُولئك بذلوا أموالا طائلة لإِنتصارهم!!
وإذا لم نعتبر الآية من الأخبار بالمغيبات التي تتعلق بالحوادث المقبلة، فإنّها على الأقل تكشف عن محتوى القرآن الدقيق في شأن المواجهة بين الحق والباطل، كما أنّها تكشف عن عظمة القرآن والتعاليم الإِسلامية.
وبعد أن تكلمت الآية السابقة على ثلاث نتائج مشؤومة لإِنفاق أعداء الإِسلام، فإنّ الآية التي تليها تقول: (ليميز الله الخبيث من الطيّب).
هذه سنة إلّهية دائمة أن يُعرف المخلص من غير المخلص، والطاهر من غير
[423]
الطاهر، والمجاهد الصادق من الكاذب، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة، فلا يبقى أي من ذلك مجهولا أبداً، بل لابدّ في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها عن بعض ويسفر الحق عن وجهه. وهذا الأمر يتحقق ـ طبعاً ـ عندما يكون أتباع الحق ـ كأُولئك المسلمين الأوائل يوم بدر ـ في مستوى كاف من التضحية والوعي.
ثمّ تضيف الآية (ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم).
فالخبيث من أية طائفة وفي أي شكل كان سيؤول في النهاية إِلى الخسران، كما تقول الآية في نهاية المطاف (أُولئك هم الخاسرون).
* * *
[424]
الآيات
قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاَْوَّلِينَ38 وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّى لاَتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ39 وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَـكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ40
التّفسير
من المعلوم في أُسلوب القرآن هو الجمع بين البشارة والنذارة، أي أنّه كما ينذر أعداء الحق بالعقاب والعذاب، فإنّه يفتح لهم في الوقت نفسه طريق العودة أمامهم.
والآية الأُولى:
من الآيات محل البحث تتبع هذا الأُسلوب ذاته، فتأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلةً: (قل للذين كفروا إن ينتهوا بغفر لهم ما قد سلف).
ويستفاد من الآية المباركة أنّ قبول الإِسلام يوجب محو كل سابقة وهو ما ورد في الرّوايات على أنّه أصل عام، كما في عبارة "الإِسلام يجبُّ ماقبله" أو ما جاء عن أهل السنة في تعبير آخر عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن "الإِسلام يهدم ما كان قبله،
[425]
وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله"(1).
والمقصود من الحديث آنفاً هو أنّ كل ما عمله الإِنسان من سيئات وحتى تركه للفرائض والواجبات قَبلَ إِسلامه فسوف يُمحى عنه بقبوله الإِسلام، ولا يكون قبوله للاسلام أثر رجعي لما سبق، لهذا ورد في كتب الفقه عدمُ وجوب قضاء ما فات من العبادات على من أسلم.
وتضيف الآية قائلة: إنّهم إن لم يصححوا أسلوبهم (وإن يعودوا فقد مضت سنّة الأولين).
والمقصود من هذه السنة هو ما آل إليه أعداء الحق بعد ما واجهوا الأنبياء، وما أصاب المشركين عندما واجهوا النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة بدر.
فنحن نقرأ في سورة غافر، الآية: (51): (إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).
ونقرأ في سورة الاسراء، الآية (77): بعد بيان سحق أعداء الإِسلام قوله تعالى: (سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا).
ولمّا كانت الآية السابقة قد دعت الأعداء للعودة إِلى الحق، وإن هذه الدعوة قد تولد هذه الفكرة لدى المسلمين وهي أنّه قد انتهت فترة الجهاد ولابدّ بعد الآن من اللين والتساهل، ترفعُ هذه الشبهة الآية التالية وتقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كلّه لله).
وكلمة "الفتنة" ـ كما بيناها في تفسير الآية (193) من سورة البقرة ـ ذات معنى واسع تشمل كل أنواع الضغوط، فتارة يستعملها القرآن بمعنى عبادة الأصنام والشرك الذي يشمل كل أنواع التحجر والجمود واضطهاد أفراد المجتمع.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ صحيح مسلم وفقاً لما نقله صاحب المنار في تفسيره، ج 9، ص 665.
[426]
وتطلق الفتنه أيضاً علىالضغوط التي يفرضها الأعداء، للوقوف بوجه اتساع دعوة الإِسلام، ولإِسكات صوت أهل الحق، بل حتى إرجاع المؤمنين نحو الكفر.
وفي الآية محل البحث فسر الفتنة بعضهم بمعنى الشرك، وفسّرها آخرون بأنّها تعني سعي الأعداء لسلب الحريات الفكرية والإِجتماعية من المسلمين. ولكن الحقّ أنّ مفهومها واسع يشمل الشرك، بقرينة قوله: (ويكون الدين لله)وسائر ضغوط الأعداء على المسلمين.
الهدف من الجهاد وبُشرى كريمة:
تشير الآية آنفة الذكر إِلى قسمين من أهداف الجهاد المقدسة وهما:
1 ـ القضاء على عبادة الأصنام وتطهير الارض من معابدها ونحو ذلك وكما ذكرنا في بحثنا عن أهداف الجهاد فإِنّ الحريّة الدينية تتعلق بمن يتّبع أحد الأديان السماوية فلا يجوز إكراه هؤلاء من أجل تغيير عقيدتهم، ولكن عبادة الأصنام ليست ديناً ولا فكراً، بل هي خرافة وجهل وإنحراف، وعلى الحكومة الإِسلامية إزالتها وتطهير البلاد منها عن طريق الإِعلام و التبليغ الإِسلامي ـ أوّلا ـ وإذا لم يؤدّ ذلك إِلى نتيجة فيجب اللجوء إِلى القوة لتدمير معابد الأوثان.
2 ـ نيل الحرية في نشر الإِسلام والتبليغ له، وفي هذا القسم أجاز الإِسلام استخدام القوّة في مواجهة من يمنع المسلمين من نشر عقيدتهم لفتح الطريق بوجه الحوار المنطقي السليم.
وقد ورد في تفاسير أهل السنة كتفسير "روح البيان" للآلوسي، وتفاسير شيعية أُخرى، عن الإِمام الصادق(عليه السلام) "لم يجيء تأويل هذه الآية، ولو قام قائمنا بعدُ، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمّد ما بلغ
[427]
الليل حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال تعالى".(1)
ولقد أنكر صاحب تفسير المنار ـ لتعصبه ـ هذا الحديث الوارد في شأن مسألة قيام المهدي (عليه السلام)، وذلك لحكمه المُسبق المخطيء في هذه القضية، والعجيب أن له ميلا خاصاً في تفسيره إِلى الفكر الوهابي، مع أنّ الوهابيين بالرغم من تعصّهم يصرحون بأنّ ظهور الإِمام المهدي(عليه السلام) من الأُمور المسلّم بها، ويعتبرون الرّوايات فيه من المتواترات.
وسنورد الأدلة والمصادر في هذا الصدد في ذيل الآية (33) من سورة التوبة، كما سنشير إِلى النقطة الأساسية في خطأ هذا المفسّر والرد عليها، ولقد فصلنا الأمر في كتابنا "المصلح العالمي الكبير".
وإذا كانت بعض الرّوايات المتعلقة بظهور المهدي غير صحيحة وفيها بعض الخرافات، فلا ينبغي أن يؤدّي ذلك إِلى الإِعراض عن بقية الرّوايات الصحيحة والمتواترة!
وأخيراً فإنّ الآية في نهايتها، وتزامناً مع الشدة في العمل، تمدّ يد المحبّة والرأفه إِلى الأعداء مرّة أُخرى فتقول: (فإن انتهوا فإنّ الله بما يعملون خبير)ولكن اذا تمادوا في عنادهم وطغيانهم ولم يستسلموا للحقّ، فاعملوا أنّ النصر حليفكم والهزيمة من نصيب أعدائكم، لانّ الله مولاكم وهو خير ناصر ومعين: (وإن تولوا فاعلموا أنّ الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع مجمع البيان، ذيل الآية، وتفسير نور الثقلين، ج2، ص155، تفاسير أُخرى.
[428]
[429]
بدايَة الجزء العَاشِرْ القُرآن الكريم
[430]
[431]
الآية
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْء فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـمَى وَالْمَسَـكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم باللهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ41
التّفسير
الخمس فرضُ إِسلامي مهم:
وجدنا في بداية هذه السورة كيف أنّ بعض المسلمين تشاجروا في شأن تقسيم الغنائم بعد غزوة بدر، وقد أمرالله سبحانه ـ درءاً لأُصول الخلاف ـ أن توضع الغنائم تحت تصرف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لينفقها بما يراه صالحاً، فقام بتقسمها بالتساوي بين المقاتلين المسلمين.
وفي هذه الآية عود إلى مسألة الغنائم، لتناسب الآيات التي سبقتها، والتي كانت تتكلم على الجهاد، إذ وجدنا في بعضها إشارات مختلفة لموضوع الجهاد، ولما كان الجهاد يرتبط بمسألة الغنائم غالباً، فكان في المقام تناسب بين الجهاد وبين ذكر أحكام الغنائم "بل سنلاحظ أن القرآن تعدى في حكمه إِلى أبعد من
[432]
مسألة الغنائم، ونظر إِلى جميع الموارد".
يقول الحق سبحانه: (واعلموا أنّما غنمتم من شيء فانّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى (الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)) واليتامى والمساكين وابن السبيل) ـ من ذرية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً. ويضيف مؤكّداً (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ـ أي يوم بدر ـ يوم التقى الجمعان).
وينبغي الإِلتفات إِلى أنّه على الرغم من أنّ الخطاب في الآية موجه إِلى المؤمنين، لأنّها تبحث في غنائم الجهاد الإِسلامي، وبديهي أنّ المجاهد مؤمن، لكنّها مع ذلك تقول: (إن كنتم آمنتم بالله) وفي ذلك إشارة إِلى أنّ إدعاء الإِيمان وحده لا يعدّ دليلا على الإِيمان، بل حتى المشاركة في سوح الجهاد قد لا تكون دليلا على الإِيمان، فقد تكون وراء ذلك أُمور أُخرى. فالمؤمن الكامل هو الذي يذعن لإوامر الله كافة وينقاد لها، وخاصّة الأوامر والأحكام المالية، ولا يأخذ ببعض ويترك بعضاً، وتشير الآية في نهايتها إِلى قدرة الله غير المحدودة، فتقول: (واللّه على كل شيء قدير).
أي بالرغم من قلتكم يوم بدر وكثيرة عدوّكم في الظاهر، لكن الله القادر خذلهم وأيدكم فانتصرتم عليهم.
* * *
ملاحظات
1 ـ يوم الفرقان بين الحق والباطل
سمّي يوم معركة بدر بيوم الفرقان بين الحق والباطل، ويوم الإِلتقاء بين جماعة الكفر وجماعة الإِيمان، وفي ذلك إشارة إِلى مايلي:
أوّلا:
إنّ يوم بدر ظهرت فيه الأدلة على صدق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه وعد المسلمين بالنصر قبل ذلك، مع أنّ القرائن في الظاهر لم تكن دالة على ذلك، ولقد اتّحدت
[433]
تلك الإسباب بشكل غير متوقع فكان النصر، وهو ما لا يمكن حمله على المصادفة والإِتفاق فبناءً على ذلك فإن صدق الآيات التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في ذلك اليوم كان كامناً في الآيات نفسها.
ثانياً:
إنّ المعركة في بدر: "يوم التقى الجمعان" كانت في الواقع إحدى النعم الإِلهية الكبرى على المسلمين، لإنّ بعضهم كان يخشاها في البداية، لكن تلك المواجهة والنصر دفعا بهم خطوات كبيرة نحو الأمام، إذ بلغ صداهم واشتهارهم بذلك أنحاء الجزيرة العربية، ودعا الجميع للتفكّر في هذا الدين الجديد وقدرته المذهلة وكان ذلك اليوم يوماً شديداً على الأُمّة الإِسلامية القليلة أنئذ، حيث امتاز به المؤمنون الصادقون عن المدعين الكاذبين، فكان ذلك اليوم بكل جوانبه يوم الفرقان بين الحق والباطل.
2 ـ ذكرنا في بداية السورة عدم وجود تضادّ بين آية الأنفال وهذه الآية، ولا موجب الإِعتبار إحداهما ناسخة للأُخرى، لأنّه بمقتضى آية الأنفال فإنّ الغنائم الحربية هي للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه وهب أربعة أخماسها للمقاتلين المسلمين، وادخر الخمس المتبقي للموارد التي ذكرتها الآية "ولمزيد الإِيضاح راجع بحثنا في تفسير الآية الاُولى من هذه السورة".
3 ـ ما هو المراد من ذي القربي؟
ليس المراد في هذه الآية الأقرباء كلّهم ولا أقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) جميعاً، بل هم الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)، والدليل على هذا الأمر هو الرّوايات المتواترة التي وردت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن طرق أهل البيت(1)، وتوجد أدلة أُخرى على ذلك في كتب أهل السنة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يراجع كتاب وسائل الشيعة، ج 6، باب الخمس.
[434]
فبناءً على ذلك فإنّ من يرى أنّ سهماً من الخمس يتعلق بكل أقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يواجه هذا السؤال وهو: ما هذا إِمتياز الذي أولاه الإِسلام لأقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقومه، مع أنّ الإِسلام بعيد عن القبلية والقومية والعرقية؟!
لكنّنا إذا خصصنا "بذي القربى" الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) مع ملاحظة أنّهم خلفاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقادة الحكومة الإِسلامية، يتّضح السبب في إعطائهم هذا السهم من الخمس.
وبعبارة أُخرى: إنّ السهام الثّلاثة "سهم الله وسهم النّبي وسهم ذي القربي" ترجع جميعها إِلى قائد الحكومة الإِسلامية، فيصرف منها في شؤون حياته البسيطة، وينفق الباقى منها في ما يوجبه مقام القيادة، أي أنّه يصرفها في الحقيقة في حاجات الناس والمجتمع!.
وحيث أن بعض المفسّرين من أهل السنة "كصاحب المنار" يرى أنّ ذا القربى هو جميع الأقارب، فقد تخبط في الإِجابة على السؤال آنف الذكر وظلَّ في حيرة من أمره، حتى جعل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أشبه بالملوك والسلاطين، فأوجب عليه أن يجذب قومه وقبيلته اليه بالأموال التي عنده!
ومن الواضح بطلان هذا المنطق، إذ يتنافي ومنطق الحكومة العالمية الإنسانية التي لا تعترف بالإِمتيازات القبليّة "وسيأتي إيضاح هذا الموضوع بصورة أكثر في البحوث المقبلة، إن شاء اللّه".
4 ـ ما هو المراد من اليتامى والمساكين وابن السبيل
إنّ المقصود باليتامى والمساكين وابن السبيل ـ في الآية ـ هم هذه الطوائف الثلاث من بني هاشم بالرغم من أنّ ظاهر الآية مطلق غير مقيد، ودليلنا على التقييد هو الرّوايات الكثيرة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، ونعلم بأنّ كثيراً من الأحكام المطلقة في النصوص القرآنية قيدتها السنة النبوية وجعلت لها شروطاً
[435]
وهذا الأمر غير منحصر بالآية محل البحث حتى تكون مثاراً للغرابة والتعجب.
أضف إِلى ذلك أنّ الزكاة محرمة على المحتاجين من بني هاشم، فيلزم توفير مصدر آخرلهم، وهذه قرينة على أنّ الآية تخصُّ المحتاجين من بني هاشم.
لذا نقرأ في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله:"إنّ الله تعالى لما حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام والخمس لنا حلال"(1).
5 ـ هل الغنائم منحصرة في غنائم الحرب
الموضوع المهم الآخر الذي يجب أن يبحث في الآية، وهو في الحقيقة بمثابة العمدة فيها، هو: هل لفظ الغنيمة المذكور فيها يطلق على الغنائم الحربية فحسب، أو الموضوعُ أوسع من ذلك فيشمل كل زيادة في المال؟!
ففي الصورة الأُولى فإنّ الآية تبيّن الخمس في غنائم الحرب فحسب، وأمّا الخمس في سائر الموارد فينبغي معرفته من السنة والأخبار المتواترة وصحيح الرّوايات، ولا مانع أن يشير القرآن إِلى قسم من أحكام الخمس بما يناسب مسائل الجهاد، وأن تتناول السنة الشريفة بيان أقسامه الباقية.
فمثلا قد وردت الصلوات الخمس اليومية صريحة في القرآن، كما أشير إِلى صلاة الطواف التي هي من الصلوات الواجبة أيضاً، ولم ترد أيّة إشارة في القرآن إِلى صلاة الآيات المتفق على وجوبها من قبل الفرق الإِسلامية من أهل السنة والشيعة كافة، ولا نجد قائلا يقول بأنّه لا يجب الإِتيان بصلاة الآيات لأنّها لم تذكر في القرآن أو أن القرآن أشار إِلى بعض الأغسال ولم يذكر غيرها، فيجب ترك ما لم يشر إليه القرآن! فهذا المنطق لا يقره أي مسلم أبداً.
فبناءً على ذلك، لا إشكال في أن يبيّن القرآن قسماً واحداً من أقسام
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، ج 6، باب الخمس، ومجمع البيان ذيل الآية ... .
[436]
الخمس فحسب، ويكلُّ توضيح الباقي إِلى السنّة، وفي الفقه الإِسلامي نظائر كثيرة لهذه المسألة.
إلاّ أنّه مع هذه الحال ينبغي أن ننظر إِلى معنى "الغنيمة" في اللغة والعرف!
فهل هي منحصرة في غنائم الحرب؟! أم تشمل كل أنواع الأرباح والزيادة في المال؟!
الذي يستفاد من كتب اللغة هو أنّ جذرها اللغوي لم يرد في ما يؤخذ من العدوّ في الحرب، بل تشمل كل أنواع الزيادة المالية وغيرها.
ونشير هنا إِلى بعض كتب اللغة المشهورة التي يعتمد عليها علماء العربية وأُدباؤها على سبيل المثال والشاهد. إذ نقرأ في كتاب "لسان العرب" الجزء الثّاني عشر قوله "الغُنم الفوز بالشيء من غير مشقّة، والغُنم والغنيمة، والمنغم: الفيء، وفي الحديث: الرهن لمن رهنه له غُنمه وعليه غرمه، غنمه زيادته ونماؤه وفاضل قيمته ... وغنم الشيء غُنماً فاز به ... ".
ونقرأ في الجزء التاسع من "تاج العروس": والغنم: الفوز بالشيء بلا مشقّة".
وفي كتاب "القاموس" هذا المعنى نفسه للغنيمة أيضاً.
وجاء في كتاب "المفردات" للراغب أنّ أصل الغنيمة من الغَنَم، ثمّ يقول: ثمّ استعملوه في كل مظفور به من العدى وغيره.
وحتى من ذكر أنّ معناها هو غنائم الحرب، لم ينكر أنّ معناها في الأصل واسع وشامل لكل خير يقع بيد الإِنسان بدون عناء ومشقة.
وترد الغنيمة في العرف في مقابل الغرامة، فكما أن معنى الغرامة واسع شامل لكل أنواع الغرامات، فإنّ معنى الغنيمة واسع شامل لكل أنواع الغنائم.
وقد وردت هذه الكلمة في نهج البلاغة كثيراً بالمعنى المذكور نفسه، إذ نقرأ في الخطبة (76) قوله(عليه السلام): "اغتنم المُهل".
وفي الخطبة (120) يقول(عليه السلام): "من أخذها لِحق وغنم".
[437]
ويقول في كتابه (53) إِلى مالك الأشتر: "ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم".
ويقول في كتابه (45) إِلى عثمان بن حنيف: "فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادخرتُ من غنائمها وفراً".
ويقول في بعض كلماته القصار برقم (331): "إنّ الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس".
ويقول في كتابه (41): "واغتنم من استقرضك في حال غناك".
ونظير هذه التعابير والكلمات التي تدل على عدم انحصار معنى الغنيمة في غنائم الحرب كثير.
وأمّا ما قاله المفسّرون:
إنّ أكثر المفسّرين الذين تناولوا هذه الآية بالبحث صرّحوا بأنّ للغنيمة معنى واسعاً في الغة يشمل غنائم الحرب وغيرها ممّا يحصل عليه الإِنسان من دون مشقّة، وحتى الذين قالوا بأنّها تختص بغنائم الحرب "لفتوى فقهاء السنة" يعترفون بأنّ معناها في اللغة غير مقيد، بل قيّدوه بدليل آخر.
"القرطبي" مفسّر أهل السنة المعروف، كتب في ذيل الآية: "إنّ الغنيمة في اللغة هو الخير الذي يناله الفرد أو الجماعة بالسعي والجد"(1).
وينبغي أن يُعلم أن علماء أهل السنة متفقون على أنّ المراد من الغنيمة المذكورة في آية (واعلموا إنّما غنمتم من شيء) هي الأموال التي يحصل عليها الناس بالقوّة في الحرب، وينبغي ملاحظة أنّ هذا القيد غير وارد في اللغة، لكنّه ورد في العرف الشرعي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير القرطبي، ج 4، ص 280.
[438]
ويقول "الفخر الرازي" في تفسيره: الغنم الفوز بالشيء. يقول بعد هذا: إنّ المعنى الشرعي للغنيمة في اعتقاد فقهاء أهل السنة هو غنائم الحرب.(1)
كما أنّ "صاحب المنار" قد ذكرها بمعناها الواسع ولم يخصصها بغنائم الحرب، بالرغم من اعتقاده بلزوم تقييد المعنى الواسع بالقيد الشرعي، وتخصيص الآية بغنائم الحرب.(2)
وقال "الآلوسي" في تفسيره روح المعاني: "إن الغنم في الأصل معناه كل ربح ومنفعة"(3).
وقال صاحب "مجمع البيان" في بداية كلامه: إنّ الغنيمة بمعنى غنائم الحرب، إلاّ أنّه لما بين معنى الآية قال: "قال أصحابنا: إنّ الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإِنسان من المكاسب وأرباح التجارات، وفي الكنوز والمعادن والفوضى، وغير ذلك ما هو مذكور في الكتب، ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية، فإنّ في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم والغنيمة"(4).
والعجيب أنّ بعض المغرضين ـ وكأنّهم مأمورون ببث السّموم في الأفكار ـ حرّفوا ما ذكره صاحب مجمع البيان في كتاب ألفوه في شأن الخمس، حيث ذكروا عبارته الأُولى في تفسير الغنيمة بأنّ المراد منه غنائم الحرب، ولكنّهم لم يشيروا إِلى إيضاحاته حول عموميّة المعنى اللغوي ومعنى الآية الذي أورده أخيراً، وقد كذبوا بما لفقوا على هذا المفسّر الإِسلامي الكبير، وكأنّهم يتصورون أن كتاب مجمع البيان في أيديهم ولن يقرأه غيرهم. والأعجب من ذلك أنّهم لم يرتكبوا هذه الخيانة الفكرية فحسب، بل تصرفوا في كتب أُخرى فأخذوا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الفخر الرازي، ج 15، ص 164.
2 ـ تفسير المنار، ج 10، ص 703.
3 ـ تفسير روح المعاني: ج 10، ص 2.
4 ـ تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 543.
[439]
بما ينفعهم وتركوا ما يضرّهم.
وفي تفسير "الميزان" ورد بصراحة ـ إستناداً إِلى علماء اللغة ـ أنّ الغنيمة هي كل فائدة تستحصل عن طريق التجارة والكسب أو الحرب، ومع أن سبب نزول الآية هو غنائم الحرب، إلاّ أنّ ذلك لا يخصص مفهوم الآية وعموميتها(1).
ونستنتج ممّا ذكرناه آنفاً مايلي:
إنّ آية الغنائم ذات معنى واسع يشمل كل فائدة وربح، لإنّ معنى الغنيمة اللغوي عام ولا دليل على تخصيص الآية.
والشيء الوحيد الذي استند إليه جماعة من مفسّري أهل السنة، هو أنّ الآيات السابقة والآيات اللاحقة لهذه الآية تتعلق بالجهاد، وهذا الأمر يكون قرينة على أنّ آية (ما غنمتم) تتعلق بغنائم الحرب.
في حين أنّ أسباب النّزول وسياق الآيات لا يخصص عمومية الآية كما هو معلوم، وبعبارة أجلى: لامانع من كون مفهوم الآية ذا معنى عام، وأن يكون سبب نزولها هو غنائم الحرب في الوقت ذاته، فهي من مصاديق هذا المفهوم أو الحكم.
ونظير هذه الأحكام كثير في القرآن الكريم والسنة المطهرة، بأن يكون حكمها عاماً ومصداقها جزيئاً "خاصّاً".
فمثلا في الآية (7) من سورة الحشر نقرأ قوله تعالى: (ما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فهذه الآية ذات حكم كلي في وجوب الإِلتزام بأوامر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن سبب نزولها هو الأموال التي تقع بأيدي المسلمين من دون حرب، ويطلق على ذلك اصطلاحاً "الفيء".
وكذلك نجد في الآية (233) من سورة البقرة حكماً كلياً في قوله: (لا تكلّف نفس إلاّ وسعها) مع أنّه يتعلق بالنساء المرضعات والأمر موجه لآباء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الميزان، ج 9، ص 89.
[440]
الأطفال الرضّع أن يعطوا المرضعات أجورهن حسب وسعهم. وكون الآية واردة في هذا الأمر الخاص لا يمنع من عمومية القانون الذي جاءت به وهو عدم التكليف.
الخلاصة، أنّ الآية محل البحث جاءت في سياق آيات الجهاد، إلاّ أنّها تقول: "إنّ أية فائدة أو ربح تحصلون عليه ـ ومنه غنائم الحرب ـ فعليكم أن تعطوا خمسه".
وخاصّة أنّ "ما" الموصولة "ومن شيء" لفظان عامان ليس فيهما قيد ولا شرط وهما يؤكّدان هذا الموضوع.
6 ـ ألا يعد تخصيص نصف الخمس لبني هاشم تبعيضاً بين المسلمين؟!
يتصوّر بعضٌ أن هذه الضربية الإِسلامية الشاملة لخمس الكثير من الأموال، أي نسبة (عشرين المائة) حيث يعطى نصفها للسادة من أبناء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، نوعٌ من التمييز العنصري أو ملاحظة العلاقات العائلية، وأنّ هذا الأمر لا ينسجم وروح العدالة الإِجتماعية للإِسلام وكونها شاملة لجميع العالم.
الجوابُ:
إنّ هؤلاء لم يدرسوا ظروف هذا الحكم وخصوصياته بدقة كافية، فالإِجابة على هذا السؤال كامنة في تلك الخصوصيات.
وتوضيح ذلك:
أوّلا:
إن نصف الخمس المتعلق ببني هاشم إنّما يعطى للمحتاجين والفقراء منهم فحسب، ولما يكفيهم لسنة واحدة لا أكثر، فبناءً على ذلك تصرف هذه الأموال على المقعدين عن العمل والمرضى واليتامى من الصغار، أو من يكون في ضيق وحرج. لسبب من الاسباب ولهذا فإنّ القادرين على العمل "بالفعل أو بالقوّة" والذين بإمكانهم أن يديروا حياتهم المعاشية، ليس
[441]
لهم بأي وجه أن يأخذوا شيئاً من الخمس.
أمّا ما يقوله بعض السواد بأنّ السّادة يمكنهم أخذ الخمس حتى ولو كان ميزاب بيتهم من ذهب فهو كلام ساذج ولا أساس له أبداً.
ثانياً:
إنّ المحتاجين والضعفاء من سادات بني هاشم لا يحق لهم أخذ شيء من الزكاة، فلهذا جاز لهم أن يأخذوا من هذا القسم من الخمس فحسب.(1)
ثالثاً:
إذا زاد القسم المختصص لبني هاشم عن احتياجاتهم فإنّه يرجع إِلى بيت المال حتى يُنفق في مصارف أُخرى، كما أنّه إذ نقص هذا السهم عن حاجتهم يدفع الباقي من بيت المال إليهم أو من سهم الزكاة.
وبملاحظة تلك النقاط الثلاث يتّضح لنا عدم وجود فرق ـ في الواقع ـ من النّاحية الماديّة بين السادة وغيرهم.
فالمحتاجون من غيرهم يمكنهم سدّ حاجتهم من الزّكاة ويحرمون من الخمس، والمحتاجون من السادة يسدّون حاجتهم من الخمس ويحرمون من الزّكاة.
فيوجد في الحقيقة صندوقان، هما صندوق الخمس وصندوق الزكاة، فيحق لكل من القسمين الأخذ من أحد الصندوقين وبصورة التساوي فيما بينهما، أي ما يحتاجه كلُّ لعام واحد (فتأمل).
فالذين لم يُمعنوا النظر في هذه الشروط والخصوصيات تصوّروا من بيت المال أكثر من غيرهم أو أنّهم يتمتعون بإمتياز خاص.
والسؤال الوحيد الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا قلنا بعدم الفرق بين الإِثنين آخر الإمر، فما جدوى هذه الخطة إذاً؟!
ويمكن أن ندرك جواب هذا التساؤل بملاحظة شيء واحد، وهو أنّ بين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إنّ حرمة أخذ بني هاشم الزكاة مسلم بها وقد وردت في أكثر كتب الحديث وفتاوى العلماء وكتبهم الفقهية، فهل يعقل بأنّ الإِسلام قد فكّر في شأن الفقراء والمحتاجين من غير بني هاشم ولم يعالج قضية المحتاجين من بني هاشم؟ فتركهم لحالهم.
[442]
الزكاة والخمس بوناً شاسعاً، إذ أنّ الزكاة من ضرائب الأموال العامّة للمجتمع الإِسلامي فتصرف عموماً في هذه الجهة، ولكن الخمس من ضرائب الحكومة الإِسلامية فيصرف على القيادة والحكومة الإِسلامية وتؤمن حاجتها منه.
فالتحريم على السادة من مدّ أيديهم للأموال العامّة، "الزّكاة" كان في الحقيقة ليجتنبوا عن هذا المال باعتبارهم أقارب النّبي، ولكيلا تكون ذريعة بيد الأعداء بأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سلط أقرباءه على الإموال العامّة.
إلاّ أنّه ـ من جانب آخر ـ ينبغي سدّ حاجة الضعفاء والفقراء من السادة، لذلك جعلت هذه الخطة لسدّ حاجتهم من ميزانية الحكومة الإِسلامية لا من الميزانية العامّة ففي الحقيقة أنّ الخمس ليس إمتيازاً لبني هاشم، بل هو لإبعادهم من أجل الصالح العام ولئلا ينبعث سوء الظن بهم(1).
والذي يسترعي النظر أنّ هذا الإمر أشارت إليه أحاديث الشيعة والسنة، ففي حديث عن الإِمام الصادق نقرأ: "إنّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي، وقالوا: يكون لنا هذا السهم الذي جعل الله عزّ وجلّ للعاملين عليها فنحن أولى به، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا بني عبدالمطلب (هاشم) إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم، ولكنّي وعدت الشفاعة، إِلى أن قال: "أتروني موثراً عليكم غيركم"(2).
ويدل هذا الحديث على أن بني هاشم كانوا يرون في ذلك الأمر حرماناً، وقد وعدهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشفع لهم.
ونقرأ حديثاً في صحيح مسلم الذي يعد من أهم مصادر الحديث عند أهل السنة، خلاصته أنّ العباس وربيعة بن الحارث جاءا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبا منه أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وإذا لاحظنا أنّ في بعض الرّوايات التعبير بـ "كرامة لهم من أوساخ الناس" فهو ليُقنع بني هاشم من هذه الحرمة من جانب، وليفهم الناس أن يؤدوا الزّكاة إِلى المحتاجين ما استطاعوا إِلى ذلك سبيلا.
2 ـ وسائل الشيعه، ج 6، ص 186.
[443]
يأمر ابنيهما ـ وكانا فتيين وهما عبدالمطلب بن ربيعة والفضل بن العباس ـ بجمع الزكاة ليتمكنا أن يأخذا سهماً منه شأنهما كشأن الآخرين، ليؤمّنا لنفسيهما المال الكافي لزواجهما، فامتنع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر بسد حاجتهما عن طريق آخر وهو الخمس.
ويستفاد من هذا الحديث الذي يطول شرحه أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مصرّاً على إبعاد أقاربه عن الحصول على الزكاة التي هي من أموال عامّة الناس.
من مجموع ما قلناه يتّضح أنّ الخمس ليس إمتيازاً للسّادة، بل هو نوع من الحرمان لحفظ المصالح العامّة...
7 ـ ما هو المراد من سهم الله؟
إنّ ذكر سهم على أنّه سهم الله، للتأكيد على أهمية مسألة الخمس وإثباتها، ولتأكيد ولاية الرّسول والقيادة الإِسلامية وحاكمية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً.
أي كما أنّ الله جعل سهماً باسمه وهو أحق بالتصرف فيه، فقد أعطى النّبي والإِمام حق الولاية والتصرف فيه كذلك، إلاّ فإنّ سهم الله يُجعل تحت تصرف النّبي أو الإِمام يصرفه في المكان المناسب، وليس لله حاجة في سهم معين.
* * *
[444]
الآيات
إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَـدِ وَلَـكِن لِّيَقْضِىَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَة وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ 42 إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَْكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَـزَعْتُمْ فِى الاَْمْرِ وَلَـكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ43 وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ44
التّفسير
الأمر الذي لابدّ منه:
يعود القرآن في هذة الآيات الكريمة ـ ولمناسبة الكلام في الآيات السابقة إِلى يوم الفرقان يوم معركة بدر وانتصار المسلمين لمؤزر في ذلك الموقف الخطير ـ يعود ليعرب عن أجزاء من فصول تلك المعركة، ليطلع المسلمون على
[445]
أهمية ذلك النصر العظيم.
فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى).
"العُدوة" مأخوذة من "العدو" على زنة "السَّرْو" ومعناها في الأصل التجاوز، ولكنّها تطلق على أطراف كل شيء، وحواشيه، لأنّها تتجاوز الحدّ الوسط إِلى إحدى الجوانب، وجاءت هذه الكلمة في هذه الآية بهذا المعني أي "الطرف، والجانب".
"والدنيا" مأخوذة من الدنّو، على وزن العلوّ وتعني الأقرب، ويقابل هذا اللفظ الأقصى والقصوى.
وكان المسلمون في الجانب الشمالي من ميدان الحرب الذي هو أقرب إِلى جهة المدينة، وكان الأعداء في الجانب الجنوبي وهو الأبعد.
ويحتمل أن يكون المعنى هو أنّ المسلمين لإِضطرارهم كانوا في القسم الأسفل في الميدان، وكان الأعداء في القسم الأعلى منه وهو يعدّ ميزة لهم.
ثمّ تعقّب الآية قائلةً: (والركُب أسفلَ منكم).
وكما رأينا من قَبلُ فإنّ أبا سفيان حين علم بتحّرك المسلمين غيّر مسير قافلته إِلى جهة أُخرى على جانب البحر الأحمر حتى صار قريباً من مكّة، ولو أنّ المسلمين لم يضلّوا أثر القافلة فلعلهم كانوا يتبعونها، ولا يوفقون لمواجهة الأعداء ومنازلتهم في معركة بدر التي تحقق فيها النصر العظيم والفتح المبين.
وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ عدد قوات المسلمين وإمكاناتهم كان أقلّ من قوات الأعداء من جميع الوجوه، لهذا فإنّ الآية الكريمة تقول: (ولو تواعدتم لإختلفتم في الميعاد).
لأنّ الكثير منكم سيدركون ضعفهم الظاهري قبال الأعداء فيتقاعسون عن قتالهم، ولكن الله جعلكم إزاء أمر مقدر، وكما تقول الآية: (ليقضي الله أمراً كان
[446]
مفعولا).
وليعرف الحق من الباطل في ظلال ذلك النصر غير المتوقع والمعجزة الباهرة و(ليهلك من هلك عن بيّنة ويحي من حيّ عن بينة).
والمراد من "الحياة" و"الهلكة" هنا هو الهداية والضلال، لأنّ يوم بدر الذي سُمّي يوم الفرقان تجلّى فيه الإِمداد الإِلهي لنصرة المسلمين، وثبت فيه أن لهؤلاء علاقة بالله وأنّ الحق معهم.
وتعقبّ الآية قائلةً: (وإنّ الله لسميع عليم).
فقد سمع نداء استغاثاتكم، وكان مطلعاً على نيّاتكم، ولذلك أيّدكم بنصره على أعدائكم.
إنّ القرائن تدلّ عن أنّ بعض المسلمين لو كانوا يعرفون حجم قوّة أعدائهم لامتنعوا عن مواجهتهم، مع أنّ طائفة أُخرى من المسلمين كانوا مطيعين للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهة جميع الشدائد، لهذا فإنّ الله جعل الأُمور تسير بشكل يلتقي فيه المسلمون ـ شاءوا أم أبوا ـ مع أعدائهم، فكانت المواجهة المصيرية.
وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد رأى فيه منامه من قبل أن قلّة المشركين تقاتل المسلمين، وكانت هذه الرؤيا إشارة إِلى النصر وبشارة به، فقد رواه(صلى الله عليه وآله وسلم)للمسلمين فازدادت العزائم في الزحف نحو معركة بدر.
وبالطبع فإنّ رؤيا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه كانت صحيحة، لأنّ قوّة الأعداء وعددهم بالرغم من كثرتهم الظاهرية، إلاّ أنّهم كانوا قلّة في الباطن ضعفاء غير قادرين على مواجهة المسلمين، ونحن نعرف أنّ الرؤيا ذات تعبير وإشارة، وأن الرؤيا الصحيحة هي التي تكشف الوجه الباطني للأُمور.
والآية الثّانية:
من الآيات محل البحث تشير إِلى الحكمة من هذا الأمر، والنعمة التي أولاها سبحانه وتعالى للمسلمين عن هذا الطريق، فتقول: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيراً لفشلتم)ولهبطت معنوياتكم، ولم يقف الامر
[447]
عند هذا الحدّ، بل لإدّى ذلك إِلى التنازع واختلاف الكلمة (ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلَّم) وانقذ الأمر بواسطة الرؤيا التي أظهرت الوجه الباطني لجيش الأعداء، و لأنّ الله يعرف باطنكم (إنّه عليم بذات الصدور).
وتُذكّر
الآية الأُخرى
بمرحلة من مراحل معركة بدر تختلف عن سابقتها، ففي هذه المرحلة وفي ظل خطاب النّبي المؤثر فيهم والبشائر الرّبانية، ورؤية حوادث حال التهيؤ للقتال ـ كنزول المطر لرفع العَطش ولتكون الرمال الرخوة صالحة لساحة المعركة ـ تجددت بذلك المعنويات وكبر الأمل بالنصر وقويت عزائم القلوب، حتى صاروا يرون الجيش المعادي وكأنّه صغير ضعيف لا حول ولا قوة له، فتقول الآية المباركة: (وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا).
أمّا العدوّ فإنّه لما كان يجهل معنويات المسلمين وظروفهم، فكان ينظر إِلى ظاهرهم فيراهم قليلا جدّاً، بل رآهم أقل ممّا هم عليه، إذ تقول الآية في الصدد (ويقلّلكم في أعينهم).
حتى روي عن أبي جهل أنّه قال: إنّما أصحاب محمّد أكلة جزور، وفي ذلك كناية عن منتهى القلّة. أو أنّهم سيحسمون الأمر معهم في يوم واحد من الغداة حتى العشية، وقد جاء في الأخبار أنّهم كانوا ينحرون كل يوم عشرة من الإبل لطعامهم، لأنّ عدد جيش قريش كان حوالي ألف مقاتل.
وعلى كل حال: فقد كان تأثير هذين الامرين كبيراً في نصر المسلمين، لأنّهم من جهة رأوا جيش العدو قليلا فزال كل خوف ورعب من نفوسهم، ومن جهة أُخرى ظهر عدد المسلمين قليلا في عين العدو، كيلا يترددوا في قتال المسلمين وينصرفوا عن الحرب التي أدت في النهاية إِلى هزيمتهم.
لهذا فإنّ الآية تعقب على ما سبق قائلةً: (ليقضي الله أمراً كان مفعولا).
فلم تنته هذه المعركة وحدها وفق سنة الله فحسب، بل إن إرادته نافذة في كل شيء (وإلى الله تُرجَع الإمور).
[448]
وفي الآية (13) من سورة آل عمران إشارة إِلى المرحلة الثّالثة من قتال يوم بدر، إذ تشير إِلى أنّ الأعداء لمّا اشتعل أوار الحرب ورأوا الضربات الشديدة لجيش الاسلام تنزل على رؤوسهم كالصواعق، أصابهم الذعر والخوف الشديد، فأحسوا عندئذ وكأنّ جيش الإِسلام قد ازداد عدده وتضاعف أضعاف ما كان عليه، فانهارت معنوياتهم وأدّى هذا الأمر إِلى هزيمتهم وتمزقهم.
وممّا ذكرناه آنفاً يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض، لا بين الآيات محل البحث، ولا بينها وبين الآية (13) من سورة آل عمران، لإنّ كلاًّ من هذه الآيات تبيّن مرحلةً من مراحل المعركة.
فالمرحلة الأُولى:
هي ما قبل القتال، وهي ما ورد فيها عن رؤيا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه ورؤيته جيش المشركين قليلا.
والمرحلة الثّانية:
هي نزولهم في أرض بدر ومعرفة بعض المسلمين بعَدَد الأعداء وعُدَدِه وخوف بعضهم وخشيته من قتالهم.
والمرحلة الثّالثة:
هي حصول المواجهة المسلحة وما أنعمه الله عليهم، وما رأوه من مشاهد قللّت عدد أعدائم في أعينهم "فتأملوا بدقّة!".
* * *
[449]
الآيات
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ45 وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـزَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّـبِرِينَ46 وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـرِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ47
التّفسير
ستة أوامر أُخرى في شأن الجهاد:
قال المفسّرون: إنّ أباسفيان بعدما استطاع النجاة بقافلة قريش التجارية من مواجهة المسلمين، أرسل مبعوثاً إِلى قريش الذاهبين إِلى ساحة بدر ودعاهم إِلى العودة، لأنّه رأى أن لا حاجة إِلى القتال، لكن أبا جهل هذا المغرور والمتعصب والمتكبر أقسم أن لا يرجعوا حتى يبلغوا أرض بدر "وكانت بدر قبل هذه المعركة من مراكز إجتماع العرب، وتقام فيها سوق تجارية كل عام" ويمكثوا فيها ثلاثة أيّام، وينحروا الإِبل ويأكلون ما يشتهون ويشربون الخمر، وتغني لهم المغنيّات، حتى يسمع جميع العرب بهم وتثبت بذلك قوتهم وقدرتهم!...
[450]
لكن أمرهم آل إِلى الهزيمة فشربوا كؤوس المنايا المترعة بدلا من كؤوس الخمر، وجلست المغنيات ينُحن على جنائزهم!!
والآيات محل البحث تشير إِلى هذا الموضوع، وتنهى المسلمين عن مثل هذه الأعمال، وتضع لهم تعاليم جديدة في شأن الجهاد إضافة إِلى ما سبق من هذه الأُمور.
وبصورة عاملة فإنّ في الآيات محل البحث ستة أوامر للمسلمين هي:
1 ـ أنّها تقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) أي أن إحدى علائم الإِيمان هي ثبات القدم في جميع الأحوال، وخاصّة في مواجهة الأعداء.
2 ـ (واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون).
ولا ريب أنّ المراد من ذكر الله هنا ليس هو الذكر اللفظي فحسب، بل حضور القلب، وذكر عِلمه تعالى وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة، فهذا التوجه إِلى الله يقوّي من عزيمة الجنود المجاهدين، ويُشعر الجندي بأنّ سنداً قويّاً لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه يدعمهُ في ساحة القتال. وإذا قُتل فسينال السعادة الكبرى ويبلغ الشهادة العظمى، وجوار رحمة الله، فذكر الله يبعث على الإِطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفسه.
بالإِضافة إِلى ذلك، فذكر الله وحبّه يخرجان حبّ الزوجة والمال، والأولاد من قلبه، فإنّ التوجه إِلى الله يزيل من القلب كل ما يضعفه ويزلزله، كما يقول الإِمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) في دعائه المعروف ـ في الصحيفة السجادية ـ بدعاء أهل الثغور: "وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة، وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنّة نصبَ أعينهم".
3 ـ كما أنّ من أهم أسس المبارزة والمواجهة هو الإِلتفات للقيادة وإطاعة أوامر القائد والآمر، الآمر الذي لولاه لما تحقق النصر في معركة بدر، لذلك فإنّ الآية بعدها تقول: (وأطيعوا الله ورسوله).
4 ـ (ولا تنازعوا فتفشلوا) لأنّ النزاع والفرقة امام الأعداء يؤدي إِلى
[451]
الضعف وخور العزيمة، ونتيجة هذا الضعف والفتور هي ذهاب هيبة المسلمين وقوتهم وعظمتهم (وتذهب ريحكم).
"والريح" في اللغة، هي الهواء. فالنزاع يولد الضعف والوهن.
وأمّا ذَهاب الريح، فهو إشارة لطيفة إِلى زوال القوّة والعظمة، وعدم سير الأُمور كما يرام، وعدم تحقق المقصود، لأنّ حركة الريح فيما يرام توصل السفن إِلى مقاصدها، ولما كانت الريح في ذلك العصر أهم قوّة لتحريك السفن فقد كانت ذات أهمية قصوى يؤمئذ.
وحركة الرّيح في الرّايات والبيارق تدل على إرتفاع الرّاية التي هي رمز القدرة والحكومة، والتعبير آنف الذكر كناية لطيفة عن هذا المعنى.
5 ـ ثمّ تأمر الآية بالإِستقامة بوجه العدوّ، وفي قبال الحوادث الصعبة، فتقول: (واصبروا إنّ الله مع الصابرين).
والفرق بين ثبات القدم في الأمر الأوّل، والإِستقامة والصبر في الأمر الخامس، هو من جهة أن ثبات القدم يمثل الناحية الظاهرية، "الجسمية" أمّا الإِستقامة والصبر فليسا ظاهريين، بل هما أمران نفسيان ومعنويان.
6 ـ وتدعو
الآية الأخيرة
ـ من الآيات محل البحث ـ المسلمين إِلى اجتناب الأعمال الساذجة البَلهاء ، ورفع الأصوات الفارغة، وتشير إِلى قضية أبي سفيان وأسلوب تفكيره هو وأصحابه، فتقول: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل الله).
فأهدافهم غير مقدسة، وكذلك أساليبهم في الوصول إليها، ولقد رأينا كيف أبيدوا وتلاشى كلّ ما جاءوا به من قوّة وعدّة، وسقط بعضهم مضرجاً بدمائه في التراب، وأسبل الآخرون عليهم الدّموع والعبرات في مأتمهم، بدل أن يشربوا الخمر في حفل إبتهاجهم، وتختتم الآية بالقول: (والله بما يعلمون محيط).
* * *
[452]
الآيات
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ أَعْمَـلَهُمْ وَقَالَ لاَغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكُمْ إِنِّى أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ48 إِذْ يَقُولُ الْمُنَـفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ49 وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الِّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَـئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـرَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ50 ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ51
التّفسير
المشركون والمنافقون ووساوس الشّيطان:
مرّة أُخرى نلاحظ في هذه الآيات تجسيد جانب آخر من معركة بدر بما يتناسب والآيات السابقة في هذا الشأن، أو بما يتناسب والآية الأخيرة التي تكلمت عن أعمال المشركين الشيطانيّة في يوم بدر.
[453]
فكما أنّ دعاة الحق مؤيدون بالله وملائكة في نهجهم الذي سلكوه، فإنّ أتباع الباطل والضالين متأثرون بوساوس الشياطين وإغواءاتهم.
وقد مرّ في بعض الآيات السابقة كيف أن الملائكة دافعت عن المقاتلين المسلمين في بدر (ومرّ تفسير ذلك). فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تتكلم عن دفاع الشياطين عن المشركين، فتبدأ بالقول: (وإذ زيّن لهم الشّيطان أعمالهم).
إنّ تزيين الشيطان للعمل يكون عن طريق تحريك الأهواء والشهوات والرّذائل، فيتزين للإنسان عمله حتى ينظر إليه باعجاب ويعده عملا عقلائياً من جميع الجهات، ويراه منطقياً نبيلا.
ثمّ تقول الآية: (وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جار لكم).
ولن آلوَ جهداً في الدفاع عنكم، كما يدافع الجار عن جاره ويظهر له وفاءه وإخلاصه، وأُلازمكم ملازمة الظل للشاخص.
كما ويحتمل في تفسير الجار هنا أنّه ليس المراد من الجار جار الدّار، بل هو من يؤوي غيره ويؤمنه ويلجأ إليه، لأنّ من عادة العرب وخاصّة القبائل أو الطوائف القويّة منها أن تضمّن من يلجأ اليها من اصدقائها وأصحابها وتؤمنهم وتدافع عنهم بكل ما أُوتيت من قوّة.
فالشيطان يمنح أصحابه المشركين الأمان وورقة اللجوء إليه.
ثمّ تقول الآية: (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إِنّي بريء منكم).
واستدل على نكوصه وتراجعه القهقهري بدليلين هما:
أوّلا قوله: (إنّي أرى ما لا ترون).
فإنّه يرى آثار النصر جيداً في وجوه المسلمين الغاضبة ويشاهد عليها سمات اللطف الإِلهي والإِمداد الغيبي وتأييد الملائكة لهم، فمن الطبيعي أن
[454]
يتراجع عندما يرى كل ذلك الدعم الرّباني والقوى الغيبية.
والثّاني قوله: (إنّي أخاف الله).
فإنّ الجزاء الإِلهي ليس أمراً يسيراً يمكنه أن يقف بوجهه، بل إنّه هو العذاب الأليم (والله شديد العقاب).
هل جاء الشيطان عن طريق الوسوسة أو ظهر متجسداً لهم؟
جرى الكلام بين المفسّرين حول مسألة نفوذ الشيطان إِلى قلوب المشركين، وقوله لهم في ساحة معركة بدر، وكيفية حصول ذلك، وتتلخص جميع الآراء القديمة والحديثة في عقيدتين:
1 ـ يعتقد بعضهم أنّ هذا الأمر حصل على صورة وساوس باطنية، فقد زين لهم بوساوس أعمالهم في عيونهم وصوّر لهم أنّهم يملكون قوّة لا تقهر، وأغراهم وصوّر لهم أنّه هو ملجؤهم، إلاّ أنّهم بعد قتالهم الشديد للمسلمين، والحوادث الإِعجازية التي حققت النصر للمسلمين ومحت الوساوس عن قلوبهم، أحسوا بالإِنكسار وأنّه لا ملجأ لهم أبداً سوى ما ينتظرهم من الجزاء الإِلهي والعذاب الشديد.
2 ـ ويرى بعضهم الآخر أنّ الشيطان تجسد لهم في صورة الإِنسان، ففي رواية أوردتها كتب الحديث كثيراً: إنّ قريشاً عندما قررت التحرك والمسير نحو بدر، كانت تخشى الهجوم من طائفة بني كنانة لتشاجر كان بينها وبينهم، وعند ذاك جاءهم إبليس في صورة "سراقة بن مالك" الذي كان من رؤوس بني كنانة وطمأنهم بأنّهم يوافقونهم على هذا الأمر، وأنّهم سينتصرون، لكنّه تراجع لما رأى نزول الملائكة، ولاذ بالفرار وانهزم الجيش عندما رأى ضربات المسلمين الشديدة وانهزام إبليس.
وقالت قريش بعد عودتها لمكّة: إنّ سراقة السبب في انهزام الجيش، فوصل
[455]
الخبر إِلى سراقة فأقسم أنّه لا علم له بذلك، وعندما قصّ عليه بعضهم ما كان منه في يوم بدر أنكر كل ذلك وأقسم أنّه لم يخرج من مكّة ولم يحصل من تلك الأُمور شيء أبداً، فُعلم أنّ ذلك لم يكن سراقة بن مالك(1).
ودليل الطائفة الأُولى أنّ إبليس لا يستطيع أن يتمثل في سورة إنسان.
بينما ترى الطائفة الثّانية عدم وجود دليل على استحالة هذا الأمر أبداً، وخاصّة أنّه نقل ما يشبه هذه القصّة في هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مجي، رجل كبير على هيئة شيخ نجدي إِلى دار الندوة، وإضافة إِلى أن سياق الآية وظاهر المحادثة يتلاءم مع تجسيد الشيطان.
وعلى أية حال، فإنّ الآية تدل على أنّ الناس إذا ساروا في نهج الحق أو الباطل في الأُمور والقضايا الجماعية، فإنّ سلسلة من الإِمدادات والقوى الغيبية أو القوى الشيطانية ستتحرك معهم، وهي تظهر في مختلف الصور، فعلى السائرين في سبيل الحق ومنهاج الله الحذر من هذا الأمر.
وتشير الآية بعدها إِلى روحيّة جماعة ممن يميلون إِلى الشرك في ساحة بدر، فتقول: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم). حين تصوروا أنّهم سينتصرون مع قلّة العدد والعدّة، أو أنّهم سينالون الشهادة والحياة الابدية في هذا المسار.
لكن هؤلاء لعدم إيمانهم وعدم معرفتهم بالإِمداد الإِلهي أنكروا تلك الحقائق البينة، لأنّه كما تقول الآية المباركة: (ومن يتوكل على الله فإنَّ الله عزيز حكيم).
وقد اختلف المفسّرون في المراد من (المنافقين) و(الذين في قلوبهم مرض)ولا يُستبعد أن تكون العبارتان تشيران إِلى المنافقين في المدينة، لأنّ القرآن الكريم عندما يتعرض لموضوع المنافقين في أوّل سورة البقرة يقول: (في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقل باختصار عن مجمع البيان ونور الثقلين، وسائر التفاسير، ذيل الآية.
[456]
قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)(1).
فهؤلاء الذين ذكرتهم الآية ـ محل البحث ـ إمّا أنّهم من المنافقين الذين التحقوا بصفوف المسلمين من المدينة، وكانوا يظهرون الإِسلام والإِيمان ولم يكونوا في حقيقتهم كذلك، أو أنّهم من الذين تظاهروا بالإِيمان في مكّة لكنّهم لم يهاجروا إِلى المدينة وانضموا في معركة بدر إِلى صفوف المشركين، فلمّا رأوا قلّة المسلمين في معركة بدر قبال جيوش الكافرين قالوا: إنّ هؤلاء أصابهم الغرور في دينهم الجديد وجاءوا إِلى هذه الساحة.
وعلى أية حال فإنّ الله سبحانه يخبر عن نيّات هؤلاء الباطنية، ويوضح الخطأ في تفكير هؤلاء وأمثالهم.
وتجّسد الآية بعدها كيفية موت الكفار ونهاية حياتهم، فتتوجه بالخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق).
ومع أنّ الفعل "ترى" فعل مضارع، لكنّه مع وجود "لو" يدل على الماضي، فتكون الآية إشارة إِلى حالة المشركين السابقة وموتهم الأليم، ولهذا السبب يعتقد بعض المفسّرين أن ذلك إشارة إِلى قتل هؤلاء على أيدي الملائكة في بدر، وأوردوا في هذا الصدد بعض الرّوايات غير المؤكّدة. إلاّ أنّ القرائن ـ كما أشرنا سابقاً ـ تدل على عدم تدخل الملائكة مباشرة في الحرب أو المعركة، فبناء على هذا فإنّ الآية محل البحث تتكلم عن ملائكة الموت وكيفية قبض الأرواح والجزاء الأليم الذي يُمنى به أعداء الحق في تلك اللحظة.
و(عذاب الحريق) إشارة إِلى جزاء يوم القيامة وعقابه، وقد جاء هذا التعبير في آيات أُخرى من القرآن كالآية (22) من سورة الحج، والآية (10) من سورة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البقرة، 10.
[457]
المعارج بالمعنى ذاته... .
ثمّ يقال لأُولئك: (ذلك بما قدمت أيديكم).
والتعبير بـ"أيديكم" إنّما جاء لأنّ أكثر أعمال الإِنسان يجريها بالإِستعانة باليّد، وإلاّ فإنّ الآية تشمل جميع الأعمال البدنية والروحية.
وتضيف الآية الأخيرة معقبة بالقول: (وإِنّ الله ليس بظلام للعبيد).
ومصطلح "الظلاّم" صيغة مبالغة، ومعناها شديد الظلم، وقد أوضحنا السبب في اختيار هذه الكلمة وأمثالها في بحوث حول الظلم في المجلد الثّالث من التّفسير الأمثل فليراجع هناك.
* * *
[458]
الآيات
كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِأَيَـتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ52 ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيُّروا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ53 كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِأَيَـتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَـهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآءَ الَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـلِمِينَ54
التّفسير
سنّةُ الله تقبل التغيير والتبديل:
في هذه الآيات إشارة إِلى "سنة إلهية دائمة" تتعلق بالشعوب والأُمم والمجتمعات، لئلا يتصور بعض أنّ ما أصاب المشركين يوم بدر من عاقبة سيئة كان أمراً استثنائياً، فإنّ من جاء بمثل تلك الأعمال في السابق، أو سيقوم بها مستقبلا سينال العاقبة ذاتها.
فتقول
الآية الأُولى
من الآيات محل البحث: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إنّ الله قوي شديد العقاب).
[459]
فبناءً على هذه فإن قريشاً والمشركين وعبدة الأصنام في مكّة، الذين أنكروا آيات الله وتعنتوا بوجه الحق وحاربوا قادة الإِنسانية، ليسوا وحدهم الذين نالوا جزاء ما إقترفوه، بل أنّ ذلك قانون دائم، وسنة إلهية تشمل من هم أقوى منهم ـ كآل فرعون ـ كما تشمل الشعوب الضعيفة كذلك، ثمّ توضح الآية التالية أصل هذا الموضوع فتقول: (ذلك بأنّ الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وبعبارة أُخرى: إنّ الرحمة الرّبانيّة عامّة تسع جميع الخلق، لكنّها تبلغُ الناس وتصل إليهم بما يناسب كفاءتهم وشأنهم، فإنّ الله سبحانه يغدق مبتدئاً بنعمه الماديّة والمعنويّة على جميع الأُمم، فإذا استفادوا من تلك النعم في السير نحو الكمال والإِستمداد منها في سبيل الحق تعالى والشكر على نعمائه، بالإِفادة منها إفادةً صحيحة، فإنّ الله سبحانه سيثّبت نعماءه ويزيدها. أمّا إذا استغلت تلك المواهب في سبيل الطغيان والإِنحراف والعنصرية، وكفران النعمة والغرور والفساد، فإنّ الله سيسلبهم تلك النعم أو يُبدلها إِلى بلاء ومصيبة، بناءً على ذلك فإنّ التغيير يكون من قِبلنا دائماً، وإلاّ فإنّ النعماء الإِلهية لا تزول! ...
وتعقيباً على هذا الهدف يعود القرآن ليشير إِلى حال الطغاة ـ كفرعون وأقوام آخرين ـ فيقول: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربّهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكلّ كانوا ظالمين) ظلموا أنفسهم وظلموا سواهم أيضاً.
الجواب على سؤال:
قد يرد هنا سؤالٌ وهو: لِمَ تكررت عبارة (كدأب آل فرعون)
في الآي بفاصلة قليلة مرّتين، ومع إختلاف يسير في التعبير؟!
وللإِجابة على هذا التساؤل ينبغي الإِلتفات إِلى لطيفة، وهي أنّه بالرغم من
[460]
أنّ التكرار أو التأكيد على المسائل الحساسة من أُصول البلاغة، ويلاحظ في أقوال البلغاء والفصحاء، لكنّ في الآيات ـ آنفة الذكر ـ فرقاً مهماً يخرج تلك العبارة عن صورة التكرار. وهو أنّ الآية الأُولى تشير إِلى الجزاء الإِلهي في مقابل إنكار آيات الحق والتكذيب بها، ثمّ تمثل حال هؤلاء بقوم فرعون والأقوام السابقين.
إلاّ أنّ الآية الثّانية تشير إِلى تبدل النعم في الدنيا وذهاب المواهب الرّبانية، مثل الإِنتصارات والأمن والقدرات وما يُفتخر به. ثمّ مثّلت الآية بحال فرعون والأقوام السابقين.
ففي الحقيقة أنّ جانباً من الكلام كان عن سلب النعم وما ينتج عن ذلك من الجزاء، ويقع الكلام في جانب آخر منه على تبدل النعم وتحوّلها.
* * *
ملاحظتان
1 ـ أسباب حياة الشعوب وموتها
يعرضُ التأريخ لنا شعوباً وأُممّا كثيرة، فطائفة اجتازت سلّم الرقي بسرعة، ووصلت طائفة ثانية إِلى أسفل مراحل الإِنحطاط، وطائفة ثالثة عاشت يوماً في تشتت وضياع وتناحر وتفرقة، ثمّ قويت في يوم آخر، وطائفة رابعة على العكس منها إذ سقطت من أعلى مراتب الفخر إِلى قعر وديان الذلة والضياع.
والكثير من الناس يمرّون مرور الكرام على حوادث التأريخ المختلفة دون أي تفكر فيها، والكثير منهم بدلا من البحث في العلل أو الأسباب الواقعية لحياة الشعوب وموتها يرجعون ذلك إِلى أسباب وهمية وخيالية.
ويرجعوها آخرون إِلى حركة الأفلاك ودورانها إيجاباً وسلباً.
وأخيراً فإنّ بعضهم لجأ إِلى مسألة القضاء والقدر بمفهومها المحّرف، أو إِلى
[461]
مسائل حسنِ الطالع والحظ وعدمهما، وما شابه ذلك، فيرجعون كل الحوادث الحسنة أو المرّة إِلى هذه الأُمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأُمور.
والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول: لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين، ولا وراء الأوهام والخيال، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم، وفي نظمكم والإِجتماعية، فإنّ كل ذلك كامن فيها.
فالشعوب التي فكّرت مليّاً وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها، وكانت قوية العزم والإِرادة، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك، هذه الشعوب منتصرة حتماً.
أمّا إذا حَلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث، وحلّ التراجعُ مكان الجرأة والنفاقُ والتفرقة مكان الإِتحاد، وحبُّ النفس مكان الفداء، وحل التظاهر والرياء محل الإِخلاص والإِيمان، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء.
وفي الحقيقة أنّ جملة: (ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) تبيّن أسمى قانون في حياة الإِنسانية، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإِنسانية، وأوضحها حتى لأُولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإِنسان، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإِقتصاد.
فهي تقول لهؤلاء: إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها.
ولئلا نمضي بعيداً، فإنّ تأريخ الإِسلام، أو تأريخ حياة المسلمين ـ بتعبير أصح ـ قد شهد إنتصارات باهرة في بداياته، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة
[462]
بعدها.
ففي القرون الأُولى كان الإِسلام يتقدم في العالم بسرعة، ويبث في كل مكان منه أنوار العلم والحريّة، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معاً، وجاء بمدنية زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إِلى الآخرين طلباً لوسائل الحياة الإِبتدائية، ويبعثون بأبنائهم إِلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إِليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة. لكن الأُمور بلغت حداً بحيث أنّهم لم يصدورا علماً وصناعة، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم.
وأرض فلسطين التي كانت يوماً مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون ـ لمدّة مئتي عام ـ برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلاّ أنّهم أسلموها "اليوم" خلال ستة أيّام ببساطة، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهراً وسنين لإِرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إِلى أية نتيجة سيصلون؟
ألم يَعِدُ الله عباده بالقول:(وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين)(1).
أو قوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)(2)
أو قوله: (ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الروم، 47.
2 ـ المنافقون، 8.
3 ـ الأنبياء، 105.
[463]
فهل الله عاجز ـ ولعياذ بالله ـ من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟
وإذا لم يكن كذلك، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟
إنّ القرآن الكريم يجيب ـ في آية قصيرة ـ على كل تلك التساؤلات، ويدعو إِلى العوده إِلى أعماق الوجدان، والنظر في ثنايا المجتمع، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم، وأنّ الألطاف والرحمة الإِلهية تعم الجميع، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدراً فصرتم إِلى هذا الحال.
ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال: إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة، وانتهى ولن يعود، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضاً، فإنّكم إذا عدتم إِلى الله وأحكمتم أُسس إيمانكم، ووعت عقولكم، وذكرتم عهودكم ومسؤولياتكم، وتصافحت الإيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدويّة للنهضة، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد، فسوف تعود المياه إِلى مجاريها، وستنقضي الأيّام السود وترون أُفقاً مشرقاً وضاءً، وستعود أمجادكم العظيمة، في صورة أجلى وأكبر!
تعالوا لتبديل أحوالكم، وليكتب علماؤكم، ويجاهد مقاتلوكم، ويسعى التجار والعمال، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والإِستعطاف!!...
ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية
[464]
سلسلة من الإِمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافاً، بل لابدّ من الإِستعداد والجدارة!
ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين.
الأُولى:
ما ورد عن الإِمام الصّادق في هذا الشأن إذ قال(عليه السلام) "ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنباً يستحقق بذلك السلب"(1).
والثّانية:
مَا نقرؤه في حديث آخر له(عليه السلام): "إنّ الله عزّ وجلّ بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك: إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء، فتحولوا عمّا أحبّ إِلى ما أكره إلاّ تحولت لهم عمّا يحبّون إِلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إِلى ما أحبّ إلاّ تحولت لهم عمّا يكرهون إِلى ما يحبّون".
والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
2 ـ لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ، ولا في سائر الأُمور ...
والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح، هو أنّه ليس للإِنسان مصير خاص قد تعين من قبلُ، ولا يقعُ تحت تأثير ما يسمى بـ "جبر التاريخ" و"جبر الزمان" بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإِنسانية، ويجعل التحوّلات في الأُسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها، وهو إرادة الإِنسان نفسه!
فبناءً على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقَدر الجبري، ويقولون: إنّ الأُمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإِجبارية، تردّهم هذه الآية.
وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإِنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 193.
[465]
وأُصول الوارثة.
أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الإِقتصادية والمعامل والمصانع.
فكل ما تقدم من "الجبر" ترفضه المدرسة الإِسلامية، ويرفضه القرآن، فالإِنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه.
إنّ الإِنسان ـ بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون ـ يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه، فيصنع لها الفخر والنصر، وهو الذي يسوق نفسه إِلى الإِبتلاء والمذلة، فداؤه منه ودواؤه بيده، فإذا لم يغير نفسَه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه.
* * *
[466]
الآيات
إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ55 الَّذِينَ عَـهَدتَّ مِنْهُمْ ثمّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلِّ مَرَّة وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ56 فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ57 وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْم خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىْ سَوَآء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَآئِنِينَ58 وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ59
التّفسير
مواجهة من ينقض العهد بشدّة!
في هذه الآيات المباركة إشارة إِلى طائفة أُخرى من أعداء الإِسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المليئة بالأحداث، إلاّ أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مُرّاً وكانت عاقبة أمرهم خُسراً. وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عدّة مرات.
وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بحقّهم، الأُسلوب الذي فيه عبرة للآخرين، كما فيه درءٌ لخطر هذه الطائفة.
[467]
وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول: (إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون).
ولعل التعبير بـ(الذين كفروا) يشير إِلى أنّ كثيراً من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهر(صلى الله عليه وآله وسلم) وفقاً لما وجدوه مكتوباً عنه في كتبهم، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأُمور لظهوره. ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر، فكفروا به وأظهروا عناداً شديداً في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم، وكما يقول القرآن الكريم: (فهم لا يؤمنون).
وتقول الآية الأُخرى: (الذين عاهدت منهم ثمّ ينقضون عهدهم في كل مرّة)(1). والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الاضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.
فلاهم يخافون الله تعالى، ولا يحذرون من مخالفة أوامره، ولا يراعون القواعد والاصول الانسانية: (وهم لا يتقون).
والتعبير بـ "ينقضون" و"لا يتقون" وهما فعلان مضارعان، هذا التعبير بهما يدلّ على الإِستمرار، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضُوا عهودهم مراراً.(2)
والآية بعدها توضح كيفية أُسلوب مواجهة هؤلاء فتقول: (فإِمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم مَن خلفهم) أي قاتلهم بشكل مدمّر بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.
وكلمة "تثقفنهم" مأخوذة من مادة "الثقف" على زنة "السقف" بمعنى بلوغ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "من" في جملة "عاهدت منهم" إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم...
كما يرد هذا الإِحتمال وهو أن معنى "عاهدت منهم" هو أخذت العهد منهم.
2 ـ بالإِضافة إِلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضاً وهي "في كل مرّة" ... .
[468]
الشيء بدقة وسرعة، وهي إشارة إِلى وجوب التنبه والإِطلاع السريع والدقيق على قراراتهم، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.
وكلمة "شرّد" مأخوذة من مادة "التشريد" وهي بمعنى التفريق المقرون بالإِضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأُخرى من الأعداء وناقضي العهود، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.
وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضاً ويتجنبوا الحرب مع المسلمين، وليتجنب نقض العهد ـ كذلك ـ الذين لهم عهود مع المسلمين، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا (لعلهم يذكّرون).
(وأمّا تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد (إنّ الله لا يحب الخائنين).
وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم، إلاّ أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافاً ودون سبب بل عندما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم إلغاء العهد.
وجملة "فانبذ إليهم" من "الإِنباذ" وهي بمعنى "الإِلقاء" أو "الإِعلام" و"الرّد" أي: ردّ عليهم عهودهم واعلن عن إلغائها جهراً.
والتعبير بـ "على سواء" إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها، فألغهِ أنت من جهتك أيضاً، فهذا حكم عادل، يتساوى وما فعلوه. أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.
وعلى كل حال، فإنّ الآية ـ محل البحث ـ في الوقت الذي تنذر فيه
[469]
المسلمين من نقض العهد، وتحذرهم أن يكونوا هدفاً وغرضاً لهجوم العدّو، فهي تدعوهم إِلى رعاية مبادىء الإِنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يُوجه تعالى الخطاب إِلى ناقضي العهد، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا أنّهم لا يعجزون).
* * *
[470]
الآيات
وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْء فِى سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ60 وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ61 وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هَوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ62 وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ63 يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ64
التّفسير
المزيد من التعبئة العسكرية والهدف منها:
تشير أوّل آية هنا ـ لتناسب الكلام في الآيات المتقدمة عن الجهاد ـ إِلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر، وهو لزوم
[471]
الإِستعداد العسكري لمواجهة الأعداء، فتقول: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة).
أي لا تنتظروا حتى يهجم العدوّ فتستعدوا عندئذ لمواجهته، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والإِستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.
وتضيف الآية قائلةً: (ومن رباط الخيل).
"الرّباط" بمعنى شدّ الشيء، ويرد هذا الإِستعمال كثيراً بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه، وقد جاء هذا اللفظ هنا بما يناسب ذلك بمعنى الحفظ والمراقبة بصورة عامّة.
و"المرابطة" تعني حفظ الحدود، وتأتي كذلك بمعنى الرقابة على شيء آخر، ويطلق على مكان شدّ وثاق الحيوان بـ "الرباط" ولذلك سمّت العرب أماكن نزول المجاهدين رباطاً أيضاً.
* * *
ملاحظات
1 ـ في الجملة القصيرة ـ آنفة الذكر ـ بيان لأصل مهم في الجهاد وحفظ وجود المسلمين وما لديهم من مجد وعظمة وفخر، والتعبير في الآية واسع إِلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر مصر تماماً.
وكلمة "قوّة" وإن قصرت لفظاً، إلاّ أنّها ذات معنى وسيع ومغزى عميق، فهي لا تختص بأجهزة الحرب والأسلحة الحديثة لكل عصر فحسب، بل تتسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثراً ما في الإنتصار على الأعداء، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.
فالذين يرون أنّ السبيل الوحيد للإنتصار على الأعداء هو كمية السلاح، هم على خطأ كبير، لأنّنا شاهدنا في عصرنا الحاضر شعوباً قليلة العدد وأسلحتها غير
[472]
متطورة انتصرت على شعوب أقوى وذات أسلحة حديثة متطورة، كما حصل للشعب الجزائري المسلم في مواجهة الدولة الفرنسية القوية!
فبناءً على ذلك، ومضافاً إِلى ضرورة تحصيل الاسلحة المتطورة في كل زمان بعنوان وظيفة إسلامية حتمية ـ تجب تقوية عزائم الجنود ومعنوياتهم للحصول على قوّة أكبر وأهمّ.
ولا ينبغي الغفلة عن بقية القوى والقدرات الإِقتصادية والثقافية والسياسية، والتي تندرج تحت عنوان "القوّة" ولها تأثير بالغ على الأعداء.
وممّا يسترعي النظر أنّ الرّوايات الإِسلامية ذكرت لنا تفاسير مختلفة في شأن "القوّة" ومعناها، وذلك يكشف عن مفهومها الواسع، ففي بعض الرّوايات نجد أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن أنّ المراد من القوّة هو "النّبلُ"(1).
ونقرأ في رواية أُخرى ـ وردت في تفسير علي بن إبراهيم ـ أن المقصود من القوة هو كل أنواع السلاح.(2)
كما نقرأ في تفسير العياشي أن المراد منه السيف والدرع(3).
ونجد روايةً أُخرى في كتاب من لا يحضره الفقيه تقول: "منه الخضاب بالسواد"(4).
فترى أنّ الإِسلام قد أولى لون شعر المقاتلين من كبار السن اهتماماً ليستعملوا الخضاب، فيراهم العدوّ في عمر الشباب فيصاب بالرعب منهم، ويكشف هذا الأمر عن مدى سعة مفهوم القوّة.
وبناءً على ذلك، فمن فسّر القوّة بمصداق واحد محدود قد جانب الصواب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 164 ـ 165.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ المصدر السّابق.
[473]
جدّاً.
ولكن مع الاسف، فإنّ المسلمين على الرغم ممّا لديهم من مثل هذا التعليم الصريح، لا نجد فيهم أثراً لتقوية العزائم والمعنويات بين صفوفهم، كأنّهم قد نسوا كل شيء،. ولا هم يستغلّون قواهم الإِقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية لمواجهة عدوّهم.
والأعجب من ذلك أنّنا مع إهمالنا هذا الأمر العظيم وتركه وراء ظهورنا نزعم أنّنا مازلنا مسلمين!! ونلقي تبعة تأخرنا وإنحطاطنا على رقبة الإِسلام، ونقول: إذا كان الإِسلام داعية ترقٍّ وتقدم، فلم نحن المسلمون في تأخر وتخلف؟!
ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة) اذا أضحى شعاراً شاملا في كل مكان، ينادي، به الصغير والكبير، والعالم وغير العالم، والمؤلف والخطيب، والجندي والضابط، والفلاح والتاجر، وإلتزموا به في حياتهم وطبقوه، كان كافياً لجبران التخلفّ والتأخر.
إنّ سيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) العملية وأئمّة الإِسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعاً، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدوّ، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح، وشد الأزر ورفع المعنويات، وبناء معسكرات التدريب، وإختيار الزمان المناسب للهجوم، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.
والمعروف أنّ النّبي بلغه أن سلاحاً جديداً مؤثراً صنع في اليمن أيّام معركة حنين، فأرسل النّبي جماعة إِلى اليمن لشرائه فوراً.
ونقرأ في أخبار معركة أحد أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ردّ على شعار المشركين "اُعلُ هبل، اعلُ هبل" بشعار أقوى منه وهو "الله أعلى وأجل" ورد على شعارهم: "إنّ لنا العزى ولا عزى لكم"، بقوله: "الله مولانا ولا مولى لكم"، وهذا الأمر يدلّ على أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين ـ كذلك ـ لم يغفلوا عن اختيار أقوى الشعارات في
[474]
مواجهة الأعداء والردّ على عقائدهم وشعاراتهم.
ومن التعاليم الإِسلامية المهمّة في هذا الصدد موضوع سباق الخيل والرماية، وما جوّزه الفقه فيهما من الربح والخسارة، فهو مثل آخر على تفكير الإِسلام العميق إِلى جانب الإِستعداد لمواجهة الأعداء وحثّ المسلمين على ذلك.
2 ـ واللطيفة المهمّة الأُخرى التي نستنتجها من الآية آنفة الذكر هو عالمية وخلود هذا الدين الالهي. لأنّ مفاهيم هذا الدين ومضامينه ذات أبعاد واسعة لا تَخْلَقُ على مرور الزمان ولا تغدو باليةً أو منسوخة برغم القدم، فجملة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة) كان لها مفهوم حي قبل أكثر من ألف عام، كما هي الحال اليوم، وسيبقى مفهومها حياً إِلى عشرات الآلاف من السنين الأُخرى لأنّ أي سلاح يظهر في المستقبل فهو كامن في كلمة "القوّة" الجامعة، إذ أن جملة "ما استعطتم" عامّة، وكلمة "قوّة" نكرة تؤيد عمومية تلك الجملة لتشمل كل قوّة.
3 ـ ويرد هنا سؤال وهو: لماذا وردت عبارة "رباط الخيل" بعد كلمة "قوّة" بمالها من المفهوم الواسع.
وجواب هذا السؤال هو أنّ الآية بالرغم من أنّها تتضمن قانوناً شاملا لكل عصر وزمان، فهي في الوقت ذاته تحمل تعليماً مهماً خاصاً بعصر النّبي، الذي هو عصر نزول القرآن. وفي الحقيقة إن هذا المفهوم العام جاء بمثال واضح لذلك العصر، لأنّ الخيل كانت في ذلك الزمن من أهم وسائل الحرب، فهي وسيلة مهمّة عند المقاتلين الشجعان والأبطال في هجومهم وقتالهم السريع، وأهميتها تشبه أهمية الطائرات والدبابات في العصر الحاضر.
الهدف من تهيئة السلاح وزيادة التعبئة العسكرية:
ثمّ ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إِلى الهدف المنطقي والإِنساني من وراء هذا الموضوع، فيقول: إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في
[475]
مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الاخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم، وليس الهدف هو توسعة الإِستعباد والإِستعمار في العالم، بل الهدف من ذلك هو (ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم)!
لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادي الإِنسانية، ولا يفهمون غير منطق القوّة!
فإذا كان المسلمون ضعافاً، فسوف يفرض عليهم الأعداء كل ما يريدون، أمّا إذا اكتسبوا القوّة الكافية، فإنّ أعداء الحق والعدل والإستقلال والحرية سيشعرون بالخوف ولا يفكرون بالتجاوز والعدوان.
واليوم ـ ونحن في تفسير هذه الآية ـ فإنّ قسماً من الأراضي الإِسلامية في فلسطين وغيرها من الدول المجاورة تسحقها أحذية الجنود الصهاينة، وقد أغاروا بهجومهم الأخير على لبنان فشردّوا الآلاف من العوائل، وقتلوا المئات من الأبرياء، وهدموا الكثير من الأحياء والدور السكنية، وأحالوها إِلى أنقاض، فأضافوا ـ بهذه المأساة المروعة جريمة أُخرى إِلى سجلهم الأسود.... في وقت استنكر الرأي العام العالمي هذا العمل الوحشي حتى أصدقاء إسرائيل، وأصدرت الأمم المتحدة بياناً دعت فيه إِلى إخلاء هذه الأرض، لكن هذا الشعب الذي لا يتجاوز بضعة ملايين لا يريد الإِستماع لأية كلمة حق وأي منطق إنساني، وذلك لما لديه من قوّة وأسلحة واستعداد كاف للحرب أعدّه منذ سنين طويلة لمثل هذا العدوان.
فالمنطق الوحيد الذي يمكن به الردّ على هؤلاء هو منطق (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة) فكأنّ هذه الآية نزلت في عصرنا الحاضر ومن أجلنا، لتقول لنا: جهزوا أنفسكم وكونوا من القوة بحيث يصاب عدوّكم بالذعر والخوف كيما يغادر أرضكم وينسحب إِلى مكانه الأوّل.
[476]
وممّا يثير النظر وبسترعيه أنّ الآية هنا جمعت التعبير بـ "عدوّ الله" و"عدوّكم" وذلك إشارة إِلى عدم وجود منافع وأغراض شخصية في الجهاد والدفاع عن الإسلام، بل الهدف هو حفظ رسالة الإِسلام الإِنسانية، فالذين يعادونكم إنّما هم أعداءُ الله وأعداء الحق والعدل والإِيمان والتوحيد والأخلاق الإِنسانية، فينبغي الردّ عليهم انطلاقاً من هذا المجال.
وفي الحقيقة إنّ هذا التعبير شبيه بالتعبير "في سبيل الله" أو "الجهاد في سبيل الله" الذي يدلّ على أنّ الجهاد أو الدفاع الإِسلامي لا يشبه فتح البلدان في ما مضى من التأريخ، ولا غزو الاستعمار التوسعي اليوم، ولا في صورة إغارات القبائل العربية في زمن الجاهلية، بل كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله، وفي مسير إحياء الحق والعدل.
ثمّ تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لاتعرفونهم فتقول: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم).
* * *
ملاحظتان
1 ـ من هم المقصودون في الآية "الذين لا تعلمونهم"
بالرّغم من أنّ المفسّرين إحتملوا في هذه الطائفة (الذين لا تعلمونهم)إحتمالات كثيرة، فقال بعضهم: إنّهم يهود المدينة الذين كانوا يضمرون عداءهم، وقال آخرون: إنّها إشارة إِلى الأعداء مستقبلا، كدولة الروم والفرس اللتين لم يحتمل المسلمون يومئذ أنّهم سيكونون في حرب معهما أو يقع القتال بينهما وبينهم.
إلاّ أنّ الأصح ـ كما نراه ـ هو أن المراد منها هم المنافقون الذين دخلوا في صفوف المسلمين دون أن يعلموهم، فإذا قوي جيش الإِسلام فإنّ أُولئك سيقعون
[477]
في حيرة واضطراب ويرحلون، والشاهد على هذه الموضوع هو الآية (101) من سورة التّوبة إذ تقول: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم).
ويحتمل أن مفهوم الآية يشمل جميع أعداء الاسلام غير المعروفين أعم من المنافقين وغيرهم.
2 ـ الاستعداد في كل مكان وزمان
وتتضمن الآية تعليماً لمسلمي اليوم أيضاً، وهو أنّه لا ينبغي الإِكتفاء بالاستعداد لأعداء الإِسلام الذين تعرفونهم، بل عليكم أن تنتبهو للأعداء الإِحتماليين أو "بالقوّة" وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة، وفي الحقيقة فإنّ المسلمين لو تنبهوا لهذه القضية المهمّة لما مُنوا بهجمات الأعداء المفاجئة.
وفي نهاية الآية إشارة إِلى موضوع مهم آخر، وهو أنّ الإستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة، كل ذلك يحتاج إلى بالدعم المالي اللازم له، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال، وأن ما يبذلونه في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل الله، ولن ينقص منه شيء أبداً (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم) فيرجع إليكم جميعه، بل أكثر ممّا أنفقتم (وأنتم لا تظلمون)، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في انتصار الإِسلام وقوته وعظمته، لأنّ الشعب الضعيف ستتعرض أمواله للخطر وسيفقد أمنه وحريته واستقلاله أيضاً، فبناءً على ذلك فإنّ ما تنفقونه في هذا السبيل سيعود إليكم عن طريق آخر وفي مستوى أفضل وأسمى.
كما أنّ ثواباً أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة الله، فمع هذه الحال لا تظلمون، بل ستنالون خيراً كثيراً.
[478]
وممّا يسترعي النظر أنّ الجملة آنفة الذكر جاء فيها لفظ "شيء" وهي ذات مفهوم واسع، أي لا يخفى على الله ما تبذلونه من جميع الأشياء، مالا كان أو نفساً أو فكراً أو منطقاً أو قوةً أو أي مال آخر ينفق في تقوية بنية المسلمين الدفاعية والعسكرية، فإنّ الله سيدخره ويعيده إليكم في حينه.
وقد احتمل بعض المفسّرين أن جملة "وأنتم لا تظلمون" معطوفة على جملة "ترهبون" أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم، وبناءً على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبداً.
أهداف الجهاد في الإِسلام وأركانه:
واللطيفة الأُخرى التي تستفاد من هذه الآية، وتكون جواباً على كثير من أسئلة الجهلاء وإشكالاتهم، هي بيان شكل الجهاد وهدفه ومنهجه، فالآية تقول بوضوح: إنّ الهدف منه ليس قتل الناس أو الإِعتداء على حقوق الآخرين، بل الهدف ـ كما ذكرنا ـ هو إرهابكم الأعداء لكيلا يعتدوا عليكم وليخافوكم، فينبغي أن تكون جميع جهودكم وسعيكم منصبّاً في سبيل قطع شر أعداء الله والحق والعدل.
فهل يملك الجهلة في أذهانهم مثل هذا التصوّر عن الجهاد في القرآن الكريم، وما صَرّحَ به في هذه الآية ـ محل البحث ـ ليسوغ لهم أن يحملوا كل هذه الحملات المسعورة المتتالية على هذا القانون الإِسلامي. فتارة يدّعون بأنّ الإِسلام هو دين السيف، وتارةً يقولون بأنّ الإِسلام يفرض على الناس أفكاره بالحديد، ويقيسون النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بسائر محتلي البلدان في التاريخ.
وفي عقيدتنا أنّ جواب كل هؤلاء هو أن يعودوا إِلى القرآن، ويفكروا في الهدف الأصيل لهذا الموضوع، لتتّضح لهم كل تلك الأُمور.
[479]
الإستعداد للصّلح:
مع أنّ الآية السابقة أوضحت هدف الجهاد في الإِسلام بقدر كاف، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث على الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى فتقول (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها).
ويحتمل في تفسير هذه الجملة المتقدمة أنّهم إذا بسطوا أجنحتهم للسلم فابسط جناحيك أنت للسلم أيضاً، لأنّ "جنحوا" فعل مصدره "الجنوح" وهو الميل، ويطلق على كل طائر أنّه "جناح" أيضاً، لأنّ كل جناح في الطائر يميل إِلى جهة، لذلك يمكن الإِستناد في تفسير هذه الآية إِلى جذر اللغة تارةً، وإِلى مفهومها الثّانوي تارةً أُخرى.
ولمّا كان الناس يترددّون أغلب الأحيان عندما يراد التوقيع على معاهدة الصلح، فإنّ الآية تأمر النّبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل، فتقول: (وتوكل على الله إنّه هو السميع العليم).
ومع ذلك فهي تحذر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين من احتمال الإِحتيال والخداع في دعوة الأعداء، إِلى الصلح، فقد تكون دعوةً للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر، إِلاّ أنّ الآية تطمئن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يخشى هذا الأمر أيضاً، لأنّ الله عزّ وجلّ سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال، إذ تقول: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله).
وسيرتك أيّها النّبي ـ السابقة ـ شاهدة على هذه الحقيقة، لأنّ الله (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين).
فكم أرادوا بك كيداً، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنةً، لكنّه عزّ وجلّ حفظك ورعاك في مواجهة
[480]
كل ذلك.
أضف إِلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعاً في الدفاع عنك، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين، ولكنَّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية (وألف بين قلوبهم).
وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظاً وحقداً بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما، وسيكونون صفاً واحداً متراصاً، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن، ولم يكن هذا الإمر مقتصراً على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضاً الذين جاءوا من مكّة، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإِسلام ـ حب ومودّة، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضاً، لكن الله عزّ وجلّ غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثماثة وثلاثة عشر من أبطال بدر، منهم حوالي ثمانين نفراً من المهاجرين والباقي من الأنصار، فكانوا جيشاً صغيراً، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.
ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب، أو إيجاد تلك الألفة، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم).
إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين، كأُولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإِمكان إزالتها، لا بالمال ولا بالجاه والمقام، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلاّ بالإِنتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر
[481]
وحشية وإجراماً، والأمر الوحيد الذي أمكن بسببه قلع تلك الجذور الفاسدة من أصولها، هو إحداث ثورة عارمة وتغيير شامل في الأفكار والأرواح والعقائد، ثورة تصنع تحوّلاً في شخصياتهم وتبدل أساليب تفكيرهم، وترفعهم عن الحضيض الذي كانوا فيه، للتتجلى لهم أعمالهم السابقة في وجهها الكالح القبيح، فيطهروا بذلك أنفسهم، ويدرأوا عنها الأحقاد والأوساخ والعصبية القبلية العمياء.
وهذه أُمور لا يمكن إيجادها بالثروة ولا بالمال، بل في ظلال الإِيمان والتوحيد الخالص فحسب.
وتضيف الآية معقبة في الختام (إنّه عزيز حكيم).
فعزته تقتضي عجز الاخرين من الوقوف في مواجهته، وحكمته تقتضي أن تكون كل أُموره جاريةً وفق حساب دقيق ونظام صحيح، ولهذا فإنّ الخطة الدقيقة وحدت القلوب المتنافرة المتفرقة وجعلتها تنصاع للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لينشروا أنوار الهداية في كل أرجاء العالم.
* * *
ملاحظتان
1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ الآية محل البحث تشير إِلى الخلافات بين الأوس والخزرج، الذين هم من الأنصار فحسب، ولكن نظراً إِلى أنّ المهاجرين والأنصار نهضوا جميعاً لنصرة النّبيّ فيتّضح اتساع مفهوم الآية.
ولعل أُولئك كانوا يتصورون أنّ الخلافات كانت قائمة بين الأوس والخزرج دون غيرهم، مع أنّه كانت اختلافات كثيرة في المستويات الطبقية والإِجتماعية بين الفقراء والأغنياء، والكبار والصغار، بين هذه القبيلة وتلك، تلك الخلافات و"الإِنشقاقات" أذهبها الإِسلام ومحا آثارها، كما يقول القرآن الكريم في مكان
[482]
آخر: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) (1).
2 ـ إنّ هذا القانون لا يختص بالمسلمين الأوائل فحسب، فاليوم حيث يبسط الإِسلام ظلاله على ثمانمائة مليون مسلم في أنحاء العالم، وهم من مختلف العناصر والأقوام المتباعدة والمجتمعات المتنوعة. إذ لا يمكن إيجاد أية حلقة اتصال بين كل هؤلاء سوى حلقة الإِيمان والتوحيد، فإنّ الأموال والثروات والمؤتمرات لا يمكنها أن تفعل شيئاً مهماً في هذا المجال، بل ما يمكن أن يوحدهم هو إيقاد شعلة الإِيمان أكثر في قلوب هؤلاء كما حصل عند المسلمين الأوائل، لأنّ النصر لا يتحقق إلاّ عن هذا الطريق، وهو طريق الأخوة الإِسلامية بين جميع الناس.
وتخاطب الآية الأخيرة من الآيات محل البحث النّبي بالقول: (يا أيّها النّبي حسبك الله وما اتبعك من المؤمنين).
ونقل بعض المفسّرين أنّ هذه الآية الكريمة نزلت عندما قال جماعة من يهود بني قريظة وبني النضير لما قالوا للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : نحن نسلم ونتبعك، يعني إنّنا مستعدون لا تباعك ونصرتك، فنزلت هذه الآية محذرةً النّبي لئلا يعتمد على هؤلاء، بل المعول عليه هو الله والمؤمنون(2).
وقد أورد الحافظ أبو نعيم ـ وهو من أكابر علماء السنة ـ في كتابه فضائل الصحابة، بسنده، أنّ هذه الآية نزلت في حق علي أميرالمؤمنين، فالمقصود بالمؤمنين هو علي(عليه السلام)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ آل عمران، 103.
2 ـ تفسير التبيان، ج 5، ص 152.
3 ـ موسوعة الغدير، ج 2، ص 51.
[483]
وقد قلنا مراراً: إنّ مثل هذه التفاسير وأسباب النّزول لا تجعل الآيات محدودة ومنحصرةً، بل المقصود فيها هو أنّ شخصاً كعلي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي كان في أوّل صفوف المؤمنين هو السند الأوّل للنبي بعد الله من بين المسلمين، مع أنّ بقية المؤمنين هم أنصار النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعوانه.
* * *
[484]
الآيتان
يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إنَ يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـبِرُونَ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّيَفْقَهُونَ65 الْئَـنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ واللَّهُ مَعَ الصَّـبِرِينَ66
التّفسير
لا ترتقبوا تساوي القوى:
في هاتين الآيتين تتوالى التعاليم العسكرية وأحكام الجهاد أيضاً.
فالآية الأُولى منهما تخاطب الرّسول فتقول: (يا أيّها النّبي حرض المؤمنين على القتال).
إنّ الجنود والمقاتلين مهما كانوا عليه من استعداد ينبغي قبل بدء الحرب أن ترفع معنوياتهم وتشحذ هممهم، وهذا الأمر معروف في جميع النظم العسكرية في العالم، إذ يقوم قادة الجيوش وأمراؤهم قبل التحرك نحو سوح القتال أو عند
[485]
ساحة القتال، فيلقون خطباً تثيرهم وتقوّي من معنوياتهم وتحذرهم من الهزيمة والجبن.
غايه ما في الأمر أنّ مثل مسألة الترغيب والتشويق إِلى القتال محدودة في المدارس الماديّة، ولكنّها واسعة في الأديان السماوية، نظراً للتعاليم الربانية، وتأثير الإِيمان بالله، والتذكير بمنزلة الشهداء عند ربّهم ومقامهم عنده، وما ينتظرهم من الثواب الجزيل البعيد المدى، وما سينالونه من العزة والفخر عند انتصارهم، فكل ذلك يحرك روح البطولة والثبات في نفوس الجنود، فتلاوة بعض آيات القرآن في الحروب الإِسلاميّة تشحذ الجندي عزماً وقوّة وإقداماً لا حدود له، ويتقد فيه الشوق والعشق للتضحية والفداء.
وعلى كل حال، فإنّ الآية توضح أهمية الإِعلام والتبليغ وشحذ همم المقاتلين والجنود ومعنوياتهم باعتبار ذلك تعليماً إسلامياً مهماً.
وتعقب الآية بالتعليم الثّاني فتقول: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا).
وبالرغم من أنّ الآية في صورة إخبار عن غلبة الرجل على عشرة، لكن بقرينة الآية بعدها (الآن خفّف الله عنكم) يتّضح أنّ المراد من ذلك هو تعيين الحكم أو الوظيفة والخطة والمنهج، لا أنّه مجرّد خبر وهكذا فينبغي للمسلمين أن لا ينتظروا حتى يبلغ عددهم مقداراً يُكافىء قوة العدو وأفراده، ليتحركوا إِلى ساحة القتال والجهاد، بل يجب عليهم القيام بواجباتهم حتى إذا كان عدوّهم عشرة أضعافهم.
ثمّ تشير الآية إِلى علّة هذا الحكم فتقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون) وهذا التعليل يبدو عجيباً لأوّل وهلة، إذ ما هي العلاقة بين المعرفة والفقاهة وبين النصر أو بين عدم المعرفة والهزيمة؟! لكن الواقع هو أنّ العلاقة بينهما قريبة ومتينة، لأنّ المؤمنين يعرفون نهجهم الذي سلكوه ويدركون الهدف من خلقهم وإيجادهم،
[486]
ويؤمنون بنتائجه الإِيجابية في هذا العالم، والثواب الجزيل الذي ينتظرهم في العالم الآخر، فهم يعلمون، لِمَ يقاتلون؟ ومن أجل من يجاهدون؟ وفي سبيل أي هدف مقدس يضحون؟ وعلى من سيكون حسابهم إذا ما ضحوا واستشهدوا في هذا المضمار؟
فهذا السير الواضح المشفوع بالمعرفة يمنحهم الثبات والصبر والإِستقامة.
أمّا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، كعبدة الأصنام، فلا يعرفون لأي أمر يقاتلون؟ ولأجل من يجاهدون؟ وإذا قُتلوا فمن يؤدّي دية دمهم؟ فهم لتقليدهم الأعمى ولعاداتهم الجاهلية ساروا رواء هذه الأفكار، وهكذا تبعث ظلمات الطريق وعدم معرفتهم الهدف ونتائج أعمالهم على إنهيار أعصابهم وتفت في عضدهم وثباتهم،وتجعل منهم كائنات ضعيفة.
وبعد ذلك الحكم الثقيل بجهاد الأعداء وان كانوا عشرة اضعاف يخفف الله عن المؤمنين ويتنزل في الحكم الذي يرهقهم فيقول: (الآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً).
ثمّ يقول: (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله).
ولكن على كل حال ينبغي أن لا تنسوا تسديد الله (والله مع الصابرين).
* * *
بحوث
وهنا لابدّ من الإلتفات الى عدّة اُمور:
1 ـ هل نُسخت الآية الأُولى
كما لاحظنا فإنّ الآية الأُولى تأمر المسلمين أن لا يتقاعسوا عن مواجهة الأعداء حتى إذا كانوا عشرة أضعافهم، غير أنّ الآية الثّانية تخفض هذا العدد إِلى
[487]
ضعفين فحسب.
وهذا الإِختلاف الظاهر بين الآيتين جعل بعضهم يقول: إن الآية الاُولى ـ من الآيتين محل البحث ـ نسختها الآية الثّانية، أو أنّه حمل الآية الأُولى على الإِستحباب والثّانية على الوجوب، أي إذا كان عدد الأعداء ضعف عدد المسلمين فيجب عليهم عدم التراجع عن ساحة الجهاد والقتال، أمّا إذا زاد عددهم عن الضعف حتى بلغ عشرة أضعافهم فلهم عندئذ أن لا يقاتلوهم، وإن كان الأفضل لهم أن لا ينسحبوا عن جهادهم العدوّ.
إلاّ أنّ بعض المفسّرين يرون أن الإختلاف الظاهري الموجود بين الآيتين لا يدل على النسخ، ولا يدل على الإِستحباب، بل إن لكل واحدة من الآيتين حكماً معيناً، فعندما يُبتلى المسلمون بالضعف والخور ويكثر فيهم المقاتلون غير المحنّكين أو غير المدرّبين ولا المتهيئين للقتال، فعندئذ يكون معيار العدد هو نسبة الضعف. أمّا إذا كان المقاتلون على إستعداد تام، أشداء في إيمانهم وعزائمهم كالكثير من أبطال بدر، فالنسبة عندئذ ترتقي إلى عشرة أضعاف.
فبناءً على ذلك فإنّ الحكمين في الآيتين محل البحث يرتبطان بالطائفتين المختلفتين وفي ظرفين متفاوتين.
وبهذا لا يوجد نسخ في الآي هنا، وإذا وجد في الرّوايات التعبير بالنسخ فينبغي الإِلتفات إِلى أن النسخ ذو معنى واسع ويشمل التخصيص في بعض الموارد.
2 ـ أسطورة توازن القوى
إنّ الآيتين ـ محل البحث ـ تتضمنان هذا الحكم المسلّم به، وهو أنّ على المسلمين ألاّ ينتظروا موازنة القوى الظاهرية بينهم وبين العدو، بل عليهم أن ينهضوا لمواجهته وإن كان ضعف عددهم، بل حتى لو كان عشرة أضعاف عددهم
[488]
أحياناً، وأن لا يفروا من العدوّ بسبب قلّة العدد أبداً.
وممّا يستجلب النظر أنّ أغلب المعارك التي كانت تجري بين المسلمين وأعدائهم كان فيها ميزان القوى لصالح العدو، وكان المسلمون قلّةً غالباً، ولم يكن هذا الأمر قد وقع في حروب الإِسلام في عصر النّبي فحسب ـ كبدر وأحد والأحزاب أو كمعركة مؤتة التي رووا أن جيش المسلمين كان لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل، أمّا جيش العدو فأقل ما ذكروا عنه أنّه كان حوالي مئة وخمسين ألفاً، بل حتى الحروب بعد عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد ذكروا أن فرقاً مذهلا كان بين جيش الإِسلام الذي حرر فارس وجيش الساسانيين، فقد قيل مثلا: إنّ الجيش الإِسلامي كان لا يتجاوز خمسين ألف مقاتل، بينما كان جيش خسرو پرويز خمسمائة ألف مقاتل!
وأمّا في معركة اليرموك التي وقعت بين المسلمين والروم، فقد ذكر المؤرخون أن الجيش الذي جمعه هرقل كان حوالي مئتي ألف مقاتل، بينما كان جيش الإِسلام لا يتجاوز أربعة وعشرين ألفاً!
والأعجب من ذلك أن المؤرخين يذكرون أنّ قتلى جيش الروم في معركة اليرموك كانوا يزيدون على سبعين ألفاً!!
وما من شك أن الموازنة بين القوى أو التفوق العسكري أحد أسباب النصر بحسب الظاهر، ولكن ما هو السبب الذي كان وراء انتصار المسلمين القلة في مثل هذه المعارك؟
والإِجابة على هذا السؤال المهم ذكرها القرآن في الآيتين محل البحث في ثلاثة تعابير:
التّعبير الأوّل:
يقول فيه: (عشرون صابرون) ثمّ قوله في الآية بعدها: (مائة صابرة) أي ذوو استقامة وثبات.
والمراد هنا أنّ روح الإِستقامة والثبات، التي هي ثمرة شجرة الإِيمان، كانت
[489]
سبباً في أن يغلب الرجلُ المسلم عشرة أمثاله من الكفار.
التّعبير الثّاني:
وفي مكان آخر يقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون) أي أنّ عدم معرفة العدو هدفه، ومعرفتكم هدفكم المقدس، يستعاض عن موضوع قلتكم إزاء كثرة العدو.
التّعبير الثّالث:
هو قوله سبحانه في الآي محل البحث: (بإذن الله) أي أن الإِمدادات الغيبية ولطف الله ورحمته تشمل مثل هؤلاء المجاهدين الصابرين فتنصرهم على عدوّهم.
وفي عصرنا يواجه المسلمون أعداءً ألدّاء أقوياء أيضاً، لكن العجيب أن جيش المسلمين في كثير من المعارك أكثر من جيش العدوّ، ولكن مع ذلك لا أثر لإِنتصار المسلمين، وكأنّهم يسيرون باتجاه مخالف عمّا كان يسير عليه المسلمون الأوائل.
والسّبب هو أنّ المسلمين اليوم لا يتمتعون بمعرفة كافية ويا للأسف، وقد فقدوا روح الصبر والإِستقامة بسبب ركونهم إِلى عوامل الفساد وزخرف الحياة المادية وزبرجها، كما أنّ الإِمداد الغيبي ورعاية الله قد سُلبا منهم بسبب تلوّثهم بالذنوب، فأبتلوا بمثل هذه العاقبة!
إلاّ أنّ طريق العدوة ما يزال مفتوحاً، وتأمل أن يأتي اليوم الذي يعي المسلمون مرّة أُخرى مفهوم هاتين الآيتين وأمثالهما ليخلعوا عن أنفسهم حالة الذل والتقهقر.
3 ـ ما هو المراد من الآيتين؟
ممّا يستجلب النظر أنّ الكلام في الآية الأُولى ـ من الآيتين محل البحث ـ كان على نسبة الواحد إِلى العشرة، فمثلت الآية بـ(إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين).
[490]
إلاّ أن الكلام في الآية الثّانية كان عن نسبة الضعف مثل المئة في قبال المئتين، والألف في قبال الألفين: (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين الخ ...).
وكأن هذا المثال البليغ يريد أن يبيّن هذا الحقيقة، وهي أنّ الرجال الأشداء من ذوي العزيمة والإِيمان يمكنهم أن يشكلّوا جيشاً مقتدراً حتى لو كانوا عشرين رجلا، إلاّ أنّهم لو كانوا ضعفاء، فليس بإمكانهم أن يصنعوا جيشاً من عشرين، بل لابدّ أن يكونوا أضعاف هذا العدد لتشكيل جيش، "فلاحظوا بدقة".
* * *
[491]
الآيات
مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الاَْرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الاَْخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ67لَّوْلاَ كِتَـبٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ68 فَكُلُوا ممّا غَنِمْتُمْ حَلَـلا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ69 يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُمْ مِّنَ الاَْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ70 وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ71
التّفسير
أسْرَى الحرب:
بيّنت الآيات السابقة بعض أحكام الجهاد المهمّة ومواجهة الأعداء، وفي هذه الآيات استكمال لما سبق في عرض قسم من أحكام أسرى الحرب، لأنّ أغلب الحروب تقترن بتأسير جماعة من المتقاتلين من قبل الطرف الآخر، وقد
[492]
أولى الإِسلام أهمية قصوى لمسألة أسرى الحرب، من حيث أُسلوب التعامل معهم، ومن حيث بعض النواحي الإِنسانية وأهداف الجهاد أيضاً.
وأوّل موضوع مهم يثار في هذا الشأن، هو ما قالته الآية الكريمة من أن كل نبي ليس له الحق في أسرار افراد العدو الاّ بعد أن يثبت اقدامه في الارض ويكيل الضربات القاضية للأعداء: (ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض).
والفعل "يثخن" مأخوذ من "الثِخَن" على زنة "المِحَن" ومعناه في الأصل الضخامة والغلظة والثقل، ثمّ استعمل هذا اللفظ بمعنى الفوز والقوّة والنصر والقُدرة، للسبب المذكور آنفاً.
وقال بعض المفسّرين: إنّ معنى (حتى يثخن في الأرض) يدل على المبالغة والشدّة في قتل الأعداء، وقالوا: إنّ معنى ذلك أن أخذ الأسرى ينبغي أن يكون بعد مقتلة عظيمة في الأعداء ولكن مع ملاحظة كلمة "في الأرض" والإِلتفات إِلى جذر هذه الكلمة الذي يعني الشدّة والغلظة، يتّضح أن معنى الآية ليس هو ما ذكروه، بل القصد هو التفوق على العدو تماماً وإضهار القوّة والقدرة وإحكام السيطرة على المنطقة.
إلاّ أنّه لمّا كان في قتل الأعداء وإبادتهم دليل على السيطرة وإحكام مواقع المسلمين أحياناً، فإنّ من مصاديق هذه الجملة في بعض الشروط قتل الأعداء، وليس هو مفهوم الجملة الأصيل.
على أية حال، فإنّ الآية تنبه المسلمين إِلى نقطة مهمّة في الحرب، وهي أنّ عليهم عدم التفكير والإِنشغال بأخذ الأسرى قبل إندحار العدوّ بالكامل، لأنّ بعض المسلمين المقاتلين ـ كما يستفاد من بعض الرّوايات ـ كان جلّ سعيهم هو الحصول على أكبر عدد من الأسرى في ساحة بدر مهما أمكنهم، لأنّ العادة كانت أن يُدفع عن الأسير مبلغ من المال على شكل فدية ليتم الإِفراج عنه بعد نهاية
[493]
الحرب.
ويعدّ هذا الأمر عملا حسناً في بعض المواقع، إلاّ أنّه عمل خطير قبل أن يطمأن من اندحار العدو كاملا، لأنّ الإِنشغال بأسر العدو وشدّ وثاقهم ونقلهم إِلى مكان آمن، كل ذلك يبعد المقاتلين غالباً عن أصل الهدف الذي من أجله كانت الحرب، وربّما يمنح العدو الجريح فرصة لجمع قواه وإعادة هجومه، كما حدث في غزوة أحد، حيث شغل بعض المسلمين أنفسهم بجمع الغنائم، فاستغل العدوّ هذه الفرصة فأنزل ضربته الأخيرة بالمسلمين.
وبناءً على ذلك فإنّ تأسير الأعداء يجوز في صورة ما لو حصل اليقين بالنصر الساحق عليه، أمّا في غير هذه الصورة فيجب توجيه الضربات الشديدة والمتتالية لهدم قوات العدو وشلّها فإذا حصل الإِطمئنان بذلك فإنّ الأهداف الإِنسانية توجب إيقاف القتل والإِكتفاء بأسرهم.
وقد أوضحت الآية هاتين النقطتين المهمتين: العسكرية، والإِنسانية، في عبارة موجزة:
ثمّ ألقت باللوم على أُولئك الذين خالفوا هذا الأمر فتقول: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة).
"والعرض" يعني الأُمور غير الثابتة، ولما كانت الذخائر المادية غير ثابتة في هذه الدنيا فقد عُبّر عنها بالعرض.
وكما قلنا آنفاً فإن الإِهتمام بالجانب المادي فيما يتعلق بالأسرى والغفلة عن الهدف النهائي، أي الإِنتصار على العدو، لا أنّه يحبط الثواب الأُخروي فحسب، بل يسيء إِلى الانسان في حياته الدنيا وإِلى عزّته ورفعته واستقراره، ففي الحقيقة، هذه الأهداف المذكورة للفرد في الحياة الدنيا تعدّ من أُمور الدنيا الثابتة، فلا ينبغي أن نترك المنافع الطويلة الأمد والمستقبلية رهن الخطر من أجل أن نحصل على منافع مادية عابرة!
[494]
وتُختتم الآية بالقول أن التعليم آنف الذكر ـ في الواقع ـ مزيج من العزة والنصر والحكمة والتدبير، لأنّه صادر من قبل الله تعالى (والله عزيز حكيم).
الآية التالية توجّه اللوم والتعنيف ثانية لأولئك الذين يعرضون المنفعة العامّة والمصلحة الإِجتماعية للخطر من أجل الحصول على المنافع المادية العابرة، فتقول الآية: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
وقد أورد المفسّرون في شأن قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق)احتمالات مختلفة كثيرة، إلاّ أنّ أقربها وأكثرها ملاءمة ومناسبةً هو "إذا لم يكن الله قد قرر من قبل أن لا يعذب عباده ما لم يبيّن نبيّه حكمه لهم، لأخذكم أخذاً شديداً بسبب تأسيركم عدوكم رغبة في المنافع المادية وإيقاعكم جيش الإسلام وانتصاره النهائي في الخطر، إلاّ أنّه ـ كما صرحت الآيات الكريمة في القرآن ـ فإنّ سُنة الله اقتضت أن تُبين أحكامه ثمّ يجازي الذي يخالفون عن أمره"، إذ قال سبحانه: (وما كُنّا معذبين حتى نبعث رسولا)(1).
* * *
ملاحظات
1 ـ إنّ ظاهر الآيات ـ كما قلنا آنفاً ـ يعالج موضوع أخذ الأسرى في الحرب لا أخذ "الفدية" بعدها، وبذلك ينحل كثير من الإِشكالات التي أثارها جماعة من المفسّرون بشأن مفهوم الآية.
كما أنّ اللوم والتعنيف يختص بجماعة إنشغلت ـ قبل أن يتمّ النصر النهائي ـ بأسر العدو لأهداف دنيوية، ولا علاقة لها بشخص النّبي وأصحابه المؤمنين الذين كان هدفهم الجهاد في سبيل الله.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الإسراء، 15.
[495]
وبذلك تنتفي جميع البحوث التي أوردوها، كالقول بأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد إرتكب ذنباً! وكيف ينسجم هذا العمل وعصمته(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فهذا الأمر غير صحيح.
كما يثبت بطلان الأحاديث المختلفة التي نقلتها بعض مصادر أهل السنة وكذبها في تفسير هذه الآية، والتي تزعم أن الآية(1) نزلت في شأن أخذ النّبي وبعض المسلمين الفدية مقابل أسرى الحرب بعد معركة بدر، وقبل أن يأذن الله بذلك. وأنّ الذي خالف هذا الأمر وطالب بقتل الأسرى هو عمر فحسب ـ أو سعد بن معاذ ـ وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال في حق عمر: لو نزل العذاب علينا لما نجا منه إلاّ عمر ـ أو سعد بن معاذ ـ.
فإنّ جميع ذلك عار من الصحة ولا أساس له، وإنّ تلك الرّوايات بعيدة كل البعد عن تفسير الآية، وخاصّة أن أمارات الوضع ظاهرة على هذه الأحاديث تماماً.
2 ـ إنّ الآيات محل البحث لا تخالف أخذ الفداء وإطلاق سراح الأسرى إذا اقتضت مصلحة المجتمع الإِسلامي ذلك، بل تقول هذه الآيات: إنّه لا ينبغي على المجاهدين أن يكون همهم الأسر من أجل الفداء، فبناءً على ذلك فهي تنسجم وتتفق والآية (4) من سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) من جميع الوجوه، إذ تقول تلك الآية (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرّقاب حتى إذا اثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإمّا منّاً بعد وإمّا فداءً).
إلاّ أنّه يجب الإِلتفات إِلى مسألة مهمّة هنا، وهي: إذا كان بين الأسرى من يثير إطلاق سراحهم فتنة نشوب نار الحرب، ويُعرض انتصار المسلمين للخطر،فيحق للمسلمين أن يقتلوا مثل هؤلاء الأشخاص، ودليل هذا الموضوع كامن في الآية محل البحث ذاتها، بقرينة "يثخن" والتعبير في الآية (4) من سورة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير المنار، ج 10، ص 90 ـ تفسير روح المعاني، ج 10، ص 32 ـ وتفسير الفخر الرازي، ج 15، ص 198.
[496]
محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)بـ "أثخنتموهم".
ولهذا فقد جاء في بعض الرّوايات الإِسلاميّة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتل اثنين من أسرى معركة بدر، وهما "عقبة بن أبي معيط" و"النضر بن الحارث" ولم يرض بأن يفتديا أنفسهما أبداً(1).
3 ـ وفي الآيات محل البحث تأكيد على موضوع حرية إرادة الإِنسان مرّة أُخرى، ونفي مذهب الجبر، لأنّها تقول: إنّ الله يريد لكم الآخرة، ولكن بعضكم أغرته المنافع الماديّة العابرة وركن إليها.
وفي الآية التالية إشارة إِلى حكم آخر من أحكام أسرى الحرب، وهو حكم أخذ الفداء.
وقد جاء في بعض الرّوايات(2) الواردة في شأن نزول هذه الآيات أنّه بعد إنتهاء معركة بدر وأخذ الأسرى، وبعدما أمر النّبي أن تضرب عنقا الأسيرين الخطرين "عقبة بن أبي معيط" و"النضر بن الحارث" خافت الأنصار أن ينفذ هذا الحكم في بقية الأسرى فُيحرموا من أخذ الفداء، فقالوا: يا رسول الله إنّا قتلنا سبعين رجلا وأسرنا سبعين، وكلّهم من قبيلتك فهب لنا هؤلاء الأسرى لنأخذ الفداء منهم. وكان النّبي يترقب نزول الوحي، فنزلت هذه الآيات فأجازت أخذ الفداء في قبال إطلاق سراح الأسرى.
وروي أنّ أكثر ما عُين فداءً على الأسرى من المال هو أربعة آلاف درهم، وأقلّه ألف درهم، فلمّا سمعت قريش أرسلت فداء الواحد تلو الآخر حتى حررت أسراها.
والعجيب أن صهر النّبي على إبنته زينب "أبا العاص" كان من بين أسرى معركة بدر، فأرسلت زوجته زينب قلادتها التي أهدتها أُمّها خديجة(عليها السلام) إليها في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 135.
2 ـ راجع تفسير علي بن إبراهيم وفقاً لما جاء في نور الثقلين، ج 2، ص 136.
[497]
زفافها، لتفتدي بها زوجها، فلمّا وقعت عينا النّبي على تلك القلادة وتذكر تضحية خديجة وجهادها، وتجسّدت مواقفها أمام عينيه، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): "رحم الله خديجة، فهذه قلادة جعلتها خديجة في جهاز بنتي زينب.
ووفقاً لبعض الرّوايات فإنّه امتنع عن قبول القلادة احتراماً لخديجة وإكراماً، واستجاز المسلمين في إرجاع القلادة، فأذنوا له أن يرجع القلادة إِلى زينب، ثمّ أطلق(1) النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سراح أبي العاص، شريطة أن يرسل ابنته زينب ـ التي كانت قد تزوجت من أبي العاص قبل الإِسلام ـ إِلى المدينة، فوافق أبو العاص على هذا الشرط ووفى به بعدئذ(2).
وعلى أية حال، فإنّ الآية محل البحث أجازت للمسلمين التصرف في غنائم المعركة، والمبلغ الذي يأخذونه فداءً من الأسير، فقالت: (فكلوا ممّا غنمتم حلالا طيباً).
ويمكن أن تكون هذه الجملة ذات معنى واسع يشمل حتى الغنائم الأُخرى غير الفداء.
ثمّ تأمرهم الآية بالتقوى فتقول: (واتقوا الله). وهذا إشارة إِلى أنّ جواز أخذ مثل هذه الغنائم لا ينبغي أن يجعل هدف المجاهدين في المعركة هو جمع الغنائم وأن يأسروا العدوّ حتى يأخذوا فداءه. وإذا كان في القلوب مثل هذه النيّات السيئة فعليهم أن يطهروا قلوبهم منها، ويعدهم الله بالعفو عمّا مضى فتقول الآية: (إنّ الله غفور رحيم).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ورد في الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 134 أنّه "فلمّا رآها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رقّ لها رقة شديدة وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها؟ وتردوا عليها الذي لها فافعلوا"، فأطلقوا لها أسيرها وردوا القلادة.
2 ـ تفسير الميزان، ج 9، ص 141.
[498]
هل أن أخذ "الفداء" أمر منطقيٌّ عادل؟!
قد ينقدح هنا سؤال مهم وهو: كيف ينسجم الفداء قبال إطلاق سراح الأسير وأصول العدالة؟ أو ليس هذا نوعاً من بيع الإِنسان؟
والجواب على هذا السؤال يتجلى واضحاً حين نعرف أنّ الفداء هو نوع من الضرائب العسكرية، أو الغرامة الحربية، إذ أن كل حرب سبب في إهدار كثير من الطاقات الإِقتصادية والقوى الإِنسانية، فالجماعة التي تقاتل من أجل الحق يحق لها أنّ تعوض عن خسائرها بعد الحرب، وأحد طرق التعويض هو "الفداء". ومع ملاحظة أن الفداء كان يومئذ يتراوح بين أربعة آلاف درهم عن الأسير الغني، وألف درهم عن الأسير الفقير، يتّضح أنّ الأموال التي أُخذت من قريش في هذا الصدد لم تكن كثيرة، بل لم تكن كافية لسد خسائر المسلمين المالية والإِنسانية في تلك المعركة!
ثمّ بعد هذا كلّه، فقد ترك المسلمون أموالا كثيرة ـ في مكّة ـ عند هجرتهم اضطراراً إِلى المدينة، فكانت هذه الأموال عند أعدائهم من قريش، وكان للمسلمين الحق أن يعوضوا عن خسائرهم وأموالهم في يوم بدر بالفداء.
كما ينبغي الإِلتفات إِلى هذه اللطيفة التي أشارت إليها الآية 4 من سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي أنّ مسألة الفداء ليست إلزامية، فللحكومة الإِسلامية أن تبادل الأسرى متى ما رأت في ذلك مصلحة، أو أن تمن عليهم فتطلق سراحهم دون تعويض.
والمسألة المهمّة الأُخرى في شأن أسرى الحرب هي موضوع إصلاحهم وتربيتهم وهدايتهم، ولعل هذا الأمر غير موجود في المذاهب الماديّة، لكنّه مثار عناية وإهتمام أكيد في الجهاد من أجل تحرير الإِنسان وإصلاحه وتعميم الحق والعدل.
[499]
ولهذا فإنّ الآية الرّابعة من الآيات محل البحث تخاطب النّبي أن يدعو الأسرى إِلى الإِيمان بالله وإصلاح أنفسهم، ويرغبهم في كل ذلك، فتقول: (يا أيّها النّبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممّا أخذ منكم).
والمراد من كلمة "خيراً" في الجملة آنفة الذكر (إن يعلم الله في قلوبكم خيراً)هو الإِيمان وقبول الإِسلام أمّا المراد من كلمة "خير" في الجملة الأُخرى "يؤتكم خيراً" فهو الثواب أو الأجر المادي والمعنوي الذي ينالونه ببركة الإِسلام، وهو أعظم عند الله من الفداء بمراتب كثيرة!
ثمّ إضافة إِلى ذلك فسيشملكم لطف الله ويعفو عن سيئاتكم (ويغفر لكم والله غفور رحيم).
وحيث إنّ من الممكن أن يستغل بعض الأسرى إظهار الإِسلام ليسيء إِلى الإِسلام ويخون النّبي وينتقم من المسلمين، فإنّ الآية التالية تنذر النّبي والمسلمين وتنذر أُولئك من الخيانة فتقول: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل).
وأي خيانة أعظم من عدم الإِستجابة لنداء الفطرة والعزوف عن نداء الحق والعقل، والشرك بالله وعبادة الأصنام بدلا من الإِيمان بالله وتوحيده؟ ثمّ إنّ عليهم أن لا ينسوا نصرة الله لك (فأمكن منهم).
وإذا أرادوا الخيانة في المستقبل فلن يُفلحوا وسوف ينالون الخزي والخسران والهزيمة مرّة أُخرى. لأنّ الله مطلع على نيّاتهم، وجميع تعاليم الإِسلام في شأن الأسرى وفق حكمته (والله عليم حكيم).
وقد جاء في كتب الفريقين ـ الشيعة وأهل السنة ـ في ذيل الآيتين محل البحث أن العباس عم النّبي كان بين أسرى بدر، فطلبت جماعة من الأنصار أن لا
[500]
يؤخذ عنه فداء إكراماً لرسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "والله لا تذرون منه درهماً"، (أي إذا كان الفداء قانوناً إسلامياً عامّاً، فلا ينبغي أن يفرق بين عمي وبين أي أسير آخر).
وقال لعمّه العباس: "إدفع عنك وعن ابن أخيك ـ عقيل ـ الفداء".
فقال له العباس "وكان شغوفاً بالمال". يا محمّد أتريد أن تجعلني فقيراً حتى أمد يدي إِلى قريش؟!
فقال له النّبي: إعط فداءك من المال الذي أودعته عند أم الفضل ـ زوجتك ـ وقلت لها: إذا قتلت في ساحة المعركة فأنفقيه على نفسك وعلى أبنائك.
فتعجب العباس من هذا الإمر وقال: من أخبرك بهذا؟ "ولم يطلع عليه أحد أبداً" فقال رسول الله: أخبرني بذلك جبرائيل.
فقال العباس: أحلف بمن يحلف به محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعلم بذلك إلاّ أنا وزوجتي، ثمّ قال: أشهد أنك رسول الله، وأعلن إسلامه.
وعاد جميع أسرى بدر إِلى مكّة إلاّ العباس وعقيلا ونوفلاً، إذ أسلموا وبقوا في المدينة، والآيات محل البحث تشير إِلى حال أُولئك(1).
وجاء في شأن إسلام العباس في بعض التواريخ أنّه عاد إِلى مكّة بعد إسلامه، وكان يكتب إِلى النّبي عن مؤامرات المشركين ثمّ هاجر إِلى المدينة قبل السنة الثّامنة من الهجرة "عام فتح مكّة".
وفي كتاب قرب الإِسناد عن الإِمام الباقر عن أبيه الإِمام زين العابدين، أنّه جيء إِلى رسول الله ذات يوم بأموال كثيرة، فالتفت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى العباس وقال له: ابسط عباءتك أو "رداءك" وخذ من هذا المال، ففعل العباس وأخذ من ذلك المال، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): هذا ما قاله الله سبحانه وتلا قوله: (يا أيّها النّبي قل لمن في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يراجع تفسير نورالثقلين، وروضة الكافي، وتفسير القرطبي، وتفسير المنار، ذيل الآية محل البحث.
[501]
أيديكم من الأسرى)(1).
وهو إشارة إِلى أن وعد الله قد تحقق عملياً في إيتان العباس خيراً ممّا أُخذ منه.
ويعرف من هذا الحديث أنّ النّبي كان في صدد أن يعوض الأسرى الذين أسلموا عمّا أُخذ منهم، ترغيباً وتشويقاً، وأن يعيد إليهم أموالهم المأخوذة منهم بصورة أحسن.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 168.
[502]
الآيات
اِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـهِدُوا بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْض وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَـيَتِهِم مِّن شَىْء حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الِّدينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثـقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ72 وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْض إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِى الاَْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ73 وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواوَّنَصَرُوا أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ74 وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَـهِدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُولُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِى كِتَـبِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمُ75
[503]
التّفسير
أربع طوائف مختلفة:
تبحث هذه الآيات التي تُختتم بها سورة الأنفال ـ وتُعدّ آخر فصل من فصولها ـ عن طوائف المهاجرين والأنصار والطوائف الأُخرى من المسلمين وبيان قيمة هؤلاء جميعاً، فتعطي كل طائفة قيمة، وتستكمل ما تناولته الآيات السابقة في شأن الجهاد والمجاهدين.
وبتعبير آخر: إنّ هذه الآيات عالجت نظام المجتمع الإِسلامي من حيث العلائق المختلفة، لأنّ خطة الحرب وخطة الصلح كسائر الخطط والمناهج العامّة، لا يمكن أن يتمّ أيّ منها دون تكوين علاقة إجتماعية صحيحة، وأخذها بنظر الإِعتبار.
وقد تناولت هذه الآيات خمس طوائف، أربع منها من المسلمين، وواحدة من غير المسلمين، والطوائف الأربع هي:
1 ـ المهاجرون السابقون.
2 ـ الأنصار في المدينة.
3 ـ المؤمنون الذين لم يهاجروا.
4 ـ الذين آمنوا من بعدُ وهاجروا.
فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث (إنّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أُولئك بعضهم أولياء بعض).
فقد أُشير في هذا القسم من الآية إِلى الطائفتين، الأُولى والثّانية ]المهاجرون، والأنصار[ أي الذين آمنوا في مكّة ثمّ هاجروا منها إِلى المدينة، والذين آمنوا في المدينة ثمّ آزروا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونصروه ودافعوا عنه وعن المهاجرين، وقد وصفتهم الآية بأنّهم بعضهم أولياء بعض، وبعضهم حماة بعض.
[504]
والذي يسترعي النظر أنّ الآية وصفت الطائفة الأُولى بأربع صفات هي: الإِيمان، والهجرة والجهاد المالي والإِقتصادي "وذلك عن طريق الإِعراض عن أموالهم في مكّة، وما بذلوه من أموال في غزوة بدر"، والصفة الرّابعة جهادهم بأنفسهم ودمائهم وأرواحهم.
أمّا الأنصار فقد وصفتهم الآية بصفتين هما: الإِيواء، والنصرة.
وقد جعلت هذه الآية الجميع مسؤولين بعضهم عن بعض، ويتعهد كلّ بصاحبه بقولها (بعضهم أولياء بعض).
فهاتان الطائفتان ـ في الحقيقة ـ كانتا تمثلان مجموعتين متلازمتين لا يمكن لأحدهما الإِستغناء عن الأخرى، إذ منهما يتكون نسيج المجتمع الإِسلامي، فهما بمثابة "المغزل والخيط".
ثمّ تشير الآية إِلى الطائفة الثّالثة فتقول: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتّى يهاجروا).
ثمّ استثنت في الجملة التي بعدها مسؤولية واحدة فحسب، وأثبتتها في شأن هذه الطائفة، فقالت: (وان استنصروكم في الدين فعليكم النصر ... إلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق).
وبتعبير آخر: يلزم الدفاع عن أُولئك في صورة ما لو أصبحوا قبال عدوّ مشترك، أمّا إذا واجهوا كفاراً بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإنّه يجب الوفاء بالعهد والميثاق، وهي مقدمة على الدفاع في هذه الصورة.
وحضّت الآية على رعاية العهود والمواثيق والدقة في أداء هذه المسؤولية، ومنبهة إِلى علم الله بكل الأمور، فقالت: (والله بما تعملون بصير).
فهو يرى جميع أعمالكم ويطلع على ما تفعلون من جهاد، أو أداء للوظيفة الملقاة على عاتقكم، أو إحساس بالمسؤولية، كما يعلم بمن لم يعتنِ بالأمر، وكذلك بالوهن والضعف وعدم الإِحساس بالمسؤولية إزاء هذه الوظائف
[505]
الكبيرة.
أمّا الآية الثّانية فتشير إلى النقطة المقابلة للمجتمع الإِسلامي، أي مجتمع الكفر وأعداء الإسلام، فتقول: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض).
أي أنّ علاقاتهم منحصرة فيما بينهم، ولا يحق لكم أن تتعاهدوا معهم، أو تحاموا عنهم، أو تطلبوا منهم النصرة لأنفسكم، أو تلجؤوهم وتؤووهم إليكم، أو تأووا وتلتجئوا إليهم.
وبعبارة موجِزَة: لا يحق للكفار أن يدخلوا في نسيج المجتمع الإِسلامي، ولا يحق للمسلمين أن يدخلوا في نسيج الكفار.
ثمّ تنبه الآية المسلمين وتحذرهم من مخالفة هذا التعليم، فتقول: (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
وأي فتنة وفساد أكبر من تهميش انتصاركم، وسريان دسائس الأعداء في مجتمعكم، وتخطيطهم لهدم دينكم دين الحق والعدل.
أمّا في الآية التالية فنجد تأكيداً على مقام المهاجرين والأنصار مرّة أُخرى، وما لهما من موقع وأثر في تحقق أهداف المجتمع الإِسلامي، فتثني عليهم الآية بقولها: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أُولئك هم المؤمنون حقّاً).
لأنّهم هبوا لنصرة الإِسلام في الأيام الصعبة الشديدة وفي الغربة والمحنة وقد اشترك كل فرد منهم بنوع من النصرة لله ولرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) (لهم مغفرة ورزق كريم).
فهم فائزون بثواب الله والنعمة الأخروية، كما أنّهم يتمتعون في هذه الدنيا بالعزة ورفعة الرأس والكرامة.
أمّا الآية الأخيرة فتشير إِلى الطائفة الرّابعة من المسلمين، أي أُولئك الذين آمنوا وهاجروا من بعد، فتقول: (والذين آمنوا من بعدُ وهاجروا وجاهدوا
[506]
معكم فأُولئك منكم).
أي أنّ المجتمع الإِسلامي ليس مجتمعاً منغلقاً ومحصوراً على نفسه ،بل أبوابه مفتوحة لجميع المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين، وإن كان للمهاجرين الأوائل مقام خاص ومنزلة كريمة، إلاّ أن ذلك لا يعني أن المؤمنين الجدد والمهاجرين في المستقبل لا يعدّون جزءاً من المجتمع الإِسلامي ولا يكونون من نسيجه.
وتشير الآية في ختامها إِلى ولاية الأرحام بعضهم لبعض، وأوليتها فيما جعله الله في عبادة من أحكام، فتقول: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).
وفي الحقيقة فإنّ الآيات السابقة تتكلم عن ولاية المؤمنين والمسلمين العامّة "بعضهم إِلى بعض" أمّا هذه الآية محل البحث فتؤكّد هذا الموضوع في شأن الأرحام والأقارب، فهم إضافة إِلى ولاية الإِيمان والهجرة يتمتعون بولاية الأرحام أيضاً، ومن هنا فهم يرثون ويورثون بعضهم بعضاً، إلاّ أنّه لا إرث بين غيرهم من المؤمنين الذين لا علاقة قربى بينهم.
فبناءً على ذلك فإنّ الآية الأخيرة لا تتكلم عن الإِرث، بل تتكلم عن موضوع واسع من ضمنه موضوع الإِرث.
وإذا وجدنا في الرّوايات الإِسلامية، وفي الكتب الفقهية، استدلالا بهذه الآية والآية المشابهة لها في سورة الأحزاب على الإِرث، فلا يعني ذلك أن الآي الذي استُدل به على الإِرث منحصر بهذا الشأن فحسب، بل توضح قانوناً كليّاً، والإِرث جزء منه. ولهذا نجد أنّه استُدل بهذه الآية محل البحث على موضوع خلافة النّبي مع أنّها غير داخلة في موضوع الإِرث المالي.
واستُدل بها على أولوية غسل الميت، كما صّرحت به الرّوايات الإِسلامية.
وبملاحظة ما ذكرناه آنفاً يتّضح أنّه لا دليل على ما أصر عليه جماعة من
[507]
المفسّرين على انحصار هذه الآية بمسألة الإرث، وإذا أردنا أن نختار مثل هذا التّفسير فإنّ السبيل الوحيد له أن نعده مستثنياً الإِرث من الولاية المطلقة، التي بيّنتها الآيات السابقة لعامّة المهاجرين والأنصار، فنقول: إنّ الآية الأخيرة تقول بأنّ ولاية المسلمين العامّة بعضهم لبعض لا تشمل الإِرث.
وأمّا الإِحتمال بأنّ الآيات السابقة تشمل الإِرث أيضاً ثمّ نسخت الآية الأخيرة هذا الحكم منها، فيبدو بعيداً جدّاً، لأنّ الترابط في المفهوم بين هذه الآيات جميعاً من الناحية المعنوية، بل حتى التشابه اللفظي، كل ذلك يدل على أنّ الآيات نزلت معاً في وقت واحد. وبهذا لا يمكن القول بالتناسخ بين هذه الآيات.
وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأكثر تناسباً لهذه الآيات هو ما بيناه آنفاً.
وفي آخر جملة من هذه الآية ـ التي هي آخر جملة من سورة الأنفال أيضاً ـ يقول الله سبحانه: (إنّ الله بكل شيء عليم).
فما نزل في هذه السّورة من أحكام تتعلق بالأنفال وغنائم الحرب، وتعاليم الجهاد والصلح، وأحكام الأسرى والحرب، وما يتعلق بالهجرة وغيرها، كل ذلك كان وفق حساب دقيق يتلاءم وروح المجتمع الإِنساني، والعواطف والبشرية، والمصالح العامّة في جميع جوانبها المختلفة.
* * *
ملاحظات
1 ـ الهجرة والجهاد
إنّ دراسة التاريخ الإِسلامي تدلّ على أن هذين الموضوعين كانا من عوامل انتصار المسلمين الرئيسية قبال عدوّهم، فلولا الهجرة لتمّ دفن الإسلام في مكّة، ولو لا الجهاد لما اتسعت رقعة الإِسلام، فالهجرة أخرجت الإِسلام من منطقة
[508]
خاصّة إِلى مداه الرحب وصيرته عالميّاً، والجهاد علّم المسلمين أنّهم إذا لم يعتمدوا على قدراتهم فإنّ عدوّهم الذي لا يلتزم بأية مقررات سوف لا يعترف لهم بأدنى حقّ. سوف لا يعطيهم حقوقهم المشروعة، ولا يصيخ لهم سمعاً أبداً.
واليوم إذا أردنا انقاذ الإِسلام من الطرق المسدودة، وإزاحة الموانع التي جعلها الأعداء في طريقه من كل جهة، فلا سبيل إِلى ذلك إلاّ باحياء هذين الاصلين: الهجرة والجهاد.
فالهجرة توصل صوت المسلمين إِلى أسماع العالم كله، وتروي ظمأ القلوب المتعطشة للحق والعدل ومن هو في شوق إِلى معرفة الحقيقة.
والجهاد يهب المسلمين التحرك والحياة، ويبعد اعداءهم الذين لا ينفعهم إلاّ منطق القوة عن قارعة الطريق ويبيدهم.
وقد حدثت الهجرة في الإِسلام مراراً. فكانت هجرة المسلمين من مكّة إِلى الحبشة حيث غرسوا بها الإِسلام خارج الجزيزة العربية وبنوا فيها حصناً للمسلمين الأوائل قبال ضغوط أعدائهم.
ثمّ هجرة النّبي والمسلمين الأولى إِلى المدينة، ولهؤلاء المهاجرين الذين يطلق عليهم (مهاجروا بدر) أهمية قصوى في تأريخ الإِسلام، لأنّهم اتّجهوا ظاهراً نحو مستقبل مجهول مظلم، وغضوا ابصارهم عن جميع ما ملكوه في سبيل الله، وأعرضوا عن حطام الدنيا.
هؤلاء المهاجرين أي: "المهاجرون الأوّلون" مثلوا في الحقيقة الحجر الأساس لصرح الإِسلام العظيم، والقرآن يثني عليهم بالتكريم والتعظيم، ولوليهم عناية خاصّة، لأنّهم كانوا من أشد المسلمين تضحيةً.
"الهجرة الثّانية" أُطلقت على هجرة طائفة أُخرى من المسلمين إلى المدينة، وذلك بعد صلح الحديبية والحصول على محيط آمن نسبياً بعد هذا الصلح، وقد تطلق الهجرة على كل مهاجر من مكّة إلى المدينة حتى بعد واقعة
[509]
بدر، وإلى زمانفتح مكّة.
أمّا بعد فتح مكّة فقد انتفت الهجرة من مكّة إِلى المدينة، لأنّ مكّة أصبحت مدينة إسلامية أيضاً، والحديث النبوي المشهور "لا هجرة بعد الفتح" يشير إِلى هذا المعنى.
لكن هذا الكلام لا يعني أن مفهوم الهجرة زاك من قاموس مباديء الإِسلام كليّاً كما يتصور بعضهم، بل الهجرة من مكّة إِلى المدينة انتفى موضوعها، وإلاّ فمتى ما حدثت ظروف كظروف المسلمين الأوائل فقانون الهجرة باق على قوته، وسوف يبقى مادام الإِسلام يتسع حتى يستوعب العالم أجمع.
ومع الأسف الشديد فإنّ أغلب المسلمين لنسيانهم هذا الأصل الإِسلامي المهم انغلقوا على أنفسهم، بينما نرى المبشرين المسيحيين والفرق الضالة والإِستعمار يهاجرون إِلى أنحاء المعمورة كلها، ويذهبون حتى إِلى القبائل أو الطوائف المتوحشة ممن يأكلون لحوم البشر في مجاهيل أفريقيا، ويجوبون القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي في سبيل تحقيق أهدافهم، مع أن هذه مهمّة المسلمين في الواقع، إلاّ أن العمل أضحى من الآخرين!
والأعجب من ذلك وجود الكثير من القرى في جوار المدن الإِسلامية الكبرى، وبمسافة لا تبعد كثيراً عنها، إلاّ أن أهلها لا يعرفون عن الإِسلام شئياً، ولا يعرفون أحكامه، وربّما لم يروا وجه مبلغ إسلامي هناك أبداً. لهذا فإنّ محيطهم مستعد لنشوء جراثيم الفساد والمذاهب المختلقة والبدع التي يفتعلها "الإِستعمار" ولا ندري بماذا يجيب المسلمون ربّهم يوم القيامة ـ وهم ورثة المهاجرين الأوائل ـ إزاء هذه الحال المزرية؟!
وبالرغم من مشاهدة تحرك في هذا الصدد أخيراً، إلاّ أنّه محدود وغير كاف ابداً.
وعلى أية حال، فإن موضوع الهجرة وأثرها في تاريخ الإِسلام ومصير
[510]
المسلمين أكبر من أن نأتي على جميع جوانبه بهذا الإِختصار (ولنا كلام بهذا الشأن لدى تفسير الآيات التي تتناول هذا الموضوع إن شاء الله ...).
2 ـ المبالغة والإِغراق في تنزيه الصحابة
حاول بعض إخواننا أهل السنة أن يستنتج من ما أولاه القرآن للمهاجرين السابقين "الأوائل" من إهتمام واحترام، أنّهم لن يرتكبوا ذنباً إِلى آخر عمرهم وحياتهم. وذهبوا إِلى اكرامهم واحترامهم جميعاً دون استثناء، ودون الاعتراض على هذا وذاك، وكيف ذلك؟! ثمّ عمموا هذا القول على جميع الصحابة ـ فضلا عن المهاجرين ـ وذلك لثناء القرآن عليهم في بيعة الرضوان وغيرها، وذهبوا عملا إِلى أنّ الصحابة ـ دون النظر إِلى اعمالهم ـ أفراد متميزون. فلا يحق لأيّ شخص توجيه النقد لهم والتحقيق في سلوكهم. يجوز بأيّ وجه أن يوجه النقد إليهم.
ومن جملة هؤلاء المفسّر المعروف صاحب المنار، إذ حمل في ذيل الآيات محل البحث حملة شعواء على الشيعة، لأنّهم ينتقدون المهاجرين الأولين، ولم يلتفت إِلى أن مثل هذا الإِعتقاد لا يتضاد وروح الإِسلام وتاريخه!!
فلا ريب أنّ للصحابة ـ وعلى الخصوص المهاجرين منهم ـ حرمةً خاصّة، إلاّ أنّ هذه الحرمة كانت قائمة ما داموا في طريق الحق ويضحّون من أجل الحق، لكن من المقطوع به أن نظرة القرآن إِلى بعضهم أو حكمه قد تغير منذ انحرف عن النهج القويم والصراط المستقيم.
فمثلا، كيف يمكننا أن نبرىء طلحة والزبير من نقضهما بيعة إمامهما الذي انتخبه المسلمون "بغض النظر عن تصريح النّبي بمقامه وشأنه" وكانا من ضمن المسلمين الذين بايعوه؟ وكيف يمكن تبرأتهما من دماء سبعة عشر ألف مسلم قتلوا في حرب الجمل، مع أنّه لا عذر لمن يفسك دم إنسان واحد أمام الله مهما
[511]
كان، فكيف بهذا العدد الهائل الذين سفكت دماؤهم؟
ترى هل يمكن أن نعدّ عليّاً(عليه السلام) وأصحابه في حرب الجمل على الحق كما نعدّ أعداءه فيها على الحق أيضاً؟! ونعد طلحة والزبير ومن معهما من الصحابة على الحق كذلك؟! وهل يقبل العقل والمنطق هذا التضاد الفاضح؟
وهل يمكننا أن نغض النظر من أجل عنوان "تنزيه الصحابة" ولا نلتفت إلى التأريخ وننسى كل ما حدث بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونضرب عرض الجدار قاعدة (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)؟
مالكم كيف تحكمون؟!
وما يمنع أن يكون الإنسان من أهل الجنّة ومؤيداً للحق يوماً، ويكون من أهل النّار ومؤيداً للباطل ومن أعداء الحق يوماً آخر؟ ... فهل الجميع معصومون؟ ألسنا نرى التغييرات في أحوال الأشخاص بأم أعيننا؟!
قصة "اصحاب الردّة" وارتداد جمع من المسلمين بعد رحلة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)مذكورة في كتب أهل السُنّة والشّيعة، وأن الخليفة الأوّل تصدى لهم وقاتلهم، فهل يعقل أنّ أحداً من "اصحاب الردّة" لم ير النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكونوا في عدّة الصحابة؟
والأعجب من ذلك أنّ بعضاً تشبت بالإِجتهاد للتخلص من الطريق المسدود والتناقض في ذلك، وقالوا: إن أمثال طلحة والزبير ومعاوية ومن لفّ لفهم قد اجتهدوا فأخطأوا وليسوا مذنبين، بل هم مثابون مأجورون بأعمالهم من قبل الله! فما أفضح هذا المنطق؟!
فهل الثورة على خليفة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونقض البيعة وهدر دماء الآلاف من الأبرياء من أجل رئاسات دنيوية وحب المال، موضوع معقد ومبهم ولا يعرف أحد ما فيه من سوء؟!
ترى هل في سفك كل تلك الدماء البرئية أجر وثواب عند الله؟!
[512]
فإذا أردنا تبرئة جماعة من الصحابة ممّا ارتكبوه من جرائم، فسوف لا نرى مجرماً أو مذنباً في الدنيا، وسنبرىء بهذا المنطق جميع القتلة والمجرمين والجبابرة.
إنّ مثل هذا الدّفاع غير المنطقي ـ عن الصحابة ـ سيسبب النظرة السيئة إِلى أصل الإِسلام.
والخلاصة، أنّنا لا سبيل لنا إلاّ احترام الجميع خاصّة أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ماداموا لم ينحرفوا عن مسير الحق والعدل ومناهج الإِسلام، وإلاّ فلا.
3 ـ الإِرث في قوانين الإِسلام
كما أشرنا سابقاً في تفسير سورة النساء، فإنّ الناس في زمان الجاهلية كانوا يتوارثون عن ثلاث طرق:
1 ـ عن طريق النسب "وكان منحصراً بالأولاد الذكور، أمّا الأطفال والنساء فهؤلاء محرومون من الإِرث".
2 ـ وعن طريق "التبني" بأن يجعل ولد غيره ولَده.
3 ـ وعن طريق العهد الذي يعبر عنه بالولاء(1).
وفي بداية الإسلام كان العمل جارياً بهذه الطرق قبل نزول قانون الإِرث، إلاّ أنّه سرعان ما حلّت الأخوة الإِسلامية مكان ذلك، وورث المهاجرون الأنصار فحسب، وهم الذين تآخوا وعقدوا عهد الأخوة الإِسلامية، وبعد أن اتسع الإِسلام أكثر فأكثر شُرّع حكم الإرث النسبي والسببي، ونسخ حكم الأخوة الإِسلامية في الإِرث.
وقد أشارت إليه الآيات ـ محل البحث ـ والآية (6) من سورة الأحزاب، إذ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحثنا موضوع الإِرث بالولاء في الجزء الثّالث بصورة مفصلة.
[513]
تقول: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).
كل هذا مقطوع به من حيث التاريخ، إلاّ أنّه ـ كما قلنا من قبل ـ فإن جملة (وأولو الأرحام) الواردة في الآيات محل البحث لا تختص بمسألة الإِرث، بل هي ذات معنى واسع، والإِرث جزء منه.
4 ـ ما المراد من الفتنة والفساد الكبير
احتمل المفسّرون في تفسير هاتين الكلمتين الواردتين في الآيات محل البحث احتمالات كثيرة، إلاّ أنّ ما ينسجم أكثر مع مفهوم هذه الآية هو أنّ المراد من "الفتنة" هو الإِختلاف والتفرق وتزلزل مباني العقيدة الإِسلامية على أثر وسوسة الأعداء، و"الفساد" يشمل كل إخلال وتخريب للنظم الإِجتماعية المختلفة وخاصّة سفك الدماء البريئة والارهاب وأمثال ذلك.
وفي الحقيقة فإنّ القرآن المجيد ينذر المسلمين إذا لم يحكموا علائق الأخوة والتعاون فيها بينهم، ولم يقطعوا ارتباطهم بالعدوّ، فإنّ جماعتهم تزداد تشتتاً يوماً بعد يوم، وبنفوذ الأعداء داخل المجتمع الإِسلامي ووساوس إغواءاتهم تزلزل أُسس الإِيمان وقواعده، ويبتلى المسلمون عن هذا الطريق بفتنة عظيمة.
وكذلك إذا لم تكن علائق إجتماعية قوية، فإنّ العدو سرعان ما ينفذ إِلى المجتمع وتحدث أنواع المفاسد من ارهاب وسفك الدماء، وتضيع الأموال واغواء الأولاد، ويبدو الضعف والنقص واضحاً في المجتمع، ويعم الفساد الكبير كل مكان.
ربّنا، أيقظ مجتمعنا الإِسلامي بلطفك. ونَبهّنا إِلى أخطار التعاون مع الأعداء وتكوين العلاقة وإياهم. ونزّه مجتمعنا من الفتنة والفساد الكبير بنور المعرفة ووحدة الكلمة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
* * *
[514]
[515]
سُـورَةُ التّـوبـة
وهي مَدنيّة
وعددُ آياتِهَا مَائة وتسع وعشرون آية فحَسب
[516]
[517]
سورة التّوبة
ينبغي الإِلتفات إِلى الأُمور التالية قبل الشروع في تفسير السورة
1 ـ أسماء هذه السّورة....
ذكر المفسّرون لهذه السّورة أسماءً عديدة تبلغ العشرة، غير أنّ المشهور منها هو ما يلي: سورة البراءة، وسورة التوبة، والسورة الفاضحة. ولكلّ من التسميات سبب جلي.
فالبراءة، لأنّها تُبتدأ بإعلان براءة الله من المشركين، والذين ينقضون عهدهم.
والتوبة، لما ورد من مزيد الكلام عن التوبة في هذه السورة.
والفاضحة، لما فيها من الآيات التي تكشف النقاب عن أعمال المنافقين لتعريتهم وخزيهم وفضيحتهم.
2 ـ متى نزلت هذه السورة
هذه السورة هي آخر سورة نزلت على النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أو من أواخر السور النازلة عليه في المدينة، وهي كما قلنا ذات 129 آية فحسب.
والمعروف أن بداية نزول هذه السورة كانت في السنة التاسعة للهجرة، ويدلّ تتبع آياتها على أنّ قسماً منها نزل قبل معركة تبوك، وقسماً منها نزل عند الإِستعداد للمعركة أو "الغزوة"، وقسماً منها نزل بعد الرجوع من المعركة والفراغ منها.
[518]
ومن بداية السورة حتى الآية (28) نزل قُبيل موسم الحج، كما سنبيّن ذلك بعون الله، والآيات الأُولى ـ هذه ـ والتي تتعلق بمن بقي من المشركين بلّغها أميرالمؤمنين(عليه السلام) في موسم الحج.
3 ـ محتوى السّورة
لمّا كان نزول هذه السورة إبّان انتشار الإِسلام في الجزيزة العربية، وتحطيم آخر مقاومة للمشركين فقد كان لما حوته من مفاهيم أهمية بالغة ومواضيع حساسة. إذ يتعلق قسم منها بالبقية الباقية من عبدة الأوثان والمشركين، وقطع العلاقات معهم، وإلغاء المعاهدات والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين، لنقضهم لها مراراً، ليتم تطهير المحيط الإِسلامي منرجس الوثنية الي الأبد.
وحيث إن بعض الأعداء عند انتشار رقعة الإسلام وتحطيم قوى الشرك غيّر مظهره بغية النفوذ بين المسلمين، ولتوجيه ضربة قاضية للإِسلام من قبل المنافقين فإنّ قسماً مهماً من آيات هذه السورة تتحدّت عن المنافقين وعاقبهم، وتحذر المسلمين منهم.
وبعض آيات هذه السورة تتحّدث عن الجهاد في سبيل الله وأهميته، لأنّ الغفلة عن هذا الأمر الحياتي في ذلك الظرف الحساس تبعث على ضعف المسلمين وتقهقرهم أو انكسارهم.
كما أنّ قسماً منه يكمل البحوث السابقة التي تناولت انحراف أهل الكتاب "اليهود والنصارى" عن حقيقة التوحيد، وتتكلم عن انصراف علمائهم عن واجبهم في التبليغ وقيادة المجتمع.
وفي بعض آيات هذه السورة حثّ للمسلمين على الإِتحاد ورص الصفوف ـ تعقيباً على ما جاء آنفاً في الحث على الجهاد ـ وتوبيخ للمتخاذلين المتحرّفين أو الضعاف الذين يتذرعون بذرائع واهية للتخلص من هذا الواجب، ثمّ إنّ فيها
[519]
ثناءً على المهاجرين السابقين إِلى الهجرة، والصفوة من المؤمنين الصادقين.
وحيث سبّب انتشار الإِسلام واتساع رقعة مجتمعه آنئذ ظهور حاجات مختلفة ينبغي توفيرها، فقد عرضت بقية الآيات من هذه السورة موضوع الزكاة وتحريم تراكم الثروات واكتنازها، ووجوب طلب العلم أو التعلّم وتعليم الجهلة، وتناولت بحوثاً متنوعة أُخرى كقصة هجرة النّبي، والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، وأخذ الجزية من الأقليات الدينية غير الإِسلامية كاليهود والنصارى، وما إِلى ذلك.
4 ـ لِمَ لَمْ تبدأ هذه السورة بالبسملة؟
يُجيب استهلال السورة على السؤال آنف الذكر فقد بُدئت بالبراءة ـ من قبل الله ـ من المشركين، وإعلان الحرب عليهم، واتباع أسلوب شديد لمواجهتهم، وبيان غضب الله عليهم، وكل ذلك لا يتناسب والبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)الدالة على الصفاء والصدق والسلام والحب; والكاشفة عن صفة الرحمة واللطف الإِلهي.
وقد ورد هذا التعليل عن علي(عليه السلام)(1).
ويعتقد بعض المفسّرين أن سورة براءة ـ في الحقيقة ـ تتمة لسورة لأنفال، لأنّ الأنفال تتحدث عن العهود، وبراءة تتحدث عن نقض تلك العهود، فلم تذكر البسملة بين هاتين السورتين لإِرتباط بعضهما ببعض. وقد ورد عن الإِمام الصادق هذا المعنى أيضاً(2).
ولا مانع أن يكون السبب في عدم ذكر البسملة مجموع الأمرين آنفي الذكر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جاء في مجمع البيان عن الشيخ الطبرسي عن علي(عليه السلام) أنّه قال "لم تنزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة "براءة" لأنّ بسم الله للأمان والرحمة ونزلت براءة لرفع الأمان والسيف فيه!".
2 ـ قال الطبري نقلا عن الإِمام الصادق(عليه السلام) "الأنفال وبراءة واحدة!".
[520]
ـ معاً ـ فالأوّل ناظر إِلى الرواية الأُولى "رواية الإِمام علي" والثّاني يشير إِلى رواية الإِمام الصادق(عليه السلام).
5 ـ فضيلة هذه السورة وآثارها
أولَتْ الرّوايات الإِسلامية أهميّة خاصّة لتلاوة سورتي براءة والأنفال، وممّا جاء في شأنهما عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال "من قرأ براءة والأنفال في كل شهر لم يدخله نفاق أبداً، وكان من شيعة أميرالمؤمنين(عليه السلام) حقّاً".
وقد قلنا مراراً: إنّ ما ورد من أهمية قصوى في الرّوايات الإِسلامية في قراءة مختلف السور لا يعني ظهور آثار تلك القراءة من دون تفكّر وتطبيق لمضامينها، فنقول مثلا: من قرأ سورتي براءة والأنفال دون إدراك لمعانيهما فسيُدرَأ عنه النفاق، ويكون من شيعة أميرالمؤمنين(عليه السلام)، بل المراد في الحقيقة أن يكون مضمون السورة مؤثّراً في بناء شخصية الفرد والمجتمع، ولا يتحقق ذلك إلاّ بإدراك مغزى السو رة واستيعاب معناها، والإِستعداد والتهيؤ لتطبيقها.
وحيث أن السورتين قد أوضحتا الخطوط العريضة العامّة في حياة المؤمنين الصادقين ومن في قبالهم من المنافقين، وأنارتا الطريق للعاملين لا للمدّعين فحسب، فستكون ثمرة تلاوتهما والإِعتبار بمضمونيهما هو ما ذكرته الرواية وبهذا تكون التلاوة مؤثرة بنّاءَة.
وأمّا من ينظر إِلى القرآن وآياته الشريفة بشكل آخر، فهو أبعد ما يكون عن روح هذا الكتاب التربوي الذي جاء لبناء الإِنسانية وهدايتها.
وقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان الأهمية القصوى لما نوهنا عنه من لطائف، أنّه قال "نزلت عليّ براءة والتوحيد في سبعين ألف صف من صفوف الملائكة، وكان كل صف منهم يوصيني بأهمية هاتين السورتين".
[521]
6 ـ حقيقة تأريخية يسعى بعضهم إِلى طمس معالمها
من المتفق عليه بين جميع المؤرخين والمفسّرين تقريباً أنّه لما نزلت الآيات الأُولى من سورة براءة، وأُلْغَيَت العهود التي كانت بين المشركين والمسلمين، أمر النّبي أبابكر أن يبلغ هذه الآيات في موسم الحج، ثمّ أخذها منه وأعطاها علياً(عليه السلام)ليقوم بتبليغها، فقرأها علي على الناس في موسم الحج. وبالرغم من اختلاف الرّوايات في جزئيات هذه القصة وجوانبها المتفرقة، إلاّ أن ذكر النقاط التالية يمكن أن يجلو لنا حقيقة ناصعة:
1 ـ يروي أحمد بن حنبل ـ إمام أهل السنة المعروف ـ في مسنده عن ابن عباس، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل فلاناً "المقصود بفلان هو أبو بكر كما سيتّضح ذلك بعدئذ" وأعطاه سورة التوبة ليبلغها الناس في موسم الحج، ثمّ أرسل عليّاً خلفه وأخذها منه وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) "لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه"(1).
2 ـ كما جاء في المسند ذاته عن أنس بن مالك، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل سورة براءة مع أبي بكر ليبلغها، فلمّا وصل أبو بكر إلى ذي الحليفة ـ ويدعى بمسجد الشجرة أيضاً ـ وهو وعلى بُعد مسافة فرسخ عن المدينة تقريباً، قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يبلغها إلاّ أنا أو رجل من أهل بيتي" فبعث بها مع علي(عليه السلام)(2).
3 ـ وورد أيضاً في المسند نفسه ـ بإسناد آخر ـ عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)أنّه لما بعثه النّبي ومعه براءة قال: يا رسول الله لست خطيباً، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لا محيص عن ذلك، فإمّا أن أذهب بها أو تذهب بها، فقال علي: إذا كان ولابدّ فأنا أذهب بها. فقال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "إنطلق بها فإنّ الله يثبت لسانك ويهدي قلبك"(3).
4 ـ وينقل النسائي ـ أحد كبار علماء السنة ـ في خصائصه، عن زيد بن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 331، ط مصر.!
2 ـ مسند أحمد بن حنبل، ج 3، ص 212.
3 ـ مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 150.
[522]
سبيع، عن علي(عليه السلام)، أن النّبي أرسل أبا بكر بسورة براءة إِلى أهل مكّة، ثمّ بعث عليّاً خلفه ليأخذ الكتاب منه "يعني السورة" فلحقه في الطريق وأخذ الكتاب منه، فعاد أبو بكر حزيناً أسيفاً، وقال: يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): "لا، إلاّ أنّي أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي"(1).
5 ـ وفي سند آخر أيضاً، عن عبدالله بن أرقم، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر بسورة براءة، فلمّا سار وبلغ بعض الطريق بعث النّبي علياً فلحقه وأخذ منه السورة، فذهب بها علي إِلى مكّة، فرجع أبو بكر إِلى النّبي متأثراً فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يؤدي عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي"(2).
6 ـ وأورد ابن كثير ـ المفسّر المعروف ـ عن أحمد بن حنبل، عن حَنَش، عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام)، أنّه عندما نزلت عشر آيات من سورة براءة على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)دعا أبا بكر وأعطاه إيّاها ليبلغها أهل مكّة، ثمّ بعث خلفي وأمرني بالذهاب خلفه وأخذ الكتاب منه، فعاد أبو بكر إِلى النّبي وقال: أنزل فيّ شيء؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): "لا، ولكنّ جبرئيل جاءني وقال: لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك"(3).
7 ـ ونقل ابن كثير هذا المضمون عينه عن زيد بن سبيع(4).
8 ـ كما أنّه روى هذا الحديث عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (محمّد الباقر(عليه السلام)) في تفسيره(5).
9 ـ وروى العلاّمة ابن الأثير وهو ـ الآخر ـ من علماء السُنة الكبار، في "جامع الأُصول" عن الترمذي عن أنس بن مالك، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل سورة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الخصائص ... للنسائي، ص 28.
2 ـ المصدر السّابق.
3 ـ تفسير ابن كثير، ج 2، ص 322.
4 ـ المصدر السابق.
5 ـ المصدر السابق.
[523]
براءة مع أبي بكر ثمّ دعاه، وقال: "لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذه إلاّ رجل من أهلي" فدعا علياً فأعطاه إيّاها(1).
10 ـ وروى محب الدين الطبري، في كتابه ذخائر العقبى، عن أبو سعيد أو أبي هريرة، أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أبا بكر أن يتولى أمر الحج، فلمّا مضى وبلغ ضجنان سمع أبو بكر صوت بعير علي فعرفه، فجاء إِلى علي وقال: فيم جئت؟ فقال(عليه السلام): أرسل النّبي معي سورة براءة. فلمّا رجع أبو بكر إِلى النّبي وأظهر تأثره من تغيير "الرسالة" قال له النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يبلغ عنّي غيري أو رجل مني" يعني علياً(2).
وقد صرحت روايات أُخرى أنّ النّبي أعطى ناقته علياً ليركبها ويأتي بها أهل مكّة فيبلغهم، فلمّا وصل منتصف الطريق سمع أبوبكر صوت ناقة رسول الله فعرفها.
وهذا النص ـ مع ما ورد آنفاً ـ يدل على أنّ الناقة كانت ناقة النّبي وقد أعطاها عليّاً، لأهمية ما أُمر به.
وقد روى هذا الحديث كثير من كتب أهل السنة مسنداً تارةً، ومرسلا تارةً أُخرى، وهو من الأحاديث المتفق عليها، ولا يطعن فيه أبداً.
وطبقاً لبعض الرّوايات الواردة عن أهل السنة أنّ أبا بكر لما صُرف عن إبلاغ سورة براءة، جعل أميراً على الحاج بمكّة.
توضيح وتحقيق:
هذا الحديث يثبت ـ بجلاء ـ فضيلة للإِمام علي(عليه السلام)، إلاّ أنّنا ـ ويا للأسف ـ نجد مثل هذه الأحاديث لا ينظر إليها بعين الإِنصاف والحق، إذ يسعى بعضهم إِلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جامع الأصول، ج 9، ص 475.
2 ـ ذخائر العقبى، ص 69.
[524]
محوها ونسيانها كليّاً، أو إلى التقليل من أهميتها وقيمتها بأساليب شتى ملتوية:
1 ـ فمثلا يتناول صاحب تفسير المنار تارةً ـ من الحديث آنف الذكر ـ المقطع الذي يتعلق بجعل أبي بكر أميراً على الحاج، ويختار الصمت والسكوت في بقية الحديث الذي يدور حول أخذ سورة من أبي بكر ليبلغها علي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال فيه(صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يبلغها إلاّ أنا أو رجل منّي" يعني عليّاً(عليه السلام).
مع أنّ سكوت قسم من الأحاديث عن هذا الموضوع لا يكون دليلا على أن نهمل جميع تلك الأحاديث الواردة في شأن علي(عليه السلام) ولا نأخذها بنظر الإِعتبار!!
فأُسلوب التحقيق يقتضي تسليط الضوء على الأحاديث الواردة في هذا الشأن كافة، حتى ولو كانت على خلاف ما يجنح إليه الكاتب وتميل نفسه، وأن لا يصدر عليها حكماً مسبقاً.
2 ـ ويقوم بعض المفسّرين تارةً بتضعيف سند الحديث، كما في بعض الأحاديث الواردة عن حنش والسمّاك "كما فعله المفسّر آنف الذكر".
مع أّن هذا الحديث ليس له طريق واحد أو طريقان، بل له طرق شتي في كتبهم المعتبرة.
3 ـ ومن العجيب الغريب أن يوجهوا مثل الحديث آنف الذكر توجيهاً مثيراً، فيقولون: إنّما أعطى النّبي سورة براءة عليّاً، لأنّ العرب اعتادت عند إلغاء المواثيق أو العهود أن يمضي الشخص بنفسه أو يرسل أحداً من أهله.
مع أنّه ورد التصريح عن النّبي:
أوّلا: من طرق متعددة، أنّ جبرئيل أمره بأن يبلغ علي سورة براءة أو هكذا أُمرت!...
ثانياً: إنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن طرقهم أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): ينبغي أن تبلغ سورة براءة، وإن لم تفعل فينبغي أن أبلغها أنا (مؤدي الحديث).
[525]
تُرى ألم يكن العباس عمّ النّبي أو أحد من أقارب النّبي موجوداً يومئذ بين المسلمين ! حتى يقول النّبي لعلي: إن لم تذهب فينبغي أن أذهب، لأنّه لا يبلغها عني إلاّ أنا أو رجل منّي؟!
ثالثاً: لم يذكروا دليلا لأصل هذا الموضوع، وهو أنّه كان من عادة العرب (كذا وكذا) وأكبر الظن أنّهم وجّهوا الحديث آنف الذكر وفق ميولهم ونزعاتهم!...
رابعاً: جاء في بعض الرّوايات المعتبرة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه" أو ما شابه ذلك.
وهذا التعبير يدل على أنّ النّبي كان يعدّ عليّاً كنفسه، ويعد نفسه كعلي أيضاً. وهذا المضمون تناولته آية المباهلة.
ونستنتج ممّا ذكرناه آنفاً أنّنا لو تركنا التعصب الأعمى والأحكام المسبقة جانباً، وَجدنا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بفعله هذا أبان أفضلية علي(عليه السلام) على جميع الصحابة (إنّه هذا إلاّ بلاغ).
* * *
[526]
الآيتان
بَرَآءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَـهَدتُّهم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ1 فَسِيحُوا فِى الاَْرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِى الْكَـفِرِينَ2
التّفسير
إلغاء عهود المشركين:
كانت في المجتمع الإِسلامي ومحيطه طوائف شتى، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يتخذ منها موقفاً خاصّاً يتناسب وموقفها منه.
فطائفة منها مثلا لم يكن لها أيُّ عهد مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك لم يكن له أيّ عهد معها.
وطوائف أُخرى عاهدت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية ـ وأمثالها ـ على ترك المخاصمة والمنازعة، وكانت عهود بعضهم ذات أجل مسمى، وبعض العهود لم تكن ذات أجل مُسمى.
وقد نقضت بعض تلك الطوائف عهودها من جانب واحد، وبدون أي سبب يجيز النقض وذلك بمظاهرتها أعداء الإِسلام. أو حاولت اغتيال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
[527]
كما هو الحال في يهود بني النضير وبني قريظة، فواجههم النّبي بشدة وطردهم من المدينة، لكن بعض المعاهدات بقيت سارية المفعول، سواء كانت ذات أجل مسمى أو لم تكن.
الآية الأُولى من الآيتين محل البحث تعلن للمشركين كافةً (براءة من الله ورسوله إِلى الذين عاهدتم من المشركين).
ثمّ أمهلتهم مدّة أربعة أشهر ليفكروا فيها ويحدّدوا موقفهم من الإِسلام، فإمّا أن يتركوا عبادتهم للأصنام، أو يتهيأوا للمواجهة والقتال، فقالت: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر(1) واعملوا أنّكم غير معجزي الله وأنّ الله مخزي الكافرين).
* * *
ملاحظتان
1 ـ هل يصحّ إلغاء المعاهدة من جانب واحد؟!
نحن نعرف أنّ الإِسلام أولى أهمية قصوى للوفاء بالعهد والإِلتزام بالمواثيق حتى مع الكفار والمشركين، وهنا ينقدح سؤال وهو: كيف أمر القرآن بإلغاء العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين من جانب واحد؟!
ويتّضح الجواب بملاحظة الأُمور التالية:
أوّلا: كما صرّح في الآيتين (7) و(8) من هذه السورة فإنّ إلغاء هذا العهد لم يكن دون أية مقدمة، بل هناك قرائن ودلائل ظهرت من جانب المشركين تدلّ على نقضهم عهدهم، وأنّهم كانوا على استعداد ـ في ما لو استطاعوا ـ أن يوجهوا ضربةً قاضية للمسلمين دون أدنى اعتناء بعهودهم التي عاهدوها، ومن المنطقي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "سيحوا" فعل أمر مشتق من "السياحة" ومعناها الجولة الهادثة.
[528]
أنّه إذا رأى الإِنسان عدوّه يتربص به ويستعد لنقض عهده، ولديه قرائن على ذلك وعلائم واضحة أن ينهض لمواجهته قبل أن يستغفله ويعلن إلغاء عهده ويردّ عليه بما يستحق.
ثانياً: ما المانع من إلغاء العهود والمواثيق التي تُفرض في ظروف استثنائية على بعض الأُمم والشعوب ـ فيضطرون مكرهين على قبولهم والرضا بها ـ من جانب واحد إذا حصلوا على القدرة الكافية لإِلغائها.
وعبادة الأصنام ليست عقيدةً ولا فكراً، بل هي خرافة ووهم باطل خطر، فيجب القضاء عليها وإزالتها من المجتمع الإِنساني، فإذا كانت قوة عَبَدة الأصنام وقدرتهم بالغة في الجزيزة العربية، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مجبوراً على معاهدتهم ومصالحتهم، فإنّ ذلك لا يعني أنّه لا يحق له إلغاء ـ معاهدته إذا ما قويت شوكته ـ وأن يبقى على عهده الذي يخالف العقل والمنطق والدراية.
وهذا يشبه تماماً ظهور مصلح كبير ـ مثلا ـ بين عبدة البقر، فيقوم بعمل إعلامي كبير، وحين يواجه ضغوطاً شديدة يضطر إِلى عقد هدنة بينهم وعندما يجتمع له أتباع بقدر كاف ينتفض لإِزالة هذه الخرافة، والأفكار المنحطة، ويلغي معاهدته.
ولهذا نلحظ أنّ هذا الحكم مختص بالمشركين، أمّا أهل الكتاب وسائر الأقوام الذين كانوا في أطراف الجزيرة العربية من الذين كانَ بينهم وبين النّبي نوع من المواثيق والمعاهدات، فقد بقيت على حالها ولم يلغ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مواثيقهم وعهودهم حتى وفاته.
أضف إِلى ذلك أن إلغاء عهود المشركين لم يكن قد حدث بصورة مفاجئة، بل أمهلوا مدّة أربعة أشهر، وأُعلن هذا القرار في الملأ العام، وفي اجتماع الحاج يوم عيد الأضحى، وفي البيت الحرام، لتكون لهم الفرصة الكافية للتفكير، ولتحديد الموقف، لعلهم يرجعون عن تلك الخرافة التي كانت أساس تفرقتهم
[529]
وتشتتهم وجهلهم، ويرتدعون عن خيانتهم. والله سبحانه لم يرض لهم أن يكونوا غافلين عن هذا القرار، فلم يسلبهم فرصة التفّكر، فإنّ لم يُسلموا فقد كانت لهم الفرصة الكافية للإِستعداد للمواجهة القتالية والحرب، لئلا تكون المواجهة غير متكافئة الطرفين.
فلو لم يكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليرعى الأُصول الإِنسانية والأخلاقية لما كان أمهلهم مدّة أربعة أشهر، والفرصة الكافية لأن توقظهم من نومتهم; أو يستعدوا لتهيئة القوّة القتالية المناسبة لمواجهة المسلمين ومحاربتهم إيّاهم بها.
أجل، لو لم يكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك لما أمهلهم ولحاربهم من يوم إلغاء المعاهدة!
ومن هنا فإنّنا نجد الكثير من أُولئك المشركين ـ عبدة الأصنام ـ راجعوا أنفسهم وفكروا مليّاً في التعاليم الإِسلامية حتى ثابوا إِلى رشدهم واعتنقوا الإِسلام.
2 ـ متى بدأت الأشهر الأربعة؟
هناك بين المفسّرين كلام كثير في الجواب على هذا السؤال، إلاّ أنّ ظاهر الآي يدل على أن المدّة بدأت منذ إعلان البلاغ المهم على المشركين، أي من يوم عيد الأضحى، وهو العاشر من شهر ذي الحجة، وانتهت في العاشر من شهر ربيع الثاني من السنة التالية.
ويؤيد ذلك ما ورد من حديث مروي عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) في هذا الشأن "راجع تفسير البرهان، ج 2، ص 103".
* * *
[530]
الآيتان
وَأَذنٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاْسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاَْكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِىءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَاب أَلِيم3 إِلاَّ الَّذِينَ عَـهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثمّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَـهرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ4
التّفسير
العهود المحترمة:
نلحظ في هاتين الآيتين البيّنتين مزيد تأكيد على موضوع إلغاء المعاهدات التي كانت بين النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمشركين، حتى أنّ تاريخ الإِلغاء قد أُعلن في هذه الآية إذ نقول: (وأذان من الله ورسوله إِلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جملة وأذان إلخ. معطوفة على جملة: براءة من الله. وهناك إحتمالات أُخرى في تركيب الجملة "ونظمها"، غير أن ما ذكرناه أكثر ظهوراً كما يبدوا.
[531]
وفي الحقيقة، أنّ الله سبحانه يريد في هذا الإِعلان العام في مكّة المكرمة، وفي ذلك اليوم العظيم، أن يوصد كل ذريعة يتذرع بها المشركون والأعداء، ويقطع ألسنة المفسدين، لئلا يقولوا: إنّهم أستغفلوا في الحملة أو الهجوم عليهم، وإن ذلك ليس من الشّهامة والرجولة.
كما أنّ التّعبير بـ "إلى الناس" مكان أن يقال "إِلى المشركين" يَدل على وجوب إبلاغ هذا "الأذان" والإِعلام لجميع الناس الحاضرين في مكّة ذلك اليوم، ليكون غير المشركين شاهداً على هذا الأمر أيضاً.
ثمّ يتوجه الخطاب في الآية إِلى المشركين أنفسهم ترغيباً وترهيباً، لعلهم يهتدون، إذ تقول الآية: (فإن تبتم فهو خير لكم).
أي أنّ الإِستجابة لرسالة التوحيد فيها صلاحكم وفيها خير لكم ولمجتمعكم ودنياكم وآخرتكم، فلو تدبّرتم بجد وصدق لرأيتم أن قبول الدعوة هو البلسم الشافي لكلّ جراحاتكم وليس في الأمر منفعة لله أو لرسوله.
ثمّ إنّ الآية تُحذر المخالفين المعاندين المتعصبين فتقول: (وإن توليتم فاعلموا أنّكم غير معجزي الله). فلا يمكنكم الخروج من دائرة قدرته المطلقة بحال.
وأخيراً فإنّ الآية أنذرت المعاندين المتعصبين قائلة: (وبشّرِ الذين كفروا بعذاب أليم).
وكما أشرنا من قبل فإنّ إلغاء هذه العهود من جانب واحد ـ ورفض عهد المشركين ـ يختص بأُولئك الذين دلّت القرائن على استعدادهم لنقض عهدهم وبدت بوادره، لذلك فإنّ الآية استثنت قسماً منهم لوفائهم بالعهد، فقالت (إلاّ الذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحَداً فأتموا إليهم عهدهم إِلى مدتهم إنّ الله يحبّ المتقين).
* * *
[532]
ملاحظات
1 ـ الحجُّ الأكبرُ!
اختلف المفسّرون في المراد من قوله تعالى: (يوم الحج الأكبر) والذي نستفيده من كثير من الرّوايات الواردة عن الفريقين، روايات أهل البيت(عليهم السلام)وأهل السنة، أنّه يوم العاشر من ذي الحجة "عيد الأضحى" وبتعبير آخر "يوم النحر".
وإنتهاء المدة باليوم العاشر من شهر ربيع الثّاني "للسنة العاشرة"، وفقاً لما جاء في المصادر الإِسلامية، دليل آخر على هذا الموضوع: أضف إِلى ذلك كله فإنّ يوم النحر في الواقع ينتهي فيه القسم الأساس من أعمال الحج، ومن هنا فيمكن أن يدعى ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر(1).
وأمّا سبب تسميته بالحج الأكبر، فلأنّه اجتمع في ذلك العام جميع الطوائف من المسلمين وعبدة الأوثان والمشركين، ]كما اعتادوا عليه في موسم الحج[ إلاّ أنّ هذا الأمر لم يتحقق في السنين التالية "لمنع غير المسلمين من الحج".
وهناك تفسير آخر مضافاً إِلى التّفسير المذكور آنفاً وهو أن المراد منه مراسم الحج في قبال مراسم العمرة التي يعبر عنها بالحج الأصغر.
وهذا التّفسير جاء في بعض الرّوايات الإِسلامية، ولا يمنع أن تكون كلتا العلّتين مدعاةً لهذه التسمية(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جاء في تفسير نور الثقلين، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: "إنّما سمّي الأكبر لأنّها كانت سنة حج المسلمون والمشركون ولم يحج المشركون بعد تلك السنة. (ج2، ص184)
2 ـ وجاء في التّفسير المذكور آنفاً عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) في جوابه لبعض أصحابه: الأكبر هويوم النحر والأصغر العمرة (ج 2، ص 186)
[533]
2 ـ المواد الأربع التي أُعلنت ذلك اليوم
وإن كان القرآن الكريم أعلن براءة الله من المشركين بشكل مطلق، إلاّ أنّ الذي يستفاد من الرّوايات أنّ عليّاً(عليه السلام) قد أُمر بإبلاغ أربع مواد إِلى الناس، وهي:
1 ـ إلغاء عهد المشركين.
2 ـ لا يحق للمشركين أن يحجّوا في المواسم المقبلة.
3 ـ منع العراة والحفاة من الطواف الذي كان شائعاً ومألوفاً حتى ذلك الوقت.
4 ـ منع المشركين من دخول البيت الحرام.
وقد جاء في تفسير مجمع البيان عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّ الإِمام علياً خطب في موسم الحج ذلك العام فقال: "لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن البيت مشرك، ومن كان له مدة فهو إلى مدته، ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر".
وفي بعض الرويات إشارة إِلى المادة الرّابعة، وهي عدم دخول المشركين وعبدة الأصنام البيت الحرام(1).
3 ـ من هم الذين كانت لهم عهود "إلى مدّة"
يظهر من أقوال المؤرخين وبعض المفسّرين أنّ الذين كانت لعهدهم مدة، هم جماعة من بني كنانه وبني ضمرة، فقد بقي من عهدهم في ترك المنازعة تسعة أشهر، وقد بقي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على عهده وفيّاً، لأنّهم بقوا أوفياء لعهدهم ولم يظاهروا المشركين في مواجهة الإِسلام حيت إنتهت مدّتهم(2).
وقد عدّ بعضهم طائفة بني خزاعة من هؤلاء الذين كان لعهدهم مدّة.(3)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جاء في بعض الرّوايات منع المشركين من دخول المسجد.
2 ـ تفسير مجمع البيان، ج 5، ذيل الآية محل البحث.
3 ـ تفسير المنار، ج 10، ذيل الآية محل البحث.
[534]
الآيتان
فَإِذَا انسَلَخَ الاَْشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ5 وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـمَ اللهِ ثمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ6
التّفسير
الشدّة المقرونة بالرّفق:
نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد إنتهاء مدّة إمهال المشركين "الأشهر الأربعة" وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)(1).
ثمّ يقول: (وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الفعل "انسلخ" مأخوذ من الإِنسلاخ ومعناه الخروج، وأصله من "سلخ الشاة" أي إخراج الشاة من جلدها عند الذبح.
2 ـ المرصد مأخوذ من الرّصد ويعني الطريق أو الكمين.
[535]
ويلاحظ في هذه الآية أربعة أوامر صارمة صادرة في شأن المشركين "إيصاد الطرق بوجههم، محاصرتهم، أسرهم، ثمّ قتلهم". وظاهر النص أنّ الأُمور الأربعة ليست على نحو التخيير، بل ينبغي ملاحظة الظروف والمحيط والزمان والمكان والأشخاص، والعمل بما يناسب هذه الأمور، فلو كان في الأسر والمحاصرة وإيصاد السبيل بوجه المشركين الكفاية فيها، وإلاّ فلا محيص عن قتالهم.
وهذه الشدّة متناغمة ومتوأئمّة مع منهج الإِسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها، وكما أشرنا إِلى ذلك سلفاً، فإنّ حرية الإِعتقاد "أي عدم إكراه أهل الأديان الأُخرى على قبول الإِسلام" تنحصر في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا تشمل عبدة الأوثان، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة، ولا ديناً كي تُلحظ بعين الإِحترام، بل هي تخلّف وخرافة وإنحراف وجهل، ولابدّ من استئصال جذورها بأي ثمن كان وكيف ما كان.
وهذه الشدّة والقوّة والصرامة لا تعني سدّ الطريق، ـ طريق الرجوع نحو التوبة ـ بوجههم، بل لهم أن يثوبوا إِلى رشدهم ويعودوا إِلى سبيل الحق، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فخلّوا سَبيلَهُم).
وفي هذه الحال، أي عند رجوعهم نحو الإِسلام، لن يكون هناك فرق بينهم وبين سائر المسلمين، وسيكونون سواءً وإياهم في الحقوق والأحكام.
(فإنّ الله غفور رحيم). يتوب على عباده المنيبين إليه.
وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر، كما يتّضح بجلاء أن هدف الإِسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة، وليس هو الإِستثمار أو الإِستعمار وإمتصاص المال، أو الإِستيلاء على أراضي الآخرين، إذ تقول الآية: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله).
أي عليك أن تعامل من يلجأ اليك من المشركين برفق ولطف، وامنحه
[536]
المجال للتفكير حتى يبيّن له محتوى دعوتك في كمال الإِرادة والحرية، فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.
ثمّ تضيف الآية قائلة: (ثمّ أبلغه مأمنه) وأوصله إِلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.
وأخيراً فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم، فتقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون).
فبناءً على ذلك لو فُتحت أبواب إكتساب المعرفة بوجوهم، فإنّه يؤمّل فيهم خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل ـ وإلتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.
وقد ورد في كتب السنة والشيعة أنّ أحد المشركين (عبدة الأصنام) سأل عليّاً(عليه السلام) بعد إلغاء المعاهدة فقال: يابن أبي طالب، لو أراد أحد أن يواجه النّبي بعد هذه المدّة "الأشهر الأربعة" ويسأله أو يسمع كلام الله منه، أهو آمن؟!
فقال علي(عليه السلام): أجل، إنّ الله يقول: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجرهُ)(1).
وهكذا تتوازن وتتساوى كفتا الشدّة المستفادة من الآية الأُولى ـ محل البحث ـ واللين المستفاد من الآية التي تليها، فإنّ سبيل التربية قائم على الشدة المشفوعة باللين، ليكون منهما الدواء الناجع.
* * *
ملاحظات
1 ـ ما المراد من الأشهر الحرم؟
بالرّغم من أنّ المفسّرين قد بحثوا كثيراً في هذا الشأن، إلاّ أنّه ـ مع ملاحظة ما جاء في الآيات المتقدمة ـ يظهر أنّ المراد منها هي أربعة الأشهر التي كانت مدّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 106 وتفسير الفخر الرازي، ص 226.
[537]
الإِمهال للمشركين، والتي بدأت من عاشر ذي الحجة للسنة التاسعة وإنتهت بالعاشر من شهر ربيع الثّاني من السنة العاشرة الهجرية.
وهذا التّفسير يعتقد به أغلب المحققين، والأهم من ذلك أنّ كثيراً من الرّوايات صرّحت بهذا المضمون أيضاً(1).
2 ـ هل الصّلاة والزّكاة شرطُ في قبول الإِسلام؟
يستفاد من الآيتين محل البحث أنّه لابدّ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لقبول توبة المشركين، ولهذا فقد استدل بعض فقهاء أهل السنة على أن ترك الصلاة والزكاة دليل على الكفر.
إلاّ أنّ الحق هو أنّ المراد من هذين الحكمين الإِسلاميين هو متى ما شك في إسلام شخص ما، كما هي الحال في المشركين يومئذ، فعلامة إسلامه أن يؤدي هاتين الوظيفتين "الصلاة، والزكاة".
أو أنّ المراد هو أن يُقرّوا بالصلاة والزكاة على أنّهما أمران إلهيان ويلتزموا بهما، ويعترفوا بهما على أنّهما فرضان واجبان وإن قصّروا في أدائمها، لأن هناك أدلة وافرة تقضي بأنّ تارك الصلاة أو الزكاة ليس كافراً، بل يعدّ إسلامه ناقصاً.
وبالطبع إن كان ترك الزكاة له دلالة على تحدّي الحكومة الاسلامية والثورة عليها فهو سبب للكفر، إلاّ أن هذا بحث آخر لا علاقة له بموضوعنا هذا.
3 ـ الإِيمان وليد العلم
يستفاد من الآيات محل البحث أنّ الباعث على عدم الإِيمان هو الجهل، وأساس الإِيمان الأصيل هو العلم، لهذا فينبغي توفير الإِمكانات اللازمة لإِرشاد الناس وهدايتهم ليعرفوا طريق الحقّ، ولا يقبلوا الإِسلام بواسطة التقليد الاعميق.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ورد في تفسير نور الثقلين، الجزء الثّاني منه ذيل الآية محل البحث حديث بهذا الشأن (فراجع إن شئت).
[538]
الآيات
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَـهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَـمُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ7 كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًَّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفَوهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَـسِقُونَ8 اشْتَرَوْا بِأَيَـتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون9 لاَيَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِن إِلاًَّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ10
التّفسير
المعتدون النّاقضون العَهدَ:
كما لاحظنا في الآيات السابقة الإِسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان ـ إلاّ جماعة خاصّة ـ وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه.
وفالآيات ـ محل البحث ـ بيان لعلة إلغاء العهود من قِبل الإِسلام، فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاماً إنكارياً: (كيف يكون للمشركين
[539]
عهد عند الله وعند رسوله)؟!
أي أنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قِبَلِ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ومن جانب واحد، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.
ثمّ استثنت الآية مباشرةً أُولئك الذين لم ينقضوا عهدهم، بل بقوا أوفياء له، فقالت: (إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحبّ المتقين).
وفي الآية التالية يُثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد، ويُستفهم عنه استفهاماً إنكارياً أيضاً، إذ تقول الآية: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًَّ ولا ذمّة).
وكلمة "الإلُّ" معناها القرابة، وقال بعضهم: إنّها تعني هنا العهد والميثاق.
فعلى المعنى الأوّل أي "القرابة" يكون المراد من ظاهر الآية أنّه بالرغم من أنّ قريشاً تربطها برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض المسلمين علاقة قربى، إلاّ أنّها لا ترقب هذه القرابة أو الرحم ولا ترعى حُرمتها، فكيف إذن تتوقع من النّبي والمسلمين احترامَ علاقتهم بها.
وعلى المعنى الثّاني تكون كلمة "إلّ" مؤكَّدةً بكلمة (ذمّة) وتعني العهد والميثاق أيضاً، قال الراغب في المفردات: إن "الإل" كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة تئل (أي تلمع) فلا يمكن إنكاره(1).
وتضيف الآيه معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت: (يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم).
لأن قلوبهم مليئة بالحقد والقسوة وطلب الإِنتقام وعدم الإِعتناء بالعهد وعلاقة القربى، وإن أظهروا المحبّة بألسنتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المفردات، ص 20.
[540]
وفي نهاية الآية إشارة إِلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم، فتقول: (وأكثرهم فاسقون).
وفي الآية التالية بيان لبعض علائم فسقهم وعصيانهم، إذ أعربت الآية عن ذلك على النحو التالي (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلا فصدوا عن سبيله).
وقد جاء في بعض الرّوايات أن أبا سفيان أقام مأدبة ودعا إليها جماعةً من الناس، ليثير حفيظتهم وعداوتهم بوجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الطريق.
ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تشير إِلى هذه القصة، إلاّ أن الظاهر أن الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه القصّة وما شاكلها حيث أغمضوا أعينهم وصدوا عن سبيل الله وآياته من أجل منافعهم المادية التي لا تدوم طويلا.
ثمّ تعقب الآية بالقول: (إنّهم ساء ما كانوا يعملون) فقد خسروا طريق السعادة وضيعوها، وحّرموا الهداية، وهُم في الوقت ذاته أوصدوا الطريق بوجه الآخرين، وأي عمل أسوأ من أن يحمل الإنسان وزره ووزر سواه!
أمّا في آخر آية من الآيات ـ محل البحث ـ فهي تأكيد آخر على ما ورد في الآيات المتقدمة، إذ تقول الآية: (لا يرقبون في مؤمن إلاًَّ ولا ذمة).
وهذه الخصلة فيهم لم يُبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم (وأُولئك هم المعتدون).
وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية تأكيد لما سبق من الآيات المتقدمة، إلاّ أنّ هناك فرقاً بينهما، حيث كان الكلام في ما سبق على عدم رعاية المشركين حرمةً لخصوص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المتقّين حوله (كيف وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًَّ ولا ذمّة) أمّا الآية محل البحث فالكلام فيها عن عدم رعايتهم حرمة لكل مؤمن (لا يرقبون في مؤمن إلاًَّ ولا ذمّة).
أي إن المشركين لا ينظرون اليكم (النّبي والخواص من الصحابة) نظرة تمتاز عن سواكم بل هذه النظرة ـ نظرة العداء والبغضاء ـ يَنظر بها المشركون إِلى
[541]
كلّ مؤمن، ولا يكترثون بكل شيء ولا يرعون حرمة ولا عهداً، فهم في الحقيقة أعداء الإِيمان والحقّ، وهم مصداق ما ذكره القرآن في شأن أقوام سابقين أيضاً حيث يقول: (وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)(1).
* * *
ملاحظتان
1 ـ من هم المستثنون في هذه الآية؟
جرى الكلام بين المفسّرين في الطائفة المستثناة من الحكم: (إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) فمن هؤلاء المستثنون في هذه الآية؟!
إلاّ أنّه بملاحظة الآيات السابقة، يظهر أن المراد من هذه الجملة هم أُولئك الذين بقوا على عهدهم ووفائهم، أي القبائل التي هي من بني ضمرة وبني كنَانة وبني خزيمة وأضرابهم.
وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة بمنزلة التأكيد للآيات السابقة، فإنّ على المسلمين أن يكونوا حذرين واعين، وأن يعرفوا هؤلاء الأوفياء بالعهد ويميزوهم عن سواهم الناكثين للعهد.
وما قوله تعالى: (عاهدتم عند المسجد الحرام) فلعل هذا التعبير يشير إِلى ما كان من معاهدة بين المسلمين والمشركين في السنة السادسة للهجرة، عند صلح الحديبية على بعد خمسة عشر ميلا عن مكّة، فقد التحق جماعة آخرون من مشركي العرب كالقبائل المشار إليها آنفاً بهذه المعاهدة حيث عاهدوا المسلمين عن ترك الخصام، إلاّ أن مشركي قريش نقضوا عهدهم، ثمّ أسلموا في السنة الثامنة عند فتح مكّة. أمّا الجماعة التي التحقت حينئذ من المشركين بمن عاهد المسلمين، فلم يسلموا ولم ينقضوا عهدهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة البروج، الآية 8.
[542]
ولمّا كانت أرض مكّة تستوعب منطقة واسعة "حولي 48 ميلا" فقد عُدّت المنطقة كلها جزءاً من المسجد الحرام، كما نقرأ عن ذلك في الآية (196) من سورة البقرة، إذ تذكر موضوع حج التمتع وأحكامه فتقول: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام).
والمعروف عند الفقهاء وفتاواهم أن أحكام حج التمتع إنما تجب على من تبعد داره "أو دار أهله" أكثر من 48 ميلا عن مكّة.
فبناءً على ذلك لا مانع أبداً من أن يطلق على الحديبية، التي تبعد 15 ميلا عن مكّة، تعبير: عند المسجد الحرام.
وأمّا قول بعضهم: إن الإِستثناء الوارد في الآية إنما هو في شأن مشركي قريش، الذين عدّ القرآن الكريم عهدهم الذي عقدوه في صلح الحديبية محترماً، فهذا القول يبدو بعيداً، بل هو غير صحيحى، لأنّه.
أوّلا: من المعلوم أنّ مشركي قريش نقضوا العهد، فنقضهم مقطوع به، ولا مراء فيه، فإن لم يكونوا قد نقضوا العهد، فمن الذين لم ينقضوا عهدهم إذاً؟!
ثانياً: إن صلح الحديبية إنّما كان في السنة السادسة للهجرة، بينما أسلم مشركو قريش في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكّة، فبناءً على ذلك فالآيات هذه النازلة في السنة التاسعة للهجرة، لا يمكن أن تكون ناظرةً إليهم.
2 ـ متى يجور الغاء المعاهدة؟
كما قلنا ذيل الآيات المتقدمة، فإنّ المراد من الآيات محل البحث لا يعني جواز الغاء العهد بمجرّد تصميم المشركين وعزمهم على نقض العهد عند بلوغهم القدرة، بل إنّهم أبدوا هذا الأسلوب وطريقة تفكيرهم عمليّاً مراراً، فمتى استطاعوا أن يوجهوا ضربتهم إِلى الإسلام دون الإِلتفات إِلى المعاهدة وجهوها. وهذا المقدار من عملهم كاف لإِلغاء عهدهم.
* * *
[543]
الآيات
فَإِنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ فَإِخْوَنُكُمْ فِى الدِّيِنِ وَنُفَصِّلُ الاَْيَـتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ11 وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَـنَهُمْ مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ فَقَـتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَـنَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ12 أَلاَ تُقَـتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَـنَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ13 قَـتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْم مُّؤْمِنينَ14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ15
التّفسير
لِمَ تخشونَ مقاتلةَ العدوِّ؟!
إنّ أحدَ أساليب الفصَاحة والبلاغة أن يكرر المتحدّث المطلب المهم بتعابير مختلفة للتأكيد على أهمية، وليكون له أثر في النفوس. ولما كانت مسألة تطهير
[544]
المحيط الإِسلامي من الوثنية وعبادة الأصنام وإزالة آثارها، من المسائل ذات الأهميّة القصوى، فإنّ القرآن يكرر هذه المطالب بعبارات جديدة ـ في الآيات محل البحث ـ ويورد القرآن كذلك لطائف تخرج المطلب ـ عن صورة التكرار، ولو التكرار المجازي.
فتقول الآية الأُولى من هذا الآيات محل البحث: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين).
وتضيف معقبةً (ونفصّل الآيات لقوم يعلمون).
وكان التعبير في الآيات المتقدمة أنّهم إذا أدّوا وظيفتهم الإِسلامية، أي تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة (فخلوا سبيلهم) أمّا التعبير في هذه الآية (فإخوانكم في الدين) أي لا فارق بينهم وبين أحد من المسلمين من حيث الإِحترام والمحبّة، كما لا فارق بين الإِخوان.
وهذه التعابير تؤثر من الناحية النفسية في أفكار المشركين وعواطفهم لتقبل الإِسلام، إذ تقول في حقّهم تارةً (فخلوا سبيلهم) وتارة (فإخوانكم في الدين)الخ...
ولكن لو استمر المشركون في نقض العهود، فتقول الآية التالية: (وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم).
صحيح أنّهم عاهدوكم على عدم المخاصمة والمقاتلة، إلاّ أن هذه المعاهدة ـ بنقضها مراراً، وكونها قابلةً للنقض في المستقبل ـ لا إعتبار لها أصلا ولا قيمة لها.
وتعقّب الآية مضيفةً (لعلهم ينتهون).
وفي الآية الأُخرى خطاب للمسلمين لإِثارة هممهم، وإبعاد روح الضعف والخوف والترددَ عنهم في هذا الأمر الخطير، إذ تقول الآية: (ألا تقاتلون قوماً نكثوا إيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول).
فعلام تقلقون وأنتم لم تبدأوهم بالقتال وإلغاء العهد من قبلكم (وهم بدأوكم
[545]
أوّل مرّة)؟
وإذا كان بعضكم يتردد في مقاتلتهم خشية، منهم، فإنّ هذه الخشية لا محل لها (أتخشونهم فالله أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).
وفي الآية التالية وعد بالنصر الحاسم للمسلمين، إذ تقول (قاتلوهم يعذبّهم الله بأيديكم).
وليس ذلك فحسب، بل، (ويخزِهم) (وينصركم عليهم).
وبهذا يشعر المؤمنون بالراحة والطمأنينة بعد أن كانوا يقاسون الألم والعذاب تحت وطأة هؤلاء المجرمين، ويزيل الله تعالى عن قلوبهم آلام المحنة بهذا النصر (ويُشفِ صدور قوم مؤمنين).
قال بعض المفسّرين: إنّ المراد من (قوم مؤمنين) هم جماعة المؤمنين من بني خزاعة، وقد استغفلهم عبدة الأوثان من بني بكر فهجموا عليهم غدراً.
وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من هذا التعبير هم جماعة من أهل اليمن استجابوا لدعوة الإِسلام، ولما وصلوا مكّة عُذّبوا وأوذوا من قبل عبدة الأصنام.
إلاّ أنّه لا يبعد أن تشمل هذه العبارة جميع أُولئك الذين تعرّضوا لأذى المشركين وعبدة الأصنام وتعذيبهم فكانت قلوبهم تغلي دماً منهم.
أمّا الآية التالية فتضيف: إنّ في إنتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سروراً للمؤمنين، وإنَّ الله يسدّدهم (ويذهب غيظ قلوبهم).
ويحتمل أن تكون هذه الجملة تأكيداً للجملة السابقة (ويشفِ صدور قوم مؤمنين) كما يحتمل أن تكون مستقلةً عنها. وأن تكون الجملة السابقة إشارة إِلى أنّ القلوب التي مرضت وتألمت سنين طوالا من أجل الإِسلام والنّبي الكريم، شُفيت بإنتصار الإِسلام.
وأمّا الجملة الثّانية (ويذهب غيظ قلوبهم) فهي إشارة أن أُولئك الذين فقدوا أعزّتهم وأحبّتهم بما لاقوه من تعذيب وحشي من قبل المشركين
[546]
فأغاظوهم، سُيقّر الله عيونهم بهلاك المشركين (ويذهب غيظ قلوبهم).
وتُختتم الآية بالقول: (ويتوب الله على من يشاءُ والله عليم حكيم).
كما تشير العبارة الأخيرة ضمناً إِلى امكانية أن يلج بعضهم باب التوبة، فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن الله يقبل توبتهم، فلا يعاملوهم بشدة وقسوة فلا يجوز ذلك. كما أن الجمل بنفسها تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإِسلام ويشملهم توفيق الله، لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابليّة.
وقد ذهب بعض المفسّرين أنّ الآيات الأخيرة ـ بصورة عامّة من قبيل الإخبار القراني بالمغيبات، وهي من دلائل صدق دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ ما أخبر عنه القرآن قد تحقق فعلا.
* * *
ملاحظات
1 ـ هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) من هم؟!
قال بعضهم: إنّ الآية تشير إلى اليهود، وإلى بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين وقاتلوهم بعد حين كالفُرس والرُّوم.
وقال بعضهم: هي إشارة إلى كفّار قريش.
وقال بعضهم: بل هي إشارة إلى المرتدين بعد إسلامهم.
إلاّ أنّ ظاهر الآيات يدلّ ـ بوضوح ـ على أن موضوعها هو جماعة المشركين وعبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين على عدم القتال والمخاصّة، إلاّ أنّهم نقضوا عهدهم.
وكان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.
كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إِلى قريش، لأنّ قريشاً
[547]
ورئيسها ـ أباسفيان ـ أعلنوا إسلامهم ـ ظاهراً ـ في السنة الثامنة بعد فتح مكّة، والسورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.
كما أنّ الإِحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّاً عن مفهوم الآية، لأنّ الآية ـ أو الآيات محل البحث ـ تتكلم عن مواجهة فعلية، لا على مواجهات مستقبلية أضف إلى ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.
كما أنّ الإِحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإِسلام، بعيد غاية البعد، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.
ثمّ إنّ كلمة "أيمان" جمع "يمين" وكلمة "عهد" يشيران إِلى المعاهدة بين المشركين والرّسول على عدم المخاصمة، لا إلى قبول الإِسلام. فلاحظوا بدقة.
وإذا وجدنا في بعض الرّوايات الإِسلامية أنّ هذه الآية طُبّقَتْ على "النّاكثين" في "معركة الجمل" وأمثالها، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية وحكمها يصدقان في شأن الناكثين ومن هم على شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.
والسؤال الوحيد الذي يفرض نفسه ويطلب الإِجابة، هو: إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم، وقد جرى الكلام عليهم في الآيات المتقدمة، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول: (وإن نكثوا أيمانهم) مع أنّهم قد نكثوها فعلا.
والجواب: إنّ المراد من هذه الجملة ـ المذكورة آنفاً ـ أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان، ولم يثوبوا إِلى رشدهم، فينبغي مقاتلتهم. ونظير ذلك ما جاء في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) ومفهومها أنّنا نطلب من الله أن يوفقنا لأنّ نسير على الصراط المستقيم وأن تستمّر هدايته إيانا.
[548]
والشاهد على هذا الكلام أنّ جملة (وإن نكثوا أيمانهم) جاءت في مقابل (فإن تابوا وأقاموا الصلاة) أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين، فإمّا أن يتوبوا ويعرضوا عن الشرك ويتجهوا نحو الله، وإمّا أن يستمرا على طريقهم ونكث أيمانهم. ففي الصورة الأُولى هم إخوانكم في الدين، وفي الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.
2 ـ ممّا يسترعي الإِنتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول: قاتلوا الكفار، بل تقول: (فقاتلوا أئمّة الكفر) وهي إشارة إِلى أن (القاعدة الجماهيرية) وعامّة الناس تبع لزعمائهم ورؤسائهم، فينبغي أن يكون الهدف القضاء على رؤسائهم وأئمتهم، لأنّهم أساس الضلال والتضليل والظلم والفساد، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها وأحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعاً مادام أئمتهم في الوجود، أضف إِلى ذلك فإنّ هذا التعبير يُعدّ ضرباً من ضروب النظرة البعيدة المدى وعلو الهمة وتشجيع المسلمين، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.
والعجيب أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان وأمثاله من زعماء قريش، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر، وأسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة ـ بحسب الظاهر ـ وكانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.
واليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقياً على قوته "ساري المفعول" فالكي نزيل الإِستعمار والفساد والظلم، لابدّ من مواجهة رؤوساء والأكابر وأئمّة المنحرفين، وإلاّ فلا جدوى من مواجهة من دونهم من الأفراد، فلا حظوا بدقة.
3 ـ إنّ التّعبير بـ (إخوانكم في الدين) الوارد في الآيات المتقدمة، من ألطف التعابير التي يمكن أن يُعبَّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع، وبيان أوثق العلائق العاطفية، لأنّ أجلى العلائق العاطفية وأقربها في الناس التي تمثل
[549]
المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.
إلاّ أنّ من المؤسف أن الإِنقسامات الطبقية والنداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإِسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها، ووقف الإِخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يُصدق، وقد يقاتل كلُّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال، وهذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.
4 ـ يستفاد ـ إجمالا ـ من جملة "أتخشونهم" أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الإِستجابة للأمر بالجهاد، إمّا لقوّة العدوّ وقدرته، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنباً.
فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر الله. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإِيمان ونقض العهد ليست في محلها، فهم الذين نكثوا أيمانهم وهم بدأوكم أوّل مرّة!
5 ـ يبدو أنّ جملة (همّوا بإخراج الرسول) إشارة إِلى مسألة عزمهم على إخراج الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة (عند هجرته إِلى المدينة) باديء الأمر، إلاّ أن نياتهم تغيرت وتبدلت إِلى الإقدام على قتله، إلاّ أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر الله.
وعلى كل حال، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس على سبيل أنّهم نقضوا عهدهم، بل هو بيان ذكرى مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام، حيث اشتركت قريش والبقائل الأُخرى في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحاً من طرق أُخرى.
6 ـ ممّا يثير الدهشة والتعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل على مذهبه بالآية (فاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنى دليل على مرادهم، وهذا يشبه تماماً لو أردنا أن ننجز
[550]
عملا ـ مثلا ـ فنمضي إِلى بعض أصدقائنا ونقول له: نأمل أن يصلح الله هذا الأمر على يدك، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور على أداء هذا الأمر، بل المراد أنّ الله منحك قدرةً ونية طاهرة، وبالإِفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك وبحرية تامّة.
* * *
[551]
الآية
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَـهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنيِنَ وَلِيجَةً واللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ16
التّفسير
في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر، حيث تُحمِّلُ الآية المسلمين مسؤولية ذات عبء كبير، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أن كلّ شيء سيكون تامّاً بادعائكم الإِيمان فحسب، بل يتجلى صدق النيّة وصدق القول والإِيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالا خالصاً من أي نوع من أنواع النفاق.
فتقول الآية أوّلا: (أم حسبتم أن تُتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله المؤمنين وليجة)(1).
و"الوليجة" مشتقة من "الولوج" ومعناه الدخول، وتطلق الوليجة على من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "أم" حرف عطف ويُعطف بها جملة إستفامية على جملة إستفهامية أُخرى، ولهذا فهي تعطي معنى الإِستفهام، غاية ما في الأمر أنّها تأتي بعد جملة إستفهامية دائماً، وفي الآية محل البحث عطفت على الجملة "ألا تقاتلون" التي بُدئت بها الآية (13).
[552]
يُعتمد عليه في الأسرار ومعناها يُشبه معنى البطانة تقريباً.
وفي الحقيقة فإنّ الجملة المتقدمة تُنّبه المسلمين إِلى أنّ الأعمال لا تكمل بإظهار الإِيمان فحسب، ولا تتجلى شخصية الأشخاص بذلك، بل يعرف الناس باختبارهم عن طريقين:
الأوّل: الجهاد في سبيل الله لغرض محو آثار الشرك والوثنية.
الثاني: ترك أية علاقة أو أي تعاون مع المنافقين والأعداء.
فالأوّل لدفع العدو الخارجي، والثّاني يحصّن المجتمع من خطر العدو الداخلي.
وجملة (لمّا يعلم الله) التي قد يلاحظ نظيرها في بعض آيات القرآن الأُخر، تعني أن أمركم لم يتحقق بعدُ، وبتعبير آخر: إنّ نفي العلم هنا معناه نفي المعلوم، ويستعمل مثل هذا التعبير في مواطن التأكيد. وإلاّ فإنّ الله ـ طبقاً للأدلة العقلية وصحيح آيات القرآن الكثيرة ـ كان عالماً بكل شيء، وسيبقى عالماً بكل شيء.
وهذه الآية تشبه الآية الأُولى من سورة العنكبوت، إذ تقول: (ألم* أحسب النّاس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتتنون).
وكما ذكرنا آنفاً في تفسيرنا لسورة آل عمران أنّ إختبار الله لعباده ليس لكشف أمر مجهول عنده، بل هو لتربيتهم ولأجل إنّما الإِستعدادات وتجلّي الأسرار الداخلية في الناس.
وتُختتم الآية بما يدلّ على الإِخطار والتأكيد (والله خبير بما تعملون).
فلا ينبغي أن يتصور أحدّ أنّ الله لا يعرف العلائق السرّية بين بعض الافراد وبين المنافقين، بل يعرف كل شيء جيداً وهو خبير بالأعمال كلها.
ويستفاد من سياق الآية أن بين المسلمين يومئذ من كان حديث العهد بالإِسلام ولم يكن على استعداد للجهاد، فيشمله هذا الكلام أمّا المجاهدون الصادقون فقد بيّنوا مواقفهم في سوح الجهاد مراراً.
* * *
[553]
الآيتان
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَـجِدَ اللهِ شَـهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أَوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـلَهُمْ وَفِى النَّارِهُمْ خَـلِدُونَ17 إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـجِدَ اللهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْيُومِ الاَْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أَوْلَـئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ18
التّفسير
مَن يعمر مساجد الله؟
من جُملة المسائل التي يمكن أن تخالط اذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين وحكم الجهاد، هو: لِمَ نُبْعِد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه "المادية والمعنوية" إذ يستفاد من إعاناتهم المهمّة لبناء المسجد الحرام، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاجّ والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت الله
فالآيتان ـ محل البحث ـ تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس
[554]
لها، وتصّرح الآية الأُولى منهما بالقول: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر).
وشهادتهم على كفرهم جلية من خلال أحاديثهم وأعمالهم، بل هي واضحة في طريقة عبادتهم ومراسم حجّهم.
ثمّ تشير الآية إِلى فلسفة هذا الحكم فتقول: (أُولئك حبطت أعمالهم).
ولذلك فهي لا تجديهم نفعاً: (وفي النّار هم خالدون).
فمع هذه الحال لا خير في مساعيهم لعمارة المسجد الحرام وبنائه وما إِلى ذلك، كما لا فائدة من كثرتهم واحتشادهم حول الكعبة.
فالله طاهر منزّه، وينبغي أن يكون بيته طاهراً منزّهاً كذلك، فلا يصح أن تمسه الأيدي الملوثة بالشرك.
أمّا الآية التّالية فتذكر شروط عمارة المسجد الحرام ـ إكمالا للحديث آنف الذكر ـ فتبيّن خمسة شروط مهمّة في هذا الصدد، فتقول; (إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر).
وهذا النص إشارة إِلى الشرطين الأوّل والثّاني، اللذين يمثلان الأساس العقائدي، فما لم يتوفر هذان الشرطان لا يصدر من الإِنسان أي عمل خالص نزيه، بل لو كان عمله في الظاهر سليماً فهو في الباطن ملّوث بأنواع الأغراض غير المشروعة.
ثمّ تشير الآية إِلى الشرطين الثّالث والرّابع فتقول: (وأقام الصلاة وآتى الزكاة).
أي أن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب، بل تؤيده الأعمال الكريمة، فعلاقة الإِنسان بالله ينبغي أن تكون قوية محكمة، وأن يؤدي صلاته باخلاص، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد الله وخلقه قوية، فيؤدي الزكاة إليهم.
[555]
وتشير الآية إِلى الشرط الخامس والأخير فتقول: (ولم يخشَ إلاّ الله).
فقلبه مليءٌ بعشق الله، ولا يحسُّ إلاّ بالمسؤولية في امتثال أمره ولايرى لأحد من عبيده أثراً في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.
ثمّ تضيف الآية معقبة بالقول: (فعسى أُولئك أو يكونوا من المهتدين)فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.
* * *
ملاحظات
1 ـ ما المراد من العمارة
هل تعني عمارة المسجد بناءه وتأسيسه وترميمه، أو تعني الإِجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده؟!
إختار بعض المفسّرين أحد هذين المعنيين في تفسير "عمارة المسجد" في الآية ـ محل البحث ـ غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأُمور وما شاكلّها جميعاً. فليس للمشركين أن يحضروا في المساجد، وليس لهم أن يبنوا مسجداً ـ وما إِلى ذلك ـ بل على المسلمين أن يقوموا بكل ذلك.
ويستفاد من الآية ـ ضمناً ـ أنّه لا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا من المشركين ـ بل جميع الفرق غير الإِسلامية ـ هدايا أو إعانات للمساجد وبنائها، لأنّ الآية الأُولى وإن كانت تتكلم على المشركين، لكنّ الآية الثّانية بدأت بكلمة "إنما" لتدل على أن عمارة مساجد الله خاصّة بالمسلمين.
ومن هنا يتّضح أيضاً أنّ متولي المساجد ومسؤوليها ينبغي أن يكونوا من أنزه الناس، ولا يُنتخب لهذه المهمّة من لا حريجة له في الدين طمعاً في ماله وثروته، أو مقامه الإِجتماعي كما هو الحال في كثير من البلاد، إذ تولّى مساجدها
[556]
من ليس لها أهلا.
بل يجب ابعاد جميع الأيدي الملوثة عن هذه الأماكن المقدسة.
ومنذ أن تدخل في اُمور المساجد والمراكز الإِسلامية أو أشرف عليها حكام الجور، أو الأثرياء المذنبون، فقدت تلك المساجد والمراكز الإِسلامية "حيثيتها" ومكانتها ومُسخت مناهجها البنّاءة، ولذا فنحن نرى كثيراً من هذه المساجد على شاكلة مسجد ضرار.
2 ـ العمل الخالص ينبع من الإِيمان فحسب
قد يتساءل بعضنا قائلا: ما يمنع أن نستعين بأموال غير المسلمين لبناء المساجد وعمارتها؟!
لكن من يسأل مثل هذا السؤال لم يلتفت إِلى أنّ الإِسلام يعد العمل الصالح ثمرة شجرة الإِيمان في كل مكان، فالعمل ثمرة نيّة الإِنسان وعقيدته دائماً وهو انعكاس لها ويتخذ شكلهما ولونهما دائماً، فالنيات غير الخالصة لا تنتج عملا خالصاً.
3 ـ الحماة الشجعان
تدل عبارة (ولم يخشَ إلاّ الله) على أنّ عمارة المسجد المحافظة عليها لا تكون إلاّ في ظل الشهامة والشجاعة، فلا تكون هذه المراكز المقدسة مراكز لبناء شخصية الإِنسان وذات منهج تربوي عال إلاّ اذا كان بانوها وحماتها رجالا شجعاناً لا يخشون أحداً سوى الله، ولا يتأثرون بأي مقام، ولا يطبقون منهجاً غير المنهج الإِلهي.
4 ـ هل المراد من الآية هو المسجد الحرام فحسب؟!
يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تختص بالمسجد الحرام، مع أنّ
[557]
ألفاظ الآية عامّة، ولا دليل على هذا التخصيص، وإن كان المسجد الحرام الذي هو أعظم المساجد الإِسلامية في مقدمتها، ويوم نزول الآية كان المسجد الحرام هو محل إشارة الآية، إلاّ أنّ ذلك لايدلّ على تخصيص مفهوم الآية.
5 ـ أهمية بناء المساجد
وردت أحاديث كثيرة في أهمية بناء المساجد عن طرق أهل البيت وأهل السنة، تدّلُ على ما لهذا العمل من الشأن الكبير.
فقد ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من بنى مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة"(1).
كما ورد عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له مادام في ذلك المسجد ضوؤه"(2).
إلاّ أنّ ما هو أكثر أهميةً هذا اليوم هو عمارة المسجد المعنوية، وبتعبير آخر ينبغي أن نهتم بعمارة شخصية الذين يرتادون المسجد وأهله وحفظته اهتمامنا بعمارة المسجد ذاته.
فالمسجد ينبغي أن يكون مركزاً لكل تحرك إسلامي فاعل يؤدي إِلى إيقاظ الناس، وتطهير البيئة والمحيط، وحثّ المسلمين للدفاع عن ميراث الإِسلام.
وينبغي الإِلتفاوت إِلى أن المسجد جدير بأن يكون مركزاً للشباب المؤمن، لا محلا للعجزة والكسالى والمقعدين، فالمسجد مجال للنشاط الإِجتماعي الفعال، لا مجال العاطلين والبطّالين والمرضى.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ورد هذا الحديث في كتاب وسائل الشيعة، الباب 8 من أبواب أحكام المساجد كما ورد عن ابن عباس في تفسير المنار، ج 1، ص 213.
2 ـ كتاب المحاسن، ص 57 حسب نقل كنزالعرفان، ج 1، ص 108.
[558]
الآيات
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَجَـهَدَ فِى سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَووُنَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ19 الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنَد اللهِ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَآئِزُونَ20 يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة مِّنْهُ وَرِضْوَن وَجَنَّـت لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ21 خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ22
سبب النّزول
هناك روايات مختلفة في سبب نزول الآيات ـ محل البحث ـ منقولة في كتب أهل السنة والشيعة، ونورد هنا ما يبدو أكثر صحة.
يروي "أبو القاسم الحسكاني" عالم أهل السنة المعروف، عن بريدة، أن "شيبة" و"العباس" كان يفتخر كلُّ منهما على صاحبه، وبينما هما يتفاخران إذ مرّ عليهما علي بن أبي طالب(عليه السلام) فقال: فيم تتفاخران؟
فقال العباس: حُبيت بما لم يُحبَ به أحد وهو سقاية الحاج.
[559]
فقال شيبة: إني أعمر المسجد الحرام، وأنا سادن الكعبة.
فقال علي(عليه السلام): على أنّي مستحي منكما، فلي مع صغر سني ما ليس عندكما.
فقالا: وما ذاك؟!
فقال: جاهدت بسيفي حتى آمنتما بالله ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم).
فخرج العباس مغضباً إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شاكياً عليّاً فقال: ألا ترى ما يقول؟
فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): أدعو لي عليّاً فلمّا جاءه علي قال(صلى الله عليه وآله وسلم): لِمَ كلّمت عمّك العباس بمثل هذا الكلام؟ فقال(عليه السلام): إذا كنت أغضبته، فلما بينّتُ من الحق، فمن شاء فليرضَ بالقول الحق ومن شاء فليغضب.
فنزل جبرئيل(عليه السلام) وقال: يا محمّد، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول: اتل هذه الآيات: (اجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله)(1).
وقد وردت هذه الرواية بالمضمون ذاته مع اختلاف يسير في التعابير في كتب كثيرة لأهل السنة، كتفسير الطبري والثعلبي، وأسباب النّزول للواحدي وتفسير الخازن البغدادي، ومعالم التنزيل للعلاّمة البغوي، والمناقب لابن المغازلي، وجامع الأصول لابن الأثير، وتفسير الفخر الرازي، وكتب أُخرى.(2)
وعلى كل حال، فالحديث آنف الذكر من الأحاديث المعروفة والمشهورة، التي يقرّ بها حتى المتعصبون، وسنتكلم عنه مرّة أُخرى بعد تفسير الآيات.
التّفسير
مقياس الفخر والفضل:
مع أنّ للآيات ـ محل البحث ـ شأناً في نزولها، إلاّ أنّها في الوقت ذاته
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير مجمع البيان، ذيل الآيات محل البحث.
2 ـ لمزيد الإِيضاح يراجع كتاب إحقاق الحق، ج 3، ص 122 ـ 127.
[560]
تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة، ونظير ذلك كثير في القرآن.
فالآية الأُولى من هذه الآيات تقول: (أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم والآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين).
"السقاية" لها معنى مصدريٌ وهو إيصال الماء للآخرين، وكما تعني المكيال، كما جاء في الآية 70 من سورة يوسف (فلمّا جهّزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه) وتعني الإِناء الكبير أو الحوض الذي يُصب فيه الماء.
وكان في المسجد الحرام بين بئر زمزم والكعبة محل يوضع فيه الماء يدعى بـ "سقاية العباس" وكان معروفاً آنئذ، ويبدو أنّ هناك إناءً كبيراً فيه ماء يستقى منه الحاج يومئذ.
ويحدثنا التأريخ أنّ منصب "سقاية الحاج" قبل الإِسلام كان من أهل المناصب، وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة، وكانت حاجة الحاج الماسة في أيّام الحج إِلى الماء في تلك الأرض القاحلة اليابسة المرمضة(1) التي يقل فيها الماء، وجوّها حار أغلب أيّام السنة، وكانت هذه الحاجه الماسة تولي موضوع "سقاية الحاج" أهميّة خاصّة، ومن كان مشرفاً على السقاية كان يتمتع بمنزلة اجتماعية نادرة، لأنّه كان يقدم للحاج خدمة حياتية.
وكذلك "عمارة المسجد الحرام" أو سدانته ورعايته، كان لها أهميته الخاصّة، لأنّ المسجد الحرام حتى في زمن الجاهلية كان يعدّ مركزاً دينياً، فكان المتصدي لعمارة المسجد أو سدانته محترماً.
ومع كل ذلك فإنّ القرآن يصّرح بأنّ الإِيمان بالله وباليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أفضل من جميع تلك الأعمال وأشرف.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "المرمضة" مشتقة من "الإِرماض" أي شديدة الحر، والأرض الرمضاء كذلك: شدية الحر.
[561]
أمّا الآية التالية فتوضح ما أجملته الآية السابقة وتؤكّده بالقول: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأُولئك هم الفائزون).
وأمّا الآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ فتقول: إنّ الله أنعم على المؤمنين والمهاجرن والمجاهدين في سبيله ثلاثَ مواهب هي:
1 ـ (يبشّرهم ربّهم برحمة منه).
2 ـ (ورضوان).
23 ـ (وجنات فيها لهم نعيم مقيم).
وتعقب الآية الأخيرة لمزيد التوكيد بالقول (خالدين فيها أبداً إنّ الله عند أجر عظيم).
* * *
ملاحظتان
1 ـ تحريف التاريخ
كما قرأنا آنفاً في شأن نزول الآيات محل البحث، وطبقاً لرواية وردت في كثير من كتب الآيات أهل السنة الشهيرة، أنّها نزلت في علي(عليه السلام) وبيان فضائله، على أنّ مفهوم الآيات عام واسع "وقد قلنا مراراً بأن أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآي".
إلاّ أنّ بعض مفسّري أهل السنة لم يرغب في أن تثبت للإِمام علي(عليه السلام)فضائل بارزة مع اعتقادهم بأنّه رابع خلفاء المسلمين! وكأنّهم خافوا إن أذعنوا لما يجدونه عند علي(عليه السلام) من الفضائل أن يقف الشيعة أمامهم متسائلين: لم قدّمتم على علي غيره؟
فلذلك أغمضوا النظر عن كثير من مناقبه وفضائله، وسعوا جاهدين لأن
[562]
يقدحوا في سند الرواية التي تذكر فضل علي(عليه السلام) على غيره أو في دلالتها.
ويا للأسف ما زال هذا التعصب المقيت ممتداً إِلى عصرنا الحاضر، حتى أنّ بعض علمائهم المثقفين لم يسلموا من هذا الداء الوبيل والتعصب دون دليل!
ولا أنسى المحاورة التي جرت بيني وبين بعض علماء أهل اسنة، إذ أظهر كلاماً عجيباً عند ذكرنا لمثل هذه الأحاديث، فقال: في عقيدتي أنّ الشيعة يستطيعون أن يثبتوا جميع معتقدات مذهبهم "أصولها وفروعها" من مصادرنا وكتبنا، لأنّ في كتبنا أحاديث كافية لصالح آراء الشيعة وصحة مذهبهم.
إلاّ أنّه من أجل أن يريح نفسه من جميع هذه الكتب، قال: أعتقد أن أسلافنا كانوا حسني الظن، وقد أوردوا كل ما سمعوه في كتبهم، فليس لنا أن نأخذ كل ما أوردوه ببساطة!! "طبعاً كان حديثه يشمل الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة وما هو عندهم في المرتبة الأُولى".
فقلت له: ليس هذا هو الأُسلوب في التحقيق، حيث يعتقد إنسان ما بمذهب معين، لأنّ آباءه كانوا عليه وورثه عن سلفه، فما وجده من حديث ينسجم ومذهبه قال: إنّه صحيح، وما لم ينسجم حكم عليه بعدم الصحة، لأنّ السلف الصالح كان حسن الظن، حتى لو كان الحديث معتبراً.
فما أحسن أن نختار أُسلوباً آخر للتحقيق بدل ذلك، وهو أن نتجرّد من عقيدتنا الموروثة ثمّ ننتخب الأحاديث الصحيحة دون تعصب.
ونسأل الآن: لماذا سكتوا عن الأحاديث الشهيرة التي تذكر فضل علي وعلو مقامه، بل نسوها وربّما طعنوا فيها، فكأن مثل هذه الأحاديث لا وجود لها أصلا؟
ومع الإِلتفات إِلى ما ذكرناه آنفاً، ننقل كلاماً لصاحب تفسير "المنار" المعروف، إذ أهمل شأن نزول الآيات محل البحث المذكور آنفاً، ونقل رواية لا تنطبق ومحتوى الآيات أصلا، وينبغي أن نعدّها حديثاً مخالفاً للقرآن، فقال عنها: إنّها معتبرة!
[563]
وهي ما نُقَل عن النعمان بن بشير إذ يقول: كنت جالساً في عدة من أصحاب النّبي إلى جوار منبره، فقال بعضهم: لا أرى عملاً بعد الإِسلام أفضل من سقاية الحاج وإروائهم، وقال الآخر: إن عمارة المسجد الحرام أفضل من كل عمل، فقال الثالث، في سبيل الله أفضل ممّا قلتما.
فنهاهم عمر عن الكلام وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ـ وكان ذلك اليوم يوم الجمعة ـ ولكنّي سأسأل رسول الله بعد الفراغ من الصلاة ـ صلاة الجمعة ـ في ما اختلفتم فيه.
وبعد أن أتمّ صلاته جاء إِلى رسول الله فسأله عن ذلك، فنزلت الآيات محل البحث(1).
إلاّ أنّ هذه الرّواية لا تنسجم والآيات محل البحث من عدّة جهات، ونحن نعرف أن كلّ رواية مخالفة للقرآن ينبغي أن تطرح جانباً ويُعرضَ عنها; لأنّه:
أوّلا: لم يكن في الآيات محل البحث قياس ما بين الجهاد وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، بل القياس ما بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من جهة، والإِيمان بالله واليوم الآخر والجهاد من جهة أُخرى، وهذا يدل على أن من كان يقوم بمثل السقاية والعمارة في زمان الجاهلية كان يقيس عمله بالإِيمان والجهاد. فالقرآن يصرّح بأنّ سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام لا يستويان ـ كل منهما ـ مع الإِيمان بالله والجهاد في سبيله وليس القياس بين الجهاد وعمران المسجد وسقايه الحاج (لاحظ بدقة).
ثانياً: إنّ جملة (والله لا يهدي القوم الظالمين) تدل على أن أعمال الطائفة الأُولى كانت معروفة بالظلم، وإنما يفهم ذلك فيما لو كانت هذه الأعمال صادرة في حال الشرك، لإنّ القرآن يقول (إن الشرك لظلم عظيم)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير المنار، ج 10، ص 215.
2 ـ سورة لقمان: الآية 13.
[564]
ولو كان القياس بين الإِيمان وسقاية الحاج المقرونة بالإِيمان والجهاد، لكانت جملة (والله لا يهدي القوم الظالمين) لغواً ـ والعياذ بالله ـ لأنّها حينئذ لا مفهوم لها هنا.
ثالثاً: إنّ الآية الثّانية ـ محل البحث ـ التي تقول (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة) مفهومها أن أُولئك أفضل وأعظم درجة ممن لم يؤمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا في سبيل الله، وهذا المعنى لا ينسجم وكلام النعمان ـ آنف الذكر ـ لأنّ المتكلمين وفقاً لحديثه كلهم مؤمنون ولعلهم أسهموا في الهجرة والجهاد.
رابعاً: كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إقدام المشركين على عمارة المساجد وعدم جواز ذلك: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) والآيات محل البحث تعقب على الموضوع ذاته، ويدل هذا الأمر على أن موضوع الآيات هو عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج حال الشرك، وهذا لا ينسجم ورواية النعمان.
والشيء الوحيد الذي يمكن أن يُستدلَ عليههو التعبير بـ(أعظم درجة)حيث يدل على أن الطرفين المقيسين كل منهما حسن بنفسه، وإن كان أحدهما أعظم من الآخر.
إلاّ أنّ الجواب على ذلك واضح، لأنّ أفعل التفضيل غالباً تستعمل في الموازنة بين أمرين، أحدهما واجد للفضيلة والآخر غير واجد، كأن يقال مثلا: الوصول متأخراً خير من عدم الوصول، فمفهوم هذا الكلام لا يعني أن عدم الوصول شيء حسن، لكن الوصول بتأخير أحسن.
أو أننا نقرأ في القرآن (والصلح خير) أي من الحرب ]سورة النساء الآية 28[ فهذا لا يعني أنّ الحرب شيء حسن.
أو نقرأ مثلاً (ولعبد مؤمن خير من مشرك) ]سورة البقرة الآية 221[ ترى
[565]
هل المشرك حسن وفيه خير؟!
أو نقرأ في سورة التوبة ذاتها (الآية 108) (لمسجد أسس على التقوى من يوم أحق أن تقوم فيه) أي أحق من مسجد ضرار الذي بناه المنافقون للعبادة، مع أننا نعرف أن العبادة في مسجد ضرار ليست بحق أبداً، فنظير هذه التعابير في القرآن واللغة العربية، بل في سائر اللغات كثير.
من مجموع ما ذكرناه نستنتج أن رواية النعمان بن بشير لأنّها مخالفة لمحتوى القرآن ينبغي أن تطرح وتنبذ جانباً، وأن نأخذ بما يسنجم وظاهر الآي، وهو ما قدمناه بين يدي تفسير هذه الآيات، على أنّه سبب لنزولها، وأنّه لفضيلة كبرى لإِمام الإسلام العظيم علي(عليه السلام).
نسأل الله أن يثبت أقدامنا على متابعة الحق وأهله من الأئمّة الصالحين، وأن يجنبنا التعصب، ويفتح أبصارنا وأسماعنا وأفكارنا لقبول الحق.
2 ـ ما هو مقام الرضوان
يستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ مقام الرضوان الذي هو من أعظم المواهب التي يهبها الله المؤمنين والمجاهدين في سبيله، هو شيءٌ غير الجنات والنعيم المقيم وغير رحمته الواسعة.
وسنتناول بيان هذا الموضوع ذيل الآية (72) من هذه السورة، في تفسير جملة (ورضوان من الله أكبر) إن شاء الله.
* * *
[566]
الآيتان
يَـأَيُهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَنَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الاِْيمَـنِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأَوْلَـئِكَ هُمُ الظَـلِمُونَ23 قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَنُكُمْ وَأَزْوَجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـسِقِينَ24
التّفسير
كلّ شيء فَداءٌ للهدف:
إنّ آخر وسوسة أو ذريعة يمكن أن يتذرع بها جماعة من المسلمين للامتناع عن جهاد المشركين (وفعلا فقد تذرع بعضهم وفقاً لما ورد في قسم من التفاسير) بأن من بين المشركين وعبدة الأوثان أقارب لهم، فقد يُسلم الأب ويبقى ولده في الشرك على حاله، وقد يقع العكس إذ يخطو الابن نحو توحيد الله ويبقى أبوه مشركاً، وهذه الحالة ربّما كانت موجودة بين الأخ وأحيه، والزوج
[567]
وزوجه، والفرد وعشيرته أو قبيلته، وهكذا.
فإذا كان القرار أن يجاهد الجميع المشركين فلابدّ أن يغمضوا أعينهم عن أرحامهم وأقاربهم وعشيرتهم الخ. هذا كلّه من جهة.
ثمّ ومن جهة أُخرى كانت رؤوس الأموال والقدرة التجارية بيد المشركين تقريباً، ولهذا يسبب تردد المشركين إِلى مكّة ازدهار التجارة.
ومن جهة ثالثة كان للمسلمين في مكّة بيوت عامرّة نسبياً، فإذا قاتلوا المشركين فمن المحتمل أن يهدمها المشركون، أو تفقد قيمتها إذا عطل المشركون مراسم الحاج ومناسكه بمكّة.
فالآيتان ـ محل البحث ـ ناظرتان إِلى مثل هؤلاء الأشخاص، وتردّان عليهم ببيان صريح، فتقول الآية الأُولى منهما: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ان استحبوا الكفر على الإِيمان).
ثمّ تعقب ـ على وجه التأكيد ـ مضيفةً: (ومن يتولهم منكم فأُولئك هم الظالمون).
وأي ظلم أسوأ من أن يظلم الإِنسان نفسه بتعلقه بأعداء الحق والمشركين، ويظلم مجتمعه، ويظلم نبيّه أيضاً؟!
أمّا الآية التالية فهي تتناول هذا الموضوع بنحو من التفصيل والتأكيد والتهديد والتقريع، فتخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليعنف أُولئك الذين لا يرغبون في جهاد المشركين لما ذكرناه آنفاً، فتقول (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).
ولما كان ترجيح مثل هذه الأُمور على رضا الله والجهاد في سبيله، يعدّ نوعاً من العصيان والفسق البيّن، وإن من تشبث قلبه بالدنيا وزخرفها وزبرجها غير جدير بهداية الله، فإنّ الآية تعقب في الختام قائلةً (والله لا يهدي القوم
[568]
الفاسقين).
وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي في شأن الآيتين مايلي: "لما أذّن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك، جزعت قريش جزعاً شديداً، وقالوا: ذهبت تجارتنا وضاعت علينا وخربت دورنا، فأنزل الله في ذلك قل (يا محمّد) الخ ....
والآيتان ـ محل البحث ـ ترسمان خطوط الإِيمان الأصيل وتميزانها عن الإِيمان المبطن بالشرك والنفاق.
كما أنّهما تضعان حداً فاصلا بين المؤمنين الواقعيين وبين ضعاف الإِيمان، وتقول إحداهما بصراحة: إن كانت هذه الأُمور الثمانية "في الحياة المادية" التي يتعلق أربعة منها بالأرحام والأقارب (آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم).
ويتعلق قسم منها بالمجتمع و"العشيرة".
والقسم السّادس يرتبط بالمال.
والسابع بالتجارة والإِكتساب.
وأمّا الثامن ـ وهو الأخير ـ فيتعلق بالمساكن ذات الأناقة "ومساكن ترضونها".
فإذا كانت هذه الأُمور الثمانية ـ المذكورة آنفاً ـ أغلى وأعزّ وأحب عند الإِنسان من الله ورسوله، والجهاد في سبيله وامتثال أوامره، حتى أن الإِنسان لا يكون مستعداً بالتضحية بتلك الأُمور الثمانية من أجل الله والرّسول والجهاد، فيتّضح أن إيمانه الواقعي لم يكمل بعدُ!
فحقيقة الإِيمان وروحه وجوهره، كل ذلك يتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأُمور من دون تردد.
أضف إِلى ذلك، فإن من لم يكن مستعداً للتضيحة بمثل تلك الأُمور، فقد ظلم
[569]
نفسه ومجتمعه في الواقع، كما أنّه سيقع في ما كان يخاف من الوقوع فيه لأنّ الأُمّة التي تتلكأ في اللحظات الحساسة من تأريخها المصيري، وفي المآزق الحاسمة، فلا يضحي أبناؤها بمثل ذلك، فستواجه الهزيمة عاجلا أو آجلا، وسيتعرض كلّ ما تعلقت القلوب به فلم تجاهد من أجله الى خطر الضياع والتلف بيد الأعداء.
* * *
ملاحظات
1 ـ ما قرأناه في الآيتين ـ محل البحث ـ ليس مفهومه قطع علائق المحبة بالأرحام، وإهمال رؤوس الأموال الإِقتصادية، والإِنسياق إِلى تجاوز العواطف الإِنسانية وإلغائها، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إِلى الأموال والأزواج والأولاد والدور والمقام الدنيوي، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم الله، أو لا نرغب في الجهاد، ويحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.
لهذا يلزم على الإِنسان إذا لم يكن على مفترق الطرق أن يرعى الجانبين "العلاقة بالله والعلاقة بالرحم".
فنحن نقرأ في الآية (15) من سورة لقمان، قوله تعالى في شأن الأبوين المشركين (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً).
2 ـ إنّ أحد تفاسير جملة (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) ما أشرنا إليه آنفاً، وهو التهديد من قبل الله لأُولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية ويفضلونها على رضا الله، ولما كان هذا التهديد مجملا كان أثره أشدَّ وحشة وإشفاقاً، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه وتحت أمره، فيقول له: إذا لم تفعل ما
[570]
أمرتك، فسأقوم بما ينبغي أيضاً.
وهناك إحتمال آخر لتفسير الجملة ـ محل البحث ـ وهو أنّ الله سبحانه يقول: إذا لم تكونوا مستعدين للتضيحة، فإنّ الله يفتح لنبيّه عن طريق آخر. وكيف شاء، إذ ليس ذلك بعسير عليه. ونظير هذا المعنى ما جاء في الآية (54) من سورة المائدة، إذ نقرأ فيها (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبّونه).
الماضي والحاضر مرهونان بهذا الأمر:
3 ـ قد يتصور بعضهم بأنّ ما جاء في الآيتين يخص صدر الإِسلام والتاريخ الماضي، إلاّ أنّ ذلك خطأ كبير، فالآيتان تستوعبان حاضر المسلمين ومستقبلهم أيضاً.
فإذا قُدّر للمسلمين أن لا يضحوا بأموالهم وأنفسهم وأولادهم ودورهم الخ ... في سبيل الله، ولا يكون لهم إيمان متين، ويفضلون الأمور المادية على ر ضا الله، وتبقى قلوبهم متعلقة بالمال والأولاد وزبارج الدنيا، فيكون مستقبلهم مظلماً، لا مستقبلهم فحسب، بل حتى يومهم هذا، ففي مثل هذا الحال سيحدق بهم الخطر وسيفقدون موروثهم الحضاري، وتكون مصادر حياتهم بأيدي الاجانب ويفقدون معنى الحياة، لأن الحياة هي حياة الإِيمان والجهاد في ظل الإِيمان.
فعلينا أن نغرس مدلول هاتين الآيتين في قلوب اطفال المسلمين وشبابهم ونجعله شعاراً لنا، ونحيي في نفوس المسلمين روح التضحية والجهاد، ليحافظوا على ثقافتهم وموروثهم المعرفي.
* * *
[571]
الآيات
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَة وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الاَْرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثمّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ25 ثمّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودَاً لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَـفِرِينَ26 ثمّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ27
التّفسير
الكثرة وحدَها لا تجدي نفعاً:
في الآيات المتقدمة رأينا أنّ الله سبحانه يدعوا المسلمين إِلى التضحية والجهاد على جميع الصُعد في سبيل الله وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان، ويهدد بشدّة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة.
أمّا الآياتمحل البحث فتشير إِلى مسألة مهمّة، وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف
[572]
الايمان والذين يحجبهم التعلّق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل اللّه، فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر، وعليهم أن يواصلوا طريقهم، لأنّ الله لم يتخلَّ عنهم يوم كانوا قلةً، كما هو الحال في معركة بدر، ولا يوم كانوا كثرةً ـ ملء العين (كما في معركة حنين) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئاً، لكن اللّه سبحانه أنزل جنوداً لم تروها، وعذب الذين كفروا، فالله في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده ...
لهذا فإن الآية الأُولى من الآيات محل البحث تقول (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة).
والمواطن جمع الموطن، ومعناه المحل الذين يختاره الإِنسان للسكن الدائم، أو المؤّقت، إلاّ أن من معانيه أيضاً ساحة الحرب والمعركة، وذلك لأنّ المقاتلين يقيمون في مكان الحرب مدّة قصيرة أو طويلة أحياناً.
ثمّ تضيف الآية معقبةً (ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم) وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفاً، وقال بعض المؤرخين: كانوا عشرة آلاف أو ثمانية آلاف، غير أنّ الرّوايات المشهورة تؤيد ما ذكرناه آنفاً، إذ تقول: إنّهم كانوا اثني عشر ألفاً، وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإِسلامية قبل ذلك الحين، حتى إغتّر بعض المسلمين وقالوا: "لن نغلب اليوم".
إلاّ أنّه ـ كما سنبيّن الموضوع في الحديث على غزوة حنين ـ قد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم، لكونهم جديدي عهد بالإِسلام ولم يتوغل الإِيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدوّ أن يغلبهم لولا أن الله أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم.
ويصور القرآن هذه الهزيمة بقوله (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ وليتم مدبرين).
[573]
وفي هذه اللحظات الحساسة حيث تفرق جيش الإِسلام هنا وهناك، ولم يبق مع النّبي إلاّ القلة، وكان النّبي مضطرباً ومتألّماً جدّاً لهذه الحالة نزل التأييد الإلهي: (ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها).
وكما قلنا في حديثنا عن غزوة بدر في ذيل الآيات الخاصّة بها، أن نزول هذه الجنود غير المرئية كانَ لشدّ أزر المسلمين وتقوية معنوياتهم، وإيجاد روح الثبات والإِستقامة في نفوسهم وقلوبهم، ولا يعني ذلك اشتراك الملائكة والقوى الغيبية في المعركة(1).
ويَذكُر القرآن النتيجة النهائية لمعركة حنين الحاسمة فيقول (وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين).
وكان هذا العذاب والجزاء أن قُتل بعض الكافرين، وأُسر بعضهم، وفرّ بعضهم إِلى مناطق بعيدة عن متناول الجيش الاسلامي.
ومع هذا الحال فإنّ الله يفتح أبواب توبته للأسرى والفارين من الكفّار الذين يرغبون في قبول مبدأ الحق "الإِسلام" لهذا فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول: (ثمّ يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم).
وجملة "يتوب" التي وردت بصيغة الفعل المضارع، والتي تدل على الإِستمرار، مفهومها أن أبواب التوبة والرجوع نحو الله مفتوحة دائماً بوجه التائبين.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد من الإِيضاح يراجع تفسير الآيات 9 ـ 12 من هذا الجزء نفسه.
[574]
ملاحظات
1 ـ غزوة حنين ذات العبرة
"حُنين" منطقة قريبة من الطائف، وبما أنّ الغزوة وقعت هناك فقد سميّت باسم المنطقة ذاتها، وقد عُبّر عنها في القرآن بـ "يوم حنين" ولها من الأسماء ـ غزوة أوطاس، وغزوة هوازن أيضاً.
أمّا تسميتها بأوطاس، فلأن "أوطاس" أرض قريبة من مكان الغزوة ـ وأمّا تسميتها بهوازن، فلأن إحدى القبائل التي شاركت في غزوة حنين تُدعى بهوازن.
أمّا كيف حدثت هذه العزوة، فبناءً على ما ذهب إليه ابن الأثير في الكامل، أن هوازن لمّا علمت بفتح مكّة، جمع القبيلة رئيسها مالك بن عوف وقال لمن حوله: من الممكن أن يغزونا محمّد بعد فتح مكّة، فقالوا: من الأحسن أن نبدأه قبل أن يغزونا.
فلما بلغ ذلك النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر المسلمين أن يتوجهوا إِلى أرض هوازن(1).
وبالرغم من عدم الإِختلاف بين المؤرخين في شأن هذه الغزوة والمسائل العامّة فيها، إلاّ أنّ في جُزئياتها روايات متعددة لا يكاد بعضها ينسجم مع الآخر، وما ننقله هنا فقد اقتضبناه عن مجمع البيان للعلامة الطبرسي، بناءً على روايته القائلة: إنّ رؤساء طائفة هوازن جاءوا إِلى مالك بن عوف واجتمعوا عنده في أُخريات شهر رمضان أو شوال في السنة الثامنة للهجرة، وكانوا قد جاءوا بأموالهم وأبنائهم وأزواجهم لئلا يفكر أحدهم بالفرار حال المعركة، وهكذا فقد وردوا منطقة أوطاس.
فعقد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لواءَه، وسلمّه عليّاً(عليه السلام) وأمر حَمَلة الرايات الذين ساهموا في فتح مكّة أن يتوجهوا براياتهم ذاتها مع علي بن أبي طالب إِلى حُنين، واطّلع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 261، نقلنا القصة بشيء من الإِختصار.
[575]
النّبي أن صفوانَ بن أمية لديه دروع كثيرة، فأرسلَ النّبي إليه أن أعرنا مئة درع، فقال صفوان: أتريدونها عاريةً أم غصباً؟ فقال النّبي: بل عارية نضمنها ونعيدها سالمه إليك، فأعطى صفوان النّبي مئة درع على أنّها عارية، وتحرك مع النّبي بنفسه إِلى حُنين.
وكان ألفا شخص قد أسلم في فتح مكّة، فأضيف عددهم إِلى العشرة آلاف الذين ساهموا في فتح مكّة، وصاروا حوالي اثني عشر ألفاً، وتحركوا نحو حنين.
فقال مالك بن عوف ـ وكان رجلا جريئاً شهماً ـ لقبيلته: اكسروا أغماد سيوفكم، واختبئوا في كهوف الجبال والوديان وبين الأشجار، واكمنوا لجيش الإِسلام، فإذا جاءوكم الغداة "عتمةً" فاحملوا عليهم وأبيدوهم.
ثمّ أضاف مالك بن عوف قائلا: إن محمّداً لم يواجه حتى الآن رجال حرب شجعانَاً، ليذوق مرارة الهزيمة!!
فلما صلّى النّبي صلاة الغداة "الصبح" بأصحابه أمر أن ينزلوا إِلى حنين، ففوجئوا بهجوم هوازن عليهم من كل جانب وصوب، وأصبح المسلمون مرمى لسهامهم، ففرّت طائفة من المقاتلين جديدي الإِسلام (بمكّة) من مقدمة الجيش، فكان أن ذُهل المسلمون واضطروا وفرّ الكثير منهم.
فخلّى الله بين جيش المسلمين وجيش العدو، وترك الجيشين على حالهما، ولم يحمِ المسلمين لغرورهم ـ مؤقتاً ـ حتى ظهرت آثار الهزيمة فيهم.
إلاّ أنّ عليّاً حامل لواء النّبي بقي يقاتل في عدّة قليلة معه، وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في (قلب) الجيش وحوله بنو هاشم، وفيهم عمه العباس، وكانوا لا يتجاوزون تسعة أشخاص عاشرهم أيمن ابن أم أيمن.
فمرّت مقدمة الجيش في فرارها من المعركة على النّبي فأمر النّبي عمّه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن يصعد على تل قريب وينادي فوراً: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إِلى أين
[576]
تفرّون؟ هذا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم).
فلّما سمع المسلمون صوت العباس رجعوا وقالوا: لبيّك لبيّك، ولا سيما الأنصار إذ عادوا مسرعين وحملوا على العدوّ من كل جانب حملة شديدة، وتقدّموا بأذن الله ونصره، بحيث تفرقت هوازن شذر مذر مذعورة، والمسلمون ما زالوا يحملون عليها. فقتل حوالي مئة شخص من هوازن، وغنم المسلمون أموالهم كما أسروا عدّة منهم(1).
ونقرأ في نهاية هذه الحادثة التأريخية أن ممثلي هوازن جاءوا النّبي وأعلنوا إسلامهم، وأبدى لهم النّبي صفحه وحُبّه، كما أسلم مالك بن عوف رئيس القبيلة، فردّ النّبي عليه أموال قبيلته وأسراه، وصيره رئيس المسلمين في قبيلته أيضاً.
والحقيقة أنّ السبب المهم في هزيمة المسلمين باديء الأمر ـ بالإِضافة إِلى غرورهم لكثرتهم ـ هو وجود ألفي شخص ممن أسلم حديثاً وكان فيهم جماعة من المنافقين طبعاً، وآخرون كانوا قد جاءوا مع النّبي لأخذ الغنائم، وجماعة منهم كانوا بلا هدف، فأثر فرار هولاء في بقية الجيش.
أمّا السرّ في إنتصارهم النهائي فهو وقوف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام) وجماعة قليلة من الأصحاب، وتذكرهم عهودهم السابقة وإيمانهم بالله والركون إِلى لطفه الخاص ونصره.
2 ـ من هم الفارّين
ممّا لا شك فيه أنّ الأكثرية الساحقة فرّت باديء الأمر من ساحة المعركة، وما تبقى منهم كانوا عشرةً فحسب، وقيل أربعة عشر شخصاً، وأقصى ما أوصل عددُهم المؤرخون لم يتجاوزوا مئة شخص.
ولما كانت الرّوايات المشهورة تصّرح بأن من بين الفارين الخلفاء الثلاثة،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ج 5، ص 17 ـ 19.
[577]
فإنّ بعض المفسّرين سعى لأن يعدّ هذا الفرار أمراً طبيعياً.
يقول صاحب تفسير المنار ما ملَخصُه: لما رشق العدوّ المسلمين بسهامه، كان جماعة قد التحقوا بالمسلمين من مكّة، وفيهم المنافقون وضعاف الإِيمان والطامعون "للغنائم" ففرّ هؤلاء جميعاً وتقهقروا إِلى الخلف، فاضطرب باقي الجيش طبعاً، وحسب العادة ـ لا خوفاً ـ فقد فرّوا أيضاً، وهذا أمر طبيعي عند فرار طائفة فإنّه يتزلزل الباقي منهم فيفر أيضاً ـ ففرارهم لا يعني ترك النّبي وعدم نصرته أو تسليمه بيد عدوه، حتى يستحقوا غضب الله!!(1)
ونحن لا نعلّق على هذا الكلام، لكن نتركه للقراء ليحكموا فيه حكمهم.
كما ينبغي أن نذكر هذه المسألة وهي أنّ "صحيح البخاري" حين يتكلم عن الهزيمة وفرار المسلمين ينقل ما يلي:
فإذا عمر بن الخطاب في الناس، وقلت: (الراوي): ما شأن الناس؟ قال: أمر الله، ثمّ تراجع الناس إِلى رسول الله(2).
غير أننا تجرّدنا من الأحكام المسبقة، وإلتفتنا إِلى القرآن الكريم، وجدناه لا يذم جماعةً بعينها، بل يذم جميع الفارين.
ولا ندري ما الفرق بين قوله تعالى (ثمّ وليتم مدبرين) حيث قرأنا هذه العبارة في الآيات محل البحث، وبين عبارة أُخرى وردت في الآية (16) من سورة الأنفال إذ تقول (ومن يولهم يومئذ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إِلى فئة فقد باء بغضب من الله)؟!
فبناءً على ذلك لو ضممنا الآيتين بعضهما إِلى بعض لعرفنا أنّ المسلمين إرتكبوا خطأً كبيراً يومئذ إلاّ القليل منهم، غاية ما في الأمر أنّهم تابوا بعدئذ ورجعوا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير المنار، وأقرار التفصيل فيه، ج 1، الصفحات 262 و 263 و 265.
2 ـ المصدر السابق.
[578]
3 ـ الإِيمان والسكينة
السكينة في الأصل مأخوذة من السكون، وتعني نوعاً من الهدوء أو الإِطمئنان الذي يبعد كل نوع من أنواع الشك والخوف والقلق والإِستيحاش عن الإِنسان، ويجعله راسخ القدم بوجه الحوادث الصعبة والملتوية. والسكينة لها علاقة قربى بالإِيمان، أي أنّ السكينة وليدة الإِيمان، فالمؤمنون حين يتذكرون قدرة الله التي لا غاية لها، ويتصورون لطفه ورحمته يملأ قلوبهم موج الأمل ويغمرهم الرجاء.
وما نراه من تفسير السكينة بالإِيمان في بعض الرّوايات(1)، أو بنسيم الجنّة متمثلا في صورة إنسان(2) كل ذلك ناظر إِلى هذا المعنى.
ونقرأ في القرآن في الآية (4) من سورة الفتح قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم)
وعلى كل حال فهذه الحالة نفسية خارقة للعادة، وموهبة إلهية بحيث يستطيع الإِنسان أن يهضم الحوادث الصعبة، وأن يحس في نفسه عالماً من الدعة والإِطمئنان برغم كلّ ما يراه.
وممّا يسترعي النظر أن القرآن ـ في الآيات محل البحث ـ لا يقول: ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعليكم، مع أنّ جميع الجمل في الآية تحتوي على ضمير الخطاب (كم)، بل تقول الآية (على رسوله وعلى المؤمنين) وهي إشارة إِلى أن المنافقين وأهل الدنيا والذين كانوا مع النّبي في المعركة لم ينالوا سهماً من السكينة والإِطمئنان، بل كانت السكينة من نصيب المؤمنين فحسب.
ونقرأ في بعض الرّوايات أن نسيم الجنّة هذا كان مع أنبياء الله ورسله(3)،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 114.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص201.
3 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 112.
[579]
فلذلك كانوا ـ في الحوادث الصعبة التي يفقد فيها كل إنسان توازنه إزاءها ـ أصحاب عزم راسخ وسكينة وإطمئنان، وإرادة حديدية لا تقبل التزلزل.
وكان نزول السكينة على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة حنين ـ كما ذكرنا آنفاً ـ لرفع الإِضطراب الناشيء من فرار أصحابه من المعركة، وإلاّ فهو كالجبل الشامخ الركين، وكذلك ابن عمّه علي(عليه السلام) وقلة من أصحابه (المسلمين).
4 ـ في الآيات محل البحث إشارة إِلى أنّ الله نصر المسلمين في مواطن كثيرة!
هناك كلام كثير بين المؤرخين حول عدد مغازي النّبي وحروبه، التي أسهم فيها(صلى الله عليه وآله وسلم) شخصيّاً، وقاتل الأعداء، أو حضرها دون أن يقاتل بنفسه، أو الحروب التي وقف فيها المسلمون بوجه أعدائهم ولم يكن الرّسول حاضراً في المعركة.
إلاّ أنّه يستفاد من بعض الرّوايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيت(عليهم السلام) أنّها تبلغ الثمانين غزوةً.
وقد ورد في كتاب (الكافي) أن أحد خلفاء بني العباس كان قد نذر مالا كثيراً إن هو عوفي من مرضه "ويقال أنّه قد سُمَّ"، فلما عُوفي جمع الفقهاء الذين كانوا عنده، فسألهم عن المال الذي يجب أداؤه لإِيفاء نذره، فلم يعرفوا للمسألة جواباً. وأخيراً سأل الخليفة العباسي الإِمام التاسع محمّد بن علي الجواد(عليه السلام) فقال: "الكثير ثمانون".
فلمّا سألوه عن دليله في ذلك استشهد الإِمام بالآية (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ثمّ قال: عددنا حروب النّبي التي إنتصر فيها المسلمون على أعدائهم فكانت ثمانين(1).
5 ـ إن ما ينبغي على المسلمين أن يعتبروا به ويلزمهم أن يأخذوا منه درساً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 197.
[580]
بليغاً، هو أن ينظروا إِلى الحوادث التي هي على شاكلة حادثة حنين، فلا يغتروا بكثرة العَدَد أو العُدد، فالكثرة وحدها لا تغني شيئاً، بل المهم في الأمر وجود المؤمنين الراسخين في الإيمان، ذوي الإِرادة والتصميم، حتى لو كانوا قلةً.
كما أنّ طائفة قليلة استطاعت أن تغير هزيمة حنين إِلى إنتصار على العدو وكانت الكثيرة باديء الأمر سبب الهزيمة، لأنّها لم تنصهر بالإِيمان تماماً.
فالمهم أن يتوفر في مثل هذه الحوادث أناس مؤمنون ذوو استقامة وتضحية، لتكون قلوبهم مركزاً للسكينة الإِلهية، وليكونوا كالجبال الراسخة بوجه الأعاصير المدمرة.
* * *
[581]
الآية
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَيَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ28
التّفسير
لايحقُّ للمشركين أنْ يَدخُلُوا المسجد الحَرَام:
قلنا: إن واحداً من الأُمور الأربعة التي بلّغها الإِمام علي(عليه السلام) في موسم الحج في السنة التاسعة للهجرة، هو أنّه لا يحق لأحد من المشركين دخول المسجد الحرام، أو الطواف حول البيت، فالآية محل البحث تشير إِلى هذا الموضوع وحكمته، فتقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا).
وهل الآية هذه دليل على نجاسة المشرك بالمفهوم الفقهي، أو لا؟!
هناك كلام بين الفقهاء والمفسّرين، ومن أجل تحقيق معنى الآية يلزمنا التحقيق في كلمة "نجس" قبل كل شيء...
"النَجَس" على زنة "الهَوس" كلمة ذات معنى مصدري، وتأتي للتأكيد والمبالغة والوصف.
يقول الراغب في مفرداته: إنّ النجاسة والنجس يطلقان على كل قذارة، وهي
[582]
على نوعين: قذارة حسية، وقذارة باطنية.
ويقول الطبرسي في مجمع البيان: كل ما ينفر منه الإِنسان يقال عنه: إنّه نجس.
فلذلك فإنّ كلمة نجس تستعمل في موارد كثيرة ـ حتى في ما لا مفهوم للنجاسة الظاهرية فيه ـ فمثلا يسمّي العرب الأمراض الصعبة المزمنة أو التي لا علاج لها بـ "النجس" كما يطلق على الشخص الشّرير، أو الساقط خُلقياً، أو الشيخ الهرم، أنّه نَجس.
ومن هنا يتّضح أنّه مع ملاحظة ما جاء في الآية ـ محل البحث ـ لا يمكن الحكم بأنّ إطلاق كلمة نجس على المشركين تعني أن أجسامهم قذرة كقذارة البول والدم والخمر وما إِلى ذلك أو لعقيدتهم "الوثنية" فهي قذارة باطنية، ومن هنا لا يمكن الإِستدلال بهذه الآية على نجاسة الكفار، بل ينبغي البحث عن أدلة أُخرى.
ثمّ تعقب الآية على ذوي النظرة السطحية الذين كانوا يزعمون بأن المشركين إذا انقطعوا عن المسجد الحرام ذهبت تجارتهم وغدوا فقراء معوزين فتقول (وإن خفتم علية فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء).
كما فعل ذلك سبحانه على خير وجه، فباتساع رقعة الإِسلام في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ سيل الزائرين يتجه نحو بيت الله في مكّة، وما زال هذا الأمر مستمراً حتى عصرنا الحاضر حيث أصبحت مكّة في أحسن الظروف فهي بين سلسلة جبال صخرية لا ماء فيها ولا زرع، لكنّها مدينة عامرة، وقد صارت بإذن الله مركزاً مهماً للبيع والشراء التجارة.
ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلا: (إن الله عليم حكيم) فكل ما يأمركم به الله فهو وفق حكمته، وهو عليم بما سيؤول إليه أمره من نتائج مستقبلية، وهو خبير بذلك.
* * *
[583]
الآية
قَـتِلُوا الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَد وَهُمْ صَـغِرُونَ29
التّفسير
مسؤوليتنا إزاء أهل الكتاب:
كان الكلام في الآيات السابقة عن وظيفة المسلمين إزاء المشركين، أمّا الآية ـ محل البحث (وما يليها من الآي) ـ فتبيّن تكليف المسلمين ووظيفتهم إزاء أهل الكتاب.
وفي هذه الآيات جعل الإِسلام لأهل الكتاب سلسلة من الأحكام تعدّ حدّاً وسطاً بين المسلمين والكفار، لأنّ أهل الكتاب من حيث اتّباعهم لدينهم السماوي لهم شبه بالمسلمين، إلاّ أنّهم من جهة أُخرى لهم شبه بالمشركين أيضاً.
ولهذا فإنّ الإِسلام لا يجيز قتلهم، مع أنّه يجيز قتل المشركين الذين يقفون بوجه المسلمين، لأنّ الخطة تقضي بقلع جذور الشرك والوثنية من لكرة الأرضية، غير أنّ الإِسلام يسمح بالعيش مع أهل الكتاب في صورة ما لو احترم
[584]
أهل الكتاب الإِسلام، ولم يتآمروا ضده، أو يكون لهم إعلام مضاد.
والعلامة الأُخرى لموافقتهم على الحياة المشتركة السلمية مع المسلمين هي أن يوافقوا على دفع الجزية للمسلمين، بأن يعطوا كل عام إِلى الحكومة الاسلامية مبلغاً قليلا من المال بحدود وشروط معينة سنتناولها في البحوث المقبلة إن شاء الله.
وفي غير هذه الحال فإنّ الإِسلام يصدر أمره بمقاتلتهم، ويوضح القرآن دليل شدة هذا الحكم في جمل ثلاث في الآية محل البحث:
إذ تقول الآيه أوّلا: (قاتلو الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر).
لكن كيف لا يؤمن أهل الكتاب ـ كاليهود والنصارى ـ بالله وباليوم الآخر، مع أننا نراهم في الظاهر يؤمنون بالله ويقرون بالمعاد أيضاً؟
والجواب: لأنّ إيمانهم مزيج بالخرافات والأوهام، أمّا في مسألة الإِيمان بالمبدأ وحقيقة التوحيد، فلأنّه:
أوّلا: يعتقد طائفة من اليهود ـ كما سنرى ذلك في الآيات المقبلة ـ أن عزيراً ابن الله، كما يتعقد المسيحيون عامّة بألوهية المسيح والتثليث ]الله والابن وروح القدس[.
وثانياً: كما يُشار إليه في الآيات المقبلة، فانّ كلاّ من اليهود والنصارى مشركون في عبادتهم، ويعبدون أحبارهم ـ عمليّاً ـ ويطلبون منهم العفو والصفح عن الذنب، وهذا ممّا يختصّ به الله، مضافاً إِلى تحريف الأحكام الإلهية بصورة رسمية.
وأمّا إيمانهم بالمعاد فإيمان محرّف، لأنّ المعاد كما يستفاد من كلامهم منحصر بالمعاد الروحاني، فبناءً على ذلك فإنّ إيمانهم بالمبدأ مخدوش، وإيمانهم بالمعاد كذلك.
ثمّ تشير الآية إِلى الصفة الثّانية لأهل الكتاب، فتقول: (ولا يحرمّون ما حرم
[585]
الله ورسولُه).
ومن الممكن أن يكون المراد من كلمة "رسوله" نبيّهم موسى أو عيسى(عليهما السلام)، لأنّهم لم يكونوا أوفياء لأحكام دينهم، وكانوا يرتكبون كثيراً من المحرمات الموجودة في دين موسى أو عيسى، ولا يقتصرون على ذلك فحسب، بل كانوا يحكمون بحليتها أحياناً.
ويمكن أن يكون المراد من "رسوله" نبيَّ الإِسلام محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي إنّما أمر المسلمون بمقاتلة اليهود والنصاري وجهادهم إيّاهم، لأنّهم لم يذعنوا لما حرّمه الله على يد نبيّه، وارتكبوا جميع أنواع الذنوب.
وهذا الإِحتمال يبدو أقرب للنظر، والشاهد عليه الآية (33) من هذه السورة ذاتها، وسنقف على تفسيرها قريباً، إذ تقول: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ).
أضف إِلى ذلك حين ترد كلمة (رسوله) في القرآن مطلقةً فالمراد منها النّبي (محمّد)(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولو سلّمنا بأنّ المراد من (رسوله) هنا نبيّهم، فكان ينبغي أن تكون الكلمة (تثية) أو جمعاً، كما جاء في الآية (13) من سورة يونس (وجاءتهم رسلهم بالبيّنات) ونظير هذا التعبير في القرآن ملحوظ
ويمكن أن يقال: إنّ الآية في هذه الصورة ستكون من باب تحصيل الحاصل أو توضيح الواضح، لأن من البديهي أن غير المسلمين لا يحرمون ما حرمه الإِسلام.
لكن ينبغي الإِلتفات إِلى أنّ المراد من هذه الصفات هو بيان علة جواز جهاد المسلمين اليهود ومقاتلتهم إيّاهم. أي يجوز أن تجاهدوا اليهود والنصارى ـ لأنّهم لا يحرمون ما حرم الإِسلام إرتكبوا كثيراً من الآثام ـ إذا واجهوكم وخرجوا عن كونهم أقلية مسالمة.
[586]
وتذكر الآية الصفة الثّالثة التي كانوا يتصفون بها فتقول: (ولا يدينون دين الحق).
ويوجد إحتمالان في هذه الجملة أيضاً، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد من دين الحق هو دين الإِسلام المشار إليه بعد بضع آيات.
وذكر هذه الجملة بعد عدم اعتقادهم بالمحرمات الإِسلامية، هو من قبيل ذكر العام بعد الخاص، أي أن الآية أشارت أوّلا إِلى إرتكابهم لمحرمات كثيرة، وهي محرّمات تلفت النظر كشرب الخمر والربا وأكل لحم الخنزير، وإرتكاب كثير من الكبائر التي كانت تتسع يوماً بعد يوم.
ثمّ تقول الآية: إن هؤلاء لا يدينون بدين الحق أساساً، أي أن أديانهم منحرفة عن مسيرها الأصيل، فنسوا كثيراً من الحقائق والتزموا بكثير من الخرافات مكانها، فعليهم أن يتقبلوا الإِسلام، وأن يعيدوا بناء أفكارهم من جديد على ضوء الإِسلام وهداه، أو يكونوا مسالمين ـ على الأقل ـ فيعيشوا مع المسلمين، وأن يقبلوا شروط الحياة السلمية مع المسلمين.
وبعد ذكر هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي في الحقيقة المسوغ لجهاد المسلمين لأهل الكتاب، تقول الآية (من الذين أوتوا الكتاب).
وكلمة "من" في الآية بيانية لا تبعيضية، وبتعبير آخر: إنّ القرآن يريد أن يقول: إن أهل الكتاب السابقين ـ وللأسف ـ لا يدينون بدين الحق وانحرفوا عن المعتقدات الصحيحة، وهذا الحكم يشملهم جميعاً.
ثمّ تبيّن الآية الفرق بين أهل الكتاب والمشركين في مقاتلتهم، بالجملة التالية (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).
"والجزية" مأخوذة من مادة الجزاء، ومعناها المال المأخوذة من غير المسلمين الذين يعيشون في ظلّ الحكومة الإِسلامية، وهذه التسمية لأنّها جزاء حفظ أموالهم وأرواحهم (هذا ما يستفاد من كلام الراغب في مفرداته فلا بأس
[587]
بمراجعتها).
"والصاغر" مأخوذ من "الصِغَر" على زنة "الكِبَر" وخلاف معناه، ومعناه الراضي بالذلة. والمراد من الآية أن الجزية ينبغي أن تُدفع في حال من الخضوع للإِسلام والقرآن.
وبتعبير آخر: هي علامه الحياة السلمية، وقبول كون الدافع للجزية من الأقلية المحفوظة والمحترمة بين الأكثرية الحاكمة.
وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المراد من الجزية في الآية هو تحقير أهل الكتاب وإهانتهم والسُخر منهم، فلا يستفاد ذلك من المفهوم اللغوي لكلمة الآية، ولا ينسجم وروح تعاليم الإِسلام السمحة، ولا ينطبق مع سائر التعاليم أو الدستور الذي وصلنا في شأن معاملة الأقليات.
وما ينبغي التنويه به هنا هو أنّ الآية وإن ذكرت شرط "الجزية" من بين شروط الذمة فحسب، إلاّ أن التعبير بـ(هم صاغرون) إشارة إجمالية إِلى سائر شروط الذمّة، لأنّه يستفاد من هذه الجملة بأنّهم ـ مثلا ـ يعيشون في محيط إسلامي، فليس لهم أن يظاهروا أعداء الإِسلام، ولا يكون لهم إعلام مضاد للإِسلام، ولا يقفوا حجر عثرة في رقيه وتقدمه، وما إِلى ذلك، لأنّ هذه الأُمور تتنافى وروح الخضوع والتسليم للإِسلام والتعاون مع المسلمين.
ما هَي الجزية؟!
تُعدّ الجزية ضريبةً مالية "إسلامية" وهي تتعلق بالأفراد لا بالأموال ولا بالأراضي، أو بتعبير آخر: هي ضريبة مالية سنوية على الرؤوس.
ويعتقد بعضهم أنّها ليست من أصل عربي، بل هي فارسية قديمة وأصلها "كزيت" ومعناها الأموال التي تؤخذ للدعم العسكري، أو ما يصطلح عليه في عصرنا بـ "المجهود الحربي". لكن الكثير يعتقدون أن هذه الكلمة "الجزية"
[588]
عربية خالصة.
وكما ذكرنا آنفاً فهي مأخوذة من الجزاء، لأنّ الضريبة التي تدفع، إنّما هي جزاء الأمن الذي توفره الحكومة الإِسلامية للأقليات المذهبية.
والجزية، كانت قبل الإسلام، ويعتقد بعضهم أن أوّل من أخذ الجزية هو كسرى أنوشروان الملك الساساني، ولو لم نسلّم بأنّه الأوّل فلا أقل من أن أنوشروان كان يأخذ من أبناء وطنه الجزية، وكان يأخذ ممن لم يكن موظفاً في الدولة وعمره أكثر من عشرين عاماً وأقل من خميس عاماً، مبلغاً سنوياً يتراوح بين 12 و8 و6 و4 درهم، على أنّه ضريبة سنوية على كل فرد.
وذكروا أن فلسفة هذه الضرائب أو حكمتها هي الدفاع عن موجودية الوطن واستقلاله وأمنه، وهي وظيفة عامّة على جميع الناس، فبناءً على ذلك متى ما قام جماعة فعلا بالمحافظة على الوطن ولم يستطع الآخرون أن يجندوا أنفسهم للدفاع عن الوطن، لأنّهم يكتسبون ويتّجرون ـ مثلا ـ فإن على الجماعة الثّانية أن تقوم بمصارف المقاتلين فتدفع ضرائب سنوية للدولة.
وما لدينا من القرائن يؤيد فلسفة الجزية ... سواء قبل الإِسلام أو بعده.
فمسألة السنّ في من يعطي الجزية في عصر أنوشروان الذي ذكرناه آنفاً "وهي أنّ الجزية تقع على من عمره عشرون عاماً إِلى خميس عاماً" دليل واضح على هذا المطلب، لأنّ أصحاب هذه المرحلة، من العمر كانوا قادرين على حمل السلاح والمساهمة في الحفاظ على أمن البلاد، إلاّ أنّهم كانوا يدفعون الجزية لأعمالهم وكسبهم.
والشاهد الآخر على ذلك أنّه لا تجب الجزية "في الإِسلام" على المسلمين، لأنّ الجهاد واجب عليهم جميعاً، وعند الضرورة يجب على الجميع أن يتجهوا نحو ساحات القتال ليقفوا بوجه العدوّ، إلاّ أنّه لما كانت الأقليات المذهبية في حلٍّ من أمر الجهاد، فعليها أن تدفع المال مكان الجهاد، ليكون لهم نصيب في
[589]
الحفاظ على أمن الوطن الذي يتمتعون بالحياة فيه.
ثمّ إن سقوط الجزية عن الأطفال والشيوخ والمقعدين والنساء والعُمي، دليل آخر على هذا الموضوع.
ممّا ذكرناه يتّضح أن الجزية إعانة مالية فحسب، يقدمها أهل الكتاب إزاء ما يتحمله المسلمون من مسؤولية في الحفاظ عليهم وعلى أموالهم.
فبناء على ذلك فإنّ من يزعم أنّ الجزية نوع من أنواع حق التسخير، لم يلتفت إِلى روحها وحكمتها وفلسفتها، وهي أن أهل الكتاب متى دخلوا في أهل الذمة فإنّ الحكومة الإِسلامية يجب عليها أن ترعاهم وتحافظ عليهم وتمنعهم من كل أذى أو سوء. وهكذا فإنّ أهل الذمة عند دفعهم الجزية، بالإِضافة إِلى التمتع بالحياة مع المسلمين في راحه وأمان فليس عليهم أي تعهد من المسامهة في القتال مع المسلمين وفي جميع الأُمور الدفاعية ـ ويتّضح أن مسؤوليتهم إزاء الحكومة الإِسلامية أقل من المسلمين بمراتب.
أي أنّهم يتمتعون بجيمع المزايا في الحكومة الإِسلامية بدفعهم مبلغاً ضئيلا، ويكونون سواءً هم والمسلمون. في حين أنّهم لا يواجهون الأخطار ومشاكل الحرب.
ومن الإدلة التي تؤيد فلسفة هذا الموضوع، أنّه في المعاهدات التي كانت ـ في صدر الإِسلام بين المسلمين وأهل الكتاب في شأن الجزية، تصريح بأنّ على أهل الكتاب أن يدفعوا الجزية، وفي قبال ذلك على المسلمين أن يمنعوهم (أي يحفظوهم) وأن يدافعوا عنهم اذا داهمهم العدو الخارجي.
وهذه المعاهدات كثيرة، ونورد مثلا منها، وهي المعاهدة التي تمت بين خالد بن الوليد مع المسيحيين الذين كانوا يقطنون حول "الفرات":
[590]
نص كتاب المعاهدة:
"هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، إني عاهدتكم على الجزية والمنعة، فلك الذّمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية وإلاّ فلا، كتب سنة اثنتى عشرة في صفر "(1).
والذي يسترعي النظر هو أننا نقرأ في هذه المعاهدة وأمثالها أنّه متى ما قصّر المسلمون في الحفاظ على أهل الذمة أو لم يمنعوهم، فالجزية تعاد إليهم أو لا تؤخذ منهم عندئذ أصلا.
وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الجزية ليس لها مقدار معين وميزانها بحسب استطاعة من تجب عليهم، غير أنّ المستفاد من التواريخ أنّها عبارة عن مبلغ ضئل قد لا يتجاوز الدينار(2) في السنة، وربّما قُيد في المعاهدة أن على دافعي الجزية أن يدفعوا بمقدار استطاعتهم جزيةً.
ومن جميع ما تقدم ذكره يتّضح أنّ جميع ما أثير من شبهات أو إشكالات في هذا الصدد، باطل لا إعتبار له، ويثبت أن هذا الحكم الإِسلامي حكم عادل ومنصف.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقلا عن تفسير المنار، ج 10، ص 294.
2 ـ من المناسب أن أشير إِلى أن المقصود بالدينار ليس هو الدينار المتعارف بينا كالدينار العراقي أو الدنيار الأردني أو الدينار الكويتي وهلّم جراً، بل هو الدينار الذهبي الذي يعادل مثقالا ونصف أو أدنى من ذلك بقليل.