[1]
الأَمْثَلُ
في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل
طبعة جديدة منقّحة مع إضافات
تَأليف
العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى
الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي
المجَلّد الثّاني عَشر
[5]
سُورَة
النمل
مكيّة
وَعَدَدُ آياتها ثلاث وتَسعون آية
[7]
"سورة النّمل"
محتوى سورة النمل
هذه السورة نزلت بمكّة ـ كما ذكرنا آنفاً ـ والمعروف أنّها نزلت بعد سورة الشعراء.
ومحتوى هذه السورة ـ بصورة عامّة ـ كمحتوى سائر السور المكية، فأكثر اهتمامها ـ من الوجهة الإعتقادية ـ ينصبّ على المبدأ والمعاد ... وتتحدث عن الوحي والقرآن وآيات الله في عالم الإِيجاد والخلق، وكيفية المعاد والقيامة؟
وأمّا من ناحية المسائل العملية والاخلاقية، فالقسم الكبير منها يتحدث عن قصص خمسة أنبياء كرام ومواجهاتهم لاُممهم المنحرفة، لتكون هذه السورة تسلية للمؤمنين القلّة بمكّة في ذلك اليوم، وفي الوقت ذاته تكون إنذاراً للمشركين المعاندين الظالمين ليروا عواقب أمرهم في صفحات تاريخ الظلمة الماضين، فلعلهم يحذرون ويرجعون إلى الرشد.
وأحد خصائص هذه السورة هي بيان قسم مهم من قصّة النّبي سليمان وملكة سبأ، وكيفية إِيمانها بالتوحيد، وكلام الطير ـ كالهدهد، والحشرات كالنمل ـ مع سليمان(عليه السلام).
وهذه السورة سُمّيت سورة "النمل" لورود ذكر النمل فيها، والعجيب أنّها سمّيت بسورة "سليمان" كما في بعض الرّوايات "والنمل أُخرى" سليمان أحياناً، وكما سنلاحظ ... فإِنّ هذه التسميات للسور ليست اعتباطاً، بل هي مدروسة ودقيقة في تسميتها، فهي من تعليمات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتكشف عن حقيقة
[8]
مهمّة يغفل عنها الناس في الظروف الإِعتيادية!.
وتتحدث هذه السورة ضمناً عن علم الله غير المحدود، وهيمنته وسلطانه على كل شيء في عالم الوجود، وحاكميته عالم عباده ... والإِلتفات إِلى ذلك له أثره الكبير في المسائل التربوية للإِنسان.
وتبدأ هذه السورة بالبشرى وتنتهي بالتهديد، فالبشرى للمؤمنين، والتهديد للناس بأنّ الله غير غافل عن أعمالكم.
فضيلة سورة النمل:
جاء في بعض أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق سليمان وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإِبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلاّ الله"(1).
وبالرغم من أنّ هذه السورة تتحدث عن موسى وسليمان وداود وصالح ولوط، وليس فيها كلام عن هود وشعيب وإبراهيم، إِلاّ أنّه حيث أنّ جميع الأنبياء سواءٌ في دعوتهم إِلى الله ـ فلا مجال لأن نعجب من هذا التعبير.
وورد في حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "من قرأ سور الطواسين الثلاث "يعني سور الشعراء والنمل والقصص" في ليلة جمعة كان من أولياء الله وفي جواره وكنفه، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبداً، وأعطي في الآخرة من الجنّة حتى يرضى وفوق رضاه، وزوجه الله مئة زوجة من الحور العين" (2).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ذيل الآيات وتفسير الثقلين، ج4، ص 74.
2 ـ "ثواب الاعمال" نقلا، نور الثقلين، ج 4، ص 74.
[9]
الآيات
طس تِلْكَ ءَايَـتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَاب مُّبِين (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَـوةَ وَهُمْ بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إنَّ الَّذِيْنَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالاْخِرَةِِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمـلَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِيْنَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِى الاخِرَةِ هُمُ الاَْخْسَرُونَ (5) وَاِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِنْ لَّدُنْ حَكِيم عَلِيم (6)
التّفسير
القرآن مُنزَل من لدن حكيم عليم:
نواجه مرّة أُخرى ـ في بداية هذه السورة ـ الحروف المقطّعة من القرآن (طس).
وبملاحظة أنّ ما بعدها مباشرة هو الكلام عن عظمة القرآن، فيبدو أنّ واحداً من أسرار هذه الحروف هو أنّ هذا الكتاب العظيم والآيات البيّنات منه، كل ذلك يتألف من حروف بسيطة... وإن الجدير بالثناء هو الخالق العظيم الموجد لهذا الأثر البديع من حروف بسيطة كهذه الحروف،
[10]
وكان لنا في هذا الشأن بحوث مفصّلة في بداية سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف.
ثمّ يضيف القرآن قائلا: (تلك آيات القرآن كتاب مبين ) والإشارة للبعيد بلفظ (تلك) لبيان عظمة هذه الآيات السماوية، والتعبير بـ (المبين ) تأكيد على أنّ القرآن واضح بنفسه وموضح للحقائق أيضاً(1).
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين احتمل أنّ التعبير بـ (القرآن وكتاب مبين )إشارة إلى معنيين مستقلين، وأن "الكتاب المبين" يراد منه اللوح المحفوظ.... إلاّ أن ظاهر الآية يدلّ على أنّ كلاهما لبيان حقيقة واحدة، فالأوّل في ثوب الألفاظ والتلاوة، والثّاني في ثوب الكتابة والرسم.
وفي الآية التالية وصفان آخران للقرآن إذ تقول: (هدى وبشرى للمومنين... الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ).
وهكذا فإن اعتقاد المؤمنين راسخ في شأن المبدأ والمعاد، وارتباط متين بالله وخلقه أيضاً... فالأوصاف المتقدمة تشير إلى اعتقادهم الكامل ومنهجهم العملي الجامع!.
وهنا ينقدح سؤال وهو: إذا كان هؤلاء المؤمنون قد اختاروا الطريق السوي، من حيث المباني الإعتقادية والعملية، فما الحاجة لأنّ يأتي القرآن لهدايتهم؟!
ويتّضح الجواب بملاحظة أنّ الهداية لها مراحل مختلفة، وكل مرحلة مقدمة لما بعدها،.
ثمّ إنّ استمرار الهداية مسألة مهمّة، وهي ما نسألُها الله سبحانه ليل نهار بقولنا: (إهدنا الصراط المستقيم ) ليثبتنا في هذا المسير، ويجعلنا مستمرين فيه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "المبين" مشتق من (الإبانة) وكما يقول بعض المفسّرين "كالآلوسي في روح المعاني": إنّ هذه المادة قد يأتي فعلها لازماً، وقد يأتى متعدياً ففي الصورة الأُولى يكون مفهوم المبين هو الواضح والبيّن، وفي الصورة الثّانية يكون مفهومه الموضح!
[11]
بلطفه، فلولا لطفه لما كان ذلك ممكناً لنا...
وبعد هذا كلّه، فالإفادة من آيات القرآن والكتاب المبين هي نصيب أُولئك الذين فيهم القابلية على معرفة الحق وطلب الحق. وإن لم يبلغوا مرحلة الهداية الكاملة... وإذا ما وجدنا التعبير في بعض آيات القرآن بأنّه (هدى للمتقين ) "كما في الآية 2 من سورة البقرة" وفي مكان آخر (للمسلمين ) "كما في الآية 102 من سوره النحل" وهنا (هُدًى وبشرى للمؤمنين ) فإنّ ذلك ناشىء من أنّه إذا لم يكن في قلب الإنسان أدنى مرحلة من التقوى والتسليم والإيمان بالواقع، فإنّه لا يتجه نحو الحق، ولا يبحث عنه، ولايفيد من نور هذا الكتاب المبين... لأنّ قابلية المحل شرط أيضاً.
ثمّ بعد ذلك فإن الهدى والبشرى مقترنين معاً.. وهما للمؤمنين فحسب، وليس للآخرين مثل هذه المزية...
ومن هنا يتّضح مجيء التعبير بالهداية بشكل واسع لعموم الناس (هدى للناس ) فإن المراد منه أُولئك الذين تتوفر فيهم الأرضيّة المناسبة لقبول الحق، وإلاّ فأنّ المعاندين الألداء. عُماة القلوب، لو أشرقت عليهم آلاف الشموس بدل شمسنا هذه ليهتدوا، لما اهتدوا أبداً.
وتتحدّث الاية التالية عن الاشخاص في المقابلة للمؤمنين، وتصف واحدة من أخطر حالاتهم فتقول: (إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم فهم يعمهون ). أي حيارى في حياتهم.
فهم يرون الملوّث نقيّاً، والقبيح حسناً، والعيب فخراً، والشقاء سعادةً وانتصاراً!.
أجل، هذا حال من يسلك الطريق المنحرف ويتوغل فيها... فواضح أن الإنسان حين يقوم بعمل قبيح. فإنّ قبحه يخف تدريجاً، ويعتاد عليه، وعندما يتطبع عليه يوجههُ ويبرره، حتى يبدو له حسناً ويعدّه من وظائفه! وما أكثر الذين تلوثت أيديهم بالأعمال الإجرامية... وهم يفتخرون بتلك الأعمال ويعدونها
[12]
أعمالا إيجابيّة.
وهذا التغير في القِيمَ، أو اضطراب المعايير في نظر الإنسان، يؤدي إلى الحيرة في متاهات الحياة... وهو من أسوأ الحالات التي تصيب الإنسان.
والذى يلفت النظر أنّ "التزيين" في الآية محل البحث ـ وفي آية أُخرى من القرآن، وهي الآية (108) من سورة الأنعام، نسب إلى الله سبحانه، مع أنّه نُسب في ثمانية مواطن إلى الشيطان، وفي عشرة أُخَر جاء بصيغ الفعل المجهول (زُيّنَ) ولو فكرنا بإمعان ـ وأمعنا النظر، لوجدنا جميع هذه الصور كاشفة عن حقيقة واحدة!
فأمّا نسبة التزيين إلى الله، فلأنّه "مسبب الاسباب" في عالم الإيجاد، وما من موجود مؤثر إلاّ ويعود تأثيره إلى الله.
أجل، إنّ هذه الخاصية أوجدها الله في تكرار العمل ليتطبّع عليه الإنسان... ويتغير حسُّ التشخيص فيه دون أن تسلب المسؤولية عنه، أو أن تكون نقصاً في خلقة الله أو إيراداً عليه (لاحظوا بدقّة) .
وأمّا نسبة التزيين إلى الشيطان (أو هوى النفس) فلأن كلاّ منهما عامل قريب و بغير واسطة للتزيين.
وأمّا مجيء التزيين بصورة الفعل المبني للمجهول، فهو إشارة إلى أنّ طبيعة العمل يقتضي أن يوجد ـ على أثر التكرار ـ حالة وملكة وعلاقة وعشقاً!!
ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة "تزيين الأعمال " وعاقبة أُولئك الذين شغفوا بها فتقول: (أُولئك لهم سوء العذاب ).
فهم في الدنيا سيمسون حيارى آيسين نادمين، وسينالون العقاب الصارم في الآخرة (وفي الآخرة هم الأخسرون ).
والدليل على أنّهم في الآخرة هم الأخسرون، ما جاء في الآية (103) من سورة الكهف (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة
[13]
الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ).
فأية خسارة أعظم من أن يرى الإنسان عمله القبيح حسناً!! وأن يهدر جميع طاقاته من أجله، ظنّاً منه بأنّه عمل "إيجابي" مثبت، إلاّ أنّه يراه في عاقبة أمره شقاءً وذلة وعذاباً.
وأمّا الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ فهي بمثابة إكمال البيانات السابقة في صدد عظمة محتوى القرآن، ومقدمة لقصص الأنبياء التي تبدأ بعدها مباشرة فتقول: (وإنّك لتلقّى(1) القرآن من لدن حكيم عليم ).
وبالرغم من أنّ الحكيم والعليم كلاهما إشارة إلى علم الله سبحانه، إلاّ أن الحكمة تبيّن الجوانب العملية، والعلم يبيّن الجوانب النظرية... وبتعبير آخر: إن العليم يخبر عن علم الله الواسع، والحكيم يدل على الهدف من إيجاد هذا العالم وإنزال القرآن على قلب النّبي (محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)).
ومثل هذا القرآن النازل من قبل الله ينبغي أن يكن مبيناً ... وهدى وبشرى للمؤمنين، وأن تكون قصصه خالية من أي نوع من أنواع الخرافات والتضليل والأباطيل والتحريف.
الواقعية والإيمان:
المسألة المهمة في حياة الإنسان هي أن يدرك الواقعيّات بما هي عليه، وأن يكون موقفه منها صريحاً... فلا تمنعه من فهمها وإدراكها تصوراته وأحكامه المسبقة ورغباته الإنحرافية وحبّه وبغضه، ولذلك فأنّ أهم تعريف للفلسفة هو: إدراك الحقائق كما هي!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تلقى" فعل مضارع مبني للمفعول، وهو من باب التفعيل، والفعل الثلاثي المجرّد من هذه المادة (لقي ) وهو يتعدى إلى مفعول واحد. أمّا المزيد فيتعدى إلى مفعولين. وفي الآية محل البحث (الله) هو الفاعل وملقي القرآن، والنّبي (مفعول به أول)، والقرآن مفعول ثان، وحيث أنّ الفعل بني للمجهول يقوم المفعول الأوّل مقام الفاعل فرفع، وأمّا المفعول الثّاني فعلى حالة.
[14]
ولذلك فقد كان من دعاء المعصومين: (اللّهم أرنى الأشياء كما هي) أي لأعرف قيمها وأؤدي حقّها.
وهذه الحالة لا تتحقق بغير الإيمان! لأنّ الهوى والهوس والإنحرافات أو الرغبات النفسية، تكون حجاباً وسداً كبيراً في هذا الطريق، ولا يمكن رفع هذا الحجاب أو السد إلاّ بالتقوى وضبط هوى النفس!.
لذلك فقد قرأنا في الآيات آنفة الذكر: (إنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ).
والمثل الواضح والجلي لهذا المعنى نراه في حياة كثير من عبدة الدنيا في زماننا بشكل بيّن. فهم يفتخرون ببعض المسائل ويرونها حضارة، إلاّ أنّها في الواقع ليست إلاّ الفضيحة والعار والذل.
فالتفسخ والحماقة عندهم دليل "الحرية".
والتعري والسفور من قبل النساء دليل "التمدن" .
التكالب على بهارج الدنيا وزخارفها دليل على "الشخصيّة" .
الغرق في الوان الفساد دليل "التحرر".
القتل والإجرام دليل على "القوّة" .
التخريب وغصب رؤوس الأموال دليل على الاستعمار، أي البناء والعمران(1)!!
استخدام اجهزة الاعلام العامة كالراديو والتلفزيون لتوكيد المفاهيم!!
سحق حقوق المحرومين دليل على احترام حقوق البشر.
الأسر في قبضة المخدرات والفضائح وما إلى ذلك من أشكال الحرية!.
والتزوير والغش واقتناء الأموال من أي طريق كان وكيف كان، دليل على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المفهوم اللغوي للإستعمار مفهوم جميل، يعني الإعمار كما جاء في القرآن (واستعمركم فيها )إلاّ أن المفهوم السياسي للإستعمار هو التسلط من قبل الأجنبي واستثماره لخيرات الشعوب (المصحح).
[15]
الجدارة والذكاء.
رعاية أصول العدل واحترام حقوق الآخرين دليل على الضعف وعدم اللياقة!.
الكذب والدجل ونقض العهود وما إلى ذلك دليل على السياسة.
والخلاصة: إنّ الأعمال السيئة والقبيحة تتزين في نظر هؤلاء الى درجة أنّهم لا يشعرون في أنفسهم بالخجل منها. بل ويفتخرون ويتباهون بها!!
وواضح إلى اين يتجه مثل هذا العالم وماذا سيكون مصيره!!
* * *
[16]
الآيات
إِذْ قَالَ مُوسَى لاَِهْلِهِ إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً سَأَتِيكُمْ مِّنْها بِخَبَر أَوْ ءَاتِيكُمْ بِشِهَاب قَبَس لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمّـا جَآءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهـا وَسُبْحَـنَ اللهِ رَبِّ الْعـالَمِينَ (8) يَـمُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَـاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَـمُوسَى لاَتَخَفْ إِنِّى لاَيَخـافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فىِ جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوء فِى تِسْعِ ءَايـت إلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فـسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايـتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عَـقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ (14)
التّفسير
موسى يقتبس النّور:
يجري الكلام في هذه السورة ـ كما أشرنا من قبلُ ـبعد بيان أهمّية القرآن، عن قصص خمسة أنبياء عظام، وذكر أُممهم، والوعد بانتصار المؤمنين وعقاب
[17]
الكافرين.
فأوَّل نبيّ تتحدث عنه هذه السورة، هو موسى عليه السلام أحد الأنبياء "أولي العزم" وتبدأ مباشرةً بأهم نقطة من حياته وأكثرها "حسّاسية" وهي لحظة نزول الوحي على قلبه وإشراقه فيه، وتكليم الله إيّاه إذ تقول الآية: (إذْ قال موسى لأهله إنّي آنست ناراً )(1) اي رأيت ناراً من بعيد، فامكثوا هنيئة (سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون )(2).
في تلك الليلة الظلماء، كان موسى(عليه السلام) يسير بزوجته بنت النبيّ شعيب(عليه السلام) في طريق مصر ـ وفي الصحراء ـ فهبت ريح باردة، وكانت زوجته (أهله ) مُقرّباً، فأحسّت بوجع الطلق، فوجد موسى (عليه السلام)نفسه بمسيس الحاجة إلى النّار لتصطلي المرأة بها، لكن لم يكن في الصحراء أىّ شيء، فلمّا لاحت له النّار من بعيد سُرّ كثيراً، وعلم أنّها دليل على وجود إنسان أو أناس، فقال: سأمضي وآتَيكم منها بخبر أو شعلة للتدفئة.
ممّا يلفت النظر أنّ موسى(عليه السلام) يقول لأهله سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس "بضمير الجمع لا الإفراد" ولعل هذا التعبير هو أنّ موسى (عليه السلام)كان معه بالإضافة إلى زوجته أطفال أيضاً.. لأنّه كان قد مضى على زواجه عشر حجج (عشر سنين) في مدين.. أو أنّ الخطاب بصيغة الجمع (آتيكم) يوحي بالإطمئنان في هذه الصحراء الموحشة!.
وهكذا فقد ترك موسى أهله في ذلك المكان واتّجه نحو "النّار" التي آنسها (فلمّا جاءها نودي أن بورك من في النّار ومن حولها وسبحان الله ربّ العالمين ).
وهناك احتمالات مختلفة عند المفسّرين في المراد من قوله تعالى: (من في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "آنستُ" فعل ماض مأخوذ من (الإيناس) وهو الرؤية المقرونة بالراحة النفسية والسكينة وإنّما يطلق على الإنسان فهو لهذا المعنى.
2 ـ "الشهاب" هو النور الذي ينبثق من النّار كالعمود، وكل نور له عمود يدعى شهاباً، وفي الأصل يطلق الشهاب على واحد النيازك التي تهوي من السماء بسرعة مذهلة فتحرق بسب اصطدامها بالغلاف الجوي فيكون لها عمود من نار، "والقبس" شعلة من النّار تنفصل عنها. "وتصطلون" من الإصطلاء وهو الدفء (بالنّار)..
[18]
النّار ) (ومن حولها )!... فما المقصود من هذا التعبير؟!
ويبدو أنّ المراد مِن (مَن في النّار ) هو موسى نفسه، حيث كان قريباً منها ومن الشجرة الخضراء التي عندها، فكأنّ موسى كان في النّار نفسها، وأنّ المراد مِن (مَنْ حولها ) هم الملائكة المقرّبون من ساحة القدس، الذين كانوا يحيطون
بتلك الأرض المقدسة في ذلك الوقت.
أو أنّ المراد ـ على عكس ما ذكرنا آنفاً ـ فمن في النّار: هم الملائكة المقرّبون، ومن حولها هو موسى(عليه السلام)
وعلى كلّ حال فقد جاء في بعض الرّوايات أنّ موسى(عليه السلام) لما وصل النّار ونظر بدقّة، رأى النّار تشتعل من غصن أخضر! وتتسع الشعلة لحظة بعد أُخرى، والشجرة تزداد اخضراراً وجمالا.. فلا حرارة النّار تحرق الشجرة، ولا رطوبة الشجرة تطفىء لهب النّار، فتعجب من هذا المشهد الرائع.... وانحنى ليقتبس من هذه النّار ويشعل الغصن اليابس "الحطب" الذي كان معه، فأتته النّار فارتاع ورجع... فمرّة يأتي موسى إلى النّار، ومرّة تأتي النّار إلى موسى، وبيّنا هو على هذه الحالة، إذا بالنداء يقرع سمعه مبشراً إيّاه بالوحي.
فالمراد أنّ موسى(عليه السلام)اقترب من النّار ألى درجة عُبّر عنه بأنّه "في النّار".
والتّفسير الثّالث لهذه الجملة، هو أنّ المراد من (من في النّار ) هو نور الله الذي تجلّى في تلك الشعلة، والمراد من "من حولها" هو موسى الذي كان قريباً منها. وعلى كل حال فمن أجل أن لا يتوهم أحد من هذه العبارة مفهوم "التجسيم" فقد خُتمت الآية بـ (سبحان الله ربّ العالمين ) تنزيهاً له عن كل عيب ونقص وجسميّة وما يعترض الجسم من عوارض!.
ومرّة أُخرى نودي موسى بالقول: (ياموسى إنّي أنا الله العزيز الحكيم ).
وذلك يزول عن موسى (عليه السلام)كل شك وتردّد، وليعلم أنّ الّذي يكلمه هو ربّ العالمين، لا شعلة النّار ولا الشجرة، الربّ القوي العزيز الذي لا يغلب ولا يُقهر،
[19]
والحكيم ذو التدبير في جميع الأُمور!.
وهذا التعبير في الحقيقة مقدّمة لبيان المعجزة التي سيأتي بيانها في الآية التالية لأنّ الإعجاز آت من هاتين الصفتين "قدرة الله" و"حكمته"، ولكن قبل أن نصل إلى الآية التالية.. ينقدح هذا السؤال وهو: من أين تيقن موسى (عليه السلام) أنّ هذا النداء هو نداء الله وليس سواه؟!
يمكن أن يجاب على هذا السؤال بأنّ هذا النداء ـ أو الصوت المقرون بمعجزة جليّة، وهي إشراق النّار من الغصن الأخضر "في الشجرة الخضراء" ـ دليل حي على أنّ هذا أمر إلهي!.
ثمّ إنّه ـ كما سنرى في الآية التالية ـ بعد هذا النداء أمر موسى (عليه السلام) بإلقاء العصا وإظهار اليد البيضاء، على نحو الإعجاز، وهما شاهدان صادقان آخران على هذه الحقيقة.
ثمّ بعد هذا كله (فعلى القاعدة) فإن نداء الله له خصوصية تميزه عن كلّ نداء آخر، وحين يسمعه الإنسان يؤثر في روحه وقلبه تأثيراً لا يخالطه الشك أو التردد بأنّ هذا النداء هو نداء الله سبحانه.
وحيث أنّ الصدع بالرسالة والبلاغ (وأية رسالة وبلاغ... رسالة إلى جبار مستكبر ظالم كفرعون). لابدّ له من قوّة ظاهرية وباطنية وسند على حقانيته... فلذا أمر موسى بأن يلقي عصاه: (وألق عصاك ).
فألقى موسى عصاه، فتبدلت ثعباناً عظيماً، فلمّا رآه موسى يتحرك بسرعة كما تتحرك الحيّات الصغار خاف وولّى هارباً ولم يلتفت الى الوراء: (فلما رآها تهتزّ كأنّها جان ولّى مدبراً ولم يعقِّب ). (1)
ويحتمل أنّ عصا موسى تبدلت بادىء الأمر إلى حيّة صغيرة، ثمّ تحولت إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يعتقد بعض المفسّرين أنّ "الجان" مأخوذ من الجن، وهو الموجود غير المرئي، لأنّ الحيّات الصغيرة تتحرك بين العشب في الارض وتخفي نفسها..
[20]
أفعى كبيرة في المراحل الأُخر!
وهنا خوطب موسى مرّة أُخرى أن (يا موسى لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المرسلون )
فهنا مقام القرب، وحرم أمن الله القادر المتعال.
وهنا لا معنى للخوف والوحشة. ومعنى الآية: أن يا موسى إنّك بين يدي خالق الوجود العظيم، والحضور عنده ملازم لأمن المطلق!.
ونقرأ نظير هذا التعبير في الآية (31) من سورة القصص: (يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين ).
إلاّ أنّ في الآية التالية استثناءاً للجملة السابقة، حيث ذكره القرآن فقال: (إلاّ من ظلم ثمّ بدّل حُسناً بعد سوء فإنّي غفورٌ رحيمٌ )!.
وهناك رأيان مختلفان لدى المفسّرين في علاقة الإستثناء بالجملة:
فالرأي الأوّل: أنّ هناك حذفاً ذيل الآية آنفة الذكر وتقديره: إنّك من الآمنين وغير الأنبياء ليس آمناً. ثمّ استثنى سبحانه من ذلك "بإلاّ" من ظلم ثمّ بدل حسناً، فهو من الآمنين أيضاً (لأنّ الله غفور رحيم ).
والثّاني: أنّ الإستثناء من ضمن الجملة، والظلم إشارة إلى ترك الأُولى الذي قد يقع من الأنبياء، وهو لا ينافي مقام العصمة، ومعنى الآية على هذا الرأي: أن الأنبياء في حال ترك الأولى غير آمنين أيضاً، وأنّ الله يحاسبهم حساباً عسيراً، كما جاء في آيات القرآن عن قصّة آدم وقصّة يونس(عليهما السلام)!.
إلاّ أُولئك الذين التفتوا إلى ترك الأولى، وانعطفوا نحو الله الرحيم، فبدلوا حسناً وعملا صالحاً بعد ذلك، كما جاء في شأن موسى (عليه السلام) نفسه في قصّة قتله الرجل القبطي، إذ اعترف موسى بتركه الأَولى، فقال: (ربّ إنّى ظلمت نفسي فاغفر لي )(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ القصص، 16.
[21]
أمّا المعجزة الثّانية التي أمر موسى أن يظهرها، فهي اليد البيضاء، إذ تقول الآية: (وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ).
والقيد (من غير سوء ) إشارة إلى أن بياض اليد ليس من برص ونحوه، بل هو بياضٌ نوراني يلفت النظر، وهو بنفسه كاشف عن إعجاز وأمر خارق للعادة:
ومن أجل أن يظهر الله تعالى عنايته ولطفه لموسى أكثر، وكذلك منح الفرصة للمنحرفين للهداية أكثر، قال لموسى بأن معاجزه ليست منحصرة بالمعجزتين الآنفتين، بل (في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنّهم كانوا قوماً فاسقين )(1).
ويستفاد من ظاهر الآية أن هاتين المعجزتين من مجموع تسع معاجز "آيات" موسى المعروفة، وقد استنتجنا ذلك من الآية (101) من سورة الإسراء، وإن المعاجز السبع الأُخر هي:
1 ـ الطوفان 2 ـ الجراد 3 ـ كثرة الضفادع 4 ـ تبدل لون نهر النيل كلون الدم 5 ـ الآفات في النباتات. وكل واحدة من هذه المعاجز الخمس تعدّ إنذاراً لفرعون وقومه، فكانوا عند البلاء يلجأون إلى موسى ليرفع عنهم ذلك.
أمّا المعجزتان الأُخريان فهما 6 ـ القحط "السنين" 7 ـ ونقص الثمرات. إذ أشارت إليهما الآية (130) من سورة الأعراف فقالت: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون )... "ولمزيد الإيضاح يراجع الجزء التاسع من التّفسير الأمثل ذيل الآية (101) من سورة الإسراء".
وأخيراً تعبّأ موسى بأقوى سلاح ـ من المعاجز ـ فجاء إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الحق، كما يصرح القرآن بذلك في آيته التالية (فلما جاءَتهم آياتنا مبصرةً قالوا هذا سحرٌ مبين ).
و معلوم أنّ هذا الإتّهام "بالسحر" لم يكن خاصّاً بموسى(عليه السلام)، بل اتّخذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الجار والمجرور "في تسع آيات" إمّا متعلقان بجملة (إذهب ) أو بأحد أفعال العموم المقدرة.. وقد تكون (في ) بمعنى (مع ) و (إلى فرعون ) متعلق بالجملة ذاتها، أو بجملة أنت مرسل بها المفهومة من السياق تقديراً.
[22]
المعاندون ذريعة بوجه الأنبياء، ليجعلوه سدّاً في طريق الآخرين، والإتّهام بنفسه دليل واضح على عظمة ما يصدر من الأنبياء خارقاً للعادة، بحيث اتّهموه بالسحر.
مع أنّنا نعرف أن الأنبياء كانوا رجالا صالحين صادقين طلاّب حق مخلصين، أمّا السحرة فهم منحرفون ماديّون تتوفر فيهم جميع صفات المدلّسين "أصحاب التزوير".
وإضافة إلى ذلك فإن السحرة كانت لديهم قدرة محدودة على الأعمال الخارقة، إلاّ أنّ الأنبياء فقد كان محتوى دعوتهم ومنهاجهم وسلوكهم يكشف عن حقانيتهم، وكانوا يقومون بأعمال غير محدودة، بحيث كان ما يقومون به معجزاً لا يشبه سحر السحرة أبداً.
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يضيف في آخر الآية ـ محل البحث ـ قائلا: إنّ هذا الإتهام لم يكن لأنّهم كانوا في شك من أمرهم و مترددين فعلا، بل كذبوا معاجز أنبيائهم مع علمهم بحقانيتها (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً ).
ويستفاد من هذا التعبير أنّ الإيمان له حقيقة وواقعية غير العلم واليقين، ويمكن أن يقع الكفر جحوداً وإنكاراً بالرغم من العلم بالشيء!.
وبعبارة أُخرى: إنّ حقيقة الإيمان هي الإذعان والتسليم ـ في الباطن والظاهر ـ للحقّ، فبناءً على ذلك إذا كان الإنسان مستيقناً بشيء ما، إلاّ أنّه لا يذعن له في الباطن أو الظاهر فليس له إيمان. بل هو ذو كفر جحودي، وهذا موضوع مفصل، ونكتفي هنا بهذه الاشارة.
لذلك فإنّنا نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) يذكر فيه ضمن عدّه أقسام الكفر الخمسة "كفر الجحود " ويبيّن بعض شعبه بالتعبير التالي (هو أنّ يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حق قد استقرّ عنده) .(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكافي، ج 2، باب وجوه الكفر ص 287.
[23]
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ القرآن يعد الباعث على إنكار فرعون وقومه أمرين:الأوّل الظلم، والثّاني العلوّ: (ظلماً وعلوّاً ).
ولعل "الظلم" إشارة إلى غصب حقوق الآخرين، و "العلوّ" إشارة إلى طلب التفوّق على بني إسرائيل.
أىّ إنّهم كانوا يرون أنّهم إذا أذعنوا لموسى(عليه السلام) وآمنوا به وبآياته، فإنّ منافعهم غير المشروعة ستكون في خطر، كما أنّهم سيكونون مع رقيقهم "بنى إسرائيل" جنباً إلى جنب، ولا يمكنهم تحمل اىّ من هذين الأمرين.
أو أنّ المراد من الظلم هو ظلم النفس أو الظلم بالآيات، وأنّ المراد من العلوّ هو الظلم للآخرين، كما جاء في الآية (9) من سورة الأعراف (بما كانوا بآياتنا يظلمون ).
وعلى كل حال، فإنّ القرآن يذكر عاقبة فرعون وقومه على أنّه درس من دروس العبرة، في جملة موجزة ذات معنى كبير، مشيراً إلى هلاكهم وغرقهم فيقول: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ).
والقرآن هنا لا يرفع الستار عن هذه العاقبة، لأنّ قصّة هؤلاء الكفرة ونهايتهم الوخيمة ذكرها في آيات أُخرى واكتفى هنا بالاشارة الى تلك الآيات ليفهم من يفهم.
والقرآن يعوّل ـ ضمناً على كلمة (مفسد ) مكان ذكر جميع صفاتهم السيئة، لأنّ الإفساد له مفهوم جامع يشمل الإفساد في العقيدة، والإفساد في الأقوال والأعمال، والإفساد على المستوى الفردي، والمستوى الجماعي، فجمع كلّ أعمالهم في كلمة (المفسدين ).
* * *
[24]
الآيتان
وَلَقَدْ اتَيْنَـا دَاوُدَ وَسُلَيْمـنَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ للهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِير مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَـنُ دَاوُ ودَ وَقَـالَ يَـأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْء إِنَّ هَـذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
التّفسير
حكومة داود وسُليمان(عليهما السلام):
بعد الكلام عن جانب من قصّة موسى(عليه السلام) في هذه السورة، يجري الكلام عن نبيّين آخرين من الأنبياء العظام، وهما "داود" و"سليمان" ... والكلام على داود لا يتجاوز الإشارة العابرة، إلاّ أنّ الكلام على سليمان أكثر استيعاباً.
وذكر هذا المقطع من قصّة هذين النبيّين بعد قصّة موسى(عليه السلام)، لأنّهما كانا من أنبياء بني إسرائيل أيضاً، وما نجده من اختلاف بين تأريخهما وتاريخ الأنبياء الآخرين، هو أنّهما ـ ونتيجة للإستعداد الفكري وملائمة المحيط الإجتماعي في عهدهما ـ قد وفّقا إلى تأسيس حكومة عظيمة، وأن ينشرا بالإستعانة والإفادة من حكومتهما دين الله، لذلك لا نجد هنا أثراً أو خبراً عمّا عهدناه من أسلوب في
[25]
تلك الآيات التي كانت تتكلم عن الأنبياء الآخرين، وهم يواجهون قومهم المعاندين، وربّما نالوا منهم الأذى والطرد والاخراج من مدنهم وقراهم.. فالتعابير هنا تختلف عن تلكم التعابير تماماً.
ويدلّ هذا بوضوح أنّه لو كان المصلحون والدعاة إلى الله يوفقون إلى تشكيل حكومة لما بقيت معضلة ولغدى طريقهم معبداً سالكاً.
وعلى كل حال، فالكلام هنا عن العلم والقدرة والعظمة، وعن طاعة الآخرين حتى الجن والشياطين لحكومة الله وعن تسليم الطير في الهواء والموجودات الأخر لحكومة الله!.
وأخيراً، فإنّ الكلام عن مكافحة عبادة الأصنام عن طريق الدعوة المنطقية، ثمّ الإفادة من قدرة الحكومة!.
وهذه الأُمور هي التي ميّزت قصّة هذين النبيّين عن الأنبياء الآخرين.
الطريف، أن القرآن يبدأ من مسألة "موهبة العلم" التي هي أساس الحكومة الصالحة القوية، فيقول: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً ).
وبالرغم من أن كثيراً من المفسّرين أجهدوا أنفسهم وأتعبوها ليعرفوا هذا العلم الذي أوتيه سليمانُ وداودُ، لأنّه جاء في الآية بصورة مغلقة.. فقال بعضهم: هو علم القضاء، بقرينة الآية (20) من سورة ص: (وآتينا الحكمة وفصل الخطاب )والآية (79) من سورة الأنبياء (وكلا آتينا حكماً وعلماً ).
وقال بعضهم: إن هذا العلم هو معرفة منطق الطير بقرينة الآية (عُلمنا منطق الطير ).
وقال بعضهم: "إن المراد من هذا العلم هو صنعة الدروع، بقرينة (صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ).
إلاّ أن من الواضح أن العلم هنا له مفهوم واسع، بحيث يحمل في نفسه علم التوحيد والإعتقادات المذهبية والقوانين الدينية، وكذلك علم القضاء، وجميع العلوم التي ينبغي توفرها لمثل هذه الحكومة الواسعة القوية... لأنّ تأسيس
[26]
حكومة إلهية على أساس العدل... وحضارة عامرة حرّة... دون الإفادة من علم واسع غير ممكن... وهكذا فإنّ القرآن يعدُّ مقام العلم لتشكيل حكومة صالحة أوّل حجر أساس لها!.
وبعد هذه الجملة ينقل القرآن ما قاله داود وسليمان من ثناء لله: (وقالا الحمدلله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ).
والذي يجلب النظر هو أنّه بعد بيان هذه الموهبة الكبيرة "العلم" يجري الكلام عن "الشكر" مباشرة... ليكون واضحاً أنّ كل نعمة لابدّ لها من شكر، وحقيقة الشكر هو أنّ يستفاد من النعمة في طريقها الذي خلقت من أجله.
وهذان النبيّان العظيمان(عليهما السلام) استفادا من نعمة علمهما الاستفادة القصوى في تنظيم حكومة إلهية.
وقد جعل داود وسليمان معيار تفضيلهما على الآخرين "العلم" لا القدرة ولا الحكومة، وعدّا الشكر للعلم لا لغيره من المواهب، لأنّ كلّ قيمة هي من أجل العلم، وكلّ قدرة تعتمد اساساً على العلم.
والجدير بالذكر أنّهما يشكران اللّه ويحمدانه لتفضيلهما ولحكومتهما على اُمّة مؤمنة.. لأنّ الحكومة على اُمّة فاسدة غير مؤمنة ليست مدعاة للفخر!
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: لم قال داود وسليمان (الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) ولم يقولا على عباده المؤمنين جميعاً، مع أنّهما كانا نبيّين، وهما أفضل أهل عصرهما؟
ولعلّ هذا التعبير رعاية لأصول الأدب والتواضع، إذ على الإنسان أن لا يرى نفسه أفضل من الجميع في أي مقام كان!
أو لأنّهما كانا ينظران إلى جميع الأزمنة، ولم ينظرا إلى مقطع زمنىّ خاص، ونعرف أن على مدى التأريخ يوجد انبياء كانوا أفضل منهما.
والآية التالية تتكلم على إرث سليمان أباه داود أولا، فتقول: (وورث
[27]
سليمانُ داود ).
وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من الإرث هنا، ما هو؟
فقال بعضهم: هو ميراث العلم فحسب... لأنّ في تصورهم أنّ الأنبياء لا يورثون.
وقال بعضهم: هو ميراث المال والحكومة، لأنّ هذا المفهوم يتداعى إلى الذهن قبل أي مفهوم آخر.
وقال بعضهم: هو منطق الطير.
ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الآية مطلقة، وقد جاء في الجمل التالية الكلام على العلم وعن جميع المواهب (أوتينا من كل شيء ) فلا دليل على حصر مفهوم الآية وجعله محدوداً، فبناءً على ذلك فإنّ سليمان ورث كل شيء عن أبيه.
وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم كانوا يستدلون بهذه الآية على عدم صحة ما نسب إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة" وأنّه ساقط من الإعتبار لمخالفته كتاب الله.
وفي بعض الأحاديث عن أهل البيت أنّه لما أجمع أبوبكر على أخذ فدك من فاطمة(عليها السلام)، محتجّاً بالحديث آنف الذكر، جاءته فاطمة(عليها السلام) فقالت: (يا أبابكر، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فريّاً، فعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: (وورث سليمان داود )(1).
ثمّ تضيف الآية حَاكيةً عن لسان سليمان (وقال يا أيّها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ).
وبالرغم من ادعاء بعضهم أن تعبير النطق والكلام في شأن غير الناس لا يمكن إلاّ على نحو المجاز.. إلاّ أنّه إذا أظهر غير الانسان أصواتاً من فمه كاشفاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع كتاب الإحتجاج للطبرسي طبقاً لما جاء في تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 75.
[28]
عن مطلب ما، فلا دليل على عدم تسميته نطقاً، لأنّ النطق كل لفظ مبين للحقيقة والمفهوم(1).
ولانريد أنّ نقول أنّ ما يظهر من أصوات الحيوانات عند الغضب أو الرضا أو الألم أو إظهار الشوق لأطفالها هو نطق، كلاّ فهي أصوات تقترن بحالات الحيوان... إلاّ أنّنا ـ كما سيأتي في الآيات التالية ـ سنرى بتفصيل أن سليمان تكلم مع الهدهد في مسائل وحمّله رسالة... وطلب منه أن يتحرّى جوابها.
وهذا الأمر يدلّ على أن الحيوانات بالإضافة إلى أصواتها الكاشفة عن حالاتها الخاصة... لها القدرة على النطق في ظروف خاصة بأمر الله، كما سيأتي الكلام في شأن تكلم النمل في الآيات المقبلة إن شاء الله.
وبالطبع فإن النطق استعمل في القرآن بمعناه الوسيع،حيث يبيّن حقيقة النطق ونتيجته، وهو بيان ما في الضمير، سواءً كان ذلك عن طريق الألفاظ أو عن طريق الحالات الأخر، كما في قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق )(2)إلاّ أنّه لا حاجة إلى تفسير كلام سليمان ومنطق الطير بهذا المعنى... بل طبقاً لظاهر الآيات فإن سليمان كان بإمكانه أن يعرف ألفاظ الطير الخاصة الدالة على مسائل معيّنة فيشخّصها، أو أنّه كان يتكلم معها فعلا..
وسنتكلم في هذا الشأن في البحوث إن شاء الله تعالى.
أمّا جملة (أُوتينا من كل شيء ) فهي على خلاف ما حدده جماعة من المفسّرين، لها مفهوم واسع شامل.. فهي تشمل جميع الأسباب اللازمة لإقامة حكومة الله في ذلك الحين.. وأساساً فإن الكلام سيقع ناقصاً بدونها، ولا يكون له
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يقول ابن منظور في لسان العرب: "النطق" هو التكلم، ثمّ يضيف "وكلام كل شيء منطقه. ومنه قوله تعالى:(علمنا منطق الطير ) ثمّ ينقل عن بعض علماء العرب ـ وهو ابن سيده ـ أنّه "خلافاً لما قال بعضهم: إن النطق خاص بالإنسان. فقد يستعمل النطق في غير الإنسان". وينبغى الإلتفات إلى أن الفلاسفة وعلماء المنطق أطلقوا النطق على القدرة على التفكير الذي يعطي الانسان التمكن من الكلام...
2 ـ الجاثية، الآية 29.
[29]
ارتباط واضح بما سبق.
وهنا يثير الفخر الرازي سؤالا فيقول: أليس التعبير بـ (علمنا ) و (أوتينا ) من قبيل كلام المتكبرين؟!
ثمّ يجيب على سؤاله هذا بالقول: إن المراد من ضمير الجمع هنا هو سليمان وأبوه، أو هو و معاونوه في الحكومة.. وهذا التعبير مستعمل حين يكون الشخص في رأس هيئة ما، أن يتكلم عن نفسه بضمير الجمع!.
* * *
بحوث
1 ـ علاقةُ الدين بالسيّاسة
خلافاً لما يتصوره أصحاب النظرة الضيقة من أن الدين مجموعة من النصائح والمواعظ، أو المسائل الخاصة بالحياة الشخصيّة للانسان.. بل هو مجموعة من القوانين والمناهج الحيوية التي تستوعب جميع مسائل حياة الإنسان وخاصة المسائل الإجتماعية.
فقد بُعث الأنبياء لإقامة القسط والعدل كما في الآية (25) من سورة الحديد، إذ يقول سبحانه (ليقوم الناس بالقسط ).
وليضع الأنبياء عن الناس (إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) فيتمتعوا بالحرية كما أشارت إلى ذلك الآية (157) من سورة الأعراف.
والدين رحمة ومنجاة للمستضعفين وتخليصهم من نير المتكبرين الظالمين.
والدين ـ أخيراً ـ مجموعة من التعاليم والتربية في مسير تزكية الإنسان والرقي به نحو الكمال (كما أشارت إليه الآية 2 من سورة الجمعة).
وبديهي أن هذه الأهداف الكبرى لا يمكن أن تتحق دون إقامة الحكومة! فمن ذا يستطيع أن يقيم القسط بين الناس بمجرّد التوصيات الاخلاقيّة؟.. أو أن
[30]
يقطع أيدي الظالمين عن المستضعفين، ويضع الإصر والأغلال عن يدي الإنسان ورجليه دون الاستناد الى قدرة شاملة!!
ومن يستطيع أن ينشر الثقافة الصحيحة والمسائل التربوية في مجتمع يشرف عليه المفسدون، فيمنح القلوب الملكات الأخلاقيّة؟
وهذا هو ما نقوله بأنّ الدين لا ينفصل عن السياسة، فإذا انفصل الدين عن السياسة فقد فقد عضده وشُلت يده، وإذا انفصلت السياسة عن الدين تبدّلت إلى عنصر مخرب يستغله أصحاب المنافع الشخصيّة!
إن النّبي (صلى الله عليه وآله) إنّما وفق لنشر هذا الدين القويم السماوي في أرجاء العالم بسرعة، لأنّه أسس حكومته في أوّل فرصة واتته، وتابع أهدافه الإلهية عن طريق الحكومة الإسلامية.
وهناك بعض الأنبياء ممن نال مثل هذا التوفيق فنشروا دعوتهم إلى الله في الأرض أفضل بشكل... أمّا من لم تسمح لهم الفرصة بإقامة حكومة إلهية، فإنّهم لم يحالفهم التوفيق كثيراً في نشر رسالتهم الالهية..
2 ـ آيات الحكومة الإلهية
ممّا يلفت النظر أنّنا نجد في قصّة سليمان وداود ـ بصورة واضحة ـ أنّهما استطاعا أن يقلعا جذور الشرك وآثاره بسرعة، وأن يقيما نظاماً إلهياً عادلا.. نظاماً يقوم على اسس واركان ـ طبقاً لما في الآيات محل البحث ـ العلم والمعرفة والإطلاع في المجالات المختلفة.
نظاماً يتوج منهجه اسم الله، فهو على رأس لوحته.
نظاماً استعمل كل قواه حتى الطائر، من أجل الوصول إلى أهدافه.
نظاماً جعل الشياطين مغلولةً، والظالمين اذلاء لا يتجاوزون حدودهم.
وأخيراً فإنّ هذا النظام كانت لديه القدرة النظامية "العسكرية" الكافية،
[31]
والجهاز التجسس "الأمني"، والأفراد المتخصصون في المجالات الإقتصادية والإنتاجيّة والعلمية المختلفة، وكل ذلك كان تحت خيمة "الإيمان" ومظلّة "التوحيد".
3 ـ منطق الطير
في الآيات المتقدمة والآيات التالية بعدها التي تذكر قصّة سليمان والهدهد، إشارة صريحة إلى منطق الطير، وبعض ما يتمتع به الحيوان من شؤون.
وممّا لا شك فيه أنَّ الطيور كسائر الحيوانات تظهر أصواتاً في حالاتها المختلفة، بحيث يمكن معرفتها بدقة، أن أيَّ صوت يعبّر عن الجوع؟ وأىّ صوت يعبر عن الغضب؟ وأي صوت يعبر عن الرضا؟ وأي صوت يعبّر عن التمني؟ وأىّ صوت يدعوا الأفراخ إليه؟ وأي صوت يعبر عن القلق والإستيحاش والرعب؟.
فهذه الأصوات من أصوات الطيور، لا مجال للشك والتردد فيها، وكلّنا نعرفها مع اختلاف في كثرة الإطلاع أو قلّته! إلاّ أنّ آيات هذه السورة ـ بحسب الظاهر ـ تبيّن موضوعاً أوسع ممّا ذكرناه آنفاً.. فالبحث هنا عن نطقها بنحو "معمّى خفيّ" بحيث ينطوي على مسائل دقيقة، والبحث عن تكلمّها وتفاهمها مع الانسان.. وبالرغم من أن هذا الأمر مدعاة لتعجب بعضهم، إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى المسائل المختلفة التي كتبها العلماء ومشاهداتهم الشخصية في شأن الطيور، لا يكون الموضوع عجيباً.
فنحن نعرف عن ذكاء الطيور مسائل أعجب من هذا.
فبعضها لديها المهارة في صنع أعشاشها وبيوتها بشكل أنيق، قد يفوق عمل مهندسينا أحياناً.
وبعض الطيور تعرف عن وضع أفراخها في المسقبل، وحاجاتها، وتعمل لها عملاً دقيقاً، بحيث تكون مثار إعجابنا جميعاً.
[32]
وتوقعها لما سيكون عليه الجوّ حتى بالنسبة لعدّة أشهر تالية، ومعرفتها بوقوع الزلازل قبل أن تقع، وقبل أن تسجلها مقاييس الزلازل المعروفة!.
والتعليمات التي تصدر إلى الحيوانات في "السيرك" ونشاطاتها وأعمالها الخارقة للعادة الحاكية عن ذكائها العجيب..
أعمال النمل وحركاته العجيبة وتمدنه المثير.
عجائب حياة النحل، وما تقوم به من أعمال محيرة.
معرفة الطيور المهاجرة بالطرق الجويّة، وقد تقطع المسافة بين القطبين الشمالي والجنوبي!
خبرة الأسماك في مهاجرتها الجماعية في أعماق البحار.
كل ذلك من المسائل العلمية المسلّم بها، كما أنّها دليل على وجود مرحلة مهمّة من الإدراك أو الغريزة ـ أو ما شئت فسمه ـ في هذه الحيوانات!.
وجود الحواس غير الطبيعية في الحيوانات ـ كالرادار للخفاش، وحاسة الشم القوية في بعض الحشرات، والنظر الحاد عند بعض الطيور، وأمثالها، دليل آخر على أنّها ليست متخلفة عنّا في كل شيء!
فمع الأخذ بنظر الإعتبار جميع ما بيّناه، لا يبقى مجال للعجب من أن لهذه الحيوانات تكلماً ونطقاً خاصاً، وأنّها تستطيع أن تتكلم مع الإنسان الذي يعرف، "ألف باءها"... وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إلى هذا المعنى، ومنها الآية (38) من سورة الأنعام (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ أُمم أمثالكم )(1).
وفي الرّوايات الإسلامية أُمور كثيرة أيضاً، تكشف عن نطق الحيوانات وخاصة الطيور.. وحتى أنّه نقل لكلّ "منطقٌ" هو بمثابة الشعار، بحيث يطول
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا بحث آخر ذيل الآية (38) من سورة الأنعام.
[33]
المقام بنا لو تعرضنا له بالتفصيل(1).
ففي رواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق أنّه قال: قال أميرالمؤمنين علي لابن عباس "إنّ الله علّمنا منطق الطير كما علّم سليمان بن داود ومنطق كل دابة في برّ أو بحر" (2).
4 ـ رواية "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث"..
نقل أهل السنة في كتبهم المختلفة حديثاً عن النّبي (صلى الله عليه وآله) مضمونه أنّه قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة".. وربّما نقل الحديث في بعض الكتب بحذف الجملة الاّولى والاكتفاء بعبارة: "ما تركناه صدقة ".
وسند هذا الحديث ينتهي في كتب أهل السنة المشهورة إلى "أبي بكر" ـ غالباً ـ إذ تولّى بعد النّبي (صلى الله عليه وآله) زمام أُمور المسلمين، وحين طلبت منه سيدة النساء فاطمة(عليها السلام) أو بعض أزواج النّبيّ ميراثها منه امتنع عن دفع ميراث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إليها استناداً إلى الحديث آنف الذكر.
وقد نقل هذا الحديث "مسلم" في صحيحه "الجزء 3 ـ كتاب الجهاد والسير ص 1379" و"البخارى" في الجزء الثامن من كتاب الفرائض ص 185، وجماعة آخرون في كتبهم.
ممّا يلفت النظر أن "البخاري" نقل في صحيحه حديثاً عن "عائشة" أنّها قالت: "إن فاطمة والعباس (عليهما السلام) أتيا أبابكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال أبوبكر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث... ما تركناه صدقة، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال... قال أبوبكر: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله يصنعه فيه إلاّ صنعته "قال" فهجرته
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإطلاع يراجع تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث وتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 77، فما بعد..
2 ـ المصدر السابق، ص 81.
[34]
فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت(1)!.
وبالطبع فإنّ هذا الحديث فيه مجال للنقد والطعن من جهات متعددة، إلاّ أنّنا نقتصر في هذا التّفسير على ذكر مايلي:
1 ـ إنّ هذا الحديث لا ينسجم مع نصّ القرآن... ووفقاً للقواعد الأصولية التي عندنا، أن كلّ حديث لا يوافق كتاب الله ساقط عن الإعتبار، ولا يمكن التعويل على أنّه حديث شريف من أحاديث النبي أو المعصومين(عليهم السلام).
ففي الآيات آنفة الذكر، ورد "وورث سليمان داود " وظاهر الآية مطلق يشمل حتى الأموال.. ونقرأ في شأن يحيى وزكريا (يرثني ويرث من آل يعقوب ) "مريم الآية 6". ولا سيما في ما يخصّ زكريا، فإن كثيراً من المفسّرين أكّدوا على الأُمور المالية!.
إضافة إلى ذلك فإنّ ظاهر آيات الإرث في القرآن المجيد عام ويشمل جميع الموارد.
وربّما كان لهذا السبب أن يفسر "القرطبي" ـ مضطراً ـ الحديث على أنّه غالباً ما يكون كذلك، لا أنّه عام، وقال: هذا مثل قولهم: إنّا ـ معشَر العربِ ـ أقرى الناس للضيف، مع أن هذا الحكم غيرُ عام(2).
إلاّ أن من الواضح أن هذا الكلام ينفي "قيمة هذا الحديث..." لأنّنا إذا توسّلنا بهذا العذر في شأن سليمان ويحيى، فإنّ شموله للموارد الأُخرى غير قطعي أيضاً.
2 ـ إنّ الرّواية المتقدمة تعارض رواية أُخرى تدلّ على أن أبابكر صمّم على إعادة فدك إلى فاطمة(عليها السلام)، إلاّ أن الآخرين ما نعوه، كما نقرأ في سيرة الحلبي: إن فاطمة قالت له: من يرثُك؟! قال أهلي وولدي! فقالت: فما لي لا أرث أبي؟. وفي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ صحيح البخاري ـ الجزء الثامن، ص 185.
2 ـ تفسير القرطبى، ج 7، ذيل الآيات محل البحث، ص 4880.
[35]
كلام سبط بن الجوزي: إنّه كتب لها بفدك ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال: فماذا تنفق على المسلمين، وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه(1).
ترى كيف يمنع النّبي(صلى الله عليه وآله) موضوع الإرث وينهى عنه بصراحة، ويجرؤ أبوبكر على مخالفته؟! ولم استند عمر إلى المسائل العسكرية وحاجة المعارك، ولم يستند إلى الرواية؟!
إن التحقيق الدقيق ـ في الروايات الآنفة ـ يدل على أن الموضوع لم يكن موضوع نهي النّبي عن الإرث، كما أثاره أبوبكر، بل المهم هنا المسائل السياسية آنئذ، وهذه المسائل هي ما تدعونا إلى أن نتذكر مقالة ابن أبي الحديد المعتزلي إذ يقول: سألت أستاذي "علي بن الفارقي": أكانت فاطمة، صادقةً؟ فقال: نعم. قلتُ: فلم لم يدفع اليها أبوبكر فدك وهي عنده صادقة؟ يقول: المعتزلى: فتبسم أستاذي، ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدكاً بمجرّد دعواها، لجاءت إليه غداً وادعت لزوجه الخلافة ولم يمكنه الإعتذار بشيء لأنّه يكون قد أسجل على نفسه أنّها صادقة فيما تدعى كائناً ما كان من غير حاجة الى بينّة ولا شهود(2).
3 ـ الرواية المعروفة عن النّبي الواردة في كثير من كتب أهل السنّة والشيعة "العلماء ورثة الأنبياء" (3).
وما نقل عنه(صلى الله عليه وآله) أيضاً "إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً" (4).
يُستفاد من مجموع هذين الحديثين أن الهدف الأساس للأنبياء نشر العلم، وهم يفخرون به، وأهم ما يتركونه هو الهداية. ومن يحصل على الحظ الكبير من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سيرة الحلبي، ج 3، ص 488.
2 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج16، ص284.
3 ـ صحيح الترمذى، باب العلم، الحديث 19، وسنن ابن ماجة مقدمة الحديث 17.
4 ـ أصول الكافي، ج 1، باب صفة العلم، الحديث 2.
[36]
العلم والمعرفة فهو وارثهم الأصيل... بصرف النظر عن الأموال التي يرثها عنهم، ثمّ إن هذا الحديث منقول في المعنى، وعُبّر عنه تعبيراً سيئاً ويحتمل أن يكون (ما تركناه صدقة ) المستنبط من بعض الرّوايات مضاف عليه.
ولكي لا يطول بنا الكلام ننهي كلامنا ببحث للمفسر المعروف من أهل السنة "الفخر الرازي" الذي أورده ذيل الآية (11) من سورة النساء إذ يقول: من تخصيصات هذه الآية "آية الإرث" ما هو مذهب أكثر المجتهدين، أن الأنبياء(عليهم السلام)لا يورّثون، والشيعة خالفوا فيه.. رُوي أن فاطمة(عليها السلام) لما طلبت الميراث ومنعوها منه احتجوا بقوله(عليه السلام): "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث.. ما تركناه صدقة".. فعند هذا احتجت فاطمة(عليها السلام) بعموم قوله: (للذكر مثل حظ الانثيين )وكأنّها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد.
ثمّ يضيف الفخر الرازي قائلا: إنّ الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، إلاّ أنّه غير جائز هنا وبيانه من ثلاثة أوجه:
"أحدها" : أنّه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا(عليه السلام): (يرثني ويرث من آل يعقوب ).. وقوله تعالى: (وورث سليمان داود ) قالوا: ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين، لأنّ ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة، بل يكون كسباً جديداً مبتدأً، إنّما التوريث لا يتحقق إلاّ في المال على سبيل الحقيقة.
"وثانيها": أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة وعلي والعباس، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين، وأمّا أبوبكر فإنّه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة البتة، لأنّه ما كان يخطر بباله أن يرث من الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف يليق بالرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها؟ ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشدٌّ الحاجة؟!
"وثالثها": يحتمل أن قوله: "ما تركناه صدقة" صلة "لا نورث" والتقدير (الذي تركناه صدقة) فذلك الشىء (لايُوَرَّثُ).
[37]
فإن قيل: لايبقى للرّسول خاصية في ذلك!
قلنا: بل تبقى الخاصية، لإحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدّق بشيء فبمجرّد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم!
والجواب: أنّ فاطمة رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة، وانعقد الإجماع على صحة ما ذهب إليه أبوبكر! الخ(1).
إلاّ أن من الواضح أن جواب الفخر الرازي لا يناسب الإستدلالات السابقة، لأنّه كما ذكرنا آنفاً ونقلناه عن المصادر المعتبرة عند أهل السنة... فإن فاطمة لا أنّها لم ترض بكلام أبي بكر فحسب، بل ظلّت واجـدةً و"غاضبة" عليه، فلم تكلمه حتى آخر عمرها سلام اللّه عليها!
ثمّ بعد هذا كلّه كيف يمكن أن يدّعي الإجماع في هذه المسألة، مع أنّ عليّاً وفاطمة(عليها السلام) والعباس وأضرابهم الذين تربّوا في مهبط الوحي ومركزه، كانوا مخالفين لهذا الرأي.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 9، ص 210.
[38]
الآيات
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَـنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالاِْنْسِ وَالْطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتّى إذَاْ أَتَوأ عَلَى وَادِ الَّنمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاَيُّهَا الَّنمْلُ اُدْخُلُوا مَسَـكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّنْ قَوْلِهَا وَقَـالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلى وَلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـلِحاً تَرْضـهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصّـلِحِينَ (19)
التّفسير
سُليمانُ في وادي النَمْلِ:
يستفاد من آيات هذه السورة، وآيات سورة سبأ أن "حكومة سليمان" لم تكن حكومةً مألوفة، بل حكومة مقرونة بما يخرق العادات والمعاجز المختلفة، التي ورد قسم منها في هذه السورة، والقسم الآخر ورد في سورة "سبأ" أمّا ما ورد في هذه السورة من الأُمور الخارقة للعادة "حكومة سليمان على الجن، والطير، وإدراكه كلام النمل، وكلامه مع الهدهد".
وفي الحقيقة فإنّ الله أظهر قدرته في هذه الحكومة وما سخّر لها من قوى،
[39]
ونحن نعرف أن هذه الأُمور عند الله ـ في نظر الإنسان الموحّد ـ يسيرة وسهلة!.
وأوّل ما تبدأ هذه الآيات بقوله تعالى: (وحُشر لسليمانَ جنودُه من الجنّ والإنس والطير ).
وكانت جنوده من الكثرة بحيث كانوا عند التحرك والمسير، ومن أجل المحافظة على النظم. يؤمرون بتوقف مقدمة الجيش لتلحق بها مؤخرتها (فهم يوزعون ).
"يُوزعون" من مادة (وزع ) على وزن (جمَعَ) ومعناه الحبس والإيقاف، وهذا التعبير متى أُطلق على الجند أو الجيش فيعني إيقاف أوّل الجيش ليلحق به آخره، لكي يحفظ من التشتت والتفرق.
وكلمة "وزع" معناها الحرص والعلاقة الشديدة بالشيء، بحيث تمنع الإنسان عن الأُمور الأخرى.
ويستفاد من هذا التعبير أنّ جنودسليمان كانوا كثيرين، كما كانوا يخضعون للنظم والانضباط.
"وَحشر" فعل ماض من (الحشر) على وزن (نشر) ومعناه إخراج الجمع من المقرّ، والتحرك نحو الميدان للقتال، وما أشبه ذلك.
ويستفاد من هذا التعبير ـ والتعبير التالي في الآية الأُخرى أنّ سليمان(عليه السلام)كان قد جمع جنوده وحرّكهم نحو نقطة ما، لكن هذه النقطة أية نقطة هي؟ وأين كان يتجه سليمان؟ ليس ذلك معلوماً على وجه الدقّة.
واستفاد بعضهم من الآية التالية التي تتحدث عن وصول سليمان إلى وادي النمل، أنّها منطقة على مقربة من الطائف. وقال بعضهم: بل هي منطقة على مقربة من "الشام".
وحيث أنّ هذا الموضوع لا تأثير له في الأُمور الأخلاقية والتربوية "للآية" لذلك لم تتطرق له الآية الكريمة.
وهناك ـ ضمناً ـ جدلٌ بين كثير من المفسّرين في أن الإنس والجن والطير،
[40]
هل كانوا جميعاً من جنود سليمان؟ فتكون (من) في الآية بيانية، أو أن قسماً منهم كان يؤلف جيشه وجنوده فتكون (من) تبعيضية.. ويبدو أن هذا بحث لا طائل تحته... لأنّ سليمان ـ دون أدنى شك ـ لم يكن حاكماً على وجه البسيطة كلها، بل كانت منطقة نفوذه وحكومته منطقة الشام وبيت المقدس، وقد يدخل بعض ما حولهما تحت سلطته وحكومته!.
كما يستفاد من الآيات التالية أنّه لم تكن له بعدُ سلطة على اليمن أيضاً.. وإنّما صارت اليمن تحت نفوذه بعد قصّة الهدهد و"تسليم ملكة سبأ" وإذعانها له.
وجملة (وتفقد الطير ) في الآيات التالية، تدلّ على أن هُدهداً واحداً كان ضمن الطير التي كانت تحت أمر سليمان، بحيث أنّه لما افتقده سأل عنه، فلو كانت الطيور جميعها تحت أمره وفيها آلاف الهداهد، لكان هذا التعبير غير صحيح "فتأملّوا بدقة" .
وعلى كل حال، فإنّ سليمان تحرك بهذا الجيش العظيم (حتى أتوا على وادي النمل ).
فخاطبت نملة من النمل أصحابها محذرة، كما تقول الآية: (قالت نملة يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون )(1).
ولنا كلام يسأتي ـ إن شاء الله ـ في كيفية اطّلاع النملة ومعرفتها بحضور سليمان وجنوده في تلك المنطقة، وكيف أوصلت صوتها إلى بقية النمل؟.
ويستفاد ضمناً من جملة (لا يشعرون ) أن عدل سليمان كان ظاهراً وواضحاً حتى عند النمل، لأنّ مفهوم الجملة أن سليمان وجنوده لو شعروا والتفتوا إلى النملة الضعيفة لما وطأوها بالأقدام، وإذا وطأوها فإنّما ذلك لعدم توجههم والتفاتهم. (فتبسم ضاحكاً من قولها ).
هناك كلمات مختلفة عند المفسّرين في الشيء الذي أضحك سليمان،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قال بعض المفسّرين: إن (التاء) في النملة للوحدة، وتأنيث الفعل مراعاة لظاهر الكلمة!..
[41]
والظاهر أن القضية ذاتها كانت عجيبة عند سليمان، بحيث تُحذّر نملة صويحباتها من النمل... تحذرهنّ من تحطيم سليمان وجنوده إياهن وهم لا يشعرون: فضحك من أجلها!
وقال بعضهم: كان ضحك سليمان سروراً منه بأن عرف أن النمل تعترف بتقواه وعدالته وتقوى جنوده وعدالتهم.
وقال بعضهم: كان ضحكه وتبسمه لأنّ الله أعطاه هذه القدرة، وهي أنّه برغم جلجلة جيشه ولجبه فإنّه التفت إلى صوت النملة مخاطبة بقية النمل فلم يغفل عنها.
وعلى كل حال، فإن سليمان توجه نحو الله.. داعياً وشاكراً مستزيداً فضله (وقال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علىّ وعلى والدي )(1).
أي، لتكون لي القدرة أن استعمل هذه النعم جميعها في ما أمرتني به وما يرضيك، ولا أنحرف عن طريق الحقّ.. فإن أداء شكر هذه النعم لا يكون إلاّ بتوفيقك وإعانتك. (وأن أعمل صالحاً ترضاه ) وهو يشير إلى أن بقاء هذا الجيش وحكومته وتشكيلاتها الواسعة غير مهم بالنسبة إليه، بل المهم أن يؤدي عملا صالحاً يرضي به ربّه، وحيث أن "أعمل" فعل مضارع فهو دليل على طلب استمرار التوفيق من قبل الله له.
والطلب الثّالث الذي طلبه سليمان من ربّه، كما حكته الآية، هو أن يجعله في زمرة الصالحين، إذ قال: (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين )..
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "أوزعنى" من مادة (إيزاع) ومعناه "الإلهام"، أو المنع عن الإنحراف، أو إيجاد العشق والتعلق، إلاّ أن أغلب المفسّرين اختاروا المعنى الأوّل.
[42]
بحوث
1 ـ معرفة سليمان بلغة الحيوانات ومنطقها
ليس لنا كثيرُ معرفة بعالم الحيوانات... وما يزال الغموض أو الإبهام يكتنف هذا العالم ويلقي عليه ظلاله، بالرغم من التقدم العلمي في هذا المجال.
إنّنا نرى آثار ذكاء الحيوانات ومهارتها في كثير من أعمالها.. فبناء خلايا النحل بشكلها المنظّم الدقيق، ودقة النمل في جميع ما يحتاج للشتاء، وكيفية ذخيرته ومذخره! ودفاع الحيوانات عن نفسها عند مواجهتها العدوّ، وحتى معرفتها بكثير من الأمراض، والعثور على بيوتها وأوكارها من الاماكن البعيدة، وقطع المسافات الطويلة للوصول إلى هدفها... وتوقّعها عن حوادث المستقبل وأمثالها.
كل هذه الأُمور تدل على أن في دنيا الحيوانات المجهولة كثيراً من الوسائل الغامضة التي لا نعرف حلّها!.
ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ كثيراً من الحيوانات تقوم بأعمال مذهلة نتيجة للتعلم والتربية... يعجز عنها حتى الانسان.
إلاّ أنّه ليس من الواضح أنّ هذه الحيوانات إلى أية درجة هي خبيرة بدنيا الناس!.. ترى هل تعلم الحيوانات واقعاً: من نحن؟! وما نعمل؟ وقد لا نعهد في هذه الحيوانات ذكاءً بهذا المستوى، إلاّ أن هذا لا يعني نفيه وسلبه عنها.
فعلى هذا الحساب إذا كنّا قرأنا في القصّة السابقة.. أن النمل علم بمجيء سليمان وجنوده، وحذر من البقاء، وأنّه يجب التوجه نحو مساكنه لئلا يحطمه سليمان وجنوده.. وسليمان عرف هذا الموضوع تماماً.. فلا مجال للعجب.
ثمّ بعد هذا فإن حكومة سليمان ـ كما قلنا آنفاً ـ كانت خارقة للعادات مقرونة بالمعاجز، فعلى هذا الأساس أبدى بعض المفسّرين اعتقادهم بأن هذا
[43]
المستوى من الإطلاع والمعرفة ـ من قبل فئة من الحيوانات في عصر سليمان، هو بنفسه إعجاز خارق للعادة، ولا يمنع أن لا نرى ذلك عينه في سائر العصور والقرون.
والغرض أنّه لا دليل عندنا على حمل قصّة سليمان والنمل، أو سليمان والهدهد، على الكناية أو لسان الحال، مع إمكان حفظ الظاهر وحمله على المعنى الحقيقي(1)!
2 ـ سليمان وإلهامه الشكر لله
إن واحدةً من أفضل العلامات لمعرفة الحكام الإلهيين وتمييزهم عن الحكام الجبابرة، هي أن الجبابرة حين يصلون إلى القدرة يغرقون في الغرور والغفلة، وينسون القيم الإنسانية كلّها... ويندكّون بشدّة في أنانيتهم!
إلاّ أن الحكام الإلهيين حين ينالون القدرة يحسّون بأعباء المسؤولية.. فيتوجهون نحو الله أكثر من أي وقت مضى، ويسألونه العون والقدرة على أداء رسالتهم... كما أن "سليمان" بعد أن وصل إلى تلك القدرة. كان أهم شيء عنده أن يسأل الله الشكر على نعمه، والإفادة من هذه المواهب في مسير رضاه وسعادة عباده!.
وممّا يلفت النظر أن يبدأ طلبه بعبارة (أوزعني ) ومفهومه الإلهام الوجداني وإعداد القوى الباطنية كلها لأداء هذا الهدف الكبير. ومعناها: اللّهم تفضل علي بقدرة وطاقة تجعلني أعبىءُ كل قواي الداخلية لأداء شكرك، وأداء ما عليّ من مسؤولية.. ودلّني على السبيل إليك، لأنّ الطريق طويل صعب محفوف
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تحدثنا في تفسير الآية (38) من سورة الأنعام عن هذا الشأن أيضاً..
[44]
بالمخاوف والمخاطر.. طريق أداء حقوق جميع الناس في مثل هذه الحكومة الواسعة.
إنّه لا يطلب الإيزاع على شكر نعم الله عليه فحسب، بل يطلب في الوقت ذاته أن يؤدي الشكر على المواهب والنعم التي أنعمها الله على والديه... لأنّ كثيراً من مواهب وجود الإنسان يرثها عن والديه... وممّا لا شك فيه أن الإمكانات التي يمنحها الله للوالدين تعين الأبناء كثيراً في سبيل الوصول لأهدافهم.
3 ـ سليمان والعمل الصالح
ممّا يلفت النظر أن سليمان رغم حكومته وسلطنته التي لا نظير لها، وتلك القدرة الواسعة، إلاّ أنّه يطلب من الله يوفقه للعمل الصالح باستمرار، وأهم من ذلك وأسمى أن يكون في زمرة عباده الصالحين.
ويستفاد من هذا التعبير:
أوّلا: أنّ الهدف النهائي من نيل القدرة هو أداء العمل الصالح، العمل الجدير القيّم... وكل ما سواه يعدّ مقدمة له!.
والعمل الصالح مقدمة ـ أيضاً ـ لنيل رضا الله ـ الذي هو الهدف النهائي وغاية الغايات.
ثانياً: أنّ الدخول في زمرة "الصالحين" مرحلة أسمى من مرحلة أداء العمل الصالح، لأنّ الأوّل يعني صلاح الذات، والثّاني صلاح العمل "لاحضوا بدقّة".
وبتعبير آخر: قد يقوم الإنسان بعمل صالح، إلاّ أن هذا المعنى لا يعدّ جزءاً من ذاته وروحه ونسيج وجوده، فسليمان(عليه السلام) يطلب من الله أن يشمله بعنايته إلى درجة يتجاوز بها مرحلة كونه يعمل صالحاً، لينفد الصلاح إلى أعماق وجوده وروحه، ولا يمكن تحقق هذا إلاّ برحمة الله.
[45]
فكم هو عزيز وغال أن يكون الإنسان عبداً صالحاً لله، بحيث يطلب سليمان من ربّه أن يدخله في عباده الصالحين، على الرغم من جاهه وحشمته وجلاله الذي لا يشك فيها أحد، وأن يحفظه الله من العثرات والزلات في كل آن، وخاصّة ما قد يصدر من الانسان وهو على رأس هيئة عظيمة وتشكيلات واسعة!
* * *
[46]
الآيات
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مالِىَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغآئِبِينَ (20) لاَُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيدَاً أَوْ لاََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنِّى بِسُلْطَـنِ مُّبِين (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأِ بِنَبَأ يَقين (22) إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَـا وَقَومَهَا يِسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ أَعْمَـلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ (24) ألاَ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَـوَتِ وَالاْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللهُ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
التّفسير
قصّة الهُدهد وملكة سبأ:
يشير القرآن في هذا القسم من الآيات إلى جانب آخر من حياة سليمان(عليه السلام)المدهشة، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ.
[47]
فيقول أوّلا: (وتفقّد الطير ).
وهذا التعبير يكشف هذه الحقيقة، وهي أنّه كان يراقب وضع البلاد بدقّة، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شيء، حتى لو كان طائراً واحداً.
وما لا شك فيه أنّ المراد من الطير هنا هو الهُدهد، لأنّ القرآن يضيف استمراراً للكلام (وقال ما لي لا أرى الهُدهد أم كان من الغائبين ).
وهناك كلام بين المفسّرين في كيفية التفات سليمان إلى عدم حضور الهدهد.
فقال بعضهم: كان سليمان(عليه السلام) عندما يتحرك تظلل الطير بأنواعها فوق رأسه فتكون مثل الخيمة، وقد عرف غياب الهدهد من وجود ثغرة في هذا الظل!.
وقال بعضهم: كان الهدهد مأموراً من قبل سليمان بالتقصيّ عن الماء كلما دعت الحاجة إليه... وعندما دعت الحاجة إلى الماء في هذه المرّة لم يجد الهدهد فعرف غيابه.
وعلى كل حال، فهذا التعبير (ما لي لا أرى الهُدهد ) ثمّ قوله: (أم كان من الغائبين )لعله إشارة إلى أن غياب الهدهد هل كان لعذر مقبول أولغير عذر؟
وعلى أيّة حال، فان حكومة منظمة ومقتدرة يجب أن تجعل كل شىء يجري داخل اطار الدولة تحت نظرها ونفوذها.. حتى وجود طائر واحد وغيابه، لابدّ أن لا يخفى عن علمها و نظرها... وهذا درس كبير لمن أراد التدبير.
ومن أجل أن لا يكون حكم سليمان غيابياً، وأن لا يؤثر غياب الهُدهد على بقية الطيور، فضلا عن الاشخاص الذين يحملون بعض المسؤوليات، أضاف "سليمان" قائلا: (لأُعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ).
والمراد من "السلطان" هنا هو الدليل الذي يتسلط به الإنسان من أجل إثبات قصده، وتأكيد هذا اللفظ بـ "مبين" هو أنّه لابد لهذا الفرد المتخلف من
[48]
إقامة دليل واضح وعذر مقبول لتخلفه!
وفي الحقيقة فإنّ سليمان قبل أن يقضي غيابياً ذكر تهديده اللازم في صورة ثبوت التخلّف... وحتى هذا التهديد جعله في مرحلتين تناسبان الذنب... مرحلة العقاب بما دون الاعدام، ومرحلة العقاب بالإعدام.
وقد برهن "سليمان" ضمناً أنّه ـ حتى بالنسبة للطائر الضعيف ـ يستند في حكمه إلى المنطق والدليل، ولا يعوّل على القوّة والقدرة أبدا.
ولكن غيبة الهدهد لم تطل (فمكث غير بعيد ) عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان: (فقال أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ).
وكأن الهدهد قد رأى آثار الغضب في وجه سليمان، ومن أجل أن يزيل ذلك التهجم، أخبره أوّلاً بخبر مقتضب مهم الى درجة أن سليمان نفسه كان غير مطّلع عليه، برغم ما عنده من علم، ولما سكن الغضب عن وجه سليمان، فصّلَ الهدهد له الخبر، وسيأتي بيانه في الآيات المقبلة.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ جنود سليمان ـ حتى الطيور الممتثلة لأوامره ـ كانت عدالة سليمان قد أعطتهم الحرية والأمن والدعة بحيث يكلمه الهدهد دون خوف وبصراحة لا ستار عليها فيقول: (أحطت بما لم تحط به ).
فتعامل الهدهد "وعلاقته" مع سليمان لم يكن كتعامل الملأ المتملقين للجبابرة الطغاة.. إذ يتملقون في البدء مدة طويلة، ثمّ يتضرعون ويعدون أنفسهم كالذرّة أمام الطود، ثمّ يهوون على أقدام الجبابرة ويبدون حاجتهم في حالة من التضرع والتملق، ولا يستطيعون أن يصرّحوا في كلامهم أبداً، بل يكنّون كنايةً أرق من الورد لئلا يخدش قلب السلطان غبار كلامهم!!.
أجل، إنّ الهُدهد قال بصراحة: غيابي لم يكن اعتباطاً وعبثاً... بل جئتك بخبر يقين "مهم" لم تحط به!
وهذا التعبير درس كبير للجميع، إذ يمكن أن يكون موجود صغير كالهدهد
[49]
يعرف موضوعاً لا يعرفه أعلم من في عصره، لئلا يكون الإنسان مغروراً بعلمه... حتى لو كان ذلك سليمان مع ما عنده من علم النبوّة الواسع.
وعلى كل حال، فإنّ الهدهد أخذ يفصّل لسليمان ما حدث فقال: (إنّى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ).
لقد بيّن الهُدهد لسليمان بهذه الجمل الثلاث جميع مواصفات هذا البلد تقريباً، وأسلوب حكومته!
فقال أوّلاً: إنّه بلد عامر فيه جميع المواهب والإمكانات، والآخر إنّني وجدت امرأة في قصر مجلل تملكهم، والثّالث: لها عرش عظيم ـ ولعله أعظم من عرش سليمان ـ لأنّ الهدهد كان رأى عرش سليمان حتماً، ومع ذلك يصف عرش هذه الملكة بأنّه عظيم.
وقد أفهم الهدهد بكلامه هذا سليمان أنّه لا ينبغي أن تتصور أن جميع العالم تحت "نفوذ أمرك وحكومتك"! وأن عرشك هو وحده العرش العظيم...
ولما سمع سليمان(عليه السلام) كلام الهدهد غرق في تفكيره، إلاّ أن الهُدهد لم يمهله طويلا فأخبره بخبر جديد.. خبر عجيب، مزعج مريب، إذ قال: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم ) فكانوا يفخرون بعبادتهم للشمس وبذلك صدّهم الشيطان عن طريق الحق (فصدهم عن السبيل ).
وقد غرقوا في عبادة الاصنام حتى أنّي لا أتصور أنّهم يثوبون إلى رشدهم (فهم لا يهتدون ).
وهكذا فقد بين الهدهد ما هم عليه من حالة دينية ومعنوية أيضاً، إذ هم غارقون في الشرك والوثنية والحكومة تروّج عبادة الشمس... والناس على دين ملوكهم.
معابدهم وأوضاعهم الأُخرى تدل على أنّهم سادرون في التيه، ويتباهون
[50]
بهذا الضلال والإنحراف، وفي مثل هذه الظروف التي يرى فيها الناس والحكومة على خط واحد، فمن البعيد إمكان هدايتهم.
ثمّ أضاف الهُدهد قائلا: (ألاّ يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون )(1).
وكلمة "خَبء" على وزن (صبر) معناها كل شيء خفي مستور، وهي هنا إشارة إلى إحاطة علم الله بغيب السماوات والأرض، أي: لِمَ لا يسجدون لله الذي يعلمُ غيب السماوات والأرض وما فيهما من أسرار؟!
وما فسّره بعضهم بأن الخبء في السماوات هو الغيث، والخبء في الأرض هو النبات، فهو ـ في الحقيقة ـ من قبيل المصداق البارز.
والطريف في الآية أنّها تتكلم أوّلاً عما خفي في السماوات والأرض، ثمّ تتكلم عن أسرار القلوب!.
إلاّ أنّه لِمَ استند الهدهد من بين جميع صفات الله إلى علمه بغيب العالم وشهوده كبيره و صغيره؟!
لعل ذلك لمناسبة أن سليمان ـ بالرغم من جميع قدرته ـ كان يجهل خصائص بلد سبأ، فالهدهد يقول: ينبغي الإعتماد على الله الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض.
أو لمناسبة أنّه ـ طبقاً لما هو معروف ـ للهدهد حس خاص يدرك به وجود الماء في داخل الأرض... لذلك يتكلم عن علم الله الذي يعلم بكل خافية في عالم الوجود.
وأخيراً يختتم الهدهد كلامه هكذا (الله لا اله إلاّ هو ربّ العرش العظيم ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة "ألاّ" مركبة من (أن ولا) كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسّرين، وهي متعلقة بجملة (فصدهم) أو "زين لهم الشيطان" وقدروا لها اللام فتكون الجملة هذا النحو من التقدير "صدّهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله" إلاّ أن الظاهر أن (ألاّ) حرف تحضيض ومعناه (هلاّ) وكما قلنا في المتن فإنّ هذه الجملة من كلام الهدهد تعقيباً على ما سبق، وإن كان هناك من يقول بأنها استثنافية وإنها من كلام الله..
[51]
وهكذا يختتم الهدهد كلامه مستنداً إلى "توحيد العبادة" و"توحيد الرّبوبية" لله تعالى. مؤكداً نفي كل أنواع الشرك عنه سبحانه.
* * *
ملاحظتان
أ ـ الدروس التعليميّة
ما قرأناه في هذا القسم من الآيات، فيه لطائف كثيرة ومسائل دقيقة، يمكن أن يكون لها كبير الأثر في حياة الناس وسياسة الحكومات جميعاً.
1 ـ فرئيس الحكومة أو المدير العام، ينبغي عليه أن يكون دقيقاً في دائرته أو تشكيلاته التنظيمية، بحيث يتابع حتى غياب الفرد الواحد ويتفقده!
2 ـ أن يراقب تخلف الفرد، وأن يتخذ الحكم الصارم، لكيلا يؤثر غيابه على الآخرين.
3 ـ لا ينبغي أن يُصدر حكماً غيابياً أبداً دون أن يمنح المتخلف الفرصة للدفاع عن نفسه، مع الإمكان.
4 ـ ينبغي أن يجعل لكل جريمة عقاباً مناسباً... وأن يكون العقاب بمقدار الذنب، وأن يراعي سلسلة مراتبه.
5 ـ أن على أي شخص ـ حتى لو كان أكبر الناس، أو بيده أعظم المسؤوليات والقدرة الإجتماعية ـ أن يذعن للمنطق والدليل حتى ولو صدر من فم أضعف الخلق!.
6 ـ ينبغي أن تحكم الصراحة في محيط المجتمع، وأن يتمتع أفراده بالحرية بحيث يستطيع الواحد منهم عند اللزوم أن يقول لرئيس الحكومة: (أحطت بما لم تُحط به )!
7 ـ من الممكن أن يكون أقل ا لأفراد على اطلاع ومعرفة، في حين أنّ أكبر
[52]
العلماء وأصحاب النفوذ غير مطلعين، لكيلا يغتر أىّ إنسان بعلمه!
8 ـ في المجتمع البشري حاجات وضرورات متبادلة، بحيث قد يحتاج أكبر شخص فيه ـ كسليمان مثلا ـ إلى مساعدة أدنى شخص حتى ولو كان مثل الهدهد!
9 ـ بالرغم من أن في النساء قابليات كثيرة! وقصّة سليمان نفسها حاكية عن أن ملكة سبأ كانت تتمتع بدراية كبيرة وفهم عال، إلاّ أنّ قيادة الحكومة لا تتلاءم مع حالة المرأة وروحها وجسمها، بحيث يتعجب الهدهد من هذه المسألة ويقول: (إنّي وجدت امرأة تملكهم )!
10 ـ أغلب الناس على دين ملوكهم.. لذلك نقرأ في هذه القصّة أن الهدهد يقول في شأن الملكة وقومها: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ).
يتحدث الهدهد أولا عن سجودها ثمّ عن سجود قومها.
ب ـ الجواب على بعض الأسئلة
للمفسرين هنا بعض الأسئلة، ومنها: كيف لم يُحط سليمان(عليه السلام) بمثل هذه البلدة مع ما لديه من علم وإمكانات وفيرة في حكومته؟.
ثمّ كيف طوى الهدهد هذه المسافة بين اليمن ومركز حكومة سليمان الّذى كان في الشام "على ما يظهر"؟
وهل كان الهدهد قد ضل الطريق ثمّ اهتدى إلى ذلك المكان، أو كان له غرض آخر؟!
أمّا في ما يخص السؤال الأوّل فيمكن أن يُجاب عنه بأن سليمان(عليه السلام) كان ذا علم بوجود هذه البلدة، إلاّ أنّه لم يعرف خصائصها، ثمّ إن صحراء الحجاز كانت تفصل بين اليمن والشام، ولم تكن وسائل المواصلات بين البلدان يومئذ كما هي
[53]
عليه في يومنا هذا "وبالطبع فإنّ علمه عن طريق الغيب والإلهام الإلهي موضوع آخر".
وأمّا قطع المسافة من قبل الهدهد، فأنّها لم يكن عسيرة عليه.. لأنّنا نعرف بعض الطيور التي تقطع المسافة بين القطبين.. والفاصلة بين الشام واليمن إزاء تلك المسافة لا تعدّ شيئاً.
وأمّا مجيء الهدهد إلى سبأ فكان ـ كما تقول بعض التواريخ ـ أنّ سليمان عزم على زيارة بيت الله الحرام، فتوجه من الشام ليؤدي مناسك إبراهيم(عليه السلام) "أى الحج"، وفي مسيره رغب في السير نحو الجنوب، فواصل منطقةً لا تبعد عن اليمن كثيراً.. فاغتنم الهدهد الفرصة عندما استراح سليمان في تلك المنطقة وجاء إلى قصر ملكة سبأ فرأى ما رأى من المشهد المثير العجيب(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لا بأس بمراجعة دائرة المعارف لمحمّد فريد وجدي، ج 10، ص 470 مادة "الهدهد" بالرغم من أن الرّواية المذكورة هناك لم تخل من المبالغات!..
[54]
الآيات
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَـذِبِينَ (27) اذْهَب بِّكِتَـبِى هَذا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُون (28) قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّى أُلْقِىَ إلَىَّ كِتَـبٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَـنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَاَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّة وَأُولُوا بَأس شَدِيد وَالاَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِى مَاذَا تَأمُرِينَ (33) قَالَتْ إنَّ الْمُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفَسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهآ أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّة فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
التّفسير
الملوكُ مفسدون مخرّبون:
لقد أصغى سليمان(عليه السلام) إلى كلام الهُدهد بكل اهتمام.. وفكّر مليّاً، ولعل سليمان كان يظنُّ أن كلام الهدهد صحيح، ولا دليل على كذب بهذا الحجم.. لكن
[55]
حيث أن هذه المسألة لم تكن مسألة "ساذجةً" بسيطة، ولها أثر كبير في مصير بلد كامل وأمّة كبيرة!.. فينبغي أن لا يكتفي بمخبر واحد، بل ينبغي التحقيق أكثر في هذا المجال: (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ).
وهذا الكلام يثبت بصورة جيدة أنّه يجب الاهتمام في المسائل المصيرية المهمّة، حتى لو أخبر بها "فردٌ" صغير، وأن يُعجّل في التحقيقات اللازمة "كما تقتضيه السين" في جملة "سننظر"!
سليمان(عليه السلام) لم يتهم الهدهد فيحكم عليه بالكذب.. ولم يُصدّق كلامه دون أىّ دليل... بل جعله أساساً للتحقيق!
وعلى كل حال،فقد كتب كتاباً وجيزاً ذا مغزى عميق، وسلّمه إلى الهدهد وقال له: (اذهب بكتابي فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون )(1).
يستفاد من التعبير (ألقه إليهم ) أن يلقي الكتاب عندما تكون ملكة سبأ حاضرة بين قومها، لئلا تعبث به يد النسيان أو الكتمان.، ومن هنا يتّضح أن ما ذهب إليه بعض المفسّرين بأن الهدهد ذهب إلى قصر ملكة سبأ ودخل مخدعها وألقى الكتاب على صدرها أو حنجرتها ـ لا يقوم عليه دليل ـ وإن كان متناسباً مع الجملة التي وردت في الآية التالية (إنّي أُلقي إليّ كتاب كريم ).
ففتحت ملكة سبأ كتاب سليمان، واطّلعت على مضمونه، وحيث أنّها كانت من قبل قد سمعت بأخبار سليمان واسمه، ومحتوى الكتاب يدلّ على إقدامه وعزمه الشديد في شأن بلدة "سبأ"، لذلك فكّرت مليّاً، ولما كانت في مثل هذه المسائل المهمّة تستشير من حولها، لذلك فقد دعتهم وتوجهت إليهم و(قالت يا أيّها الملأ إنّي أُلقي إليّ كتاب كريم ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قال بعض المفسّرين: إن جملة "ثمّ تول عنهم" مؤخرة معنىً، وإن تقدمت في العبارة، وأصلها هكذا: فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم... وإنّما قدروا ذلك لأنّ تولّ عنهم معناه العودة والرجوع، مع أن ظاهر الآية أنّه ألق الكتاب واعرض عنهم وانتظر في مكان مشرف لترى رد فعلهم!..
[56]
ترى، حقّاً أن ملكة سبأ لم تكن رأت "حامل الكتاب"، إلاّ أنّها أحست بأصالة الكتاب من القرائن الموجودة فيه؟ ولم تحتمل أن يكون الكتاب مفتعلا ومفترى أبداً..؟!
أم أنّها رأت الرّسول بأُم عينيها، ورأت كيفية وصول الكتاب المدهشة التي هي بنفسها دليل على أن المسألة واقعية ومهمّة، ومهما كان الأمر فإنّها عوّلت على الكتاب بكل اطمئنان؟.
وقول الملكة: (إنّي ألقي إلي كتاب كريم ) "أي قيم" لعله لمحتواه العميق، أو لأنّه بُدىء باسم الله أو لأنّه ختم بإمضاء صحيح(1). أو لأنّ مرسله رجل عظيم، وقد احتمل كل مفسّر وجهاً منها ـ أو جميعها ـ لأنّه لا منافاة بينها جميعاً. وقد تجتمع جميعها في هذا المفهوم الجامع!.
صحيح أنّهم (قوم سبأ) كانوا يعبدون الشمس، إلاّ أننا نعرف أن كثيراً من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بالله ـ أيضاً ـ ويسمونه رب الأرباب ويعظمونه ويحترمونه.
ثمّ إن "ملكة سبأ" تحدثت عن مضمون الكتاب فقالت: (إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرحمن الرحيم ألاّ تعلوا علي وأتوني مسلمين )(2).
ومن البعيد ـ كما يبدو ـ أن يكون سليمان كتب كتابه إلى ملكة سبأ بهذه العبارات "وهذه الألفاظ العربيّة". إذاً فالجمل الآنفة يمكن أن تكون منقولة بالمعنى، أو أنّها خلاصة ما كان كتبه سليمان، وقد أدّتها ملكة سبأ بهذه الوجازة والاقتضاب إلى قومها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ورد في الحديث أن كون الكتاب كريماً هو بخاتمه "تفسير مجمع البيان والميزان والقرطبي". وجاء في حديث آخر أن الرّسول(صلى الله عليه وآله) أراد أن يكتب رسالة للعجم، فقيل له: إنّهم لا يقبلونها إلاّ بالخاتم، فأمر النّبي أن يصنع له خاتم ونقشه "لا اله إلاّ الله محمّد رسول الله" وختم الرسالة أو الكتاب بذلك الخاتم "القرطبي ذيل الايات محل البحث".
2 ـ جملة "ألاّ تعلوا علي" يمكن أن تكون بمجموعها بدلا من (كتاب) وبيان لمحتواه. كما يمكن أن تكون (أن) تفسيرية فهي هنا بمعنى (أي) ـ كما يحتمل أن (أن) تكون متعلقة بمحذوف وتقديره: أوصيكم ألا تعلوا الخ..
[57]
الطريف أن مضمون هذا الكتاب لم يتجاوَز في الواقع ثلاث جمل:
الأولى: ذكر "اسم الله" وبيان رحمانيّته ورحمته.
الثّانية: الأمر بترك الإستعلاء والغرور.. لأنّ الإستعلاء مصدر المفاسد الفرديّة والإجتماعيّة.
والثّالثة: التسليم والإذعان للحق.
وإذا أمعنا النظر لم نجد شيئاً آخر لابدّ من ذكره.
وبعد أن ذكرت ملكة سبأ محتوى كتاب سليمان لقومها... التفتت إليهم و (قالت يا أيّها الملأ افتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون ).
لقد أرادت الملكة بهذه الإستشارة تقوية مركزها في قومها، وأن تلفت أنظارهم إليها، كما أرادت ضمناً أن تعرف مدى انسجامهم وميزان استجابتهم لما تُقدم عليه من تصميم.
كلمة "أفتوني" مشتقّة من (الفتوى) معناها في الأصل الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الغامضة والصعبة... فملكة سبأ أرادت بهذا التعبير أن تشعرهم بصعوبة المسألة أوّلا، وأن يدققوا النظر ويجمعوا الرأي فيها ليتجنبوا الخطأ ثانياً.
"تشهدون" مأخوذ من مادة "الشهود"، ومعناه الحضور... الحضور المقرون بالتعاون والمشورة!.
فالتفت إليها أشراف قومها وأجابوها على استشارتها فـ (قالوا نحن أُولوا قوّة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ).
وهكذا فقد أظهروا لها تسليمهم وإذعانهم لأوامرها... كما أبدوا رغبتهم في الإعتماد على القوّة والحضور في ميدان الحرب.
ولمّا رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافاً لميلها الباطني، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون هذه القضية مدروسة، لذلك (قالت إن الملوك إذا دخلوا
[58]
قرية أفسدوها وجعلو أعزة أهلها أذلةً ).
فيقتلون جماعةً منهم ويأسرون آخرين ويطردون طائفة ثالثة ويخرجونهم من ديارهم ويخربون حيّهم و ينهبون ثرواتهم وأموالهم..
ولمزيد التأكيد أردفت قائلةً: (وكذلك يفعلون ).
وفي الحقيقة.. إن ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكةً، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة، وأن سيرتهم تتلخص في شيئين:
1 ـ الإفساد والتخريب.
2 ـ وإذلال الأعزة...
لأنّهم يفكرون في مصالحهم الشخصية، ولا يكترثون بمصالح الأُمّة وعزتها... وهما على طرفي نقيض دائماً.
ثمّ أضافت الملكة قائلةً: علينا أن نختبر سليمان وأصحابه، لنعرف من هم وما يريدون؟ وهل سليمان نبيّ حقاً أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذلّ الناس أم يحترمهم ويعزّهم؟
فينبغي أن نرسل شيئاً إليه (وإنّي مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ).
فالملوك لهم علاقة شديدة بالهدايا، ونقطة الضعف كامنة في هذا الأمر، فيمكن أن يذعنوا للهدايا الغالية... فإذا أذعن سليمان بهذه الهدية فهو ملك، وينبغي أن نواجهه بالقوّة فنحن أقوياء... وإذا ألح على كلامه ولم يكترث بنا فهو نبيّ، وفي هذه الصورة ينبغي التعامل معه بالحكمة والتعقل!
ولم يذكر القرآن أية هدية أرسلتها الملكة إلى سليمان، لكنّه بتنكيرها بيّن عظمتها، إلاّ أن المفسّرين ذكروا مسائل كثيرة لا يخلو بعضها من الإغراق:
قال بعضهم: أرسلت إليه خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ممتازة، وقد ألبست الرجال ثياب النساء والنساء ثياب الرجال، وجعلت الأقراط في آذان
[59]
الرجال والاسورة في أيديهم، وألبست الجواري تيجاناً... وكتبت في رسالتها إلى سليمان: لو كنت نبيّاً فميّز الرجال من النساء!،
وبعثت أُولئك على مراكب ثمينة، ومعهم جواهر وأحجار كريمة، وأوصت رسولها ـ في الضمن ـ أن أنظر كيف يواجهك سليمان عند وردك عليه، فإن واجهك بالغضب فاعلم بأنه سيرة الملوك، وإن واجهك بالمحبة واللطف فاعلم أنّه نبيّ.
* * *
بحوث
1 ـ آداب كتابة الرسائل
ما ورد في الآيات آنفة الذكر في شأن كتاب "سليمان" إلى أهل سبأ، هو قدوة لكتابة الرسائل و"الكتب" وقد تكون من المسائل المهمّة والمصيرية... إذ تبدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم ) وتبيّن روح الكلام في جملتين مدروستين.
ويظهر من التاريخ الإسلامي والرّوايات ـ بشكل واضح ـ أن أئمتنا الكرام عليهم الصلاة والسلام، كانوا يُعنون بالإختصار والإقتضاب في إرسال الكتاب خالياً من الحشو والزوائد، وهو مدروس أيضاً.
فأمير المؤمنين(عليه السلام) يكتب إلى عماله وممثليه في بعض كتبه: "أدقّوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عنّي فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، وإيّاكم والإكثار، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار" (1).
إن بري لسان القلم يجعل الكلمات أصغر، وتقارب السطور وحذف الفضول، لايؤدي إلى الاقتصاد في الاموال العامة أو الشخصية فحسب ـ بل يقتصد في وقت الكاتب والقارىء أيضاً... وقد يضيع الفضول والتشريفات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الخصال ـ للصدوق، طبقاً لما جاء في البحار، ج 76، ص 49.
[60]
الواردة في أثناء جمل الكتاب الهدف من كتابته، فلا يصل الكاتب و القارىء إلى الهدف المنشود!
وفي هذه الأيّام أصبح من المألوف الا كثار في كتابة العناوين البراقة والألقاب الفخمة وزيادة المقدمات والحواشي والاضافات على خلاف ما كان في صدر الاسلام ممّا يهدر الكثير من الطاقات والاوقات والثروات.
وخاصة ينبغي الإلتفات إلى أن الكتاب "الرسالة" في ذلك العصر كان يتطلب زماناً طويلاً لإيصاله وبذل المال لحامل الكتاب، ومع ذلك كانت الكتب موجزة مقتضبة، ويمكن ملاحظة أمثلة منها في كتب النّبي(صلى الله عليه وآله) إلى خسرو پرويز وقيصر الروم وأمثالهما.
وأساساً فإنّ رسالة الإنسان وكتابه دليل على شخصيته، كما أن حامل الكتاب والرّسول دليل على شخصية المرسل أيضاً.
يقول الإمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة: "رسولك ترجمان عقلك، وكتابك أبلغ من ينطق عنك" (1).
ويقول الإمام الصادق(عليه السلام) "يستدل بكتاب الرجل على عقله وموضع بصيرته، وبرسوله على فهمه وفطنته" (2).
والجدير بالذكر أنّه يستفاد من الرّويات الإسلامية أنّ ردّ الكتاب واجب كردّ السلام، إذ نقرأ عن الإمام الصادق أنّه قال: "ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السلام" (3).
وحيث أن كل رسالة أو كتاب مشفوع عادة بالتحية، فلا يبعد أن يكون مشمولا بالآية الكريمة (وإذا حييتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها )(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار ـ الجملة 301.
2 ـ البحار، ج 76، ص 50.
3 ـ وسائل الشيعة، ج8، ص427 "كتاب الحج أبواب العشرة باب 32".
4 ـ النساء، الآية 86.
[61]
2 ـ هل دعا سليمان إلى التقليد؟!
بعض المفسّرين استفادوا من كتاب سليمان أنّه دعا أهل سبأ إليه دون دليل!
ثمّ أجابوا بأن مجيء الهدهد بتلك الصورة "المعجزة" بنفسه دليل على حقانية دعوته(1).
إلاّ أنّنا نعتقد أنّه لا حاجة إلى مثل هذه الردود والإجابات، فوظيفة النّبي هي الدعوة. ووظيفة الآخرين التحقيق في أمره. وبتعبير آخر: إنّ الدعوة هي الباعث على التحقيق... كما قامت بذلك ملكة سبأ، فاختبرت سليمان وتحققت عنه، أهو ملك أم نبىّ؟!
3 ـ مداليل عميقة في قصّة سليمان (عليه السلام)
نلاحظ في هذا القسم من قصّة سليمان(عليه السلام) إشارات قصيرة إلى مسائل مهمّة أيضاً:
أ ـ تتلخص "روح" دعوة الأنبياء في نفي الإستعلاء الذي يعني نفي كل نوع من أنواع الإستثمار والإستعمار، والتسليم للحق والقانون الصحيح.
ب ـ بالرغم من أنّ أصحاب ملكة سبأ أعلنوا استعدادهم لخوض المعركة، إلاّ أن الطبع النسائي الشفاف في الملكة لم يكن موافقاً على ذلك، ولذلك عطفت انظارهم الى مسائل أُخرى.
ج ـ ولو أن الملكة أذعنت لرأيهم في الحرب لكانت بعيدة عن الحقيقة والصواب، وسنرى أن إقدامها على إرسال الهدية كان مثمراً، وكانت نتيجة طيبة لها ولقومها، وكان سبباً لأن يهتدوا إلى طريق الحق والعدل، ويبتعدوا عن سفك
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الرازي، ذيل الآية مورد البحث.
[62]
الدماء!
د ـ ويستفاد من هذه القضية ضمناً أن المناهج التشاورية لا تنتهي إلى الحق دائماً.. إذ كانت عقيدة الأكثرية هنا أن يلجأوا إلى القوّة والقتال في حين أن ملكة سبأ كانت ترى خلاف نظرتهم، وسنرى أن الحق كان معها في نهاية القصّة!
هـ ـ ويمكن أن يقال: إنّ هذا النوع من التشاور أو المشورة غير ما هو جار بيننا اليوم من التشاور.. فنحن نأخذ برأي الأكثرية على أنّه هو المعيار، ونعطيهم حق التصويت والتصويب. في حين أن التشاور محل البحث هو مجرّد إبداء النظر من قبل الأكثرية، والرأي الحاسم لقائد تلك الجماعة.. ولعل الآية (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله )(1)تشير إلى هذا القسم الثّاني من التشاور. أمّا الآية الكريمة (وأمرهم شورى بينهم )(2) فناظرة إلى القسم الأوّل(3).
و ـ قال أصحاب ملكة سبأ لها (نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد ) ولعل هذا الإختلاف بين "القوة" و"البأس" في التعبير، هو أنّ "القوة" إشارة إلى الكمية العظيمة من الجيش... و"البأس الشديد" إشارة إلى كيفية العمل وروح الشجاعة والشهامة في الجيش، أي أن مرادهم أنّهم مستعدون للقتال من الناحية "الكمية" ومن حيث "الكيفية" لمواجهة العدو أيضاً.
4 ـ علامات الملوك
يستفاد من هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن الحكومة الإستبدادية والسلطنة في كل مكان مدعاة للفساد وإذلال الأعزة... لأنّ الملوك يبعدون عنهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ آل عمران، الآية 159.
2 ـ الشورى، الآية 38.
3 ـ لمزيد الإيضاح في موضوع الشورى يراجع تفسير الآية (159) من سورة آل عمران.
[63]
الشخصيات الفذة، ويدنون المتملقين، ويبحثون في كل شيء عن مصالحهم ومنافعهم الذاتية، وهم أهل رشوة وذهب ومال، وبالطبع فإنّ الامراء والاعوان القادرين على هذه الاُمور أحبّ عندهم من غيرهم.
وبينما نرى تفكير الملوك ورغباتهم تتلخص في نيل الهدايا والجاه والمقام والذهب والمال... نجد أنّ الأنبياء لا يفكرون إلاّ بإصلاح أممهم!.
* * *
[64]
الآيتان
فَلَمَّا جَآءَ سُلَيمَـنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَال فَمَآ ءَاتَـنِ اللهُ خَيْرٌ مِّمّآ ءَاتَـكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأتِيَنَّهُمْ بِجُنُود لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَـا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَـغِرُونَ (37)
التّفسير
لا تخدعوني بالمال:
خرج رسل ملكة سبأ بقافلة الهدايا وتركوا اليمن وراءهم قاصدين مقر سليمان "في الشام" ظنّاً منهم أن سليمان سيكون مسروراً بمشاهدته هذه الهدايا ويرحب بهم.
لكن ما إن حضروا عند سليمان حتى رأوا ما يدهش الإنسان... فإنّ سليمان(عليه السلام) مضافاً الى عدم استقباله واكتراثه بتلك الهدايا (قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير ممّا آتاكم )
فما قيمة المال، ازاء مقام النبوّة والعلم والهداية والتقوى (بل أنتم بهديتكم تفرحون ).
[65]
أجلْ، أنتم الذين تفرحون بمثل هذه الزخارف، فيهدي بعضكم لبعض فيشرق وجه تملع عيناه! إلاّ أن هذه الأُمور لا قيمة لها عندي ولا أكترث بها.
وهكذا فقد حقّر سليمان(عليه السلام) معيار القيم عندهم، وأوضح لهم أن هناك معياراً آخر للقيمة تضمحلّ عنده معايير عبدة الدنيا ولا تساوي شيئاً.
ومن أجل أن يريهم سليمان موقفه الحاسم من الحق والباطل، قال لرسول ملكة سبأ الخاص: (ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنّهم منها أذلَّةً وهم صاغرون ).
و (أذلة ) في الحقيقة حال أولى و(هم صاغرون ) حال ثانية، وهما إشارة إلى أن أُولئك لا يُخرجون من أرضهم فحسب، بل بالإذلال والإحقار والصغار بشكل يتركون جميع ممتلكاتهم من قصور وأموال وجاه وجلال... لأنّهم لم يذعنوا ـ ويُسلموا ـ للحق... وإنّما قصدوا الخداع والمكر!
وطبيعي أن هذا التهديد كان تهديداً جديّاً جديراً بأن يؤخذ بنظر الإعتبار بالنسة لرسل ملكة سبأ الذين كانوا عند سليمان!.
ومع ملاحظة ما قرأناه في الآيات السابقة من أنّ سليمان طلب من أُولئك شيئين: ترك الإستعلاء، والتسليم للحق (ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين )وكان عدم إجابتهم لهذين وتوسلهم بالهديّة دليلا على امتناعهم من قبول الحقّ وترك الإستعلاء، ولذلك هدّدهم باستخدام القوة العسكرية.
ولو أنّ ملكة سبأ وقومها طلبوا من سليمان الدليل والمعجزة (على أنّه نبيّ مطاع) لأعطاهم الحق أن يتحروا ويفحصوا أكثر... إلاّ أنّ إرسال الهدية ظاهره أنّهم في مقام الإنكار.
واتضح كذلك أنّ أهمّ خبر مزعج أخبر به الهدهد عن هذه الجماعة "ملكة سبأ وقومها" أنّهم كانوا يعبدون الشمس ويسجدون لها من دون الله الذي له ما في السماوات والأرض فكان سليمان(عليه السلام) قلقاً من هذا الأمر... ومن المعلوم أن عبادة
[66]
الأصنام ليست أمراً هيّناً تسكت عنه الأديان السماوية، أو أن تتحمل عبدة الأصنام على أنّهم أقليّة دينية. بل تستخدم القوّة إذا لزم الأمر وتحطم الأصنام ويطوى الشرك ومريدوه من الوجود!.
وممّا بيّناه من توضيحات آنفاً يظهر أنّه لا تنافي بين تهديدات سليمان والأصل الاساس (لا إكراه في الدين ) لأنّ عبادة الاصنام ليست ديناً، بل هي خرافة وانحراف.
* * *
ملاحظات
1 ـ ممّا ينبغي الإلتفات إليه أن الزهد في الأديان السماوية لا يعني أن لا يتمتع الإنسان بماله وثرواته وإمكاناته الدنيوية، بل حقيقة الزهد هي أن لا يكون أسير هذه الأُمور.. بل أميراً عليها.. وقد بيّن سليمان هذا النبيّ العظيم بردّه الهدايا الثمينة على ملكة سبأ أنّه أميرَها لا أسيرها.
ونقرأ حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: "الدنيا أصغر قدراً عند الله وعند أنبيائه وأوليائه من أن يفرحوا بشيء منها، أو يحزنوا عليه، فلا ينبغي لعالم ولا لعاقل أن يفرح بعرض الدنيا" (1).
2 ـ ومرّة أُخرى نجد في هذا القسم من قصّة سليمان دروساً جديرة بالنظر، خافية في تعابير الآيات الكريمة:
ألف: إن الهدف من تعبئة الجيش ليس قتل الناس، بل أن يرى العدوّ نفسه ضعيفاً قبالها، ولا يرى نفسه قادراً على مواجهة الطرف الآخر: (جنود لا قبل لهم بها ).
وهذا التعبير نظير ما أُمر به المسلمون (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة...
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير روح البيان ذيل الآية محل البحث.
[67]
ترهبون به عدوّ الله ). (1)
ب ـ إنّ سليمان(عليه السلام) لا يهدد مخالفيه بالقتل، بل يهددهم بالإخراج من القصور أذلة صاغرين، وهذا الأمر جدير بالملاحظة.
ج ـ إنّ سليمان لا يستغفل مخالفيه، بل يحذرهم بصراحة قبل الهجوم.
د ـ إنّ سليمان لا يطمع في أموال الآخرين، بل يقول : "ما آتاني الله خير" فهو لا يرى مواهب الله منحصرة بالقدرة المادية والمالية، بل يفتخر بالعلم والإيمان والمواهب المعنوية!.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأنفال، الآية 60.
[68]
الآيات
قَالَ يَـأَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأتُونِى مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيْتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـبِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَـالَ هَـذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنَ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ (40)
التّفسير
حضور العرش في طرفة عين:
وأخيراً عاد رُسُل ملكة سبأ بعد أن جمعوا هداياهم وأمتعتهم إلى بلدهم، وأخبروا ملكة سبأ بما شاهدوه من عظمة مُلك سليمان(عليه السلام) المعجز وجهازه الحكومي، وكل واحد من هذه الاُمور دليل على أنّه لم يكن كسائر الأفراد ولا ملكاً كسائر الملوك، بل هو مُرسل من قبل الله حقّاً، وحكومته حكومة إلهية.
وهنا اتّضح لأُولئك جميعاً أنّهم غير قادرين على مواجهته عكسرياً، بل إذا
[69]
استطاعوا ـ فرضاً ـ فهم على احتمال قوي في مواجهة نبيّ عظيم ذي سلطة واسعة!.
لذلك قررت الملكة أن تأتي بنفسها مع أشراف قومها إلى سليمان، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليتعرفوا على دين سليمان؟
فوصل هذا الخبر ـ عن أىّ طريق كان ـ إلى سمع سليمان(عليه السلام)، فعزم على اظهار قدرته العجيبة ـ والملكة وأصحابها في الطريق إليه ـ ليعرفهم قبل كل شىء على إعجازه، ليذعنوا له ويسلّموا لدعوته... لذلك التفت إلى من حوله و (قال يا أيّها الملأ أيّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ).
وبالرغم من أن المفسّرين أتعبوا أنفسهم للوقوف على علّة إحضار عرش الملكة، وربّما ذكروا وجوهاً لا تنسجم مع مفاد الآيات ولا تتناسب وإيّاها!. إلاّ أن من الواضح أنّ هدف سليمان(عليه السلام) من هذه الخطة إنّه كان يريد أن يظهر أمراً مهماً للغاية خارقاً للعادة ليذعنوا له دون قيد، ويؤمنوا بقُدرة الله من دون حاجة إلى سفك الدماء والمواجهة في ساحات القتال.
كان يريد أن ينفذ الإيمان إلى أعماق قلب ملكة سبأ وأشراف قومها، ليستجيب الباقون لدعوته والتسليم لأمره!.
وهنا أظهر شخصان استعدادهما لإمتثال طلب سليمان(عليه السلام)، وكان أمر أحدهما عجيباً والآخر أعجب! إذ (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك )(1). فهذا الامر علي يسير، ولا أجد فيه مشقة، كما أنّي لا أخونك أبداً، لأنّي قادر على ذلك (وإني عليه لقوىّ أمين ).
و"العفريت" ... معناه المارد الخبيث.
وجملة (وإنّي عليه لقوي أمين )المشفوعة بالتأكيدات من عدّة جهات "إنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة "آتيك" ربّما كانت اسم فاعل مضاف إلى (الكاف) ويمكن أن تكون فعل; مضارعاً من (أتى) إلاّ أن الأحتمال الأوّل يبدو أقرب للنظر!
[70]
والجملة الإسميّة، ولام التوكيد" تشر الى احتمال خيانة هذا العفريت... لذلك فقد أظهر الدفاع عن نفسه بأنه أمين وفىّ.
وعلى كل حال فإنّ قصّة "سليمان" مملوءة بالعجائب الخارقة للعادات فلا عجب أن يُرى عفريت بهذه الحالة مُبدياً استعداده للقيام بهذه المهمّة خلال سويعات.. وسليمان يقضي بين الناس، أو يتابع أُمور مملكته، أو يقدم نصحه وإرشاده للآخرين.
أمّا الشخص الآخر فقد كان رجلا صالحاً له علم ببعض ما في الكتاب، ويتحدث عنه القرآن فيقول: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ).
فلمّا وافق سليمان(عليه السلام) على هذا الأمر، أحضر عرش بلقيس بطرفة عين بالإستعانة بقوته المعنوية (فلمّا رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر ).
ثمّ أضاف قائلا: (ومن شكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ ربّي غني كريم ).
وهناك اختلاف بين المفسّرين وكلام طويل في أن هذا الشخص الذي جاء بعرش الملكة، من كان؟! ومن أين له هذه القدرة العجيبة؟! وما المراد (عنده علم من الكتاب )؟
إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا الشخص هو أحد أقارب سليمان المؤمنين وأوليائه الخاصين، وقد جاء اسمه في التواريخ بأنه (آصف بن برخيا) وزير سليمان وابن أخته(1).
وأمّا "علم الكتاب" فالمراد منه معرفة ما في الكتب السماوية... المعرفة العميقة التي تمكّنه من القيام بهذا العمل الخارق للعادة!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وما قاله بعضهم بأنه سليمان أو جبرئيل فلا دليل عليه... وكونه سليمان نفسه (فهو) مخالف لظاهر الآيات قطعاً!
[71]
وقال بعضهم: يُحتمل أن يكون المراد من (علم الكتاب) هو اللوح المحفوظ الذي علم الله بعضه ذلك الرجل "آصف" ولذلك استطاع أن يأتي بعرش ملكة سبأ بطرفة عين، ويحضره عند سليمان!.
وقال كثير من المفسّرين: إنّ هذا الرجل المؤمن كان عارفاً بالاسم الأعظم، ذلك الاسم الذي يخضع له كل شيء، ويمنح الإنسان قدرة خارقة للعادة!.
وينبغي القول أن "الاسم الأعظم" ليس كما يتصوره الكثير بأنّ مفهومه أن يتلفظ الإنسان بكلمة فيكون وراءها الأثر العجيب، بل المراد منه التخلق بذلك الاسم والوصف، أي على الإنسان أن يستوعب "الاسم" في نفسه وروحه، وأن يتكامل علمه وخلقه وتقواه وإيمانه إلى درجة يكون بها مظهراً من مظاهر ذلك الاسم الأعظم، فهذا التكامل المعنوي والروحاني (بواسطة الاسم الأعظم) يوجد في الإنسان مثل هذه القدرة الخارقة للعادة(1).
كما أنّ للمفسّرين في جملة (قبل أن يرتد إليك طرفك ) لكن بملاحظة الآيات الاُخر من القرآن يمكن معرفة حقيقتها... ففي الآية (43) من سورة إبراهيم نقرأ: (لا يرتد إليهم طرفهم ).
ونحن نعرف أن الإنسان عندما يستوحش ويذهل، تبقى عيناه مفتوحتان على وتيرة واحدة كأنّهما عينا ميت لا تتحركان.
فبناءً على ذلك فالمراد منه أنّني سأحضر عرش ملكة بلقيس قبل أن يتحرك جفناك(2).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا في ذيل الآية (180) من سورة الأعراف بحث في شأن الاسم الأعظم، فلا بأس بمراجعته.
2 ـ ما يقوله بعضهم: إن المراد من (يرتد إليك طرفك) هو إلقاء النظرة على شيء ما وعودة النظرة للإنسان لا دليل عليه، كما أن هذا التعبير لا يكون شاهداً على النظرية القائلة بخروج الشعاع من العين الواردة في الفلسفة ـ القديمة.
[72]
مسائل مهمة:
1 ـ الجواب على بعض الاسئلة
من الأسئلة ـ التي تثار حول الآيات آنفة الذكر ـ هذا السؤال: لِمَ لَم يقدم سليمان بنفسه على هذا العمل الخارق للعادة؟ فهو نبىّ كريم من قبل الله وذو معاجز! فلم حوّل هذا الأمر إلى "آصف بن برخيا" ؟!
لعل الوجه في ذلك أن آصف كان وصيّه، وكان سليمان يريد أن يبيّن موقعه في هذه اللحظة الحساسة للجميع(1).
إضافة إلى ذلك فإن من المهم أن يختبر الأستاذ تلاميذه في الموارد اللازمة ويعرف جدارتهم، وأساساً فإنّ جدارة التلاميذ دليل كبير على جدارة الأستاذ. السؤال الآخر هو: كيف جاء سليمان بعرش ملكة سبأ وأحضره عنده دون إذنها؟.
فيقال: لعل ذلك لبيان هدف أسمى، كمسألة الهداية وبيان معجزة كبيرة. ثمّ بعد هذا كله فإننا نعرف أن الملوك ليس لهم مال من أنفسهم، بل أموالهم في الغالب مغصوبة من الآخرين!.
السؤال الآخر: كيف تكون لعفريت من الجن القدرة على أمر خارق للعادة كهذه الحادثة؟!
وقد بيّنا الجواب على هذا السؤال في الأبحاث المتعلقة بالإعجاز، فقلنا: إن من الناس حتى غير المؤمنين من تكون له قدرة على بعض الأُمور الخارقة للعادة (وذلك للرياضة المجهدة ومجاهدة النفس) إلاّ أن الفرق بين ما يقومون به ممّا يخرق العادة وبين المعجزة هو أنّه لما كانت أعمالهم مستندة إلى قدرة بشرية محدودة... فهي "أعمالهم الخارقة للعادة" محدودة دائماً، في حين أن المعاجز
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذا الجواب نفسه أجاب به الإمام الهادي يحيى بن أكثم كما جاء في رواية عن تفسير العياشي ذيل الآية محل البحث.
[73]
تستند إلى قدرة الله التي لا نهاية لها، وقدرته كسائر صفاته غير محدودة!.
لذلك نرى أن العفريت من الجن يحدّد قدرته ـ على فترة بقاء سليمان في مجلس القضاء والتحقيق في أُمور البلد، ليأتيه بعرش ملكة سبأ، في حين أنّ آصف بن برخيا لم يحدد قدرته، وتحديدها بارتداد الطرف هو في الحقيقة إشارة إلى أدنى فترة زمنية ممكنة... ومن المسلم به أن سليمان(عليه السلام) يشجع الاعمال التي تبيّن للناس الاشخاص الصالحين، ويباركها، لا عمل العفريت الذي قد يوقع العوام والبساط في الوهم، فيعدونه دليلا على تقواه وطهارته!.
وبديهي أن أىّ إنسان يقوم بعمل مهم في المجتمع ويكون عمله مقبولا فانّ أفكاره ومعتقداته ستتجذّر وتتحدّد في المجتمع بذلك "العمل" فلا ينبغي أن يأخذ العفاريت زمام المبادرة في حكومة سليمان الإلهية، بل ينبغي أن يقوم به من عندهم علم من الكتاب ليؤثروا على أفكار الناس وعواطفهم.
2 ـ القوة والأمانة شرطان مهمان
جاء في الآيات المتقدمة ـ والآية (26) من سورة القصص ـ أن أهم شرط للعامل أو الموظف شيئان: الأوّل القوة، والثّاني الأمانة!.
وبالطبع فإنّ المباني الفكرية والأخلاقية قد تقتضي أن يكون الإنسان حاوياً على هاتين الصفتين "كما هي الحال في شأن موسى الوارد ذكره في سورة القصص" وقد يقتضي نظام المجتمع والحكومة الصالحة أن يتصف بهاتين الصفتين حتى العفريت من الجن إلزاماً.. ولكن ـ على كل حال ـ فليس من الممكن القيام بأي عمل كبير أو صغير في المجتمع دون توفر هاتين الصفتين... سواءً كان مصدرهما "التقوى" أو "النظام القانوني".. "فتأملّوا بدقة".
3 ـ الفرق بين "علم من الكتاب" و "علم الكتاب"
[74]
جاء التعبير في الآيات ـ محل البحث ـ عن الذي أتى بعرش ملكة سبأ في أدنى مدّة "وبطرفة عين" بـ (من عنده علم من الكتاب ) بينما جاء في الآية (43) من سورة الرعد في شأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يشهد على حقانيته (قل كفى بالله شهيداً بين وبينكم ومن عنده علم الكتاب ).
في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن (الذي عنده علم من الكتاب ) الوارد في قصّة سليمان، فقال(صلى الله عليه وآله): هو وصي أخي سليمان بن داود، فقلت: والآية (ومن عنده علم الكتاب ) عمن تتحدث؟ فقال(صلى الله عليه وآله): ذاك أخي علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1).
والإلتفات إلى الفرق بين "علم من الكتاب" الذي يعني "العلم الجزئي" و (علم الكتاب) الذي يعني "العلم الكلي"، يكشف البون الشاسع بين آصف وعلي(عليه السلام).
لذلك نقرأ في روايات كثيرة أنّ الاسم الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً إنّما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالارض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثمّ عادت الارض كما كانت أسرع من طرفة عين ـ كان "حرف" واحد منه عند "آصف بن برخيا" وقام بمثل هذا العمل الخارق للعادة ـ وعندنا نحن الائمّة من أهل البيت ـ اثنان وسبعون حرفاً، وحرف واحد عند الله تبارك وتعالى استأثر به في علم الغيب عنده(2).
4 ـ هذا من فضل ربّي
إن عبدة الدنيا وطُلاّبها المغرورين حين ينالون "القوّة" والإقتدار ينسون كل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقل هذا الحديث جماعة من المفسّرين وعلماء السنة بالعبارة ذاتها أو ما يقرب منها، ولمزيد الإيضاح يراجع الجزء الثّالث من إحقاق الحق، ص 280 و 281.
2 ـ راجع اصول الكافي وتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 90.
[75]
شيء إلاّ أنفسهم.. وكل ما يقع في أيديهم يحسبونه من عند أنفسهم لا من غيرهم، كما كان قارون يقول: (إنّما أوتيته على علم عندي ).. في حين أن عباد الله وخاصّته كلما نالوا شيئاً قالوا: (هذا من فضل ربّي )..
الطريف أن سليمان(عليه السلام) لم يقل هذا الكلام عندما شاهد عرش ملكة سبأ عنده فحسب، بل أضاف قائلا: (ليبلوني أأشكر أم أكفر ).
وقرأنا في هذه السورة ـ من قبل ـ أن سليمان(عليه السلام) كان يرى جميع النعم التي يتمتع بها من نعم الله عليه، وكان يدعو ربّه خاضعاً فيقول: (ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه )!
أجل.. هذا هو معيار معرفة الموحدين المخلصين من عبدة الدنيا المغرورين.. وهذه سيرة الرجال العظماء في قبال غيرهم من الأنانيين!.
وبالرغم من أنّه اعتيد كتابة هذه العبارة المهمة (هذا من فضل ربّي ) من قبل المتظاهرين بالشكر على أبواب قصورهم "الطاغوتية" دون أن يعتقدوا بذلك أو يكون أدنى أثر من هذه العبارة في عملهم.. إلاّ أن المهم هو أن تكتب على الباب وعلى جبين حياة الإنسان وفي قبله... أيضاً، وأن يكشف عمله أن كل ذلك من فضل الله.. وأن يشكره عليه، لا شكراً باللسان فحسب، بل شكراً مقروناً بالعمل وفي جميع وجوده(1).
5 ـ كيف أحضر "آصف" عرش الملكة؟!
لم يكن هذا (الأمر) أوّل خارق للعادة نراه في قصّة سليمان(عليه السلام)، أو في حياة الأنبياء بشكل عام.. وعلى من يحمل هذه التعبيرات على الكناية والمجاز، ولا يوخذ بظاهرها، أن يبينوا موقفهم من معاجز الأنبياء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا بحث مُفصّل في أهميّة الشكر، وتأثيره على زيادة النعمة، وأقسام الشكر "التكويني والتشريعي" في ذيل الآية السابقة من سورة إبراهيم.
[76]
ترى هل يرون الأعمال الخارقة للعادة للانبياء وخلفائهم محالا، وينكرونها كليّاً؟! فهذا ما لا ينسجم مع أصل التوحيد، ولا مع قدرة الله الحاكمة على قوانين الوجود، ولا ينسجم مع صريح القرآن في آيات كثيرة.. أيضاً.
أمّا إذا قبلوا بإمكان المعاجز، فلا ينبغي أن يفرقوا بين أن يكون البحث عن إحياء الموتى وإبراء العمي من قبل "عيسى بن مريم"(عليه السلام)، أو عن إحضار عرش ملكة سبأ من قبل آصف بن برخيا.
ولا شك أن هنا علائق مجهولة وعللا لا نعزفها في هذا الأمر، إذ نجهل ذلك بعلمنا "المحدود"، لكننا نعرف أن هذا الأمر غير محال.
فهل استطاع "آصف" بقدرته المعنوية أن يبدل عرش بلقيس إلى أمواج من نور، وبلحظة أحضرها عند سليمان(عليه السلام) ثمّ أرجعها إلى مادتها الأصليّة مرّة أُخرى؟... هذا الأمر عندنا يلفّه الغموض.
وما نعرف أن الإنسان يقوم اليوم بأعمال بواسطة الطرق العلمية المتداولة، كانت قبل مائتي عام تعدّ في دائرة المحال!.
فمثلا لو كان يقال لشخص ما قبل عدّة قرون: سيأتي زمان على الناس يتكلم الرجل في المشرق فيسمعه الآخرون ويرونه في المغرب في اللحظة ذاتها.. لكان يعد هذا المقال ضرباً من الهذيان أو الحلم!
وليس هذا إلاّ لأنّ الإنسان يريد أن يقوّم كل شيء بعلمه المحدود وقدرته القاصرة! مع أن ما وراء علمه وقدرته أسراراً خفية كثيرة!
* * *
[77]
الآيات
قَالَ نَكِّرُوا لَهَـا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَآءَتْ قِيْلَ أَهَـكَذا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَـا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كانَتْ تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْم كَـفِرِينَ (43) قِيلَ لَهَـا ادْخُلِى الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـنَ للهِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ (44)
التّفسير
نور الايمان في قلب الملكة:
نواجه في هذه الآيات مشهداً آخر، ممّا جرى بين سلمان وملكة سبأ فسليمان من أجل أن يختبر عقل ملكة سبأ ودرايتها، ويهىء الجوّ لإيمانها بالله، أمر أن يغيروا عرشها وينكّروه فـ (قال نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ).
وبالرغم من أن المجيء بعرشها من سبأ ا لى الشام كان كافياً لان لا تعرفه ببساطة.. ولكن مع ذلك فإنّ سليمان أمر أن يوجدوا تغييرات فيه، من قبيل تبديل
[78]
بعض علاماته، أو تغيير ألوانه ومواضع مجوهراته، ولكن هذا السؤال: ما الهدف الذي كان سليمان(عليه السلام) يتوخّاه من اختبار عقل (ودراية) ملكة سبأ وذكائها؟
لعل هذا الاختبار كان لمعرفة أي منطق يواجهها به؟ وكيف يأتي لها بدليل لإثبات المباني العقائدية؟
أو كان يفكر أن يتزوجها، وكان يريد أن يعرف هل هي جديرة بأن تكون زوجة له، أم لا؟.. أو أراد ـ واقعاً ـ أن يعهد لها بمسؤولية بعد ايمانها... فلابدّ من معرفة مقدار استعدادها لقبول المسؤولية!
وهناك تفسيران لجملة (أتهتدي ) فقال بعضهم: المراد منها معرفة عرشها. وقال بعضهم: المراد من هذه الجملة أنّها هل تهتدي إلى الله برؤية المعجزة، أو لا؟!
إلاّ أنّ الظاهر هو المعنى الأوّل، وإن كان المعنى الأوّل بنفسه مقدمة للمعنى الثّاني.
وعلى كل حال... فلمّا جاءت (قيل أهكذا عرشك ) والظاهر أن القائل لها لم يكن سليمان نفسه، والاّ فلا يناسب التعبير بـ "قيل"، لأنّ اسم سليمان ورد قبل هذه الجملة وبعدها، وعُبّر عن كلامه بـ "قال".
أضف إلى ذلك أنّه لا يناسب مقام سليمان(عليه السلام) أن يبادرها بمثل هذا الكلام.
وعلى أي حال. فإنّ ملكة سبأ أجابت جواباً دقيقاً و (قالت كأنّه هو ).
فلو قالت: يشبه، لأخطأت.. ولو قالت: هو نفسه، لخالفت الإحتياط، لأنّ مجيء عرشها إلى أرض سليمان لم يكن مسألة ممكنة بالطرق الإعتيادية، إلاّ أن تكون معجزةً.
وقد جاء في التواريخ أن ملكة سبأ كانت قد أودعت عرشها الثمين في مكان محفوظ، وفي قصر مخصوص فيه غرفة عليها حرس كثير!
ومع كل ذلك فإنّ ملكة سبأ استطاعت أن تعرف عرشها رغم كل ما حصل له
[79]
من تغييرات.. فقالت مباشرة: (وأوتينا العلم من قبلها وكنّا مسلمين ).
أي، إذا كان مراد سليمان(عليه السلام) من هذه المقدمات هو اطلاعنا على معجزته لكي نؤمن به، فإنّنا كنّا نعرف حقانيته بعلائم أخر.. كنّا مؤمنين به حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة فلم تكن حاجة إلى هذا الامر.
وهكذا فأنّ سليمان(عليه السلام) منعها (وصدّها ما كانت تعبد من دون الله )(1)بالرغم من (أنّها كانت من قوم كافرين ).
أجل، إنّها ودعت ماضيها الأسود برؤية هذه العلائم المنيرة، وخَطت نحو مرحلة جديدة من الحياة المملوءة بنور الإيمان واليقين.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث يجري الكلام عن مشهد آخر من هذه القصّة، وهو دخول ملكة سبأ قصر سليمان الخاص.
وكان سليمان(عليه السلام) قد أمر أن تصنع إحدى ساحات قصوره من قوارير، وأن يجري الماء من تحتها.
فلمّا وصلت مَلكة سبأ إلى ذلك المكان (قيل لها أدخلي الصرح )(2) فلما رأته
ظنته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري، وكما يقول القرآن: (فلما رأته حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها )(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ للمفسّرين أقوال مختلفة في فاعل (صدّ) وأنّ (ما) هل هي موصولة أو مصدرية، فقال جماعة من المفسّرين. إن الفاعل هو سليمان كما بيّناه في المتن، وبعضهم قال: بل هو الله، والنتيجة تكاد تكون واحدة وطبقاً لهذين التّفسيرين تكون "ها" مفعولا أوّلا و (ما كانت) مكان المفعول الثّاني، وإن كان أصلها جاراً ومجروراً، أي وصدها سليمان أو الله عما كانت تعبد من دون الله. إلاّ أن جماعة ذهبوا إلى أن فاعل صدّ، هو (ما كانت)، لكن حيث أن الكلام عن إيمانها لا كفرها فالتّفسير الأوّل أنسب.. وأمّا كلمة (ما) فقد تكون موصولة.. أو مصدرية.
2 ـ "صَرْحُ" معناه الفضاء الواسع، وقد يأتي بمعنى البناء العالي والقصر وفي الآية المشار إليها آنفاً معناه ساحة القصر أي فضاءه الواسع ظاهراً.
3 ـ "اللّجة" في الاصل مأخوذة من اللجاج، ومعناه الشدّة، ثمّ أطلق على ذهاب الصوت وإيابه في الحنجرة تعبير (لجة) على وزن (ضجة)، أمّا الأمواج المتلاطمة فىُ البحر فتسمى (لُجة) على وزن (جُبة) وهي هنا في الآية بهذا المعنى الأخير.
[80]
إلاّ أنّ سليمان(عليه السلام) التفت إليها وقال: (إنّه صرح ممرد من قوارير )(1). فلا حاجة الى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك.
وهنا ينقدح سؤال هام، وهو أن سليمان نبيّ كبير، فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق... والصرح الممرد والبساط الممهّد!.. وصحيح أنّه كان حاكماً مبسوط اليد، إلاّ أن الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبيآء.
إلاّ أنّه، ما يمنع أن يُري سليمان مَلكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة.. يريها هذا المشهد لتذعن لأمره، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية!
ما يمنعه ـ بدلاً من أن يغير جيشاً لجباً فيسفك الدماء ـ أن يجعل فكر ملكة سبأ حائراً مبهوتاً بحيث لم تكن تتوقع ذلك أصلا... خاصة أنّها كانت امرأة تهتم بهذه الاُمور والتشريفات!.
ولا سيما أنّ أغلب المفسّرين صرحوا بأن سليمان أمر أن يبنى مثل هذا الصرح والقصر قبل أن تصل ملكة سبأ إلى الشام، وكان هدفه أن يُريها قدرته لتذعن لأمره وتسلم له... وهذا الأمر يدلّ على أن سليمان(عليه السلام) كان يتمتع في سلطانه بقدرة عظيمة من حيث القوّة الظاهرية وُفق بها للقيام بمثل هذا العمل!.
وبتعبير آخر: إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة، وقبول دين الحق، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب ـ لم تكن أمراً مسرفاً.
ولذلك حين رأت مَلكة سبأ هذا المشهد الرائع (قالت ربّ إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربّ العالمين ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الممرد" معناه الصافي... و (القوارير) جمع قارورة وهي الزجاجة.
[81]
لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام، وكنت غارقة في الزينة والتجميل، وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا.
أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّاً وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الإنسان ولا تبلّ غليل روحه!.
ربّاه... أتيت اليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي إليك. الطريف هنا أنّها تقول: أسلمت مع سليمان، فتستعمل كلمة (مع) ليتجلّى أن الجميع إخوة في السبيل إلى الله! لا كما يعتاده الجبابرة إذ يتسلط بعضهم على رقاب بعض، وترى جماعة أسيرة في قبضة آخر.
فهنا لا يوجد غالب ومغلوب، بل الجميع ـ بعد قبول الحق ـ في صف واحد!.
صحيح أن ملكة سبأ كانت قد أعلنت إيمانها قبل ذلك أيضاً، لأنّنا سمعنا عن لسانها في الآيات آنفة الذكر (وأوتينا العلم من قبلها وكنّا مسلمين ).
إلاّ أن إسلام الملكة هنا وصل إلى أوجه، لذلك أكّدت إسلامها مرّة أُخرى.
إنها رأت دلائل متعددة على حقانية دعوة سليمان.
فمجيء الهدهد بتلك الحالة الخاصّة!
وعدم قبول سليمان الهدية الثمينة المرسلة من قبلها.
وإحضار عرشها في فترة قصيرة من مدى بعيد.
وأخيراً مشاهدة قدرة سليمان الاعجازية، وما لمسته فيه من أخلاق دمثة لا تشبه أخلاق الملوك!
* * *
بحثان
1 ـ عاقبة أمر ملكة سبأ
كان هذا كل ما ورد في القرآن المجيد عن ملكة سبأ إذ آمنت أخيراً ولحقت
[82]
بالصالحين... لكن هل عادت إلى وطنها بعد إيمانها، وواصلت حكمها من قبل سليمان، أو بقيت عند سليمان و تزوجت منه؟! أو تزوجت من أحد ملوك اليمن المشهورين باسم "تُبّع"؟
هذه الاُمور لم يشر إليها القرآن الكريم، لأنّها لا علاقة لها بالهدف الأصلي الذي يبتغيه القرآن من المسائل التربوية!... إلاّ أن المؤرّخين والمفسّرين كلاًّ منهم اختار رأياً، ولا نجد ضرورة في الخوض في ذلك، وإن كان المشهور ـ طبقاً لما قاله أغلب المفسّرين ـ أنّها تزوّجت من سليمان نفسه(1).
إلاّ أنّه ينبغي أن نذّكر بهذا الأمر المهم، وهو أنّه وردت أساطير كثيرة حول سليمان وجنوده وحكومته وخصوصيات ملكة سبأ. وجزئيات حياتها أيضاً، ممّا يصعب على عامة الناس تمييزها من الحقائق التاريخية، وربّما يُغشّي هذه الحقائق التاريخية. ظلٌّ مظلم من الخرافات يشوه وجهها الناصع.. وهذه هي نتيجة الخرافات المتداخلة في الحقائق التي ينبغي أن تُراقب مراقبة تامّة!.
2 ـ خلاصة عامة عن حياة سليمان
ما ورد عن سيرة سليمان وحالاته في الثلاثين آية آنفة الذكر،يكشف عن مسائل كثيرة، قرأنا قسماً منها في أثناء البحث، ونشير إلى القسم الآخر إشارة عابرة:
1 ـ إنّ هذه القصّة تبدأ بالحديث عن موهبة (العلم الوافر) التي وهبها الله لسليمان بن داود، وتنتهي بالتسليم لأمر الله، وذلك التوحيد أساسه العلم أيضاً.
2 ـ هذه القصّة تدل على أن غياب طائر أحياناً (في تحليقة استثنائية) قد يغير مسير تأريخ أُمّة، ويجرها من الفساد إلى الصلاح، ومن الشرك إلى الإيمان... وهذا مثل عن بيان قدرة الله، ومثل من حكومة الحق!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الآلوسي في روح المعاني.
[83]
3 ـ إنّ هذه القصّة تكشف عن أن نور التوحيد يشرق في جميع القلوب، حتى الطائر الذي يبدو ظاهراً أنّه صامت، فإنّه يخبر عن أسرار التوحيد العميقة!.
4 ـ ينبغي من أجل لفت نظر الإنسان إلى القيمة الواقعية له وهدايته نحو الله، أن يُدمّر غروره وكبرياؤه أولا.. ليُماط عن وجه ستار الظلام، كما فعل سليمان، فدمر غرور مَلكة سبأ وذلك بإحضار عرشها، وادخالها الصرح الممرد الذي حسبته لجةً.
5 ـ إنّ الهدف النهائي في حكومة الأنبياء ليس التوسع في رقعة الأرض، بل الهدف هو ما قرأناه في آخر آية من الآيات محل البحث، وهو أن يعترف الظالم بذنبه، وأن يسلم لربّ العالمين، ولذلك فإن القرآن ختم بهذه "اللطيفة" القصّة المذكورة.
6 ـ إنّ روح الإيمان هي التسليم، لذلك فقد أكّد سليمان عليه في كتابه إلى مَلكة سبأ.
7 ـ قد يكون بعض الناس مع ما لديه من قدرة عظيمة لا ترقى إليه قدرة الآخرين، محتاجاً إلى موجود ضعيف كالطائر مثلا، لا إلى علمه فحسب، بل قد يستعين بعلمه أيضاً، وقد تحقّره نملة بما هي عليه من ضعف!
8 ـ إنّ نزول هذه الآيات في مكّة حيث كان المسلمون تحت نير العدو، وكانت الأبواب موصدة بوجوههم، هذا النّزول كان له مفهومه الخاص. وهو تقوية معنويات المسلمين وتسلية قلوبهم، واحياء أملهم بلطف الله ورحمته والإنتصارات المقبلة.
* * *
[84]
الآيات
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَـهُمْ صَـلحاً أَنِ اعْبُدُ اللهَ فَإذا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَـقَومِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرنَا بِكَ وَبِمَنْ مَّعَكَ قَالَ طَـئرُكُمْ عِنْدَ الله بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ تُفْتَنُونَ (47)
التّفسير
صالحٌ في ثمود:
بعد ذكر جانب من قصص موسى وداود وسليمان(عليهم السلام) فإنّ هذه الآيات تتحدث عن قصّة رابع نبيّ ـ وتبيّن جانباً من حياته مع قومه ـ في هذه السورة، وهي ما جاء عن صالح(عليه السلام) وقومه "ثمود"!
إذ يقول القرآن: (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله )(1).
وكما قيل من قبل: إنّ التعبير بـ "أخاهم" الوارد في قصص كثير من الأنبياء، هو إشارة إلى منتهى المحبّة والإشفاق من قبل الأنبياء لأُممهم، كما أن في بعض
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جملة (أن اعبدوا الله) مجرورة بحرف جر مقدرو أصلها: ولقد ارسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً بعبادة الله.
[85]
المواطن إشارة الى علاقة القربى "الروابط العائلية للانبياء بأقوامهم".
وعلى كل حال، فإنّ جميع دعوة هذا النّبي العظيم تلخصت في جملة (أن اعبدوا الله ). أجل، إنّ عبادة الله هي عصارة كل تعليمات رسل الله.
ثمّ يضيف قائلا: (فاذا هم فريقان يختصمون )(1). المؤمنون من جهة والمنكرون المعاندون من جهة أُخرى.
وقد عبر في الآيتين 75 و 76 من سورة الأعراف عن الفريقين، بالمستكبرين والمستضعفين: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربّه قالوا إنّا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتهم به كافرون ).
وبالطبع فإنّ هذه المواجهة بين الفريقين "الكفار والمؤمنين" تصدق في شأن كثير من الأنبياء، بالرغم من أن بعض الانبياء بقوا محرومين حتى من هذا المقدار القليل من الانصار حيث وقف كل افراد قومهم ضدهم.
فأخذ صالح(عليه السلام) ينذرهم ويحذرهم من عذاب الله الأليم... إلاّ أنّ أُولئك لم يستجيبوا له وتمسكوا بعنادهم وطلبوا منه باصرار أن إذا كنت نبيّاً فليحل بنا عذاب الله "وقد صرحت الآية 77 من سورة الأعراف بأنّهم سألوا نبيّهم نزول العذاب" (فقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ).
إلاّ أن صالحاً أجابهم محذراً و (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ).
فلِمَ تفكرون بعذاب الله دائماً وتستعجلونه؟ ألا تعلمون أن عذاب الله إذا حلّ بساحتكم ختم حياتكم ولا يبقى مجال للايمان؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة (فريقان) تثنية، وفعلها مسند إلى ضمير الجميع، وذلك لأنّ كل فريق يتألف من جماعة... فأخذ الجمع بنظر الإعتبار..
[86]
تعالوا واختبروا صدق دعوتي في البعد الايجابي والأمل في رحمة الله في ظل الإيمان به (لولا تستغفرون الله لعلكم تُرحمون )!.
علام تسألون عن نزول العذاب وتصرون على السيئات؟! ولم هذا العناد وهذه الحماقة؟!
لم يكن قوم صالح ـ وحدهم ـ قد طلبوا العذاب بعد انكارهم دعوة نبيّهم، فقد ورد في القرآن المجيد هذا الامر مراراً في شأن الامم الآخرين، ومنهم قوم هود "كما في الآية 70 من سورة الاعراف".
ونقرأ في شأن النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله) وما واجهه به بعض المشركين المعاندين، إذ قالوا: (اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ).(1)
وهذا أمر عجيب حقّاً أن يريد الإنسان اختبار صدق دعوة نبيّه عن طريق العقاب المهلك، لا عن طريق طلب الرحمة! مع أنّهم يعلمون يقيناً احتمال صدق دعوة هؤلاء الأنبياء "يعلمون ذلك في قلوبهم وإن أنكروه بلسانهم".
وهذا الأمر يشبه حالة ما لو أدعى رجل بأنّه طبيب، فيقول: هذا ا لدواء ناجع شاف، وذلك الدواء ضار مهلك. و نحن من أجل أن نختبر صدقه نستعمل الدواء المهلك!!
فهذا منتهى الجهل والتعصب... ولمرض الجهل الكثير من هذه الافرازات.
وعلى كل حال، فإنّ هؤلاء القوم المعاندين بدلا من أن يصغوا لنصيحة نبيّهم ويستجيبوا له، واجهوه باستنتاجات واهية وكلمات باطلة!... منها أنّهم (قالوا اطيرنا بك وبمن معك ) ولعل تلك السنة كانت سنة قحط وجدب، فقالوا: إنّ هذا البلاء والمشاكل والعقبات كلّها بسبب قدوم هذا النّبي وأصحابه... فهم مشؤومون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأنفال، الآية 32.
[87]
جلبوا الشقاء لمجتمعنا!!
فكانوا يحاولون مواجهة دعوة نبيّهم صالح ومنطقه المتين بحربة التطير، التي هي حربة المعاندين الخرافيين.
لكنّه ردّ عليهم و (قال طائركم عند الله ) فهو الذي يبتليكم بسبب أعمالكم بهذه المصائب التي ادت إلى هذه العقوبات.
في الحقيقة إن ذلك اختبار وإمتحان إلهي كبير لكم، أجل (بل أنتم قوم تفتنون ).
هذه امتحانات وفتن إلهية... هذه إنذارات وتنبيهات لينتبه ـ من فيهم اللياقة من غفلتهم، ويصلحوا انحرافهم ويتجهوا نحو الله!.
* * *
بحث
"التطيُّر والتفاؤل"
"التطيُّر" مأخوذ من مادة "طير" وهو معروف، إذ يعني مايطير بجناحين في الجوّ، ولما كان العرب يتشاءمون غالباً من بعض الطيور، سمي الفأل غير المحبوب تطيّراً، وهو في قبال "التفأل" ومعناه الفأل الحسن المحبوب.
وقد وردت في القرآن الإشارة إلى هذا المعنى مراراً وهي أن المشركين الخرافيّين كانوا يواجهون أنبياءهم بحربة التطير، كما نقرأ ذلك في قصّة موسى وأصحابه (وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه )(1).
وفي الآيات ـ محل البحث ـ أظهر قوم "ثمود" المشركون رد فعلّهم في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأعراف، 131.
[88]
مقابل نبيّهم "صالح*" بالتطير أيضاً.
وأساساً، ونقرأ في سورة "يس" أن المشركين تطيّروا من مجيء رسل المسيح(عليه السلام) الى "انطاكية" (يس ـ 18).
فإنّ الإنسان لا يمكن أن يقف أمام الحوادث على حال واحدة، فلابدّ أن يفسّر آخر الأمر لكل حادثة علةً... فإذا كان الإنسان مؤمناً موحداً لله، فإنّه يرجع العلل إلى ذاته المقدسة تعالى طبقاً لحكمته، فكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. ولو استند إلى العلم في تحليل العلة والمعلول الطبيعيين، فستُحل مشكلته ايضاً، وإلاّ فإنّه سينتج أوهاماً وخرافات لا أساس لها.. أوهاماً لا حد لها.. وأحدها "التطير" والفأل السيء!
مثلا كان عرب الجاهلية إذا رأوا الطائر يتحرك من اليمين نحو الشمال عدوّه فألاً حسناً، وإذا رأوه يتحرك من الشمال "اليسار" نحو اليمين عدّوه فألا سيئاً، ودليلا على الخسران أو الهزيمة! وغيرها من الخرافات الكثيرة عندهم(1).
واليوم يوجد ـ من قبيل هذه الخرافات والأوهام ـ الكثير في مجتمعات لا تؤمن بالله، وإن حققت نصراً من حيث العلم والمعرفة، بحيث لو سقطت "مملحة" على الأرض أقلقتهم إلى حد كبير!... ويستوحشون من الدار أو البيت أو الكرسي المرقم بـ 13، وما زالت سوق المنجمين وأصحاب الفأل رائجة غير كاسدة! فهناك مشترون كثر "للطالع والبخت"!.
إلاّ أنّ القرآن جمع كل هذه الامور فجعلها في جملة موجزة قصيرة فقال:
(طائركم عند الله ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يشير الكميت الأسدي إلى بعض هذه الخرافات في قصيدته البائية فيقول:
ولا أنا ممن يزجر الطير هَمّهُ أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشيةً أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضبُ (المصحح).
[89]
أجل، فطائركم وطالعكم وانتصاركم وهزيمتكم وتوفيقكم وفشلكم كله عند الله، الله الحكيم الذي يهب عطاياه لمن كانت عنده اللياقة، واللياقة بدورها انعكاس تنعكس عن الايمان والأعمال الصالحة أو الطالحة!.
وهكذا فإنّ الاسلام يدعو أتباعه ليخرجهم من وادي الخرافة إلى الحقيقة، ومن المفازة(1) إلى الصراط المستقيم.
"كان لنا بحث مفصل في مجال التطير والتفاؤل ذيل الآية 131 من سورة الأعراف".
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المفازاة تأتي بمعنى الفوز، وتأتى بمعنى الهلاك... فهي من الأضداد في اللغة ـ وهنا معناها الصحراء المهلكة (المصحح).
[90]
الآيات
وَكَـانَ فِى الْمَدِيْنَةِ تِسْعَةُ رَهْط يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَـا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وِإنَّا لَصَـدِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـهُمْ وَقَومَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةٌ بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَةً لِّقَوم يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
التّفسير
تآمر تسعة رهط في وادي القُرى:
نقرأ هنا قسماً آخر من قصّة "صالح" وقومه، حيث يكمل القسم السابق ويأتي على نهايته، وهو ما يتعلق بالتآمر على قتل "صالح" من قِبل تسعة "رهط"(1) من المنافقين والكفار، وفشل هذا التآمر! في وادي القرى منطقة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الرهط" من الناس ما لا يقل عن الثلاثة ولا يزيد عن العشرة، وهو اسم جنس لا مفرد له من نوعه ويجمع على أراهط وأرهاط ـ ولا يكون في الرهط امرأة (المصحح).
[91]
"النّبي صالح وقومه".
يقول القرآن في هذا الشأن (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون ).
ومع ملاحظة أنّ "الرّهط" يعني في اللغة الجماعة التي تقلُّ عن العشرة أو تقلّ عن الأربعين، فإنّه يتّضح أن كلاّ من المجموعات الصغيرة التسع كان لها منهج خاص، وقد اجتمعوا على أمر واحد، وهو الإفساد في الأرض والاخلال بالمجتمع (ونظامه الإجتماعي) ومبادىء العقيدة والأخلاق فيه.
وجملة "لا يصلحون" تأكيد على هذا الأمر، لأنّ الإنسان قد يفسدُ في بعض الحالات ثمّ يندم ويتوجه نحو الإصلاح.. إنّ المفسدين الواقعيين ليسوا كذلك، فهم يواصلون الفساد والإفساد ولا يفكرون بالإصلاح!.
وخاصّة أن الفعل في الجملة "يفسدون" فعل مضارع، وهو يدل على الإستمرار، فمعناه أن إفسادهم كان مستمراً... وكلّ رهط من هؤلاء التسعة كان له زعيم وقائد... ويحتمل أن كلاًّ ينتسب إلى قبيلة!.
ولا ريب أن ظهور "صالح" بمبادئه السامية قد ضيّق الخناق عليهم، ولذلك تقول الآية التالية في حقّهم: (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله ثمّ لنقولنّ لوليّه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ).
"تقاسموا" فعل أمر، أيّ اشتركوا جميعاً في اليمين، وتعهّدوا على هذه المؤامرة الكبرى تعهداً لا عودة فيه ولا انعطاف!.
الطريف أنّ أُولئك كانوا يقسمون بالله، ويعني هذا أنّهم كانوا يعتقدون بالله، مع أنّهم يعبدون الأصنام، وكانوا يبدأون باسمه في المسائل المهمّة.. كما يدل هذا الأمر على أنّهم كانوا في منتهى الغرور و"السكر" بحيث يقومون بهذه الجناية الكبرى على اسم الله وذكره!! فكأنّهم يريدون أن يقوموا بعبادة أو خدمة مقبولة... إلاّ أنّ هذا نهج الغافلين المغرورين الذين لا يعرفون الله والضالين عن الحق.
[92]
وكلمة "لنبيتنّه" مأخوذة من ـ"التبييت"، ومعناه الهجوم ليلا، وهذا التعبير يدلّ على أنّهم كانوا يخافون من جماعة صالح وأتباعه، ويستوحشون من قومه.. لذلك ومن أجل أن يحققوا هدفهم ولا يكونوا في الوقت ذاته مثار غضب أتباع صالح، اضطروا إلى أن يبيتوا الأمر، واتفقوا أن لو سألوهم عن مهلك النّبي ـ لأنّهم كانوا معروفين بمخالفته من قبل ـ حلفوا بأن لا علاقة لهم بذلك الأمر، ولم يشهدوا الحادثة أبداً.
جاء في التواريخ أن المؤامرة كانت بهذه الصورة، وهي أن جبلا كان في طرف المدينة وكان فيه غار يتعبّد فيه صالح، وكان يأتيه ليلا بعض الأحيان يعبد الله فيه ويتضرع إليه، فصمّموا على أن يكمنوا له هناك ليقتلوه عند مجيئه في الليل، ويحملوا على بيته بعد استشهاده ثمّ يعودوا إلى بيوتهم، وإذا سئلوا أظهروا جهلهم وعدم معرفتهم بالحادث.
فلمّا كمنوا في زاوية واختبأوا في ناحية من الجبل انثالت صخور من الجبل تهوي إلى الأرض، فهوت عليهم صخرة عظيمة فأهلكتهم في الحال!
لذلك يقول القرآن في الآية التالية: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون ).
ثمّ يضيف قائلا: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم إنا دمرنا هم وقومهم أجمعين ).
وكلمة (مكر) ـ كما بينّاها سابقاً ـ تستعملها العرب في كل حيلة وتفكير للتخلص أو الإهتداء إلى أمر ما.. ولا تختص بالاُمور التي تجلب الضرر، بل تستعمل بما يضر وما ينفع.. فيصح وصف المكر بالخير إذا كان لما ينفع، ووصفه بالسوء إذا كان لما يضرّ.. قال سبحانه: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ). وقال: (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله )! "فتأملوا بدقّة"
يقول الراغب في المفردات.. المكر صرف الغير عما يقصده.. فبناءً على هذا إذا نسبت هذه الكلمة إلى الله فإنّها تعني إحباط المؤامرات الضارة من قبل
[93]
الآخرين، وإذا نسبت إلى المفسدين فهي تعني الوقوف بوجه المناهج الإصلاحية، والحيلولة دونها.
ثمّ يعبّر القرآن عن كيفية هلاكهم وعاقبة أمرهم فيقول: (فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا ).
فلا صوتَ يُسمع منها
ولا حركة تتردد
ولا أثر من تلك الزخارف والزبارج والنعم والمجالس الموبوءة بالذنوب والخطايا.
أجل، لقد أذهبهم ريح عتوّهم وظلمهم، واحترقوا بنار ذنوبهم فهلكوا جميعاً (إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ).
إلاّ أن الأخضر لم يحترق باليابس، والأبرياء لم يؤخدوا بجرم الأشقياء... بل سلم المتقون (وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ).
* * *
ملاحظات
1 ـ عقوبة ثمود
تختلف تعابير آيات القرآن في موضوع هلاك قوم صالح "ثمود".
فتارةً يأتي التعبير عن هلاكهم بالزلزلة (فأخذتهم الرجفة ).(1)
وتارة يقول: "عنهم" القرآن: (فأخدتهم الصاعقة )(2).
وتارة يقول: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة )(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأعراف، الآية 78.
2 ـ الذاريات، 44.
3 ـ هود، 67.
[94]
إلاّ أنّه لا منافاة بين هذه التعابير الثلاثة أبداً... لأنّ "الصاعقة" هي الشعلة الكبيرة بين السحاب والأرض المقرونة بصيحة عظيمة واهتزاز شديد في الأرض "ذكرنا تفصيلا عن الصيحة السماوية في ذيل الآية 67".
2 ـ روى بعض المفسّرين أن أصحاب صالح الذين نجوا معه كانوا أربعة آلاف رجل، وقد خرجوا بأمر الله من المنطقة الموبوءة بالفساد إلى حضر موت"(1).
3 ـ "خاوية" من (الخواء) على وزن (الهواء) معناه السقوط والهوىّ والإنهدام، وقد يأتي الخواء بمعنى الخلو... وهذا التعبير ورد في سقوط النجم وهويه، إذا قالوا "خوى النجم" أي هوى.
ويرى الراغب في المفردات أن الاصل في "خوى" هو الخلو... ويُرِد هذا التعبير في البطون الغرثى، والجوز الخالي، والنجوم التي لا تعقب الغيث، كان عرب الجاهلية يعتقدون أن كل نجم يظهر في الأفق يصحبه الغيث! "المطر".
4 ـ روي عن ابن عباس أنّه قال: استفدت من القرآن أن الظلم يخرب البيوت ويهدمها، ثمّ استدل بالآية الكريمة (فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا )(2).
وفي الحقيقة فإن تأثير الظلم في تخريب البيوت والمدن والمجتمعات لا يقاس بأي شيء، فالظلم يأتي بالصاعقة المهلكة، والظلم يزلزل ويدمر... والظلم له أثر كأثر الصيحة ـ في السماء ـ المهلكة المميتة، وقد أكد التأريخ مراراً هذه الحقيقة وأثبتها، وهي أن الدنيا قد تدوم مع الكفر، إلاّ أنّها لا تدوم مع الظلم أبداً.
5 ـ ما لا شك فيه أن عقاب ثمود "قوم صالح" كان بعد أن عقروا الناقة "قتلوها" وكما يقول القرآن في الآيات (65) ـ (67) من سورة هود: (فعقروها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع الطبرسي في مجمع البيان، والآلوسي في روح المعاني، والقرطبي في تفسيره المعروف، ذيل الآيات محل البحث.
2 ـ مجمع البيان ذيل الآية محل البحث..
[95]
فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب، فلمّا جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربّك هو القوي العزيز، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ).
فبناءً على هذه الآيات لم ينزل العذاب مباشرة بعد المؤامرة على قتل صالح، بل الإحتمال القوي أن الجماعة الذين تآمروا على قتله أهلكوا فحسب، ثمّ أمهل اللّه الباقين، فلمّا قتلوا الناقة أهلك الله جميع الظالمين والآثمين الكافرين.
وهذه هي نتيجة الجمع بين آيات هذه السورة، والآيات الواردة في هذا الشأن في سورتي الأعراف وهود.
وبتعبير آخر: في الآيات محل البحث جاء بيان إهلاكهم بعد مؤامرتهم على قتل نبيهم صالح، أمّا في سورتي الأعراف وهود فبيان هلاكهم بعد عقرهم الناقة. ونتيجة الأمرين أنّهم حاولوا قتل نبيّهم، فلمّا لم يفلحوا أقدموا على قتل الناقة (وعقرها) التي كانت معجزته الكبرى... ونزل عليهم العذاب بعد أن أمهلوا ثلاثة أيام.
ويحتمل أيضاً أنّهم أقدموا على قتل الناقة أولا، فلما هدّدهم نبيّهم صالح بنزول العذاب بعد ثلاثة أيّام حاولوا قتله، فأهلكوا دون أن يفلحوا في قتله(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير روح البيان ذيل الآية محل البحث..
[96]
الآيتان
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأتُونَ الْفَـحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)أَئِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّنْ دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ تَجْهَلُونَ (55)
التّفسير
انحراف قوم لوط!
بعد ذكر جوانب من حياة موسى وداود وسليمان وصالح(عليهم السلام) مع أُممهم وأقوامهم، فإنّ النّبي الخامس الذي وردت الإشارة إليه في هذه السورة: نبيّ الله العظيم "لوط".
وليست هذه أوّل مرّة يشير القرآن إلى هذا الموضوع، بل تكررت الإشارة إليه عدّة مرّات، كما في سورة الحجر، وسورةهود، وسورة الشعراء، وسورة الاعراف.
وهذا التكرار والتشابه، لأنّ القرآن ليس كتاباً تاريخياً كي يتحدث عن الموضوع مرّة ولا يعود إليه.. بل هو كتاب تربوي إنساني.. ونعرف أنّ المسائل التربوية قد تقتضي الظروف أحياناً أن تُكرر الحادثة ويذكر بها مراراً، وأن يُنظر إليها من زوايا مختلفة، ويُستنتج من جهاتها المتعددة.
[97]
وعلى كل حال فإنّ حياة قوم لوط المشهورين بالإنحراف الجنسي والعادات السيئة المخزية الأُخرى، كما أنّ عاقبة حياتهم الوخيمة يمكن أن تكون لوحة بليغةً لأُولئك السادرين في شهواتهم... وإن سعة هذا التلوث بين الناس تقتضي أن يُكرر ما جرى على قوم لوط مراراً.
يقول القرآن: في الآيتين محل البحث أوّلا: (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون )(1).
"الفاحشة" كما أشرنا إليها من قبل، تعني الأعمال السيئة القبيحة، والمراد منها الإنحراف الجنسي وعمل اللواط المخزي.
وجملة (وأنتم تبصرون ) إشارة إلى أنّكم ـ يعني قوم لوط ـ ترون بأم أعينكم قبح هذا العمل وآثاره الوخيمة، وكيف تلوّث مجتمعكم من قرنه إلى قدمه به... وحتى الأطفال في غير مأمن من هذا العمل القبيح، فعلام تبصرون ولا تتنبهون!
وأمّا ما يحتمله بعضهم من أن جملة "تبصرون" إشارة إلى أنّهم كانوا يشهدون فعل اللواط "بين الفاعل والمفعول" فهذا المعنى لا ينسجم وظاهر التعبير، لأنّ لوطاً يريد أن يحرّك "وجدانهم" وضمائرهم، وأن يوصل نداء فطرتهم إلى آذانهم... فكلام لوط نابع من البصيرة ورؤية العواقب الوخيمة لهذا العمل والتنبه منه.
ثمّ يضيف القرآن قائلا: (أئنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء ).
وقد ورد التعبير عن هذا العمل القبيح بالفاحشة، ثمّ وضحه أكثر لئلا يبقى أي إبهام في الكلام، وهذا اللون من الكلام واحد من فنون البلاغة لبيان المسائل المهمة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يحتمل أن "ولوطاً" منصوب بالفعل (أرسلنا) الذي سبق ذكره في الآيات المتقدمة، ويحتمل أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره (اذكر) وحيث جاء بعد الكلمة (إذ قال) فالإحتمال الثّاني أنسب...
[98]
ولكي يتّضح بأن الدافع على هذا العمل هو الجهل، فالقرآن يضيف قائلا: (بل أنتم قوم تجهلون ).
تجهلون بالله.. وتجهلون هدف الخلق ونواميسه.. وتجهلون آثار هذا الذنب وعواقبه الوخيمة، ولو فكرتم في أنفسكم لرأيتم أن هذا العمل قبيح جدّاً، وقد جاءت الجملة بصيغة الإستفهام ليكون الجواب نابعاً من أعماقهم ووجدانهم، فيكون أكثر تأثيراً.
* * *
[99]
بداية الجزء العشرون
من
القرآن الكريم
[101]
الآيات
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوآ أَخْرِجُوا ءَالَ لُوط مِّنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَـهَا مِنَ الْغَـبِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَـمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَاللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
التّفسير
عندما تُعدُّ الطهارة عيباً كبيراً!
لا حظنا ـ في ما سبق من البحوث ـ منطق نبي الله العظيم "لوط"، ذلك المنطق المتين أمام المنحرفين الملوثين، وبيانه الإستدلالي الذي كان يعنّفهم على عملهم القبيح، ويكشف لهم نتيجة جهلهم وعدم معرفتهم بقانون الخلق وبجميع القيم الإنسانية.
والآن، لنستمع الى جواب هؤلاء المنحرفين بماذا أجابوا منطق "لوط"؟!
يقول القرآن: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم أناس يتطهرون ).
[102]
فجوابهم كاشف عن انحطاطهم الفكري والسقوط الأخلاقي البعيد!.
أجل.. إنّ الطهارة تعدّ عيباً ونقصاً في المحيط الموبوء، وينبغي أن يلقى أمثال يوسف المتعفف في السجن، وأن يطرد آل لوط نبيّ الله العظيم ويبعدوا ـ لأنّهم يتطهرون ـ خارج المدينة، وأن يبقى أمثال "زليخا" أحراراً أولي مقام... كما ينبغي أن يتمتع قوم لوط في مدينتهم دون حرج!.
وهذا هو المصداق الجلي لكلام القرآن في الضالين، إذ يقول: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ) بسبب أعمالهم السيئة المخزية.
ويحتمل في جملة (إنّهم أناس يتطهرون ) أن قوم لوط لإنحرافهم وغرقهم في الفساد، وتطبعهم وتعودهم على التلوّث، كانوا يقولون مثل هذا الكلام من باب السخرية والإستهزاء.. أي إنّهم يتصورون أن أعمالنا قبيحة وغير طاهرة! وأن تقواهم من التطهر، فما أعجب هذا الكلام! إنه لمهزلة!.
وليس هذا غريباً أن يتبدل إحساس الإنسان ـ نتيجة تطبعه بعمل قبيح ـ فيتغير سلوكه ونظرته.. فقد سمعنا بقصّة الدباغ المعروفة، إذ ورد أن رجلا كان يدبغ الجلود المتعفنة دائماً، وتطبعت "شامّته" برائحة الجلود "العفنة" فمرّ ذات يوم في سوق العطارين، فاضطرب حاله وأُغمي عليه، لأنّ العطور لا تناسب "شامّته" فأمر رجل حكيم أن يؤخذ إلى سوق الدباغين لانقاذه من الموت... فهذا مثال حسىّ طريف لهذا الموضوع المنطقي.
جاء في الرّوايات أن لوطاً كان يبلغ قومه حوالي ثلاثين عاماً وينصحهم، إلاّ أنّه لم يؤمن به إلاّ أسرته وأهله باستثناء زوجته فإنّها كانت من المشركين وعلى عقيدتهم(1).
بديهي أن مثل هؤلاء القوم لا أمل في إصلاحهم في عالم الدنيا، فينبغي أن يطوى "طومار" حياتهم، لذلك تقول الآية التالية في هذا الشأن (فأنجيناه وأهله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 382.
[103]
إلاّ امرأته قدرناها من الغابرين )(1).
وبعد أن خرج آل لوط في الموعد المعين "سحر ليلة كانت المدينة غارقة فيها بالفساد" فلمّا أصبح الصباح نزلت عليهم الحجارة من السماء، وتزلزت الأرض بهم، فدفنوا جميعاً تحت الحجارة والأنقاض، والى هذا تشير الآية الكريمة التالية (وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المُنذرين ).
وكان لنا بحث مفصل في قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة وآثار الإنحراف الجنسي، في ذيل الآيات 77 ـ 83 من سورة هود، ولا حاجة إلى تكراره.
إن قانون الخلق عيّن لنا مسيراً لو سلكناه لكان ذلك مدعاة لتكاملنا وحياتنا، ولو انحرفنا عنه لكان باعثاً على سقوطنا وهلاكنا.
فقانون الخلق جعل الجاذبية الجنسية بين الجنسين المتخالفين عاملا لبقاء نسل الإنسان واطمئنان روحه. وتغيير المسير نحو الإنحراف الجنسي "اللواط أو السحاق" يذهب بالإطمئنان الروحي .. والنظام الإجتماعي.
وحيث أن لهذه القوانين الإجتماعية جذراً في الفطرة، فالتخلف "أو الإنحراف" يسبب الإضطراب وعدم الإنسجام في نظام وجود الإنسان!.
فلوط نبيّ الله العظيم نبّه قومه المنحرفين إلى هذا الاساس "الفطري" فقال لهم: (أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون )؟! فالجهل وعدم معرفتكم بقانون الحياة والسفاهة هو الذي يقودكم إلى الضلال والتيه!.
فلا عجب أن تتغير سائر قوانين الخلق في شأن هؤلاء القوم الضالين، فبدلا من أن يغاثوا بماء من السماء يهب الحياة يمطرون بالحجارة.. وبدلا من أن تكون الأرض مهاداً وثيراً لهم تضطرب وتتزلزل ويُقلب عاليها سافلها، لئلا يقتصر الحال على هلاكهم فحسب، بل لتمحى آثارهم!.
وفي آخر آية من الآيات محل البحث، وبعد بيان ما جرى على لوط وقومه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الغابرين" جمع الغابر ومعناه هنا الباقي من الذاهبين من المكان.
[104]
المنحرفين، يتوجه الخطاب إلى النّبي الكريم "محمّد"(صلى الله عليه وآله) ليستنتج ممّا سبق، فيقول له:(قل الحمد لله ).
الحمد والثناء الخاص لله، لأنّه أهلك أُمماً مفسدين كقوم لوط، لئلا تتلوث الأرض من وجودهم!.
الحمد لله الذي أبار قوم صالح ثمود، وفرعون وقومه المفسدين، وجعل آثارهم عبرة للمعتبرين.
وأخيراً فالحمد لله الذي أنعم وتفضل على عباده المؤمنين... كداود وسليمان وأمثالهما، وأولاهم القوّة والقدرة، وهدى القوم الضالين كقوم سبأ.
ثمّ يضيف قائلا: (وسلام على عباده الذين اصطفى ).
سلام على موسى وصالح ولوط وسليمان وداود، وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، ومن والاهم بإحسان.
ثمّ يقول: (آلله خير أمّا يشركون )(1)!!
رأينا في قصص هؤلاء الأنبياء أن الأصنام لم تستطع عند نزول البلاء أن تسعف اتباعها، أو تقوم بأدنى مساعدة لهم! غير أن الله سبحانه لم يترك عباده وحدهم في هذه الخطوب، بل أعانهم بلطفه الذي لا ينفذ!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ (آلله) أصلها (أألله) فانقلبت إحدى الهمزتين ألفاً ثمّ صارت مدة كما هي عليه الآن.. وجملة (أمّا يشركون) أصلها (أم ما يشركون) إذ أُدغمت (أم) المعادلة الإستفهامية بما الموصولة فصارت (أمّا) .
[105]
الآيات
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاْرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَة مَّا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَآ أَءِلَـهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أمَّن جَعَلَ الاْرْضَ قَرَارَاً وَجَعَلَ خِلَـلَهآ أَنْهَـراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً أَءِلَـهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الاَْرْضِ أَءِلَـهٌ مَّعَ الله قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيـحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءِلَـهٌ مَّعَ اللهِ تَعَـلَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمآءِ وَالاْرْضِ أَءلَـهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَـنَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ (64)
التّفسير
أمع كلّ هذه الأدلة ما تزالون مشركين؟!
في آخر آية من آيات البحث السابق، وبعد ذكر جوانب مثيرة من حياة
[106]
خمسة أنبياء عظام، أُلقي هذا السؤال الوجيز المتين (آللهِ خير أمّا يشركون )؟!
أمّا في الآيات محل البحث فتفصّل السؤال.. وتوجه للمشركين خمس آيات تبدأ بخمسة أسئلة، لتناقش المشركين وتحاكمهم، وتكشف دلائل التوحيد في الآيات الخمس في اثني عشر مثلا!
فالآية الأُولى من هذه الآيات تتحدث عن خلق السماوات والأرض، ونزول الماء من السماء والبركات الناشئة عنه، فتقول: هل أن معبوداتكم أفضل (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ).(1)(2)
"الحدائق" جمع "الحديقة"، وهي كما يقول كثير من المفسرين: البستان الذي يحيطه الجدار أو الحائط، ومحفوظ من جميع الجهات، ومنها سمّيت حدقة العين حدقة لأنّها محفوظة بين الجفنين والهدب، أمّا الراغب فيقول في المفردات: إنّ الحديقة تطلق في الأصل على الأرض المجتمع فيها الماء، كما أنّ حدقة العين فيها الماء دائماً.
ويستفاد من مجموع هذين الرأيين أن الحديقة بستان له جدار وماء كاف.
و "البهجة" على وزن (لهجة) معناها الجمال وحسن الظاهر الذي يسر الناظرين.
ويتوجه الخطاب نحو العباد في ختام الآية فيقول: (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة (ذات) في "ذات بهجة" جاءت مفردة، مع أن حدائق جمع وهي موصوفها، وذلك لأنّ الحدائق جمع تكسير، وجمع التكسير قد يأتي أحياناً بمعنى الجماعة، وهي ـ أي لفظة الجماعة ـ مفرد وصفتها مفردة أيضاً..
2 ـ هذه الآية في الحقيقة فيها حذف وتقديره: ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض؟ وفي الحقيقة إن السؤال في الآية السابقة كان هكذا: اللّه خير أم الشركاء؟ وهنا يبدأ السؤال بالعكس: ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض.
[107]
فأنتم تستطيعون أن تنثروا البذور وتسقوا الأرض، لكن الذي جعل الحياة في قلب البذرة، وأمر الشمس أن تشرق على الأرض، والماء ينزل من السماء حتى تنبت البذرة فتكون شجراً، هو الله فحسب.
فهذه حقائق لا يمكن إنكارها، ولا أن تنسب لغير الله... فهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي أنزل الغيث من السماء، وهو مبدأ هذه البهجة والحسن والجمال في عالم الحياة!.
إن مجرّد التأمل في لون الزهرة الجميلة، وأوراقها اللطيفة المنظمة التي تشكل حلقةً رائعة.. كاف أن يجعل الإنسان عارفاً بعظمة الخالق وقدرته وحكمته.. فهذه الأُمور تهز قلب الإنسان وتدعوه إلى الله.
وبتعبير آخر فإن التوحيد في الخلق يؤدي الى "توحيد الخالق"، والتوحيد في الربوبيّة "توحيد مدبّر هذا العالم" باعث على "توحيد العبادة"!.
ولذلك فالقرآن يقول في نهاية الآية: (أإله مع الله ) ولكن هؤلاء جهلة عدلوا عن الله وعبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم (بل هم قوم يعدلون )(1).
والسؤال الثّاني بحث عن موهبة استقرار الأرض وثباتها، وأنّها مقر الإنسان في هذا العالم، فيقول: هل أنّ اصنامكم أفضل، (أمّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي )(2)كما تحافظ على القشرة الارضية من الزلازل، كما (وجعل بين البحرين حاجزاً ) ومانعاً من اختلاط البحر المالح بالبحر العذب.
وهكذا فقد ورد في هذه الآية ذكر أربع نعم عظيمة، ثلاث منها تتحدث عن استقرار الأرض! فتقول:
إن استقرار الأرض في الوقت الذي تتحرك بسرعة وتدور حول نفسها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قد يكون (يعدلون) من مادة (العدول) أي الإنحراف والرجوع من الحق إلى الباطل، أو أنّه مادة (عِدْل) على وزن (قِشر) ومعناه المعادل والنظير.. ففي الصورة الأُولى مفهوم الآية أنّهم ينحرفون عن الله الواحد إلى غيره، وفي الصورة الثّانية مفهومها أنّهم يجعلون له عديلا.
2 ـ "الخلال" في الأصل معناه الشق بين الشيئين. و"الرواسي" جمع "راسية"، وهي الثابتة.
[108]
وحول الشمس، وتتحرك في المنظومة الشمسية وحركة هادئة وفي وتيرة واحدة، إلى درجة أن سكّانها لا يحسّون بحركتها أبداً... فكأنّها أوتدت في مكان واحد! وبقيت ثابتة فلا يُرى فيها أقلّ حركة.
والنعمة الأُخرى وجود الجبال، التي قلنا عنها سابقاً أنّها تُحيط بالأرض، وجذورها متصلة بعضها ببعض كالحاجر القوي الذي يقاوم الضغوط الداخلية للأرض، وحركات الجزر والمدّ الذين يحصلان بسبب جاذبية القمر، كما أنّها تعبر مانعاً امام الاعاصير والسيول من أن تدمّر الأرض بطغيانها!
والنعمة الأُخرى الحجاب الحاجز بين البحرين، و الحائل الطبيعي الذي يحول بين الماء المالح والماء العذب، وهذا الحجاب ـ غير المرئي ـ هو الإختلاف في درجة الغلظة بين الماء العذب والماء المالح، أو كما يصطلح عليه اختلاف "الوزن النوعي" الخاص الذي يسبب عدم انحلال مياه الأنهار العظيمة العذبة التي تنصب في البحار المالحة لمدّة طويلة، وعند حالة "المدّ" تتمدد هذه المياه العذبة على السواحل الصالحة للزراعة فتسقيها (وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع ذيل الآية 53 من سورة الفرقان).
وفي الوقت ذاته جعل الله خلال أجزاء الأرض المختلفة أنهاراً تسقي المزارع والأحياء... فتخضرّ البساتين وتثمّر الاشجار وبعض مصادر هذه المياه تكمن في قمم الجبال... وبعضها بين الطبقات الأرضيّة!.
ترى هل يمكن أن يكون هذا النظام قد وُلد عن طريق الصدفة العمياء الصمّاء، والمبدأ الفاقد للعقل والحكمة؟! وهل للأصنام تأثير في هذا النظام البديع المثير للدهشة؟!
حتى عبدة الأصنام لا يدعون مثل هذا الإدعاء! لذلك يكرر القرآن في ختام الآية هذا السؤال: (أإله مع الله )؟! حاش للَّهِ (بل أكثر هم لا يعلمون ).
السؤال الثّالث من هذه الأسئلة الخمسة التي تحكي عن محاورة ومحاكمة
[109]
المعنوية يتحدث عن حلّ المشكلات، وفتح الطرق الموصدة، وإجابة الدعاء، إذ تقول الآية التالية: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ).
أَجَلْ... عندما تُغلق جميع أبواب عالَم الأسباب بوجه الإنسان، ويبلغ النصل إلى العظم، ويغدو مضطراً حيراناً لا حيلة له، فإنّ الذي يحلّ المعضلة، ويفتح الأقفال، ويزيل السدود عن الطرق، وينثر في القلوب نور الأمل، ويفتح أبواب الرحمة بوجه الناس المتحيرين، هو الله لا غير!.
وحيث أنّ الناس يدركون هذه الحقيقة بالفطرة في اعماق نفوسهم جميعاً، فإنَّ المشركين حين يقعون بين امواج البحر المتلاطمة ينسون جميع معبوديهم ويتوجهون نحو لطف الله، كما يقول القرآن: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين )(1)
لذلك تضيف الآية قائلة: إنّه لا ينقذكم من هذه المآزق والشدائد فحسب، بل: (ويجعلكم خلفاء الأرض أاله مع اللّه ) ولكنكم لا تتعضون بهذه الدلائل.. (قليلا ما تذكرون )(2).
وحول مفهوم المضطر، ومسألة استجابه الدعاء وشروطها، بحوث ستأتي في نهاية هذه الآيات!
والمراد من (خلفاء الأرض ) لعله بمعنى "سكنة الأرض" وأصحابها.. لأنّ الله جعل الإنسان حاكماً على هذه الأرض، مبسوط اليد فيها بما أولاه من النعم وأسباب الرفاه والدعة والإطمئنان!.
ولا سيما حين يقع الإنسان في شدّة، فيغدو مضطراً ويتجه نحو خالقه الكريم ـ فيرفع بكرمه البلايا والموانع ـ فتستحكم أسس هذه الخلافة وهنا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ العنكبوت، الآية 65.
2 ـ (ما) في قوله تعالى: (قليلا ما تذكرون ) زائدة ظاهراً، ونعرف أن الحروف الزائدة في كثير من المواطن للتأكيد، و(قليلا) صفة لمصدر محذوف وتقديره: تتذكرون تذكراً قليلا.
[110]
تتجلى العلاقة بين شطري الآية.
كما قد يكون المراد بهذا المعنى، وهو أنّ الله جعل ناموس الحياة أن يخلفَ قوم قوماً على الدوام، بحيث لو لم يكن هذا التناوب لم تغدُ الصورة متكاملة(1)!.
ويثير القرآن في السؤال الرّابع مسألة الهداية فيقول: هل أن الاصنام أفضل، (أمّن يهديكم في ظلمات البرّ والبحر ) بواسطة النجوم (ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته )؟!!.
فالرياح التي تدل على نزول الغيث، وكأنّها رسل البشرى تتحرك قبل نزول الغيث، إنّها في الحقيقة تهدي الناس إلى الغيث أيضاً.
والتعبير بـ (بشراً ) في شأن الرياح، والتعبير بـ (بين يدي رحمته ) في شأن الغيث، كلاهما تعبيران طريفان لأنّ الرياح هي التي تحمل الرطوبة في الجو وتنقل أبخرة الماء من على وجه المحيطات بشكل قطعات من السحب على متونها، إلى النقاط اليابسة، وتخبر عن قدوم الغيث!
وكذلك الغيث الذى ينشد نغمة الحياة على وجه البسيطة، وحيثما نزل حلت البركة والرحمة(2).
(ذكرنا شرحاً مفصلا في تأثير الرياح في نزول الغيث في ذيل الآية 57 من سورة الأعراف).
ويخاطب القرآن في ختام الآية المشركين مرّة أُخرى فيقول: (ءإله مع الله )؟!
ثمّ يضيف دون أن ينتظر الجواب قائلا (تعالى الله عما يشركون ).
أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث، فيثير القرآن السؤال الخامس في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فبناءً على هذا المعنى يكون (خلفاء الأرض) بمعنى: خلفاء في الأرض.
2 ـ "بُشر" على وزن "عشر" ـ كما ذكرنا آنفاً ـ مخفف بُشر على وزن "كتب"، وهي جمع "بشور" على وزن "قبول" ومعناه المبشر.
[111]
شأن المبدأ والمعاد بهذه الصورة، فيقول: هل أنّ أصنامكم أفضل، (أمّن يبدأ الخلق ثمّ يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض ءإله مع الله ).. فهل بعد ذلك تعتقدون بوجود معبود غير الله (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )؟!
وفي الواقع فإن الآيات المتقدمة كلها كانت تتكلم على المبدأ، وايات عظمة الله في عالم الخلق والوجود، ومواهبه ونعمه، إلاّ أنّه في الآية الأخيرة ينتقل البحث من معبر ظريف إلى مسألة المعاد، لأنّ بداية الخلق نفسها دليل على تحققها، والقدرة على بداية الخلق تعد دليلا واضحاً على المعاد.
ومن هنا يتّضح الجواب على السؤال الذي يثيره كثير من المفسّرين، وهو أن المشركين المخاطبين بهذه الآيات أغلبهم لم يعتقدوا بالمعاد "المعاد الجسماني" فكيف يمكن أن يوجه إليهم هذا السؤال مع هذه الحال ويطلب منهم الإقرار.
فالجواب عليه أن هذا السؤال مقرون بدليل يسوق الطرف الآخر للإقرار، لأنّه باعترافهم أن بداية الخلق من الله، وهذه المواهب والنعم كلّها منه، لكي تقبل عقولهم إمكان المعاد والرجوع الى الحياة في يوم القيامة مرّة أُخرى.
والمراد من (الرزق السماوي) هو الغيث ونور الشمس وأمثال ذلك، أمّا (الرزق الارضي) فالنباتات والمواد الغذائية المختلفة التي تنمو على الأرض مباشرة، أو عن طريق غير مباشر كالأنعام والمعادن والمواد المختلفة التي يتمتع بها الإنسان في حياته!.
* * *
بحوث
1 ـ مَن المضطر الذي يجاب إذا دعاه؟
مع أنّ الله ـ يجيب دعاء الجميع عند تحقق شروط الدعاء، إلاّ أنّ في الآيات آنفة الذكر اهتماماً بالمضطر، وذلك لأنّ من شروط إجابة الدعاء أن يغمض
[112]
الإنسان عينيه عن عالم الأسباب كليّاً، وأن يجعل قلبه وروحه بين يدي رحمة الله، وأن يرى كل شيء منه وله! وأن حل كل معضلة بيده، وهذه النظرة وهذا الإدراك إنّما يتحققان في حال الإضطرار.
وصحيح أنّ العالم هو عالم الأسباب والمسببات، والمؤمن يبذل منتهى سعيه وجهده في هذا الشأن... إلاّ أنّه لا يضيع في عالم الأسباب أبداً... ويرى كل شيء من بركات ذاته المقدسة، ويرى من وراء الحجاب ببصره النافذ "مسبب الأسباب" فيطلب منه ما شاء!.
أجل، إذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة، فإنه يوفّر لنفسه أهم شرط لإجابة الدعاء.
الطريف أنّه قد ورد في بعض الرّوايات تفسير هذه الآية بقيام المهدي صلوات الله وسلامه عليه!
ففي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: "والله لكأنّي أنظر إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحجر ثمّ ينشد الله حقّه... قال والله هو المضطر في كتاب الله في قوله: (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض )" (1)!
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: "نزلت في القائم من آل محمّد (عليهم السلام) هو والله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين ودعا الله عزَّوجلّ فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض" (2).
ولا شك أن هذا التّفسير ـ كما رأينا نظائره الكثيرة ـ لا يحصر المراد من هذه الآية بالمهدي(عليه السلام)، بل مفهوم الآية واسع، والمهدي(عليه السلام) واحد من مصاديقها الجليّة... إذ الأبواب في زمانه موصدة، والفساد عمّ البسيطة، والبشرية في طريق
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 94.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 94.
[113]
مسدود، وحالة الإضطرار ظاهرة في جميع العالم.. فعندئذ يظهر الإمام في أقدس بقعة.. فيطلب كشف السوء، فيلبي الله دعوته، ويجعله بداية "الظهور" المبارك في العالم، ويستخلفه في الأرض هو وأصحابه، فيكون مصداقاً لقوله تعالى (ويجعلكم خلفاء الأرض ).
"كان لنا بحث في شروط إجابة الدعاء وأهميته، وفي سبب عدم الإجابة، فصّلناه في ذيل الآية (186) من سورة البقرة"
2 ـ الإستدلال المنطقي في كلّ مكان
نقرأ في آيات القرآن ـ مراراً ـ أنّه يطالب المخالفين بالدليل، وخاصة بقوله: (هاتوا برهانكم ) وقد جاء هذا النص في أربعة مواضع البقرة: الآية 115، الأنبياء: الآية 24، النمل: الآية 64، والقصص: الآية 75 كما أنّه أكّد في مواضع أُخرى على البرهان خاصة "والمراد من البرهان: أصدق دليل".
وهذا المنطق (المطالبة بالبرهان) للاسلام يحكي عن محتواه الغني والقوي، لأنّه يسعى لأن يواجه مخالفيه مواجهة منطقية، فكيف يطالب الآخرين بالبرهان وهو لا يكترث به؟! فآيات القرآن المجيد مملوءة بالإستدلالات المنطقية... والبراهين العلمية في المسائل المتعددة!.
وهذا الأمر على خلاف ما حرفته المسيحية اليوم ـ وعوّلت عليه، وترى أن الدين هو ما يوحيه القلب!! وتفصل العقل عنه إذ تراه أجنبياً عنه... حتى أنّها تؤمن بالتناقضات العقلية كالتوحيد في التثليث، ومن هنا فقد سمحت للخرافات أن تدخل في الدين، مع أن الدين لو خلا من العقل والاستدلال العقلي فسوف لا يقوم دليل عليه، ويكون ذلك الدين وما يضادّه سواء!.
وتبرز عظمة هذا المنهج (وهو الإهتمام بالبرهان ودعوة المخالفين إلى الإستدلال المنطقي) حين نلتفت إلى أن الإسلام ظهر في محيط يعيش الخرافات
[114]
التي لا أساس لها والمسائل غير المنطقية في جميع مفاصل منظومته الفكرية والمعرفية!!
3 ـ خلاصة عامّة ومرور على الآيات السابقة
في الآيات السابقة كان اهتمام القرآن منصباً لإثبات "توحيد المعبود" على "توحيد الخالق"، و"توحيد الرب" اي (توحيد الخلق وتوحيد التدبير) وتحدّث عن اثتني عشرة آية وعلامة لله العظيم في عالم الوجود:
1 ـ السماء والأرض.
2 ـ نزول الغيث.
3 ـ بركاته في الحياة.
4 ـ قرار الأرض.
5 ـ الأنهار.
6 ـ الجبال الرواسي.
7 ـ الحاجز بين البحرين (العذب والمالح).
8 ـ إجابة دعوة العباد.
9 ـ هدايتهم في ظلمات البر والبحر.
10 ـ إرسال الرياح بشراً بين يدي رحمته.
11 ـ بدء الخلق وإعادته.
12 ـ رزق الإنسان "وسائر الخلق" من السماء والأرض.
هذه المواهب "والنعم" الاثنتا عشرة بيّنتْ في خمس آيات وضمن خمسة أسئلة!. وكانت تعالج الأُمور الخمسة التالية على التوالي:
1 ـ الخلق.
2 ـ والإستقرار.
[115]
3 ـ كشف الضرّ.
4 ـ الهداية.
5 ـ إعادة الحياة (بعد الموت).
وقد عقّب ذيل كل واحد من الأسئلة الخمسة، بقوله تعالى: (ءإله مع الله )؟!
وقد أوضح القرآن في نهاية كل سؤال أموراً، فأشار في نهاية الآية الأُولى إلى إنحراف المخالفين عن الحق.
وأشار في الآية الثّانية إلى جهلهم.
وأشار في الآية الثّالثة إلى عدم تفكيرهم!
وأشار في الآية الرابعة إلى انحطاط أفكارهم.
وطالبهم في نهاية الآية الخامسة بالإستدلال!
وقد أبدى القرآن بشكل عام مجموعة من الأسئلة الجامعة والمنسجمة بعضها مع بعض.
* * *
[116]
الآيات
قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنِ فِى السَّمَـوَتِ وَالاْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاَْخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذا كُنَّا تُرَباً وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَـمُخْرَجُونَ (1) لَقَدْ وُعِدْنَا هَـذا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَـذا إلاَّ أَسَـطِيرُ الاوَّلِينَ (67)
التّفسير
لمّا كان البحث في آخر الآيات السابقة عن القيامة والبعث، فإن الآيات ـ محل البحث ـ تعالج هذه المسألة من جوانب شتى، فتجيب أولا على السؤال الذي يثيره المشركون دائماً، وهو قولهم: متى تقوم القيامة؟ و"متى هذا الوعد"؟! فتقول: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاّ الله وما يشعرون أيّان يبعثون )!
لا شك أن علم الغيب ـ ومنه تاريخ وقوع القيامة ـ خاص بالله، إلاّ أنّه لا منافاة في أن يجعل الله بعض ذلك العلم عند من يشاء من عباده، كما نقرأ في
[117]
الآيتين (26) و( 27) من سورة الجن (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول ).
وبتعبير آخر فإنّ علم الغيب بالذات، وبصورته المستقلة والمطلقة غير المحدودة، خاصّ بالله سبحانه، وكل علوم الاخرين مُسترفدة من علمه تعالى. ولكن مسألة تاريخ وقوع القيامة مستثناة من هذا الأمر أيضاً، ولا يعلم بها أحد "إلاّ الله"(1).
ثمّ يتكلم القرآن عن عدم علم المشركين بيوم القيامة وشكهم وجهلهم، فيقول: (بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ).
"ادّارك" في الأصل "تدارك" ومعناه التتابع أو لحوق الآخر بالأوّل، فمفهوم جملة: (بل ادّارك علمهم في الآخرة ) أنّهم لم يصلوا إلى شيء بالرغم ممّا بذلوه من تفكير، وجمعوا المعلومات في هذا الشأن، لذلك فإنّ القرآن يضيف مباشرة بعد هذه الجملة (بل هم في شك منها بل هم منها عمون ). لأنّ دلائل الآخرة ظاهرة في هذه الدنيا، فعودة الأرض الميتة إلى الحياة في فصل الربيع، وإزهار الأشجار وإثمارها مع أنّها كانت في فصل الشتاء جرداء!... ومشاهدة عظمة قدرة الخالق في مجموعة الخلق والوجود، كلها دلائل على إمكان الحياة بعد الموت، إلاّ أنّهم كالعُمي الذين لا يبصرون كل شيء!
وبالطبع فإنّ هناك تفاسير أخر للجملة أعلاه، منها أنّ المراد من (ادّارك علمهم في الآخرة ) أن أسباب التوصل للعلم في شأن الآخرة متوافرة ومتتابعة، إلاّ أنّهم عمي عنها.
وقال بعضهم: إنّ المراد منها أنّهم عندما تُكشف الحجب في يوم الآخرة، فإنّهم سيعرفون حقائق الآخرة بشكل كاف.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا بحوث مفصلة في علم الغيب في الأجزاء السابقة في هذا التّفسير.
[118]
إلاّ أنّ الأنسب من بين هذه التفاسير الثلاثة هو التّفسير الأوّل حيث يناسب بقية الجمل في الآية، والبحوث الواردة في الآيات الأخر!.
وهكذا فقد ذكرت ثلاث مراحل لجهل المنكرين (للآخرة).
الأولى: أنّ إنكارهم وإشكالهم هو لأنّهم يجهلون خصوصيّات الآخرة "وحيث أنّهم لم يروها فهم يظنون الحقيقة خيالا".
الثّانية: أنّهم في شك من الآخرة أساساً، وسؤالهم عن زمان تحققها ناشيء من أنّهم في شك منها!.
الثّالثة: أن جهلهم وشكهم ليس منشؤهما أنّهم لا يملكون دليلا أو دلائل كافية على الآخرة، بل الأدلة متوفرة إلاّ أن أعينهم عميٌ عنها!.
والآية التالية: توجز منطق منكري القيامة والبعث في جملة واحدة، فتقول: (وقال الذين كفروا ءإذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون )؟!
فهم مقتنعون بهذا المقدار، أنّ هذه المسألة بعيدة (أن يتحول الإنسان إلى تراب ثمّ يعود إلى الحياة)! مع أنّهم كانوا أوّل الأمر تراباً وخلقوا من التراب، فما يمنع أن يعودوا إلى التراب، ثمّ يرجعون أحياءً بعد أن كانوا تراباً!
الطريف أنّنا نواجه مثل هذا الإستبعاد في ثمانية مواضع من القرآن، فهم يشكون في مسألة القيامة في المواضع آنفة الذكر بمجرّد استبعاد عودتهم إلى الحياة من "التراب" ثانية!.
ثمّ يحكي القرآن عمّا يضيفه المشركون من قول: (لقد وعدنا هذا وآباؤنا من قبل ) ولكن لم نجد أثراً لهذا الوعد ولن يوجد (إن هذا إلاّ اساطير الأولين ). فما هي سوى خرافات وخزعبلات القدماء.
فبناءً على هذا فإنّهم يبدأون من الإستبعاد ثمّ يجعلونه أساساً للإنكار المطلق... فكأنّهم كانوا ينتظرون أن تتحقق القيامة عاجلا، وحيث أنّهم لم يشهدوا
[119]
ذلك في حياتهم فهم ينكرونه.
وعلى كل حال، فهذه التعبيرات جميعها تدل على غفلتهم وغرورهم!.
ويستفاد ـ ضمناً من هذا التعبير ـ أنّهم أرادوا أن يسخروا من كلام النّبي في شأن يوم القيامة، ويطعنوا عليه، فيقولوا: إن هذه الوعود الباطلة سبقت لأسلافنا، فلا جديد فيها يستحق بذل التفكير والمراجعة!.
* * *
[120]
الآيات
قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْـمُجْرِمِينَ (69) وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَتَكُنْ فِى ضَيْق مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إَنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ (71)قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ (72)وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَآئِبَة فِى السَّمَآءِ وَالاْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين (75)
التّفسير
لا يضيق صدرك بمؤامراتهم:
كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعادْ، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر.
ولما كان البحث المنطقي غير مُجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء، بالإضافة إلى ما أقامتهُ الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد ممّا يُرى كلّ يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنّة، وما إلى ذلك، فإنّ الآيات محل البحث
[121]
بدلا من أن تأتيهم بدليل، هددتهم بعذاب الله الّذي شمل من سبقهم من الكفّار، وأنذرتهم بعقابه المخزي... فوجهت الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله) قائلةً: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ).
فأنتم تعترفون أن هذه الوعود تلقّاها أسلافكم، فلم يكترثوا بها، ولم يروا ضرراً.. فهلاّ سرتم في الأرض قليلا، لتشهدوا آثار هؤلاء المجرمين المنكرين للتوحيد والمعاد، وخاصة الآثار في المناطق القريبة من الحجاز... لتنظروا أن الأمر ليس كما تزعمون.
ولكن سيحين موعدكم فلا تعجلوا... فأنتم كأُولئك ستواجهون المصير المحتوم والعاقبة المخزية إذا لم تصلحوا أنفسكم!.
والقرآن دعا مراراً إلى السير في الارض، ومشاهدة آثار الماضين، والمدن الخاوية الخربة التي حاق بأهلها سوء العذاب، وقصور الظالمين المتداعية، والقبور الدارسة والعظام النخرة، والأموال التي خلفها أصحابها المغرورون!!
إنّ مطالعة تلك الآثار التي تعبّر عن التأريخ الحىّ لأُولئك الماضين، توقظ القلوب الغافلة! وتبصّرها بالحق... والواقع كذلك، فإن مشاهدة واحد من هذه الآثار يترك في القلب أثراً لا تتركه مطالعة عدّة كتب تأريخية!.
(كان لنا بحث مفصل في هذا المجال ذيل الآية 137 من سورة آل عمران).
ممّا ينبغي ملاحظته أنّه جاء في هذه الآية التعبير بـ "المجرمين" بدلا من "المكذبين"... وهو إشارة إلى أن تكذيبهم لم يكن لأنّهم أخطأوا في التحقيق، بل أساسه العناد واللجاجة. وتلوثهم بأنواع الجرائم!
وحيث أن الرّسول(صلى الله عليه وآله) كان يشفق عليهم لإنكارهم، ويحزن لعنادهم، ويحترق قلبه من أجلهم، إذ كان حريصاً على هدايتهم، وكان يواجه مؤامراتهم أيضاً.. فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النّبي فتقول له: (ولا تحزن عليهم ) ولا تقلق من مؤآمراتهم (ولا تكن في ضيق ممّا يمكرون ).
[122]
إلاّ أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين، بدلا من أن يأخذوا إنذار النّبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويسترشدوا بنصحه، أخذوا يسخرون منه (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ).
ومع أنّ المخاطب هو النّبي(صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ الموضوع ذكر بصيغة الجمع "إن كنتم صادقين" لأنّ المؤمنين الصادقين كانوا قد ضموا صوتهم إلى صوت النّبي(صلى الله عليه وآله)أيضاً... فهم مخاطبون بما خوطب به كذلك!
وهنا يردُّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية، فيقول مخاطباً نبيّه: (قل عسى أن يكون قد ردف لكم بعض الذي تستعجلون ).
فعلام تستعجلون؟! وعلام تستصغرون عقاب الله؟! أفلا ترحمون أنفسكم؟! ترى، هل عذاب الله ضرب من الهزل أو المزاح؟ فعسى أن يأخذكم الله بعذابه لكلامكم هذا فيهلككم... فلم هذا العناد واللجاجة؟!
"ردف" فعل مشتق من (ردف) على وزن (حرف) ومعناه كون الشيء خلف الشيء الآخر، ولذا يطلق على من يركب الفرس خلف صاحبه (رديف) كما يطلق الرديف على الاشخاص أو الاشياء التي تقف صفاً واحداً بعضها خلف بعض.
وهناك كلام عن المراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به، فقيل: هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى، إذ صرع من عتاتهم سبعون رجلا وأسر سبعون رجلا!.
كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيراً، ببركة وجود النّبي إذ كان رحمة للعالمين، والآية (33) من سورة الأنفال شاهدة عليه (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ).
والتعبير بـ "عسى" لعله على لسان النّبيّ(صلى الله عليه وآله). وحتى لو كان من قِبَلِ الله سبحانه ـ فعلى خلاف ما يتصوّره بعضهم، فإنّه ليس فيه أي إشكال... إذ هو إشارة إلى وجود مقدمات الشيء ومقتضياته، مع إمكان أن تقترن هذه المقدمات
[123]
بالمانع، فلا تصل إلى النتيجة النهائية (فلاحظوا بدقّة) !.
ثمّ يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة: وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم، فذلك بفضله وبرحمته، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم، فيقول: (وإنّ ربّك لذو فضل على الناس ولكنّ أكثرهم لا يشكرون ).
وإذا كانوا يتصورون أن تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة، فهم في غاية الخطأ: (وإن ربّك ليعلم ما تكن صدورهم ومايعلنون )(1).
فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون، والغيب والشهادة عنده سيّان.
فهذه المفاهيم هي من نتاج علمنا المحدود، وإلاّ فهي في مقابل غير المحدودتفقد معانيها و تتلاشى حدودها.
وهنا ذكر "علم الله بما تكنّ القلوب" مقدماً على علمه بالأفعال الخارجية، ولعل ذلك هو بسبب أهمية النيات والإرادة! كما يمكن أن يكون التقديم لأنّ الأفعال الخارجية ناشئة عن النيات الداخلية، والعلم بالعلة مقدم على العلم بالمعلول!.
ثمّ يضيف القرآن قائلا: إنّه ليس علم الله منحصراً بما تكن القلوب وما تعلن، بل علمه واسع مطلق! (وما من غائبة في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين )(2).
وواضح أن "الغائبة" لها معنى واسع، فهي تحمل في مفهومها كلّ ما خفي عن حسّنا وغاب... وتشمل أعمال العباد الخفية والنيات الباطنية، وأسرار
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تكنّ" مأخوذ من كَنّ على وزن جَنّ، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفّار من خواطر وأفكار عدوانية!..
2 ـ "الغائبة" اسم فاعل مشتق يدل على الوصف، وكما يعتقد بعضهم "التاء" ليست في هذه الكلمة للتأنيث، بل هي إشارة للأشياء المخفية، فهي للمبالغة في الخفاء... إلا أنّه لا مانع من أن نحتمل أن التاء للتأنيث، وأن موصوفها محذوف، وتقديره: وما من خصلة غائبة. أو أشياء غائبة، والله العالم..
[124]
السماوات والأرض وقيام الناس للحساب يوم القيامة، زمان نزول العذاب، وأمثال ذلك. ولا دليل على أن نفسّر "الغائبة" هنا بواحد من هذه الأُمور المذكورة آنفاً ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ .
والمراد بـ "الكتاب المبين" هو اللوح المحفوظ، وعلم الله الذي لا نهاية له، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (59) من سورة الأنعام.
* * *
ملاحظات
التحقيق في الآيات المتقدمة يدل على أن منكري المعاد من أجل أن يتنصّلوا من عبء الإيمان بالقيامة والمسؤوليات الناشئة عنه، كانوا يتوسلون بثلاثة طرق:
1 ـ استبعادالعودة للحياة بعد أن يغدو الإنسان تراباً، لإعتقادهم أنّ التراب لا يمكن أن يكون أساساً للحياة!
2 ـ قدم هذه العقيدة وعدم الجدة فيها.
3 ـ عدم نزول العذاب على منكري المعاد... لأنّه لو كان حقّاً أن يبتلى المنكرون بالعذاب فلم لا ينزل عليهم!
وقد ترك القرآن الجواب على الإشكالين الأوّل والثاني، لأنّنا نرى بأم أعيننا أنّ التراب مصدر الحياة وأساسها، وكنا في البداية تراباً ثمّ صرنا أحياءاً!
وكون الشيء قديماً لا ينقص من أهميّته أيضاً... لأنّ قوانين هذا العالم الأصيلة ثابتة ومستقرة من الأزل حتى الأبد... وفي الأصول الفلسفية والمسائل الرياضيّة والعلوم الأُخَر أصول كثيرة ثابتة... فَهَل كون امتناع اجتماع النقيضين قديماً، أو جدول ضرب فيثاغورس قديماً، دليلا على ضعفه؟! وإذا رأينا العدل حسناً والظلم سيئاً منذ القِدَم، ولا يزال كذلك، فهل هو دليل على بطلانه... فكثيراً
[125]
ما يتفق أن القِدَم دليل على الأصالة.
وأمّا في شأن الإشكال الثالث، فيجيب القرآن: ألاّ تعجلوا.. فعدم نزول العذاب من لطف الله، فهو يمهلكم ولا يعذبكم عاجلا، لكن إذا جاء عذابه فلا مفرّ منه.
* * *
[126]
الآيات
إِنَّ هَـذا الْقُرآءنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إسْرءِِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيْهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْـمُبِينِ (79) إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْـمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمآ أَنْتَ بِهَـدِى الْعُمْىِ عَنْ ضَلَـلَتِهِمْ إن تُسْمِعُ إلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِايَـتِنا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ (81)
التّفسير
عمىُ القلوب لا يقبلون دعوتك!
كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد... أمّا في الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام على مسألة النبوّة، وحقّانيّة القرآن، ليكتمل بهما هذا البحث!.
ومن جهة أُخرى فقد كان الكلام في الآيات السابقة عن علم الله الواسع غير المحدود، وفي الآيات محل البحث مزيد تفصيل في هذا الشأن.
أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجهاً للمشركين،
[127]
وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم!.
فتقول الآيات أوّلا: (إنّ هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ).
لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة! فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسى(عليهما السلام). وفي شأن النّبي الذي بشّرت به "التّوراة" من هو؟
كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية... فجاء القرآن موضحاً هذه الأُمور بجلاء، وقال: إن المسيح(عليه السلام) عرف نفسه بصراحة فـ (قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )(1).
وقال أيضاً: إنّ المسيح ولد من دون أب، وليس أمره محالا و(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب )(2).
وأمّا النّبي الذي بشرت به التّوراة فتنطبق أوصافه على نبي الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله) ، ولا تنطبق على أحد سواه!.
وعلى كل حال فإنّ واحدة من مهامّ القرآن هي مواجهة الإختلافات المتولّدة من اختلاط الخرافات وحقائق التعليمات التي جاء بها الأنبياء... وكل نبي مسؤول أن يحسم الإختلافات الناشئة من التحريف والخلط بين الحقّ والباطل... وحيث أن هذا العبء لا يمكن أن ينهض به رجل أمي لم يسبق له أن يقرأ، وفي محيط جاهلي، فيتّضح أنّه مرسل من قبل الله!
ولما كانت مواجهة الإختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا "الأصل الكلي" وتقول: (وإنّه لهدى ورحمة للمؤمنين ).
أجل، إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة مريم، الآية 30.
2 ـ آل عمران، الآية 59.
[128]
هدى ورحمة لأنّ دليل حقانيته كامن في عظمة محتواه!
هدى ورحمة لأنّه يهدي إلى سبيل الحق ويدل عليه!.
وذكر "المؤمنين" هنا خاصّة.. هو لما ذكرناه آنفاً من أنّه ما لم تتوفر مرحلة من الإيمان في الانسان، وهي مرحلة الإستعداد لقبول الحق والتسليم لله، فإنّه لا يستطيع الاستفادة من هذا المصدر الإلهي الفيّاض.
وحيث أنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه، لأوامر الله، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم: (إنّ ربّك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم ).
وبالرغم من أنّ هذه الآية لم تصرّح بأن قضاء الله بينهم سيكون يوم القيامة... إلاّ أنّه بقرينة آيتين أخريين تتحدثان عن اختلافات بني إسرائيل، وأن الله يقضي بينهم يوم القيامة، يتّضح أنّ مراد الآية محل البحث هو هذا المعنى ذاته.
ففي الآية (17) من سورة الجاثية يقول سبحانه: (إنّ ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ).
كما ورد في ذيل الآية (93) من سورة يونس، هذا النص المتقدم نفسه.
ووصف اللّه "بالعزيز" و"العليم" إشارة إلى ما ينبغي توفره في القاضي من هاتين الصفتين، "العلم" بصورة كافية و"القدرة" على إجراء الحكم، والله سبحانه أعلم من الجميع وأعزّهم.
وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن، وهو تهديد لبني إسرائيل، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النّبي وتسرية عنه، لذا فالآية التالية تقول: (فتوكل على الله ).
توكل على الله العزيز الذي لا يغلب، والعليم بكل شيء.. توكل على الله الذي أنزل القرآن على عظمته فجعله عندك، فتوكل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين، لأنّه يرعاك و(إنّك على الحق المبين ).
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: إذا كان القرآن حقّاً مبيناً فلماذا خالفوه؟
[129]
فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال، فتقول: إذا كان أُولئك لا يذعنون للحق المبين، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين، فلا مجال للعجب.. لـ (إنّك لا تسمع الموتى )(1).
بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه، أمّا إحياء الموتى ـ أو موتى الأحياء ـ لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب، فلا ترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فانهم صمّ لا يسمعون فلا يمكنهم أن يسمعوا صوتك، وخاصة إذا اداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك (ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا وَلّوا مدبرين ).
ولعلهم لو كانواعندك وكنت تصرخ فيهم لبلغت بعض أمواج صوتك إلى مسامعهم، إلاّ أنّهم مع صممهم يبتعدون عنك.
كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم، ولو ببعض العلامات، إلاّ أنّهم عميٌ (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ).
وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم، فقلوبهم ميتة، وآذانهم صمٌّ موقرة، وأعينهم عميٌ!
فأنت يا رسول الله (إن تسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون )ويشعرون في أنفسهم بالاذعان للحق.
وفي الحقيقة إن الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ تتحدثان عن مجموعة واضحة من عوامل المعرفة وارتباط الإنسان بالعالم الخارجي وهي:
"حس التشخيص"، والعقل اليقظ، في مقابل القلب الميت.
"الأذن الصاغية" لإكتساب الكلام الحق، عن طريق السمع.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قال جماعة من المفسّرين: إن هذه الجملة والجمل الأُخر التي تليها بمثابة الدليل على لزوم توكل النّبي على الله وعدم يأسه... مع أن الظاهر أنّها جواب على سؤال يثار في شأن القرآن وكونه هو "الحق المبين".
[130]
"والعين الباصرة" لرؤية وجه الحق ووجه الباطل، عن طريق البصر.
إلاّ أن العناد واللجاجة والتقليد الأعمى والذنب... كلها تعمي العين التي بها يرى الانسان الحقيقة، وتوفر سمعه، وتميت قلبه.
ومثل هؤلاء المعاندين المذنبين، لو جاء جميع الأنبياء والأولياء والملائكة لهدايتهم، لما أثّروا فيهم شيئاً، لأنّ ارتباطهم بالعالم الخارجي مقطوع، وهم غارقون في "مستنقع ذواتهم" فحسب!.
ونظير هذا التعبير ورد في سورة البقرة وسورة الروم وسور أخر من القرآن (وكان لنا بحث آخر في نعمة "وسائل المعرفة"في تفسير سورة النحل ذيل الآية 78.
و مرّة أُخرى نذكّر بهذه اللطيفة وهي أنّ المراد من الإيمان والتسليم ليس معناه أنّهم قبلوا حقائق الدين من قبل، فيكون من باب تحصيل الحاصل، بل الهدف من ذلك أن الإنسان إذا لم يكن فيه شوق للحق وخضوع لأمر الله، فإنه لا يصغي إلى كلام النّبي أبداً.
* * *
بحثان
1 ـ أسباب التوكل
"التوكل" مأخوذ من "الوكالة"، وهو في منطق القرآن يعني الإعتماد على الله وجعله وليّاً وكيلا، وعدم القلق والخوف من كثرة المشاكل والموانع وعظم حجمها، بسبب التوكل على الله!
وهذا الأمر واحد من دلائل الإيمان المهمّة ومدعاة للنصر والتوفيق!.
والطريف أنّ الآيات المتقدمة عدّت التوكل في شيئين:
أحدهما: القدرة والعلم لمن يتوكل عليه الإنسان.
[131]
والآخر: وضوح الطريق الذي اختاره الإنسان!.
وفي الحقيقة فإنّ القرآن يقول: لا مدعاة للضعف والخوف والوحشة، فأنت تعوّل على الله العزيز الذي لا يقهر، والعليم الخبير بكل شيء هذا من جهة.. ثمّ إنّك على الطريق الواضح والحق اللائح من جهة أُخرى.. فالمدافع عن الحق المبين علام يخاف؟!
وإذا ما رأيت جماعة خالفتك فلا تحزن أبداً... فهي لا تملك عيوناً باصرة، ولا آذاناً صاغية، ولا قلوباً حيّة!... وهي خارجة أساساً عن طريق الهداية والتبليغ... وإنّما يلتفّ حولك طلاب الحق وعشاق الله، والعطاشى إلى العدل حيث يخفّون نحو منبع القرآن الزلال، ليرتووا من نميره العذب.
2 ـ الموت والحياة في منطق القرآن!
هناك كثير من الألفاظ لها مداليل ومعان شتّى بحسب النظرات المختلفة، ومن هذه الألفاظ، لفظا الحياة والموت. "فالحياة" بالنظرة المادية تعني الحياة الطبيعة "الفيزيائية" فحسب، أي متى كان القلب ينبض، والدم يجرى في العروق إلى أعضاء الجسم كافة، وكانت الحركة وعملية الجذب والدفع في البدن، كان البدن حياً.. أمّا إذا سكنت هذه الحركة، فتدل على "الموت" القطعي الذي يعرف بالإختبار الدقيق خلال عدّة لحظات!.
إلاّ أنّ النظرة القرآنية تختلف عن النظرة المادية، فكثير من الناس يعدون أحياءً بحسب النظرة المادية ـ إلاّ أنّهم أموات بحسب النظرة القرآنية.. كأُولئك الذين أشارت اليهم الآيات المتقدمة.. وعلى العكس منهم الشهداء، فهم بحسب الظاهر أموات، لكنّهم بالمنطق القرآني أحياء خالدون!
والسبب في هذا الإختلاف بين النظرتين، هو أنّ الإسلام بالإضافة إلى أنّه يعدّ معيار الحياة الإنسانية وشخصية الانسان في القيم الروحانية، فهو يرى في
[132]
ايصال النفع الى الآخرين وعدمه معياراً لوجود الحياة وعدمها في الانسان.
فالإنسان الذي يرى بحسب الظاهر حيّاً، إلاّ أنّه غارق في الشهوات، فلا يسمع صرخة لمظلوم، ولا صوتاً لمنادي الحق، ولا ينظر بعين بصيرة فيرى آثار اللّه في خلقه، ولا يفكر ولو لحظة واحدة في مستقبله وماضيه.. فمثل هذا الإنسان ميّت في منطق القرآن. أمّا الذين ما تزال آثارهم تملأ الدنيا بعد موتهم، وأفكارهم أسوة وقدوة للآخرين، فهؤلاء أحياء خالدون(1).
وبغض النظر عن هذه الأُمور كلّها.. فالإسلام ـ حسب ما لدينا من المدارك ـ يؤمن بالحياة البرزخية للناس.. والعجب أن بعض الوهابيين الجهلة يصرون على نفي أي نوع من أنواع الحياة والعلم بعد الوفاة، حتى للنّبي(صلى الله عليه وآله) ويمنعون التوسل به، لأنّه بزعمهم ميّت ولا أثر للميت، والأعجب من ذلك أنّهم يستندون إلى الآيات ـ محل البحث ـ لتأييد دعواهم!!
في حين أنّ بعضهم الآخر يصرّح على أنّ للنبيّ نوعاً من الحياة البرزخية، حياةً أشرف من حياة الشهداء المصرّح بها في القرآن، وقال: إنّه يسمع سلام المسلّم عليه(2).
والرّوايات في هذا الشأن كثيرة وافرة عن الفريقين الشيعة والسنة، أن النّبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين يسمعون من يسلّم عليهم من بعيد أو قريب، ويردّون عليه سلامهم، كما أنّ أعمال الأُمّة تعرض عليهم(3).
ونقرأ في حديث ورد في صحيح البخاري في قصّة معركة بدر أن النّبي(صلى الله عليه وآله)مع بعض أصحابه وقف على "القليب" وقد ألقيت فيه أجساد قتلى المشركين، فناداهم بأسمائهم، وقال: هلاّ أطعتم الله ورسوله، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا بحث مفصل "في الموت والحياة الروحيين" في ذيل الآية (24) من سورة الأنفال.
2 ـ الرسالة الثّانية من الهديّة السنية لمحمّد بن عبدالوهاب، ص 41.
3 ـ لمزيد من الإيضاح يراجع كتاب كشف الإرتياب ص 109 للسيد محسن الأمين العاملي.
[133]
فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً.. فقال عمر: يا رسول الله، تكلم أجساداً لا روح فيها... فقال(صلى الله عليه وآله): "والذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" (1).
ونقرأ في قصّة الجمل عن الأصبغ بن نباتة، أنّه لما انهزم أصحاب الجمل ركب علي(عليه السلام) بغلة رسول الله الشهباء وسار في القتلى يستعرضهم فمرّ بـ "كعب بن سور" قاضي البصرة وهو قتيل، فقال: أجلسوه، فأجلس. فقال: وَيلُمّك يا كعب بن سور، لقد كان لك علم لو نفعك.. ولكن الشيطان أضلك فأزلّك فعجلك إلى النّار (2).
ونقرأ في نهج البلاغة ـ أيضاً ـ أنّه(عليه السلام) بعد رجوعه من صفين بلغ مقبرةً كانت خلف سور الكوفة، فخاطب الموتى فقال كلاماً في تقلب الدنيا ثمّ قال: "هذا ما عندنا فما خبر ما عندكم ثمّ أضاف(عليه السلام) أمّا لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى" (3).
وهذا بنفسه دليل على أنّهم يسمعون إلاّ أنّهم لا يسمح لهم بالردّ.. ولو أُذن لهم لأجابوا!.
فجميع هذه التعبيرات "إشارة" إلى حياة الإنسان البرزخية.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ صحيح البخاري، ج 5، ص 97، باب قتل أبي جهل.
2 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 248.
3 ـ نهج البلاغه ـ الكلمات القصار رقم 130.
[134]
الآيات
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الاْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بَِآيَـتِنَا لاَيُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّة فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِـآيَـتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَآ جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَـتِى وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَيَنطِقُونَ (85)
التّفسير
لمّا كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفّار بالعذاب ونزوله، أو تحقق القيامة وانتظارهم بفارغ الصبر ووقوع ذلك، وكانوا يقولون للنّبي(صلى الله عليه وآله): (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ). ومتى يوم القيامة؟! فإنّ الآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة، فتقول: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ).
والمراد من قوله تعالى: (وقع القول عليهم ) هو صدور أمر الله وما وعدهم من العقاب والجزاء.. أو وقوع يوم القيامة وحضور علائمها، العلائم التي يخضع لها كل من يراها، ويستسلم لأمر الله، ويحصل عنده اليقين بأنّ وعد الله حق، وأن
[135]
القيامة قد اقتربت.. وحينئذ توصد أبواب التوبة... لأنّ الإيمان في مثل هذه الظروف يقع اضطراراً.
وبالطبع فإنّ هذين المعنيين متلازمان لأنّ اقتراب القيامة يقترن بنزول العذاب ومجازاة الكافرين.
ولكن ما هي "دابة الأرض"؟ وما مصداقها؟ وأية مهمّة تحملها؟.. فالقرآن يجمل ولا يفصل، وكأنّه يريد أن يترك الموضوع مجملا غامضاً، ليكون الكلام فيه أكثر تأثيراً وباعثاً على التهويل.
فيقول مختصراً: يُخرج الله موجوداً يتحرك "أو دابة من الأرض" بين يدي القيامة، فيتكلم مع الناس ويقول: "إنّ الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله".
وبتعبير آخر: إنّ مهمّة هذه الدابة هي تفريق الصفوف وتمييز المنافقين والمنكرين من المؤمنين.
وبديهي أن المنكرين يرجعون إلى أنفسهم عند مشاهدة هذه الآيات، ويندمون على ما سلف منهم وعلى أيّامهم المظلمة، ولكن ما عسى أن ينفعهم الندم وأبواب التوبة موصدة؟!
وهناك مسائل كثيرة ومطالب وفيرة في خصوصيات "دابة الأرض" وجزئياتها وصفاتها في الرّوايات الإسلامية الواردة في كتب الفريقين، الشيعة وأهل السنة، وسنتعرض إليها ذيل هذه الآيات في باب البحوث إن شاء الله.
ثمّ تشير الآيات إلى علامة أُخرى من علامات القيامة، فتقول: (ويوم نحشر من كل أمّة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون ).
"والحشر" معناه إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره! و"الفوج"، كما يقول الراغب في المفردات: الجماعة التي تتحرك بسرعة.
وأمّا "يوزعون" فمعناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل.. وهذا التعبير يطلق ـ عادة ـ على الجماعات الكثيرة، نظير ما قرأنا في
[136]
شأن جنود سليمان في هذه السورة ذاتها.
فبناءً على هذا يستفاد من مجموع الآية أن يوماً سوف سيأتي يحشر الله فيه من كل أُمّة جماعة، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم!.
والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة.. لأنّ التعبير لو كان عن القيامة لم يكن قوله "نحشر من كل أُمّة فوجاً" صحيحاً.. إذ في القيامة يكون الحشر عاماً للجميع، كما جاء في الآية (47) من سورة الكهف قوله تعالى: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً ).
والشاهد الآخر على أنّ الآيات هذه تتحدث عمّا يقع قبيل القيامة، هو أن الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن الحوادث التي تقع قبل القيامة، والآيات التي تلي الآيات محل البحث تتحدث عن الحوادث التي تقع قبيل القيامة أيضاً... فمن البعيد أن تتحدث الآيات السابقة واللاحقة عن ما يقع قبل القيامة، وهذه الآيات محل البحث ـ فقط ـ تتحدث عن ما يقع في يوم القيامة.
وهناك روايات كثيرة في هذا الصدد عن مسألة الرجعة سنتناولها في البحوث القادمة إن شاء الله،
إلاّ أن المفسّرين من أهل السنة يعتقدون أن الآية ناظرة إلى يوم القيامة، وقالوا: إنّ المراد بالفوج هو إشارة إلى رؤساء الجماعات وأئمتهم! وأمّا عدم الإنسجام بين الآيات الذي يُحدثه هذا التّفسير، فقالوا: إنّ الآيات بحكم التأخير والتقديم، فكأن الآية (83) حقّها أن تقع بعد الآية (85).
إلاّ أنّنا نعلم أن تفسير الفوج بالمعنى الآنف الذكر خلاف الظاهر، وكذلك عدم انسجام الآيات بأنّها في حكم التأخير والتقديم هو خلاف الظاهر أيضاً.
(حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أمّاذا كنتم تعملون )(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جملة (أمّاذا كنتم تعملون) جملة استفهاميّة و (أما) مركبة من (أم) التي هي حرف عطف وتأتي بعد همزة الإستفهام عادة، وتسمّى بالمعادلة، و(ما) الإستفهامية. ومعنى الآية: أو أىّ شيء كنتم تعملون.
[137]
وقائل هذا الكلام هو الله سبحانه، والمراد من "الآيات" هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء، أو أوامر الله، أو الجميع!.
والمراد من جملة (ولم تحيطوا بها علماً ) هو أنّكم بدون أن تتحققوا وتطّلعوا على حقيقة الأمر، كذبتم الآيات، وهذا منتهى الجهل وعدم المعرفة أن ينكر الإنسان شيئاً دون أن يتحقق منه!.
وفي الحقيقة فإنّهم يسألون عن شيئين.
الأوّل: تكذيبهم دون أن يفحصوا عن الحق.
والآخر: عن أعمالهم التي كانوا يقومون بها.
وإذا كانت الآية ـ آنفة الذكر ـ تتحدث عن القيامة، فمفهومها واضح. وأمّا إذا كانت تشير إلى مسألة الرّجعة ـ كما يقتضيه انسجام الآيات ـ فهي إشارة إلى أنّه عندما يرجع إلى هذه الدنيا طائفة من المجرمين... فولي الأمر الذي يمثل الله، وهو خليفته في الأرض، يتحقق منهم ويسألهم عمّا فعلوه في حياتهم، ثمّ يجازيهم حسب ما يستحقون من الجزاء الدنيوي، ولا يمنع هذا من عذاب الآخرة، كما أن كثيراً من المجرمين ينالون الحدّ الشرعي في هذه الدنيا، ويستوفون جزاءهم، فإذا لم يتوبوا فإنّ مايستحقون من العقاب ينتظرهم في الآخرة.
وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أىّ من هذين السؤالين، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة: (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ).
وهذا القول أو العذاب دنيوي، إذا فسّرنا الآية بالرجعة، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة.
* * *
بحوث
1 ـ ما هي دابة الأرض؟!
[138]
"الدّابة" معناها ما يدب ويتحرك، و"الأرض" معناها واضح.. وخلافاً لما يتصوّره بعضهم بأنّ الدّابة تطلق على غير الإنسان... بل الحق أنّها ذات مفهوم واسع يشمل الإنسان أيضاً، كما نقرأ في الآية (6) من سورة هود (وما من دابة في الأرض إلاّ على اللّه رزقها )، وفي الآية (61) من سورة النحل (ولو يُؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ).
وفي الآية (22) من سورة الأنفال (إن شرّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون ).
إلاّ أنّه ـ كما ذكرنا في تفسير الآية آنفاً ـ فإنّ القرآن لا يفصّل في بيان هذه الكلمة وإنّما يذكرها على إجمالها، فكأنّ البناء كان على الإجمال والإبهام، والوصف الوحيد المذكور لها بأنّها تكلم الناس وتميز المؤمن من غير المؤمن... إلاّ أنّ هناك كلاماً طويلا في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين في الشأن، ويمكن تلخيص مجموعها في تفسيرين:
1 ـ فطائفة تعتقد بأنّ هذه "الدابة" حيوان غير مألوف ومن غير جنس الإنسان له شكل عجيب، ونقلوا له عجائب شبيهة بما يخرق العادات والمعاجز!.
هذه الدابة تخرج في آخر الزمان، وتتحدث عن الإيمان والكفر، وتفضح المنافقين وتسمهم بميسمها!
2 ـ وطائفة تعتقد ـ حسب الرّوايات الإسلامية الواردة في هذا الشأن ـ أنّها إنسان فوق العادة ـ إنسان متحرك فعّال! وواحد من أفعاله الأصلية تمييز المؤمنين عن المنافقين ووسمهم.. حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أن معه عصا موسى(عليه السلام) وخاتم سلميان.. ونحن نعرف أن عصا موسى رمز للقدرة والإعجاز، وخاتم سليمان رمز للحكومة والسلطة الإلهية! فإذاً هذا الإنسان رجل قويّ ذو سلطة وهيمنة!
وقد جاء في حديث عن "حذيفة بن اليمان" عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في وصف هذه الدابة قوله: "لايدركها طالب ولا يفوتها هارب، فتسم المؤمن بين عينيه
[139]
ويُكتب بين عينيه مؤمن، وتسم الكافر بين عينيه ويكتب بين عينيه كافر، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان" (1).
وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على "أمير المؤمنين"(عليه السلام) ففي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّ رجلا قال لعمار بن ياسر: في القرآن آية شغلت بالي وجعلتني في شك قال عمار: أيّةُ آية هي؟ قال: آية (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) فيقول عمار: والله لا أجلس على الأرض ولا آكل طعاماً ولا أشرب ماءً حتى أريكها. ثمّ يأخذه عمار إلى الإمام علي، وهو يأكل طعاماً فلما بصر به الإمام علي ناداه فجاء عمار عنده وأكل معه!.
فتعجب الرجل ولم يصدق هذا المشهد، إذ كان عمار قد حلف ووعده أن لا يجلس على الأرض ولا يأكل ولا يشرب حتى يريه دابة الأرض، فكأنّه نسي وعده!.
فلمّا قام عمار وودّع عليّاً.. قال له الرجل: عجيب منك أن تقسم بالله أن لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس على الأرض، حتى تريني دابة الأرض!... فقال له عمار: أريتكها لو كنت تعقل (2).
ونظير هذا المعنى في تفسير العياشي، إلاّ أنّه ورد اسم "أبي ذر" مكان عمار(3).
وينقل العلاّمة المجلسي(رحمه الله) في بحار أنواره بسند معتبر عن الإمام الصادق(عليه السلام)قال: انتهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه، فحرّكه برجله، ثمّ قال: قم يا دابة الله، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أنسمّي بعضنا بعضاً بهذا الإسم؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.
2 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث..
3 ـ المصدر السابق.
[140]
فقال لهم: "لا والله ما هو إلاّ له خاصّة وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه (فإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلّمهم أنّ النّاس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) ثمّ قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة، ومعك ميسم تسم به أعداءك" (1).
وبناءً على هذه الرّواية، فالآية تنطبق على الرجعة وتنسجم هي والآية التي تليها في الرجعة!.
ويقول المرحوم "أبو الفتوح الرازي" في تفسيره في ذيل الآية: طبقاً للأخبار التي جاءتنا عن طريق أصحابنا، فإن دابة الأرض كناية عن المهدي "صاحب الزمان (عليه السلام)" (2).
ومع الأخذ بنظر الإعتبار لهذا الحديث والأحاديث المتقدمة، يمكن أن يستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع، ينطبق على أي إمام عظيم يخرج في آخر الزمان ويميز الحق عن الباطل.
وهذا التعبير الوارد في الرّوايات الاسلامية بأن معه عصا موسى(عليه السلام) التي هي رمز القوة والإنتصار، وخاتم سليمان(عليه السلام) الذي يرمز للحكومة الإلهية، قرينة على أن دابة الأرض إنسان نشط فعال فوق العادة!.
كما أنّ ما ورد في الرّوايات الإسلامية من أنّها تسم المؤمن بين عينيه فيُكتب مؤمناً، وتسم الكافر فيُكتب كافراً ينسجم والقول بأنّها إنسان!.
إضافة إلى ذلك فالتصريح في القرآن بأنّها تكلم الناس يساعد على هذا المعنى!.
ومن مجموع ما مرّ نصل هنا إلى أنّ الدّابة تطلق في الأغلب على غير الناس، وقد استعملها القرآن في الأعم من الإنسان وغيره أو في خصوص الإنسان، هذا من جهة. ومن جهة أُخرى فالقرائن المتعددة الموجودة في الآية ذاتها،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، ج 53، ص 52، خ 3.
2 ـ تفسير الرازي، ج 8 ص 423.
[141]
والرّوايات الكثيرة في تفسير الآية، تدل على أنّ المراد من "دابة الأرض" هنا إنسان نشط فعال بما ذكرنا له من خصائص آنفاً، فهو يميز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والكافر.
إنسان يخرج في آخر الزمان قبيل يوم القيامة، وهو بنفسه آية من آيات عظمة الخالق!.
2 ـ الرجعة في الكتاب والسنة!
من المسائل التي تجدر بالملاحظة، في الآيات ـ محل البحث ـ ظهور بعض من هذه الآيات في مسألة الرجعة!.
و"الرجعة" من عقائد الشيعة المعروفة، وتفسيرها في عبارة موجزة بهذا النحو: "بعد ظهور المهدي(عليه السلام) وبين يدي القيامة، يعود طائفة من المؤمنين الخلّص، وطائفة من الكفار الأشرار، إلى هذه الدنيا.. فالطائفة الأُولى تصعد في مدارج الكمال... والطائفة الثّانية تنال عقابها الشديد!.
يقول "الشريف المرتضى" الذي هو من أعاظم الشيعة: إنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه، أن الله تعالى يعيد عند ظهور الإمام المهدي(عليه السلام) أقواماً ممن كان قد تقدم موته من شيعته ليفوز بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلوّ كلمة أهله!
ثمّ يضيف السيد المرتضى قائلا: والدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا إليه ممّا لا شبهة على عاقل في أنّه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه، فإنا نرى كثيراً من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة، وإذا ثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور، فالدليل إلى إثباتها
[142]
إجماع الإمامية على وقوعها(1).
ويظهر بالطبع ـ من كلمات بعض قدماء علماء الشيعة وكذلك من كلام العلامة "الطبرسي" في مجمع البيان ـ أن "الأقليّة" القليلة من الشيعة لا تؤمن بهذه العقيدة، أي "الرجعة" وفسّروها بعودة حكومة أهل البيت(عليهم السلام)، لا رجوع الأشخاص وحياتهم بعد موتهم في هذه الدنيا، إلاّ أنّ مخالفة هذه القلة لا تؤثر في الإجماع.
وعلى كل حال، فهنامطالب كثيرة، ومن أجل ألاّ نخرج عن أسلوب بحثنا نشير إليها بإيجاز في مايلي:
1 ـ لا ريب أنّ إحياء جماعة من الموتى في هذه الدنيا ليس محالا!... كما أن إحياء جميع البشر في يوم القيامة ممكن، والتعجب من هذه المسألة كتعجب المشركين "من أهل الجاهلية" من مسألة المعاد، والسخرية منها كالسخرية من المعاد!... لأنّ العقل لا يحكم على مثل هذا الأمر بالإستحالة... وقدرة الله واسعة بحيث أنّ هذه الأُمور عندها سهلة يسيرة هيّنة!.
2 ـ جاء ذكر الرجعة في القرآن المجيد إجمالا، ووقوعها في خمسة مواطن في شأن الأُمم السالفة.
ألف: في ما يتعلق بالنّبي الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وعظام أهلها نخرة متفرقة هنا وهناك. فتساءل في نفسه وقال: (أنّى يحيى هذه الله بعد موتها ) فأماته الله مئة عام ثمّ أحياه فقال له: كم لبثت؟! قال: لبثت يوماً أو بعض يوم قال: بل لبثت مئة عام "مؤدّى الآية 259 ـ من سورة البقرة".
وسواءً كان هذا النّبي عزيراً أم سواه، فلا فرق في ذلك، المهم أنّ القرآن صرح بحياته بعد موته في هذه الدنيا فأماته الله مئة عام ثمّ بعثه!.
ب ـ يتحدث القرآن ـ في الآية (243) من سورة البقرة ذاتها ـ عن جماعة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 511، مادة رجع.
[143]
أُخرى خرجت من ديارها خوفاً من الموت، وامتنعت من الذهاب إلى سوح القتال بحجّة مرض الطاعون، فأماتها الله ثمّ أحياها (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال الله لهم موتوا ثمّ أحياهم إنّ الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ).
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين لم يتحملوا وقوع مثل هذه الحادثة غير المألوفة، وعدوها مثالا فحسب، إلاّ أنّ من الواضح أنّ مثل هذه التأويلات إزاء ظهور الآية ـ بل صراحتها ـ لا يمكن المساعدة عليه!.
ج ـ وفي الآيتين 55 و 56 من سورة البقرة أيضاً، يتحدث القرآن عن بني إسرائيل فيقول: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ).
د ـ ونقرأ في الآية (110) ضمن معاجز عيسى قوله تعالى: (وإذ تخرج الموتى بإذني ).
ويدل هذا التعبير على أنّ المسيح(عليه السلام) أحيا الموتى فعلا، بل التعبير بالفعل المضارع (تخرج) يدلّ على أنّه أحيا الموتى مراراً، وهذا الأمر بنفسه يعد نوعاً من الرجعة لبعضهم!
هـ ـ وأخيراً ففي الآيتين (72) و (73) من سورة البقرة، إشارة إلى مقتل رجل من بني إسرائيل ووقوع الجدال والنزاع في شأن قاتله، وما أمرهم الله أن يفعلوه بضرب القتيل ببعض البقرة ـ الواردة خصائصها في الآية 72 ـ إذ يقول سبحانه: (وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ).
وبالإضافة إلى هذه المواطن الخمسة التي أشرنا إليها، فهناك مواطن أخرُ في القرآن، منها قصّة أصحاب الكهف، وهي قصّة تشبه الرجعة. وقصّة الأربعة من الطير التي أمر إبراهيم أن يذبحها فأتينه سعياً بعد ذبحهن وتفريقهن على رأس كل جبل جزءاً منهنّ، ليتّضح له إمكان المعاد للناس ويكون مجسداً برجوع هذه
[144]
الطيور إلى الدنيا.
وعلى كل حال! كيف يمكن أن يؤمن الشخص بالقرآن وأنّه كتاب سماوي، ثمّ ينكر هذه الآيات الواضحة في الرجعة؟ وهل الرجعة ـ أساساً ـ إلاّ العودة للحياة بعد الموت؟!
أوليست الرجعة مثلا مصغراً من القيامة في هذه الدنيا.
فمن يؤمن بالقيامة بمقياسها الواسع، كيف يمكنه أن يعترض على مسألة الرجعة وأن يسخر منها؟! وأن يقول قائل كأحمد أمين المصري في كتابه "فجر الاسلام" اليهودية ظهرت بالتشيع بالقول بالرجعة(1).!!
وأي فرق بين كلام أحمد أمين هذا، وإنكار عرب الجاهلية لمسألة المعاد الجسماني؟!
3 ـ ما ذكرناه ـ إلى هنا ـ يثبت إمكان الرجعة، وأمّا ما يؤيد وقوعها فروايات كثيرة نقلها الثقات عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وحيث لا يسع بحثنا نقلها والتحقيق فيها، فيكفي أن نذكر ما عدّه المرحوم العلاّمة المجلسي في بحار أنواره وما جمعه منها، إذ يقول: وكيف يشك مؤمن بحقيّة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح (2)، رواها نيّفٌ وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم.. فإذا لم يكن مثل هذا متواتراً ففي أيّ شيء يمكن دعوى التواتر(3)؟!
4 ـ فلسفة الرجعة!
إنّ أهم سؤال يثار في هذا الصدد، هو: ما الهدف من الرجعة قبل يوم القيامة؟!
ومع ملاحظة ما يستفاد من الرّوايات الإسلامية من أنّ هذا الموضوع ليس
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ انظر عقائد الإمامية ـ للشيخ محمّدرضا المظفر ص 71.
2 ـ يعني "بالرجعة".
3 ـ بحار الأنوار، ج 53، ص 122.
[145]
عامّاً بل يختصّ بالمؤمنين الخلّص الذين هم في مرحلة عالية من الإيمان، والكفار والطغاة الظلمة الذين هم في مرحلة منحطة من الكفر والظلم.. فيبدو أن الرجعة لهاتين الطائفتين للدنيا ثانيةً هي من أجل إكمال الطائفة الأُولى حلقتها التكاملية، وأن تذوق الطائفة الثّانية جزاءها الدنيوي.
وبتعبير آخر: إن الطائفة المؤمنة "خالصة الإيمان" الذين واجهوا الموانع والعوائق في مسير تكاملهم المعنوي في حياتهم ولم يتكاملوا الكمال اللائق باستعدادهم، فإنّ حكمة الله تقتضي أن يتكاملوا عن طريق الرجعة لهذه الدنيا وأن يكونوا شهداء الحكومة العالميّة للحقّ والعدل، وأن يساهموا في بناء هذه الحكومة، لأنّ المساهمة في بناء مثل هذه الحكومة من أعظم الفخر!.
وعلى عكس الطائفة الآنفة الذكر، هناك طائفة من المنافقين والجبابرة المعاندين، ينبغي أن ينالوا جزاءهم الدنيوي بالإضافة إلى جزاءهم الأخروي، كما ذاق ـ قوم فرعون وثمود وعاد وقوم لوط جزاءهم ـ ولا طريق لأن يذوقوا عذاب الدنيا إلاّ بالرجعة!.
يقول الإمام الصادق(عليه السلام) في بعض أحاديثه "إن الرجعة ليست بعامة، وهي خاصّة، لا يرجع الاّ من محض الإيمان محضاً، أو محض الشرك محضاً" (1).
ولعل الآية (95) من سورة الأنبياء (وحرام على قرية أهلكناها إنّهم لا يرجعون ) تشير إلى هذا المعنى أيضاً، لأنّها تتحدث عن عدم رجوع أُولئك الذين ذاقوا عذابهم الشديد في هذه الدنيا، فيتّضح منها أن أُولئك الذين لم يذوقوا مثل هذا الجزاء ينبغي أن يرجعوا، فيذوقوا عذابهم "فلاحظوا بدقة" .
كما يرد هذا الإحتمال أيضاً، وهو أنّ رجعة "الطائفتين هاتين" في ذلك المقطع الخاص من الزمان هي بمثابة درسين كبيرين وآيتين مهمتين من آيات عظمة الله ـ ومسألة القيامة و"المبدأ والمعاد" ـ للناس، ليبلغوا أسمى درجات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الانوار، ج 53، ص 39.
[146]
الكمال المعنوي بمشاهدتهما ويزداد إيمانهم... ولا يكونوا مفتقرين إلى شيء أبداً.
5 ـ ويتصور بعضهم أنّ الإعتقاد بالرجعة لا ينسجم وأصل حرية الإرادة والإختيار عند البشر!.
وممّا بيّناه آنفاً يتّضح أنّ هذا اشتباه محض، لأنّ رجوع من يرجع إلى هذه الدنيا سيكون في ظروف طبيعية، ويتمتع بحرية كاملة.
وما يقوله بعضهم بأنّه من الممكن أن يتوب الجبابرة والكفار المعاندون بعد الرجعة ويعودوا إلى الحق، فجوابه أنّ هؤلاء الأفراد غارقون في الظلم والفساد والكفر بحيث أن هذه الاُمور مندمجة مع روحهم ونسيجهم ولا يتصور توبتهم!.
كما أنّ القرآن يحكي في ردّه على طلب أهل النّار يوم القيامة الرجوع إلى الدنيا، ليقضوا ما فاتهم ولا يعملوا السيئات... فيقول: (ولو ردّوا لعادوا لما نُهوا عنه ).(1)
كما يتّضح الجواب على إشكال بعضهم من أنّ الرجعة لا تنسجم مع الآية (100) من سورة المؤمنون لأنّه طبقاً لهذه الآية فإن المشركين يطلبون الرجوع إلى هذه الدنيا ليعملوا صالحاً، ويقول كل منهم: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ) فيرد عليه بالقول: (كلا إنّها كلمة هو قائلها ).
فالجواب على هذا الإشكال، أن هذه الآية عامة والرجعة خاصة "فلاحظوا بدقة".
6 ـ وآخر الكلام هنا أنّ الشيعة مع اعتقادهم بالرجعة التي أخذوها عن أهل البيت(عليهم السلام) فإنّهم لا يحكمون على منكري الرجعة بالكفر، لأنّ الرجعة من ضروريّات المذهب الشيعي لا من ضروريات الإسلام.
فبناءً على ذلك فإنّ هذه المسألة لا تقطع وشائج الأخوة الإسلامية مع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأنعام، الآية 28.
[147]
الآخرين.. إلاّ أن الشيعة تواصل دفاعها المنطقي عن عقيدتها هذه.
وينبغي الإلتفات إلى أن هناك خرافات تمتزج أحياناً بالرجعة فتشوّه وجهها في نظر البعض، فينبغي أن نعول على الأحاديث الإسلامية الصحيحة في الشأن، وأن نتجنب الأحاديث المطعون فيها أو المشكوكة.
وما ذكرناه هنا خلاصة موجزة عمّا يتعلق بالرجعة، وينبغي مراجعة الكتب التي تتحدث عن هذا الشأن لمن أراد أن يستزيد ويعرف خصائص أخر للرجعة أو جزئياتها.
ومع ملاحظة هذا المقدار الذي بيّناه يتّضح الجواب على الحملات المسعورة من قبل أُولئك الذين لم يطّلعوا على هذا الموضوع من إخواننا أهل السنة "كما فعل "الآلوسي" في تفسيره روح المعاني ذيل الآيات محل البحث" وأن إشكالهم على مسألة الرجعة ناشىء من عدم تعقلهم لها حتى عدّوها أسطورة!.
* * *
[148]
الآيات
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوم يُؤمِنُونَ (86) وَيَومَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ إِلاَّ مَنْ شَآءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
التّفسير
حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلميّة:
مرّة أُخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد، وآثار عظمة الله، ودلائل قدرته في عالم الوجود، وحوادث القيامة، فتقول: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ) وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعداً للايمان (إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ).
وهذه ليست أوّل مرّة يتحدث فيها القرآن عن الليل والنهار الحيويّة، ونظامي النور والظلمة، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضاً.. وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية، وهو يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية... ونحن نعرف أن أصول التعليم
[149]
والتربية تقتضي أحياناً أن يتكرر الموضوع في "فواصل" مختلفة، وأن يذكّر الناس به ليبقى في الذهن كما يقال.
فالسكن أو الهدوء الذي يحصل من ظلمة الليل، مسألة علمية وحقيقة مسلّم بها، فسُدل الليل ليست أسباباً إجبارية لتعطيل النشاطات اليومية فحسب، بل لها أثر عميق على سلسلة الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات، ويجرها إلى الراحة والنوم العميق، أو كما يعبر القرآن عنه بالسكون!.
وكذلك العلاقة بين ضوء النهار والسعي والحركة التي هي من خصائص النور من الناحية العلمية ـ أيضاً ـ ولا مجال للتردد فيها. فنور الشمس لا يضيء محيط الحياة ليبصر الإنسان به مأربه فحسب، بل يوقظ جميع ذرات وجود الإنسان ويوجهه إلى الحركة والنشاط!.
فهذه الآية توضح جانباً من التوحيد الرّبوبي، ولما كان المعبود الواقعي هو ربّ "عالم الوجود" ومدبّره، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان!... وتدعو المشركين إلى إعادة النظر في عبادتهم.
وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجماً مع هذا النظام، فيستريح في الليل ويسعى في النهار، ليبقى نشطاً صحيحاً دائماً... لا كالمنقاد لهواه الذي يطوي الليل يقظاً ساهراً وينام النهار حتى الظهر!.
والطريف أن كلمة "مبصر" نسبت إلى النهار ووصف بها، مع أنّها وصف للإنسان في النهار، وهذا نوع من التأكيد الجميل للإهتمام بالنشاط في النهار، كما يوصف الليل أحياناً بأنه "ليل نائم" (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذا النوع من التعبير يسمّى عند البلاغيين بـ "المجاز العقلي"، ويراد منه إسناد الفعل أو ما في معناه "كاسم الفاعل واسم المفعول" لغير ما وضع له لعلاقة، منها العلاقة الزمانية، فيقال مثلا: نهار الزاهد صائم وليله قائم. (المصحح)
[150]
وهذا التفاوت في التعبير في الآية، هو لبيان فائدة الليل والنهار، إذ جاء في شأن الليل (لتسكنوا فيه ) وعبر عن النهار بـ(مبصر ) فلعل هذا الإختلاف في التعبير إشارة إلى أن الهدف الأصلي من وجود الليل هو السكون والهدوء، والهدف من الضوء والنهار ليس النظر فحسب، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة والإستمتاع بها "فلاحظوا بدقة" .
وعلى كل حال، فهذه الآية وإن كانت تتكلم مباشرةً عن التوحيد وتدبير عالم الوجود، إلاّ أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد، لأنّ النوم بمثابة الموت، واليقظة بمثابة الحياة بعد الموت!.
والآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها، فتقول: (و ) اذكر (يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله وكلّ أتوه داخرين ) أي خاضعين.
ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات.
فالمرّة الأُولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة! وبها يفزع من في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله!
والثّانية "عند النفخ" يموت الجميع من سماع الصيحة، ولعل هاتين النفختين واحدة.
والمرّة الثّالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة.. إذ يحيا الموتى جميعاً بهذه النفخة، وتبدأ الحياة الجديدة معها.
وهناك كلام بين المفسّرين الى أنّ الآية محل البحث هل تشير الى النفخة الأُولى أم الثّانية أم الثّالثة؟!.. القرائن الموجودة في الآية وما بعدها من الآيات تنطبق على النفختين، وقيل: بل هي تشمل الجميع.
إلاّ أن الظاهر من الآية يدل على أن النفخة هنا إشارة إلى النفخة الأُولى التي
[151]
تقع في نهاية الدنيا، لأنّ التعبير بـ (فزع) وهو يعني الخوف أو الإستيحاش الذي يستوعب جميع القلوب، يعدّ من آثار هذه النفخة... ونعلم أن الفزع في يوم القيامة هو بسبب الأعمال لا من أثر النفخة!.
وبتعبير آخر: إن ظاهر "فاء" التفريع في "ففزغ" أن الفزع ناشىء من النفخة في الصور، وهذا خاص بالنفخة الأولى، لأنّ النفخة الأخيرة ليست لا تثير الفزع فحسب، بل هي مدعاة للحياة والحركة، وإذا حصلت حالة فهي من أعمال الإنسان نفسه!.
وأمّا ما المراد بالنفخ في الصور،؟ هناك كلام طويل بين المفسّرين سنتناوله في ذيل الآية (68) من سورة "الزمر" بإذن الله!.
وأمّا جملة (إلاّ من شاء الله ) المذكورة للإستثناء من الفزع العام، فهي إشارة للمؤمنين الصالحين سواءً كانوا من الملائكة أو سائر المؤمنين في السماوات والأرض، فهم في اطمئنان خاص! لا تفزعهم النفخة في الصور الأُولى ولا الأُخرى .. إذ نقرأ في الآيات التي تلي هذه الآيات قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ).
وأمّا جملة (وكل أتوه داخرين ) فظاهرها عامٌ وليس فيه أي استثناء، حتى الأنبياء والأولياء يخضعون لله ويذعنون لمشيئته، وإذا ما لاحظنا قوله تعالى في الآية (127) من سورة الصافات: (فإنّهم لمحضرون إلاّ عباد الله المخلصين )، فلا منافاة بينها وبين عموم الآية محل البحث، فالآية محل البحث إشارة إلى أصل الحضور في المحشر، وأمّا الثّانية فهي إشارة إلى الحضور للمحاسبة ومشاهدة الأعمال!.
والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع، فتقول: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي اتقن كل
[152]
شيء )(1).
فمن يكون قادراً على كل هذا النظم والإبداع في الخلق، لا ريب في علمه و (إنّه خبير بما تفعلون ).
يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة، وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض، وقد اشير الى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن كراراً.
ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير.
إلاّ أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيراً آخر، وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها.
* * *
وتوضيح ذلك:
1 ـ إنّ الآية تقول: تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب.. وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة.. لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ).(2)
2 ـ تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة، ولا يتناسب والإنفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "صنع الله" منصوب بفعل محذوف تقدير (أنذر صنع الله) أو ما شاكله.
2 ـ سورة الحج، الآية 2.
[153]
3 ـ التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة، إلاّ أنّها في الواقع تتحرك بسرعة "على حالتها التي ترى فيها جامدة" أي أن الحالتين تبينان شيئاً واحداً.
4 ـ والتعبير بـ "الإتقان" الذي يعني الإحكام والتنظيم، يتناسب زمان استقرار نظام العالم، ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه.
5 ـ جملة (إنّه خبير بما تفعلون ) مع ملاحظة أنّ "تفعلون" فعل مضارع، تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا، لأنّها تقول: إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل. ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم، لكان ينبغي أن يقال: إنّه خبير بما فعلتم. "فتأملوا بدقّة".
ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق، وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ).
وبناءً على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد، وقسم منها في المعاد!.
وما نستنتجه من هذا التّفسير، هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة "جامدة" هي في سرعة مطرّدة في حركتها... ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها، فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب!.
ووفقاً لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من (30) كيلومتر في كل دقيقة، وسرعة سيرها في حركتها الإنتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار...
لكن علام عُني بالجبال دون غيرها؟ لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها، وتعدّ مثلا حسناً لبيان قدرة الله سبحانه، فحيث أن هذه
[154]
الجبال على عظمتها وما فيها من ثقل، تتحرك كالسحاب بأمر الله "مع ا لأرض" فقدرته على كل شيء "بينة، وثابتة"!
وعلى كل حال، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية... لأننا نعلم أن أوّل العلماء الذين اكتشفوا حركة كرة الأرض هو "غاليو" الإيطالي و"كبرنيك" اللذين أظهرا هذه الحقيقة للملأ في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر! بالرغم من أن رجال الكنيسة حكموا عليهما حكماً صارماً، وتعرضاً لمضايقات كثيرة..
إلاّ أنّ القرآن كشف الستار عن وجه هذه الحقيقة قبل ذلك بألف عام تقريباً وبيّن حركة الأرض بالأسلوب الآنف الذكر على أنّها بعض أدلة التوحيد!
ويرى بعض فلاسفة الإسلام، في الوقت الذي يقبلون فيه التّفسير الثاني، وهو الإشارة إلى حركة الجبال في هذا العالم، أن الآية ناظرة إلى "الحركة الجوهرية" في الأشياء، واعتقدوا أنّ الآية منسجمة والنظرية المعروفة بالحركة الجوهرية ومؤيدة لها(1)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المراد من "الحركة الجوهرية" هو أنّ أشياء عالم المادة بالإضافة إلى ما يحصل فيها من تغييرات مختلفة في الكيفية والكمية والمكان وما أشبه ذلك! فيها حركة في داخلها "وجوهرها" أي أنّها وجود سيال ومتحرك، والتغييرات الظاهرية هي انعكاس عن التغييرات الداخلية لها.. وبتعبير آخر: إن لدينا وجودين مختلفين ذاتاً.. الوجود الثابت "الوجود ماوراء المادي"، ووجود سيال ومتحرك "الوجود المادي" وأهم دليل على إثبات هذه النظرية مسألة وجود الزمان للموجودات المادية وعدم انفصال التغييرات الظاهرية عن التغييرات الباطنية، ويطول بنا البحث في هذا الصدد وهو خارج عن موضوعنا هنا.
[155]
الآيات
مَنْ جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِّنْ فَزَع يَوْمَئِذ ءَامِنُونَ (89) وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىْء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرءانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَـتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
التّفسير
آخر ما أُمر به النّبي!
كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم الله بها.. أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة، إذ يقول سبحانه: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ).
وهناك اختلاف بين تعبيرات المفسّرين في المراد من "الحسنة" في هذه الآية:
[156]
ففسّرها بعضهم بكلمة التوحيد "لا إله إلاّ الله" والإيمان بالله.
وفسّرها بعضهم بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، وقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الرّوايات المتعددة عن أهل البيت، ومن جملتها ما جاء في رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه دخل أبو عبدالله الجدلي على أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أبا عبدالله ألا أخبرك بقول الله عزّوجلّ: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار هل يجزون إلاّ ما كنتم تعملون ) قال: بلى يا أميرالمؤمنين جعلت فداك، فقال: "الحسنة معرفة الولاية حبّنا أهل البيت، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت ثمّ قرأ (عليه السلام)الآية" (1).
وبالطبع فإنّ معنى الآية واسع ـ وقد أشرنا إلى ذلك مراراً ـ كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضاً... فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة، ومن ضمنها الإيمان بالله وبرسوله وولاية الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة أُخرى تشملها الآية.
أمّا ما أورده بعضهم بأنّه: على فرض العموم في "الحسنة" فسوف تشمل الإيمان بالله وهل هناك خير من الإيمان حتى يقول سبحانه: من جاء بالحسنة فله خير منها؟
فالجواب على هذا الإشكال واضح... لأنّ رضا الله خير من الإيمان. وبتعبير آخر: جميع هذه الأُمور مقدمة له... وذو المقدمة خير من المقدمة!.
وهناك سؤال آخر يثار هنا، وهو أن ظاهر بعض الآيات ـ كالآية 2 من سورة الحج ـ أنّ الفزع يعمّ الجميع في يوم القيامة، فكيف أستثني أصحاب الحسنات منه؟.
فالآية (103) من سورة الأنبياء توضح الجواب على هذا السؤال فتقول:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اصول الكافي، وفقاً لماجاء في تفسير نور الثقلين، ج4، ص 104.
[157]
( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ).
و"الفزع الأكبر" ـ هو كما نعلم ـ فزع يوم القيامة، وفزع الدخول في نار جهنّم ـ أعاذنا الله منها ـ لا الفزع الحاصل من النفخة في الصور "فلاحظوا بدقّة" .
ثمّ يتحدث القرآن عن الطائفة الأُخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار ).
وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها (هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون ).
و "كُبّت" مأخوذ من "كبّ" على وزن "جدّ" ومعناه في الأصل إلقاء الشيء على وجهه على الأرض، فبناء على هذا فإنّ ذكر "وجوههم" في الآية هو من باب التوكيد!.
وإلقاء هذه الطائفة على وجوهها في النّار من أسوأ أنواع العذاب . إضافة إلى ذلك، فإنّ أُولئك حين كانوا يواجهون الحقّ يُلوون وجوههم ورؤوسهم، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين... فالآن لابدّ أن ـ يبتلوا بمثل هذا العذاب.
وجملة (هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون ) لعلها جواب على سؤال يلقى هنا، وهو ما لو قيل: إنّ هذا الجزاء "العقاب" شديد، فيجاب: بأنّ هذا الجزاء إن هو إلاّ عملك في الدنيا، فهل تجزون إلاّ ما كنتم تعلمون "فلاحظوا بدقة".
ثمّ يوجه الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر أُولئك المشركين بأن عليه أن يؤدي رسالته ووظيفته... سواءً آمنتم أم لم تؤمنوا؟!
فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (إنّما أُمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة ).
هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها... البلدة المقدسة التي كرمها الله وكرّمكم بما أنزل فيها من البركات.. إلاّ أنّكم بدل أن تشكروا نعمة الله كفرتم بها!
البلدة المقدسة التي هي حرم أمن اللّه، وأشرف بقعة على وجه الأرض،
[158]
وأقدم معبد للتوحيد!
أجل... أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة (الذي حرمها ) وجعل لها خصائص وأحكاماً وحرمةً، وأموراً أُخر لا تتمتع بها أية بلدة أُخرى في الأرض!.
لكن لا تتصوروا أن هذه البلدة وحدها لله، بل له كل شي في عالم الوجود (وله كل شيء ).
والأمر الثّاني الذي أمرت به هو أن أسلم وجهي له (وأُمرت أن أكون من المسلمين ).
وهكذا فإن الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النّبي وهما (عبادة الواحد الأحد، والتسليم المطلق لأمره).
والآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول: (وأن أتلوا القرآن ).
أتلوه فأستضيء بنوره، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة! وأن أعول في جميع مناهجي على هديه. أجل.. فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين، والمواجهة لكل أنواع الشرك والإنحراف والضلال ومكافحتها،
ثمّ تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه: لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي، كما أن الله غني عنكم ، بل (فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ).
وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية، كانت أم أخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح (ومن ضلّ فقل إنّما أنا من المنذرين ).
وعواقبه الوخيمة لا تصيبُني... فوظيفتي البلاغ والإنذار وإراءة سبيل الحق، والإصرار على أن تسلكوا سبيل الحق، إلاّ أنّ من أراد أن يبقى في طريق الضلال، فإنّما يشقى وحده، فيكون من الخاسرين.
[159]
الطريف أنّ القرآن يقول في شأن الهداية:(ومن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه )ولكنّه لا يقول في شأن الضلال: ومن ضل فضرره عليه، بل يقول: (فقل إنّما أنا من المنذرين ).
وهذا الإختلاف في التعبير لعله إشارة إلى أنّ النّبي(عليه السلام) يقول: إنّي لا أسكت بوجه الضالين أبداً، ولاأتركهم على حالهم، بل أظلّ أنذرهم وأواصل الإنذار ولا أعيا عن ذلك، لأنني من المنذرين (بالطبع هناك آيات وردت في القرآن في شأن الهداية والضلالة، وفيها التعبير "لنفسه وعليها" للموضوعين... كقوله تعالى: (من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضل فعليها ) لكننا نعلم أنّ هذا الإختلاف في التعبيرات منسجم مع اختلاف المقامات، وربّما جاء لإلقاء المعاني المختلفة والمتفاوتة)!
والجدير بالذكر أنّ هذه السورة شرعت ببيان أهمية القرآن، وإنتهت بالأمر بتلاوته، فبدايتها ونهايتها عن القرآن.
والأمر الأخير ـ في آخر آية من هذه السورة ـ مُوجه للنبيّ أن يحمد الله على هذه النعم الكبرى، ولا سيما نعمة الهداية فيقول: (وقل الحمدلله )
هذا الحمد أو الثناء يعود لنعمة القرآن، كما يعود للهداية أيضاً، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية (سيريكم آياته فتعرفونها ).
وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود، ويرفع ستار جديد عنها.. وستعرفون نعم الله وعظمة قدرته وعمق حكمته يوماً بعد يوم.. وإراءة الآيات هذه مستمرّة دائماً ولا تنقطع مدى عمر البشر.
إلاّ أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والإنحراف، فلن يترككم الله سدى (وما ربّ بغافل عما يعمل الظالمون ).
ولا تتصوروا بأنّ الله إذا أخر عقابكم بلطفه، فهو غير مطلع على أعمالكم،
[160]
وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ.
وجملة (وما ربّك بغافل عمّا تعملون ) الواردة بنفسها أو مع شيء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة، وهي تهديد ذو معنى عميق، وإنذار لجميع الناس.
والحمد لله رب العالمين
نهاية سورة النمل
* * *
[161]
سُورَة
القصص
مكيّة
وعَدَدُ آيَاتِها ثَمان وثمانُونَ آية
[163]
"سورة القصص"
محتوى سورة القصص:
المعروف أنّ هذه السورة نزلت بمكّة، وبإمكاننا ملاحظة أنّ محتواها الكلي وخطوطها العامّة الأساسيّة على شاكلة السور المكّية(1) غير أن بعض المفسّرين استثنوا الآية 85، أو الآيات 51 ـ 55 من هذه السورة معتقدين أن الآية الأُولى "85" نزلت بالجحفة ـ وهي منطقة بين مكّة والمدينة ـ وأمّا الآيات الاربع الأُخرى فيقولون: إنّها نزلت بالمدينة. ولا يوجد دليل واضح على كلامهم..
ولعل محتوى الآيات الخمس التي تتحدث عن أهل الكتاب. (وكان أكثر أهل الكتاب يقطنون في المدينة). كان سبباً لمثل هذا التصور. في حين أن نزول الآيات القرآنية في مكّة لا يعني إنّها لابدّ أن تتحد عن المشركين في مكّة فحسب، وخاصّة أن أهالي مكّة والمدنيّة كانت لهم رحلات متقابلة وعلاقات وروابط قبلية وتجارية. وبالطبع فإن المفسّرين ذكروا سبباً آخر لنزول الآيات 52 ـ 55 يتناسب مع كونها مدينة، وسنتحدث; عن ذلك في محله إن شاء الله..
أمّا الآية (85) التي تتحدث عن عودة النّبي إلى موطنه الأصلي، أي "مكّة" فلا مانع من أن تكون نزلت حين خروجه وهجرته من مكّة على مقربة من هذه الأرض المقدسة... لأنّ النبي كان في غاية الشوق والحنين لمكّة بلد الله الحرام الآمن، والله سبحانه يبشره في هذه الآية بأنّه سيردّه إلى معاده "مكّة المكرمة".
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يراجع في هذا الشأن "تاريخ القرآن" لأبي عبدالله الزنجاني و"الفهرست" لابن النديم، وكتب التّفسير الأخرى..
[164]
فعلى هذا الأساس يمكن أن تكون هذه الآية ـ المشار إليها آنفاً ـ مكيّة، ولو فرضنا أنّها نزلت "بالجحفة" فهي إلى مكّة أقرب منها إلى المدينة.
وعلى هذا الأساس ـ أيضاً ـ لا يمكن ـ في تقسيم الآيات إلى مكّية ومدنية ـ إلاّ أنّ نعد هذه الآية (85) مكّية!..
أجلْ.. هذه السورة نزلت في مكّة... وفي ظروف كان المؤمنون في قبضة الأعداء الأقوياء وبين مخالبهم.. الأعداء الذين كانوا أكثر عدداً وأشدّ قدرةً وقوّةً ونفيراً..
فهؤلاء الأقلية من المؤمنين والمسلمين كانوا يرزحون تحت وطأة هذا التصور بحيث كان جماعة من المسلمين قلقين على مستقبل الإسلام وخائفين من أجله. وبما أنّ هذه الحالة كانت كثيرة الشبه بالحالة التي كان عليها بنو إسرائيل وهم بين مخالب الفراعنة، فإنّ قسماً من محتوى هذه السورة يتحدث عن قصّة بني إسرائيل وموسى(عليه السلام) والفراعنة..
ولعل هذا القسم يستوعب نصف هذه السورة تقريباً.. خاصة أنّها تتحدث عن فترة كان موسى طفلا ضعيفاً رضيعاً في قبضة الفراعنة... ولكنّ تلك القدرة التي تستوعب عالم الوجود كلّه ـ ولا تقف أية قوّة أمامها ـ تكفلت هذا الطفل الضعيف ورعته وهو في أحضان أعدائه الأقوياء، حتى منحته قدرة وقوّة قصوى قهرت سلطان الفراعنة ونكّست تيجانهم وقلبت قصورهم!!.
هكذا تتحدث هذه السورة ليطمئن المسلمون إلى لطف الله وقدرته، ولا يرهبوا كثرة الأعداء وقوّتهم، ولا يخافوا من الطريق ذاته!..
أجل.. القسم الأوّل من هذه السورة يتضمن هذا التاريخ المليء بالدروس والعبر ويبشر المستضعفين في بداية السورة بحكومة الحق والعدل لهم وكسر شوكة الظالمين، بشرى تمنحهم الإطمئنان والقدرة.
تتحدث هذه السورة عن أن بني إسرائيل كانوا مصفدين بأغلال أعدائهم ما
[165]
داموا بعيدين عن خيمة الإيمان والتوحيد، وفاقدين لأي نوع من أنواع الحركة والنهوض والسعي الذي يتحدَّون به أعداءهم، لكن ما إن وجدوا قائدهم ونوّروا قلوبهم بنور العلم والتوحيد حتى أغاروا على الفراعنة وسيطروا على الحكم وحرروا أنفسهم من نير الفراعنة.
و"القسم الآخر" من هذه السورة يتحدّث عن "قارون"، ذلك الرجل المستكبر الثري الذي كان يعتمد على علمه وثروته... حتى لقي أثر غروره ما لقيه فرعون من مصير أسود!
احدهما غريق في الماء والآخر دفين في الأرض.. وذلك معتمد على سلطانه وجيشه في حكمه، وهذا معتمد على ماله وثروته! ليتّضح أنّه لا يمكن لتجار مكّة وأثريائهم ولا لأقويائهم من المشركين، ولا سياسييّهم في ذلك المحيط، أن يقاوموا إرادة الله في انتصار المستضعفين على المستكبرين.
وهذا القسم جاء في أواخر السورة.
وبين هذين القسمين دروس حيّة وقيّمة من التوحيد والمعاد وأهمية القرآن، وبيان حال المشركين في يوم القيامة، ومسألة الهداية والضلالة، والإجابة على حجج الأفراد الضعاف، وهي في الحقيقة "نتيجة" الأوّل و"مقدمة" للقسم الثاني.
فضيلة تلاوة سورة القصص:
نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "من قرأء طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذب به، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلاّ شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقاً" (1).
كما ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "من قرأ سورة الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله، وفي جواره وكنفه، لم يصبه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير مجمع البيان في بداية سورة القصص.
[166]
في الدنيا بؤس أبداً، وأعطي في الآخرة حتى يرضى وفوق رضاه، وزوجه الله مائة زوجة من الحور العين" (1).
وبديهي أن كلّ هذا الأجر والثواب هو لأُولئك الذين يقفون جنباً إلى جنب مع أصحاب موسى(عليه السلام) والمؤمنين الصادقين ـ عند قراءة هذه السورة ـ ليبارزوا فراعنة عصرهم وقارون زمانهم، ولا يقبعون في الأجحار أو يطاطئون رؤوسهم. عند مواجهتهم الأخطار والمشاكل والأعداء، ولا يضيّعون مواهبهم ليستغلّها الآخرون..
هذا الأجر خاص لمن يقرأون ويتفكرون، وعلى ضوء هذه السورة يخططون لحياتهم وعملهم..
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ثواب الأعمال طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين في بداية سورة القصص.
[167]
الآيات
طسم (1) تِلْكَ ءَايـَتُ الكِتَـبِ الْمُبِينَ (2) نَتْلُوا عَلَيكَ مِن نَّبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْم يُؤمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسآءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـمَـنَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُمْ مَّا كَآنُوا يَحْذَرُونَ (6)
التّفسير
المشيئة الالهية تقتضي انتصار:
هذه هي المرّة الرابعة عشرة التي نواجه بها بدايات السورة "بالحروف المقطعة" في القرآن، وقد تكررت فيها (طسم ) ثلاث مرات، وهي هنا ـ أي "طسم" ـ ثالث المرات وآخرها..
وقد بيّنا مراراً وتكراراً أنّ للحروف المقطعة من القرآن تفاسير متعددة ومختلفة، وقد ذكرناها وبحثناها بحثاً وافياً في بدايات سوَر "البقرة" و "آل
[168]
عمران" و "الأعراف".
وعلاوة على ذلك كلّه فإنّه يظهر من كثير من الرّوايات في شأن (طسم ) أن هذه الحروف إشارات موجزة عن صفات الله سبحانه وتعالى، أو أنّها أماكن مقدسّة.. ولكنّها في الوقت ذاته لا تمنع من ذلك التّفسير المعروف الذي أكّدنا عليه مراراً، وهو أنّ الله تعالى يريد أن يوضح هذه الحقيقة للجميع، وهي أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس التغيير الكبير في تأريخ البشرية وحامل المنهج المتكامل للحياة الكريمة للإنسانيّة يتشكّل من أُمور بسيطة كهذه الحروف "ألف باء..." التي يستطيع أن يتلفظ بها كل صبّي.
ومن هنا تتجلى عظمة القرآن وأهميته القصوى، إذ يتألف من هذه الحروف البسيطة التي هي في اختيار الجميع.
ولعل هذا السبب كان داعياً لأن يكون الحديث بعد "الحروف المقطّعة" مباشرةً عن عظمة القرآن، إذ يقول: (تلك آيات الكتاب المبين )، وبالرغم من أن (الكتاب المبين ) جاء بمعنى اللوح المحفوظ كما قد ورد في الآية (61) من سورة يونس (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين ) والآية السادسة من سورة هود (كلّ في كتاب مبين ) ولكنّه جاء بمعنى القرآن في الآية محل البحث بقرينة ذكر "الآيات" وكذلك جملة (نتلوا عليك ) الواردة في الآية التي بعدها..
وقد وصف القرآن هنا بكونه "مبين" وكما يستفاد من اللغة فإنّ كلمة "مبين" تستعمل في المعنيين "اللازم والمتعدي"، فهو واضح في نفسه وموضّح لغيره، والقرآن المجيد بمحتواه المشرق يميّز الحق عن الباطل، ويبيّن الطريق اللاحب من الطريق المعوّج(1).
والقرآن بعد ذكر هذه المقدّمة القصيرة يحكى قصّة "فرعون" و "موسى" فيقول: (نتلوا عليك من نبأ موسى و فرعون بالحقّ لقوم يؤمنون ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ونذكر ضمناً أنّ التعبير بـ "تلك" المستعملة للإشارة للبعيد ـ كما بيّنا سابقاً ـ لبيان عظمة هذه الآيات أيضاً..
[169]
التعبير بـ "من" التي هي للتبعيض إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة، وهي أن ما ورد ـ هنا في القرآن ـ من هذه القصّة ذات الأحداث الكبيرة يتناسب وما تقتضيه الضرورة فحسب..
والتعبير "بالحق" إشارة إلى أنّ ما ورد هنا خال من كل خرافة وأُسطورة، وبعيد عن الأباطيل والأكاذيب.. فهي إذن تلاوة مقترنة بالحق والواقعية..
والتعبير بـ (لقوم يؤمنون ) هو تأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ مؤمني ذلك العصر الذين كانوا يرزخون تحت ضغوط المشركين والأعداء، عليهم أن يدركوا هذه الحقيقة، وهي أنّ الأعداء مهما تعاظمت قواهم وتزايدوا عَدَداً وَعُدَداً، وأن المؤمنين مهما قلّوا وكانوا تحت ضغط أعدائهم وكانوا ضعافاً بحسب الظاهر، فلا ينبغي أن يهنوا وينكصوا عن طريق الحق، فكل شيء عند الله سهل يسير!..
الله الذي ربّى "موسى" في أحضان "فرعون" لإبادته وتدميره.. الله الذي أوصل العبيد والمستضعفين إلى أن يكونوا حاكمين في الأرض، وأذل الجبابرة والمستكبرين وأبادهم.
الله الذي رعى الطفل الرضيع بين أمواج النيل فحفظه ونجاه وأغرق آلاف الفراعنة الأقوياء في تلك الأمواج.. هو قادر على أن ينجيكم "أيّها المؤمنون"..
أجل، إنّ الهدف الأصل من هذه الآيات هم المؤمنون وهذه التلاوة لأجلهم، والمؤمنون الذين يستلهمون من معاني هذه الآيات ويشقّون طريقهم ـ وسط زحام المشاكل والأخطار ـ باطمئنان.
كان ذلك في الحقيقة بياناً إجمالياً، ثمّ يفصّل القرآن ما أجمله بقوله: (إن فرعون علا في الأرض ).
فقد كان عبداً ضعيفاً، وعلى أثر جهله وعدم معرفته أضاع شخصيته ووصل إلى مرحلة من الطغيان حتى أنّه ادّعى الرّبوبية.. والتعبير بـ"الأرض" إشارة إلى أرض مصر وما حولها.. وحيث أن القسم المهم العامر من الأرض في ذلك العصر
[170]
كان "مصراً" فقد جاء التعبير بالأرض بصورة مطلقة.
ويحتمل أيضاً أنّ الألف واللام للعهد أي "أرض مصر".
وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ من أجل تقوية قواعده الإستكبارية ـ قد أقدم على عدّة جرائم كبرى!..
فالجريمة الأولى، أنّه فرّق بين أهل مصر (وجعل أهلها شيعاً ) وهي سياسة معروفة ومتبعة على امتداد التاريخ، وعليها يستند المستكبرون في حكمهم، فلا يمكن أن تحكم الأقلية ـ التي لا تُعدّ شيئاً ـ على الأكثرية إلاّ بالخطة المعروفة "فرّق تَسُدْ" فهم مستوحشون من "كلمة التوحيد" و "توحيد الكلمة" ويخافون منهما أبداً ـ.
ويخافون من التفاف الناس بعضهم حول بعض، ولذلك يلجأون إلى الطبقية في الحكم، فهذه الطريقة وحدها تتكفل بقاءهم في الحكم، كما صنعه فرعون في أهل مصر، ويصنعه الفراعنة في كل عصر ومصر.
أجل، إنّ فرعون قسّم أهل مصر إلى طائفتي "الأقباط" و"الأسباط".
فالأقباط هم أهل مصر "الأصليون" الذين كانوا يتمتعون بجميع وسائل الرفاه والراحة، وكانت في أيديهم القصور ودوائر الدولة والحكومة.
و"الأسباط" هم المهاجرون إلى مصر من بني إسرائيل الذين كانوا على هيئة العبيد والخدم "في قبضة الأقباط"! وكانوا محاطين بالفقر والحرمان، ويحملون أشدّ الأعباء دون أن ينالوا من وراء ذلك نفعاً [ والتعبير بالأهل في شأن الطائفتين الأقباط والأسباط هو لأنّ بني إسرائيل كانوا قد سكنوا مصر مدّة طويلة فكانوا يُعدّون من أهلها حقيقة!] .
وحين نسمع أن بعض الفراعنة يستعمل مائة ألف مملوك من العبيد لتشييد مقبرة خلال عشرين سنة (كما هي الحال بالنسبة إلى هرم خوفو المعروف الكائن بمقربة من القاهرة عاصمة مصر) ويموت في سبيل ذلك آلاف العبيد والمماليك
[171]
على أثر الضرب بالأسواط وتحت ضغط العمل الشاق، ندرك جيداً الحالة الارهابية السائدة في ذلك المجتمع...
والجريمة الثّانية هي استضعافه لجماعة من أهل مصر بشكل دموي سافر كما يعبر عن ذلك القرآن بقوله:(يستضعف طائفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم ).
فقد كان أصدر أمراً بأن يراقبوا الأطفال الذين يولدون من بني إسرائيل، فإن كانوا ذكوراً فإنّ حظهم الذبح، وإن كانوا إناثاً فيتركن للخدمة في المستقبل في بيوت الأقباط.
وترى ماذا كان يهدف فرعون من وراء عمله هذا؟!
المعروف أنّه رأى في منامه أن شعلة من النّار توهجت من بيت المقدس وأحرقت جميع بيوت مصر، ولم تترك بيتاً لأحد من الأقباط إلاّ أحرقته، ولكنّها لم تمسّ بيوت بني إسرائيل بسوء، فسأل الكهنة والمعبرين للرؤيا عن تأويل ذلك، فقالوا له: يخرج رجل من بيت المقدس يكون على يديه هلاكك وزوال حكومة الفراعنة(1).
وأخيراً كان هذا الأمر سبباً في عزم فرعون على قتل الرضّع من الأطفال الذكور من بني إسرائيل(2).
كما يحتمل ـ أيضاً ـ أنّ الأنبياء السابقين بشّروا بظهور موسى(عليه السلام)وخصائصه، وقد أحزن الفراعنة خبره، فلمّا اطّلعوا على هذا الأمر أقدموا على التصدي له(3).
ولكون ورود جملة (يذبح أبناءهم ) بعد جملة (يستضعف طائفة منهم )
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع في ذلك مجمع البيان، ج 7، ص 239، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآيات.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي ـ ذيل الآية محل البحث.
[172]
فإنّ مسألة أُخرى تتجلّى أمامنا، وهي أنّ الفراعنة اتّخذوا خطة لاستضعاف بني إسرائيل بذبح الأبناء، لئلا يستطيع بنوا إسرائيل أن يواجهوا الفراعنة ويحاربوهم، وكانوا يتركون النساء اللاتي لا طاقة لهن على القتال والحرب، ليكبرن ثمّ يخدمن في بيوتهم.
والشاهد الآخر هو الآية (25) في سوره المؤمن، إذ يستفاد منها ـ بصورة جيدة ـ أن خطة قتل الأبناء واستحياء النساء كانت موجودة حتى بعد ظهور موسى(عليه السلام)[ ومجيئه إلى الفراعنة] . إذ تقول: (فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلاّ في ضلال ).
وجملة (يستحي نساءهم ) يظهر منها أنّهم كانوا يصرّون على إبقاء البنات والنساء، إمّا لكي يخدمن في بيوت الأقباط، أو للإستمتاع الجنسي، أو لكلا الأمرين جميعاً.
وفي آخر جملة تأتي الآية بتعبير جامع، وفيه بيان العلة أيضاً فتقول: (إنّه كان من المفسدين ).
وباختصار فإنّ عمل فرعون يتلخص في الفساد في الأرض، فاستعلاؤه كان فساداً، وإيجاد الحياة الطبقية في مصر فساد آخر، وتعذيب بني إسرائيل واستضعافهم وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ليخدمن في بيوت الأقباط فساد ثالث، وسوى هذه المفاسد كانت لديه مفاسد كثيرةً أُخرى أيضاً.
والتعبير بـ "يُذبح " المشتق من مادة "المذبح" تدل على معاملة الفراعنة لبني إسرائيل كمعاملة القصابين للأغنام والأنعام الأخرى، إذ كانوا يذبحون هؤلاء الناس الأبرياء ويحتزون رؤوسهم!(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ممّا يلفت النظر أنّ مادة (ذبح) في الفعل الثلاثي مجرّدة، وفعلها متعدٍّ بنفسه، ولكنّها هنا استعملت بصيغة التفعيل لتدلّ على الكثرة، كماتستفاد من صيغة المضارع الإستمرار على هذه الجناية [ فلاحظوا بدقة] .
[173]
وفي هذه الخطة الإجرامية من قبل الفراعنة ضد الحوامل قصص مذكورة، إذ قال بعضهم: إنّ فرعون كان قد أمر برقابة مشددة على النساء الحوامل من بني إسرائيل، وأن لا يلي إيلادهن إلاّ قابلة من القبطيّات والفرعونيّات، فإذا كان المولود ذكراً فإنّ جلاوزة القصر الفرعوني يأتون ليتسلموا "قربانهم"(1).
ولا يعرف بدقّة كم بلغ عدد "ضحايا الحوامل" من أطفال بني إسرائيل على أثر هذه الخطة الإجرامية؟ قال بعضهم: كان الضحايا من الأطفال المواليد تسعين ألفاً، وأوصلها بعضهم إلى مئات الآلاف!..
لقد كانوا يظنون أنّهم سيقفون بوجه إرادة الله الحتمية بهذه الجرائم الوحشية، فلا ينهض بنوا إسرائيل ضدهم ولا يزول سلطانهم.
ثمّ تأتي الآية الأُخرى لتقول: إنّ إرادتنا ومشيئتنا إقتضت احتواء المستضعفين بلطفنا وكرمنا (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض )وأن تشملهم رعايتنا ومواهبنا تكون بيد الحكومة ومقاليد الأمور: (ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ).
ويكونون اُولي قوّة وقدرة في الأرض (ونمكّن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون )
ما أبلغ هاتان الآيتان، وما أعظم ما فيهما من رجاء وأمل!.. إذ جاءتا بصورة الفعل المضارع والاستمرار، لئلا يتصور أنّهما مختصتان بالمستضعفين من بني إسرائيل وحكومة الفراعنة، إذ تبدآن بالقول: (ونريد أن نمن... ).
أي إنّ فرعون أراد أن يجعل بني إسرائيل شذر مذر ويكسر شوكتهم ويبير قواهم وقدرتهم، ولكننا أردنا ـ ونريد ـ أن ينتصروا ويكونوا أقوياء!
فرعون يريد أن تكون الحكومة بيد المستكبرين إلى الأبد. ولكنّا أردنا أن تكون بيد المستضعفين، فكان كما أردنا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التّفسير الكبير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث.
[174]
والتعبير بـ "نمنّ" كما أشرنا إلى ذلك من قبل، معناه منح الهبات والنعم، وهو يختلف تمام الإختلاف مع "المنّ" المراد به عدّ النعم لتحقير الطرف المقابل، وهو مذموم قطعاً.
ويكشف الله في هاتين الآيتين الستار عن إرادته ومشيئته بشأن المستضعفين، ويذكر في هذا المجال خمسة أُمور بعضها مرتبط ببعض ومتقاربة أيضاً:
الأوّل: قوله تعالى: (ونريد أن نمن... ) لنشملهم بالمواهب والنعم.. الخ.
الثّاني: قوله: (ونجعلهم أئمّة ).
الثّالث: قوله: (ونجعلهم الوارثين ) أي المستخلفين بعد الفراعنة والجبابرة.
الرّابع: قوله: (ونمكن لهم في الأرض ) أي نجعلهم يحكمون في الأرض وتكون السلطة والقدرة وغيرهما لهم وتحت تصرفهم..
والخامس: إن ما كان يحذره الأعداء منهم وما عبأوه لمواجهتهم يذهب أدراج الرياح، وتكون العاقبة لهم (ونُري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ).
هكذا لطف الله وعنايته في شأن المستضفين، أمّا من هم أُولئك المستضعفون؟! وما هي أوصافهم؟! فسنتحدث عن كل ذلك بعد قليل بأذن الله
وكان "هامان" وزير فرعون المعروف يتمتع بنفوذ وسلطة إلى درجة أن الآية المتقدمة إذ تتحدث عن جنود مصر فإنّها تعزوهم إلى فرعون وهامان معاً (وسيأتي مزيد إيضاح وشرح عن حال هاماان بإذن الله في ذيل الآية (38) من هذه السورة ذاتها).
* * *
[175]
بحوث
1 ـ حكومة المستضعفين العالمية
قلنا: إنّ الآيات المتقدمة لا تتحدث عن فترةخاصة أو معينة، ولا تختص ببني إسرائيل فحسب، بل توضح قانوناً كلياً لجميع العصور والقرون ولجميع الأُمم والأقوام، إذ تقول: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ).
فهي بشارةٌ في صدد انتصار الحق على الباطل والإيمان على الكفر.
وهي بشارةٌ لجميع الأحرار الذين يريدون العدالة وحكومة العدل وانطواء بساط الظلم والجور.
وحكومة بني إسرائيل وزوال حكومة الفراعنة ما هي إلاّ نموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية والمثل الأكمل هو حكومة نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه بعد ظهور الاسلام.. حكومة الحفاة العفاة والمؤمنين المظلومين الذين كانوا موضع تحقير فراعنة زمانهم واستهزائهم ويرزخون تحت تأثير الضغوط "الظالمة" لائمّة الكفر والشرك.
وكانت العاقبة أن الله فتح على أيدي هؤلاء المستضعفين أبواب قصور الأكاسرة والقياصرة، وأنزل أُولئك من أسرّةِ الحكم والقدرة وأرغم أنوفهم بالتراب.
والمثل الأكبر والأوسع هو ظهور حكومة الحق والعدالة على جميع وجه البسيطة ـ والكرة الأرضية ـ على يد "المهديّ" أرواحنا له الفداء.
فهذه الآيات هي من جملة الآيات التي تبشّر ـ بجلاء ـ بظهور مثل هذه الحكومة، ونقرأ عن أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير هذه الآية أنّها إشارة إلى هذا الظهور العظيم.
فقد ورد في نهج البلاغة عن علي(عليه السلام) قوله: "لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها
[176]
عطف الضروس على ولدها، وتلا عقيب ذلك: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض )" (1).
وفي حديث آخر نقرأ عنه(عليه السلام) في تفسير الآية المتقدمة قوله: "هم آل محمّد (صلى الله عليه وآله) يبعث الله مهدّيهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذل عدوّهم" (2).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) قوله: "والذي بعث محمّداً بالحقّ بشيراً ونذيراً، إنّ الأبرياء منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وإن عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه" (3) (أي سننتصر أخيراً وينهزم أعداؤنا وتعود حكومة العدل والحق لنا).
ومن الطبيعي أن حكومة المهدي(عليه السلام) العالميّة في آخر الأمر لا تمنع من وجود حكومات إسلامية في معايير محدودة قبلها من قبل المستضعفين ضد المستكبرين، ومتى ما تمّت الظروف والشروط لمثل هذه المحكومات الإسلامية فإنَّ وعد الله المحتوم والمشيئة الإلهية سيتحققان في شأنها، ولابدّ أن يكون النصر حليفها بإذن الله.
2 ـ من هم المستضعفون ومن هم المستكبرون؟!
كلمة "المستضعف" مشتقّة من مادة "ضعف"، ولكنّها لما استعملت في باب "الإستفعال" دلت على من يكبّل بالقيد والغلّ ويجرّ إلى الضعف.
وبتعبير آخر: ليس المستضعف هو الضعيف والفاقد للقدرة والقوّة.. بل المستضعف من لديه قوى بالفعل وبالقوة، ولكنّه واقع تحت ضغوط الظلمة والجبابرة، وبرغم أنّه مكبل بالأغلال في يديه ورجليه فإنّه غير ساكت
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة ـ الكلمات القصار رقم 209.
2 ـ الغيبة للشيخ الطوسي حسب نقل تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 110.
3 ـ مجمع البيان ذيل الآية.
[177]
ولا يستسلم، ويسعى دائماً لتحيطم الأغلال ونيل الحرية، والتصدي للجبابرة والمستكبرين، ونصرة مبدأ العدل والحق.
فالله سبحانه وعد أمثال هؤلاء بالمنّ وبالحكومة على الأرض، لا الأفراد الجبناء الذين لا يجرؤن على ادنى اعتراض فكيف إذا حمي الوطيس وحان أوان التضحية والفداء؟!
فبنوا إسرائيل استطاعوا أن يأخذوا الحكومة ويرثوها من الفراعنة لأنّهم التفوا حول موسى(عليه السلام) وعبؤوا قواهم وشكّلوا صفاً واحداً، واستكملوا بقايا إيمانهم الذي ورثوه عن جدّهم إبراهيم الخليل، ونفضوا الخرافات عن أفكارهم ونهضوا مع موسى(عليه السلام).
وبالطبع فإنّ المستضعفين أنواع، فهناك مستضعف فكريٌّ، وهناك مستضعف ثقافيٌّ، وهناك مستضعف اقتصادي، وآخر مستضعف سياسي، أو أخلاقي، وأكثر ما أكّد عليه القرآن هو الإستضعاف السياسي والأخلاقي!.
وما من شك أنّ المستكبرين الجبابرة يسعون أبداً لأن يجرّوا قرابينهم إلى الاستضعاف الفكري والثقافي، ثمّ إلى الإستضعاف الإقتصادي، لئلا تبقى لهم قوّةً ولا قدرة، ولئلا يفكروا بالنهوض وتولي زمام الحكومة.
وفي القرآن المجيد ورد الكلام عن المستضعفين في خمسة موارد، وعلى العموم فإنّ هذا الكلام يدور حول المؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط الجبابرة.
ففي مكان من القرآن الكريم يدعو إلى الجهاد والمقاتلة في سبيل الله والمستضعفين إذ يقول: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم
[178]
أهلها واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً ).(1)
وفي مكان واحد فقط ورد الكلام عن الذين أعانوا الكفار وظلموا أنفسهم، وادعوا أنّهم مستضعفون، ولم يهاجروا في سبيل الله، فالقرآن ينفي عنهم هذا الاستضعاف فيقول: (إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأُولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا ).(2)
وعلى كل حال فإنّه القرآن في كل مكان منه يدافع عن المستضعفين ويذكرهم بخير، ويعبّر عنهم بالمؤمنين الذين يرزخون تحت ضغوط المستكبرين... المؤمنون المجاهدون والساعون بجدّهم المشمولون بعنايةالله ولطفه.
3 ـ أسلوب المستكبرين على مدى التأريخ
لم يكن فرعون وحده يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم لا ذلالهم، فعلى مدى التاريخ نجد أسلوب الجبابرة على هذه الشاكلة، حيث يسعون لتعطيل القدرات والقوى بأية وسيلة كانت، فحيث لم يستطيعوا قتل "الرجال" يلجأون إلى قتل "الرجولة"، ويذوّبون روح الشهامة بنشر الفساد والمخدّرات والفحشاء والمنكر والإنحراف الجنسي وكثرة الشراب والقمار، ليستطيعوا براحة بال واطمئنان خاطر أن يواصلوا حكمهم و حكومتهم.
ولكنّ أنبياء الله، وخاصّة نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) كانوا يسعون لإيقاظ قوى الفتوة النائمة ويشحنوا قدرات الشباب الهائلة، ويحرروهم من أسر الذلة، وكانوا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النساء، الآية 75.
2 ـ النساء، الآية 97.
[179]
يعلمون حتى النساء دروساً من الشجاعة والشهامة، ليقفن في صفوف الرجال ضد المستكبرين.
والشواهد على هذين المنهجين في البلاد الإسلامية في التأريخ المعاصر والتأريخ القديم كثيرة وواضحة جيّداً، فلا حاجة لسردها وذكرها بتفصيل.
* * *
[180]
الآيات
وَأَوْحَيْنآ إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيْهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهـمـنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَـطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْن لِّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (9)
التّفسير
في قصر فرعون!
من أجل رسم مثل حيّ لانتصار المستضعفين على المستكبرين، يدخل القرآن المجيد في سرد قصّة موسى وفرعون، ويتحدث بالخصوص عن مراحل يكون فيها موسى في أشدّ حالات الضعف، أمّا فرعون فهو في أقوى الحالات وأكثرها هيمنة.. ليتجسّد انتصار مشيئة الله على إرادة الجبابرة في أعلى الصور وأحسن الوجوه..
يقول القرآن: (وأوحينا إلى أُمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفِت عليه فالقيه
[181]
في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ).
وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة:
كانت سُلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطاً واسعاً لذبح "الأطفال" من بني إسرائيل حتى أن القوابل [ من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [ من بني إسرائيل] .
ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسى(عليه السلام) "وكان الحمل خفيّاً لم يظهر أثره على أم موسى" وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع، وأنّها تحمل جنيناً في بطنها وتوشك أن تضعه، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.
وحين ولد موسى(عليه السلام) سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطُبع حُبُّه في قلبها، وأنار جميع زوايا قلبها.
فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها: كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه "وأنال بذلك جائزتي" ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه، فاهتمي بالمحافظة عليه، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيراً.
ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر، فارتبكت ولم تدر ماذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الإرتباك وهي ذاهلة لفت وليدها "موسى" بخرقة وألقته في التنور فاذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار، فلم يجدوا شيئاً إلاّ التنور المشتعل ناراً.. فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت: إنّها صديقتي وقد
[182]
جاءت زائرة فحسب، فخرجوا ايسين.
ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت "أخت موسى" عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالماً وقد جعل الله النّار عليه برداً وسلاماً "الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود" فأخرجت وليدها سالماً من التنور.
لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.
وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر، ولكن مع ذلك أحسّت بالإطمئنان أيضاً.
كان ذلك من الله ولابدّ أن يتحقق، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.
فجاءت إلى نجّار مصري "وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضاً" فطلبت منه أن يصنع صندوقاً صغيراً.
فسألها النجار قائلا: ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الاُمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.
فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلاّدين، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة، فظن أُولئك أنّه يستهزىء بهم فضربوه وطردوه، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأُولى من الإرتجاج والعيّ، وأخيراً فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.
ولعلّ الوقت كان فجراً والناس ـ بعد ـ نيام، وفي هذه الحال خرجت أم
[183]
موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل.. وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج، فلولا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولإنكشف الأمر واتضح كل شيء.
ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأُم بدقّة.
لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أُم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة "پروين اعتصامي" ـ بتصرف ـ تحكي صورة "تقريبية" عن ذلك الموقف:
أمّ موسى حين ألقت طفلها للذي رب السما أوحى لها
نظرت للنيل يمضي مسرعاً آه لو تعرف حقاً حالها
ودوي الموج فيه صاخب وفتاها شاغل بلبالها
* * *
وتناغيه بصمت: ولدي كيف يمضي بك هذا الزورق
دون ربان، وإن ينسك من هو ذو لطف فمن ذا يشفق
فأتاها الوحي: مهلا، ودعي باطل الفكر ووهما يزهق
* * *
إن موسى قد مضى للمنزل فاتق الله ولا تستعجلي
قد تلقينا الذي ألقيته بيد ترعى الفتى لا تجهلي
وخرير الماء أضحى مهده في اهتزاز مؤنس إن تسألي
* * *
وله الموج رؤوماً حدبا فاق من يحدب أمّا وأبا
[184]
كل نهر ليس يطغى عبثاً إن أمر الله كان السببا
* * *
يأمر البحر فيغدو هائجا وله الطوفان طوعاً مائجا
عالم الإيجاد من آثاره كل شيء لعلاه عارجا
* * *
أين تمضين دعيه فله خير ربّ يرتضيه لا هجا
كل هذا من جهة!..
ولكن تعالوا لنرى مايجري في قصر فرعون؟!
ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة، ولم يكن له من الأبناء سواها، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له: نتكهّنُ ونتوقع أن إنساناً يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها، وكان فرعون وزوجه "آسية" في انتظار هذا "الحادث" وفي يوم من الأيّام.. فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!
ومثل الصندوق "المجهول" الخفيّ أمام فرعون، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.
بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه، وفتح الصندوق على يده فعلا!.
فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها، ودخل حبّه في قلوب الجميع، ولا سيما قلب امرأة فرعون "آسية".. وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(1).
ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير "أبو الفتوح" و"مجمع البيان".
[185]
في هذا الصدد: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً ).
كلمة "التقط" مأخوذة من مادة "التقاط" ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها "لقطة" للسبب نفسه أيضاً..
وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدواً لدوداً، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.
ولكن النتيجة والعاقبة..كان ما كان وحدث ما حدث.. وكما يقول علماء الأدب: إنّ اللام في الآية هنا (فالتقطه آل فرعون ليكون.. ) هي "لا العاقبة" ليست "لام العلة" ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته، وكيف أن هذه الجماعة "الفراعنة" عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ ابنائهم.
والتعبير ـ ضمناً ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحداً، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.
ثمّ تختتم الآية بالقول: (إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ).
كانوا خاطئين في كل شيء، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.
وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسى(عليه السلام)، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم: خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يقول الراغب في مفرداته: إن الفرق بين "الخاطىء" "والمخطىء" هو أنّ الخاطىء هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه..
أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته، إلاّ أنّه يخطيء في الاثناء صدفة، فيتلف العمل.
[186]
ويستفاد من الآية التالية أن شجاراً حدث ما بين فرعون وامرأته، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد: (وقالت امرأة فرعون قرّة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً.. ).
ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأُخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت "الصندوق" وإلقاءه بين أمواج النيل، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل، وأن زوال ملكه على يده، فجثم كابوسٌ ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.
فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة، وقالوا: ينبغي أن يذبح هذا الطفل، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.
ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولداً ذكراً، ولم يكن قلبها منسوجاً من قماش عمال قصر فرعون، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.
وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.
ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا: (وهم لا يشعرون! ).
أجل، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطراً... ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة، ولا يمكن مخالفتها أبداً..
* * *
[187]
ملاحظة
تخطيط الله العجيب..
إظهار القدرة.. ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوماً جبارين، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض، فيهلكهم ويدمرهم تدميراً.
إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم، وأن يصنعوا لأنفسهم سجناً يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!..
وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.
فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.
والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّاً.
والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.
والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.
وأخيراً فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.
وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.
* * *
[188]
الآيات
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسَى فـرِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لاُِخْتِهِ قُصِّيْهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُب وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَـهُ إِلى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (13)
التّفسير
عودة موسى إلى حضن أُمّه:
في هذه الآيات تتجسدُ مشاهد جديدة.. فأمُّ موسى التي قلنا عنها: إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل، بحسب ما فصّلنا آنفاً.. اقتحم قلبها طوفان شديدٌ من الهمّ على فراق ولدها، فقد اصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خالياً وفارغاً منه.
فأوشكت أن تصرخ من أعماقها و تذيع جميع أسرارها، لكن لطف الله تداركها، وكما يعبّر القرآن الكريم (وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ).
[189]
"الفارغ" معناه الخالي، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خالياً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى.. وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أُم موسى من قبل، ولكن مع الإلتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.
وطبيعيّ تماماً أنّ أُمّاً تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلاّ ولدها الرضيع، ويبلغ بها الذهول درجةً لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.
ولكن الله الذي حمّل أُم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله، ولتعلم أنّه بعين الله، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّاً.
كلمة "ربطنا" من مادة "ربط" ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظاً في مكانه، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ "الرباط" ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط: الحفظ والتقوية والإستحكام، والمقصود من "ربط القلب" هنا تقويته.. أي تثبيت قلب أم موسى، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.
وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالإطمئنان، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره (وقالت لأخته قصّيه ).
كلمة "قصّيه" مأخوذة من مادة "قصّ" على زنة "نصَّ" ومعناها البحث عن آثار الشيء، وإنّما سميّت القصّة قصّةً لأنّها تحمل في طياتها أخباراً مختلفة يتبع بعضها بعضاً.
فاستجابت "أُخت موسى" لأمر أمّها، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة، حتى بصرت به من مكان بعيد، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه
[190]
آل فرعون.. ويقول القرآن في هذا الصدد: (فبصرت به عن جنب ).
ولكن أُولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه (وهم لا يشعرون ).
قال البعض: إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثاً عن مرضعة له، فرأتهم أخت موسى.
ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه، فرأت - من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.
هناك تفاسير أُخرى لجملة (وهم لا يشعرون ) أيضاً.
فالعلامة "الطبرسي" لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن فرعون جاهل بالاُمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تُقهر!؟.
وعلى كل حال، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أُمّه عاجلا ليطمئن قلبها، لذلك يقول القرآن الكريم: (وحرمنا عليه المراضع من قبل )(1).
وطبيعيٌ أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع، فيجب البحث عن مرضع له، ولا سيما أن ملكة مصر "امرأة فرعون" تعلق قلبها به بشدّة، وأحبّته كروحها العزيزة.
كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثاً عن مرضع له، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.
لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات، أو أنّه لم يكن يتذوق
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "المراضع" جمع "مُرضِع" على زنة "مُخبر" ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها، وقال البعض: (المراضع) جمع (مَرضَع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع، أي، "الأثداء" وقال البعض: يحتمل أن تكون الكلمة جمعاً للمصدر الميمي "مرضع" بمعنى الرضاع، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو..
[191]
ألبانهن، إذ يبدو لبن كلٍّ منهن مرّاً في فمه، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعاً.
ولم يزل الطفل لحظة بعد أُخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثاً عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاءً وضجيجاً، ومازال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتاً أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل، فقالت: (هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ).
إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبناً، وقلب طافح بالمحبّة، وقد فقدت وليدها، وهي مستعدةً أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.
فسرّ بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون، فلمّا شمّ الطفل رائحة أُمّه التقم ثديها بشغف كبير، وأشرقت عيناه سروراً، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم، وامرأة فرعون هي الأُخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضاً.
ولعلهم قالوا للمرضع: أين كنت حتى الآن، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّةً.. فليتك جئت قبل الآن، فمرحباً بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.
تقول بعض الرّوايات: حين استقبل موسى ثدي أُمّه، قال هامان وزير فرعون لأم موسى: لعلك أُمّه الحقيقية، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك، فقالت: أيّها الملك، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب، لم يأتي طفل رضيع إلاّ قبل بي، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(1).
ونقرأ في هذا الصدد حديثاً قال الراوي: فقلت للإمام الباقر(عليه السلام) ; فكم مكث موسى غائباً من أُمّه حتى ردّه الله؟ قال "ثلاثة أيّام"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 24، ص 231.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 116.
[192]
وقال بعضهم: هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام.. الملوّثة بأموال السرقة، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أُمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.
وتم كل شيء بأمر الله (فرددناه إلى أُمّه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (1)).
هنا ينقدح سؤال مهم وهو: هل أودع آل فرعون الطفل "موسى" عند أُمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!
أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع "أم موسى" أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!
لا يوجد دليلٌ قوي لأيٍّ من الإحتمالين، إلاّ أن الإحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!
وهناك سؤال آخر أيضاً، وهو: هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة، أم أنّه حافظ على علاقته بأُمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!
قال بعضهم: أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته، وتربى موسى عندهما، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسى(عليه السلام) بعد بعثته (ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين؟! )(2)، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة، بل مكث هناك سنين طويلة.
ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسى(عليه السلام) بقي مع كمال الإحترام في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة "تقرّ عينها" في ذيل الآية "74" من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.
2 ـ الشعراء، الآية 18.
[193]
قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ، إلاّ أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط، فواجه النزاع بنفسه "وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لما ورد في نور الثقلين، ج 4، ص 117.
[194]
الآيات
وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنَـهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِى الْـمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَة مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِن شِيعَتِهِ وَهَذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَـثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضى عَلَيْهِ قَالَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطـنِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِر لَى فَغَفَرَ لَهُ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17)
التّفسير
موسى (عليه السلام) وحماية المظلومين:
في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسى(عليه السلام) وما جرى له مع فرعون، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى "مدين" ثمّ سبب هجرته إلى مدين.
تقول الآيات في البداية (ولمّا بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً
[195]
وكذلك نجزي المحسنين ).
كلمة "أشدّ" مشتقّة من مادة "الشدّة" وهي القوّة.
وكلمة "استوى" مشتقة من "الاستواء" ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.
وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين:
فقال بعض المفسّرين: المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية، وغالباً ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر.. أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة، وغالباً ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.
وقال بعضهم: إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.
ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) في كتاب معاني الأخبار قال: فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال: "أشدّه ثمان عشر سنة واستوى، التحى" (1).
وليس بين هذه التعابير فرق كبير، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين "الأشدّ والاستواء" ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.
ولعل الفرق بين "الحكم" و "العلم" هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.
أمّا التعبير (كذلك نجزي المحسنين ) فيدل بصورة جليّة على أن موسى(عليه السلام)كان جديراً بهذه المنزلة، نظراً لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة، إذ جازاه الله "بالعلم والحكم" وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما.. لأنّ موسى(عليه السلام) يومئذ لم يبعث بعد، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّاً.
بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 117.
[196]
على القضاء الصحيح وما شابه ذلك، وقد منح الله هذه الأُمور لموسى(عليه السلام) لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفاً.
ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسى(عليه السلام) لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. رغم أنّ جزئيات تلك الاعوام غير واضحة.
وعلى كل حال فإن موسى (دخل المدينة على حين غفلة من أهلها ).
فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق.. لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر.. وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسى(عليه السلام) على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى بلغت أوجها، حُكم عليه بالتبعيد عن العاصمة.. لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.
ويحتمل أيضاً، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون.. لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.
والمقصود من جملة (على حين غفلة من أهلها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم، ولا تُراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!
قال بعضهم: هو أوّل الليل، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم، وجماعة يذهبون للتنزه، وآخرون لأماكن أُخرى.. هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.
وهناك حديث شريف عن النّبي(صلى الله عليه وآله) في هذا الشأن يقول: "تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين".
[197]
وقدورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة "وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء" (1).
والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيراً ما تحدث الجنايات والفساد والإنحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل.. فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل، ولا هم نائمون، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادةً، وتنشط مراكز الفساد أيضاً في هذه الساعة.
واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.
وعلى كل حال، موسى دخل المدينة، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً، فاقترب من منطقة النزاع (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه ).
والتعبير بـ "شيعته" يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.
فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه ).
فجاءه موسى(عليه السلام) لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم.. الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال تقول الآية: (فوكزه موسى فقضى عليه )(2).
وممّا لا شك فيه، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضاً.. ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، ج 5، ص 249 [ باب 20 من أبواب الصلوات المندوبة] .
2 ـ "وكز" مآخوذ من "الوكز" على زنة "رمز" ومعناه الضرب بقبضة اليد، وهناك معان اُخرى لا تناسب المقام..
[198]
ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.
لذلك فإنّ موسى(عليه السلام) أسف على هذا الأمر (قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدوّ مبين ).
وبتعيبر آخر: فإنّ موسى(عليه السلام) كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسى(عليه السلام) إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.
ثمّ يتحدث القرآن عن موسى(عليه السلام) فيقول: (قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم ).
ومن المسلم به أنّ موسى(عليه السلام) لم يصدر منه ذنب هنا، بل ترك الأولى، فكان بنبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.
لذلك فإنّ موسى(عليه السلام) حين نجا بلطف الله من هذا المأزق (قال ربّ بما أنعمت على ) من عفوك عني وانقاذي من يد الاعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن (فلن أكون ظهيراً للمجرمين ). ومعيناً للظالمين.
بل سأنصر المؤمنين المظلومين، ويريد موسى(عليه السلام) أن يقول: إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبداً.. بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين..".
واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ "المجرمين" هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى، إلاّ أن هذا الإحتمال بعيد جدّاً، حسب الظاهر.
* * *
[199]
مسألتان
1 ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفاً للعصمة!
للمفسّرين أبحاث مُذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.
وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة.. لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.
إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسى(عليه السلام) التي ولّدت إشكالات عندهم.
فهو تارة يقول: (هذا من عمل الشيطان ).
وفي مكان آخر يقول: (ربّي إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي ).
فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.
ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة، وهو أن ما صدر من موسى(عليه السلام) هو من قبيل "ترك الأولى" لا أكثر، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي، فلم يحتط، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمراً هيناً حتى يعفو عنه الفراعنة.
ونعرف أن ترك الأُولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتاً، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.
ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدم(عليه السلام) التي تقدم شرحه في ذيل الآية (19) من سورة الأعراف.
ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في تفسير الآيات
[200]
المتقدمة:
"قال هذا من عمل الشيطان" يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله "إنّه" يعنى الشيطان "عدوّ مضل مبين" ـ وأمّا المراد من جملة ـ "ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي" يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة "فاغفرلي" أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني...". (1)
2 ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام:
هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول "الإعانة على الإثم" و"معاونة الظلمة" وتدل على أن واحداً من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين، وتكون سبباً لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.
وأساساً فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّاً كان هم أفراد معدودون، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة، فهؤلاء القلّة المتفرعنون.. إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعاً، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ).
كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ عيون أخبار الرضا طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج4، ص119.
[201]
فتمسكم النّار ).(1)
وسواء كان "الرّكون" هنا بمعنى الميل القلبي، أو بمعنى الإعانة الظاهرية، أو إظهار الرضا والمحبّة، أو طلب الخير لهم.. هذه المعاني التي ذكرها المفسّرين "للركون" يجمعها مفهوم جامع لها، وهو الإتكاء والاعتماد والتعلق وما إلى ذلك، وهذا المفهوم شاهد حي على مقصودنا.
ونقرأ في هذا الصدد حديثاً للإمام على بن الحسين(عليه السلام) مع "محمّد بن مسلم الزهري" الذي كان رجلا عالماً، إلاّ أنّه كان يتعاطف ويتعاون مع الجهاز الأموي ولا سيما مع هشام بن عبد الملك، يحذّره الإمام في حديثه هذا من إعانة الظالمين والركون إليهم، وهو حديث مثير جدّاً.. وقد جاء فيه: "أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، سلّماً إلى ظلالتهم، داعياً إلى عينهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذو منك، وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك! فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر إليها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول" (2).
والحقّ أنّ هذا المنطق البليغ المؤثر للإمام(عليه السلام) لكل عالم من وعّاظ السلاطين مرتبط بالظالمين راكن إليهم، يمكن أن يبصّره بمصيره المشؤوم عاقبته المخزية.
ويذكر ابن عباس أن آية (ربّ بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين )من جملة الآيات التي تؤكّد على أن الركون للمجرمين ذنب عظيم، وإعانة المؤمنين إطاعة لأمر الله سبحانه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة هود، الآية 114.
2 ـ تحف العقول، ص 66.
[202]
قالوا لبعض العلماء: إنّ فلاناً أصبح كاتباً للظالم الفلاني، ولا يكتب له إلاّ الدخل والخرج. وحياته وحياة عائلته مرهونة بما يحصل عليه من مال لقاء هذا العمل، وإلاّ فسيقع هو وأُسرته في فقر مدقع.
فكان جواب هذا العالم: أمّا سمع قول العبد الصالح "موسى" (ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين )(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا بحثان مستوفيان في مجال إعانة الظالمين في ذيل الآية (2) من سورة المائدة وذيل الآية (112) من سورة هود، فلا بأس بمراجعتهما.
[203]
الآيات
فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالاَْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّآ أَن أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَـمُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفساً بِالاَْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاَْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَآءَ رُجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعى قَالَ يَـمُوسى إِنَّ المَلأَ يَأتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّـصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ (22)
التّفسير
موسى يتوجّه إلى مدين خُفيةً:
نواجه في هذه الآيات المقطع الرّابع من هذه القصّة ذات المحتوى الكبير.
حيث أن مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة، والقرائن المتعددة تدلّ على
[204]
أن القاتل من بني إسرائيل، ولعل اسم موسى(عليه السلام) كان مذكوراً من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم.
وبالطبع فإنّ هذا القتل لم يكن قتلا عادياً، بل كان يعد شرارة لانفجار ثورة مقدمة للثورة.. ولا شك أن جهاز الحكومة لا يستطيع تجاوز هذه الحالة ببساطة ليعرّض أرواح الفرعونيين للقتل على أيدي عبيدهم من بني إسرائيل.
لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب )(1).
وهو على حال من الترقب والحذر، فوجيء في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه )(2).
ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و (قال له موسى إنك لغوي مبين )إذ تحدث كل يوم نزاعاً ومشادة مع الآخرين، وتخلق مشاكل ليس أوانها الآن، إذ نحن نتوقع أن تصيبنا تبعات ما جرى بالأمس، وأنت اليوم في صراع جديد أيضاً!!
ولكنّه كان على كل حال مظلوماً في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصراً في المقدمات أم لا) فعلى موسى(عليه السلام) أنّ يعينه وينصره ولا يتركه وحيداً في الميدان، فلمّا أن أراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما صاح ذلك القبطي: (ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ) ويبدو من عملك هذا أنّك لست إنساناً منصفاً (ان
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة "يترقب" مأخوذة من "الترقب"، ومعناه الإنتظار، وموسى هنا في انتظار نتائج هذه الحادثة، ومحل الجملة إعراباً ـ خبر بعد خبر، وإن قيل أنّها حال، إلاّ أنّ هذا القول ضعيف.
(*) كلمة "يستصرخ" مشتقة من مادة "الإستصراخ"، ومعناها الإستغاثة، ولكنّها في الأصل تعني الصياح أو طلب الصياح من الآخر، وهذا عادةً ملازم للإعانة...
[205]
تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين )(1).
وهذه العبارة تدلّ بوضوح على أن موسى(عليه السلام) كان في نيّته الإصلاح من قبل، سواءً في قصر فرعون أو خارجه، ونقرأ في بعض الرّوايات أن موسى(عليه السلام) كانت له مشادات كلامية مع فرعون في هذا الصدد، لذا فإن القبطي يقول لموسى: أنت كل يوم تريد أن تقتل إنساناً، فأىّ إصلاح هذا الذي تريده أنت؟! في حين أن موسى(عليه السلام) لو كان يقتل هذا الجبار، لكان يخطو خطوة أُخرى في طريق الإصلاح..
وعلى كل حال فإنّ موسى التفت إلى أن ما حدث بالأمس قد انتشر خبره، ومن أجل أن لا تتسع دائرة المشاكل لموسى فإنّه أمسك عن قتل الفرعوني في هذا اليوم.
ومن جهة أُخرى فإنّ الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحسّ فرعون ومن معه في القصر أن تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر، فعقد جلسة شورى مع وزارئه وانتهى "مؤتمرهم" إلى أن يقتلوا موسى، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة.. وكما يقول القرآن الكريم: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين ).
ويبدو أنّ هذا الرجل هو "مؤمن آل فرعون" الذي كان يكتم إيمانه ويدعى "حزقيل" وكان من أسرة فرعون، وكانت علاقته بفرعون وثيقة بحيث يشترك معه في مثل هذه الجلسات.
وكان هذا الرجل متألماً من جرائم فرعون، وينتظر أن تقوم ثورة "إلهية"
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يعتقد جماعة من المفسّرين أن هذه الجملة قالها الإسرائيلي لموسى، لأنّه ظن أن موسى يريد قتله، ولكن القرائن الكثيرة في الآية تنفي هذا الإحتمال!
[206]
ضده فيشترك معها.
ويبدو أنّه كان له أمل كبير بموسى(عليه السلام) إذ كان يتوسم في وجهه رجلا ربّانياً صالحاً ثوريّاً، ولذلك فحين أحسّ بأن الخطر محدق بموسى أوصل نفسه بسرعة إليه وانقذه من مخالب الخطر، وسنرى بعدئذ أن هذا الرجل لم يكن فيُ هذا الموقف فحسب سنداً وظهيراً لموسى، بل كان يعدّ عيناً لبني إسرائيل في قصر فرعون في كثير من المواقف والأحداث.
أمّا موسى(عليه السلام) فقد تلقى الخبر من هذا الرجل بجدّية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة (فخرج منها خائفاً يترقب ).
وتضرع إلى الله بإخلاص وصفاء قلب ليدفع عنه شرّ القوم و (قال ربّ نجني من القوم الظالمين ).
فأنا أعلم ياربّ أنّهم ظلمة ولا يرحمون، وقد نهضت ـ دفاعاً عن المحرومين ـ بوجه الظالمين، ولم آل جهداً ووسعاً في ردع الأشرار عن الاضرار بالطيبين، فأسألك ـ يا ربّي العظيم ـ أن تدفع عنّي أذاهم وشرّهم.
ثمّ قرر موسى(عليه السلام) أن يتوجه إلى مدينة "مدين" التي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز، وكانت بعيدة عن سيطرة مصر والفراعنة.. ولكنه شاب تربّى في نعمة ورفاه ويتجه إلى سفر لم يسبق له في عمره أن يسافر إليه، فلا زاد ولا متاع ولا صديق ولا راحلة ولا دليل، وكان قلقاً خائفاً على نفسه، فلعل أصحاب فرعون سيدركونه قبل أن يصل إلى هدفه "مدين" ويأسرونه ثمّ يقتلونه.. فلا عجب أن يظل مضطرب البال!
أجل، إن على موسى(عليه السلام) أن يجتاز مرحلة صعبة جدّاً، وأن يتخلص من الفخ الذي ضربه فرعون وجماعته حوله ليصطادوه، ليستقرّ أخيراً إلى جانب المستضعفين ويشاطرهم آلامهم بأحاسيسه وعواطفه، وأن يتهيأ لنهضة إلهية
[207]
لصالحهم وضد المستكبرين.
إلاّ أنّه كان لديه في هذا الطريق وعواطفه رأس مال كبير وكثير لا ينفد أبداً، وهو الإيمان بالله والتوكل عليه، لذا لم يكترث بأي شيء وواصل السير.. (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل )(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تلقاء" مصدر أو اسم مكان، ومعناه هنا: الجهة والصوب الذي قصده.
[208]
الآيات
وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ (24) فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَآء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ (25)
التّفسير
عملٌ صالح يفتح لموسى أبواب الخير:
نواجه هنا المقطع الخامس من هذه القصّة، وهي قضيّة ورود موسى(عليه السلام) إلى مدينة مدين.
هذا الشاب الطاهر الذي لا يغش أحداً أمضى عدّة أيّام في الطريق، الطريق التي لم يتعود المسير فيها من قبل أبداً، ولم يكن له بها معرفة، وكما يقول بعضهم: اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافياً، وقيل: إنّه قطع الطريق في
[209]
ثمانية أيّام، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب، وورمت قدماه من كثرة المشي.
وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلاّ قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلّصه من مخالب الفراعنة.
وبدأت معالم "مدين" تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة، ولما اقترب ثمّ عرف بسرعة أنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.
يقول القرآن في هذا الصدد: (فلما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون ووجد من دونهما امرأتين تذودان )(1).
فحركه هذا المشهد... حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم.. بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهم آثار العفّة والشرف، جاء إليهما موسى(عليه السلام)ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و (قال ما خطبكما )(2).
وَلِمَ لا تتقدمان وتسقيان الأغنام؟!
لم يرق لموسى(عليه السلام) أن يرى هذا الظلم، وعدم العدالة وعدم رعاية المظلومين، وهو يريد أن يدخل مدينة مدين، فلم يتحمل ذلك كله، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم ضرب قصر فرعون ونعمته عرض الحائط وخرج من وطنه، فهو لا يستطيع أن يترك طريقته وسيرته وأن يسكت أمام الجائرين الذين لا ينصفون المظلوم!..
فقالت البنتان: إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة اغنامهم:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تذودان" مشتقة من "ذود" على زنة "زرد" ومعناها المنع، فهما إذاً كانتا تذودان أغنامهما لئلا تختلط بالأغنام الأُخرى.
2 ـ ما خطبكما: أي ما شأنكما وما شغلكما هنا؟!
[210]
(قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء )(1).
ومن أجل أن لا يسأل موسى: أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بارسال بناته للسقي مكانه، أضافتا مكملتين كلامهما (وأبونا شيخ كبير ) فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلاّ أن نؤدي نحن هذا الدور.
فتأثر موسى(عليه السلام) من سماعه حديثهما بشدة. فأي أناس هؤلاء لا ينصفون المظلوم، ولا هم لهم غير أنفسهم.
فتقدم وأخذ الدلو وألقاها في البئر.. يقال: إن هذه الدلو كان يجتمع عليها عدّة نفر ليخرجوها بعد امتلائها من الماء، إلاّ أن موسى(عليه السلام) استخرجها بقوته وشكيمته وهمّته بنفسه دون أن يعينه أحد (فسقى لهما ) أغنامهما.
ويقال: إنّ موسى(عليه السلام) حين اقترب من البئر لام الرعاء، قال: أي أناس أنتم لا همّ لكم إلاّ أنفسكم! وهاتان البنتان جالستان؟! ففسحوا له المجال وقالوا له: هلمّ واملأ الدلو، وكانوا يعلمون أن هذه الدلو حين تمتليء لا يستخرجها إلاّ عشرة أنفار من البئر.
ولكن موسى(عليه السلام) بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه وسقى أغنام المرأتان جميعها.. (ثمّ تولّى إلى الظل وقال ربّ إنّي لما أنزلت إلىّ من خير فقير ).
أجل.. إنّه متعب وجائع، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة، فهو غريب، وفي الوقت ذاته كان مؤدباً وإذا دعا الله فلا يقول: ربّ إنّي أريد كذا وكذا، بل يقول: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ) أي إنّه يكشف عن حاجته فحسب، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه.
لكن هلمّ إلى العمل الصالح، فكم له من أثر محمود! وكم له من بركات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "يصدر" مأخوذ من مادة "صدر" ومعناه الخروج من الماء، "والرعاء" جمع راع، وهو سائس الغنم.
[211]
عجيبة! خطوة نحو الله ملءُ دلو من أجل إنصاف المظلومين، فتح لموسى فصلا جديداً، وهيأ له من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية.. ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالا.
وبداية هذا الفصل عندما جاءته احدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة ويظهر منها أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب: رجوعهما إليه بهذه السرعة على غير ما اعتادتا عليه، فقصتا عليه الخبر، فأرسل خلفه (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) فلم تزد على أن (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ).
فلمع في قلبه إشراقٌ من الأمل، وكأنّه أحس بأنّ واقعة مهمّة تنتظره وسيواجه رجلا كبيراً!.. رجلا عارفاً بالحق وغير مستعد أن يترك أي عمل حتى لو كان ملء الدلو أن يجزيه عليه، هذا الرجل ينبغي أن يكون انساناً نموذجياً ورجلا سماوياً وإلهيّاً.. ربّاه.. ما أروعها من فرصة.
أجل، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى "شعيب" النّبي الذي كان يدعو الناس لسنين طوال نحو الله، كان مثلا لمن يعرف الحق ويطلب الحق، واليوم إذ تعود بنتاه بسرعة يبحث عن السبب، وحين يعرف الأمر يقرر أن يؤدي ما عليه من الحق لهذا الشاب كائناً من كان.
تحرك موسى(عليه السلام) ووصل منزل شعيب، وطبقاً لبعض الروايات، فإنّ البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق، إلاّ أن الهواء كان يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها، ولكن موسى لما عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب:(1)
دخل موسى(عليه السلام) منزل شعيب(عليه السلام)، المنزل الذي يسطع منه نور النبوّة.. وتشع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ انظر: أبوالفتوح الرازي ـ ذيل الآيات.
[212]
فيه الروحانية من كل مكان.. وإذا شيخ وقور يجلس ناحيةً من المنزل يرحب بقدوم موسى(عليه السلام)، ويسأله:
من أين جئت؟! وما عملك؟! وما تصنع في هذه المدينة. وما مرادك وهدفك هنا؟!
ولِمَ أراك وحيداً؟!
وأسئلة من هذا القبيل..
يقول القرآن في هذا الصدد: (فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) فأرضنا بعيدة عن سيطرتهم وسطوتهم ولا تصل أيديهم إلينا، فلا تقلق ولا تشعر نفسك الوحشة، فأنت في مكان آمن ولا تفكر بالغربة، فكل شيء بلطف الله سيتيسر لك!..
فالتفت موسى إلى أنّه وجد استاذاً عظيماً.. تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتقوى، وتغمر وجوده الروحانيّة.. ويمكن أن يروي ظمأه منه.
كما أحسّ شعيب أنّه عثر على تلميذ جدير ولائق، وفيه استعداد لأن يتلقى علومه وينقل إليه تجارب العمر!
أجل.. كما أن موسى شعر باللذة حين وجد أستاذاً عظيماً.. كذلك أحس شعيب بالفرح والسرور حين عثر على تلميذ مثل موسى.
* * *
مسألتان
1 ـ أين كانت مدين؟!
"مدين" : اسم مدينة كان يقطنها "شعيب " وقبيلته، هذه المدينة كانت تقع في شرق خليج العقبة [ وشمال الحجاز وجنوب الشامات] وأهلها من أبناء إسماعيل
[213]
"الذبيح" ابن إبراهيم الخليل(عليها السلام)، وكانت لهم تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان.
أمّا اليوم فيطلق على "مدين" اسم "معان".
كما أن بعضاً من المفسّرين يعتقدون أن مدين اسم لجماعة كانت تعيش ما بين خليج العقبة وجبل سينا المعروف بطور سيناء، وجاء اسمها في التوراة بـ "مديان" أيضاً(1).
كما يرى البعض: إنّ أساس تسمية هذه المدينة "بمدين" هو لأنّ أحد أبناء إبراهيم الخليل واسمه "مدين"كان يعيش في هذه المدينة(2).
وفي الوقت الحاضر يبدو في الخرائط الجغرافية للأردن أن إحدى مدنها في الجنوب الغربي منها، واسمها "معان" تحمل الأوصاف ذاتها التي كانت في مدين.. وتنطبق عليها تماماً.
2 ـ دروس كثيرة توحي بالعبر:
في هذا القسم من قصّة موسى(عليه السلام) دروس كثيرة توحي بالعبر:
أ ـ إنّ أنبياء الله هم حماة المظلومين دائماً، فموسى سواءً كان في مصر أو كان في مدين كان يسيئهُ أن يرى ظلماً وتجاوزاً على حقوق الآخرين، وكان ينهض لنصرة المظلوم.. ولم لا يكون كذلك، وأحد أهداف بعثة الأنبياء نصرة المظلوم.
ب ـ أداء عمل صغير لله له بركات كثيرة!
لم يفعل موسى سوى أنّه جلب دلواً من الماء وسقى الأغنام للبنتين، ولم يكن له هدف سوى مرضاة الله الخالق سبحانه!
ولكن كم كان لهذا العمل الصغير من خير وبركة؟! لأنّه صار سبباً لأن يصل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع أعلام القرآن، ص 572.
2 ـ راجع روح المعاني، ج 20، ص 51.
[214]
إلى منزل شعيب نبي الله، وأن يتخلّص من الغربة، وأن يجد مأوى يطمئن إليه، وصار من نصيبه الأكل الهنيء والثياب والزوجة الصالحة، وأهم من كل ذلك.. إنّه وصل إلى شعيب، ذلك الشيخ الكبير الذي يتمتع بضمير حي وله دين سماوي، فعاش معه عشر سنين وأصبح مهيأً لقيادة الأُمة في ذلك الوقت..
ج ـ إنّ رجال الله لا يتركون أي عمل سدىً ـ وخاصّة ما يعمله المخلصون ـ دون أن يؤدوا أجره.. ولهذه السبب فإنّ شعيباً حين بلغه ما قدمه موسى(عليه السلام) من عمل ـ وهو شاب لم يكن معروفاً لم يكن معروفاً هناك ـ لم يقرّ حتى أرسل خلفه ليعطيه أجره.
د ـ وهذه المسألة تثير الإنتباه، وهي أن موسى كان يذكر الله دائماً، ويطلب منه العون في كل أمر، يوكل حل مشاكله إليه.
فحين قتل القبطي وعرف أنّه "ترك الأولى" استغفر ربّه فوراً و(قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي ).
وحين خرج من مصر سأل الله أن يحفظه و(قال ربّ نجني من القوم الظالمين ).
وحين وصل أرض مدين (قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل! ).
وحين سقى أغنام "شعيب" وتولى إلى الظل دعا ربّه و(قال ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ).
وهذا الدعاء الأخير ـ خاصة ـ الذي دعا به في وقت تحوط فيه الأزمات وهو في أشدّ الحاجات، دعا به وهو في غاية التأدب والخشوع، ولم يسأل الله أن يحقق له ما يحتاج، بل سأل المزيد وقال: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير ).
هـ ـ لا ينبغي التصور أن موسى(عليه السلام) إنّما كان يذكر الله في الشدائد فحسب، فهو لم ينس ذكر الله حتى حين كان في نعمة ورفاهية من العيش، إذ كان يعيش في
[215]
قصر فرعون ـ لذلك ورد في الرّوايات.. "درج موسى كان يوماً عند فرعون فعطس موسى فقال: الحمد لله ربّ العالمين. فأنكر فرعون ذلك عليه ولطمه وقال: ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته ـ وكان طويل اللحية ـ فهلبها أي قلعها، فآلمه ألماً شديداً، فهم فرعون بقتله فقالت له امرأته، هذا غلام حدث لا يدري ما يقول وقد لطمته بلطمه إيّاك. فقال فرعون: بلى يدري..." الخ (1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين، ج 4، ص 117.
[216]
الآيات
قَـالَتْ إِحْدهُمَـا يأَبَتِ اسْتئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَئْجَرْتَ الْقَوِىُّ الاَْمِينُ (26) قالَ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَـتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِى ثَمَـنِىَ حِجَج فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّـلِحِينَ (27) قَـالَ ذلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاَْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْونَ عَلَىَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
التّفسير
موسى في دار شعيب:
هذا هو المقطع السادس من قصّة حياة موسى(عليه السلام) المثيرة، جاء موسى إلى منزل شعيب، منزل قرويّ بسيط، منزل نظيف ومليء بالروحيّة العالية، وبعد أن قصّ عليه قصّته، بادرت إحدى بنتي شعيب بالقول ـ وبعبارة موجزة ـ : إنّني أقترح أن تستأجره لحفظ الأغنام ورعايتها: و(قالت يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويُّ الأمين ).
هذه البنت التي تربّت في حجر النّبي الكبير، ينبغي أن تتحدث بمثل هذا
[217]
الحديث الوجيز الكريم، وأن تؤدي الكلام حقّه بأقلّ العبارات.
تُرى من أين عرفت هذه البنت أنّ هذا الشاب قويُّ وأمين أيضاً؟ مع أنّها لم تره الاّ لأوّل مرّة على البئر، ولم تتّضح لها سوابق حياته!
والجواب على هذا السؤال واضح وجليّ.. إذ لاحظت قوته وهو يُنحيّ الرعاء عن البئر ويملأ القربة الثقيلة لوحده ويطالب بحق المظلوم، وأمّا أمانته وصدقه فقد اتّضحا لها منذ أن سارت أمامه إلى بيت أبيها، فطلب منها أن تتأخر ويتقدمها، لئلا تضرب الريح ثيابها!.
أضف إلى ذلك.. من خلال نقله قصته لشعيب فقد اتّضحت قوته في دفعه القبطي عن الإسرائيلي وقتله إيّاه بضربة واحدة.. وأمانته وصدقه.. في عدم مساومته الجبابرة.
فرضي شعيب(عليه السلام) باقتراح ابنته، وتوجه إلى موسى و(قال إنّي أريد أن أُنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ) ثمّ أضاف قائلا: (فإن أتممت عشراً فمن عندك )(1).
وعلى كل حال، فلا أريد إيذاءك (وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ).
فأنّا ألتزم بالعهد والميثاق وأفي بما نتعاقد عليه، ولا أشدّد عليك في الأمور، وأتعامل معك معاملة حسنة وصالحة.. إن شاء الله.
ومن خلال هذا الإقتراح هناك أسئلة كثيرة حول الزواج من ابنة شعيب والمهر وسائر الخصوصيات، وسنبحث عنها في البحوث القادمة إن شاء الله.
واستجابة لهذا القرار والعقد الذي أنشأه شعيب مع موسى.. وافق موسى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذا المضمون نفسه ورد في رواية منقولة في تفسير علي بن إبراهيم، فقال لها شعيب: أمّا قوته فقد عرفتينه إنّه يستقى الدلو وحده، فبم عرفت أمانته؟ فقالت: "إنّه لمّا قال لي تأخري عنّي ودليني على الطريق فإنّا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنّه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته" .
[218]
و(قال ذلك بيني وبينك )..
ثمّ أردف مضيفاً بالقول: (أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ ) أي سواءً قضيت عشر سنين أو ثماني سنين "حجج" فلا عدوان علي..
ومن أجل استحكام العقد بينهما جعل موسى(عليه السلام) اللّه كفيلا وقال: (والله على ما نقول وكيل! ).
وبهذه البساطة أصبح موسى صهراً لشعيب على ابنته.
* * *
بحوث
1 ـ شرطان أساسيان للإدارة الصحيحة
في العبارة القصيرة التي وردت في الآيات المتقدمة على لسان بنت شعيب في شأن استئجار موسى، كان من أهم الشروط وأكثرها أصالةً شرطان لخّصا في "القوّة" و"الأمانة".
ومن البديهي أنّ القوّة المذكورة ـ آنفاً ـ ليس المراد منها قوّة الجسم فحسب، بل القدرة على تحمّل المسؤولية أيضاً.
فالطبيب "القوي الأمين" هو الطبيب الذي له معرفة جيدة وكافية في عمله، وله تسلّط عليه أيضاً.
والمدير القوى هو الذي يعرف "أصول الإدارة" ويعرف الأهداف المطلوبة.. وله تسلط في وضع الخطط و"البرامج"، وله سهم وافر في الإبتكار وتنظيم الأعمال.. ويعبي القوى في سبيل الوصول للهدف المعين.
وفي الوقت ذاته يكون مشفقاً وناصحاً وأميناً وصادقاً في العمل.
والأشخاص الذين يقنعون في تحمل المسؤولية وجود الأمانة والطهارة فحسب، هم مخطئون بمقدار خطأ من يعتمد على سمة التخصص والعلم فحسب.
[219]
فالمتخصصون الخونة والعلماء المنحرفون يضربون ضربتهم كما يضربها المخلصون الذين لاحظ لهم من الإطلاع والمهارة في العمل.
وإذا أردنا أن نخرّب دولة ما فينبغي أن نوكل الأُمور إلى إحدى هاتين الطائفتين..إلى مدراء خائنين لـ "الأمانة"، إلى المخلصين الذين لاحظ لهم من العلم والإدارة والنتيجة واحدة.
إنّ منطق الإسلام هو أن يوكل كل عمل إلى شخص قوي أمين مقتدر، ليصل نظام المجتمع إلى الكمال، وإذا ما تأمّلنا في سبب زوال الحكومات في طول التأريخ، وفكّرنا في الأمر، وجدنا العامل الأصلي هو إيكال الأمر إلى إحدى هاتين الطائفتين اللتين تكلمنا عنهما آنفاً.
ومن الطريف أنّ منهج الإسلام في جميع الأُمور أنّه يقرن "العلم مع التقوى" جنباً إلى جنب.
فمرجع التقليد لابدّ أن يكون "مجتهداً عادلا" والقاضي وكذلك القائد يجب أن يكون "مجتهداً عادلا".. وبالطبع فإن شروطاً أُخرى ينبغي توفرها أيضاً، ولكن أساس هذه الشروط جميعاً شرطان هما "العلم المقترن بالتقوى والعدل".
2 ـ اسئلة عن زواج موسى من بنت شعيب!...
ذكرنا ـ آنفاً ـ أنّ الآيات المتقدمة تحمل بين ثنايها أسئلة متعددة، وعلينا أن نجيب عليها ولو باختصار:
أ ـ هل يجوز من الناحية الشرعية والفقهية، أن تكون الزوجة غير معلومة، بل يقال عند إجراء صيغة العقد "أزوّجك إحدى البنتين مثلا"؟...
والجواب: ليس من المعلوم أن العبارة السابقة (أنكحك إحدى ابنتي هاتين )ذكرت عند إجراء صيغة العقد.. بل الظاهر أنّه جرى كلام و مقدمات للعقد والزواج، وبعد موافقة موسى على الزواج، ثمّ تجري صيغة العقد على واحدة
[220]
بعينها.
ب ـ هل يمكن أن يكون المهر مجهولا، أو مردداً بين النقصان والتمام؟!
والجواب: يفهم من لغة الآية أن المهر الواقعي كان ثماني سنوات خدمة.. أمّا السنتان الأخريان فموكلتان لرغبة موسى، أن شاء أدّاهما، وإلاّ فلا!
ج ـ وهل يجوز أساساً أن يكون المهر "خدمة وعملا"؟!
وكيف يمكن الزواج من امرأة على هذا المهر والدخول بها، والمهر بعد لم يتمّ، ولا يمكن إتمامه في مكان واحد!
والجواب: إنّه لا دليل على عدم جوازمثل هذا المهر، بل إطلاقات الأدلة على المهر في شريعتنا ـ أيضاً ـ تشمل كل شيء ذي قيمة!
كما أنّه لا يلزم أداء المهر في مكان واحد، بل يكفي أن يكون في ذمّة الرجل، والمرأة مالكة له.
وأصل السلامة والإستصحاب يقضيان أنّ هذا الرجل يحيا مدّةً ويستطيع أداء هذا المهر.
د ـ أساساً كيف يمكن جعل الخدمة للأب مهراً للبنت؟! فهل المرأة بضاعة تباع في مقابل الخدمة(1)؟!..
والجواب: لا شكّ أن شعيباً كان يحرز رضا ابنته على مثل هذا المهر، ولديه وكالة منها على هذا العقد، وبتعبير آخر: إن المالك الأصلي لما في ذمّة موسى، هي زوجته "بنت شعيب".
ولكن.. حيث أنّهم كانوا يعيشون في بيت واحد وفي غاية الصفاء والنقاء، ولم تكن بينهم فرقة وانفصال "كما هي الحال بالنسبة إلى كثير من الأسر القروية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قال المحقق الحلي في الشرائع "يصح العقد على منفعة كتعليم الصنعة والسورة من القرآن وكل عمل محلل، وعلى إجارة الزوج نفسه مدّة معينة" ويضيف الفقيه الكبير الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر بعد ذكر تلك العبارة قوله: "وفاقاً للمشهور" (جواهر الكلام، ج 31، ص 4).
[221]
القديمة التي تبدو حياتها منسجمة تمام الإنسجام" فلم تكن هذه المسألة ـ مسألة أداء الدين ـ محل بحث ولا كيف يوفّى المهر.
المهم هنا أن المالك للمهر البنت وحدها لا الأب، والخدمات التي قدمها موسى كانت في هذا السبيل أيضاً.
هـ ـ كان مهر بنت شعيب مهراً ثقيلا نسبياً ـ لأنّنا إذا أردنا أن نلاحظ أجرة العامل العادي خلال شهر ثمّ خلال سنة، وبعدئذ نضاعف ذلك ا لأجر إلى ثماني مرات فسيكون مبلغاً كثيراً جدّاً.
الجواب: أولا لم يكن هذ ا الزواج زواجاً بسيطاً، بل كان مقدمة لبقاء موسى عند "شعيب" متبعاً شاكلته ومذهبه، ومقدمة لأن يدرس موسى(عليه السلام) في جامعة علمية كبرى خلال هذه الفترة الطويلة، والله العالم كم تعلم موسى من "شيخ مدين" في هذه المدّة من اُمور؟!
ثمّ بعد ذلك كله، لو قلنا: إنّ هذه المدة الطويلة كان يقضيها موسى في خدمة شعيب، ففي مقابل ذلك سيؤمن له شعيب مصرفه ونفقات زوجه من هذا الطريق أيضاً.. فإذا جردنا مصرف موسى ونفقاته من أجرة عمله لم يكن المهر غالياً ـ بل سيبقى مبلغ زهيد وخفيف!..
3 ـ يستفاد ضمناً من هذه القصّة أن ما يشيع في عصرنا من أن اقتراح الأب على إختيار البعل لابنته أمر مصيب، لا مانع منه وليس معيباً، فإذا وجد الأب شخصاً لائقاً وجديراً، فله الحق أن يقترح عليه الزواج من ابنته، كما فعل شعيب(عليه السلام)مع موسى في شأن ابنته(عليه السلام) والزواج منها.
4 ـ إسما ابنتي شعيب: واحدة "صفورة" أو "صفورا" وهي التي تزوجت من موسى(عليه السلام)، أمّا الثّانية فاسمها "ليا"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ج 7، ص 249.
[222]
الآيات
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاَْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَاَنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى ءَاتِيكُمْ مِّنْها بِخَبَر أَوْ جَذْوَة مِّنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(29) فَلَمَّآ أَتَـها نُودِىَ مِن شَـطِىءِ الْوَادِ الاَْيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـرَكَةِ مِنَ الْشَّجَرَةِ أَنْ يَـمُوسى إِنِّى أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَـلَمِينَ(30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَـمُوسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاْمِنِينَ(31) اسْلُكَ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضآءَ مِنْ غَيْرِ سُوء واضْمُمْ إِلَيكَ جَنَاحَكَ مَنَ الرَّهْبِ فَذَنِكَ بُرْهَـنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَونَ وَمَلاَِيْهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوماً فَـسِقِينَ(32) قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ(33) وَأَخِى هَـرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَاناً فأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّى أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِايَتِنآ أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَـلِبُونَ(35)
[223]
التّفسير
الشّرارة الأُولى للوحي:
نصل الآن ـ إلى المقطع السابع ـ من هذه القصّة..
لا يعلم أحد ـ بدّقة ـ ما جرى على موسى في سنواته العشر مع شعيب(1)، ولا شكّ أن هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسى(عليه السلام)سنوات عذبة هادئة، سنوات هيأته للمسؤولية الكبرى.
في الحقيقة كان من الضروري أن يقطع موسى(عليه السلام) مرحلة عشر سنين من عمره في الغربة إلى جانب النّبي العظيم شعيب، وأن يكون راعياً لغنمه; ليغسل نفسه ممّا تطبّعت عليه من قبل أو ما قد أثرت عليه حياة القصر من خلق وسجية.
كان على موسى(عليه السلام) أن يعيش إلى جوار سكنة الأكواخ فترةً ليعرف همومهم وآلامهم، وأن يتهيأ لمواجهة سكنة القصور.
ومن جهة أُخرى كان موسى بحاجة الى زمن طويل ليفكر في أسرار الخلق وعالم الوجود وبناء شخصيته. فأيُّ مكان أفضل له من صحراء مدين، وأفضل من بيت شعيب؟!.
إنّ مسؤولية نبي من أولي العزم، ليست بسيطة حتى يمكن لكل فرد أن يتحملها، بل يمكن أن يقال: إنّ مسؤولية موسى(عليه السلام) ـ بعد مسؤولية النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله) ـ من بين الأنبياء جميعاً، كانت أثقل وأهم، بالنظر لمواجهته الجبابرة على الأرض، وتخليص أمّة من أسرهم، وغسل آثار الأسر الثقافي من أدمغتهم.
نقرأ في "التوراة" وفي بعض الروايات الإسلامية ـ أيضاً ـ أنّ شعيباً قرر تكريماً لأتعاب موسى وجهوده معه أن يهب له ما تلده الأغنام في علائم خاصة، فاتفق أن ولدت جميع الأغنام أو أغلبها ـ في السنة الذي ودّع فيها موسى شعيباً ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يظهر من الرّوايات الإسلامية أنّ موسى(عليه السلام) عمل مع شعيب عشر سنوات، وهذا الموضوع موجود في كتاب وسائل الشيعة، ج 15، الصفحة 34 (كتاب النكاح.. أبواب المهور. الباب 22 ـ الحديث الرابع).
[224]
أولادها بتلك العلائم التي قررها شعيب(1)، وقدمها شعيب مع كامل الرغبة إلى موسى.
ومن البديهي أنّ موسى(عليه السلام) لا يقنع في قضاء جميع عمره برعي الغنم، وإن كان وجود "شعيب" الى جانبه يعدّ غنيمة كبرى.
فعليه أن ينهض إلى نصرة قومه، وأن يخلصهم من قيود الأسر، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.
وعليه أن ينهي وجودالظلمة وحكام الجور في مصر، وأن يحطّم الأصنام، وأن يجد المظلومون العزة بالله معه، هذا الإحساس كان يدفع موسى للسفر إلى قومه.
وأخيراً جمع موسى أثاثه ومتاعه وأغنامه وتهيأ للسفر.
ويستفاد ضمناً من التعبير بـ "الأهل" التي وردت في آيات كثيرة في القرآن أن موسى(عليه السلام) كان عنده هناك غير زوجته ولدٌ أو أولاد، كما تؤيد الرّوايات الإسلامية هذا المضمون، وكما صرّح بهذا المعنى في "التوراة" في سفر الخروج، وإضافةً إلى كل ذلك فإنّ زوجته كانت حاملا أيضاً.
وعند عودته من مدين إلى وطنه أضاع الطريق، ولئلا يقع أسيراً بيد الظلمة من أهل الشام اختار طريقاً غير مطروق.
وعلى كل حال فإنّ القرآن يقول في أوّل من آية هذا المقطع: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله انس من جانب الطور ناراً) ثمّ التفت إلى أهله و(قال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النّار لعلكم تصطلون)أي (تتدفؤون).
"آنست": مشتقّة من مادة "إيناس" ومعناها المشاهدة والرؤية المقترنة بالهدوء والراحة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع أعلام القرآن، ص 409.
[225]
"جذوة" هي القطعة من النّار، وقال بعضهم: بل هي القطعة الكبيرة من الحطب.
ويستفاد من قوله (لعلي آتيكم بخبر) أنّه كان أضاع الطريق، كما يستفاد من جملة (لعلكم تصطلون) أن الوقت كان ليلا بارداً.
ولم يرد في الآية كلامٌ عن حالة زوجة موسى، ولكن المشهور أنّها كانت حاملا ـ كما في كثير من التفاسير والرّوايات ـ وكانت تلك اللحظة قد أحست بالطلق وألم الولادة.. وكان موسى قلقاً لحالها أيضاً.
(فلّما أتاها) أي أتى النّار التي آنسها ورآها، وجدها ناراً لا كمثل النيران الأُخر فهي غير مقترنة بالحرارة والحريق، بل هي قطعة من النور والصفاء، فتعجب موسى من ذلك (نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إنّي أنا الله ربّ العالمين).
"الشاطىء" معناه الساحل.
و"الوادي" معناه الطريق بين الجبلين، أو ممر السيول.
و"الأيمن" مشتق من "اليمين" خلاف اليسار، وهو صفة للوادي.
و"البقعة" القطعة من الأرض المعروفة الأطراف.
ولا شك أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الأمواج الصوتية في كل شىء، فأوجد في الوادي شجرة ليكلّم موسى.. وموسى بشر له جسم وأذنان ولابدّ له ليسمع الكلام من أمواج صوتية.. وطبيعي أن كثيراً من الأنبياء كان الوحي بالنسبة لهم إلهاماً داخلياً، وأحياناً يرون ما يوحى إليهم في "النوم" كما كان الوحي يأتيهم. أحياناً ـ عن طريق سماع الأمواج الصوتية.
وعلى كل حال فلا مجال للتوهم بأنّ الله جسم، تعالى الله عن ذلك.
وفي بعض الرّوايات ورد أن موسى(عليه السلام) حين اقترب من النّار، دقق النظر فلاحظ أن النّار تخرج من غصن أخضر وتضيء وتزداد لحظة بعد لحظة وتبدو
[226]
أجمل، فانحنى موسى وفي يده غصن يابس ليوقده من النّار، فجاءت النّار من ذلك الغصن الأخصر إليه فاستوحش ورجع إلى الوراء.. ثمّ رجع إليها ليأخذ منها قبساً فأتته ثانية.. وهكذا مرّة يتجه بنفسه إليها ومرّة تتجه النّار إليه، وإذا النداء والبشارة بالوحي إليه من قبل الله سبحانه.
ومن هنا ومع ملاحظة قرائن لا تقبل الإنكار اتّضح لموسى(عليه السلام) أنّ هذا النداء هو نداء إلهي لا غير.
ومع الإلتفات إلى أنّ موسى(عليه السلام) سيتحمل مسؤولية عظيمة وثقيلة.. فينبغي أن تكون عنده معاجز عظيمة من قبل الله تعالى مناسبة لمقامه النبوي، وقد أشارت الآيات إلى قسمين مهمين من هذه المعاجز:
الأُولى قوله تعالى: (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنّها جان ولّى مدبراً ولم يعقب).
ويوم اختار موسى(عليه السلام) هذه العصا ليتوكأ عليها للاستراحة، ويهشُّ بها على غنمه، ويرمي لها بهذه العصا أوراق الأشجار، لم يكن يعتقد أنّ في داخلها هذه القدرة العظيمة المودعة من قبل الله. وأن هذه العصا البسيطة ستهز قصور الظالمين، وهكذا هي موجودات العالم، نتصور أنّها لا شيء، لكن لها استعدادات عظيمة مودعة في داخلها بأمر الله تتجلى لنا متى شاء.
في هذه الحال سمع موسى(عليه السلام) مرّة أُخرى النداء من الشجرة (أقبل ولا تخف إنّك من الأمنين).
"الجانّ" في الأصل معناه الموجود غير المرئي، كما يطلق على الحيات الصغار اسم (جان) أيضاً; لأنّها تعبر بين الأعشاب والأحجار بصورة غير مرئية.. كما عبر في بعض الآيات عن العصا بـ (ثعبان مبين) [سورة الأعراف الآية 107 وسورة الشعراءالآية 32].
وقد قلنا سابقاً: إنّ هذا التفاوت في التعابير ربّما لبيان الحالات المختلفة
[227]
لتلك الحية.. التي كانت في البداية حية صغيرة، ثمّ ظهرت كأنّها ثعبان مبين.
كما ويحتمل أن موسى(عليه السلام) رآها في الوادي بصورة حية، ثمّ في المرات الأُخرى بدأت تظهر بشكل مهول (ثعبان مبين)
وعلى كل حال، كان على موسى(عليه السلام) أن يعرف هذه الحقيقة، وهي أنّه لا ينبغي له الخوف في الحضرة الإلهية; لأنّ الأمن المطلق حاكم هناك، فلا مجال للخوف إذاً.
كانت المعجزة الأُولى آية "من الرعب"، ثمّ أمر أن يظهر المعجزة الثّانية وهي آية أُخرى "من ا لنور والأمل" ومجموعهما سيكون تركيباً من "الإنذار" و"البشارة" إذْ جاءه الأمر (أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء).
فالبياض الذي يكون على يده للناس لم يكن ناشئاً عن مرض ـ كالبرص ونحوه ـ بل كان نوراً الهياً جديداً.
لقد هزّت موسى(عليه السلام) مشاهدته لهذه الأُمور الخارقة للعادات في الليل المظلم وفي الصحراء الخالية.. ومن أجل أن يهدأ روع موسى من الرهب، فقد أمر أن يضع يده على صدره (واضمم إليك جناحك من الرهب).
قال بعضهم: هذه العبارة (واضمم إليك جناحك) كناية عن لزوم القاطعية والعزم الراسخ في أداء المسؤولية بالنسبة لرسالته، وأن لا يخاف أو يرهب شيئاً أو أحداً أو قوّة مهما بلغت.
وقال بعضهم: حين ألقى موسى(عليه السلام) عصاه فرآها كأنّها "جان" أو (ثعبان مبين)رهب منها، فمدّ يده ليدافع عن نفسه ويطردها عنه، لكن الله أمره أن يضم يده إلى صدره، إذ لا حاجة للدفاع فهي آية من آياته.
والتعبير بـ "الجناح" [الذي يستعمل للطائر مكان اليد للإنسان] بدلا عن اليد في غاية الجمال والروعة.. ولعل المراد منه تشبيه هذه الحالة بحالة الطائر حين يدافع عن نفسه وهو أمام عدوّه المهاجم، ولكنه يعود إلى حالته الأُولى ويضم
[228]
جناحه إليه عندما يزول عنه العدو ولا يجد ما يرهبه!.
وجاء موسى النداءُ معقّباً: (فذانك برهانان من ربّك إلى فرعون وملئه إنّهم كانوا قوماً فاسقين).
فهم طائفة خرجت عن طاعة الله وبلغ بهم الطغيان مرحلة قصوى.. فعليك ـ يا موسى ـ أن تؤدي وظيفتك بنصحهم، وإلاّ واجهتهم بما هو أشد.
هنا تذكر موسى(عليه السلام) حادثةً مهمة وقعت له في حياته بمصر، وهي قتل القبطي، وتعبئه القوى الفرعونية لإلقاء القبض عليه وقتله.
وبالرغم من أنّ موسى(عليه السلام) كان يهدف عندها الى انقاذ المظلوم من الظالم الذي كان في شجار معه، فكان ما كان.. إلاّ أن ذلك لا معنى له في منطق فرعون وقومه، فهم مصممون على قتل موسى إن وجدوه.. لذلك فإنّ موسى: (قال ربّ إنّي قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون).
وبعد هذا كلّه فإنّي وحيدٌ ولساني غير فصيح (وأخي هارون هو أفصح منّي لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إنّي أخاف أن يكذبون).
كلمة "أفصح" مشتقّة من "الفصيح" وهو في الأصل كون الشيء خالصاً، كما تطلق على الكلام الخالص من كل حشو وزيادة كلمة "الفصيح" أيضاً.
و"الردء" معناه المعين والمساعد.
وعلى كل حال فلأن هذه المسؤولية كانت كبيرة جدّاً، ولئلا يعجز موسى عن أدائها، سأل ربّه أن يرسل معه أخاه هارون أيضاً.
فأجاب الله دعوته، وطمأنه بإجابة ما طلبه منه و (قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً) فالسلطة والغلبة لكما في جميع المراحل.
وبشرهما بالنصر والفوز، وأنّه لن يصل إليهما سوء من أولئك: إذ قال سبحانه: (فلا يصلون إليكما بآياتنا) فبهذه الآيات والمعاجز لن يستطيعوا قتلكما أو الاضرار بكما (أنتما ومن اتبعكما الغالبون).
[229]
فكان ما أوحى الله إلى موسى أملا كبيراً وبشارةً عظمى اطمأن بها قلبه، وأصبح راسخ العزم والحزم، وسنجد آثار ذلك في الصفحات المقبلة حين نقرأ الجوانب الأُخرى من قصّة موسى(عليه السلام) إن شاء الله(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كانت لنا بحوث عديدة في هذا المجال، فراجعها إن شئت في "تفسير سورة الأعراف" و "تفسير سورة طه" و "تفسير سورة الشعراء". وفي بعض السور الأُخرى.
[230]
الآيتان
فَلَمَّـا جَآءَهُمْ مُّوسى بِايَـتِنا بَيِّنَـت قَالُوا مَا هَذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرَىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذا فِى ءَابآئِنَا الاَْوَّلِينَ(36) وَقَالَ مُوسى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جآءَ بَالْهُدى مِنْ عِندِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَـقِبَةُ الدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّـلِمُونَ(37)
التّفسير
موسى في مواجهة فرعون:
نواجه المقطع الثامن من هذه القصّة العظيمة.. لقد تلقى موسى(عليه السلام) من ربّه الأمر بأن يصدع بالنبوّة والرسالة في تلك الليلة المظلمة والأرض المقدسة، فوصل إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حُمِّلَ.. وأبلغه الرسالة الملقاة عليهما.. فذهبا معاً إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله، وبعد عناء شديد استطاعا أن يصلا إلى فرعون وقد حف به من في القصر من جماعته وخاصته، فأبلغاه الدعوة إلى الله ووحدانيّته.. ولكن لنرَ ما جرى هناك ـ في قصر فرعون ـ مع موسى وأخيه.
يقول القرآن في أوّل آية من هذا المقطع: (فلمّا جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلاّ سحر مفترى).
[231]
وأنكروا أن يكونوا سمعوا مثل ذلك (ما سمعنا بهذا في بآبائنا الأولين).
فواجهوا موسى متوسّلين بحربة توسّل بها جميع الجبابرة والضالّون على طول التاريخ، حين رأوا المعاجز من أنبيائهم.. وهي حربة "السحر" لأنّ الأنبياء يأتون بأمور خارقة للعادات، و"السحر" خارق للعادة "لكن اين هذا من هذه"؟
السحرة اُناس منحرفون وأهل دنيا وعبيد لها وأساس عملهم قائم على تحريف الحقائق، ويمكن معرفتهم جيداً بهذه العلامة.. في حين أنّ دعوة الأنبياء ومحتواها شاهد على صدق معاجزهم..
ثمّ إنّ السحرة طالما يعتمدون على القدرة البشرية فإنّ عملهم محدود، أمّا الأنبياء الذين يعتمدون على قوّة الهية، فإن معاجزهم عظيمة وغير محدودة!..
التعبير بـ"الآيات البيّنات" عن معاجز موسى(عليه السلام) بصيغة الجمع، ربّما يراد به أن معاجز أُخرى غير المعجزتين هاتين، أو أن كل معجزة من معجزتيه مركبة من عدّة معاجز.
فتبديل العصا إلى ثعبان عظيم معجزة، وعودة الثعبان إلى عصا معجزة أُخرى.
والتعبير بـ "مفترى" مأخوذة من "فرية" بمعنى التهمة والكذب لأنّهم قصدوا أنّ موسى يكذب على اللّه!.
والتعبير بـ(ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) مع أن نداء الأنبياء ودعوتهم من أمثال نوح وإبراهيم ويوسف(عليهم السلام) كانا من قبل موسى(عليه السلام) في هذه الأرض، فجميعهم دعوا إلى عبادة الله سبحانه. هذا التعبير أساسه طول المدّة وبعد العهد عليهم، أو أنّهم يريدون أن يقولوا: إنّ آباءنا ـ أيضاً ـ لم يذعنوا لدعوة الأنبياء قبلك!.
لكن موسى(عليه السلام) أجابهم بلهجة التهديد والوعيد، حيث يكشف لنا القرآن هذا الحوار (وقال موسى ربّي اعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة
[232]
الدار).
إشارة إلى أنّ الله يعلم حالي، وهو مطلع عليّ بالرغم من اتهامكم إيّاي بالكذب.. فكيف يمكن أن يمكنني الله من الأُمور الخارقة للعادات لكي أضل بها عباده؟
فعلمه بحالي ومنحه لي هذه القدرة على الإتيان بالمعجزات دليل على حقانية دعوتي.
ثمّ بعد هذا، الكاذب قد يقضي فترة بين الناس بالكذب والخديعة، لكن سرعان ما يفتضح أمره، فانتظروا لتشهدوا من تكون له العاقبة والإنتصار.. ولمن يكون الخزي والإندحار!؟
ولو كان كلامي كذباً فأنا ظالم و(إنّه لا يفلح الظالمون).
وهذا التعبير يشبه تعبيراً آخر في الآية (69) من سورة "طه" إذْ جاء بهذه الصيغة "ولا يفلح الساحر حيث أتى".
وهذه الجملة لعلها إشارة ا لى الفراعنة المعاندين والمستكبرين ضمناً، وهي أنّكم مقتنعون بمعاجزي ودعوتي الحقّة، ولكنّكم تخالفونني ظلماً.. فعليكم أن تعرفوا أنّكم لن تنتصروا أبداً، والعاقبة لي فحسب.
والتعبير بـ (عاقبة الدار) ربّما كان إشارة لعاقبة الدار الدنيا، أو لعاقبة الدار الآخرة، أو لعاقبة الدارين جميعاً، وبالطبع فإنّ المعنى الثّالث أجمع وأنسب حسب الظاهر.
بهذا المنطق المؤدب أنذر موسى(عليه السلام) فرعون وقومه بالهزيمة في هذه الدنيا وفي الأُخرى!.
* * *
[233]
الآيات
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَـأَيـُّهَا الْمَلاَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إَلَـه غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَـهَـمَـنُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحاً لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّى لاََظـُنُّهُ مِنَ الْكَـذِبِينَ(38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَيُرْجَعُونَ (39)فَأَخَذْنَـهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـهُمْ فِى الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْظَّـلِمِينَ(40) وَجَعَلْنَـهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ لاَ يُنْصَرُونَ(41) وَأَتْبَعْنَـهُمْ فِى هَـذهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ هُمْ مِّنْ الْمَقْبُوحِينَ(42)
التّفسير
كيف كان عاقبة الظالمين؟
نواجه هنا المقطع التاسع من هذا التاريخ المليء بالأحداث والعبر.
هذا المقطع يعالج مسألة صنع فرعون البرج ـ أو بنائه الصرح المعروف ـ للبرهنة على وهمية دعوة موسى(عليه السلام).
ونعرف أن من سنن الساسة القدماء في أعمالهم أنّه كلما وقعت حادثة مهمّة
[234]
على خلاف رغباتهم وميولهم (ومن أجل التمويه وايهام الناس) يبادرون إلى خلق جوّ جديد ليلفتوا أنظار الناس إليه، وليصرفوهم عن تلك الحادثة المطلوبة.
ويبدو أنّ بناء "الصرح العظيم" حدث بعد ما جرى لموسى من مواجهته السحرة ماجرى.. لأنّه يستفاد من سورة "المؤمن" أن هذا العمل "بناء البرج" تمّ حين كان الفراعنة يخططون لقتل موسى(عليه السلام)، وكان مؤمن آل فرعون يدافع عنه.. ونعرف أنّه قبل أن يواجه موسى(عليه السلام) السحرة لم يكن مثل هذا العمل ولا مثل هذا الحديث، وحيث أن القرآن ا لكريم تحدّث عن مواجهة موسى(عليه السلام) للسحرة في سورة "طه، والأعراف، ويونس، والشعراء" فإنّه لم يتطرق إليها هنا. وإنّما تحدث هنا وفي سورة المؤمن عن بناء البرج.
وعلى كل حال فقد شاع خبر انتصار موسى(عليه السلام) على السحرة في مصر، وإيمان السحرة بموسى زاد في الأمر أهمية، كما أن موقع الحكومة الفرعونية أصبح في خطر جديّ شديد.
واحتمال تيقظ الجماهير التي في أسر الذل كان كبيراً جدّاً.. فيجب صرف أفكار الناس بأية قيمة كانت، واشغالهم بسلسلة من المشاغل الذهنية مقرونة ببذل من الجهاز الحكومي، لإغفال الناس وتحميقهم!
وفي هذا الصدد يتحدث القرآن الكريم عن جلوس فرعون للتشاور في معالجة الموقف، إذ نقرأ في أوّل آية من هذا المقطع: (وقال فرعون يا أيّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري).
فأنا إلهكم في الأرض.. أمّا إله السماء فلا دليل على وجوده، ولكنني سأتحقق في الأمر ولا أترك الإحتياط، فالتفت إلى وزيره هامان وقال: (فأوقد لي يا هامان على الطين) ثمّ أصدر الاوامر ببناء برج أو قصر مرتفع جدّاً لأصعد عليه واستخبر عن إله موسى.
(فاجعل لي صرحاً لعلي اطلع الى إله موسى وإنّي لأظنّه من الكاذبين).
[235]
لم لَمْ يذكر فرعون اسم الآجر، واكتفى بالقول: (فأوقد لي يا هامان على الطين)؟ قال بعضهم: هذا دليل على أن الآجر لم يكن متداولا حتى ذلك الحين، وإنّما ابتكره الفراعنة من بعد.. في حين أن بعضهم يرى أن هذا التعبير أو هذا البيان فيه نوع من التكبر وموافق لسنّة الجبابرة.
وقال بعضهم: إنّ كلمة "آجر" ليست فصيحة، لذلك لم يستعملها القرآن، وإنّما استعمل هذا التعبير المتقدم على لسان فرعون!.
هنا ناقش جماعة من المفسّرين كالفخر الرازي والآلوسي مسألة "الصرح"، وهل بنى فرعون "الصرح" حقّاً أم لا؟!
ويبدو أن الذي شغل فكر المفسّرين هو أن هذا العمل لم يكن متزّناً بأيّ وجه وأي حساب.
ترى.. ألم يكن الناس قد صعدوا الجبال من قبل فرأوا منظر السماء كما هو على الأرض؟.
وهل البرج الذي يبنيه البشر أكثر ارتفاعاً من الجبل؟.
وأي أحمق يصدق أنّه يمكن الوصول إلى السماء بواسطة مثل هذا البرج؟!
ولكن أُولئك الذين يفكرون مثل هذا التفكير غفلوا عن هذه المسألة، وهي أن مصر لم تكن أرضاً جبلية، وبعد هذا كلّه نسوا أنّ الطبقة العامّة لأهل مصر بسطاء ويخدعون بشتى الوسائل.
حتى في عصرنا الذي يسمى عصر العلم وعصر النور، نجد مسائل تشبه ما وقع في العصور الماضية ينخدع بها الناس.
وعلى كل حال، فطبقاً لما ورد في بعض التواريخ، فإنّ هامان أمر بأرض واسعة ليبنى عليها الصرح أو البرج، وهيّأ خمسين ألف رجل من العمال والمهندسين لهذا العمل المضني، وآلاف العمال لتهيئة الوسائل اللازمة لهذا البناء، وفتح أبواب الخزائن وصرف أموالا طائلة في هذا السبيل، واشغل عمالا كثيرين
[236]
في هذا البناء.. حتى أنّه ما من مكان إلاّ وتسمع فيه أصوات هذا البناء أو أصداؤه!.
وكلما اعتلى البناء أكثر فأكثر كان الناس يأتون للتفرج، وما عسى أن يفعل فرعون بهذا البناء وهذا البرج.
صعد البناء إلى مرحلة بحيث أصبح مشرفاً على جميع الأطراف. وكتب بعضهم: إنّ المعمارين بنوا هذا البرج بناءً بحيث جعلوا حوله سلالم حلزونية يمكن لراكب الفرس أن يرتقي الى أعلى البرج.
ولمّا بلغ البناء تمامه ولم يستطع البناؤون أن يعلوه أكثر من ذلك.. جاء فرعون بنفسه يوماً وصعده بتشريفات خاصة.. فنظر إلى السماء فوجدها صافية كما كان ينظرها من الأرض لم تتغير ولم يطرأ عليها جديد.
المعروف أنّه رمى سهماً إلى السماء، فرجع السهم مخضباً بالدم على أثر إصابته لأحد الطيور أو أنّها كانت خديعة من قبل فرعون من قبل.. فنزل فرعون من أعلى القصر وقال للناس: اذهبوا واطمأنوا فقد قتلت إله موسى(1).
ومن المسلم به أن جماعة من البسطاء الذين يتبعون الحكومة اتباعاً أعمى وأصم، صدّقوا ما قاله فرعون ونشروه في كل مكان، وشغلوا الناس بهذا الخبر لإغفالهم عن الحقائق!.
ونقلوا هذا الخبر أيضاً، وهو أنّ البناء لم يدم طويلا "وطبعاً لا يدوم" أجل لقد تهدم البناء وقتل جماعة من الناس.. ونقلوا في هذا الصدد قصصاً أُخرى، وحيث أن لم تتّضح صحتها لنا فقد صرفنا عنها النظر.
والذي يلفت النظر أن فرعون في كلامه هذا (ما علمت لكم من إله غيري)كان قد استعمل نهاية الخبث ومنتهى الشيطنة.. إذ كان يرى من المسلّم به أنّه إله!!.. وكان مدار بحثه: هل يوجد إله غيره؟!!.. ثمّ ينفي أن يكون هناك إله سواه إله; لعدم وجود الدليل!!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مقتبس من تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الآيات محل البحث، ج 89، ص 362.
[237]
وفي المرحلة الثّالثة والأخيرة، ومن أجل أن يقيم الدليل على عدم وجود إله غيره بنى ذلك الصرح!.
كل هذه الأُمور تؤكّد جيداً أنّه كان يعرف تلك المسائل، إلاّ أنّه كان يضلل الناس ويصرف أفكارهم عن الحق، ليحفظ موقعه وحكومته!.
بعد هذا كلّه يتحدث القرآن عن استكبار فرعون ومن معه، وعدم اذعانهم لمسألتي "المبدأ والمعاد" بحيث كان فرعون يرتكب ما يشاء من إجرام وجنايات بسبب انكار هذين الاصلين فيقول: (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحقّ وظنوا أنّهم إلينا لا يرجعون).
هذا الإنسان الضعيف الذي لا يستطيع أن يبعد عن نفسه بعوضة، وربّما قتله ميكروب لا يرى بالعين المجرّدة كيف يمكن له أن يدعي العظمة والألوهيّة!؟.
ورد في الحديث القدسي أنّ الله سبحانه يقول: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النّار"(1).
ومن البديهي أنّ الله لا يحتاج إلى أوصاف كهذه.. ولكن حالة الطغيان والعدوان تستولي الإنسان حينما ينسى نفسه، وتملأ ريح الكبر والغرور فكره!
لكن لننظر إلى أين وصل هذا الغرور بفرعون وجنوده؟!
يقول القرآن الكريم: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ).
أجل، لقد جعلنا سبب موتهم في مصدر معيشتهم، وجعلنا النيل الذي هو رمز عظمتهم وقوّتهم مقبرةً لهم!.
من الطريف أنّ القرآن يعبّر بـ"نبذناهم" من مادة "نبذ" على زنة "نبض" ومعناه رمي الأشياء التي لا قيمة لها وطرحها بعيداً، تُرى ما قيمة هذا الإنسان الأناني المتكبر المتجبّر الجاني المجرم؟!
أجل، لقد نبذنا هؤلاء الذين لا قيمة لهم من المجتمع البشري، وطهّرنا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير روح المعاني، التّفسير الكبير، للفخر الرازي، تفسير الميزان وتفاسير أخر ذيل الآية محل البحث.
[238]
الأرض من لوث وجودهم.
ثمّ، يختتم الآية بالتوجه إلى النّبي(صلى الله عليه وآله) قائلا: (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين).
هذا النظر ليس بعين "البصر" بل هو بعين "البصيرة"، وهو لا يخص ظلمة الماضي و فراعنة العهد القديم، بل إن ظلمة هذا العصر ليس لهم من مصير سوى هذا المصير المشؤوم!.
ثمّ يضيف القرآن قائلا في شأنهم: (وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون).
هذا التعبير أوجد إشكالا لدى بعض المفسّرين، إذ كيف يمكن أن يجعل الله أناساً أئمة للباطل؟!
ولكن هذا الأمر ليس معقداً.. لأنّه أولا.. إن هؤلاء هم في مقدمة جماعة من أهل النّار، وحين تتحرك الجماعات من أهل النّار، فإنّ هؤلاء يتقدمونهم إلى النّار! فكما أنّهم كانوا في هذه الدنيا أئمّة الضلال، فهم في الآخرة ـ أيضاً ـ أئمّة النّار، لأنّ ذلك العالم تجسم كبير لهذا العالم!.
ثانياً.. كونهم أئمّة الضلال ـ في الحقيقة ـ نتيجة أعمالهم أنفسهم، ونعرف أن تأثير كل سبب هو بأمر الله، فهم اتخذوا طريقاً يؤدي بهم إلى الضلال وينتهي بهم إلى أن يكونوا أئمّة الضالين، فهذه حالهم في يوم القيامة!.
ولمزيد التأكيد يصور القرآن صورتهم وماهيتهم في الدنيا والآخرة! (واتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة هم من المقبوحين!)(1) لعنة الله معناها طردهم من رحمته، ولعنة الملائكة والمؤمنين هي الدعاء عليهم صباحاً ومساءً.. وفي كل وقت. وأحياناً تشملهم اللعنة العامة. وأحياناً يأتي اللعن خاصّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "المقبوح" مشتق من "القبح" ومعناه السوء. ما فسّره بعضهم بأنّ المقبوح معناه المطرود أو المفضوح أو المغضوب عليه وما شاكلها، فهو من التّفسير بلازم المعنى، وإلاّ فالمقبوح معناه واضح.
[239]
لبعضهم. حيث أنّ كل من يتصفح تأريخهم يلعنهم، ويتنفّر من أعمالهم.
وعلى كل حال فإنّ سوء أعمالهم في هذه الدنيا، هو الذي قبّح وجوههم في الدار الآخرة "يوم القيامة"، لأنّه يوم البروز ويوم هتك الحُجب.
* * *
ملاحظة!
أئمّة "النّور" وأئمّة "النّار"
هناك طائفتان من الأئمة في منطق القرآن الكريم، فأئمة للمتقين يهدونهم إلى الخيرات، كما ورد في شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: (وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)(1).
فهؤلاء أئمّة أصحاب مناهج واضحة، لأنّ التوحيد الخالص والدعوة إلى الخير والعمل الصالح والحق والعدالة، تشكّل متن مناهجهم.. فهم أئمّة النور، وخطهم متصل بسلسلة الأنبياء والأوصياء الى خاتم النّبيين محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وأوصيائه عليهم السلام.
وهناك أئمّة للضلال.. وقد عبّرت عنهم الآيات محل البحث بأنّهم: (أئمّة يدعون إلى النّار)!.
ومن خصائص هاتين الطائفتين من الأئمّة، كما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)مايلي: "إنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان، قال الله تبارك وتعالى: (وجلعناهم أئمّة يهدون بأمرنا)لا بأمر الناس يقدمون أمر اللّه قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم، قال: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النّار) يقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الأنبياء، الآية 73.
[240]
حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف كتاب الله"(1).
وبهذا المعيار يتّضح معرفة هاتين الطائفتين من الأئمة..ففي يوم القيامة الذي تتمايز فيه الصفوف، كل جماعة تمضي خلف إمامها، فأهل النار إلى النّار، وأهل الجنّة إلى الجنّة.. كما يقول القرآن الكريم: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)(2).
وقلنا مراراً: إنّ يوم القيامة تجسم عظيم عن هذا العالم "الصغير" وأُولئك الذين ارتبطوا بإمام معين واقتفوا أثره، فهم سائرون خلفه هناك أيضاً.
ينقل "بشر بن غالب" عن الإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) أنّه سأله عن تفسير الآية (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) فقال(عليه السلام): "إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة، وهؤلاء في النّار.. وهو قوله عزّوجلّ (فريق في الجنّة وفريق في السعير)(3).
من الطريف أن فرعون ا لذي تقدّم قومه في هذه الدنيا وأغرقهم بمعيّته في أمواج النيل، يقدم قومه يوم القيامة ـ أيضاً ـ يخزيهم بمعيته في نار جهنم، إذ يقول القرآن في شأنه: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النّار وبئس الورد المورود).(4)
ونختم هذا البحث بحديث الإمام علي(عليه السلام) في شأن المنافقين حيث يقول(عليه السلام): "ثمّ بقوا بعده فتقربوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النّار بالزور والبهتان، فولّوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس"(5).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الصافي ذيل الآيات مورد البحث.
2 ـ الإسراء، 71.
3 ـ أمالي الصدوق لما ورد في نور الثقلين، ج 3، ص 192.
4 ـ سورة هود، 98.
5 ـ راجع نهج البلاغة، الخطبة 210.
[241]
الآيات
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ مِنْ بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُْولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسَ وَهُدىً ورَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلى مُوسَى الاَْمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّـهِدِينَ(44) وَلَـكِنَّآ أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِنَا وَلَـكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـكِن رَّحْمَةً مِّن رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَومَاً مَّآ أَتَـهُم مِّن نَّذِير مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(46)
التّفسير
الأخبار الغيبيّة هي من عند الله وحده..
نصل في هذا القسم من الآيات إلى "المقطع العاشر" وهو القسم الأخير من الآيات التي تتعلق بقصّة موسى وما تحمله من معان كبيرة!.
وهي تتحدث عن نزول الأحكام، والتوراة، أي إنّها تتحدث عن انتهاء الدور السلبي "الطاغوت" وبداية "الدور الإيجابي" والبناء!.
[242]
يبدأ هذا المقطع بالآية التالية (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أهلكنا القرون الأُولى بصائر للناس وهدىً ورحمةً لعلّهم يتذكرون).
والكلام في أنّ المقصود من "القرون الأولى" أي الأقوام السابقين.. من هم؟!
قال بعض المفسّرين: هو إشارة إلى الكفّار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم.. لأنّه بتقادم الزمان ومضيّه تمحى اثار الأنبياء السابقين، ويلزم من ذلك وجود كتاب سماويّ جديد في أيدي البشر!.
وقال بعض المفسّرين: هو إشارة إلى هلاك قوم فرعون الذين كانوا بقايا الأقوام السابقين، لأنّ الله سبحانه آتى موسى كتاب "التّوراة" بعد هلاكهم.
ولكنّه لا مانع من أن يكون المقصود بالقرون الأُولى في الآية شاملا لجميع الأقوام.
و"البصائر" جمع "بصيرة" ومعناها الرؤية، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين.. و"الهدى" و"الرحمة" أيضاً من لوازم البصيرة.. وعلى أثرها تتيقظ القلوب(1).
ثمّ يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة، وهي أنّ ما ذكرناه لك "يارسول الله، في شأن موسى وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن، لأنّك لم تكن "حاضراً" في هذه "الميادين" التي كان يواجه موسى فيها فرعون وقومه! ولم تشهدها بعينيك.. بل هو من الطاف الله عليك، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس.. يقول القرآن: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر) أي الأمر بالنبوّة (وما كنت من الشاهدين).
الذي يجلب الانتباه ويستلفت النظر هنا أنّ موسى(عليه السلام) حين سار من مدين إلى مصر مرّ في طريق سيناء، وكان بهذا الاتجاه يسير من الشرق نحو الغرب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "البصائر" جمع "بصيرة" وأمّا "البصر" فجمعه "أبصار".
[243]
وعلى العكس من ذلك مسير بني إسرائيل حين جاءوا من مصر إلى الشام ومرّوا عن طريق سيناء، فإنّهم يتجهون بمسيرهم من الغرب نحو الشرق.. ولذلك يرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الآية "60" (فاتبعوهم مشرقين) في سورة الشعراء التي تتحدث عن متابعة فرعون وقومه لبني إسرائيل، هو إشارة إلى هذا المعنى!
ثمّ يضيف القرآن (ولكنّا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر) وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نوراً وهدى للناس.
ثمّ يضيف القرآن الكريم (وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم [أي على أهل مكّة] آياتنا(1) ولكنا كنا مرسلين).. وأوحينا إليك هذه ا لأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية.. لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين(2).
وتأكيداً على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلا: (وما كنت بجانب الطور(3) إذ نادينا) اي نادينا موسى بأمر النبوّة، ولكننا أنزلنا اليك بهذه الاخبار رحمة من الله عليك (ولكن رحمةً من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون).
وخلاصة الكلام: أنّ الله أخبرك يا محمّد بالحوادث التي فيها إيقاظ وإنذار لما جرى في الأقوام السابقين، ولم تكن فيهم من الشاهدين، لتتلو كل ذلك على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "ثاوي" مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالإستقرار، ولذا سمّي المستقر والمكان الدائم بالمثوى.
2 ـ كان بين ظهور موسى(عليه السلام) وظهور النّبي (محمّد)(صلى الله عليه وآله) حدود ألفي عام.
3 ـ قال بعض المفسّرين: يحتمل أن يكون المراد من "نادينا" هنا هو النداء الثّاني عندما جاء موسى وسبعون رجلا من قومه إلى الطور، فجاءه النداء من الله، ولكن هذا الإحتمال بعيد جداً; لأنّ هذه الآيات تشير إلى المسائل التي أخبر عنها النّبي في الآيات المتقدمة في حين أنّه لم يكن حاضراً هناك ولم يكن من الشاهدين، ونعرف أن الآيات المتقدمة تتحدث عن حركة موسى من مدين باتجاه مصر، وسماعه النداء من قبل الله لأول مرّة في وادي الطور "فلاحظوا بدقة".
[244]
قومك الذين هم على ضلال لعلهم يهتدون ولعلهم يتذكرون.
هنا ينقدح هذا السؤال: كيف يقول القرآن: (لتنذر قوماً ما اتاهم من نذير من قبلك) [أي العرب المعاصرين للنبي محمّد(صلى الله عليه وآله)] في حين أنّنا نعرف أن الأرض لا تخلو من حجّة لله، وكان بين العرب أوصياء للأنبياء السابقين (كأوصياء عيسى(عليه السلام)).
وفي الجواب على ذلك نقول: المقصود من ذلك هو إرسال رسول يحمل إلى قومه كتاباً سماويّاً بيّناً.. لأنّ بين عصر عيسى(عليه السلام) وظهور نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) قروناً مديدة، ولم يأت بين عيسى والنبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) نبيّ من أولي العزم، ولذلك فقد كان هذا الموضوع ذريعة للملحدين والمفسدين.
يقول الإمام علي(عليه السلام) في هذا الصدد "إن الله بعث محمّداً(صلى الله عليه وآله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغه، الخطبة 33.
[245]
الآيات
وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـتُكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ (47)فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِىَ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بَمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَـهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَـفِرُونَ(48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَـب مِّنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إَنْ كُنتُمْ صَـدِقِينَ(49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَهُ بِغَيْرِ هُدىً مِّنَ الله إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(50)
التّفسير
ذريعة للفرار من الحق:
حيث أن الآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت تتحدث عن إرسال النّبي(صلى الله عليه وآله) لينذر قومه، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف الله على وجود النّبي في
[246]
قومه فيقول: إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولا ا ذا أردنا انزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا: لماذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا احكامك لنؤمن به (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين)(1).
هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق، وهو أن طريق الحقّ واضحٌ وبيّن... وكل "عقل" حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام.. وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام ـ كالمظالم وما شاكلها ـ هي من مستقلات حكم العقل، وحتى مع عدم إرسال الرسل، فإنّ العقوبة على مثل هذه الأُمور ممكنة.
ولكن الله سبحانه حتى في هذا المجال ومع وضوح حكم العقل فيه أرسل الرسل مع الكتب السماوية والمعاجز الساطعة، إتماماً للحجّة ونفياً للعذر، لئلا يقول أحد: إنّما كان شقاؤنا بسبب عدم وجود الدليل، إذ لو كان فينا قائد إلهي لكنّا من أهل الهداية ومن الناجين.
وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أن سنة الله قائمة على عدم تعذيب أية أمة قبل إرسال الرسل إليها، ونقرأ في سورة النساءالآية (65) أيضاً (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً).
ثمّ تتحدّث الآيات عن معاذير أولئك، وتشير إلى أنّهم ـ بعد إرسال الرسل ـ لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية، واستمروا على طريق الإنحراف، فتقول الآية: (فلما جاءهم الحقّ من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يصرّح كثير من المفسّرين أنّ جواب "لولا" الأُولى محذوف وتقديره "لما أرسلنا رسولا" أو "لما وجب إرسال الرسل".. وبديهيّ أنّ التعبير الثّاني أكثر دقّة ووضوحاً.. وعلى كل حال فهذا الكلام مربوط بأحكام يدركه العقل مستقلا.. وإلاّ فإن إرسال الرسل ضروريّ بدلائل أُخرى، على أنّ واحداً من فوائد إرسال الرسل ـ أيضاً ـ هو تأكيد الأحكام العقلية كبطلان الشرك وقبح الظلم والفساد.. "فلاحظوا بدقّة".
[247]
فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء "كيد موسى"؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟! ولِمَ لِمَ... الخ.
فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج، ويقول: (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا) أي موسى وهارون، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق (وقالوا إنا بكلّ كافرون).
والتعبير بـ "سحران" بدلا عن "ساحران" هو لشدة التأكيد، لأنّ العرب حين تريد التأكيد على شخص في خصلة ما تقول: هو العدل بعينه، أو بعينه، أو السحر وهكذا.
كما يرد هذا الاحتمال ـ أيضاً ـ وهو: إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسى(عليه السلام) وهما عصاه ويده البيضاء!
وإذا قيل: ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة، فهذه الأُمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين؟
فالجواب على ذلك واضح.. وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمراً جديداً.. فجميعهم من نسيج واحد، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماماً، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة.
التفسير الواضح للآية ما قلناه آنفاً، إلاّ أن بعض المفسّرين فسّروا الآية تفسيراً آخر وقالوا: إنّ المقصود بقوله تعالى: (سحران تظاهرا) هو "النّبي موسى ونبي الإسلام العظيم محمّد(صلى الله عليه وآله)" لأنّ مشركي العرب كانوا يقولون: إن كليهما ساحران... وإنّا بكلّ كافرون.
وقد نقلوا في هذا الصدد حادثة تاريخية، وهي أنّ أهل مكّة بعثوا جماعة منهم إلى اليهود في بعض أعيادهم، وسألوهم عن نبي الإسلام "محمّد"(صلى الله عليه وآله) أهو نبيّ حقّاً؟! فأجابوا: إنّهم وجدوا مكتوباً عندهم في التوراة "بأوصافه"!. فرجع
[248]
المبعوثون إلى مشركي مكّة ونقلوا لهم ما جرى بينهم وبين اليهود، فقالوا: (سحران تظاهرا وإنّا بكل كافرون).
ولكن بملاحظة هاتين النقطتين يبدو هذا التّفسير بعيداً جدّاً:
الأولى: أنّه قلّ أن يرى في التاريخ والرّوايات أن مشركي العرب يتهمون موسى بكونه ساحراً.
الثّانية: كيف يمكن لأحد أنْ يدعي أن موسى ومحمّداً(صلى الله عليه وآله) ساحران يعين أحدهما الآخر مع وجود فاصلة زمنية بينهما تقدّر بالفي عام.
ترى هل يمكن لساحر قبل آلاف السنين أن يعرف من سيأتي في المستقبل؟! وماذا سيقول؟!
وعلى كل حال فإنّ مشركي مكّة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لِمَ لَم يأت النّبي(صلى الله عليه وآله) بمعاجز كمعاجز موسى، ومن جهة أُخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في "التوراة" من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة... لذا يخاطب القرآن النّبي محمّداً(صلى الله عليه وآله) ليتحداهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن!! (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين).
وبتعبير آخر: إنّهم كانوا يبحثون عن كتاب هداية وعن معاجز!!
فأي كتاب هداية أعظم من القرآن؟! وأية معجزة أسمى منه؟!
ولو لم يكن عند النّبي شيء آخر سوى القرآن لكان كافياً في إثبات دعوته الحقة! ولكنّهم لم يكونو طلاّب حق، بل أصحاب حجج واهية فحسب!
ثمّ يضيف القرآن (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنّما يتبعون أهواءهم) لأنّ أي إنسان إذا لم يتّبع هواه فإنّه سيذعن لهذا الاقتراح، لكن أُولئك لم يكونوا على صراط مستقيم، ولذلك يرفضون كل مقترح بذريعة جديدة!.
[249]
ولكن من أضيعُ منهم (ومن أضلُّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين).
ولو كانوا طلاّب حقّ وقد أضلوا سبيلهم، فإنّ لطف الله سيشملهم بمقتضى الآية الكريمة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ولكنّهم ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم الذي يعيشون فيه، فلا هدف لهم سوى اللجاجة والعناد... فكيف يهديهم الله ويعينهم؟!
* * *
ملاحظة
اتباع الهوى مدعاة للظلال:
في الآيات المتقدمة بيّنت العلاقة بين الهوى والضلال بصراحة، وقد عبّر فيها عن المتبعين هواهم بأضلّ النّاس، وأنّهم لم يحظو بهداية الله.
هوى النفس حجاب كبير أمام نظر العقل.
هوى النفس يشدّ الإنسان بالشيء ويجعل قلبه متعلقاً به إلى درجة تفقده القدرة على فهم الحقائق ودركها.. لأنّ التسليم المطلق إزاء الواقعيات، وترك التعلق بالشيء والتسرّع بالحكم، شرط لدرك الحقائق.. التسليم دون قيد أو شرط إزاء الواقع الخارجي، مراً كان أم عذباً، موافقاً لرغبات النفس أم مخالفاً، منسجماً مع المصالح والمنافع الشخصية أم غير منسجم... لكن هوى النفس لا يتفق مع هذه الأصول!.
وفي هذا المجال كان لنا بحث مسهب في ذيل الآية (43) من سورة الفرقان.
ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدةٌ تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامه
[250]
وقائده الإلهي واتبع هواه(1).
وهذه الرّوايات المنقولة عن الإمام الباقر(عليه السلام) والإمام الصادق(عليه السلام) وبعض الائمّة الطاهرين(عليهم السلام).. هي من قبيل المصداق البارز.. وبتعبير آخر: إنّ الإنسان محتاج لهداية اللّه... هذه الهداية تارةً تنعكس في كتاب اللّه، واُخرى في وجود النّبي وسنته، وأُخرى في وأوصيائه المعصومين، وأُخرى في منطق العقل.
المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإهية غير متبع لهواه، ليستطيع أن يستضيء بهذه الأنوار.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذه الرّوايات في أصول الكافي وبصائر الدرجات طبقاً لما في نور الثقلين، ج 4، ص 132.
[251]
الآيات
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَولَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(51) الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ(52) وَإِذْا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53) أُولَـئك يُؤتُونَ أَجْرَهُمْ مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِّمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنْفِقُونَ(54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أعمَالُنَاا وَلَكُم أَعْمَـلُكُمْ سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَـهِلِينَ(55)
سبب النّزول
نقل المفسّرون ورواة الأخبار روايات كثيرة و مختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة، والجامع المشترك فيها واحد، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة ـ بالقرآن ونبي الإسلام(صلى الله عليه وآله).
فعن "سعيد بن جبير" أن هذه الآيات نزلت في سبعين قسّاً مسيحياً بعثهم النجاشي من الحبشة إلى مكّة للتحقيق والإطلاع على دين النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله)، فلمّا
[252]
قرأ عليهم نبيّ الإسلام سورة "يس" دمعت عيونهم شوقاً وأسلموا(1).
وقال بعضهم: هذه الآيات نزلت في نصارى نجران "مدينة في شمال اليمن" جاءوا إلى النّبي فسمعوا آيات القرآن فآمنوا به(2).
وقال آخرون: بل نزلت في النجاشي وقومه.(3)
كما يرى بعضهم أنّها نازلة في "سلمان الفارسي" وجماعة من علماء اليهود، كعبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وأضرابهم(4).
وأخيراً فإنّ بعضهم يرى أنّ الآيات تشير إلى أربعين عالماً مسيحياً من ذوي الضمائر حيّة والنيرة، جاء اثنان وثلاثون منهم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وثمانية آخرون من الشام، من بينهم "بحيرا"الراهب الى النّبي(صلى الله عليه وآله)فأسلموا.(5)
وبالطبع فإنّ الرّوايات الثلاث تتناسب مع نزول الآيات في مكّة، كما أنّها تدعم قول من يرى بأن جميع آيات هذه السورة مكية. ولكن الرواية الرابعة والرواية الخامسة تدلاّن على أن هذه الآيات الآنفة نزلت بالمدينة استثناءً، كما أنّهما تدعمان قول القائلين على أنّ الآيات المتقدمة مدنية لا مكية.
وعل كل حال فإن هذه الآيات "شواهد بليغة" تدل على أن جماعة من علماء أهل الكتاب أعلنوا إسلامهم حين سمعوا آيات القرآن... لأنّه لا يمكن لنبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) أن يقول مثل هذا. ولم يكن أحد من أهل الكتاب قد آمن به بعد لأنّ المشركين كانوا ينهضون فوراً ويقومون بالصياح والضجيج لتكذيب النّبي(صلى الله عليه وآله).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 357، و 358.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ مجمع البيان، ج 7، ص 258.
5 ـ المصدر السابق.
[253]
التّفسير
طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن:
حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق والتي سمعت هذه الآيات اهتدت الإسلام وبقي أصحابها متمسكين بالإسلام أوفياء له في حين أنّ قلوب الجاهليين المظلمة لم تتأثر بها.،
يقول القرآن في هذا الصدد: لقد انزلنا لهم آيات القرآن تباعاً (ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يذكرون)(1).
هذه الآيات نزلت عليهم نزول المطر المتصلة قطراته وجاءت الآيات على أشكال متنوعة، وكيفيات متفاوتة، فتارة تحمل الوعد بالثواب، وتارة الوعيد بالنّار، وأُخرى الموعظة والنصيحة، وأُخرى تنذر وتهدد. وأحياناً تحمل استدلالات عقلية، وأحياناً تحمل قصص الماضين وتأريخهم المليء بالعبر، وخلاصة كاملة من الأحداث المتجانسة التي يؤمن بها أي قلب فيه أقل استعداد للإيمان، حيث أنّها تجذب القلوب إليها... إلاّ أن عمي القلوب لم يذعنوا لها.
إلاّ أنّ (اليهود والنصارى) (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون). لأنّهم يرونه منسجماً مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل!.
ومن الطريف هنا أنّهم كانوا جماعة من "أهل الكتاب"، إلاّ أن الآيات المتقدمة تحدثت عنهم بأنّهم "أهل الكتاب" دون قيد أو تبعيض أوأي شيء آخر، ولعلها تشير إلى أنّهم أهل الكتاب حقّاً، أمّا سواهم فلا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "وصّلنا" مأخوذ من مادة "وصل" أي ربط، وحيث أنّها جاءت من باب التفعيل، فهي تدل على الكثرة، ويستفاد منها التأكيد أيضاً..
[254]
ثمّ يضيف القرآن في وصفهم قائلا: (وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنّه الحق من ربّنا).
أجل: كانت تلاوة الآيات عليهم كافيةً لأن يقولوا "آمنا"... ثمّ يضيف القرآن متحدثاً عنهم: إنّنا مسلمون لا في هذا اليوم فحسب، بل (انّا كنّا من قبله مسلمين)
إنّنا وجدنا علائم النّبي(صلى الله عليه وآله) في كتبنا السماوية وتعلقت قلوبنا به، وانتظرناه بفارغ الصبر ـ وفي أوّل فرصة وجدنا بها ضالتنا أمسكنا بها ـ وقبلناه "بقلوبنا وأرواحنا".
ثمّ يتحدث القرآن الكريم عن هذه الجماعة التي آمنت بالنّبي من غير تقليد أعمى، وإنّما طلباً للحق، فيقول: (أُولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا).
فمرّة لإيمانهم بكتابهم السماويّ الذي كانوا صادقين أوفياء لعهدهم معه... ومرّة أُخرى لإيمانهم بنبيّ الإسلام العظيم(صلى الله عليه وآله) النّبي الموعود المذكور عندهم في كتبهم السماوية.
ويحتمل ـ أيضاً ـ كما هو مستفاد من الآيات المتقدمة، إنّما يؤتون أجرهم مرتين; لأنّهم آمنوا بنبي الإسلام قبل ظهوره، وحين ظهر لم يكفروا به بل آمنوا به كذلك.
وهؤلاء بذلوا جهداً وصبروا زماناً طويلا ليؤدوا ما عليهم من وظيفة ومسؤولية... ولم يرض بأعمالهم المنحرفون من اليهود ولا النصارى، ولم يسمح لهم تقليد السابقين والجوّ الإجتماعي أن يتركوا دينهم ويسلموا، إلاّ أنّهم وقفوا وصبروا وتجاوزوا هوى النفس والمنافع الذاتية، فنالوا ثواب الله وأجره مرّتين.
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى بعض أعمالهم الصالحة من قبيل "دفع السيئة بالحسنة" و "الإنفاق ممّا رزقهم الله" و "المرور الكريم باللغو والجاهلين" وكذلك الصبر والاستقامة، وهي خصال أربع ممتازة.
[255]
حيث يقول في شأنهم القرآن الكريم: (ويدرءون بالحسنة السيئة).
يدرئون بالكلام الطيب الكلام الخبيث، وبالمعروف المنكر، وبالحلم الجهل والجاهلين، وبالمحبّة العداوة والبغضاء، وبصلةالرحم من يقطعها، والخلاصة أنّهم بدلا من أن يدفعوا السيئة بالسيئة فإنّهم (يدرءون بالحسنة السيئة!).
وهذا أسلوب مؤثر جدّاً في مواجهة المفاسد ومبارزتها، ولا سيما في مواجهة اللجوجين والمعاندين.
وقد أكّد القرآن الكريم على هذا الأسلوب مراراً وكراراً، وقد سبق أن بحثنا في هذا المجال بشرح مبسّط في ذيل الآية (22) من سورة الرعد وذيل الاية (69) من "سورة المؤمنون".
والخصلة الأُخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم (وممّا رزقناهم ينفقون).
وليس الإنفاق من الأموال فحسب، بل من كل ما رزقهم الله من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الإجتماعية، وجميع هذه الأُمور من مواهب الله ورزقه ـ فهم ينفقون منها في سبيل الله!.
وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه).
ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو، بل (قالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم).
فلاتحاسبون بجريرة أعمالنا، ولا نُحاسب بجرمكم وجريرة أعمالكم، ولكن ما أسرع ما سيجد كلٌ منّا نتيجة عمله.
ثمّ يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين الذين يتصدون لإثارة المؤمنين باللغو وما شاكله، حيث يقولون: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).
فلسنا أهلا للكلام البذيء، ولا أهلا للجهل والفساد، ولا نبتغي ذلك، إنّما
[256]
نبتغي العلماء وأصحاب الضمائر الحيّة والعاملين المؤمنين الصادقين.
وعلى هذا فبدلا من أن يهدروا قواهم في مواجهة الجاهلين عُمي القلوب وأهل الكلام البذي، يمرون عليهم كراماً ليؤدوا أهدافهم ومناهجهم الأساسية.
الجدير بالذكر أنّ هؤلاء حين يواجهون الجاهلين، لا يسلّمون عليهم سلام تحية واستقبال، بل سلام وداع.
* * *
ملاحظة!
القلوب المهيّأة للإيمان:
رسمت الآيات المتقدمة للقلوب التي تقبّلت بذور الإيمان رسماً جميلا وبليغاً.
فهي ليست من نسيج الأشخاص الانتهازيين الذين ملئت قلوبهم من التعصب والجهل، والكلام البذيء السيء الفارغ، والبخل والحقد، وما إلى ذلك!!.
إنّ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء حطموا قبل كلّ شيء القيود التي فرضها التقليد الأعمى، ثمّ أصغوا بكلّ دقّة إلى نداء التوحيد، وحين وجدوا الدلائل الحقة بقدر كاف استجابوا له!.
ولا شكّ أن على هؤلاء أن يدفعوا ثمناً غالياً، لأنّهم خرجوا عن طوق التقليد الأعمى وحطموا أغلاله، وتحرروا عن محيطهم المنحرف، وعليهم أن يتحملوا الكثير من المشاكل والمتاعب في هذا السبيل ولكنّهم يتمتعون بصبر واستقامة في سبيل هدفهم الكبير ما يعينهم على تحمل تلك الشدائد والمصاعب..
فهؤلاء ليسوا حاقدين، ولا يردون السوء بالسوء، ولا هم بخلاء ولا خسيسون، ليجعلوا المواهب الإلهية خاصة بهم!.
إنّهم أناس عظام بعيدون عن الكذب والإنشغال غير الصحيح، والكلام
[257]
الفارغ الركيك، والمزاح وغيره.
لهم ألسنة طيبة وقلوب أطيب، ولا يضيعون طاقاتهم في الردّ على الجهلاء.. بل في كثير من الأحيان يفضلون السكوت على الكلام والردّ على الجهّال!.
ويفكرون في أعمالهم ومسؤولياتهم، ويمضون كأنهم الظماء إلى النبع. الظماء إلى العلم والمتشوّقون لحضور مجالس العلماء والفقهاء.
أجل هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم، ليؤتوا أجرهم.. لا مرّة واحدة، بل يؤتيهم الله أجرهم مرّتين بما صبروا!.
هؤلاء أمثال سلمان الفارسي والنجاشي وبحيرا الراهب الذين هم في خط واحد وفي جبهة واحدة، والذين بذلوا جهداً وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى "الإيمان".
ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) في هذا الصدد يقول: "نحن صُبر وشيعتنا أصبر منّا وذلك أنا صبرنا على ما نعلم وصبروا على ما لا يعلمون"
تأملوا لو أن شخصين من المؤمنين توجها إلى ميدان الجهاد، أحدهما يعلم بانتهاء الأمر وأن عاقبة جهاده النصر، والآخر لا يعلم، ألا يكون صبر الثّاني أكثر من صبر الأول؟!.
أو نقول ـ مثلا ـ أنّ القرائن تدل على أن كلا منهما سيشرب من كأس الشهادة، لكن أحدهما يعلم ما في شهادته من أسرار خفية وماذا ستحرك من أمواج على مدى الأعصار والقرون المتمادية، وأنّه سيكون أسوة وقدوة للأحرار... أمّا الثّاني فلا يعرف شيئاً عن ذلك، فلا شك أن الثّاني أصبر من الأوّل في هذا الصدد.
وفي حديث آخر ورد في تفسير علي بن ابراهيم قال: "اللغو" الكذب، "اللهو" الغناء، والمعرضون عن اللغو و"المتقون" هم الأئمّة(عليهم السلام) يعرضون عن
[258]
ذلك كلّه(1).
وواضح أنّ الحديثين من قبيل المصداق البارز، وإلاّ فإنّ مفهوم "اللغو" أوسع ويشمل غير ما ذكرنا، و"المعرضون عن اللغو" أيضاً هم جميع المؤمنين الصادقين، وإن كان الأئمّة(عليهم السلام) في طليعتهم!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القمي، ج 2، ص 142.
[259]
الآيتان
إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بَالْمُهْتَدِينَ(56) وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرتُ كُلِّ شَىْء رِّزْقاً مِّنْ لَّدُنَّا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُم لاَ يَعْلَمُونَ(57)
التّفسير
الهداية بيد الله وحده!..
بالرغم من أن بحوثاً كثيرة وروايات وردت في الآية الأُولى من هاتين الآيتين المتقدمتين وشأن نزولها، إلاّ أنّها ـ كما سنرى ـ روايات غير معتبرة ولا قيمة لها، حتى كأنّها رويت لأغراض ومقاصد خاصّة، ولذلك رأينا أن نفسّر الآية من القرآن نفسه ثمّ نعالج الرّوايات المشكوكة أو المجعولة.
ومع الإلتفات إلى أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين: طائفة من مشركي أهل مكّة المعاندين، كان رسول(صلى الله عليه وآله) شديد الإصرار على هدايتهم، لكنّهم لم يهتدوا ولم يذعنوا لنور الإيمان. وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكّة، تلقوا هداية الله برحابة صدر وبعشق وضحوا في سبيل الإسلام، وآثروا
[260]
على أنفسهم مصلحة الإسلام، ولم يكترثوا بعناد قومهم الجاهلين الأنانيين، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك!.
فمع الإلتفات إلى كل هذه الأُمور، نلاحظ أن الآية الأُولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).
فالله يعلم من هم الجديرون بالإيمان.. وأيّة قلوب تطلب الحقّ وهو يعرف العاشقين له.
أجل، هو يعرف هؤلاء ويوفقهم بلطفه ليسيروا نحو الإيمان.
أمّا الذين أظلمت قلوبهم وساءت سيرتهم وعادوا الحق في الخفاء ونهضوا بكل ماعندهم من قوة بوجه رسل الله، وقد تلوثت قلوبهم في حياتهم إلى درجة لم يكونوا جديرين بنور الإيمان فالله سبحانه لا يضع مصباح التوفيق في طريقهم أبداً.
إذن، وبناءً على ما تقدم، ليس المقصود من الهداية"إراءة الطريق"، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النّبي(صلى الله عليه وآله)، وتشمل جميع الناس دون استثناء، بل المقصود من الهداية هنا هو "الإيصال للمطلوب والهدف"، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد الله وحده، الذي يغرس الإيمان في القلوب، وليس هذا العمل اعتباطاً ودون حساب، فهو تعالى ينظر إلى القلوب المهيأة والمستعده ليهبها نور السماء!
وعلى كل حال، فإنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النّبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكّة، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.
فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى، فإن الله يقذف نوره في
[261]
القلوب المهيأة للنور ويبسط عليها خيمته!.
ونظير هذا المضمون كثير في آيات القرآن!.
إذ نقرأ في الآية (272) من سورة البقرة قوله تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).
وفي الآية (37) من سورة النمل (أن تحرص على هداهم فإنّ الله لا يهدي من يُضلّ).
وفي الآية (43) من سورة يونس (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون).
كما نقرأ أيضاً في الآية (4) من سورة إبراهيم ما هو بمثابة القانون العام (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).
فالآية الأخيرة تدلّ دلالة واضحة على أن المشيئة الإلهية في شأن هاتين الطائفتين "جماعة الهدى وجماعة الضلال" ليست دون حساب، بل هي طبقاً للجدارة واللياقة وسعي الأفراد أنفسهم... فالله يهب توفيقه على هذا الأساس، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويسلب الهدى ممن يشاء فيضلون السبيل.
وفي الآية الثّانية ـ من الآيتين محل البحث ـ يتحدث القرآن الكريم عن طائفة اعترفوا بالإسلام في واقعهم وأيقنت به قلوبهم، إلاّ أنّهم لم يظهروا إيمانهم بسبب منافع شخصية وملاحظات ذاتية، حيث يقول: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا)(1).
ورد في كتب التّفسير أن الذي قال: (إن نتبع الهدى معك) الخ.. هو "الحارث بن نوفل"، حيث قال للنّبي(صلى الله عليه وآله): إنّنا نعرف أن ما تقوله حق، لكن الذي يمنعنا من اتباعك والإيمان بك، خوفنا من هجوم العرب علينا ليطردونا من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة "معك" في الآية الآنفة متعلقة بـ "نتبع"، ويحتمل أن تكون كلمة "معك"متعلقة بـ "الهدى" ويكون التفاوت في المعنى يسيراً..
[262]
أرضنا، ولا طاقة لنا على ردّهم(1).
هذا الكلام لا يقوله إلاّ من يستضعف قدرة الله ويرى أن قدرة حفنة من العرب الجاهليين عظيمة!! وهذا الكلام لا يصدر إلاّ من قلب لا يعرف عناية الله وحمايته، ولا يعرف كيف ينصر الله أولياءه ويخذل أعداءه، لذلك يقول القرآن ردّاً على مثل هذه المزاعم (أو لم نمكّن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء(2)ولكن أكثر هم لا يعلمون).
الله الذي جعل هذه الأرض المالحة والمليئة بالصخور والخالية من الأشجار والأنّهار، جعلها حرماً تهفوا إليه القلوب، ويؤتى إليه بالثمرات من مختلف نقاط العالم، كل ذلك بيد قدرته القاهرة.
فإنّ من له هذه القدرة على اقرار "الامن" وجبابة "النعم" إلى هذا المكان وهؤلاء يرون ذلك بأعينهم، كيف لا يكون قارداً على أن يحفظكم من هجوم حفنة من الجاهليين عبّاد الأوثان؟!
فقد كنتم في زمان الكفر مشمولين بنعمتي الله العظيمتين "الأمن والمواهب المعاشية" فكيف يمكن أن يحرمكم الله منهما بعد الإسلام؟!
لتكن قلوبكم قوية وآمنو بما اُنزل اليكم فإنّ ربّ الكعبة وربّ مكّة معكم.
هنا، ينقدح هذا السؤال، وهو: إن التأريخ يدل على أن حرم مكّة لم يكن آمنا للمسلمين للغاية، ألم تعذب طائفة من المسلمين في مكّة؟ ألم يرموا النّبي(صلى الله عليه وآله)بالأحجار الكثيرة؟! ألم يقتل بعض المسلمين في مكّة؟! ألم يهاجر جماعة من المسلمين من مكّة مع جعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه) وجماعة آخرون مع النّبي(صلى الله عليه وآله) آخر الأمر لعدم الأمن في مكّة؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ـ ذيل الآية محل البحث...
2 ـ "يجبى" مشتق من مادة "جباية" ["ونمكن" في الآية بمعنى نجعل] والجبابة معناها الجمع، لذلك يطلق على الحوض الذي يجمع فيه الماء جابية...ونصبُ كلمة "حرم" على أنّها مفعول لنمكن.
[263]
فنقول جواباً على ذلك:
أوّلا: مع جميع هذه الأُمور ما تزال مكّة أكثر أمناً من النقاط الأُخرى.. وكان العرب يحترمونها ويقدسونها، وبالرغم من أنّهم كانوا يقدمون على جرائم متعددة في أماكن أُخرى، إلاّ أنّهم كانوا يحجمون عن الإتيان بمثلها في مكّة.
والخلاصة: فمع عدم الأمن العام والكلي كانت مكّة تتمتع بالامن النسبي ولاسيما أن الأعراب خارجها كانوا يراعون أمنها وقداستها.
ثانياً: صحيح أن هذه الأرض التي جعلها الله حرماً آمناً أضحت لفترة وجيزة غير آمنة على أيدي جماعة... إلاّ أنّها سرعان ما تحولت إلى مركز كبير للأمن وتواتر النعم الكثيرة المتعددة، فعلى هذا لم يكن تحمل هذه الصعاب المؤقتة من أجل الوصول للنعم العظيمة، أمراً عسيراً ومعقداً.
وعلى كل حال، فإنّ كثيراً ممن يقلقون على منافعهم الشخصية، كالحارث بن نوفل، لا يسلكون سبيل الهداية والإيمان... في حين أنّ الإيمان بالله والتسليم لأمره، لايؤمن المنافع المعنوية لهم فحسب، بل يؤمن لهم المحيط الصحيح والمنافع المادية المشروعة وما إلى ذلك. وعدم الأمن والغارات والحروب التي نجدها في عصر التمدن ـ كما يصطلح عليه ـ وفي الدنيا البعيدة عن الإيمان والهداية، كل هذه الأُمور شاهد حي على هذا المدّعى!.
ومن الضروري الإلتفات إلى هذه النقطة الأساسية، وهي أنّ الله سبحانه أوّل ما يذكر من نعمه نعمة الأمن، ثمّ يذكر جلب الثمرات والأرزاق وغير ذلك من جميع الأنحاء إلى مكّة، ويمكن أن يكون هذا التعبير مبيّناً هذا الواقع، وهو: طالما كان الأمن حاكماً في بلد كان اقتصاده جيداً، وإلاّ فلا، "قد بيّنا هذا الأمر في بحثنا للأية 35 سورة إبراهيم".
كما أنّ الجدير بالذكر أنّ "يجبى" جاءت على صيغة الفعل المضارع الذي يدل على الإستمرار في الحال والإستقبال، ونحن اليوم وبعد مرور أربعة عشر
[264]
قرناً، نرى بأم أعيننا مفهوم هذا الكلام واستمرار جباية جميع أنواع المواهب إلى هذه الأرض المباركة، فالذين يحجّون مكّة ويزورون بيت الله الحرام، يرون بأعينهم هذه الأرض الجرداء الحارة التي لا تنبت شيئاً، كم فيها من النعم! فكأن مكّة غارقة بها، ولعل أية نقطة من العالم ليس فيها ما في مكّة من هذه النعم الوفيرة.
* * *
ملاحظة
إيمان أبي طالب والضجيج حوله:
هذا الموضوع يبدو عجيباً لمن كان من أهل البحث والمطالعة.. فكيف يصرّ جماعة من رواة الأخبار على أن يزعموا أنّ أبا طالب(عليه السلام) عم النّبي كان مشركاً وغير مؤمن وأنّه مات كافراً!! وهو بإجماع المسلمين كان من الذين بذلوا تضحيات منقطعة النظير، وحمى نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله) وضحّى من أجله؟!
ولم لا يكون هذا الإصرار بالنسبة للآخرين الذين لا حظّ لهم في تأريخ الإسلام؟!
هنا نعرف أنّ المسألة ليست مسألة عادية.. ثمّ بأقل ملاحظة وتدقيق نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ وراء هذه البحوث التاريخية والروائية لعبة سياسيّة خطيرة من أعداء علي(عليه السلام) ومناوئيه! فقد كانوا يصرّون على سلب كل فضيلة له، حتى جعلوا أباه المضحّي والفادي للنبي والمؤثر له على نفسه يموت كافراً بزعمهم!!.
ومن المؤكّد أنّ بني أمية ومريديهم في عصرهم، وقبل أن يصلوا إلى دفة الحكومة، سعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لإثبات مدعاهم بالشواهد والحجج الواهية.
[265]
ونحن بقطع النظر عن هذه الأمواج السياسية المنحرفة والملوثة، التي هي بنفسها تستحق المطالعة من جهات متعددة... نبحث المسألة على أساس أنّها مسألة بنفسها تستحق المطالعة من جهات متعددة... نبحث المسألة على أساس أنّها مسألة تأريخية وتفسيرية بحتة، بشكل موجز ومضغوط (كما يقتضيه وضع الكتاب) ليتّضح أن ليس وراء هذا الضجيج أي سند معتبر، بل هناك شواهد حيّة ضده!.
1 ـ إن الآية محل البحث (إنّك لا تهدي من أحببت) ليس لها علاقة بأبي طالب كما بيّنا، وقلنا: إن الآيات التي جاءت قبلها تدل بصورة واضحة أنّها في شأن جماعة من أهل الكتاب المؤمنين،في مقابل مشركي مكّة.
الطريف أن الرازي الذي يزعم أن الآية نزلت في أبي طالب(عليه السلام) بإجماع المسلمين!! يصرّح بأن الآية ليس فيها أقل دلالة على كفر أبي طالب(1).
ولكن مع هذه الحال فلماذا يصرون فيها على أن يكون أبو طالب(عليه السلام)مشركاً؟ فهذه مسألة غريبة ومدعاة للدهشة!..
2 ـ وأهم دليل لديهم في هذا المجال أنّهم ادعوا إجماع المسلمين على أن أبا طالب مات مشركاً!.
في حين أن مثل هذا الإجماع كذب محض لا أساس له، وهو عار عن الصحة.
فالمفسّر المعروف "الآلوسي" ـ وهو من علماء السنة ـ صرح في تفسير روح المعاني أنّ هذه المسألة ليست إجماعية، وحكاية الإجماع من قبل المسلمين أو المفسّرين على أنّ الآية المتقدمة نزلت في أبي طالب تبدو غير صحيحة... لأنّ علماء الشيعة وجمع كثير من المفسّرين يعتقدون بإسلام أبي طالب، وادّعى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الإجماع على ذلك، إضافة إلى أن أكثر قصائد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 25، ص 3.
[266]
أبي طالب تشهد على إيمانه(1).
3 ـ التدقيق والبحث يدل على أن هذا الإجماع المزعوم هو من قبل أخبار الاحاد الذين لا اعتبار لهم، وفي سند هذه الروايات أفراد مشكوك فيهم كذابون.
ومن هذه الرّوايات ما نقله ابن "مردويه" بسنده عن ابن عباس أن آية (إنّك لا تهدي من أحببت) نزلت في شأن أبي طالب، وقدأصرّ النّبي(صلى الله عليه وآله) عليه أن يؤمن فلم يؤمن(2).
في حين أنّ في سند هذه الرواية "أبو سهل السري" الذي عرف بين كبار أصحاب علم الرجال بأنّه من الكذابين الوضّاع السارقين للحديث. كما أنّ في سند هذه الرّواية "عبد القدوس أبو سعيد الدمشقي" وهو من الكذابين أيضاً(3).
وظاهر تعبير الحديث يدل على أن ابن عباس ينقل هذا الحديث من غير واسطة وكان شاهداً على ذلك، في حين أنّنا نعرف أن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات، فعلى هذا كان لا يزال رضيعاً عندما مات أبو طالب(عليه السلام)... ومن هنا نستنتج أنّ واضعي الحديث حتى في هذا العمل كانوا مبتدئين وناشئين!!.
وهناك حديث آخر في هذا المجال ينقله "أبو هريرة" إذ يقول: حين دنت وفاة أبي طالب قال له النّبي(صلى الله عليه وآله): يا عم قل: لا إله إلاّ الله، لأشهد لك يوم القيامة عند الله بالتوحيد، فقال أبو طالب: لولا أن قريشاً تقول إن أبا طالب أظهر الإيمان حال الموت خوفاً، لكنت أشهد بالتوحيد وأقرّ عينيك، فنزل قوله تعالى: (إنّك لا تهدي من أحببت)(4).
ويبدو من ظاهر هذا الحديث أن أبا هريرة كان شاهداً على هذه القضية، في حين أنّنا نعرف أن أبا هريرة أسلم سنة فتح خيبر، بعد الهجرة بسبع سنين، فأين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روح المعاني، ج 2، ص 84 ذيل الآية محل البحث.
2 ـ الدر المنثور، ج 5، ص 133.
3 ـ الغدير، ج 8، ص 20.
4 ـ الدر المنثور، ج 5، ص 133.
[267]
أبو هريرة من وفاة أبي طالب التي حدثت قبل الهجرة...؟!!
وإذا قيل أن ابن عباس وأبا هريرة لم يكونا شاهدين على هذه القضية، وسمعا هذه القصّة من شخص آخر فإننا نسأل من هو هذا الشخص؟! فالذي نقل هذا الحديث لهذين الشخصين ـ إذاً ـ مجهول، ومثل هذا الحديث يعرف عند أهل الحديث بالمرسل، والجميع يعلمون بأن لا اعتبار للمراسيل!
ومن المؤسف أنّ جماعة من رواة الأخبار والمفسّرين نقلوا هذا الحديث بعضهم عن بعض دون تدقيق في كتبهم، وشيئاً فشيئاً كوّنوا إجماعاً لهذا الحديث! ولكن أيّ إجماع هذا؟ أم أي حديث معتبر!؟!
4 ـ وبعد هذا كلّه، فإنّ متن هذه الأحاديث الموضوعة يدل على أن أبا طالب(عليه السلام) كان مؤمناً بحقانية النّبي، غاية ما في الأمر لم يجر ذلك على لسانه لملاحظات خاصة... ونحن نعرف أن الإيمان هو بالقلب، وأمّا اللسان فهو طريق القلب، وفي بعض الأحاديث الإسلامية شبه أبو طالب بأصحاب الكهف الذين كانوا مؤمنين وإن لم يقدروا على إظهار الإيمان على ألسنتهم(1).
5 ـ ثمّ هل يمكن القناعة برواية مرسلة عن أبي هريرة أو ابن عباس في مثل هذه المسألة المهمة، فلم لا يؤخذ بإجماع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وإجماع علماء الشيعة، وهم أعرف بحال أُسرة النّبي وأهله!!
إنّنا اليوم نحتفظ بأشعار كثيرة لأبي طالب توضح إيمانه بالإسلام ورسالة النّبي (محمّد)(صلى الله عليه وآله)، وقد نقل هذه الأشعار طائفة من العلماء والأفاضل في كتبهم (وقد نقلنا طائفة منها في ذيل الآية 26 من سورة الأنعام من مصادر سنية معروفة)!.
6 ـ ومع غض النظر عن جميع ما تقدم، فإنّ تأريخ حياة أبي طالب وتضحياته العظيمة للنّبي(صلى الله عليه وآله) وعلاقة النّبي(صلى الله عليه وآله) والمسلمين الشديدة به إلى درجة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع في هذا الصددد تفسير الصافي وتفسير البرهان ذيل الآية محل البحث.
[268]
أنّ النّبي سمى عام وفاته بـ "عام الحزن" كل ذلك يدل على أنّه كان يعشق الإسلام، ولم يكن دفاعه عن النّبي على أنّه أحد أرحامه، بل دفاع رجل مؤمن مخلص وعاشق نظيف وجندي مضحٍّ عن قائده وإمامه.. فمع هذه الحالة، كم يبلغ الجهل والغفلة والظلم وعدم الشكر بطائفة أن تصرّ على أنّ هذا الرجل المخلص المؤمن الموحّد مات مشركاً(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هناك بحث مفصل أوردناه لدى تفسير الآية 36 من سورة الأنعام.
[269]
الآيات
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَـكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَرِثِينَ(58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـلِمُونَ(59) وَمَآ أُوتِيتُمْ مِّنْ شَىْء فَمَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(60)
التّفسير
لا تخدعنكم علائق الدنيا:
كان الحديث في الآيات المتقدمة يدور حول مايدعيه أهل مكّة، وقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا بهجوم العرب علينا، وتتكدر حياتنا ويختل وضعنا المعاشي والإقتصادي.. وقد أجابت الآيات السابقة على هذا الكلام بردٍّ بليغ.
وفي هذه الآيات مورد البحث ردّان آخران على كلامهم:
الأوّل: يقول.. على فرض أنّكم لم تؤمنوا، وحييتم في ظل الشرك مرفهين
[270]
ماديّاً، ولكن لا تنسوا أن تعتبروا بحياة من قبلكم (فكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها).
أجل، إنّ الغرور دعاهم إلى أن يبطروا من النعم، والبطر أساس الظلم، والظلم يجرّ حياتهم إلى النّار... (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلا).
بلى... بقيت بيوتهم خالية خربة متهدمة مظلمة لم يزرها ولم يسكنها أحد إلاّ لفترة قليلة (وكنّا نحن الوارثين).
فيا مشركي مكّة... أتريدون أن تعيشوا حياة البطر والكفر كما عاشه أُولئك، وتكون عاقبتكم كعاقبتهم، فأي نفع في ذلك؟!
كلمة "بطرت" مشتقّة من "بطر" على زنة "بشر" ومعناه الطغيان والغرور على أثر وفرة النعم.
والتعبير بـ "تلك" التي هي اسم إشارة للبعيد، وتستعمل غالباً للأُمور التي يمكن مشاهدتها، ويحتمل أن يكون المقصود بها أرض "عاد وثمود وقوم لوط" التي لا تبعد كثيراً عن أهل مكّة، وهي في أرض الأحقاف بين اليمن والشام، أو في وادي القرى، أو في أرض سدوم، وجميع هذه المناطق في مسير قوافل التجار العرب الذين كانوا يمضون من مكّة إلى الشام، وكانوا يرون تلك البيوت بأُم أعينهم خالية خاوية لم تسكن إلاّ قليلا.
وجملة (إلاّ قليلا) التي جاءت بصيغة الإستثناء، فيها ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأوّل: أن الإستثناء عن الساكنين.
والاحتمال الثّاني: أنّه عن المساكن.
والاحتمال الثّالث: أنّه عن السكن.
ففي الصورة الأُولى يكون مفهومها أن جماعة قليلة سكنتها "أي سكنت تلك المساكن".
وفي الصورة الثّانية يكون مفهومها أن فترة قليلة كان بها السكن في هذه
[271]
"المساكن" لأنّ من يسكن في هذه المساكن المشؤومة سرعان ما تنطوي فيها صفحة حياته.
وبالطبع فإنّ إرادة المعاني الثلاثة من النصّ السابق لا يوجد لنا أي مشكلة، وإن كان المفهوم الأوّل أظهر.
كما أن بعض المفسّرين قال: إنّ المقصود من هذه الآية هو الإشارة إلى السكن المؤقت للمسافرين الذاهبين والآيبين حيث يستريحون فيها لا أكثر، وفسرها آخرون بأنّها إشارة لسكن الحيوانات الوحشية.
والقدر المسلم به أن هذه المساكن التي كانت ملوّثة بالإثمّ والشرك أصبحت غير صالحة للسكن فهي خاوية وخالية!
والتعبير بـ (وكنا نحن الوارثين) إشارة إلى خلّوها من الساكنين، كما هي إشارة إلى أنّ مالكها الحقيقي هو الله سبحانه المالك لكل شيء، وإذا ما أعطى ملكاً "اعتبارياً" لأحد، فإنّه لا يدوم له طويلا حتى يرثه الله أيضاً.
والآية الثّانية في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، وهو: إذا كان الأمر كذلك، بأن يهلك الله الطغاة، فلم لم يهلك المشركين من أهل مكّة والحجاز، الذين بلغوا حدّاً عظيماً من الطغيان، ولم يكن إثم ولا جهل إلاّ وارتكبوه، ولم لم يعذبهم الله بعذابه الأليم؟
يقول القرآن في هذا الصدد (وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولا يتلوا عليهم آياتنا).
أجل.. لا يعذب الله قوماً حتى يتمّ عليهم حجّته ويرسل إليهم رسله، وحتى بعد إتمام الحجّة، فما لم يصدر ظلم يستوجب العذاب فإنّ الله لا يعذبهم، وهو يراقب أعمالهم، (وما كنا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون).
والتعبير بـ (ما كنّا) أو (وما كان ربك) دليل على أن سنة الله الدائمة والأبدية التي كانت ولا زالت، هي أن لا يعذب أحداً إلاّ بعد إتمام الحجة الكافية.
[272]
والتعبير بـ (حتى يبعث في أمّها رسولا) إشارة إلى عدم لزوم إرسال الرسل إلى جميع المدن، بل يكفي أن يبعث في مركز كبير من مراكزها التي تنشر العلوم والأخبار رسولا يبلغهم رسالاته! لأنّ أهل تلك المناطق في ذهاب وإياب مستمر إلى المركز الرئيسي، لحاجتهم الماسة، وما أسرع أن ينتشرالخبر الذي يقع في المركز إلى بقية الأنحاء القريبة والبعيدة، كما انتشرت أصداء بعثة النّبي(صلى الله عليه وآله)التي كانت في مكّة ـ وبلغت جميع أنحاء الجزيرة العربية في فترة قصيرة! لأنّ مكّة كانت أم القرى، وكانت مركزاً روحانياً في الحجاز، كما كانت مركزاً تجارياً أيضاً.. فانتشرت أخبار النّبي(صلى الله عليه وآله)، ووصلت جميع المراكز المهمّة في ذلك الحين وفي فترة قصيرة جدّاً.
فعلى هذا تبيّن الآية حكماً كلياً وعامّاً، وما يدّعيه بعض المفسّرين من أنّها إشارة إلى "مكّة" لا دليل عليه، والتعبير بـ (في أمّها) هو تعبير عام كلي أيضاً.. لأنّ كلمة "أم" تعني المركز الأصلي، ولا يختص هذا بمكّة فحسب(1).
وأخر آية من هذا المقطع محل البحث تحمل الردّ الثّالث على أصحاب الحجج الواهية، الذين كانوا يقولون للنّبي(صلى الله عليه وآله): (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) ويبعدنا العرب من ديارنا، وهو قوله تعالى: (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى) ممّا عندكم من النعيم الفاني.. إذ أنّ نعم الدنيا تشوبها الأكدار والمشاكل المختلفة، ولس من نعمة مادية خالية من الضرر والخطر أبداً.
إضافة إلى ذلك فإنّ النعم التي عند الله "الباقية" لا تقاس مع النعم الدنيوية الزائلة، فنعم الله ـ إذن ـ خير وأبقى!.
فبموازنة بسيطة يعرف كل إنسان عاقل أنّه لا ينبغي أن يضحي بنعم الآخرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في أن الآية هل تشمل المستقلات العقلية أم لا، بحثنا في ذلك بحثاً مناسباً في ذيل الآية (15) من سورة الإسراء.
[273]
من أجل نعم الدنيا، ولذلك تختتم الآية بالقول: (أفلا تعقلون)؟.
يقول "الفخر الرازي" نقلا عن أحد الفقهاء أنّه قال: لو أوصى أحد بثلث ماله إلى أعقل الناس، فإني أفتي أن يعطى هذا المال لمن يطيع أمر الله، لإن أعقل الناس من يعطي المتاع القليل، (الفاني) ليأخذ الكثير (الباقي) ولا يصدق هذا، إلاّ في من يطيع الله.
ثمّ يضيف الفخر الرازي.. قائلا: فكأنّما استفاد هذا الحكم من الآية محل البحث(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 25، ص 6.
[274]
الآيات
أَفَمَنْ وَعَدْنَـهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَـقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَـهُ مَتَـعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ مِنَ الْـمُحْضَرِينَ(61) وَيَومَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ(62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقوْلُ رَبَّنَا هَــؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَـهُمْ كَمَا غَوَيْنا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ(64)
التّفسير
أنّهم عبدَة الهوى:
كان الحديث في الآيات المتقدمة عن الذين فضّلوا الكفر على الإيمان بسبب منافعهم الشخصيّة ـ ورجّحوا الشرك على التوحيد، وفي الآيات التي بين أيدينا يبيّن القرآن حال هذه الجماعة يوم القيامة قبال المؤمنين الصادقين.
ففي بداية هذه الآيات يلقي القرآن سؤالا يقارن فيه بين المؤمنين
[275]
والكافرين، ويثير الوجدان ويجعله حكماً فيقول: (أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثمّ هو يوم القيامة من المحضرين ).
ولا شك أن وجدان يقظ يرجّح وعود الله و مواهبه العظيمة الخالدة، على نعم الدنيا التي لا تطول إلاّ أيّاماً و تتبعها آلام وشقاء خالد؟!
جملة (فهو لاقيه ) تأكيد على أن وعد الله لا يتخلف أبداً ولابدّ أن يكون كذلك، لأنّ تخلّف الوعد إمّا ناشىء عن الجهل أو العجز، وكلاهما مستحيل على ذات الله المقدسة.
وجملة (هو يوم القيامة من المحضرين ) إشارة إلى الإحضار في محضر الله يوم القيامة للحساب، وفسرها البعض بالإحضار في نار جهنّم، ولكن التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو، وعلى كل حال فإنّ هذا التعبير يدل بصورة واضحة على أنّ المجرمين يساقون مكرهين، وعلى غير رغبة منهم إلى تلك العرصات المخوفة، وينبغي أن يكون الأمر كذلك... لأنّ وحشة الحساب والقضاء يوم القيامة ومشاهدها تغمر وجودهم هناك!.
والتعبير بـ(الحياة الدنيا ) التي تكررت في سور مختلفة من القرآن الكريم، إشارة إلى حقارة هذه الحياة بالنسبة للحياة الأُخرى والخلود فيها وعدم الزوال والإضمحلال، لأنّ كلمة "دنيا" في الأصل مأخوذة من "دنو" على زنة "غلو" ومعناها القرب في المكان أو الزمان أو المنزلة والمقام، ثمّ توسّع هذا المفهوم ليطلق بلفظ "دنيا أو أدنى" على الموجودات الصغيرة التي تحت اليد في مقابل الموجودات الكبيرة، وقد يطلق هذا اللفظ على الموضوعات التي لا قيمة لها في مقابل الأشياء ذات القيمة العالية، وربّما استعمل في القرب في مقابل البعد. وحيث أن هذه "الحياة" في مقابل العالم الآخر صغيرة ولا قيمة لها وقريبة أيضاً، فإنّ تسميتها بالحياة الدنيا تسمية مناسبة جدّاً.
[276]
بعد هذا، يأتي الكلام عن عرصات يوم القيامة ومشاهدها ليجسّده أمام الكفار، مشاهد يقشعر منها البدن حين يتصورها الإنسان، فيقول القرآن: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ).
وبديهي أنّ هذا السؤال سؤال توبيخ وإهانة، لأنّ يوم القيامة يوم كشف الحجُب والأستار، فلا مفهوم للشرك، ولا المشركون في ذلك اليوم باقون على عقيدتهم و"شركهم".
فهذا السؤال في الحقيقة فيه نوع من الإهانة والتوبيخ والعقوبة!
ولكنّهم بدلا من أن يجيبوا بأنفسهم، فإنّ معبوديهم هم الذين يردّون الجواب، ويتبرؤون منهم، ويتنفرون من عبادة المشركين إيّاهم.
ونعرف أن معبودات المشركين وآلهتهم على ثلاثة أنواع: فإمّا أَن يكونوا أصناماً "وأحجاراً وخُشُباً" أو من المقدسين كالملائكة والمسيح، وإمّا أن يكونوا من الشياطين والجنّ. فالذين يردّون على السؤال ويجيبون هم النوع الثالث، كما حكى عنهم القرآن (قال الذين حقّ عليهم القول ربّنا هؤلاء الذين أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ).
فعلى هذا تكون الآية السابقة شبيهة بالآية (28) من سورة يونس إذ تقول: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ).
فعلى هذا يرد المعبودون الغواة على عبدتهم ويتبرؤون منهم، كما يبرأ فرعون ونمرود و الشياطين والجن من عبدتهم وقومهم ويتنفرون منهم، ويدافعون عن أنفسهم، حتى أنّهم ينسبون الضلالة لمن تبعهم ويقولون: إنّهم تبعونا طوعاً... الخ.
ولكن ـ من البديهي ـ ليس لهذا النفي أثر، ولا تنفع البراءة منهم، فالعابد
[277]
والمعبود معاً شريكان "في النّار"(1).
الطريف الذي يستلفت النظر، هو أنّ كل واحد من المنحرفين يتبرأ في ذلك اليوم من الآخر وكلٌ يسعى لأن يلقي تبعة ذنبه على صاحبه.
وهذا يشبه تماماً ما قد نراه في هذه "الدنيا" من اجتماع رهط على أمر ما حتى إذا وقعوا في مخالفة القانون، وأُلقي القبض عليهم، وأحضروا إلى المحكمة، يتبرأ كلّ واحد من الآخر ويلقي بعضهم الجريمة على صاحبه، فهكذا هي عاقبة المنحرفين والضالين في الدنيا والآخرة!
كما نجد مثل هذا في الآية (22) من سورة إبراهيم (وقال الشيطان لما قُضي الأمر أنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فاخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ).
ونقرأ في الآية (30) من سورة الصافات في شأن المشركين الذين يتحاجون في يوم القيامة مع أتباعهم فيقولون: (وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين ).
وعلى كل حال، فتعقيباً على السؤال عن آلهتهم. وعجز المشركين عن الجواب. يطلب أن يدعوهم لنصرتهم (وقيل ادعوا شركاءكم )(2).
وحيث يعلم المشركون أن دعاءهم غير نافع، وأن المعبودين "الشركاء" لايمكن أن يفعلوا شيئاً من شدّة الهلع والوحشة، أو استجابة لأمر الله الذي يريد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ويحتمل في الآية الآنفة ـ أيضاً ـ أَنّ القائلين جواباً على سؤال الله هم رؤوساء المشركين "أي جماعة من عبدة الأصنام" فهم من أجل أن يفروا عن الجواب يتحدثون عن أتباعهم، ويقولون: ربّنا إنّنا غوينا فمضينا في طريق الشرك، وهؤلاء اتبعونا طوعاً فأغويناهم، ولكنّهم لم يطيعونا "العبادة في الآية الآنفة معناها الطاعة" وإنّما اطاعوا هواهم، ولكن التّفسير السابق أظهر.
2 ـ التعبير بـ "شركاءكم" مع أن هؤلاء الشركاء كانوا قد جعلوا شركاء الله سبحانه، هو اءشارة إلى أنّ هؤلاء الشركاء من صنعكم وهم متعلقون بكم لا بالله...
[278]
أَن يفضح المشركين والشركاء أمام أعين الخلق، يتوجهون إلى الشركاء ويدعونهم كما يقول القرآن الكريم: (فدعوهم ).
ومن الواضح أنّه لا أثر لهذا النداء والطلب، ولا يقال لهم "لبيك".. (فلم يستجيبوا لهم ).
فحينئذ لا ينفعهم شيء (ورأوا العذاب ).
ويتمنون (لو أنّهم كانوا يهتدون! ). (1)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحث المفسّرون في الآية (لو أنّهم كانوا يهتدون ) بحوثاً شتى، فكثير منهم قالوا بأن "لو" حرف شرط هنا، فبحثوا عن الجزاء، فقالوا: يستفاد من جملة (رأوا العذاب ) وتقدير الجملة يكون هكذا: "لو أنّهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب في الدنيا بعين اليقين".
وهذا يشبه قوله تعالى (لترون الحجيم ) في سورة التكاثر الآية السادسة.
كما يرى البعض أن التقدير هكذا (لو أنّهم كانوا يهتدون في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة ).
وزعم بعضهم أن الجزاء غير ما تقدم "يطول بها البحث هنا".
لكنّ بعضهم يعتقد أن جواب الشرط "الجزاء" غير محذوف أساساً، وجملة (ورأوا العذاب ) هي الجواب المتقدم، وما بعده جملة الشرط، فيكون المعنى هكذا: (لو كانوا يرون ويهتدون لرأوا العذاب لكنّهم لم يهتدوا )!...
لكن وراء كل هذه المعاني معنى آخر ذكرناه في بيان الآية آنفاً، وهو أن نفسر معنى لو بـ "تمنّوا، فلا بأس بمراجعة الكتب اللغوية والأدبية "كمغني اللبيب" وغيره!.
[279]
الآيات
وَيُوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَت عَلَيْهِمُ الا،َنبَآءُ يَوْمَئِذ فَهُم لاَ يَتَسَآءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـلحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَـنَ اللهِ وَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)وَهُوَ اللهِ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاُْولَى وَالاْخِرَةِ وَلَهُ الْحكمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
التّفسير
تعقبُ الآيات محل البحث، على ما كان في الآيات السابقة في شأن المشركين وما يسألون يوم القيامة.
فبعد أن يُسألوا عن شركائهم ومعبوديهم، يسألون عن مواقفهم وما أبدوه من عمل إزاء أنبيائهم (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ).
ومن المسلم به أنّ هؤلاء "المشركين" لا يملكون جواباً لهذا السؤال، كما لم يملكوا للسؤال السابق جواباً.
[280]
تُرى: أيقولون بأنّنا لبيّنا دعوة المرسلين؟ فهذا كذب محض! والكاذب خاسر في ذلك اليوم، أم يقولون بأنّنا كذّبناهم، واتهمناهم، وقلنا لهم بأنّكم سحرة ومجانين وحاربناهم وقتلناهم مع اتباعهم؟...
ما عسى أن يقولوا هناك؟! فكلّ ما يقولون كاشف عن فضيحتهم وشقائهم!. حتى أَنّ الانبياء والمرسلين في ذلك اليوم يجيبون ربّهم حين يسألون (ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنّك أنت علاّم الغيوب ).(1)
ما الذي يقوله في ذلك اليوم وفي ذلك المكان عمي القلوب من المشركين؟!
لذلك يكشف القرآن عن حالهم هناك فيقول: (فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ) أي يسأل بعضهم بعضاً ولا يعرفون جواباً!.
والذي يستلفت النظر أن العمى نسب في الآية للأنباء لا للمشركين فلا يقول عمي المشركون هناك بل يقول: "عميت عليهم الأنباء".. لأنّه كثيراً ما يحدث أن يكون الإنسان غير عالم بالخبر، لكنّه يصله بانتشاره على أفواه الناس، كما يتفق لنا أن نكون جاهلين بالشيء أحياناً فنعرف به حين ينتشر بين المجتمع، لكن في يوم القيامة، لا الناس مطّلعون، ولا الأخبار تنتشر!.
فعلى هذا تعمى الأخبار، فلا يملكون جواباً هناك على قوله تعالى: (ماذا أجبتم المرسلين ) فيحيط بهم الصمت من قرنهم إلى أقدامهم.
وحيث أنّ اُسلوب القرآن هو ترك الأبواب مفتوحة بوجه الكافرين والآثمين دائماً، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الحق في أي مرحلة كانوا من الإثم، فإنّه يضيف في الآية التي بعدها: (فأمّا من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين ).
فسبيل النجاة ـ حسب ما يوضحه القرآن ـ يتلخّص في ثلاث جمل هي العودة والتوبة إلى الله، والإيمان، والعمل الصالح، وعاقبتهما النجاة والفلاح حتماً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المائدة، الآية 109.
[281]
والتعبير بعسى "من أفعال الرجاء" مع أن الذي آمن وعمل صالحاً فهو من أهل الفلاح حتماً ـ ربّما كان لأنّ الإيمان والعمل الصالح مشروطان بالبقاء والدوام عليهما، وحيث أن التائبين لا يبقى جميعهم على التوبة، بل قد يعود بعضهم لعمله السابق، عبر القرآن بقول: (فعسى ).. ألخ.
قال بعض المفسّرين: التعبير بـ"عسى" حين يكون من شخص كريم، فإنّه يدل على المفهوم القطعي، والله سبحانه أكرم الأكرمين.
والآية التي بعدها في الحقيقة دليل على نفي الشرك وبطلان عقيدة المشركين، إذ تقول: (وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة )(1).
فالخلق بيده، والتدبير والإختيار بيده أيضاً، وهو ذو الإرادة، وليس لأحد سواه أن يفعل ما يشاء، فكيف بالأصنام؟!
فاختيار الخلق بيده، والشفاعة بيده، وإرسال الرسل بيده أيضاً. والخلاصة أنّ اختيار كل شيء متعلق بمشيئته وإرادته المقدسة، فعلى هذا لا يمكن للأصنام أن تعمل شيئاً، ولا حتى الملائكة والأنبياء، إلاّ أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى!
وعلى كل حال فإطلاق الإختيار دليل على عموميته.. بمعنى أن الله سبحانه صاحب الإختيار في الأُمور التكوينية والأُمور التشريعية أيضاً.. فجميعها يتعلقان به.
فمع هذه الحال، كيف يسلك هؤلاء طريق الشرك ويتجهون نحو غير الله؟ لذلك فإنّ الآية تنزه الله عن الشرك وتقول: (سبحان الله وتعالى عمّا يشركون ).
وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) فُسرت الآية المتقدمة باختيار الأئمّة المعصومين من قبل الله سبحانه ـ وجملة (وما كان لهم الخيرة ) أيضاً وردت في هذا المعنى، وهي في الواقع من قبيل بيان المصداق الواضح، لأنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "ما" في جملة "ما كان لهم الخيرة" نافية، ولكن البعض يحتمل أنّها موصولة ومعطوفة على المفعول المحذوف "ليختار" لكن هذا الإحتمال بعيد جداً...
[282]
مسألة حفظ الدين والمذهب واختيار القائد المعصوم لأجل هذا الهدف، لا تكون إلاّ من قِبَل الله تعالى(1).
أمّا الآية التي بعدها فتتحدث عن علم الله الواسع، وهي في الحقيقة تأكيد أو دليل على الإختيار الواسع في الآية السابقة، إذ تقول هذه الآية: (وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون ).
فإحاطته بكل شيء دليل على اختياره لكل شيء، كما هي ـ ضمناً ـ تهديد للمشركين، لئلا يظنوا أن الله غير مطلع على سرائرهم ونيّاتهم و"مؤامراتهم".
والآية الأخيرة من هذا المقطع ـ هي نتيجة الحكم، وتوضيح للآيات السابقة في مجال نفي الشرك، وهي ذات أربعة أوصاف من أوصاف الله، وجميعها فرع على خالقيته واختياره.
فالأول: أنّه (هو الله لا إله إلاّ هو ).
فكيف يمكن أن يكون معبود آخر سواه، وهو الخالق وحده وجميع الإختيارات بأمره وبيده. فمن يتوسل بالأصنام لتشفع له عند الله فهو من المضلين الخاطئين.
والثّاني: أن جميع النعم دنيويةً كانت أم أُخروية هي منه، وهي من لوازم خالقيته المطلقة، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد (له الحمد في الأُولى وفي الآخرة ).
الثّالث: أنّه (وله الحكم ) فهو الحاكم في هذا العالم، وفي العالم الآخر.
والرّابع: (وإليه ترجعون ) للحساب والثواب والعقاب.
فالله الخالق، وهو المطّلع، وهو الحاكم يوم الجزاء، وبيده الحساب والثواب والعقاب.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اصول الكافي. وتفسير علي بن إبراهيم "طبقاً لتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 136".
[283]
الآيات
قُلْ أَرَأَيْتُمْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ مَنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيآء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ مَنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْل تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة شَهِيداً فَقُلْنا هَاتُوا بُرْهَـنَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ للهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُوايَفْتَرُونَ (75)
التّفسير
نعمتا "الليل والنهار" العظيمتان:
هذه الآيات ـ محل البحث ـ تتحدث عن قسم كبير من مواهب الله سبحانه، التي تدل على التوحيد ونفي الشرك من جهة، كما أنّها تكمّل البحث السابق..
[284]
وتذكر مثلا للنعم التي تستوجب الحمد والثناء.. الحمد المشار إليه في الآيات المتقدمة، كما هي في الوقت ذاته شاهد على اختيار الله وتدبيره في نظام الخلق من جهة أُخرى!.
ففي الآية الأُولى من هذه الآيات إشارة إلى نعمة النهار والنور الذي هو أساس لأية حركة، فتقول الآية: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون )(1).
هنا عبر عن النهار بالضياء، لأنّ الهدف الأصلي من النهار هو الضياء والإنبلاج، ذلك الضياء الذي تتعلق به حياة كل الموجودات الحية، فلولا ضياء الشمس لما تنسمت "زهرة" ولانمت "شجرة" ولا طار "طائر" ولا بقي "إنسان" ولا هطل مطر.
"السرمد" معناه الدائم المتواصل، ويرى البعض بأنه المتتابع، وأصله "سرد" ويرون أن ميمها زائدة.. لكن الظاهر أنّها كلمة مستقلة تعطي معنى الدوام والاستمرار.(2)
كما تتحدث الآية الأُخرى عن نعمة الظلمة فتقول: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ).
أمّا الآية الثّالثة فتحكي عن نتيجة النعمة المشار إليها في الآيتين السابقتين فيقول (من رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون )
أجل، إنّ سعة رحمة الله تستوجب أن تضمن جميع عوامل حياتكم، فأنتم ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "أرأيتم" جملة تأتي بمعنى "أخبروني" عادةً، كما فسّروها، ولكن كما قلنا سابقاً تأتي أحياناً بمعنى: هل علمتم؟!
2 ـ قال أهل اللغة: إن كلمة "سرمدى" تطلق على ما ليس له بداية ولا نهاية، و "الأزلي" ما ليس له بداية، و"الأبدي" ما ليس له نهاية...
[285]
من جانب ـ بحاجة إلى السعي والحركة، وكل ذلك لابدّ لهما من الليل!
لقد ثبت ـ في هذا العصر ـ علميّاً أن جميع أجهزة البدن تكون فعالةً ونشطة مع وجود النور، إذ تنشط الحركة الدموية والجهاز التنفسي وحركة القلب وسائر الأجهزة، وإذا استمر النور أكثر من المعتاد تعبت خلايا الجسم وتحول النشاط إلى خمول!
وبالعكس فإنّ الخلايا تهدأ في الليل وتستريح استراحة عميقة تستعيد نشاطها وقواها "شرحنا هذا المعنى في الجزء السادس ذيل الآية 67 من سورة يونس و الآية (12) من سورة الاسراء"،
الطريف هنا أن الآية حين تتحدث عن سرمديّة الليل تخاطب الناس قائلةً: (أفلا تسمعون )... وحين تتحدث عن سرمدية النهار تخاطبهم قائلة: (أفلا تبصرون ) ولعل هذا التعبير لأجل أَن الحسّ المناسب لليل هو السمع والأذن، وما يناسب النهار هو البصر والعين.. إلى هذه الدرجة نلاحظ الدقّة في القرآن الكريم.
كما أنّ من الجدير الإلتفات إلى أنَّ الآية هنابعد ذكر مسألتي السمع والبصر أو الليل والنهار، تختتم الحديث بالقول: (لعلكم تشكرون ) الشكر إزاء النظام المحسوب النور والظلمة، الشكر الذي يوصل الإنسان إلى معرفة المنعم والشكر الذي يكون باعثاً على الإيمان في المباحث الإعتقادية!.
ومرّة أُخرى ـ بعد ذكر جانب من دلائل التوحيد ونفي الشرك ـ يعود القرآن الكريم على السؤال الأوّل الذي أثير في الآيات السابقة ليقول: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ).
وهذه الآية مكررة في السورة نفسها، إذ وردت بنصّها في الآية 62، ولعل هذا التكرار ناشىء عن السؤال مرتين في يوم القيامة، مرّة بصورة انفرادية ليعودوا إلى وجدانهم فيخجلوا من أنفسهم، ومرّة بصورة عامّة في محضر الشهود، وهو ما أشير إليه في الآية التي بعدها.. ليخجلوا أيضاً من حضورهم.
[286]
لذلك تأتي الآية التي بعدها فتقول: (ونزعنا من كل أمة شهيداً(1) فقلنا هاتوا برهانكم ) أيّها المشركون الضالون.
وحين تنكشف المسائل وتتجلى الأُمور لا تبقى خافية (فعلموا أن الحق الله وضل عنهم ما كانوا يفترون ).
هؤلاء الشهود هم الأنبياء بقرينة الآيات الأُخرى في القرآن، إذ أن كل نبي شاهد على أمته، ونبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله) الذي هو خاتم الأنبياء هو شهيد على جميع الأنبياء والأُمم، كما نقرأ ذلك في الآية (41) من سورة النساء (فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ).
فعلى هذا، ينعقد يوم القيامة مجلس كبير بحضور الأنبياء، ويؤتى بالمشركين المعاندين عمي القلوب، وهناك يعرفون الفاجعة العظمى للشرك، وحقانية الله، وضلال الأصنام... بجلاء.
ومن الطريف أن القرآن يعبر بـ (ضل عنهم ما كانوا يفترون ) أي إن تصوراتهم واعتقاداتهم في الأصنام تمحى عنهم يوم القيامة، لأنّ عرصة القيامة عرصة الحق، ولا مكان للباطل هناك، فالباطل يضل هناك ويمحى من الوجود!.
فإذا كان الباطل يغطي وجهه هنا (في هذا العالم) بستار من الحق ليخدع الناس أيّاماً، فهناك تنكشف الحجب ولا يبقى سوى الحق.
نقرأ في رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير (ونزعنا من كل أمّة شهيداً )قوله: "ومن هذه الأُمة إمامها" (2).
وهذا الكلام إشارة إلى أنّه لابدّ في كل عصر وزمان من شاهد معصوم للأُمة، والحديث آنف الذكر من قبيل بيان مصداق هذا المفهوم القرآني.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التعبير بـ "نزعنا" التي تعني جذب الشيء من مقرّه، هي إشارة إلى إحضار الشهود من بين كل جماعة وأُمة...
2 ـ تفسير الميزان، ج 16، ص 20.
[287]
الآيات
إِنْ قَـرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَـهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ اءِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللهُ الدَّارَ الاَْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ إليْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاْرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَآ أُوْتِيتُهُ عَلَى عِلْم عِندِى أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونَ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْـمجُرِمُونَ (78)
التّفسير
الثّري الاسرائيلي البخيل:
جاء تفصيل قصّة موسى(عليه السلام) العجيبة ومواجهاته ومواقفه مع فرعون في قسم كبير من الآيات السابقة في هذه السورة.. وذكرنا الأقوال فيها، وكان الكلام إلى حد ما كافياً عليها.
وفي القسم الآخر من آيات هذه السورة، وقع الكلام على مواجهة بني
[288]
إسرائيل مع رجل ثري منهم يدعى "قارون".
قارون هذا كان مظهراً للثراء المقرون بالكبر والغرور والطغيان.
وأساساً، فإنّ موسى(عليه السلام) واجه في طول حياته ثلث قوى استكبارية طاغوتية:
1 ـ "فرعون" الذي كان مظهراً للقوّة "والقدرة في الحكومة".
2 ـ "قارون" الذي كان مظهراً للثروة والمال!
3 ـ "السامري" الذي كان مظهراً للنفاق والصناعة.
وبالرغم من أنّ أهم مواجهات موسى(عليه السلام) هي مواجهته لفرعون و"حكومته" إلاّ أَنّ مواجهتيه الأخيرتين لهما أهميّة كبيرة أيضاً، وفيهما دروس ذات عبر ومحتوى كبير!.
المعروف أن "قارون" كان من أرحام موسى و أقاربه "ابن عمه أو ابن خالته" وكان عارفاً بالتوراة، وكان في بداية أمره مع المؤمنين، إلاّ أنّ غرور الثروة جرّه إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسى(عليه السلام) وأماته ميتة ذات عبرة للجميع، حيث نقرأ شرح ذلك في الآيات التالية:
يقول القرآن في شأنه أوّلا: (إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم )وسبب بغيه وظلمه إنّه كان ذا ثروة عظيمة، ولأنّه لم يكن يتمتع بايمان قوي وشخصية متينة فقد غرّته هذه الثروة الكبيرة وجرّته إلى الإنحراف والإستكبار.
يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول: (وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة ).
"المفاتح" جمع "مفتح" على زنة "مكتب" معناه المكان الذي يدخّر فيه الشيء، كالصندوق الذي يحفظ فيه المال، وهو ما يسميه بعض التجار بـ "القاصة".
فيكون المعنى: إنّ قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضّة، بحيث
[289]
كان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء (أولي القوّة ).
ومع ملاحظة كلمة "عصبة" التي تعني الجماعة المُتآزرة يداً بيد على الأمر المهم، يتّضح حجم الذهب والفضة والمعادن الثمينة التي كانت عند قارون، قال بعضهم: العصبة هي من عشرة رجال إلى أربعين رجلا.
وكلمة "تنوء" مشتقّة من "النوء" ومعناه القيام بمشقّة وثقل، وتستعمل في حمل الاثقال التي لها ثقل ووزن كبير، بحيث لو حملها الإنسان لمال إلى أحد جانبيه!.
وهذا الذي بيّناه في "المفتاح" اتفق عليه جماعة من المفسّرين.
في حين أنّ بعضهم يرى أنّها جمع "مفتح" على زنة "مِنْبَر" وهو المفتاح الذي تفتح به الخزائن، يقولون: إن خزائن قارون كانت من الكثرة إلى درجة إن مفاتيحها ينوء بحملها الرجال الأشداء.
والذين ذهبوا إلى هذا المعنى أتعبوا أنفسهم كثيراً في توجيهه، إذ كيف يمكن تصور عدد هذه "المفتاح" بشكل هائل حتى لا يمكن حملها إلاّ بمشقّة وعناء بالغين.. وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر وأوضح بياناً. لأنّنا وإن سلّمنا على أن "مِفتَح، بكسر الميم" تعني آلة الفتح أي "المفتاح" فإنّ أهل اللغة ذكروا لهذا الوزن (مِفتَح) معاني أُخرى منها "الخزانة" التي يجمع فيها المال، فالمعنى الأوّل أقرب للواقع وبعيد عن المبالغة. فلا ينبغي الخلط بين "المفاتح" التي تعني الخزائن. و"المفاتيح" التي تعني آلات الفتح، وهي جمع "مفتاح"(1).
فلنتجاوز هذا البحث لنرى ما قال بنوا إسرائيل لقارون، يقول القرآن في هذا الصدد: (إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحبّ الفرحين (2)).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فسّر بعضهم "المفتاح" تفسيراً آخر، وهو أنّ الإتيان بالمفتاح لحفظ الأموال وجمعها كان صعباً على الرجال الأشداء، ولكن هذا التفسير بعيد جدّاً "فلا بأس بمراجعة لسان العرب لزيادة الإيضاح".
2 ـ كلمة "الفرحين" جمع الفرح، وتعني من يكون مغروراً على أثر تملكه الشيء ومتكبراً بطراً منتشياً من ريح النّصر.
[290]
ثمّ يقدمون له أربع نصائح قيّمة أُخرى ذات تأثير مهم على مصير الإنسان، بحيث تتكامل لديه حلقة خماسية من النصائح مع ما تقدم من قولهم له: (لا تفرح )
فالنصيحة الأُولى قولهم له: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) وهذا إشارة إلى أن المال والثروة ليس أمراً سيئاً كما يتصوره بعض المتوهّمين، المهم أن تعرف فيم يستعمل المال، وفي أي طريق ينفق، فإذا ابتغي به الدار الآخرة فما أحسنه! أو كان وسيلة للعب والهوى والظلم والتجاوز، فلا شيء أسوأ منه!
وهذا هو المنطق الذي ورد على لسان أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلام معروف "من أبصر بها بصَّرته ومن أبصر إليها أعمته" (1).
وكان قارون رجلا ذا قدرة على الأعمال الإجتماعية الكبيرة بسبب أمواله الطائلة، ولكن ما الفائدة منها وقد أعماه غروره عن النظر إلى الحقائق.
والنصيحة الثّانية قولهم له: (ولا تنس نصيبك من الدنيا ) والآية تشير إلى مسألة واقعيّة، وهي أنّ لكل فرد منّا نصيباً من الدنيا، فالأموال التي يصرفها على بدنه وثيابه ليظهر بمظهر لائق هي أموال محدودة، وما زاد عليها لا تزيد مظهره شيئاً، وعلى الإنسان أن لا ينسى هذه الحقيقة!... فالإنسان... كم يستطيع أن يأكل من الطعام؟ ولم يستطيع أن يلبس من الثياب؟ وكم يمكن أن يحوز من المساكن والمراكب؟! وإذا مات وكم يستطيع أن يأخذ معه من الأكفان؟!
فالباقي ـ إذن ـ رضي أم أبى هو من نصيب الآخرين.
وما أجمل قول الإمام علي(عليه السلام) : "يابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك" (2).
وهناك تفسير آخر لهذه الجملة في الرّوايات الإسلامية وكلمات المفسّرين،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، خطبة 82.
2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار جملة 192.
[291]
ويمكن التوفيق بين هذا التّفسير والتّفسير السابق (لأنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى جائز).
إذ ورد في تفسير (ولا تنس نصيبك من الدنيا ) عن الإمام علي ابن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: "لا تنس صحتك وقدرتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب بها الآخرة" (1).
وطبقاً لهذا التّفسير فالعبارة المتقدمة بمثابة التنبيه لجميع الناس، لئلا يضيعوا أوقاتهم وفرصهم فإنّها تمر مرّ السحاب.
والنصيحة الثّالثة هي (وأحسن كما أحسن الله إليك ).
وهذه حقيقة أُخرى، وهي أَن الإنسان يرجو دائماً نعم الله واحسانه وخيره ولطفه، وينتظر منه كل شيء. فبمثل هذه الحال كيف يمكن له التغاضي عن طلب الآخرين الصريح أو لسان حالهم.. وكيف لا يلتفت إليهم!.
وبتعبير آخر: كما أنّ الله تفضل عليك وأحسن، فأحسن أنت إلى الناس.
وشبيه هذا الكلام نجده في الآية (22) من سورة النور في شأن العفو والصفح، إذ تقول الآية: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ).
ويمكن تفسير هذه الجملة بتعبير آخر، وهو أنّ الله قد يهب الإنسان مواهب عظيمة لايحتاج إليها جميعاً في حياته الشخصيّة فقد وهبه العقل والقدرة التي لا تدير فرداً واحداً فحسب، بل تكفي لإدارة بلد أيضاً ووهبه علماً لا يستفيد منه إنسان واحد فقط، بل ينتفع به مجتمع كامل.
أعطاه مالا وثروة لتنفيذ المناهج الإجتماعية.
فهذه المواهب الإلهية مفهومها الضمني أنّها لا تتعلق بك وحدك ـ أيّها الإنسان ـ بل أنت وكيل مخوّل من قبل الله لنقلها إلى الآخرين، أعطاك الله هذه المواهب لتدير بها عباده!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ معاني الأخبار، مطابق تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 139.
[292]
والنصيحة الرابعة والأخيرة أن لا تغرنّك هذه الاموال والامكانات المادية فتجرّك الى الفساد. (ولا تبغ الفساد في الآرض إنّ الله لا يحبّ المفسدين ).
وهذا أيضاً حقيقة واقعية أُخرى، إنّ كثيراً من الأثرياء وعلى أثر جنون زيادة المال ـ أحياناً ـ أو طلباً للاستعلاء، يفسدون في المجتمع، فيجرّون إلى الفقر والحرمان، ويحتكرون جميع الأشياء في أيديهم، ويتصورون أنّ الناس عبيدهم ومماليكهم، ومن يعترض عليهم فمصيره الموت، وإذا لم يستطيعوا إتهامه أو الإساءة إليه بشكل صريح، فإنّهم يجعلونه معزولا عن المجتمع بأساليبهم وطرائقهم الخاصة...
والخلاصة: إنّهم يجرون المجتمع إلى الفساد والإنحراف.
وفي كلام جامع موجز نصل إلى أن هؤلاء الناصحين سعوا أولا إلى أن يكبحوا غرور قارون!.
ثمّ نبهوه أَن الدنيا إنّما هي وسيلة ـ لا هدف ـ في مرحلتهم الثّانية.
وفي المرحلة الثّالثة أنذروه بأن ما عندك تستفيد من قسم قليل منه، والباقي لغيرك.
وفي المرحلة الرابعة أفهموه هذه الحقيقة، وهي أن لا ينسى الله الذي أحسن إليه فعليه أن يحسن إلى الآخرين.. وإلاّ فإنّهُ يسلب مواهبه منك.
وفي المرحله الخامسة حذروه من أن مغبة الفساد في الأرض الذي يقع نتيجة نسيان الأصول الأربعه آنفة الذكر.
وليس من المعلوم بدقّة من هم الناصحون لقارون يومئذ ولكن القدر المسلم به أنّهم رجال علماء متقون، أذكياء، ذوو نجدة وشهامة، عارفون للمسائل الدقيقة الغامضة!.
ولكن الاعتقاد بأنّ الناصح لقارون هو موسى(عليه السلام) نفسه بعيد جدّاً، لأنّ القرآن يعبّر عن من قدم النصح بصيغة الجماعة (إذ قال له قومه ).
[293]
والآن لنلاحظ ما كان جواب هذا الإنسان الباغي والظالم الإسرائيلي لجماعته الواعظين له!.
فأجابهم قارون بتلك الحالة من الغرور والتكبر الناشئة من ثروته الكبيرة، و(قال إنّما أوتيته على علم عندي ).
هذا لا يتعلق بكم، وليس لكم حق أن ترشدوني إلى كيفية التصرف بمالي، فقد أوجدته بعلمي وإطلاعي.
ثمّ إنّ الله يعرف حالي ويعلم أنّي جدير بهذا المال الذي أعطانيه، وعلمني كيف أتصرف به، فلا حاجة إلى تدخلكم!.
وبعد هذا كله فقد تعبت وبذلت جهوداً كبيرة في سبيل جمع هذا المال، فإذا كان الآخرون جديرين بالمال، فلم لا يتعبون ويجهدون أنفسهم؟ فلست مضايقاً لهم، وإذا لم يكونوا جديرين، فليجوعوا وليموتوا فهو أفضل لهم(1).
هذا المنطق العفن المفضوح طالما يردده الأثرياء الذين لا حظّ لهم من الإيمان أمام من ينصحهم.
وهذه اللطيفة جديرة بالإلتفات وهي أن القرآن لم يصرّح بالعلم الذي كان عند قارون وأبقاه مبهماً، ولم يذكر أي علم كان عند قارون حتى استطاع بسببه على هذه الثروة الطائلة!.
أهو علم الكيمياء، كما فسّره بعضهم.
أم هو علم التجارة والصناعة والزراعة.
أم علم الإدارة الخاص به، الذي استطاع بواسطته أَن يجمع هذه الثروة العظيمة.
أم جميع هذه العلومِ!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جملة (إنّما أوتيته على علم عندي ) تصلح للمعاني الثلاثة المتقدمة جميعاً، كما أنّها تصلح لاي واحد منها كما فسروا (فتأملوا بدقّة) .
[294]
لا يبعد أن يكون مفهوم الآية واسعاً وشاملا لجميع هذه العلوم "بالطبع بصرف النظر عن أَن علم الكيمياء علم يستطاع بواسطته قلب النحاس وأمثاله ذهباً، وهل هو خرافة أم حقيقة واقعية"؟
وهنا يجيب القرآن على قول قارون وأمثاله من المتكبرين الضالين، فيقول: (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوّة وأكثر جمعاً ).
أتقول: (إنّما أوتيته على علم عندي ) ونسيت من كان أكثر منك علماً وأشدّ قوّة وأثرى مالا، فهل استطاعوا أن يفروا من قبضة العذاب الإلهي؟!
لقد عبّر اولو الالباب والضمائر الحيّة عن المال بقولهم لقارون: (ما آتاك الله )، ولكن هذا الغافل غير المؤدّب ردّ على قولهم بأنّ ما عنده من مال فهو بواسطة علمه!!
لكن الله سبحانه عبّر عن حقارة قوّته وقدرته أمام إرادته ومشيئته جلّوعلا بالعبارة المتقدمة آنفاً.
وفي ختام الآية إنذار ذو معنى كبير آخر لقارون، جاء في غاية الإيجاز: (ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون ).
فلا مجال للسؤال والجواب، فالعذاب واقع ـ لا محالة ـ بصورة قطعيّة ومؤلمة، وهو عذاب فجائي مُدمّر!.
وبعبارة أُخرى أن العلماء من بني إسرائيل نصحوا قارون هذا اليوم وكان لديه مجال والجواب، لكن بعد إتمام الحجة ونزول العذاب الإلهي، عندئذ لا مجال للتفكير والجواب، فاذا حلّ العذاب الالهي بساحته فهو الهلاك الحتمي.
هنا يرد سؤال حول الآية التي تقول: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) أي سؤال هذا الذي نفاه الله أهو في الدنيا أم في الآخرة؟!
قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود بعدم السؤال هو في الدنيا، وقال بعضهم:
[295]
بل المقصود أنّه في الآخرة! لكن لا مانع من أن يكون عدم السؤال في الدارين "الدنيا والأخرة".
أي لا يسألون حال نزول العذاب في الدنيا، لئلا يدافعوا عن أنفسهم ويبرئوا ساحتهم،ويظهروا الأعذار تلوا الأعذار. ولا يُسألون يوم القيامة ـ أيضاً ـ لأنّ يوم القيامة لا يبقى فيه شي خافياً، فكل شيء واضح، وكما يعبّر القرآن تعبيراً دقيقاً في هذا الصدد (يُعرف المجرمون بسيماهم ).(1)
وكذلك فإنّ الآية ـ محل البحث ـ (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون )منسجمة تمام الإنسجام مع الآية من سورة الرحمن إذ تقول: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌ ).
هنا ينقدح سؤال آخر، وهو كيف يسنجم هذا التعبير في القرآن مع قوله تعالى: (فوربّك لنسألنّهم أجمعين ).(2)
ويمكن الإجابة على هذا السؤال عن طريقين:
الأوّل: إنّ المواقف في يوم القيامة متعددة، ففي بعضها يقع السؤال والجواب وفي بعض المواقف لا حاجة للسؤال، لأنّ الحجب مكشوفة، وكل شيء واضح هناك.
الثّاني: إنّ السؤال عادة نوعان.. "سؤال تحقيق" و "سؤال توبيخ" فليس في يوم القيامة سؤال للتحقيق، لأنّ كل شيء هناك مكشوف عياناً وواضح دون لبس. ولكن يوجد هناك سؤال توبيخ وهو بنفسه نوع من العذاب النفسي للمجرمين.
وينطبق هذا تماماً في ما لو سأل الأب ابنه غير المؤدب: ألم أقدم لك كل هذه الخدمات... أهذا جزاء ما قدمت؟! في حين أن كلا من الأب والابن يعرفان الحقيقة، وأن قصد الأب من سؤاله لإبنه هو التوبيخ لا غير!.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الرحمن، الآية 41.
2 ـ سورة الحجر، الآية 92.
[296]
الآيات
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةُ الدُّنْيا يَـلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَـرُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـلِحاً وَلاَ يُلَقَّــهَآ إِلاَّ الصَّـبِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاَْرضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَة يَنْصُروُنَهُ مِنْ دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّواْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَـفِرُونَ (82)
التّفسير
جنون الثّروة:
المعروف أَن أصحاب الثروة يبتلون بأنواع الجنون... وواحد منها "جنون عرض الثروة وإظهارها" فهؤلاء يشعرون باللذة عندما يعرضون ثروتهم على الآخرين، وحين يعبرون على مركب غال وثير ويمرّون بين حفاة الأقدام فيتصاعد الغبار والاتربة لينتشر على وجوههم، ويحقّرونهم بذلك، فحينئذ
[297]
يشعرون بالراحة النفسية والنشوة تدغدغ قلوبهم..
وبالرغم من أَن عرض الثروة هذا غالباً ما يكون سبباً للبلاء عليهم ، لأنّه يربي الأحقاد في الصدور ويعبىء الحساسيّات ضده، وكثيراً ما ينهي هذا العمل الرديء حياة الإنسان، أو يزيل ثروته مع الريح!.
ولعل هذا الجنون يحمل هدفاً من قبيل اغراء الطامعين وتسليم الأفراد المعاندين ولكن الأثرياء غالباً ما يقومون بهذا العمل دون هدف، لأنّه نوع من الهوى والهوس وليس خطة أو برنامجاً معيناً.
وعلى كل حال فإن قارون لم يكن مستثنى من هذا القانون، بل كان يعدّ مثلا بارزاً له، والقرآن يتحدث عنه في جملة موجزة في بعض آياته فيقول: (فخرج على قومه في زينته ). امام قومه من بني اسرائيل.
والتعبير بـ "في زينته" ناطق عن هذه الحقيقة، وهي أنّه أظهر جميع قدرته وقوته ليبدي ما لديه من زينة وثروة.
ومعلوم طبعاً إنّ رجلا بهذه المثابة من الثروة ماذا يستطيع أن يفعل!؟
وينقل في التاريخ ـ في هذا الصدد قصص كثيرة ـ مقرونة بالأساطير أحياناً، فإنّ بعضهم يكتب أنّ قارون خرج في استعراض كبير، وقد أركب أربعة آلاف نفر على أربعة آلاف فرس حُمر "غالية القيمة" مغطاة بالقماش الفاخر، وقد ملأها زينة من الذهب والجواهر الأُخرى، فمرّ بهذا الإستعراض على بني إسرائيل.. وقد أثار هذا المنظر الناس، إذ رأوا أربعة آلاف من الخدم ابيض يلبسون ثياباً حُمراً مع زينتهم.
وقال بعضهم: بل بلغ عدد هؤلاء "الخدم والحشم" سبعة آلاف نفر، وذكروا أخباراً أُخرى في هذا الصدد.
ولو فرضنا أن كل ذلك مبالغ فيه، إلاّ أنّه لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، وهي أَن قارون لديه ثروات مهمّة أظهرها في زينته!
[298]
هنا أصبح الناس طائفتين ـ بحسب العادة فطائفة وهم الأكثرية ـ من عبدة الدنيا ـ أثارهم هذا المشهد، فاهتزت قلوبهم وتأوهوا بالحسرات وتمنوا لو كانوا مكان قارون ولو يوماً واحداً ولو ساعة واحدة وحتى ولو لحظة! واحدة...
فأيّة حياة عذبة جميلة هذه الحياة التي تهب اللذات والنشاط... (قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنّه لذو حظ عظيم ).
هنيئاً لقارون ولثروته العظيمة!.. وما أعظم جلاله وعزّته.. ولا نظن في التاريخ أحداً أعطاه الله ما أعطى قارون.. وما إلى ذلك من الكلمات.
وهنا جاء دور الامتحان الالهي العظيم فمن جانب نجد قارون عليه أن يؤدي امتحانه في غروره وطيشه! ومن جانب آخر من بهرهم مشهده الذين أحاطوا به ـ من بني إسرائيل ـ .
وبالطبع فإنّ العقاب الأليم هو العقاب الذي سيقع بعد هذا العرض المثير، وهو أن يهوي قارون من أوج العظمة إلى قعر الأرض إذ تنخسف به الأرض على حين غرّة!.
لكن أمام هذه الطائفة التي ذكرناها آنفاً طائفة أُخرى من العلماء والمتقين الورعين، سمت آفاقهم عن مثل هذه المسائل، وكانوا حاضرين حينئذ و"المشهد" يمرّ من أمامهم.
هؤلاء الرجال لا يقوّمون الشخصية بالذهب والقوّة، ولا يبحثون عن القيم في الأُمور الماديّة. لا تبهرهم هذه المظاهر، بل يسخرون منها ويتبسمون تبسم استهزاء وازدراء! ويحقّرون هذه الرؤوس الفارغة.
فهؤلاء كانوا هناك، وكان لهم موقف آخر من قارون، وكما يعبر عنهم القرآن (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ) ثمّ أردفوا مؤكّدين (ولا يلقّاها إلاّ الصابرون ).
أُولئك الذين لا تهزّهم زخارف الدنيا وزبارجها، ويقفون في استقامة ـ
[299]
برجولة وشهامة ـ امام الحرمان، ولا يطأطئون رؤوسهم للاراذل ويقفون كالجبال الرواسي في الامتحان الإلهي ـ امتحان الثروة والمال والخوف والمصيبة... وهؤلاء هم الجديرون بثواب الله سبحانه!.
ومن المسلم به أنّه المقصود بجملة (الذين أوتوا العلم ) هم علماء بني إسرائيل، ومن بينهم "يوشع" وهو من كبار رجالهم.
غير أنّ الطريف في الأمر أن القرآن عبّر عن الطائفة الأُولى بجملة (الذين يريدون الحياة الدنيا ) لكنّه لم يعبر عن الطائفة الثّانية بأنّهم "الذين يريدون الحياة الاخرة" بل عبر عنهم بـ (الذين أوتوا العلم ) فحسب، لأنّ العلم هو أساس كل شيء وجذر الإيمان والاستقامة والعشق للثواب الإلهي والدار الآخرة..
كما أن التعبير بـ (الذين أوتوا العلم ) هو جواب دامغ ـ ضمناً ـ لقارون الذي يدّعي العلم، فالقرآن يريد أن يبيّن أن العلماء هم هؤلاء الذين لا يريدون الحياة الدنيا، أمّا أنت يا قارون فمغرور وطائش!.
وهكذا نرى مرّة أُخرى أنّ أساس البركات والخيرات هو العلم الحقيقي.
لقد أوصل قارون بعمله هذا طغيانه وعناده إلى الدرجة القصوى، غير أن ما ورد في التواريخ حكاية منقولة عن قارون تدل على منتهى الخسة وعدم الحياء! ننقلها هنا حسب تفصيلها!.
فقال له موسى(عليه السلام) إنّ الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إنّ موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها اليه فترميه بأنّه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنّه فجر بك قالت نعم.
فجاء قارون إلى موسى(عليه السلام) قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربّك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربّك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا
[300]
به شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنّك قد زنيت، قال: أنا؟
فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى(عليه السلام) أنشدتك بالله إلاّ ما صدقت. قالت: أمّا إذا نشدتني فإنّهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنّك بريء وأنّك رسول الله. فخرّ موسى(عليه السلام) ساجداً يبكي فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيّبتهم فأوحى الله: "يا موسى سألك عبادي وتضرّعوا إليك فلم تجبهم فوعزّتي لو أنّهم دعوني لأجبتهم" .
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد (فخسفنا به وبداره الأرض ).
أجل حين يبلغ الطغيان والغرور وتحقير المؤمنين الأبرياء والمؤامرّة ضد نبي الله أوجها، تتجلى قدرة الله تعالى وتطوي حياة الطغاة... وتدمرهم تدميراً يكون عبرة للآخرين.
مسألة "الخسف" هنا التي تعني انشقاق الأرض وابتلاع ما عليها، حدثت على مدى التاريخ عدّة مرات.. إذ تتزلزل الأرض ثمّ تنشقّ وتبتلع مدينة كاملة أو عمارات سكنية داخلها، لكن هذا الخسف الذي حدث لقارون يختلف عن تلك الموارد.. هذا الخسف كان طعمته قارون وخزائنه فحسب!.
يا للعجب!.. ففرعون يهوي في ماء النيل!.. وقارون في أعماق الأرض!.
الماء الذي هو سرّ الحياة وأساسها يكون مأموراً بهلاك فرعون.
والأرض التي هي مهاد الإطمئنان والدعة تنقلب قبراً لقارون واتباعه! ومن البديهي أنّ قارون لم يكن لوحده في ذلك البيت فقد كان معه أعوانه وندماءه ومن أعانه على ظلمه وطغيانه، وهكذا توغلوا في اعماق الارض جميعاً.
[301]
(فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين )...
فلم يخلصه أصدقاؤه، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض!
أمّا آخر آية ـ محل البحث ـ فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون: ياليت لنا مثل ما أوتي قارون، وما شابه ذلك!. وإذا هم اليوم يقولون: واهاً له، فإنّ الرزق بيد الله (فأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الزرق لمن يشاء من عباده ويقدر ).
لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!.
فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفراداً وأقواماً، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم.
ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه، وأعطاهم الله هذا المال، ثمّ هووا كما هوى قارون، فماذا يكون قد نفعهم المال؟
لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا: (لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنّه لا يفلح الكافرون ).
فالآن نرى الحقيقة بأعيننا، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.
ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة ـ ضمناً ـ أنّ قارون المغرور مات كافراً غير مؤمن، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفاً بالتوراة قارئاً لها، وعالماً من بني إسرائيل ومن أقارب موسى.
* * *
[302]
بحوث
1 ـ نماذج قارونية بالأمس واليوم!
قصّة قارون ـ هذا الثري المغرور ـ التي ذكرها القرآن في سبع آيات بينات ـ بأسلوب جذّاب ـ تكشف الحجب عن حقاق كثيرة في حياة الناس!
هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة، وهي أن غرور الثروة ونشوتها قد ينجر بهما الإنسان ـ أحياناً ـ إلى أنواع الجنون.. جنون إظهار الثروة وعرضها.. ولفت أنظار الآخرين.. إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين.
كما أن هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب، قد تكون سبباً لأنّ يجرأ الإنسان أحياناً إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسها، كالإساءة إلى النّبي ومناهظة الحق والحقيقة.. واتهام أطهر الأفراد، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب.
أن الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين، ويستجيب لمن يريد له الخير!.
وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعاً، وفي اعتقادهم أن ثروتهم التي وقعت في أيديهم، وربّما تقع عن طريق الغصب أحياناً، هي دليل على عقلهم وذكائهم... وأن جميع الناس جهلة كما يظنون، وأنّهم ـ وحدهم ـ العلماء فحسب!.
ويبلغ بهم الامر حدّاً أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق، وكأنّهم مستقلّون، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم، واستعدادهم وخلاّقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها!
ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين، وكيف ينتهون، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعاً قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة.. وأحياناً تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكل
[303]
آخر.. أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبداً.. وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض!... وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم.
أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقاً لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القِيم الخيالية... وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية، والطوابع، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف، وهي لا تستحق أن توضع إلاّ في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار!
أُولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم ـ وأحياناً في جيرانهم ـ من لا عهد له بالشبع، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم!.
كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أن أناساً محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم، وربّما يرقدون في المستشفى، ويئنون ولا من مصرخ لهم، ولا من علاج لمرضهم!.
جميع هذه البحوث تنطبق أحياناً على بعض الأفراد في مجتمع ما، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة، كما نلاحظ في العصر الحاضر في شأن الدول الإستكبارية كأمريكا وكثير من الدول الأوروبية.
لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه ـ في أرقى صورها ـ باستثمار أبناء العالم الثّالث والدول الفقيرة العزلاء... بحيث أنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل،
[304]
ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية.
وما نقوله من أن بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولا فقيرة، بل هي دول مُنيت بسرقة خيراتها وأغير عليها... وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض، لكن هؤلاء المغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء.
فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة.. وإذا لم يتّحد المستضعفون يداً بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فعل بقارون، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا.
فأُولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين.
2 ـ منْ أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟
الطريف أنّنا نقرأ في الآيتين (23) و (24) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أنّ رسالة موسى(عليه السلام) كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! "فرعون"، ووزيره "هامان"، و"قارون" الثري المغرور. (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذّاب ).
ونستفيد من النصّ القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون، وكان على خطه; كما أنّنا نقرأ في التواريخ أنّه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة(1)، وأنّه كان أمين الصندوق عند فرعون، والمسؤول على خزائنه من جهة أُخرى(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 25، ص 13، وتفسر مجمع البيان، ج 7، ص 266 ـ ذيل الآية محل البحث...
2 ـ مجمع البيان، ج 8، ص 520 ذيل الآية 24 من سورة المؤمن.
[305]
ومن هنا تتّضح هويّة قارون.. فإنّ فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار رجلا منافقاً منهم، وأودعه أزمّة أمورهم، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار، وليجعلهم حفاةً عراة، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم!.
والقرائن تشير إلى أنّ مقداراً من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون، ولم يطلع موسى(عليه السلام) ـ إلى تلك الفترة ـ على مكان الأموال لينفقها على اتباعه الفقراء.
وعلى كل حال، فسواءً كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون، أو حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه، أو كما يقول البعض قد حصل عليها عن طريق علم الكيمياء أو التجارة... أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين.
مهما يكن الأمر فإنّ قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون، وبدّل وجهه بسرعة، وأصبح من قرّاء التوراة وعلماء بني إسرائيل... في حين أنّ من البعيد أن تدخل ذرة من الإيمان في مثل قلب هذا المنافق!.
وأخيراً فحين أراد موسى(عليه السلام) أن يأخذ من قارون زكاة المال، خدع به الناس، وعرفنا كيف كانت عاقبته.
3 ـ موقف الإسلام من الثّروة!
لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفاً أنّ الإسلام يقف من الثروة موقفاً سلبياً، وأنّه يخالف خط الثراء، ولا ينبغي أن نتصور أنّ الإسلام يريد حياة الفقر والفقراء، ويعدّ حياة الفقر من الكلمات المعنوية!.
بل على العكس من ذلك، فإنّ الإسلام يعد الثروة عاملا مهمّاً نحو الآخرة! وقد عبّر القرآن عن المال بالخير في الآية (180) من سورة البقرة (إن ترك
[306]
خيراً )أي مالا.
ونقرأ في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) في هذا الصدد "نعم العون الدنيا على طلب الآخرة" (1).
بل حتى الآيات ـ محل البحث ـ التي تذم قارون أشدّ الذم، لأنّه اغتر بالمال، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع.. غاية ما في الأمر أنّ الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة، كما قال علماء بني إسرائيل لقارون (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ).
والإسلام يرضى بالثروة التي نرى فيها "أحسن كمآ أحسن الله إليك" ولكن للجميع!.
والإسلام يوافق على ثروة يتحقق فيه القول "لا تنس نصيبك من الدنيا" ويمدحها.
وأخيراً فإنّ الإسلام لا يطلب ثروةً ينبغي بها الفساد في الأرض وتُنسى بها القيم الإنسانية.. وتكون نتيجتها الإبتلاء بمسابقة جنون التكاثر، أو أن ينفصل الإنسان عن ذاته ويحتقر الآخرين، وربّما تجرّه إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته لموسى(عليه السلام) !.
يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الإقتصادي، وأن يستفيد منها الجميع، ولتكون ضماداً لجراح المحرومين، وللوصول بها إلى اشباع الحاجات الإجتماعية وحلّ مشاكل المستضعفين...
فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدّسة ليست علاقة دنيوية، أو ارتباطاً بالدنيا، بل هي علاقة أخروية.
كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) أن أحد أصحابه جاءه شاكياً أمره، وقال: والله إنّا لنطلي الدنيا ونُحبّ أن نؤتاها. فقال(عليه السلام) : "تحبّ أن تصنع بها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، ج 12، ص 17، الحديث 5 من الباب 16 من أبواب مقدمات التجارة.
[307]
ماذا؟"
قال: اعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الامام الصادق(عليه السلام) : "ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة" (1).
ومن هنا يتّضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال:
طائفة من المسلمين، أو بتعبير أدق: ممن يتظاهرون بالإسلام، وبعيدون عن تعاليمه، فيعرّفون الإسلام على أنّه محام عن المستكبرين.
وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام الأصيل، ويجعلوه معادياً للثروة، وأنّه يقف الى جانب الفقراء فحسب.
وأساساً فإنّ أُمّة فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرّة كريمة!.
فالفقر وسيلة للإرتباط بالاجنبي والتبعية
والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة!
والفقر يدعو الإنسان إلى الإثم والخطيئة.
كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد "غنىً يحجزك عن الظلم، خير من فقر يحملك على الإثم" (2).
إنّ على المجتمعات الإسلامية أن تسعى ـ مهما استطاعت ـ نحو التقدم لتكون غنيّة غير محتاجة، ولتبلغ مرحلة الإكتفاء الذاتي، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحّي باستقلالها وعزّتها وشرفها من أجل الفقر المذلّ الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو هذا لا غير.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "وسائيل الشيعة، ج 12، ص 19 الحديث الثّالث الباب السابع من أبواب مقدمات التجارة.
2 ـ وسائل الشيعه، ج 12، ص 17، الحديث السابع الباب السادس من أبواب مقدمات التجارة.
[308]
الآيتان
تِلْكَ الدَّارُ الاَْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَـقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
التّفسير
نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض:
بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط، وهو قارون، تبدأ الآية الأُولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث، إذ تقول الآية (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً ).
أجل، فهم غير مستكبرين ولا مفسدين في الأرض وليس هذا فحسب، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل، وأرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك ولا يرغبون فيه.
وفي الحقيقة إنّ ما يكون سبباً لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة، هو هذان الأمران: "الرغبة في العلو" أيّ الإستكبار و "الفساد في الأرض" وهما
[309]
الذنوب.. لأنّ كل ما نهى الله عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان وتكامل وجوده حتماً، فارتكاب ما نهى الله عنه يدمر نظام حياة الإنسان، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الإستعلاء ـ بنفسها ـ هي أيضاً واحدة من مصاديق الفساد في الارض، إلاّ أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.
وقد رأينا في قصّة "قارون" وشرح حاله أنّ السبب الاساس في شقوته وهلاكه هو العلوّ و"الإستكبار".
ونجد في الرّوايات الإسلامية اهتماماً بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ حديثا عن الإمام أمير المؤمنين على(عليه السلام) يقول: "إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها" (1).
(وهذا أيضاً فرع صغير من الاستعلاء).
ومن الطريف أنّ صاحب "تفسير الكشاف" يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول: بعض الطامعين ينسبون "العلوّ" في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله: (إنّ فرعون علا في الأرض )،(2) والفساد لقارون بمقتضى قوله: (تبغ الفساد في الأرض )،(3) ويدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون وقارون فهو من أهل الجنّة والدار الآخرة، وعلى هذا فهم يبعدون فرعون وقارون وأمثالهما من الجنّة فحسب، ويرون الباقين من أهل الجنّة، إلاّ أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية (والعاقبة للمتقين ) بدقة ـ كما لاحظها الإمام علي(عليه السلام)(4).
وما ينبغى إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة اخطاؤا حتى في معرفة قارون وفرعون.. لأنّ فرعون كان عالياً في الأرض وكان من المفسدين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير جوامع الجامع، ذيل الآية محل البحث.
2 ـ سورة القصص، الآية 4.
3 ـ سورة القصص، الآية 77.
4 ـ تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية محل البحث.
[310]
(إنّه كان من المفسدين )،(1) وقارون أيضاً كان مفسداً وكان عالياً بمقتضى قوله:(فخرج على قومه في زينته ).(2)
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية، فيرشد التائهين إلى الطريق ويساعد الضعفاء، وكان يمرّ على الباعة والكسبة ويتلوا الآية الكريمة (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً ). ثمّ يضيف سلام الله عليه: "نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس" (3).
ومعنى هذا الكلام، أنّه كما لم يجعل الخلافة والحكومة وسيلة للاستعلاء، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم وقدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً وكما يقول القرآن في نهاية الآية (والعاقبة للمتقين ).
و"العاقبة" بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة، وهي الانتصار في هذه الدنيا، والجنّة ونعيمها في الدار الأخرى... وقد رأينا أنّ قارون وأتباعه إلى أين وصلوا وأيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين ولكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة والمصير!.
ونختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادق(عليه السلام) وهو أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء وقال: "ذهبت والله الأماني عند هذه الآية". (4).
وبعد ذكر هذه الحقيقة الواقعية، وهي أن الدار الآخرة ليست لمن يحب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة القصص، الآية 4.
2 ـ سورة القصص، الآية 79.
3 ـ نقل هذه الرواية زاذان عن أميرالمؤمنين "مجمع البيان (ذيل الآية محل البحث)".
4 ـ تفسير علي بن إبراهيم ذيل الآية محل البحث.
[311]
السلطة والمستكبرين، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق، تأتي الآية الثّانية لتبيّن قانوناً كلياً وهو مزيج بين العدالة والتفضل، ولتذكر ثواب الإحسان فتقول: (من جاء بالحسنة فله خير منها ).
وهذه هي مرحلة التفضل، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله، إلاّ أنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف، إلاّ أن أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته، حيث يقول القرآن في الآية (160) من سورة الأنعام: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ).
أمّا الحدّ الأكثر من ثواب الله وجزائه فلا يعلمه إلاّ الله، وقد جاءت الإشارة إلى جانب منه ـ وهو الإنفاق في سبيل الله ـ في الآية 261 من سورة البقرة... إذ يقول سبحانه في هذا الصدد...(مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبّة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ).
وبالطبع فإنّ مضاعفة الأجر والثواب ليس أمراً اعتباطياً، بل له إرتباط وثيق بنقاء العمل وميزان الإخلاص وحسن النيّة وصفاء القلب، فهذه هي مرحلة التفضل الإلهي في شأن المحسنين.
ثمّ يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول: (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلاّ ما كانوا يعملون ).
وهذه هي مرحلة العدل الإلهي، لأنّ المسيء لا يجازى إلاّ بقدر إساءته، ولا تضاف على إساءته أية عقوبة!.
الطريف هنا عند ذكر جزاء السيئة أن القرآن يعبر عن الجزاء بالعمل نفسه (إلاّ ما كانوا يعملون ) أي إن أعمالهم التي هي طبقاً لقانون بقاء الموجودات في
[312]
عالم الوجود، تبقى ولا تتغير، وتبرز في يوم القيامة متجسمة دون خفاء، فهو (يوم البروز) في شكل يناسب العمل، وهذا الجزاء يرافق المسيئين ويعذبهم!.
* * *
ملاحظات
1 - لِمَ تكرر ذكر "السيئة" في هذه الآية مرتين؟
من المحتمل أن يكون ذكر السيئة مرتين في الآية، لأَن الله يريد أن يؤكّد على هذه المسألة، وهي أن السيئة لا جزاء لها إلاّ نفسها.
2 - هل تشمل الحسنة الإيمان والتوحيد؟ فإذا كان كذلك فما معنى هذه الجملة (من جاء بالحسنة فله خير منها )؟! وهل هناك خير من الإيمان والتوحيد؟!
وفي الإجابة على هذا السؤال نقول - بدون شك و ترددّ - إن للحسنة معنى واسعاً فهي تشمل المناهج الإعتقادية والأقوال والأعمال الخارجية، وما هو أفضل من الاعتقاد بتوحيد الله فهو رضا الله سبحانه الذي يكون ثواباً للمحسنين، فنحن نقرأ في الآية (72) من سورة التوبة قوله تعالى: (ورضوان من الله أكبر )!
3 - لم عبّر القرآن عن الحسنة بصيغة الإفراد، وعن السيئات بصيغة الجمع؟!
يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذا التعبير عائد إلى كثرة المسيئين وقلة المحسنين(1).
كما ويحتمل أيضاً أن الحسنات تتلخص في حقيقة التوحيد، وأنّ جميع الحسنات تعود إلى "جذر" واحد وهو توحيد الله، في حين أن السيئات ترجع إلى الشرك الذي هو مصداق التشتت والتعدد والكثرة.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روح المعاني، الآلوسي ذيل الآية.
[313]
الآيات
إِنَّ اًلَّذي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلى مَعاد قُل رَّبِّى أَعْلَمُ مَنْ جَآءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَـل مُّبِينَ (1) وَمَا كُنْتَ تَرْجُواْ أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتَـبُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنْ رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَـفِرِينَ (1) وَلاَ يَصُدُنَّكَ عَنْ ءَايَـتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكينَ (1) وَلاَ تَدْع مَعَ اللهِ إِلـهاً ءَاخَرَ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (1)
سبب النّزول
نقل جماعة من المفسّرين ـ سبباً لنزول الآية الأُولى من الآيات أعلاه عن ابن عباس مضمونه مايلي:
حين كان النّبي(صلى الله عليه وآله) متوجهاً من مكّة إلى المدينة في سفر الهجرة وبلغ "الجحفة" وهي لا تبعد عن مكّة كثيراً... تذكر وطنه "مكّة" هذه البقعة التي هي حرم الله وأمنه وفيها البيت العتيق "الكعبة" التي تعلق بها قلب النّبي وروحه تعلقاً لا يقبل الإنفكاك.. ظهرت آثار الشوق على وجه النّبي الكريم مزيجة بالحزن
[314]
والتأثر، فنزل أمين الوحي جبريل على رسول الله وقال: أتشتاق الى بلدك وهو مولدك؟! فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): نعم... فقال جبرئيل(عليه السلام): فإن اللّه يقول: (إن الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلى معاد )(1) يعني مكّة...
ونعلم أنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيراً، ودخل النّبي(صلى الله عليه وآله) بجيشه القوي وقدرته وعظمته الكبيرة مكّة ظافراً، واستسلمت مكّة والحرم الآمن دون حرب للنّبي(صلى الله عليه وآله).
فعلى هذا تعدّ الآية آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه، إذ أخبر القرآن عن رجوع النّبي(صلى الله عليه وآله) إلى مكّة بصورة قطعيّة ودون أي قيد وشرط، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير!.
التّفسير
الوعد بعودة النّبي إلى حرم الله الآمن:
هذه الآيات التي هي آخر الآيات في سورة القصص تخاطب نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله) وتبشره بالنصر، بعد أن جاءت الآيات الأُولى لتبيّن قصّة موسى و فرعون وما جرى له مع قومه، كما أنّ هذه الآيات فيها ارشادات وتعليمات مؤكّدة لرسول الإسلام(صلى الله عليه وآله).
قلنا: إنّ الآية الأُولى من هذه الآيات طبقاً لما هو مشهور بين المفسّرين نزلت في "الجحفة" في مسير النّبي(صلى الله عليه وآله)، إلى المدينة إذ كان متوجهاً إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى "مدينة الرّسول"... وأن يبذر النّواة الأصيلة... "لحكومة إسلامية" فيها ويجعلها مقرّاً لحكومة إلهية واسعة، ويحقق فيها أهدافها.
لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكّة يؤلمه كثيراً، وليس من اليسير عليه الإبتعاد عن حرم الله الآمن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير الميزان، تفسير القرطبي، ومجمع البيان "التّفسير الكبير" للفخر الرازي، وتفاسير غيرها.
[315]
وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول: (إنّ الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلى معاد ).
فلا تكترث ولا تُذهب نفسك حسرات، فالله الذي أعاد موسى إلى أُمّه هو الذي أرجعه أيضاً إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين، ليشعل مصباح التوحيد ويقيم حكومة المستضعفين ويقضي على الفراعنة ودولتهم وقوّتهم.
هو اللّه سبحانه الذي يردك إلى مكّة بكلّ قوّة وقدرة، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقاً في هذه الأرض المباركة.
وهو الله الذي أنزل عليك القرآن، وفرض عليك إبلاغه، وأوجب عليك أحكامه.
أجل، إنّ ربّ القرآن وربّ السماء والأرض العظيم، يسيرٌ عليه أن يردّك إلى معادك ووطنك "مكّة".
ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبي(صلى الله عليه وآله)، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه الله (قل ربّي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ).
إنّ طريق الهداية واضح، وضلالهم بيّن، وهم يتعبون أنفسهم عبثاً، فالله يعرف ذلك جيداً، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضاً.
وبالطبع فإنّ التّفسير الواضح للآية كما بيّناه آنفاً، إلاّ أن جمعاً من المفسّرين لديهم احتمالات أُخرى في كلمة "معاد".. من قبيل "العودة للحياة بعد الموت" "المحشر" او "الموت". كما فسّروه "بالجنّة" أو مقام "الشفاعة الكبرى"... أو "بيت المقدس" الذي عرج النّبي منه أوّل مرة، وغير هذه المعاني.
إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى محتوى مجموع هذه السورة ـ القصص ـ وما جاء في قصّة موسى وفرعون وبني إسرائيل، وما سقناه من شأن نزول الآية، فيبعد تفسير المعاد بغير العودة إلى مكّة كما يبدو!.
أضف إلى ذلك أن المعاد في يوم القيامة لا يختصّ بالنّبي وحده، والحال أن
[316]
الآية تتحدث عن النّبي ـ هنا ـ وتخاطبه وحده. ووجود هذه الآية بعد الآية التي تتحدث عن الثواب والجزاء في يوم القيامة، لا دلالة فيها على هذا المعنى، بل على العكس من ذلك، لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الانتصار في الدار الآخرة، ومن المناسب أن يكون الحديث في هذه الآية عن الإنتصار في هذه الدنيا.
أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة أُخرى من نعم الله العظيمة على النّبي(صلى الله عليه وآله)فتقول: (وما كنت ترجو أن يُلقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربّك )(1).
كان كثير من الناس قد سمعوا بالبشارة بظهور الدين الجديد، ولعل طائفةً من أهل الكتاب وغيرهم كانوا ينتظرون أن ينزل عليهم الوحي ويحمّلهم الله هذه المسؤولية، ولكنّك ـ أيّها النّبي ـ لم تكن تظن أنّه سينزل عليك الوحي (وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب ).. إلاّ أن الله رآك أجدر بالأمر، وأن هذا الدين الجديد ينبغي أن ينتشر ويتسع على يدك في هذا العالم الكبير!.
وبعض المفسّرين يرون هذه الآية منسجمة مع آيات سابقة كانت تتحدث عن موسى(عليه السلام)، وتخاطب النّبي ـ أيضاً ـ كقوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر.. وما كنت ثاوياً في أهل مدين... وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمةً من ربّك ).
فعلى هذا يكون المقصود بالكتاب هنا هو قصص الأنبياء السابقين.. إلاّ أن هذا التفسير لا منافاة فيه مع التفسير المتقدم! بل يعدّ قسماً منه في الواقع!.
ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبي(صلى الله عليه وآله) أن طالما كنت في هذه النعمة (فلا تكونن ظهيراً للكافرين ).
ومن المُسلّم به أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن ظهيراً للكافرين أبداً، إلاّ أن الآية جاءت في مقام التأكيد على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان المسؤولية للآخرين، وأن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قال بعضهم: إن "إلاّ" هنا تفيد الإستثناء، فاضطروا إلى أن يقولوا بحذف كلمة والتقدير لها من عندهم وهو تحكّم... إلاّ أن البعض الآخر فسّر "إلاّ" بمعنى "لكن" وأنّها تفيد الإستدراك، وهذا الوجه أقرب للنظر!...
[317]
وظيفتهم أن يتأسوا بالنّبي ولا يكون أيّ منهم ظهيراً للكافرين.
وهذا الموضوع ينسجم تماماً مع الموضوع الذي قرأناه في شأن موسى(عليه السلام)، إذ قال: (ربّ بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين ).. وبيّنا معناه في شأن إعانة الظالمين في الآية (17) من سورة القصص، أمّا الآيتان اللتان تختتم بهما سورة القصص، فهما تأكيد على مسألة التوحيد بتعابير واستدلالات متعددة ومختلفة.
التوحيد الذي هو أساس جميع المسائل الدينية... التوحيد الذي هو الأصل وهو الفرع وهو الكلّ وهو الجزء!.
وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من الله لنبيّه(صلى الله عليه وآله)، وأربعة صفات لله تعالى، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث.
يقول أوّلا: (ولا يصدّنك عن آيات الله بعد إذ اُنزلت إليك ) وبالرغم من أن النهي موجه إلى الكفار، إلاّ أن مفهوم الآية عدم تسليم النّبي(صلى الله عليه وآله) أمام صدّ الكافرين، وإحباطهم ومؤامراتهم، وهذا تماماً يشبه ما لو قلنا مثلا: لا ينبغي أن يوسوس لك فلان، فمعناه: لا تستسلم لوسوسته!.
وبهذا الأسلوب يأمر الله النّبي(صلى الله عليه وآله) أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت، ولْيَسر نحو هدفه مطمئناً، فإنّ الله حاميه ومعه أبداً.
ويقول ابن عباس: وإن كان المخاطب هو النّبي(صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ المراد عموم الناس، وهو من قبيل المثل العربي المعروف "إيّاك أعني واسمعي يا جارة!".
وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي، يأتي الخطاب الثّاني وفيه سمة إثبات فيقول: (وادع إلى ربّك ).. فالله الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك...
والامر الثالث، بعد الأمر بتوحيد الله، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام (ولا تكونن من المشركين )... فإن طريق التوحيد واضحة بينة، ومن
[318]
ساروا عليها فهم على صراط مستقيم!.
والأمر الرّابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك، إذ يقول تعالى: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر ).
وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي، إذ بدونه يكون كل عمل زيفاً ووهماً.
وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه، وهي جميعاً تأكيد على التوحيد أيضاً.
فالأوّل قوله: (لا إله إلاّ هو ).
والثّاني قوله: (كل شيء هالك إلاّ وجهه ).
والوصف الثالث: (له الحكم ) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.
والرابع: أن معادنا إليه ( وإليه ترجعون ).
والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام، الذي أشير إليه في الوصف الأول!
لأنّه طالما كنّا هالكين جميعاً وهو الباقي.
وطالما كان التدبير لنظام الوجود بيده والحكم له!
وطالما كان معادنا إليه وإليه نرجع!... فما عسى أن يكون دور المعبودات غيره، وأي أحد يستحق العبادة سواه!؟
والمفسّرون الكبار لديهم آراء مختلفة في تفسير جملة (كل شيء هالك إلاّ وجهه ) تدور حول محور كلمتي "وجه" و"هالك".
لأنّ الوجه يطلق ـ من حيث اللغة ـ على المحيّا أو ما يواجهه الإنسان من الشخص المقابل، ولكن الوجه حين يطلق على الخالق فإنّه يعني عندئذ ذاته المقدسة!.
وكلمة "هالك" مشتقّة من مادة "هلك" ومعناه الموت والعدم، فعلى هذا
[319]
يكون معنى الجملة المتقدمة فناء جميع الموجودات عدا ذات الخالق المقدسة... وهذا الفناء بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بفناء هذا العالم وانتهائه، فالموجودات الآن فانية قبال الذات المقدسة، وهي تحتاج إلى فيضه لحظة بعد لحظة، وليس لديها في ذاتها أي شيء، وكلّ ما لديها فمن الله!
ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ موجودات هذا العالم جميعها متغير وفي معرض التبدل، وحتى طبقاً لفلسفة "الحركة الجوهرية" فذاتها هي التغيير بعينه، ونحن نعرف أن الحركة والتغيير معناهما الفناء والعودة الدائمية، فكل لحظة تموت موجودات العالم وتحيا!.
فعلى هذا فإنّ الموجودات هالكة وفانية الآن ـ أيضاً ـ غير أن الذات التي لا طريق الفناء إليها ولا تهلك، هي الذات المقدسة!
كما نعلم أنّ الفناء أو العدم يتجلى بصورة واضحة في نهاية هذا العالم، وكما يقول القرآن: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذوالجلال والإكرام ).(1)
ولا يخصُّ الفناء ما على الأرض، بل يشمل حتى أهل السماء (ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض ).(2)
فهذا التّفسير منسجم مع ظاهر الآية والآيات الأُخرى في القرآن، غير أن بعض المفسّرين ذكروا تفاسير أُخرى غير ما تقدم بيانه، ومنها:
1 ـ أنّ المقصود من كلمة (وجه) هو العمل الصالح، ومفهوم هذه الآية يكون حينئذ أن جميع الأعمال تمضي مع الرياح سوى ما يكون خالصاً لله.
وقال بعضهم: إنّ المراد بالوجه هو انتساب الأشياء إلى الله، فيكون مفهوم الاية أنّ كل شيء معدوم ذاتاً إلاّ من ناحية انتمائه إلى الله!
وقال بعضهم: المراد بالوجه هو الدين، فيكون مفهوم الآية أن المذاهب كلها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الرحمن، الآيتان 26 و 27.
2 ـ سورة الزمر، الآية 68.
[320]
باطلة سوى دين الله.
وجملة (له الحكم ) هي كما فسّروها بأنّها الحاكمية التشريعية. وهو تأكيد على التّفسير السابق!.
كما أن جملة (واليه ترجعون ) فسّروها بالرجوع إلى الله في أخذ الشريعة عنه! وهذا تأكيد آخر على هذا المعنى(1).
وهذه التفاسير مع ما بيّناه آنفاً لا نجد بينها منافاةً في الحقيقة!... لأنّنا حين عرفنا أن الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا العالم هو الذات المقدسة لله فحسب! فيتّضح أن ما يرتبط بذات الله بنحو من الأنحاء فإنه يستحق البقاء والابدية.
فدين الله الصادر منه أبديّ، والعمل الصالح الذي له أبديّ... والقادة الألهيّون الذين يرتبطون يتّسمون بالخلود.
والخلاصة، كل ما هو مرتبط بالله ـ ولو بنحو من الأنحاء ـ فهو غير فان "فلاحظوا بدقّة".
* * *
مسألتان
1 ـ كيف تفنى جميع الأشياء؟!
من جملة الأسئلة التي أُثيرت في ذيل الآية، هو أنّه إذا كان لابدّ من فناء جميع الأشياء في نهاية العالم، فلا محيص من أن تتلاشى الأتربة التي تكونت من أبدان الناس، في حين أن القرآن يصرّح مراراً بأن الله سيجمع هذه الاتربة وينشر الناس منها، وأن الناس سينشرون في يوم القيامة من قبورهم!.
وطبقاً لظاهر الآيات ـ أيضاً ـ فإن الجنّة معدّة، والنّار معدّة ومهيأة من قبل،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وردت روايات متعددة في تفسير "نور الثّقلين" في ذيل الآيات فسّرت بعضها الوجه بدين الله، وبعضها برسل الله وما هو منسوب لله.
[321]
كما جاء التعبير عن الجنّة (أعدت للمتقين ) أو ما شابه ذلك، وهي إشارة لخلق الجنّة وأنّها مهيأة للمتقين.. وقد ورد هذا التعبير في موضعين من آيات القرآن "الآية 123 من سورة آل عمران والآية 21 من سورة الحديد".
كما ورد التعبير عن النّار بـ(أعدت للكافرين ) في موضعين من القرآن أيضاً "البقرة الآية 24 وآل عمران الآية 131".
فهل ستفنى الجنّة والنّار في انتهاء العالم؟!
ثمّ بعد هذا كلّه فنحن نعتقد بالحياة البرزخية للإنسان، ونستفيد ذلك من آيات القرآن في شأن الأرواح، فهل ستفنى تلك أيضاً؟!
والجواب على جميع الأسئلة يتّضح بما يلي:
إنّ كثيراً ما يتفق أن يكون المراد من الهلاك والعدم هو تخلخل النظام ودماره، لا تلاشيه وفنائه فلو أن عمارة مثلا تهدمت بسبب الزلزلة فهنا يصدق عليها الفناء والهلاك، في حين أنّ مواد العمارة لا تزال موجودة، غير أن نظامها قد أختل وانعدم فحسب!.
ونعرف أن في نهاية هذا العالم ستنطفىء الشمس، ويظلم القمر، وتندك الجبال، وتموت الموجودات الحيّة، فهذا معنى هلاكها ! هذا من جهة!.
ومن جهة أُخرى فإنّ الفناء متعلق بهذه الدنيا، وما في هذه الدنيا... أمّا الجنّة والنّار فسواء كانتا داخل هذا العالم أو خارجه، فليستا جزءاً من هذه الدنيا ليشملهما حكم الفناء والعدم لنظامهما، فهما متعلقتان بالآخرة لا بالدنيا!
ومن جهة ثالثة، فإنّا ذكرنا آنفاً أنّ الهلاك ـ أو الفناء ـ بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بانتهاء هذا العالم.. فهي هالكة وفانية الآن أيضاً، لأنّها لا تملك شيئاً في داخل ذاتها، وكل ما عندها فمن غيرها، فهي متغيرة ودائمة الحركة، ومعنى ذلك الفناء التدريجي والمركب من الوجود والعدم!
ومع بيان ما تقدم يتّضح الجواب على الأسئلة السابقة تماماً!
[322]
2 ـ التّفسير المنحرف لجملة (ولا تدع مع الله إلهاً آخر!)
يستدل جماعة من الوهّابيين أحياناً على أن مسألة "التوسل والشفاعة" لا تنسجم مع حقيقة التوحيد، بالآية الآنفة وآيات أُخرى مشابهة لها.
أذ يقول أُولئك: إنّ القرآن نهى عن عبادة غير الله بصريح العبارة، كما نهى أن ندعو أسماء سوى الله، إذ قال: (فلا تدعوا مع الله أحداً ).(1)
والحال أنّ المقصود من هذه الآيات ليس هو أن لا ندعو أشخاصاً آخرين، بل المقصود كما هو مستفاد من الآية (مع الله ) أي أن من يعتقد أن ما كان لله يمكن طلبه من غير الله ويراه مستقلا في إنجازه، فإنه مشرك.
ولكننا إذا اعتقدنا بأن جميع القدرات هي خاصة بالله، ولا نعتقد بأن أحداً معه يكون مبدأ الأثر... ونعتقد بأن لله أولياء يشفعون بإذنه وأمره، فنتوسل بهم إلى الله ليشفعوا لنا عند الله، فهذا هو التوحيد بعينه، وهذا هو ما أشارت إليه آيات القرآن مراراً.
ترى هل كان قول إخوة يوسف لأبيهم: (يا أبانا استغفر لنا ) شركاً؟! (سورة يوسف الآية 97).
وهل ـ حين يقول القرآن: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرّسول لوجدوا الله تواباً رحيماً )،(2) يكون قول القرآن هذا دعوة نحو الشرك؟!!
إنّ حقيقة الشفاعة والتوسل ـ أيضاً ـ ليس شيئاً سوى ما أشرنا إليه آنفاً(3)!
رّبنا ألهم قلوبنا نورالتوحيد والمعرفة، لئلا نرى سواك، ولا نطلب سواك، ولا نرجوا سواك!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الجن، الآية 18.
2 ـ سورة النساء، الآية 64.
3 ـ لمزيد التوضيح يراجع تفسير الآية 35 المائدة، وتفسير ذيل الآية (48) من سورة البقرة!
[323]
اللّهم وثّق ارتباطنا بذاتك المقدسة يوماً بعد يوم، ارواحنا تحظى بقبس من بقاء وخلود ذاتك الخالدة!
اللّهم أبعد حبّ الدنيا والاستعلاء والفساد في الأرض عن أرواحنا، واجعلنا في صفوف المتقين، (والعاقبة للمتقين ).
آمين ربّ العالمين
انتهاء سورة القصص
* * *
[325]
سُورَة
العنكبوت
مكيّة
وَعَدَدُ آياتِهَا تسع وسَتُونَ آية
[326]
[327]
"سورة العنكبوت"
محتوى سورة العنكبوت!
المشهور بين جمع من المحققين أنّ جميع آيات هذه السورة نازلة بمكّة، فيكون محتواها منسجماً مع محتوى السور المكية.
إذ ورد فيها الكلام على المبدأ والمعاد، وقيام الأنبياء السابقين العظام، ووقوفهم بوجه المشركين وعبدة الأصنام والجبابرة والظالمين، وانتصارهم وانهزام هذه الجماعة الظالمة! وكذلك تتحدث هذه السورة عن الدعوة الى الحق والامتحان الالهي للبشر، وذرائع الكفار في مجالات مختلفة.
غير أنّ جماعةً من المفسّرين يرون بأن إحدى عشرة آية منها نازلة بالمدينة، وهي الآيات الأُولى من السورة، ولعلّ ذلك ـ كما سنرى ـ ناتج عن سبب نزول بعض الآيات التي تتحدث عن الجهاد، والإشارة إلى موضوع المنافقين، وهذا ما يناسب السور المدنية!.
ولكن سنرى بعدئذ أنّ هذه الأُمور لا تنافي كون السورة مكيّة.
وعلى كل حال، فتسمية السورة هذه بـ "العنكبوت" مأخوذة من الآية (41) من هذه السورة، التي تشبّه عبدة الأوثان من دون الله بالعنكبوت، التي تبني بيتها من نسيجها، وهو أوهن البيوت!!.
وبصورة إجمالية، يمكن أن يقال: إن أبحاث هذه السورة تتلخص في أربعة أقسام:
1 ـ فالقسم الأوّل من السورة يتحدث عن مسألة "الامتحان"، وموضوع
[328]
"المنافقين"، وهذان الأمران متلازمان لا يقبلان الإنفكاك!! لأنّ معرفة المنافقين غير ممكنة إلاّ في طوفان الإمتحانات.
2 ـ والقسم الثّاني من هذه السورة ـ في الحقيقة ـ هو لتسلية قلب النّبي(صلى الله عليه وآله)والمؤمنين القلّة الأوائل، عن طريق بيان جوانب من حياة الأنبياء العظام السابقين، أمثال نوح وإبراهيم ولوط وشعيب(عليهم السلام) وعواقبهم!. إذ واجهوا أعداءً ألِدّاء أمثال نمرود و طواغيت المال البخلاء.
وقد بيّن هذا القسم من السورة كيفية المواجهة، وعُدّتها، وعاقبتها للمؤمنين لتطمئن قلوبهم، ولتكون هذه الآيات إنذاراً للمشركين وعبدة الأوثان، الذين لهم قلوب كالحجارة أو أشدّ قسوة، والظالمين الذين عاصروا النّبي(صلى الله عليه وآله).
3 ـ والقسم الثّالث من هذه السورة، وهو ما ورد في نهاية السورة بوجه خاص، يتحدث عن التوحيد ودلائل الله في عالم خلقه، والمواجهة مع المشركين، ويدعوا الفطرة والوجدان إلى الاحتكام والقضاء الحق!.
4 ـ أمّا القسم الرّابع من هذه السورة، ففيه مباحث متنوعة عن عجز الأصنام المصنوعة التي تعبد من دون الله، وعبادها الذين مثلهم كمثل العنكبوت، وبيان عظمة القرآن، ودلائل حقانية نبيّ الإسلام، ولجاجة المخالفين، كما تتعرض لسلسلة من المسائل التربوية أمثال: الصلاة، والعمل الصالح، والإحسان إلى الوالدين، وأسلوب مناقشة المخالفين، وما إلى ذلك.
فضيلة هذه السورة!
ورد في تفسير مجمع البيان عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في فضيلة هذه السورة مايلي: "من قرأ سورة العنكبوت كان له عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين".
ولتلاوة سورتي العنكبوت والروم في شهر رمضان في الليلة الثّالثة
[329]
والعشرين منه فضيلة قصوى، حتى أنّنا نقرأ في هذا الصدد حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) يقول: "من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله من أهل الجنّة، لا استثنى فيه أبداً... ولا أخاف أن يكتب الله علي في يميني إثماً، وإن لهاتين السورتين من الله مكاناً" .(1)
ولا شك أن محتوى هاتين السورتين الغزير، والدروس العملية المهمّة منها في التوحيد، وما إلى ذلك، كلّه كاف لأن يسوق أيّ إنسان ذي لب وفكر وعمل إلى الجنّة والخلود فيها.
بل لو استلهمنا من بداية سورة العنكبوت وآياتها الأُولى العظة فلعلنا نكون مشمولين في قسم الإمام الصادق(عليه السلام)... تلك الآية التي تعرض الإمتحان لعامّة الناس دون استثناء ليفتضح المبطلون والكاذبون... فكيف يمكن أن يصدّق الإنسان بهذا الإمتحان العظيم وهو لم يهيء نفسه له!؟. ولم يكن من أهل التقوى والورع!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "ثواب الأعمال" "طبقاً لتفسير نورالثقلين، ج 4، ص 147" من الجدير بالذكر أنّنا نكتب هذا القسم من هذا التّفسير في بداية ليلة 23 من شهر رمضان لسنة 1403 هجرية...
[330]
الآيات
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـذِبِينَ (3)
سبب النّزول
طبقاً لما نقل بعض المفسّرين، أنّ الآيات الإحدى عشرة الأُولى من بداية سورة العنكبوت نزلت في المدينة في شأن المسلمين الذين كانوا في مكّة وغير راغبين بالهجرة إلى المدينة.. وكانوا قد تلقوا رسائل من إخوة لهم في المدينة جاء فيها: "إن الله لا يقبل إقراركم بالإيمان حتى تهاجروا إلى المدينة" فصمموا على الهجرة وخرجوا من مكّة، فتبعهم جماعة من المشركين والتحموا بالقتال فقتل منهم جماعة وجرح آخرون "وربّما سلّم بعضهم نفسه ورجعوا إلى مكّة".
وقال بعضٌ: إنّ الآية الثّانية من هذه السورة في شأن "عمار بن ياسر" وجماعة من المسلمين الأوائل، الذين آمنوا برسالة النّبي(صلى الله عليه وآله) ولاقوا صنوف التعذيب من الأعداء.
كما قال بعضهم: إنّ الآية الثامنة نزلت في إسلام "سعد بن أبي وقاص"!
غير أنّ التدقيق في الآيات يكشف عن أنّه لا دليل على إرتباط الآيات مع
[331]
هجرة أُولئك، سوى أنّ الآيات تبيّن الضغوط على المؤمنين في ذلك الوقت من قبل أعدائهم وأحياناً من الآباء المشركين والاُمهات المشركات ضدّ أبنائهم المؤمنين.
فهذه الآيات تشجّع المسلمين على الثبات والرجولة والإستقامة أمام أمواج الضغوط من قبل الاعداء.. وإذا ورد الحديث فيها على الجهاد فالمراد منه ـ أيضاً ـ الجهاد في هذا المجال، لا الجهاد المسلّح الذي تقوم به الجماعة، فذلك شُرّع في المدينة.
وإذا ورد الحديث عن المنافقين في هذه الآيات، فلعلّه إشارة إلى المسلمين الضعاف في إيمانهم، الذي كان يتفق وجودهم بين المسلمين في مكّة أحياناً... فتارة هم مع المسلمين وتارة مع المشركين، وكانوا يميلون مع الكفة الراجحة منهما.
وعلى كل حال، فإرتباط الآيات بعضها ببعض وانسجامها توجب أن تكون هذه السورة "جميعها" مكية، وما ذكرناه من الرّوايات المتقدمة المتناقضة في ما بينها، لا يمكن أن تقطع هذا الإرتباط!
* * *
التّفسير
الامتحان الإلهي سنة خالدة:
نواجه في بداية هذه السورة الحروف المقطعة [ ألف ـ لام ـ ميم] أيضاً.. وقد بيّنا تفسيرها عدة مرات من وجوه مختلفة(1).
وبعد هذه الحروف المقطعة يشير القرآن إلى واحدة من أهم مسائل الحياة البشرية، وهي مسألة الشدائد والضغوط والإمتحان الإلهي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يراجع بداية تفسير سورة البقرة وبداية سورة آل عمران وبداية تفسير سورة الأعراف من التّفسير الأمثل.
[332]
فيقول أوّلا: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ). (1)
ثمّ يذكر القرآن هذه الحقيقة ـ بعد الآية المتقدمة مباشرة، وهي أن الإمتحان سنة الهية دائمية، فالامتحان لا يختص بكم ـ أيّها المسلمين ـ بل هو سنة جارية في جميع الأمم المتقدمة، إذ يقول: (ولقد فتنا الذين من قبلهم ).
وهكذا ألقينا بهم أيضاً في أفران الإمتحانية الشديدة الصعبة... ووقعوا أيضاً ـ تحت تأثير ضغوط الأعداء القُساة والجهلة المعاندين.. فساحة الإمتحان كانت مفتوحة دائماً، واشترك فيها جماعة كثيرون.
وينبغي أن يكون الأمر كذلك، لأنّه في مقام الإدعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أنّه أشرف مجاهد وأفضل مؤمن وأكثر الناس تضحيةً.. فلابدّ من معرفة قيمة هذه الإدعاءات بالإمتحان، وينبغي أن تعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الإدعاءات.؟!
أجل (فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ).
من البديهي أنّ الله يعرف جميع هذه الأُمور جيداً ـ قبل أن يخلق الإنسان ـ إلاّ أنّ المراد من العلم هنا هو التحقق العيني للمسائل.. ووجودها الخارجي، وبتعبير آخر: ظهور الآثار والشواهد العملية.. ومعناه أنّه ينبغي أن يرى علم الله في هذه المجموعة عملياً في الخارج، وأن يكون لها تحقق عيني، وأن يكشف كلٌّ عمّا في نفسه وداخله... هذا هو العلم حين يطلق على مثل هذه المسائل وينسب إلى الله!.
والدليل على هذه المسألة واضح ـ أيضاً ـ لإنّ النيّات والصفات الباطنية إذا لم تحقق في عمل الإنسان وتكون عينيّة، فلا مفهوم للثواب والجزاء والعقاب!.
وبعبارة أُخرى: فإنّ هذا العالم مثله كمثل "المدرسة" أو "المزرعة"
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "يفتنون" مشتق من "الفتنة" وهي في الأصل وضع الذهب في النّار لمعرفة مقدار خلوصه، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل امتحان ظاهريومعنوي.. "لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (193) من سورة البقرة".
[333]
[ والتشبيهات هذه واردة في متون الأحاديث الإسلامية] والمنهج هو أن تتفتح الإستعدادات وتربّى القابليات وتكون فعلية بعد ما كانت بالقوّة.
وينبغي أن تنمو البذور في هذه المدرسة وأن تطلع البراعم من تحت الأرض فتحاط بالرعاية والعناية لتكون شجيرات صغيرة، ثمّ تكون أشجاراً ذوات أصول قوية وأغصان ومثمرّة على تعاقب الزمن.. وهذه الأُمور لا تكون إلاّ بالإمتحان والإختبار.
ومن هنا نعرف أن الإمتحانات الإلهية ليست لمعرفة الأفراد، بل هي من أجل تربية الإستعدادات ورعايتها، لتتفتح وتكون بصورة أحسن.
فعلى هذا.. لو أردنا نحن أن نمتحن شيئاً، فهو لأجل كشف المجهول، لكنّ امتحان الله ليس لكشف المجهول، لأنّه أحاط بكل شيء علماً... بل هو لتربية الإستعدادت وايصال مرتبة "القوة" إلى "الفعل"(1).
* * *
بحث
الإمتحانات في وجوه مختلفة:
وبالرّغم من أن بيان عمومية الإمتحان لجميع الأمم والأقوام كان له أثر كبير فعّال بالنسبة لمؤمني مكّة، الذين كانوا يمثلون الأقلية في ذلك العصر، وكان التفاتهم إلى هذه الحقيقة سبباً في وقوفهم بوجه الأعداء بصبر واستقامة... إلاّ أن ذلك لم يكن منحصراً في مؤمني مكّة، بل إن كل جماعة وطائفة لها نصيب من هذه السنة الإلهية فهم شركاء فيها، إلاّ أن الإمتحانات الإلهية لهم تأتي بصور مختلفة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإيضاح في مسألة الإمتحان الإلهي وجوانبها المختلفة، يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (157) من سورة البقرة حيث بيّناه بتفصيل!...
[334]
فالجماعة الذين يعيشون في محيط ملوث بالمفاسد والوساوس تحيط بهم من كل جانب، فإن امتحانهم الكبير في مثل هذا الجو والظروف، هو أن لا يتأثروا بلون المحيط وأن يحفظوا أصالتهم ونقاءهم.
والجماعة الذين يعيشون تحت ضغط الحرمان والفقر، يرون بأنّهم لو صمموا على ترك رأس مالهم الأصيل "الإيمان" فإنّهم سرعان ما يتخلصوا من الفقر والحرمان لكن ثمن ذلك هو فقدانهم للايمان والتقوى والكرامة والحرية والشرف، فهنا يكمن امتحانهم..
وجماعة آخرون على عكس أُولئك غرقى في اللذائذ والنعم، والإمكانات المادية متوفرة لديهم من جميع الوجوه... ترى هل يؤدون في مثل هذه الظروف الشكر على النعم.. أم سيبقون غرقى في اللذائذ والغفلة وحب الذات والأنانية... غرقى الشهوات والإغتراب عن المجتمع وعن أنفسهم!
وجماعة منهم كالمتغربين في عصرنا، يرون بعض الدول بعيدة عن الله والفضيلة والأخلاق حقّاً، ولكنّها تتمتع بالتمدن المادي المذهل والرفاه الإجتماعي. هنا تجذب هؤلاء المتغرّبين قوّة خفية إلى سلوك هذا النوع من الحياة أو سحق جميع القيم والأصول والأعراف التي يعتقدون بها، ويبيعون أنفسهم أذلاء عملاء لتلك الدول، ليوفروا لهم ولمجتمعهم مثل هذه الحياة... وهذا نوع آخر من الإمتحان.
المصائب، والآلآم والهموم، والحروب والنزاعات، والقحط والغلاء، وما تثيره الحكومات الأنانية لتجذبهم إليها وتستعبدهم به وأخيراً الأمواج النفسية القوية والشهوات، كلّ منها وسيلة للإمتحان في طريق عباد الله، والسائرين في الميادين التي تتميز فيها شخصية الأفراد وتقواهم وإيمانهم وطهارتهم وأمانتهم وحريتهم.. الخ.
ولكن لا طريق للانتصار في هذه الإمتحانات الصعبة لاجتيازها إلاّ الجدّ
[335]
السعي المستمر، والاعتماد على لطف الله سبحانه.
ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثاً عن أحد المعصومين في أصول الكافي في تفسير الآية (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون ) يقول فيه: "يُفتنون كما يفتن الذهب، ثمّ قال يخلصون كما يخلص الذهب" (1).
وعلى كل حال، فإن طالبي العافية الذين يظنون أنّ إظهار الإيمان كاف بهذا المقدار ليكونوا في صفوف المؤمنين وفي أعلى عليين في الجنّة مع النّبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم في خطأ كبير.
وعلى حدّ تعبير أميرالمؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: "والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم"(2).
قال(عليه السلام): هذا الكلام والناس جديدو عهد ببيعته، وينتظرون ما سيفعل ببيت المال، أيقسمه حسب الجاه والمقامات بحسب المعايير السابقة، فيبعّض في المال، فيعطى الكثير لبعضهم بحسب المقام، والقليل للبعض الآخر!.. أم سيسير معهم بالعدل المحمّدي؟
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أصول الكافي، طبقاً لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 148.
2 ـ نهج البلاغة، خطبة 16.
[336]
الآيات
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لاَت وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَـهَدَ فَأِنَّمَا يُجَـهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَـلمِينَ (6) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
التّفسير
لا مهربَ من سلطان الله:
كان الكلام في الآيات السابقة عن امتحان المؤمنين الشامل، والآية الأُولى من الآيات أعلاه تهديد شديد للكفار والمذنبين، لئلا يتصوروا أنّهم حين يضيّقون على المؤمنين ويضغطون عليهم ولا يعاقبهم الله فوراً، فإنّ الله غافل عنهم أو عاجز عن عذابهم، تقول الآية هذه: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ).
فلا ينبغى أن يغرّهم إمهال الله إيّاهم فهو امتحان لهم، كما أنّه فرصة للتوبة
[337]
والعودة إلى ساحة الله تعالى.
وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية هي إشارة إلى المؤمنين المذنبين، فلا يناسب هذا التّفسير سياق الآيات بأي وجه، بل جميع القرائن تدل على أنّ المقصود بالآية هم المشركون والكفار.
ثمّ يتحدث القرآن مرّة أُخرى عن سيرالمؤمنين ومناهجهم، ويقدم النصح لهم، فيقول: (من كان يرجوا لقاء الله ) فعليه أن يعمل ما في وسعه على امتثال الأوامر الإلهية والاحكام الشرعية، لأنّ الوقت المعيّن سيأتي حتماً (فأنّ أجل الله لأت )(1).
أجل، إنّ وعد الله هذا لا يقبل التخلّف، هو طريق لابدّ من اجتيازه، ثمّ إنّ الله سبحانه يسمع أحاديثكم، وهو مطلع على أعمالكم ونيّاتكم... لأنّه (هو السميع العليم ).
وفي معنى قوله تعالى: (لقاء الله ) وما المقصود منه؟ فسّره بعض المفسّرين بملاقاة الملائكة، كما فسّره البعض بملاقاة الحساب والجزاء.. وبعض بملاقاة الحكم وأمر الحق.. وآخرون بأنّه كناية عن يوم القيامة.. في حين أنّه لا دليل على أن تفسّر هذه الآية بهذه المعاني المجازية.
وينبغي القول أن "لقاء الله" في يوم القيامة ليس لقاءاً حسيّاً بل نوعاً من الشهود الباطني، لأنّ الستائر الضخمة لعالم المادة تنكشف عن عين روح الإنسان، وتبدو في حالة الشهود للإنسان!
وكما يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: إنّ المقصود من لقاء الله، هو أنّ العباد يكونون في موقف لا يكون بينهم وبين الله حجاب، لأنّ طبيعة يوم القيامة هي ظهور الحقائق كما يقول القرآن: (ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين )
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ فيها حذف، والتقدير "من كان يرجو لقاء الله فيبادر بالطاعة قبل أن يلحقه الأجل" أو "من كان يرجو لقاء الله ويقول آمنت بالله فليقله مستقيماً صابراً عليه فإنّ أجل الله لآت".
[338]
[ سورة النور الآية 25] (1).
أمّا الآية التي تليها، فهي ـ في الحقيقة ـ تعليل لما سبق بيانه في الآية الآنفة، إذ تقول: إن على المؤمنين الذين يرغبون في لقاء الله السعي بما اوتوا من قدرة وقابلية من أجل ذلك فإن نتيجة كل ذلك السعي والجهاد وتحمل الشدائد ترجع ثمارها للعامل نفسه: (ومن جاهد فإنّما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ).
إن خطة الإمتحان الالهي هي الجهاد، جهاد النفس وهواها، وجهاد الاعداء الألداء، لحفظ الإيمان والتقوى والطهارة، ونفع ذلك يعود للانسان... وإلاّ فإنّ الله وجود غير متناه من جميع الوجوه، وغير مفتقر لأي شيء حتى يتم بواسطة طاعة الناس أو عبادتهم جبرانه، ولا ينقصه شيء حتى يكمله الآخرون، فكل ما عندهم فمنه، وليس لهم شيء من أنفسهم!.
ويتّضح هنا من هذا البيان أن الجهاد لا يعني بالضرورة جهاد العدوّ المسلّح، بل يحمل معناه اللغوي الذي يشمل كل أنواع السعي والجد لحفظ الإيمان والتقوى، وتحمل أنواع الشدائد، والمواجهات "الموضعية" للأعداء الألدّاء والحاقدين.
والخلاصة أنّ جميع منافع هذا الجهاد ترجع للشخص المجاهد نفسه، وهو الذي يفوز بخير الدنيا والآخرة في جهاده، وحتى إذا كان المجتمع يستفيد من بركات هذا الجهاد، فهو في مرحلة أُخرى بعده.
فعلى هذا، متى ما وفّق أي إنسان إلى الجهاد فنال نصيب منه، فعليه أن يشكر الله على هذه النعمة!.
وآخر آية ـ محل البحث ـ توضيح لما تقدم ذكره في الآية السابقة بشكل مبهم تحت عنوان الجهاد، فهنا يكشف القرآن حقيقة الجهاد فيقول: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحثنا المراد من لقاء الله في الجزء الأوّل ذيل الآية (46) من سورة البقرة فليراجع هناك أيضاً.
[339]
إذن أوّل فائدة كبيرة لهذا الجهاد الكبير [ وهو الإيمن والعمل الصالح] هي تكفير الذنوب وسترها على الإنسان، كما أن الثواب سيكون من نصيبهم، كما يقول القرآن في نهاية هذه الآية أيضاً: (ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ).
كلمة "نكفّر" مشتقة من مادة "تكفير" ومعناها في الأصل التغطية والستر، والمقصود بتغطية الذنوب هنا عفو الله وصفحه!
والتعبير بـ(أحسن الذي كانوا يعملون ) مع أن الله يجزي على الأعمال الصالحة ـ حسنةً كانت أم أحسن لعله إشارة إلى أنّنا نجازي جميع أعمالهم الصالحة والحسنة بأحسن الجزاء، أي إذا كانت بعض أعمالهم أحسن وبعضها حسناً، فنحاسب الجميع بالأحسن، وهذا هو معنى تفضل الله سبحانه.
وفي آيات أُخرى من القرآن، كالآية (38) من سورة النور وردت الإشارة إلى ذلك أيضاً (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ).
* * *
[340]
الآيتان
وَوَصَّيْنَا الاِْنْسَـنَ بِوَلِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَـهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّـلَحَـتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الْصَّـلِحِينَ (9)
سبب النّزول
وردت روايات مختلفة في شأن نزول الآية الآنفة الذكر، ومضمون الجميع واحد وهي أنّ بعض الرجال الذين كانوا في مكّة وأسلموا(1)، حين سمعت أمهاتهم بذلك صممن على أن لا يتناولن طعاماً ولا يشربن ماءً حتى يرجع أبناؤهن عن الإسلام، وبالرغم من أن أية واحدة من هؤلاء الأُمهات لم تف بقولها، ورجعت عن إضرابها عن الطعام، إلاّ أنّ الآية المتقدمة نزلت لتوضح للجميع اُسلوب المعاملة بين الأبناء والآباء والأُمهات، في مجال الكفر والإيمان.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ورد في بعض الروايات اسم (سعد بن أبي وقاص) وفي بعضها اسم (عياش بن أبي ربيعة المخزومي).
[341]
التّفسير
أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين:
إنّ واحداً من أهم الإمتحانات الإلهية، هي مسألة "التضاد" بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة.. والقرآن في هذا المجال ـ يوضح وظيفة المسلمين بجلاء!
في البداية يتحدث عن قانون كلّي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول: (ووصينا الإنسان بوالديه ).
وبالرغم من أنّ هذا حكم تشريعي، ولكن هذه المسألة قبل أن تكون "لازماً" تشريعياً، لها وجود في فطرة الانسان بشكل قانون تكويني. وخاصّة أن التعبير بـ "الإنسان" هنا يلفت النظر.. فهذا القانون لا يختصُّ بالمؤمنين، بل كلّ من كان جديراً بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفاً بحق الأبوين... وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره.. وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما!.
بعد ذلك، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمةً على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه، يأتي استثناء صريح ـ ليوضّح هذا الموضوع في الآية، فيقول تعالى: (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ).
والتعبير بـ(جاهداك ) مفهومه بذل قصارى جهدهما وإصرارهما ومنتهى سعيهما للحيلولة بين الولد وبين الإيمان بالله.
والتعبير بـ(ما ليس لك به علم ) إشارة إلى عدم منطقية الشرك، لأنّ الشرك لو كان صحيحاً واقعاً لكان عليه دليل بيّن.
وبتعبير آخر: متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟
[342]
فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل، فلو أن الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.
وأساساً فإنّ التقليد الأعمى خطأ حتى ولو كان في مورد الإيمان، فكيف إذا كان هذا التقليد للكفر والشرك!.
وهذه الوصية وردت ـ أيضاً ـ في سورة لقمان مع اضافة (وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) فمع عدم قبول دعوتهما للشرك، ينبغي عليك احترامهما والاحسان إليهما والارفاق بهما.
ولا ينبغي أن يتصور أحد أن وجوب مخالفة الأبوين فيما لو دعوا ولديهما الى الشرك دليل على جواز الاساءة لهما، فهذا يؤكّد منتهى تأكيد الإسلام على احترام الأبوين.
وبهذا ـ يستفاد من هذا المنطلق أصل كلي: أي إن شيئاً لايمكن أن يكون حاكماً على علاقة الإنسان بالله، لأنّها مقدمة على كل شيء، حتى على علاقته بأبويه التي هي أقرب العلائق إليه.
والحديث المعروف "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (1)... الذي نقل عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) يعطينا معياراً واضحاً لهذه المسائل!.
ثمّ يضيف تعالى في نهاية الآية (إليّ مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون )وأجازيكم دون غمط ونقص في الثواب أو العقاب.
وهذه الجملة ـ في الحقيقة تهديد لأُولئك الذين يسيرون في طريق الشرك، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق.. لأنّها تقول بصراحة: إنّ الله يرى أعمالكم ويحفظهما ثمّ يعيدها إليكم "في معادكم".
والآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في أُولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وتكرر هذا المضمون أيضاً (والذين آمنوا وعملوا الصالحات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار ـ الجملة 165.
[343]
لندخلنهم في الصالحين ).
وأساساً فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره.. فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة "الصالحين".
كما أنّ العمل السيء يدخله في زمرة "الخاطئين والمسيئين".
ولكن ما الغاية من هذا التكرار؟!
قال بعضهم: في الآيات السابقة إشارة إلى أُولئك الذين يسلكون طريق الحق، أمّا هذه الآية فهي إشارة إلى أُولئك الذين هم الأدلاء والهداة الى طريق التوحيد، لأنّ التعبير بـ "الصالحين" ورد في كثير من الأنبياء، إذ كانوا يطلبون من الله أن يدخلهم في الصالحين.
كما يحتمل أيضاً، أنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء، إلاّ أنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر! فهم في صف الصالحين،صف الأنبياء والصديقين والشهداء، وهم جلساؤهم ورفقاؤهم في الجنان.
* * *
ملاحظة
الإحسان إلى الوالدين:
ليست هذه هي المرّة الأُولى التي يشير فيها القرآن إلى هذه المسألة الإنسانية المهمّة، فقد أشار إليها في سورة الإسراء الآية (23) من قبل، وسترد الإشارة إليها بعد في سورة لقمان الآيتين (14) و (15) وسورة الأحقاف الآية (15) أيضاً.
وفي الحقيقة إنّ الإسلام يدعو إلى احترام الوالدين في أسمى مراتبه، حتى مع كونهما مشركين، أو عند دعوتهما إلى الشرك الذي هو أبغض الأشياء في نظر
[344]
الإسلام، فإنّ الإسلام يوجب احترامهما في الوقت الذي يمنع من إطاعتهما في قبول الشرك والاستجابة إلى ذلك!.
وهذا في الواقع واحد من الإمتحانات الإلهية العظيمة.. التي أشير إليها في بداية هذه السورة، لأنّهما قد يبلغان من العمر أحياناً يصعب معه تحمّلهما.. فهنا ينبغي على الأبناء أن يؤدوا امتحانهم في مجال ردّ الاحسان وإطاعة أمر الله.. وأن يحافظوا على والديهما بأحسن وجه!.
نقرأ في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله) أنّ رجلا جاء إليه فقال: "يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: أمّك: قلت: ثمّ من؟ قال: أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب" (1).
وفي حديث آخر ـ وهو وارد في كثير من الكتب ـ أن النّبي(صلى الله عليه وآله) قال: "الجنّة تحت أقدام الأمّهات" (2). فلابدّ للوصول إلى الجنّة من الخضوع والتذلل في مقابلها كتراب الأقدام.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث...
2 ـ المصدر السابق.
[345]
الآيات
وَمِنَ النَّاسَ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّنْ رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَـلَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـفِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـيَـكُمْ وَمَا هُم بِحَـمِلِينَ مِّنْ خَطَـيَـهُم مِّن شَىْء إِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (12)وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
التّفسير
شركاء في الانتصار أمّا في الشدّة فلا!
حيث أنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح، ففي الآيات الأُولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثّالث ـ أي المنافقين ـ فيقول القرآن فيهم: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) فلا يصبرون على الاذى والشدائد،
[346]
ويحسبون تعذيب المشركين لهم واذى الناس أنّه عذاب من الله (ولئن جاء نصر من ربّك ليقولن إنّا كنّا معكم )فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.
ترى هل يظنون أن الله خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نياتهم (أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ).
ولعل التعبير بـ "آمنا" بصيغة الجمع، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين، فلذلك يقولون "آمنا" أي آمنا كسائر الناس الذين آمنوا.
والتعبير بـ(أوذي في الله ) معناه أوذي في سبيل الله، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ ـ احياناً ـ وهم في سبيل الله والإيمان فيؤذيهم.
الطريف هنا أنّ القرآن يعبر عن مُجازاة الله بـ "العذاب" وعن إيذاء الناس بـ "الفتنة" وهذا التعبير إشارة إلى أنّ إيذاء الناس ليس عذاباً ـ في حقيقة الأمر ـ بل هو امتحان وطريق إلى التكامل.
وبهذا فإنّ القرآن يعلمهم أن لا يقايسوا بين هذين النوعين "العذاب" و"الإيذاء" ولاينبغي أن يتنصّلوا من "الإيمان" بحجّة أن المشركين والمخالفين يؤذيهم فإن هذ الإيذاء جزء من منهج الإمتحان الكلي في هذه الدنيا.
وهنا ينقدح سؤالٌ وهو: أي نصر جعله الله حليف المسلمين ونصيبهم، ليدعي المنافقون أنّهم شركاء في هذا النصر مع المسلمين؟!
ونقول في الجواب: إنّ الجملة الآنفة الذكر جاءت بصيغة "الشرط" ونعلم أنّ الجملة الشرطية لا دليل فيها على وجود الشرط، بل مفهومها هو أنّه لو اتفق أن كان النصر حليفكم في المستقبل، فإنّ هؤلاء المنافقين ـ ضعاف الإيمان ـ يرون أنفسهم شركاء في هذا النصر!
إضافة إلى كل ذلك فإنّ المسلمين في مكّة كانت لهم انتصارات على المشركين غير عسكرية بل انتصارات في التبليغ و "الإعلام" ونفوذ في الأفكار
[347]
العامة وتوغّل الإسلام في طبقات المجتمع...
ثمّ بعد هذا كله فإنّ التعبير بالايذاء مناسب لمحيط مكّة... وإلاّ فقلّ أن اتفق مثل هذا الإيذاء في محيط المدينة.
وقد تنوّر واتضح ـ ضمناً ـ هذا الموضوع الدقيق، وهو أن التعبير بالمنافق لا يختص بمن ليس في قلبه ايمان اطلاقاً ويدعي الإيمان، بل حتى الافراد من ضعاف الإيمان الذين يتراجعون عن عقيداتهم نتيجة الضغوط والتأثير بفلان وفلان فهؤلاء أيضاً يُعدون من المنافقين.. والآية محل البحث ـ كما يظهر ـ تتحدث عن هذا النوع من المنافقين، وتصرح بأنّ الله مطلع على نيّاتهم وعليم بسرائرهم.
وفي الآية التالية ـ لمزيد التأكيد ـ يضيف القرآن قائلا: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ).
فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم الله فهم في خطأ كبير جدّاً.
ونكرر هنا ـ مرّة اُخرى أنّ التعبير بالمنافقين ليس دليلا على أنّ هذه الآيات نزلت في المدينة، صحيح أنّ مسألة النفاق تقع عادة بعد انتصار جماعة والإستيلاء على الحكومة.. حيث يغير المخالفون أقنعتهم ويعملون في الخفاء حينئذ، إلاّ أن للنفاق ـ كما قلنا ـ معنى واسع، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.
والآية الأُخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي، الذي لا يزال موجوداً في طبقات المجتمع الواسعة فتقول: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم )(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ جملة "ولنحمل" فعل دالّ على الأمر، وقد ولّد هذا التعبير إشكالا عند بعض المفسّرين، وهو: هل يمكن أن يأمر الإنسان نفسه؟! ثمّ قالوا في رد هذا الإشكال. إنّ هذا الأمر في حكم القضية الشرطية أي "إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم" ـ كما في تفسير الرّازي ـ إلاّ أنّه في اعتقادنا لا يمنع أن يأمر الإنسان نفسه، والآمر والمأمور شخص واحد، إلاّ أنّه ذو اعتبارين... "فتأمل بدقّة" .
[348]
واليوم نرى كثيراً من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر: إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا!.
في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد، وأساساً فإنّ هذا العمل ليس معقولا وليس منطقياً.... فالله عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحداً بجرم الآخر.
ثمّ بعد كل ذلك فإنّ الإنسان لا تسقط عنه المسؤولية في العمل بمثل هذه الكلمات، ولا يمكن له التنصّل منها... وخلافاً لما يتوهمه بعض الحمقى فإنّ مثل هذه التعبيرات لا تنقص من عقابهم حتى بمقدار رأس الإبرة.
ولذلك فلا يعتدّ بمثل هذا الكلام في أية محكمة كانت ولا يقبل من المذنب أن يقول: إن فلاناً تحمّل عنّي الوزر وجعله في رقبته!.
صحيح أن ذلك الإنسان حثه على الإجرام ودفعه إلى اقترافه، فهو شريكه، إلاّ أن هذا الإشتراك في الجريمة لا يخفّف عنه المسؤولية!
لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية (وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنّهم لكاذبون ).
هنا ينقدح السؤال التالي.. "إنّ الصدق والكذب هما في موارد الجمل الخبرية، في حين أن هذه الجملة إنشائية "ولنحمل خطاياكم" وليس في الجملة الإنشائية صدق أو كذب، فلم عبّر القرآن عنهم بأنّهم "كاذبون"؟!
والجواب على هذا السؤال يتّضح من البيان الذي ذكرناه سابقاً، وهو أن الجملة الأمرية هنا تتحول إلى جملة شرطية، ومفهومها أنّه إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم وآثامكم، ومثل هذه الجملة تقبل الصدق والكذب(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لدينا طريق آخر على الجواب على هذا السؤال، لأنّنا نعتقد وجود الصدق والكذب في الجملة الإنشائية أيضاً، ويلاحظ هذا في التعبيرات العرفية أيضاً... لأنّ الشخص ـ مثلا ـ إذا أمر بشيء ما فهو دليل على تعلقه به، وحين نقول: إنّه يكذب، فمعناه أنّه لم يطلبه "فلاحظوا بدقّة" .
[349]
وبعد ذلك، ومن أجل أن لا يتصور أن هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم، لا شيء عليهم من العقاب لهذا العمل، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا: (وليحملن أثقالهم أثقالا مع ثقالهم ).
وثقل الذنب هذا... هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النّبي(صلى الله عليه وآله) فقال: "من سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء!" (1).
المهم أنّهم شركاء في آثام الآخرين، وإن لم ينقص من وزر الآخرين وإثمهم مقدار من رأس الإبرة.
وتختتم الآية بالقول: (وليسئلنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون ).
وينقدح هنا سؤال آخر وهو: ما المراد من هذا الإفتراء الذي يسألون عنه؟!
ولعل ذلك إشارة إلى الإفتراءات التي نسبوها إلى الله، وكانوا يقولون: "إن الله أمرنا أن نعبد الأصنام!".
أو أنّه إشارة إلى كلامهم الذي كانوا يقولون: "ولنحمل خطاياكم".
لأنّهم كانوا يدّعون أن مثل تلك الأعمال لا يترتب عليها إثم... وإن هذا الكلام كان افتراءً، وينبغي أن يجيبوا على ما يسألون بصدده!
أو أنّه يقال لهم على نحو الحقيقة والواقع يوم القيامة: هلموا لتحملوا أثقال الآخرين، فيمتنعون من ذلك ويظهر كذبهم وافتراءهم.... أو أنّ ظاهر كلامهم كان يعني أن كلّ إنسان يمكن أن يتحمل وزر الأخر ويكون مسؤولا عنه، في حين أن هذا الكلام كذب وافتراء محض أيضاً، وكل إنسان مسؤول عن عمله!.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التّفسير الكبير للرازي، ج 25، ص 40.
[350]
مسألتان
1 ـ السنن الحسنة والسنن السيئة:
التخطيط لعمل ما ـ أو لمنهج ما ـ في المنطق الإسلامي له أثرهُ.. ويحمل صاحبه المسؤولية عنه ـ شاء أم أبى ـ ويكون مشاركاً للآخرين الذين يعملون بما خططه وسنّه، لأنّ أسباب العمل هي من مقدمات العمل، ونعرف أن كل شخص يكون دخيلا في مقدمة عمل إنسان آخر فهو شريكه أيضاً، فحتى لو كانت المقدمة بسيطة، إلاّ أن ذلك الشخص شريك مع ذي المقدمة.
والشاهد على هذا الكلام حديث منقول عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) وهو أن سائلا جاء والنّبي(صلى الله عليه وآله) في طائفة من صحابته فطلب العون فلم يجبه أحد، ثمّ قام اليه رجل وناوله شيئاً فقام: الآخرون ورغّبوا في إعانته فقال النّبي(صلى الله عليه وآله): "من سنَّ خيراً فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً، ومن سنّ شرّاً فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً" --(1).
وقد ورد نظير هذا الحديث بعبارات مختلفة في مصادر الحديث عند الشيعة والسنة وهو حديث مشهور.
2 ـ جواب على سؤال:
أثار بعضهم هنا هذا السؤال، وهو أنّنا نلاحظ أحياناً في القوانين الإسلامية أن الدية تقع على شخص آخر... فمثلا في حالة قتل "الخطأ المحض" تقع الدية على العاقلة "والمراد بالعاقلة أقارب الرجل الذكور من طرف الأب... الذين تتوزع فيما بينهم دية قتل الخطأ المحض، ويدفع كلٌّ منهم قسماً حتى تتمّ الدية!".
أو ليست هنا منافاة بين هذه المسألة وبين الآيات المتقدمة؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الدر المنثور...
[351]
وفي الجواب على هذا السؤال نقول: إنّ "ضمان العاقلة" في الحقيقة نوع من التأمين الإلزامي المتقابل بين أعضاء العشيرة الواحدة.
فالإسلام ـ من أجل أن لا يتحمل الفرد الواحد العبء الثقيل للدية ـ ألزم أفراد العشيرة بأن يضمن بعضهم بعضاً في ديّة قتل الخطأ، وأن يقسموا المبلغ فيما بينهم فيدفع كل فرد منهم حصّة.
فقد يُخطىء اليوم أحدهم، وغداً قد يرتكب هذا الخطأ شخص آخر من العشيرة... "لمزيد الإيضاح نوكل المراجعة إلى الكتب الفقهية، بحث الديات".
وعلى كل حال، فإنّ هذا المنهج نوع من التعاون في سبيل حفظ المنافع المتقابلة، ولا يعني بأي وجه تحمل وزر الآخرين، خاصة وأنّ دية قتل الخطأ ليست أصلا جريمة ذنب، بل هي تعويض عن الخسارة! "فتأمل بدقّة" .
* * *
[352]
الآيات
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إلاَّ خَمْسَيْنَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـلِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَصْحَـبَ السَّفِيْنَةِ وَجَعَلْنَـهَآ ءَايَةً لِّلْعَـلَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوالله وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَـناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبََلَـغُ الْمُبِينُ (18) أَوَ لَمْ يَرَواْ كَيْفَ يُبْدِىءُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (19)
التّفسير
إشارة لقصتي نوح وإبراهيم:
لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الإمتحانات العامّة في الناس، فإنّ
[353]
الكلام هنا ـ وفي ما بعد ـ يقع على الإمتحانات الشديدة للأنبياء، وكيف أنّهم كانوا تحت ضغط الأعداء وإيذائهم، وكيف صبروا وكانت عاقبة صبرهم النصر! ليكون هذا الكلام تسلية لقلوب أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله) الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء ـ من جانب ـ وتهديداً للأعداء لينتظروا عاقبتهم الوخيمة من جانب آخر.
تبدأ الآيات أوّلا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو "نوح"(عليه السلام)، وتتحدث عنه بعبارات موجزة، لتُجملَ قسماً من حياته التي تناسب ـ كثيراً ـ الواقع الراهن للمسلمين ـ آنئذ ـ فتقول: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ).
كان نوح مشغولا ليلَ نهارَ بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله ـ فرادى ومجتمعين،مستفيداً من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاماً) يدعوهم إلى الله.. ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.
ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلاّ جماعة قليلة في حدود الثمانين شخصاً كما تنقل التواريخ (أي بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة!).
فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الإنحرافات، لأنّ منهجكم أمام منهج "نوح" سهل للغاية.
لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء: (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ).
وهكذا انطوى "طومار" حياتهم الذليلة، وغرقت قصورهم وأجسادهم وآثارهم في الطوفان وأمواجه.
والتعبير بـ (ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ) مع إمكان القول "تسعمائة وخمسين سنة" من البداية، هو إشارة إلى عظمة المدة وطول الزمان، لأنّ عدد
[354]
"الألف" وأيّ ألف؟ ألف سنة! يعدّ مهماً وعدداً كبيراً بالنسبة لمدّة التبليغ.
وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوح(عليه السلام) بتمامه (وإن ذُكر ذلك في التوراة الحديثة، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أُخرى، وطبقاً لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة!
طبعاً... هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جداً ولا يعدّ طبيعيّاً أبداً، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتاً مع عصرنا هذا... وبناءً على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمرين، وعمر نوح بينهم أيضاً كان أكثر من المعتاد، ويشير هذا الأمر ضمناً إلى هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمّروا طويلا.
إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت، وما يقوله بعضهم بأنّه محدود بمائة وعشرين سنة، و أكثر أو أقل، فلا أساس له... بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف.
واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة، إلى اثني عشر ضعفاً على العمر الطبيعي، وحتى في بعض الموارد ـ ولا تتعجبوا ـ أوصلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي... وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين.(1)
وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة "الطوفان" في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان، وهي مشتقّة من مادة "الطواف" ، ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها، كما يطلق على كل شيء كثير وشديد وفيه حالة الاستيعاب، سواءً كان ريحاً أو ناراً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر، بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهدي(عليه السلام)، يراجع كتاب "المهدي تحول كبير".
[355]
أو ماءً، فيسمى كلٌّ منها طوفاناً... كما قد يردُ بمعنى ظلمة الليل الشديدة أيضاً.(1)
الطريف أنّ القرآن يقول: (وهم ظالمون ) أي إنّهم حين وقوع العذاب "الطوفان" كانوا لا يزالون في ظلمهم أيضاً.
وهذا إشارة إلى أنّهم لو تركوا تلك الأعمال، وندموا على ما فعلوا، وتوجّهوا إلى الله، لما ابتلوا بمثل هذه العاقبة أبداً.
ويضيف القرآن الكريم في الآية الأُخرى (فانجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين )(2).
ثمّ يعقّب على قصّة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط، ويأتي بقصّة إبراهيم(عليه السلام)، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )(3).
هنا بيّن القرآن منهجين مهمّين من مناهج الأنبياء العملية والاعتقادية، وهما الدعوة إلى توحيد الله والتقوى ـ في مكان واحد ـ ثمّ يختتم القول: أن لو فكرتم جيداً لكان ذلك خيراً لكم عند اتباعكم لمذهب التوحيد والتقوى، إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبديّة.
ثمّ يذكر إبراهيم(عليه السلام) أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمّن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلا: (إنّما تعبدون من دون الله أوثاناً ).
هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح.. الأصنام التي ليس لها إرادة،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المفردات للراغب.
2 ـ القول في ما هو مرجع الضمير في "جعلناها" للمفسّرين احتمالات كثيرة، فبعضهم قال: هو إشارة إلى مجموع هذه الواقعة والحادثة، وقال بعضهم: هي نجاة نوح(عليه السلام) فحسب ـ مع أصحابه ـ وأشار بعضهم إلى أن المراد من "جعلناها" هي السفينة، وظاهر العبارة المتقدمة ـ أيضاً ـ تؤيد هذا الإحتمال الأخير، وحقاً كانت هذه السفينة آيةً من آيات الله في ذلك العصر، وفي تلك الحادثة العظيمة.
3 ـ الظّاهر أنّ "إبراهيم" معطوف على كلمة "نوح" وفعله "أرسلنا" ، وبعضهم عطفه على مفعول (أنجيناه) وبعضهم جعله مفعولا لفعل محذوف تقديره "اذكر" .
[356]
ولا عقل، وهي فاقدة لكل شيء، بحيث أن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة "عبادة الأوثان"
(لاحظوا أن "الأوثان" هي جمع لكلمة "وثن" على زنة "صنم" ومعناها "الحجارة المنحوتة" الموضوعة للعبادة!).
ثمّ يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول: ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان: (وتخلقون إفكا ).
فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حَفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.
وحيث أن كلمة "تخلقون" مشتقّة من الخلق، وتعني أحياناً الصنع والإبداع، وأحياناً تأتي بمعنى الكذب، فإنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لهذه الجملة غير ما بيّناه آنفاً... وقالوا إنّ المقصود من هذا التعبير هو أنّكم تنحتون هذه الأوثان... المعبودات الباطلة المزوّرة بأيديكم، وتصنعونها (فيكون المراد من الإفك هنا هو المعبودات المزورّة) والخلق هو النحت هنا(1).
ثمّ يبيّن الدليل الثّالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية، أو لعاقبتكم في "الأُخرى" وكلا الهدفين باطل... وذلك: (إنّ الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً ).
وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم، بل الخالق هو الله، فالذي يتكفل بالرزق هو الله (فابتغوا عند الله الرزق ).
ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه (واعبدوه واشكروا له ).
وبتعبير آخر، فإن واحداً من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الإفك" يطلق في الأصل على كل شيء مختلف عن حقيقته، ولذلك يطلق على الكذب ـ خاصة الكذب الكبير ـ أنّه إفك، كما تطلق هذه الكلمة على الرياح المخالفة لإتجاهها ومسيرها فيقال "رياح مؤتفكة".
[357]
للمنعم الحقيقي، وتعرفون أن المنعم الحقيقي هو الله، فالشكر والعبادة يختصان ـ أيضاً ـ بذاته المقدسة.
وإذ كنتم تبتغون الدار الأُخرى فإنّه (إليه ترجعون ).
فالأصنام لا تصنع شيئاً هنا ولا هناك!.
وبهذا الأدلّة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.
ثمّ يلتفت إبراهيم (عليه السلام) مهدّداً لهم ومبدياً عدم اكتراثه بهم قائلا: (وإن تكذبوا فقد كذب أُمم من قبلكم ) كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة (وما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين ) سواءً استجاب له قومه، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!
والمقصود بالأُمم قبل أُمة إبراهيم(عليه السلام) ، أُمة نوح(عليه السلام) وما بعده من الأُمم وبالطبع فإنّ إرتباط هذه الآيات يوجب أن تكون هذه الجملة من كلمات إبراهيم(عليه السلام)، وهذا ما يذهب إليه كثير من المفسّرين عند تفسيرهم للنص، أو يحتملون ذلك!.
والاحتمال الآخر: إنّ الخطاب في هذه الآية للمشركين من أهل مكّة المعاصرين للنّبي(صلى الله عليه وآله) وجملة (كذب أُمم من قبلكم ) فيها تتناسب أكثر مع هذا الاحتمال.
أضف إلى ذلك، فإنّ نظير هذا التعبير الذي ورد في الآية 25 من سورة الزمر، والآية (25) من سورة فاطر، هو أيضاً في شأن نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) والمشركين العرب في مكّة. ولكن ـ وعلى أي حال ـ أيّاً من التّفسيرين كان ذلك، فليس هناك تفاوتٌ في النتيجة!.
والقرآن يترك قصّة إبراهيم هنا مؤقتاً، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد، فيقول: (أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثمّ يعيده ).
[358]
والمراد بالرؤية هنا هي الرؤية "القلبية" والعلم، أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أولا قادر على إعادته أيضاً، فالقدرة على شيء ما هي قدرة على أمثاله وأشباهه أيضاً.
كمايأتي هذا الإحتمال، وهو أنّ الرؤية هنا هي الرؤية "البَصَيريّة" والمشاهدة بالعين... لأنّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات، وتتولد الدجاجة من البيض، والأطفال من النطف... فمن له القدرة على هذا الأمر قادر على أن يحيي الموتى من بعدُ أيضاً.
ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد (إنّ ذلك على الله يسير ). لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يُعدّ أمراً بسيطاً.
وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم، وإلاّ فإن اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة... فهذه قدراتنا التي أوجدت مثل هذا "المفهوم"، ومع الإلتفات إلى إنجازها... ظهرت لدينا أُمور يسيرة وأُخرى عسيرة.
* * *
[359]
الآيات
قُلْ سِيِرُوا فِى الاَْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِىءُ النَّشْأةَ الاَْخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَآ أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِير (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَاَيَـتِ اللهِ وَلِقآئِهِ أُولَـئِك يئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
التّفسير
الآيسون من رحمة الله:
هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضاً، على صُورة جُمَل معترضة في قصّة إبراهيم(عليه السلام).
وليست هذه أوّل مرّة نواجه فيها مثل هذا الأسلوب... فهذه هي طريقة القرآن دائماً، فعندما يبلغ مرحلة حساسة من ذكر قصّة ما، يترك بقيّة القصّة مؤقتاً للإستنتاج أكثر، ثمّ يعطي النتائج اللازمة.
وعلى كل حال، فإنّ القرآن يدعو في الآية الأُولى من هذا المقطع الناس إلى
[360]
"السير في الآفاق" في مسألة المعاد... في حين أن الآية السابقة كانت السمة فيها "السير في الأنفس" أكثر! يقول القرآن: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) انظروا الى أنواع الموجودات الحية، والاقوام والاُمم المتنوعة والمختلفة، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولا، ثمّ أن الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر ايضاً على ايجادها في الآخرة (ثمّ الله ينشىءُ النشأة الآخرة )
ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أولا، إذن فـ ـ(إنَّ الله على كل شيء قدير ).
فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضاً ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد.. مع فرق أن الآية الأُولى تتحدث عن الإنسان نفسه وخلقه وما حوله! والآية الثّانية تأمر بمطالعة حالات الأُمم والموجودات الأخرى، ليروا الحياة الأُولى في صور مختلفة وظروف متفاوتة تماماً، وليطّلعوا على عموميّة قدرة الله، وليستيقنوا قدرته على إعادة هذه الحياة!.
كما أن إثبات التوحيد يتمُّ ـ أحياناً ـ عن طريق مشاهدة "الآيات في الأنفس" وأحياناً عن طريق "الآيات في الآفاق" فكذلك يتمّ إثبات المعاد عن هذين الطريقين أيضاً.
وفي عصرنا هذا يمكن أن تبيّن هذه الآيات للعلماء معنىً أعمق وأدق، وهو أن يمضوا ويلاحظوا الموجودات الحيّة الأُولى التي هي في أعماق البحار على شكل فسائل ونباتات وغيرها، وفي قلب الجبال، وبين طبقات الأرض، ويطلعوا على جانب من أسرار بداية الحياة على وجه الأرض، ويدركوا عظمة الله وقدرته، وليعلموا أنّه قادر على إعادة الحياة أيضاً(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سبق أن تعرضنا إلى بحث حول "السير في الأرض" وآثاره، غير أنّ البحث الفائت كانت فيه جوانب من دروس العبرة في مجال قصص الأمم الماضية وطغاتها. التّفسير الأمثل ذيل الآية (137) سورة آل عمران، فلا بأس بمراجعتها.
[361]
هذا وإن كلمة "النشأة" في الأصل، تعني إيجاد الشيء وتربيته، وقد يعبرأحياناً عن الدنيا بالنشأة الأولى، كما يعبر عن الأُخرى بالنشأة الآخرة!.
وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير "إن ذلك على الله يسير" وورد التعبير هنا (إن الله على كل شيء قدير ).
ولعل منشأ التفاوت والإختلاف هو أن الآية الأُولى تعالج مطالعة محدودة، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّاً.
ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد، وهي مسألة الرحمة والعذاب، فيقول: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ).
ومع أنّ رحمة الله مقدمةٌ على غضبه، إلاّ أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة، لأنّها في مقام التهديد، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأُسلوب!.
هنا ينقدح السؤال التالي:
كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه (واليه تقلبون )؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة.. وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.
ونقول جواباً على مثل هذا السؤال: إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها، وجملة (وإليه تقلبون ) إشارة إلى الدليل على ذلك: أي: بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه، فالعذاب والرحمة ـ أيضاً ـ بإرادته وتحت أمره!.
ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع، بحيث
[362]
يشمل العذاب والرحمة في الدارين.
كما يتّضح أنّ المراد بقول: (من يشاء ) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته، أي كل من كان جديراً ومستحقاً لذلك.. فإن مشيئة الله ليست عبثاً، بل منسجمة مع الإستحقاق والجدارة!.
وجملة "تنقلبون" من مادة"القلب" ومعناها في الأصل: تغيير الشيء من صورة إلى صورة أُخرى، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان تراباً لا روح فيه، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانيةً أيضاً.
ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضاً ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأُخرى ويتغيّر تغيراً ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (9) من سورة الطارق (يوم تبلى السرائر ).
وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه، يضيف القرآن: إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولايمسّكم عذابه، فأنتم في خطأ كبير... فليس الأمر كذلك! (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء )(1).
وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك، فهذا خطأ محضٌ أيضاً (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ).
وفي الحقيقة، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه، إمّا بأن تخرجوا من حكومته، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم، فلا الخروج ممكن، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة "معجزين" مشتقّة من مادة "عجز"، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر، "المعجزة" معناه الذي يجعل الآخر عاجزاً، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته، يعجزونه عن ملاحقتهم، لذلك استعملت كلمة "معجز" في هذا الصدد أيضاً...
[363]
ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.
يبقى هنا سؤالان: ـ
أوّلا: مع الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين، وهم سكنة الأرض، فما معنى قوله تعالى: (ولا في السماء ) وأي مفهوم له هنا؟!
وينبغي أن يقال في الجواب، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض، ولا في السماوات، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء، فمازلتم تحت قدرته و سلطانه.
أو إنّه: لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعاً ـ)
ثانياً: ما الفرق بين الولي والنصير؟!
يرى العلامة "الطبرسي" في "مجمع البيان" وقيل: إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارةً بنفسه بأن يأمره غيره به"(1).
بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب [ من عليه الولاية] ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.
وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين..
لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أُولئك يئسوا من رحمتي )
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ج ، ص 352.
[364]
ثمّ يضيف مؤكداً: (وأُولئك لهم عذاب أليم ).
هذا "العذاب الأليم" هو لزم اليأس من رحمة الله.
والمراد بـ "ايات الله" إمّا هي "الآيات التكوينية" أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد، في حين أن كلمة "لقائه" إشارة إلى مسألة المعاد، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.
أو أنّ المراد من آيات الله هي "الآيات التشريعية" أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ "لقائه" من قبيل ذكر الخاص بعد العام.
كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.
وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضاً ـ وهي أن "يئسوا" فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادةً إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي، للدلالة على تحققه قطعاً وحتماً.
* * *
[365]
الآيات
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاِّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَـهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يُؤمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّما اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَـناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْض وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّـصِرِينَ (25) فَأَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهِاجِرٌ إِلَئ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـبَ وَءاتَيْنَـهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاَْخِرَةِ لَمِّنَ الصَّـلِحِينَ (27)
التّفسير
اسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم:
والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيم(عليه السلام) ردّاً على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!
إنّهم ـ قطعاً ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمراً بقتله، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه! ).
[366]
ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار، في حين كانت جماعة أُخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!
وأخيراً رُجح الرأىُ الأوّل، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الاحراق بالنّار.
كما ويحتمل أيضاً أنّهم جميعاً كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية، غير أنّهم اتفقوا أخيراً على إحراقه بالنّار، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.
وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيم(عليه السلام) بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة، وهو (فأنجاه الله من النّار ).
غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات 68 ـ 70) وقد بيّنا ذلك هناك، فلا بأس بمراجعته!
ويضيف القرآن في الختام (إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ).
ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة، بل علائم وآيات... فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة، وتبدل النّار إلى روضة و"سلام" على إبراهيم كما هو معروف معجزة أُخرى، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضاً.
كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أُولئك المظلمة قلوبهم، آية من آيات الله، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.
وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما اُلقي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدوداً وموثقاً به(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير روح المعاني، ج 20، ص 130.
[367]
أجل، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الاسر، فتحرر إبراهيم(عليه السلام) منها... وهذه بنفسها تعدُّ آية أُخرى.
وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله: (جعلناها آية ) بصيغة الإفراد، ولكنّه عبّر هنا بقوله: (لآيات ) بصيغة الجمع!.
وعلى كل حال فإنّ ابراهيم(عليه السلام) نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه، غير أنّه لم يترك أهدافه.. بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.
ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين (وقال إنّما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودّة بينكم في الحياة الدنيا ) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة (ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النّار ومالكم من ناصرين ).
كيف تكون الأوثان أساساً للمودّة بين عبدة الأوثان؟!
هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق:
الأوّل: أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزاً للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثناً، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية، فصنم "العزّى" كان لقريش، و"اللاّت" كان خاصاً بثقيف، أمّا "منات" فكان خاصاً بالأوس والخزرج!.
الثّاني: أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين اسلافهم وغالباً ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون: إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.
ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(1) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان، وكان هذا الأمر بمثابة "حلقة الاتصال" بين السراة والأتباع.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "السراة" جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم. (المصحح)
[368]
ولكن هذه العلائق والوشائج والإرتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر، ويلعنه ويتبرأ. منه ومن عمله، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله، وكانوا يقولون في شأنها (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى )،(1) ـ تتبرأ منهم.
وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية 82 يقول: (كلاّ سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً ).
فعلى هذا، يكون المراد من قوله تعالى: (يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم، وما كان أساساً لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة.. كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (67) من سورة الزخرف فيقول: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتقين ).
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان، بل هو لجميع أُولئك الذين اختاروا "إماماً باطلا" لأنفسهم، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة، ففي يوم القيامة يكونون أعداءً فيما بينهم، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً.(2) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة اللّه وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكاً.. حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة.. في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً(3).
وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم، إذ تقول:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الزمر، الآية 3.
2 ـ أصول الكافي، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 154.
3 ـ كتاب الصدوق، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج4، ص154.
[369]
(فآمن له لوط ).
"لوط" نفسه من الأنبياء العظام، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى "يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيم(عليه السلام)" وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد اُمّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصةً ـ عن إيمان "لوط" وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيم(عليه السلام)، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون، فإنّ ذلك ليس مهمّاً.
ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليل(عليه السلام)، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا "أقليّة".
ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيم(عليه السلام) فتقول: (وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنّه هو العزيز الحكيم ).
ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما، ويكون هذا المحيط ملوثّاً وتحت تأثير الجبابرة، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أُخرى لتتسع دعوة الله في الإرض!.
فلذلك تحرك ابراهيم(عليه السلام) وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد!.
من الطريف أنّ إبراهيم(عليه السلام) يقول في هذا الصدد: (إنّي مهاجر إلى ربي )لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله، طريق رضاه، وطريق دينه ومنهاجه.
وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى: (وقال إنّي مهاجر ) عائد على لوط(عليه السلام)، أي إنّ لوطاً قال: إنّي مهاجر إلى ربّي، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضاً، إلاّ أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيم(عليه السلام)، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم.
[370]
والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيم(عليه السلام) في الآية (99) من سورة الصافات (إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين ). (1)
وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيم(عليه السلام) بعد الهجرة العظيمة:
الموهبة الأولى: الأبناء الصالحون، من أمثال إسحاق ويعقوب، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه، إذ يقول القرآن: (ووهبنا له إسحق ويعقوب ) وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيم(عليه السلام)محطم الأصنام.
الموهبة الثّانية: (وجعلنا في ذريّته النّبوة والكتاب ) ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيم(عليه السلام) واُسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) متعاقبون من ذرية إبراهيم، نوّروا العالم بضياء التوحيد.
الموهبة الثّالثة: (وآتيناه أجره في الدنيا ) فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أُمور مختلفة مثل الاسم الحسن، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأُمم، لأنّ الأُمم كلها تحترم ابراهيم(عليه السلام) على أنّه نبي عظيم الشأن، ويفتخرون بوجوده ويسمونه "شيخ الأنبياء".
عمارة أرض مكّة كانت بدعائه، وجذب قلوب الناس جميعاً نحوه، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن.
الموهبة الرّابعة: هي (إنّه في الآخرة من الصالحين ) وهكذا تشكّل هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيم(عليه السلام) من بابل إلى الشام في ذيل الآية (71) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل، فلا بأس بمراجعته.
[371]
المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.
* * *
ملاحظتان
1 ـ أكبر الفخر!...
"الدخول في الصالحين" بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر، وقد يحظى به انسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنّ كثيراً من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين.
فيوسف(عليه السلام) بعد وصوله إلى أبرز الإنتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول: (توفني مسلماً والحقني بالصالحين ).(1)
وكذلك نبيّ الله سليمان(عليه السلام) مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة، يطلب من الله (أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين )(2)
وشعيب(عليه السلام)، ذلك النّبي العظيم، حين وقع العقد على استئجار موسى قال له: (ستجدني إن شاء الله من الصالحين ).(3)
وإبراهيم(عليه السلام) أيضاً يطلب لنفسه من الله أن يكون في زمرة الصالحين (ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين ).(4)
كما يطلب من الله أن يرزقه أبناءً صالحين فيقول: (ربّ هب لي من الصالحين ).(5)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة يوسف، الآية 101.
2 ـ سورة النمل، الآية 19.
3 ـ سورة القصص، الآية 37.
4 ـ سورة الشعراء، الآية 83.
5 ـ سورة الصافات، الآية 100.
[372]
كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه، يصفهم بأنّهم "من عباده الصالحين".
ويستفاد من مجموع هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبداً صالحاً.
ما معنى الصلاح؟! وبعبارة أجلى: ما معنى أن يكون الإنسان صالحاً؟!
معناه: أن يكون جديراً بالاعتقاد والإيمان، جديراً بالعمل، جديراً بالقول، جديراً بالاخلاق!
أمّا ما يقابل الصالح فهو الفاسد، ونعرف أن "الفساد في الأرض" تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة.
وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحياناً ـ في مقابل الفساد، ويستعمل ـ أحياناً ـ في مقابل السيئة، وتعني "الذنب" وما لا يليق.
2 ـ مواهب إبراهيم العظيمة
قال بعض المفسّرين: إنّ في الآية الآنفة لطيفة دقيقة.. هي أنّ الله بدل جميع الأُمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الإستياء، إلى الضدّ.
فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنّار، فتبدلت روضة وسلاماً.
وأرادوه أن يبقى منفرداً معزولا عن الناس، فوهب الله له أُمّة عظيمة وجعل النّبوة في ذراريه.
وكان بعض أقاربه ضالا وعابداً للصنم كما هي الحال في "آزر" فأعطاه الله مكانه أبناءً مهتدين وهادين للآخرين.
ولم يكن لإبراهيم(عليه السلام) في بداية حياته مال ولا جاه، فوهب له الله مالا وجاهاً عظيماً.
[373]
وكان إبراهيم(عليه السلام) في بداية أمره مجهولا لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه (قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم ).
لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته، حتى أنّه إذا ذكر قيل في حقّه "شيخ الأنبياء" أو "شيخ المرسلين"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الرازي، بشيء من التصرف.
[374]
الآيات
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الْفَـحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِّنَ الْعَـلَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتأتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَنْ قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
التّفسير
المنحرفون جنسياً:
بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيم(عليه السلام) يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم "لوط"(عليه السلام) فيقول: (ولوطاً إذْ قال لقومه إنّكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين )(1).
"الفاحشة" كما بيناها من قبل، مشتقّة من مادة "فَحَشَ" وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية،والمراد بها هنا الإنحراف الجنسي. (اللواط).
ويستفاد من جملة (ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) بصورة جليّة أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يمكن أن تكون كلمة "لوطاً" عطفاً على كلمة (نوحاً) فتكون بمنزلة المفعول "لأرسلنا" ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره "واذكر لوطاً".
[375]
هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له ـ على الأقل بشكل عام وجماعي ـ أن يقع في أية أُمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.
ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحداً من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوماً بخلاء جداً، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام، فقد كانوا يظهرون هذا العمل "الإنحراف" لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم، إلاّ أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح، وقويت فيهم رغبة اللواط، فسقطوا في الوحل المخزي شيئاً فشيئاً.
على كل حال، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبداً (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثالهم! ).
لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضاً.
لوط(عليه السلام) هذا النّبي العظيم، كشف أخيراً ما في نفسه وقال لقومه (أإنّكم لتأتون الرجال ) أفتريدون أن تقطعوا النسل (وتقطعون السبيل )(1).
ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة (وتأتون في ناديكم المنكر ).
"النادي" مشتق من "النداء" وهو يعني المجلس العام، كما يأتي أحياناً بمعنى مكان التنزّه، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضاً وترتفع أصواتهم.
والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم.. لكنّها قطعاً كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي.. وكما ورد في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يرى جماعة من المفسّرين وجوهاً واحتمالات أُخرى لجملة "وتقطعون السبيل" منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الإلتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقاً غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر، لأنّ واحداً من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.
[376]
بعض التواريخ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والإبتذال، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره. أو يلعبون القمار، وأو يعبثون كاالاطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة... الخ(1).
في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله) كما تنقله "أم هاني" أنّه قال مفسراً لمعنى: (وتأتون في ناديكم المنكر ) أنّهم "كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه" (2)أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.
والآن فلنلاحظ ماذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين، على كلمات النّبي لوط(عليه السلام) المنطقية.
يقول القرآن: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ).
أجل هكذا، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والإستهزاء إزاء دعوة لوط(عليه السلام) المنطقية والمعقولة.
كما يستفاد جيداً من هذا الجواب أنّ لوطاً(عليه السلام) كان قد هدّدهم بعذاب الله، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح، إلاّ أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب، فقالوا: (ائتنا بعذاب الله ) على سبيل الإستهزاء والسخرية!!... كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (36) بقوله تعالى: (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ).
ويستشف ـ ضمناً ـ من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوط(عليه السلام) ، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 517.
2 ـ تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.
[377]
وهنا لم يكن للوط(عليه السلام) بدّ إلاّ أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم... و(قال ربّ انصرني على القوم المفسدين ).
القوم المنحرفين، المتمادين في الأرض فساداً، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم، وسحقوا العدل الإجتماعي تحت أقدامهم، ومزجوا عبادة الأوثان بفسد الأخلاق والظلم، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.
* * *
ملاحظة
بلاء الإنحراف الجنسي:
الإنحراف الجنسي ـ سواءً كان في أوساط الرجال "اللواط" أم في أوساط النساء "المساحقة" ـ لهو من أسوأ الإنحرافات الأخلاقية، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.
وأساساً فإنّ طبيعة "كلّ من الرجل والمرأة" مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة "عن طريق الزواج المشروع" وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قُدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوماً بعد يوم، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة، والإشباع غير الصحيح من "الجنس المماثل" أي "اللواط" أو"السحاق".
ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح. إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!
[378]
بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسياً يبتلون بضعف جنسي شديد، ولا يستطيعون أن يكونوا آباءً وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية "بسبب هذا الإنحراف".
إن المنحرفين جنسياً يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضاً، كما يبتلون بنفصام الشخصية، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم ، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.
ولهذا السبب ـ ولأسباب أخلاقية واجتماعية أُخرى ـ حرّم الإسلام الإنحراف الجنسي تحريماً شديداً بأي شكل كان وفي أية صورة، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقاباً صارماً يبلغ أحياناً إلى درجة الإعدام والقتل!.
والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيراً من الفتيان والفتيات إلى الإنحراف الكبير.
في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال، وتبدأ من هنا قضية الإنحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال، وتأخذ شكلاً قانونياً بحيث يعدون هذا الأمر عادياً لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة، ولا يسع القلم إلاّ أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا في صدد الإنحراف الجنسي بحث مفصل في ذيل الآية (81) سورة هود...
[379]
الآيات
وَلَمَّآ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَهِيمَ بِالْبُشْرى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُوآاْهْلَ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظََـلِمِينَ (31) قَالَ اِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَـبِرِينَ (32) وَلَمَا أَنْ جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَـبِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَـذهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسِقُونَ (34) وَلَقَدْ تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْم يَعْقِلُونَ (35)
التّفسير
وهذه هي عاقبة المنحرفين:
لقد أستجيب دعاءُ لوط أخيراً، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيم(عليه السلام) لأداء رسالة أُخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب، هي بشارتهم لإبراهيم(عليه السلام) بالوَلد: "بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب".
[380]
والآيات المتقدمة تذكر أوّلا قصّة مرورهم بإبراهيم(عليه السلام) فتقول: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ).
والتعبيربـ "هذه القرية" يدل على أن مُدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيم(عليه السلام)
والتعبير بالظالمين هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.
فلمّا سمع "إبراهيم" هذا النبأ حزن على لوط النّبي العظيم و(قال إنّ فيها لوطاً ).
فما عسى أن تكون عاقبته؟!
إلاّ أنّهم أجابوه على الفور، (قالوا نحن أعلم بمن فيها ) فلا تحزن عليه، لأننا لا نحرق "الأحضر واليابس" معاً، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماماً... ثمّ أضافوا (لننجينه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين ).
ويستفاد من هذه الآية جيداً أنّ أسرة واحدة فقط في جميع تلك المدن والقرى كانت مؤمنة وغير مدنّسة، وقد نجاها الله في ذلك الحين أيضاً... كما نقرأ مثل ذلك في الآية (36) من سورة الذاريات: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) ومع ذلك فإنّ امرأة لوط كانت خارجة عن جماعة المؤمنين، فشملها العذاب.
والتعبير بـ "الغابرين" جمع "غابر" ومعناه المتخلف عن جماعته الماضين في الطريق، فالمرأة التي كانت في عائلة النبوّة لا ينبغي لها أن تنفصل عن المؤمنين والمسلمين... غير أنّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان ـ كل ذلك ـ دعاها إلى الإنفصال!.
[381]
ويتّضح من هنا أن انحرافها كان من جهة العقيدة، ولا يبعد أن يكون هذا الإنحراف متأثراً بسبب محيطها... وكانت في بداية الأمر مؤمنة موحدة، وبهذا فلن يرد أي إشكال على لوط(عليه السلام) في أنّه لم تزوّج بمثل هذه المرأة؟!
وإذا كان جماعة من المؤمنين الآخرين قد آمنوا بلوط، فمن المؤكّد أنّهم كانوا قد هاجروا عن تلك الأرض المدنّسة قبل هذا الحادث، ما عدا لوطاً وأهله، فإنّه كان عليه أن يبقى إلى آخر ساعة هناك، لاحتمال تأثير تبليغه وإنذاره.
هنا ينقدح هذا السؤال: ترى هل كان "إبراهيم" يحتمل أن عذاب الله سيشمل لوطاً، فأظهر تأثره أمام الملائكة، غير أنّهم طمأنوه بنجاة لوط؟!
والجواب الواضح على هذا السؤال، وهو أن إبراهيم كان يعرف الحقيقة، وإنّما سأل ليطمئن قلبه، نظير هذا السؤال ما كان من هذا النّبي العظيم في شأن المعاد وإحياء الموتى، إذ جسد له الله ذلك في إحياء أربعة من الطير "ليطمئن قلبه".
إلاّ أنّ المفسّر الكبير العلاّمة الطباطبائي يعتقد أنّ المراد من سؤال إبراهيم هو أن وجود "لوط" بين هؤلاء القوم سيكون دليلا على رفع العذاب عنهم... ويستعين بالآيات (74) ـ (76) من سورة هود على هذا المقصد، لأنّ هذه الآيات تبيّن: أنّه(عليه السلام) كان يريد بقوله: (إنّ فيها لوطاً ) أن يصرف العذاب بأن فيها لوطاً وإهلاك أهلها يشمله، فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشملهم العذاب وهم أهله إلاّ امرأته.(1)
لكننا نعتقد أنّ هذا الجواب من الملائكة ـ في صدد نجاة لوط وأهله ـ يدلّ بوضوح أن الكلام في هذه الآيات هو على لوط فحسب، ولكن آيات سورة هود تتحدث عن موضوع منفصل، وكما قلنا آنفاً فإنّ إبراهيم كان ليطمئن قلبه أكثر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الميزان، ج 16، ص 124.
[382]
"فلاحظوا بدقة".
انتهى كلام الملائكة مع إبراهيم هنا، وتوجهوا إلى ديار لوط(عليه السلام) وقومه، يقول القرآن في هذا الشأن: (ولما أن جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً ).
وكان كلّ استيائه وعدم ارتياحه بسبب أنّه لم يعرفهم... فقد جاؤوا إليه بهيئة فتيان ذي وجوه مليحة، ومجيء أمثال هؤلاء الضيوف في مثل هذا المحيط الملوّث، ربّما كان يجرّ على لوط الوبال، وأن يذهب ماء وجهه أمامهم، لذلك فكر مليّاً: ما عسى أن يكون ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين الوقحين الذين لا حياء لهم قبال هؤلاء الضيوف؟!
"سيء" مشتقّة من "ساء" ومعناه سوء الحال، و"الذرع" معناه "القلب""الخلق"، فعلى هذا يكون معنى (ضاق بهم ذرعا ) أي ضاق قلبه وانزعج.
وقال بعض المفسّرين: إنّ هذه الكلمة في الأصل تعني "الفاصلة بين أطراف البعير أثناءالسير" وحيث أنّهم إذا وضعوا على البعير حملا ثقيلا قصّر خطاه وضيّق الفاصلة، عبروا بجملة "ضاق ذرعاً" كناية عن الحادثة الثقيلة "الصعبة" التي لا تطاق!
إلاّ أنّ الضيوف حين أدركوا عدم إرتياحه كشفوا عن "هويّتهم" وعرفوا أنفسهم ورفعوا عنه الحزن: (وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهله إلاّ امرأتك كانت من الغابرين ).
ويستفاد بالطبع من الآيات التي في سورة هود أن أُولئك القوم الاراذل، حين عرفوا بوجود الضيوف عند لوط(عليه السلام) أسرعوا إليه، وكان في نيّتهم أن يعتدوا عليهم، وحيث أن لوطاً كان لا يزال غير عارف بحقيقة الملائكة فقد كان متأثراً جدّاً، وكان تارةً ينصحهم واُخرى يهددّهم ومرّةً يقول لهم: (أليس فيكم رجل رشيد ) فيحرك ضمائرهم وتارةً يقترح عليهم الزواج من بناته، وأراد أن يمنعهم
[383]
من الوصول إلى أضيافه، لكن هؤلاء المنحرفين الذين لا حياء لهم لم يقتنعوا بأي شيء ولم يفكروا إلاّ بهدفهم المخزي.
ولكن رسل الله عرفوا أنفسهم للوط(عليه السلام) ، وأعموا أبصار هؤلاء القوم الذين أرادوا الهجوم على الملائكة واثلجوا قلب ذلك النّبي العظيم(عليه السلام).(1)
وما ينبغي الإلتفات إليه أن رسُل الله قالوا للوط: (لا تخف ولا تحزن ) فما الفرق بين كلمتي "الخوف" و"الحزن"؟
ورد في تفسير الميزان أن الخوف يقع على الحوادث غير المستساغة احتمالا.. أمّا الحزن فيقع في الموارد القطعية.
وقال بعضهم: الخوف يطلق على الحوادث المستقبلية، أمّا الحزن فعلى ما مضى!
كما يرد هذا الإحتمال وهو أن الخوف في المسائل الخطرة، أمّا الحزن فهو في المسئل الموجعة، وإن لم يكن فيها أي خطر!..
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو أنّه طبقاً لآيات سورة هود فإنّ لوط وخوفه لم يكن على نفسه، بل كان يخشى أن يضايقوا "ضيفه"(2) غير أن جواب الملائكة يتعلق بنجاة لوط وأهله، وهذان الأمران غير منسجمين.
والجواب على هذا السؤال يستفاد إجمالا من الآية (81) من سوره هود، لأنّ القوم المنحرفين حين مدّوا أيديهم إلى الضيوف قال الملائكة: (يا لوط إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك ) أي مسألتنا سهلة... ولن يصل إليك سوء وأذى منهم أيضاً، فعلى هذا كان الملائكة يرون النجاة بالنسبة لهم من المسلّم بها، وإنّما ركزوا على البشارة للوط وأهله فحسب.
وبعد هذا، ولكي تتضح خطة عملهم في شأن عاقبة هؤلاء القوم المنحرفين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذكرنا تفصيل هذا الحادث في ذيل الآيات 77 ـ 81 من سورة هود فلا بأس بمراجعتها.
2 ـ "الضيف" يطلق على المفرد والجمع، وجمعه: ضيوف وأضياف. (المصحح).
[384]
أكثر، أضافوا: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون ).
والمراد بالقرية هي "سدوم" وما جاورها من القرى والمدن التي كان يسكنها قوم لوط، وقد أوصل بعضهم عدد هؤلاء إلى سبعمائة ألف نفر(1).
والمراد من "الرجز" هنا هو العذاب، ومعناه الأصلي الإضطراب، ثمّ عبروا عن كل شيء يوجب الإضطراب بالرجز، ولذلك استعمل العرب كلمة الرجز في كثير من المعاني كالبلايا الشديدة، والطاعون أو البرد، والأصنام، ووساوس الشيطان، والعذاب الإلهي.. الخ.
وجملة (بما كانوا يفسقون ) هي سبب عقابهم الشديد، لأنّهم لم يطيعوا الله، والتعبير بالفعل المضارع "يفسقون" دليل على استمرارهم ودوامهم على العمل القبيح!.
وهذا التعبير يبيّن هذه الحقيقة، وهي لو أن أُولئك لم يستمروا على الذنب، وكانوا يتوبون ويعودون إلى طريق الحق والتقوى، لم يبتلوا بمثل هذا العذاب وكانت ذنوبهم الماضية مغفورة.
وهنا لم يذكر القرآن كيفية العذاب الأليم، سوى أنّه قال: (ولقد تركنا فيها آية بينة لقوم يعقلون ).
إلاّ أنّ في سورة هود الآية (82) منها، وكذلك سورة الأعراف الآية 84 منها، تفصيلا في بيان العذاب، وهو أنّه أصابت قراهم في البداية زلزلة شديدة فجعلت عاليها سافلها، ثمّ أمطرت عليها حجارة من السماء بحيث توارت بيوتهم وقراهم وأجسادهم تحتها!.
والتعبير بـ "الآية البينة" أي العلامة الواضحة، هو إشارة إلى الآثار الباقية من مدينة "سدوم" التي كانت في طريق قوافل أهل الحجاز طبقاً "لآيات القرآن"...
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روح البيان، ج 6، ص 467.
[385]
وكانت باقية حتى ظهور النّبي(صلى الله عليه وآله). كما نقرأ في الآية (76) من سورة الحجر (وإنّها لبسبيل مقيم )، وكما نقرأ في سورة الصافات الآيتين (137) و (138): (وإنّكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون ).
* * *
[386]
الآيات
وِاِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيباً فَقَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاَْخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَـثِمِينَ (37) وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِّنْ مَّسَـكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ أَعْمَـلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ (38)وَقَـرُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَـمَـنَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنـتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاَْرْضِ وَمَا كَانُواْ سَـبِقِينَ (39) فَكُلاَّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاَْرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِنْ كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
التّفسير
تنوع العذاب للظالمين:
بعد بيان قصّة لوط وقومه يقع الكلام عن أقوام آخرين أمثال قوم شعيب وعاد وثمود، وقارون وفرعون، وقد أشير في هذه الآيات ـ محل البحث ـ إلى كلٍّ
[387]
منهم إشارة موجزة "مكثفة" للإستنتاج والعبرة!
في البداية تقول الآية: (وإلى مدين أخاهم شعيباً )(1).
والتعبير بكلمة "أخاهم" كما قلنا مراراً، هو إشارة إلى منتهى محبّة هؤلاء الانبياء إلى أُممهم، وإلى عدم طلبهم السلطة، وبالطبع فإنّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضاً.
و"مدين" مدينة واقعة جنوب غربي الأردن، وتدعى اليوم بـ "معان" وهي في شرق خليج العقبة، وكان شعيب(عليه السلام) وقومه يقطنون فيها(2).
وشعيب كسائر أنبياء الله العظام، بدأ بالدعوة الى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، وهما أساس كل دين وطريقة (فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ).
فالإيمان بالمبدأ يكون سبباً لإحساس الإنسان بأن الله يراقبه مراقبةً دقيقةً بشكل دائم ويسجّل أعماله; والإيمان بالمعاد يذكر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كل شيء وكل عمل مهما كان تافهاً... ومن المسلم أنّ الإعتقاد بهذين الأصلين له أثره البالغ على تربية الإنسان وإصلاحه!.
والمبدأ الثّالث هو بمثابة خطّة عمل جامعة، تحمل بين طياتها جميع الخطط الإجتماعية، إذ قال: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين ).
وللفساد مفهوم واسع يشمل كل نقص انحراف، وتدمير، وظلم.. الخ.. ويقابله الصلاح والإصلاح، ومفهومهما يشمل جميع الخطط البنّاءة!.
أمّا كلمة "تعثوا" فهي من مادة "عثى" ومعناه إحداث الفساد أو الإفساد، غاية ما في الأمر أن هذا التعبير كثيراً ما يستعمل في الموارد التي تكون فيها "مفاسدأخلاقية"، فعلى هذا يكون ذكر كلمة "مفسدين" بعدها تأكيداً على هذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذه الجملة معطوفة على جملة "ولقد أرسلنا نوحاً".
2 ـ ورد الكلام على مدين في ذيل الآية (23) من سورة القصص في هذا الجزء بإسهاب.
[388]
المفهوم.
إلاّ أنّ تلك الجماعة بدلا من أن تصغي لمواعظه ونصائحه بآذان القلوب، خالفته ولم تصغ إليه "فكذبوه".
وكان هذا التكذيب سبباً في أن تصيبهم زلزلة شديدة (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) أي مكبوبين على وجوههم ميتين.
و"الجاثم" مشتق من "جثم" على زنة "سهم" ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما.. ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع هذه الزلزلة الشديدة.. فهذا التعبير إشارة إلى أنّهم عند وقوع هذه الحادثة نهضوا وجثوا على الركب، إلاّ أنّ الحادثة لم تمهلهم حيث انهارت الجدران عليهم ونزلت عليهم الصاعقة التي تزامنت معها فماتوا(1).
أمّا الآية التي بعده فتتحدث عن "عاد" و"ثمود" قومي (هود وصالح)، دون أن تذكر ما قاله نبيّاهما لهما، وما ردّ عليهما قومهما المعاندون، لأنّهما مذكوران في آيات عديدة من القرآن، وهما أي قوم هود وقوم صالح معروفان، فلذلك، تقول الآية: (وعاداً وثمودَ )(2).
ثمّ تضيف الآية (وقد تبيّن لكم من مساكنهم ) المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن.
فأنتم في كل سنة تمرون في أسفاركم للتجارة بأرض "الحجر" التي تقع شمال جزيرة العرب، وبالأحقاف التي تقع قريباً من اليمن وجنوبها، وترون آثار المساكن المتهدمة وبقاياها من عاد وثمود، فعلام لا تعتبرون؟!
ثمّ تشير الآية إلى السبب الأصلي لشقائهم وسوء حظّهم، إذ تقول: (وزيّن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بيان هذه الحادثة المؤلمة فصلناه في تفسير "سورة هود" ذيل الآيات في شرح قصة "شعيب وقومه".
2 ـ "وعاداً وثموداً" مفعولان لفعل مقدر وهو "أهلكنا" وهو يستفاد من الآية السابقة. وقال بعضهم: فعلهما المحذوف تقديره "اذكر" .
[389]
لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل ).
وكانت فطرتهم على فطرة الله وتقواه، ولم يأل الأنبياء جهداً في هدايتهم، وبذلوا قدراً كافياً من النصح والإرشاد لهم، لكنّهم حادوا (وكانوا مستبصرين ).
قال بعض المفسّرين: إنّ جملة (وكانوا مستبصرين ) تعني أنّهم كانوا ذوي أعين بصيرة، وعقل كاف.
وقال بعضهم: إنها تعني أنّهم كانوا على الفطرة السليمة.
كما قال آخرون: إنّها تعني هداية الأنبياء لهم.
ولا يمنع اجتماع جميع هذه المعاني في الآية الكريمة، فهي إشارة إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين قاصرين، بل كانوا يعرفون الحق جيداً من قبل، وكانت ضمائرهم حية ولديهم العقل الكافي، وأتمّ الأنبياء عليهم الحجّة البالغة، ولكن... مع كل ما تقدم... من نداء العقل والضمير، ودعوة الأنبياء، فقد انحرفوا عن السبيل ووسوس لهم الشيطان، ويوماً بعد يوم يرون أعمالهم القبيحة حسنةً، وبلغوا مرحلة لا سبيل لهم إلى الرجوع منها، فأحرق قانون الخلق والإيجاد هذه العيدان اليابسة.. وهي جديرة بذلك!
والآية الأُخرى تذكر أسماء ثلاثة من الجبابرة الذين كان كل واحد منهم بارزاً للقدرة الشيطانية، فتقول: (وقارون وفرعون وهامان )(1).
فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة"الذات" والأنانية والغفلة.
وفرعون كان مظهر القدرة الإستكبارية المقرونة بالشيطنة.
وأمّا هامان، فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين!.
ثمّ يضيف القرآن (ولقد جاءهم موسى بالبينات ) والدلائل (فاستكبرا في الأرض ) فاعتمد قارون على ثروته وخزائنه وعلمه، واعتمد فرعون وهامان على جيشهما وعلى القدرة العسكرية، وعلى قوة إعلامهم وتضليلهم لطبقات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذه الكلمات الثلاث مفاعيل للفعل المقدر "أهلكنا" أو كما قال البعض: هي مفاعيل لفعل تقديره "اذكر"!
[390]
الناس المغفّلين الجهلة.
لكن.. برغم كل ذلك لم يفلحوا (وما كانوا سابقين ).
فأمر الله الأرض التي هي مهد الإطمئنان والدعة بابتلاع قارون.
وأمر الماء الذي هو مصدر الحياة بابتلاع فرعون وهامان.
وعبأ جنود السماوات والأرض لإهلاكهم جميعاً، بل ما كان مصدر حياتهم أمر الله أن يكون هو نفسه سبباً لفنائهم(1).
كلمة "سابقين" تعني من يتقدم ويكون أمام الآخرين، فمفهوم قوله تعالى: (وما كانوا سابقين ) أي إنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا من سلطان الله برغم ما كان عندهم من إمكانات، بل أهلكهم الله في اللحظة التي أراد، وأرسلهم إلى ديار الفناء والذلة والخزي.
كما يذكر في الآية التي بعدها (فكلاّ أخذنا بذنبه ).
وحيث أنّ القرآن ذكر "الطوائف الأربع" في الآيتين المتقدمتين، ولم يبيّن عذابهم، وهم:
1 ـ قوم هود "عاد".
2 ـ وثمود "قوم صالح".
3 ـ قارون.
4 ـ فرعون وهامان.
فإنه يذكر في هذه الآية بحسب الترتيب أنواع عذابهم. فيقول: (فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ).
و"الحاصب" معناه الاعصار الذي يحمل حصى كثيرة معه، و"الحصباء" "الحصى الصغيرة".
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ شرح قصّة حياة قارون في الآيات السبع 76 ـ 82 سورة القصص، وهلاك فرعون وجماعته في تفسير سورة القصص، كما ورد في سورة الأعراف أيضاً.
[391]
والمقصود بـ "منهم" هنا هم "عاد" قوم هود، وحسب ما جاء في بعض السور كالذاريات والحاقة والقمر،أصابهم اعصار شديد مهلك خلال ثمانية أيّام وسبع ليال فدمرهم تدميراً.
يقول القرآن: (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً فترى القوم صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ) "الحاقة".
(ومنهم من أخدته الصيحة ) وقلنا: إن الصيحة السماوية التي هي نتيجة الصاعقة التي تقترن مع الزلزلة في زمان الوقوع، وهذا هو العذاب الذي عذب الله به ثمود "قوم هود" كما عذب آخرين... ويقول القرآن في الآية (67) من سورة هود في شأن ثمود (وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ).
(ومنهم من خسفنا به الأرض ). وهذا هو عقاب قارون الثري المغرور المستكبر من بني إسرائيل، وقد أشير إليه في الآية (81) من سورة القصص.
(ومنهم من أغرقنا ) ونعرف أنّ هذا الكلام إشارة إلى عقاب فرعون وهامان وجنودهما، وقد ذكرت هذه القصّة في سور متعددة من القرآن الكريم.
وعلى كل حال، فمع الإلتفات لهذا البيان فإن أنواع العذاب الأربعة ذكرت هنا للطوائف الأربع المذكورين في الآيتين المتقدمتين. حيث اشارتا إلى ضلالهم وانحرافهم وذنوبهم دون أن تذكرا عقابهم.
ولكن من البعيد أن تشمل هذه الأنواع الأربعة من العذاب الواردة في هذه الآية أقواماً آخرين، كما يقول بعض المفسّرين. "كالغرق لقوم نوح، وإمطار الحجارة والحصباء على قوم لوط" لأنّ عقابهم مذكور هناك وفي موارد ذكرهم ولا حاجة للتكرار هنا، وأمّا عقاب الفئات الاربع فلم يذكر في هذه السلسلة من الآيات، ولذا بينه الله سبحانه في الآيتين الأخيرتين.
ويبيّن في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة، وهي أنّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم، وهم زرعوا فحصدوا (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم
[392]
يظلمون ).
أجل، إنّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم، حيث يغلقون جميع طرق الإصلاح في وجوههم. فالله أكثر عدلا وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم!.
وهذه الآية ـ كسائر كثير من آيات القرآن ـ تثبت أصل الحرية في الإرادة والإختيار عند الإنسان، وتقرر أن التصميم في كل مكان يصدر من الإنسان نفسه. وقد خلقه الله حرّاًويريده حرّاً.. فعلى هذا يبطل اعتقاد أتباع مذهب "الجبر" الذين لهم وجود بين المسلمين ـ مع الأسف ـ بهذا المنطق القوي للقرآن الكريم.
* * *
[393]
الآيات
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَآنُواْ يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الاَْمْثَـلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا اِلاَّ الْعَـلِمُونَ (43) خَلَقَ اللهُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذلِكَ لاَيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44)
التّفسير
دعامة واهية كبيت العنكبوت:
بيّنت الآيات السابقة ما آل إليه المشركون والمفسدون الظلمة والأنانيون من مصير وخيم وعاقبة سوداء وعذاب أليم... وبهذه المناسبة، ففي الآيات التي بين أيدينا، يبيّن القرآن الكريم مثالا بليغاً ومؤثراً يعبدون غير الله ويتخذون من دونه أولياء! وكلما أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّاً انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة، يقول تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ).
كم هو بديع هذا المثال وطريف، وكم هو بليغ ودقيق هذا التشبيه!.
[394]
تأمّلوا بدقّة... إنّ كل حيوان ـ وكل حشرة ـ له بيت أو وكر وما أشبه ذلك، لكن ليس في هذه البيوت بيت أوهن من بيت العنكبوت! فكل بيت ـ عادةً ـ يحتوي على سقف وباب وجدار، وهو يحفظ صاحبه من الحوادث، ويكون مكاناً أميناً لإيداع الأطعمة والأشياء الأُخرى وحفظها... فبعض البيوت لا سقف لها إلاّ أنّها على الأقل لها جدار، كما أنّ هناك بيوتاً لا جدار لها إلاّ أن لها سقفاً.
لكن بيت العنكبوت المنسوج من خيوط دقيقة واهية، ليس له سقف ولا جدار ولا ساحة ولا باحة ولا باب، هذا من جانب... ومن جانب آخر فإنّ مواد بنائه واهية جدّاً وسرعان ما تتلاشى إزاء أية حادثة بسيطة، فهي لا تقدر على المقاومة.
فلو هبّ نسيم عليل لتمزق هذا النسيج.
ولو سقطت عليه قطرات المطر لتلاشى وتلف.
ولو لامسته شعلة خفيفة لاحرقته.
وحتى لو تراكم عليه الغبار لتركه اشلاء ممزقة معلقة.
فآلهة هؤلاء الجماعة ومعبوداتهم "الكاذبة" كمثل هذا البيت لا تنفع ولا تضر ولا تحلّ مشكلة، ولا تكون ملجأ لأحد في المحنة والشدّة!.
صحيح.. إن هذا البيت للعنكبوت ـ مع ما لها من أرجل طويلة ـ هو محل استراحتها، وشركٌ لاصطياد الحشرات والحصول على الغذاء إلاّ أن هذا البيت ـ بالقياس إلى البيوت الأُخرى للحيوانات والحشرات ـ في منتهى الوهن والإنهيار!.
فمن يعتمد على غير الله ويتخذ من دونه ولياً، فقد اعتمد على بيت العنكبوت!!.
والذين اختاروا سوى الله، اعتمدوا على بيوت العناكب، كعرش فرعون وتاجه، والأموال المتراكمة عند قارون، وقصور الملوك وخزائنهم، جميع هذه
[395]
الأمورالمذكورة كمثل بيت العنكبوت!.
فهي لا تدوم، ولا يمكن الإعتماد عليها، ولا أساس لها حتى تكون راسخة أمام طوفان الحوادث.
والتاريخ يدل على أنّه لا يمكن الإعتماد على أيّ من هذه الأُمور حقّاً.
أمّا الذين اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه، فقد اعتمدوا على سدّ حصين منيع.
والجدير بالذكر، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل، هو نفسه من عجائب الخلق، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر.،
فخيوط العنكبوت "مصنوعة" ومنسوجة من مائع لزج، هذا المائع مستقر في حفر دقيقة وصغيرة كرأس الإبرة تحت بطن العنكبوت، ولهذا المائع خصوصية أو تركيب خاص هو أنّه متى ما لامس الهواء جهد وتصلّب.
والعنكبوت تخرج هذا المائع بواسطة آليات خاصة وتصنع خيوطها منه.
يقال: إن كلّ عنكبوت يمكن لها أن تصنع من هذا المائع القليل جدّاً ما مقداره خمسمائة متر من خيطها المفتول!
وقال بعضهم: إنّ الوهن في هذه الخيوط منشؤه دقتها القصوى، ولولا هذه الدقة فإنها أقوى من الفولاذ "لو قدر أن تفتل بحجم الخيط الفولاذي".
العجيب أنّ هذه الخيط تنسج أحياناً من أربع جدائل كل جديلة هي أيضاً منسوجة أو مصنوعة من ألف جديلة! وكل جديلة تخرج من ثقب صغير جدّاً في بدن العنكبوت، ففكروا الآن في هذه الخيوط التي تتكون منها هذه الجديلة كم هي ناعمة ودقيقة وظريفة؟!
وإضافةً إلى العجائب الكامنة في بناء بيت العنكبوت ونسجه، فإنّ شكل بنائه وهندسته طريف أيضاً، فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظراً طريفاً مثل الشمس وأشعتها مستقرةً على قواعد هذا "البناء النسيجي"، وبالطبع فإن هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف، ولكنّه في المجموع لا يمكن تصور بيت
[396]
أوهن منه، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضالين ومعبوديهم، إذ تركوا عبادة الله والتجأوا إلى الأصنام والأحجار والأوثان!!.
ومع الإلتفات إلى أن العناكب ليست نوعاً واحداً، بل ـ كما يدعي بعض العلماء ـ عرف منها حتى الآن عشرون ألف نوع، وكل نوع له خصوصياته التي تبين عظمة الخالق وقدرته في خلق هذا الموجود الصغير بوضوح وجلاء.
التعبير بـ"الاولياء" جمع ولي مكان التعبير بالأصنام، ربّما كان إشارة ضمنية إلى هذه اللطيفة، وهي أنّه ليس الحكم مختصاً بالأصنام والآلهة المزعومة، بل حتى الأئمة والقادة الارضيين مشمولون بهذا الحكم أيضاً.
وجملة (لو كانوا يعلمون ) تتعلق بالأصنام والمعبودين من دون الله ولا ترتبط بوهن بيت العنكبوت... لأنّ وهن بيت العنكبوت معلوم عند الجميع، فعلى هذا يكون مفهوم الجملة كالتالي: لو كانوا يعلمون وهن المعبودين من دون الله وما ركنوا إليه من دونه واختاروه، لعلموا أنّهم في الوهن والضعف كما هي الحال في بيت العنكبوت من الوهن!.
أمّا الآية التالية ففيها تهديد لهؤلاء المشركين الغفلة الجهلة.. إذ تقول: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء! ) ولا يخفى على الله شركهم الظاهر ولا شركهم الخفي (وهو العزيز الحكيم ) على الإطلاق!
وإذا أمهلهم، فليس بسبب العجز والضعف، أو عدم العلم، أو أن قدرته محدودة، بل كل ذلك من حكمته التي توجب أن يمنحوا الفرصة الكافية لتتم الحجة البالغة لله عليهم، فيهتدي من هو جدير بالهدى!.
قال بعض المفسّرين: إن هذه الجملة إشارة إلى حجج المشركين وإلى ادّعائهم أنّهم في عبادتهم للأصنام لا يريدون بها الأصنام ذاتها، بل إنّ الأصنام عندهم مظهر ورمز للنجوم السماوية والأنبياء والملائكة، فهم ـ كما يزعمون ـ يسجدون لأُولئك لا للأصنام وخيرهم وشرهم ونفعهم وضررهم بيدها أيضاً.
[397]
فالقرآن يبيّن أن الله يعلم الأشياء التي تدعونها ـ كائناً من كان، وأي شيء كان ـ فكل أُولئك المعبودين إزاء قدرته كمثل بيت العنكبوت، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً كي يعطوه لكم.،
والآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ لعلها تشير إلى ما استشكله أعداء الإسلام على النّبي(صلى الله عليه وآله) في هذه الأمثلة التي ضربها الله، وكانوا يقولون: الله الذي خلق السماوات والأرض كيف يضرب الأمثال بالعنكبوت والذباب والحشرات وما شاكلها؟
فيردّ القرآن بقوله: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون ).
إنّ أهميّة المثال وظرافته لا تكمن في كبره وصغره، بل تظهر أهميته في انطباق المثال على المقصود، فقد يكون صغر الشيء الممثل به أكبر نقطة في قوته.
قالوا في ضرب الأمثال: ينبغي عند الكلام عن الأشياء الضعيفة والتي فيها وهن أن يمثل لها في ما لو اعتمد عليها ببيت العنكبوت، فهو أحسن شيء ينتخب لهذا الوهن وعدم الثبات، فهذا المثال هو الفصاحة بعينها والبلاغة ذاتها، ولذا قيل: إنّه لايعلم دقائق أمثلة القرآن ولا يدركها إلاّ العلماء!.
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يضيف القرآن الكريم: (خلق الله السماوات والأرض بالحقّ إن في ذلك لآية للمؤمنين ). ليس في عمل الله باطل أو عبث... فإذا التشبيه بالعنكبوت وبيته الخاوي هو أمر محسوب بدقّة. وإذا ما اختار موجوداً صغيراً للتمثيل به فهو لبيان الحقّ، وإلاّ فهو خالق أعظم المجرّات والمنظومات الشمسيّة وغيرها.
ومن الطريف ـ هنا ـ أن نهاية هذه الآيات تنتهي بالعلم والإيمان، ففي مكان يقول القرآن: (لو كانوا يعلمون ) وفي مكان آخر يقول: (وما يعقلها إلاّ العالمون )وفي الآية التي نحن في صددها يقول: (إن في ذلك لآية للمؤمنين ).
[398]
وهي إشارة إلى أن وجه الحق مشرق جلي دائماً ولكنّه يثمر في الموارد المستعدة... في قلب مطّلع باحث، وعقل يقظ مذعن للحق... وإذا كان هؤلاء الذين عميت قلوبهم لا يرون جمال الحق، فليس ذلك لخفائه، بل لعماهم! وضلالهم!.
* * *
[399]
الآية
اتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـبِ وَأَقِمَ الصَّلوة إِنَّ الصَّلوة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
التّفسير
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر:
بعد الفراغ من بيان أقسام مختلفة من قصص الأُمم السابقة وأنبيائهم العظام وما عاملهم به قومهم من معاملة سيئة مذمومة، وبيان نهاية هؤلاء الظالمين الاليمة، يتوجه الخطاب ـ على سبيل تسلية الخاطر، وتقوية الروحية، وإراءة الخط الكلّي أو الخطوط العامة ـ للنبيّ(صلى الله عليه وآله) ويأمره بما ينبغي عليه أن يفعل.
فيبدأ أوّلا بقوله: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب )... أي اقرأ هذه الآيات فسوف تجد فيها ما تبتغيه وتطلبه من العلم والحكمة والنصح، ومعيار معرفة الحق من الباطل، وسبل تنوير القلب والروح، ومسير حركة كل طائفة، أو مجموعة واتجاهها!.
اقرأ.. وامض على نهجها في حياتك، اقرأها واستلهم منها... اقرأها ونوّر قلبك بتلاوتها.
وبعد بيان هذا الأمر الذي يحمل ـ في الحقيقة ـ طابعاً تعليمياً، يأتي الأمر
[400]
الثّاني الذي هو محور أصيل للتربية فيقول تعالى: (وأقم الصلاة ).
ثمّ يبيّن فلسفة الصلاة الكبرى فيقول: (إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )(1).
طبيعة الصلاة ـ حيث أنّها تذكر بأقوى رادع للنفس، وهو الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ـ فإنّها تردع عن الفحشاء والمنكر، فالإنسان الذي يقف للصلاة، ويكبّر، يرى الله أعلى من كل شيء وأسمى من كل شيء، ويتذكر نعمه فيحمده ويشكره، ويثني عليه وينعته بأنّه رحمان رحيم، ويذكر يوم الجزاء "يوم الدين" ويعترف بالعبودية له، ويطلب منه العون، ويستهديه الصراط المستقيم، ويتعوذ به من طريق المغضوب عليهم، ويلتجىء إليه (مضمون سورة الحمد).
فلا شك أنّ قلب مثل هذا الإنسان وروحه سوف تدبّ فيها حركة نحو الحقّ، واندفاع نحو الطهارة، ونهوض نحو التقوى.
يركع لله.. ويضع جبهته على الأرض ساجداً لحضرته، ويغرق في عظمته، وينسى أنانيته وذاتيّاته جميعاً.
ويشهد بوحدانيته وبرسالة النّبي(صلى الله عليه وآله).
ويصلي ويسلم على نبيّه، ويرفع يديه متضرعاً بالدعاء ليجعله في زمرة عباده الصالحين.
جميع هذه الأُمور تمنح وجوده موجاً من المعنوية، وتكون سداً منيعاً بوجه الذنوب.
ويتكرر هذا العمل عدة مرّات "ليل نهار" فحين ينهض صباحاً يقف بين يدي ربّه وخالقه ليناجيه..
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بيّنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (90) من سورة النحل في عبارة موجزة، وقلنا: إنّه يمكن التفريق بينهما بأن الفحشاء هي إشارة للذنوب الكبيرة الخفية، وأمّا المنكر فهو الذنوب الكبيرة الظاهرة، أو أن الفحشاء هي الذنوب التي تنتج بغلبة القوى الشهوانية، والمنكر من أثر القوى الغضبية.
[401]
وعند منتصف النهار وبينما هو غارق في حياته المادية يفاجأ بصوت تكبير المؤذن، فيقطع عمله ويسرع إلى حضرته، بل في آخر النهار بداية الليل أيضاً وقبل أن يدلف إلى فراش الدعة والراحة، يدعوه ويطلب منه حاجته، ويجعل قلبه مركز أنواره.
وبغض النظر عن كل ما تقدم فإنّ الإنسان حين يتهيأ لمقدمات الصلاة، يطهّر بدنه ويبعد عنه مسائل الحرام والغصب، ويتجه إلى الحبيب، فكلّ هذه الأُمور لها تأثير رادع لنوازع الفحشاء والمنكر.
غاية ما في الأمر أنّ كل صلاة ـ بحسب شروط الكمال وروح العبادة لها ـ أثر رادع ناه عن الفحشاء والمنكر، فتارة تنهى نهياً كليّاً وأُخرى جزئياً.. ومحدوداً.
ولا يمكن لأحد أن يصلي ولا تدع الصلاة فيه أثراً حتى لو كانت الصلاة صورية، وحتى لو كان ملوّثاً بالذنب! وبالطبع فإنّ مثل هذه الصلاة قليلة الفائدة ومثل هؤلاء الأفراد لو لم يصلّوا صلاةً كهذه لكانوا أسوأ ممّا هم عليه.
ولنوضّح أكثر فنقول: النهي عن الفحشاء والمنكر له سلسلة درجات ومراتب كثيرة، وكل صلاة مع رعاية الشروط لها نسبة من هذه الدرجات.
وممّا بيّناه آنفاً يتّضح أن تخبط بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية، وانتخاب تفسيرات غير مناسبة لا وجه له! وربّما فسّروها بتفسير غير مناسب، لأنّهم رأوا بعض الناس يصلون ويرتكبون الذنوب، ففسّروا الآية في معناها المطلق دون سلسلة المراتب، وأخذوا يشكّون ويترددون، فاختاروا طرقاً أُخرى في تفسير الآية.
فمنها ما قاله بعضهم: من أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام الإنسان مشغولا بها . وهذا كلام عجيب، إذ لا تتميز الصلاة بهذا وحدها، فكثير من الأعمال على هذه الشاكلة.
[402]
وقال بعضهم: إنّ أعمال الصلاة وأذكارها بمثابة عبارات وجمل، كل جملة تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، فمثلا كل من التكبير والتهليل والتسبيح.. كلٌّ منها يقول للإنسان: لا تذنب ولكن هل أنّ هذا الإنسان يصغي لهذا النهي أم لا... فهذا أمر آخر.
ولكن من ذهب الى هذا التّفسير، غفل عن هذه الحقيقة، وهي أن النهي هنا ليس نهياً تشريعياً فحسب، بل هو نهي تكويني، فظاهر الآية أنّ الصلاة لها أثر ناه، والتّفسير الأصيل هو ما قدمناه ذكره وبيانه آنفاً.
وبالطبع فلا مانع من القول أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر نهياً تكوينياً ونهياً تشريعياً أيضاً.
"أحاديث" ينبغي الإلتفاتُ إليها
1 ـ في حديث عن ا لنّبي الأكرم محمّد(صلى الله عليه وآله) ورد أنّه قال: "من لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعداً". (1)
2 ـ وفي حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله) أيضاً: "لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر" (2).
3 ـ كما نقرأ في حديث ثالث عنه(صلى الله عليه وآله) أنّ شاباً من الأنصار أدّى الصلاة معه، ولكنّه كان ملوثاً بالذنوب القبيحة، فأخبروا النّبي(صلى الله عليه وآله) فقال: "إن صلاته تنهاه يوماً" (3).
4 ـ هذا الأثر للصلاة له أهمية قصوى إلى درجة أنّنا نجده في الرّوايات الإسلامية معياراً لقبول الصلاة وعدمها، إذ ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ذيل الآية مح البحث "والحديث الثّاني يشعر بالنهي التشريعي".
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
[403]
"من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر؟! فبقدر ما منعته قبلت منه!"(1).
ويقول القرآن تعقيباً على ما ذكره ومن شأن الصلاة (ولذكرُ الله أكبر ).
وظاهر الجملة هو بيان غاية وحكمة أُخرى في الصلاة، أي أن أثراً آخر من آثار الصلاة وبركاتها أهم من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر هو تذكير الإنسان بربّه، هذا الذكر هو أساس السعادة والخير، بل العامل الأصلي للنهي عن الفحشاء والمنكر أيضاً هو ذكر الله، وكونه أكبر لأنّه العلّة والأساس للصلاة!.
وأساساً... فإنّ ذكر الله فيه حياة القلوب ودعتها، ولا شيء يبلغ مبلغه (ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب )(2).
ولا ريب أنّ روح العبادة بجميع أقسامها ـ صلاة كانت أم غيرها ـ هو ذكر الله، فأذكار الصلاة، وأفعالها ومقدماتها، جميعها في الواقع تحيي ذكر الله في قلب الإنسان.!
وممّا يلفت النظر أن في الآية (14) من سورة طه إشارة إلى هذه الحكمة الأساسية من الصلاة، إذ نلاحظ فيها الخطاب لموسى قائلا: (وأقم الصلاة لذكري ).
إلاّ أنّ المفسّرين الكبار ذكروا للجملة المتقدمة تفسيرات أُخرى، وقد ورد في الرّوايات الإسلامية إشارة إليها أيضاً... من ضمنها: إنّ المراد من الجملة المتقدمة، أن ذكر الله لكم برحمته أكبر من ذكركم لله بطاعته(3).
ومنها: إنّ ذكر الله أكبر من الصلاة وأعلى، لأنّ روح كل عبادة "ذكر الله" .
وهذا التّفاسير التي ورد بعضها في الرّوايات الإسلامية، ربّما كانت إشارة إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ الرعد، الآية 28.
3 ـ على ضوء هذا التّفسير يكون لفظ الجلالة "الله" فاعلا في المعنى، وعلى التّفسير السابق يكون مفعولا.
[404]
بطون الآية، وإلاّ فإنّ ظاهرها منسجم مع المعنى الأوّل، لأنّه في أغلب الموارد التي يرد التعبير فيها بـ "ذكر الله" أو "ذكروا الله" أو "اُذكروا اللّه" ... الخ، يقصد بها ذكر الناس لله!
والآية المذكورة آنفاً، يتداعى لها هذا المعنى، إلاّ أنّ ذكر الله لعباده يمكن أن يكون نتيجة مباشرة لذكر العباد لله، وبهذا يرتفع التضاد بين المعنيين.
في حديث عن معاذ بن جبل أنّه قال: لا شيء من أعمال ابن آدم لنجاته من عذاب الله أكبر من ذكر الله، فسألوه: حتى الجهاد في سبيل الله؟! فقال: أجل، فالله يقول: (ولذكر الله أكبر ).
والظاهر أنّ "معاذ بن جبل" سمع هذا الكلام من رسول الله(صلى الله عليه وآله): لأنّه نفسه ينقل إنّه سأل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): أيّ الأعمال أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله".
وحيث أنّ نيّات الناس، وميزان حضور القلب منهم في الصلاة وسائر العبادات، كل ذلك متفاوت جدّاً، فإنّ الآية تختتم بالقول: (والله يعلم ما تصنعون ).
أي يعلم ما تصنعون من أعمال في الخفاء أو العلن، والنيّات التي في قلوبكم أو الكلمات التي تجري على ألسنتكم!.
* * *
بحث
تأثير الصلاة في تربية الفرد والمجتمع:
بالرغم من أن فائدة الصلاة لا تخفى على أحد، لكن التدقيق في متون الروايات الإسلامية يدلنا على لطائف ودقائق أكثر في هذا المجال!.
1 ـ إنّ روح الصلاة وأساسها وهدفها ومقدمتها ونتيجتها... وأخيراً حكمتها
[405]
وفلسفتها(1)، هي ذكر الله، كما بيّنت في الآية على أنّها أكبر النتائج.
وبالطبع فإنّ الذكر المراد هنا، هو الذكر الذي يكون مقدمة للفكر، والفكر الذي يكون باعثاً على العمل، كما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير جملة (ولذكر الله أكبر ) قال: "ذكر الله عندما أحلّ وحرّم" أي على أن يتذكر الله فيتبع الحلال ويغضي أجفانه عن الحرام "بحار الأنوار، ج 82، ص 200".
2 ـ إنّ الصلاة وسيلة لغسل الذنوب والتطهر منها، وذريعة إلى مغفرة الله، لأنّ الصلاة ـ كيف ما كانت ـ تدعوا الإنسان إلى التوبة وإصلاح الماضي، ولذلك فإننا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) إذ سأل بعض أصحابه: "لو كان على باب دار أحدكم نهر واغتسل في كل يوم منه خمس مرات أكان يبقي في جسده من الدرن شيء؟! قلت لا، قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلما صلّى كفرت ما بينهما من الذنوب" (2).
وعلى هذا فإنّ الجراح التي تخلفها الذنوب في روح الإنسان، وتكون غشاوة على قلبه، تلتئم بضماد الصلاة وينجلي بها صدأ القلوب!
3 ـ إنّ الصلوات سدّ أمام الذنوب المقبلة، لأنّ الصلاة تقوي روح الإيمان في الإنسان، وتربّي شجيرة التقوى في قلب الإنسان، ونحن نعرف أن الإيمان والتقوى هما أقوى سدّ أمام الذنوب، وهذا هو ما بيّنته الآية المتقدمة عنوان "النهي عن الفحشاء والمنكر"، وما نقرؤه في أحاديث متعددة من أن أفراداً كانوا مذنبين، فذكر حالهم لأئمّة الإسلام فقالوا: لا تكترثوا فإنّ الصلاة تصلح شأنهم... وقد أصلحتهم.
4 ـ إن الصلاة توقظ الإنسان من الغفلة، وأعظم مصيبة على السائرين في طريق الحقّ أن ينسوا الهدف من إيجادهم وخلقهم، ويغرقوا في الحياة المادية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الفلسفة" كلمة يونانية معناها "الحكمة" فهي ليست عربية لكنّها شاعت في العربية أيضاً.
2 ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 7 (الباب الثّاني من أبواب أعداد الفرائض الحديث 3).
[406]
ولذائذها العابرة!
إلاّ أنّ الصلاة بما أنّها تؤدى في أوقات مختلفة، وفي كل يوم وليلة خمس مرات، فإنّها تخطر الإنسان وتنذره، وتبيّن له الهدف من خلقه، وتنبهه إلى مكانته وموقعه في العالم بشكل رتيب، وهذه نعمة كبرى للإنسان بحيث أنّها في كل يوم وليلة تحثه وتقول له: كن يقظاً.
5 ـ إنّ الصلاة تحطّم الأنانية والكبر، لأنّ الإنسان في كل يوم وليلة يصلي سبع عشرة ركعة، وفي كل ركعة يضع جبهته على التراب تواضعاً لله، ويرى نفسه ذرة صغيرة أمام عظمة الخالق، بل يرى نفسه صفراً بالنسبة إلى ما لا نهاية له!.
ولأمير المؤمنين علي(عليه السلام) كلام معروف تتجسد فيه، فلسفة العبادات الإسلامية بعد الإيمان بالله، فبيّن أوّل العبادات وهي الصلاة مقرونة بهذا الهدف إذ قال: "فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر" (1).
6 ـ الصلاة وسيلة لتربية الفضائل الخُلقية والتكامل المعنوي للإنسان، لأنّها تخرج الإنسان عن العالم المحدود وتدعوه إلى ملكوت السماوات، وتجعله مشاركاً للملائكة بصوته ودعائه وابتهاله، فيرى نفسه غير محتاج إلى واسطة إلى الله أو أن هناك "حاجباً" يمنعه... فيتحدث مع ربّه ويناجيه!.
إن تكرار هذا العمل في اليوم والليلة ـ وبالإعتماد على صفات الله الرحمن الرحيم العظيم، خاصة بالاستعانة بسور القرآن المختلفة بعد سورة الحمد التي هي خير محفّز للصالحات، والطهارة ـ له الأثر في تربية الفضائل الخُلقية في وجود الإنسان!
لذلك نقرأ في تعبير الإمام علي أمير المؤمنين(عليه السلام) عن حكمتها قوله: "الصلاة قربان كل تقيّ!" (2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار 252.
2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 136.
[407]
7 ـ إن الصلاة تعطي القيمة والروح لسائر أعمال الإنسان; لأنّ الصلاة توقظ في الإنسان روح الإخلاص... فهي مجموعة من النية الخالصة والكلام الطاهر "الطيب" والأعمال الخالصة... وتكرار هذه المجموعة في اليوم والليلة ينثر في روح الإنسان بذور سائر الأعمال الصالحة ويقوّي فيه روح الإخلاص.
لذلك فإنّنا نقرأ في بعض ما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في ضمن وصاياه المعروفة بعد أن ضربه ابن ملجم بالسيف ففلق هامته، أنّه قال: "الله الله في صلاتكم فإنها عمود دينكم" (1).
ونعرف أنّ عمود الخيمة إذا انكسر أو هوى، فلا أثر للأوتاد والطنب مهما كانت محكمة... فكذلك إرتباط عباد الله به عن طريق الصلاة، فلو ذهبت لم يبق لأي عمل آخر أثر.
ونقرأ عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: "أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قبلت قبل سائر عمله، وإن ردّت ردّ سائر عمله!".
ولعل الدليل على هذا الحديث هو أن الصلاة رمزٌ للعلاقة والإرتباط بين الخالق والمخلوق! فإذا ما أدّيت بشكل صحيح، وكان فيها قصد القربة والإخلاص "حيّاً" كان وسيلة القبول لسائر الأعمال، وإلاّ فإنّ بقية أعماله تكون مشوبة وملوّثة وساقطةً من درجة الاعتبار.
8 ـ إنّ الصلاة ـ بقطع النظر ـ عن محتواها، ومع الإلتفات إلى شرائط صحتها، فإنّها تدعوا إلى تطهير الحياة! لأنّنا نعلم أن مكان المصلي، ولباس المصلي، وبساطه الذي يصلي عليه، والماء الذي يتوضأ به أو يغتسل منه، والمكان الذي يتطهر فيه "وضوء أو غسلا" ينبغي أن يكون طاهراً من كل أنواع الغصب والتجاوز على حقوق الآخرين. فإنّ من كان ملوّثاً بالظلم والغصب والبخس في الميزان والبيع وآكلا للرشوة ويكتسب أمواله من الحرام... كيف يمكن له أن يهيء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، ومن كتاب له "وصية له" 47.
[408]
مقدمات الصلاة!؟ فعلى هذا فإنّ تكرار الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ـ هو نفسه ـ دعوة إلى رعاية حقوق الآخرين!
9 ـ إنّ للصلاة ـ بالإضافة إلى شرائط صحتها ـ شرائط لقبولها، أو بتعبير آخر: شرائط لكمالها، ورعايتها ـ أيضاً ـ عامل مؤثر ومهم لترك كثير من الذنوب!.
وقد ورد في كتب الفقه ومصادر الحديث روايات كثيرة تحت عنوان موانع قبول الصلاة، ومنها "شرب الخمر" إذ جاء في بعض الرّوايات: لا تقبل صلاة شارب الخمر أربعين يوماً إلاّ أن يتوب (1).
كما نقرأ في روايات متعددة أنّ من جملة "من لا تقبل صلاته "الإمام الظالم" (2).
كما صُرّح في بعض الرّوايات بأنّ الصلاة لا تُقبل من "مانع الزكاة".
كما أنّ هناك بعض الرّوايات تقول: "إنّ الصلاة لا تقبل ممن يأكل السحت والحرام، ولا ممن يأخذه العجب والغرور" وهكذا تتّضح الحكمة والفائدة الكبيرة من وجود هذه الشروط.
10 ـ إنّ الصلاة تقوي في الإنسان روح الإنضباط والإلتزام، لأنّها ينبغي أن تؤدى في أوقات معينة، لأنّ تأخيرها عن وقتها أو تقديمها عليه موجب لبطلانها.
وكذلك الآداب والأحكام الأُخرى في موارد النية والقيام والركوع والسجود وما شابهها، إذ أن رعايتها تجعل الإستجابة للإلتزام في مناهج الحياة ممكناً وسهلا.
كل هذه من فوائد الصلاة ـ بغض النظر عن صلاة الجماعة ـ وإذا أضفنا إليها خصوصية الجماعة، حيث أنّ روح الصلاة هي الجماعة، ففيها بركات لا تحصى ولا تعدّ، ولا مجال هنا لشرحها وبيانها، مضافاً الى أن الجميع يدرك خيراتها وفوائدها على الإجمال.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، ج 84، ص 317 و 320.
2 ـ بحار الأنوار، ج 84 ص 318.
[409]
ونختم كلامنا في مجال حكمة الصلاة وفلسفتها وأسرارها بحديث جامع منقول عن الإمام الرضا(عليه السلام) إذ سئل عنها فأجاب بما يلي: "إن علة الصلاة أنّها إقرار بالربوبيةلله عزّوجلّ، وخلع الأنداد، وقيام بين يدي الجبار جل جلاله بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كل يوم إعظاماً لله عزّوجلّ، وأن يكون ذاكراً غير ناس ولا بطر، ويكون خاشعاً متذللا، راغباً طالباً للزيادة في الدين والدنيا مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر الله عزّوجلّ بالليل والنهار، لئلا ينسى العبد سيده ومديره وخالقه فيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي ومانعاً له عن أنواع الفساد". (1)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 4.
[410]
[411]
بداية الجزء الحَادي والعشرون
من
القرآن الكريم
ويبدأ من بداية الآية ست وأربعون
سورة العنكبوت
[412]
[413]
الآية
وَلاَ تُجَـدِلُوا أَهْلَ الْكِتَـبِ إلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـهُنَـا وَإِلَـهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ فالَّذِينَ ءَاَتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بَاَيَـتِنَآ إلاَّ الْكَـفِرُونَ (47)وَمَا كنْتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَـب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ ءَايَـتٌ بَيِّنَـتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِاَيَـتِنَآ إلاّ الظَّـلِمُونَ (49)
التّفسير
اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال:
كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّاً، وأن يعدَّ ما يعبدون من دون الله أوهى من بيت العنكبوت، أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفاً، إذ أنّهم ـ على الأقل ـ قد سمعوا قسماً ممّا جاء به الأنبياء والكتب
[414]
السماوية، ولديهم استعداد أكثر للتعامل المنطقي، إذ ينبغي أن يكلم كل شخص بمقدار علمه وعقله وأخلاقه.
فيقول القرآن في هذا الصدد: (لا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن )(1).
"تجادلوا" مشتق من "جدال" ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما ـ في الحقيقة ـ يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته.. لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالا. كما يرد هذا التعبير في النزاع أيضاً، وعلى كل حال فإنّه المراد من قوله (ولا تجادلوا ) المناقشات المنطقية.
والتعبير بـ( التي هي أحسن ) تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع، سواءً كان ذلك في الألفاظ أو المحتوى، وسواء كان في طريقة الكلام، أو الحركات والإشارات المصاحبة له.
فعلى هذا يكون مفهوم الجملة المتقدمة: إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدبة، والكلام ذا مودّة، والمحتوى مستدلا، وصوتكم هادئاً غير خشن، ولا متجاوزاً لحدود الأخلاق أو لهتك الحرمة، وكذلك بالنسبة لحركات الأيدي والعيون والحواجب التي تكمل البيان، ينبغي أن تكون هذه الحركات ضمن هذه الطريقة المؤدبة... وكم هو جميل هذا التعبير القرآني، إذ أوجز عالماً من المعاني الدقيقة في جملة قصيرة.
كل هذه الأُمور لأجل أن الهدف من وراء النقاش والبحث ليس هو طلب التفوق ودحر الطرف الآخر، بل الهدف أن يكون الكلام حتى ينفذ في القلب وفي أعماق الطرف الآخر... وخير السبل للوصول إلى هذا الهدف هو هذا الأسلوب القرآني.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "التي" هنا صفة لموصوف محذوف تقديره الطريقة أو ما شاكلها...
[415]
وكثيراً ما يتفق أنّه لو استطاع الإنسان أن يبيّن قول الحق بصورة يراه الطرف الآخر متطابقاً لفكره ورأيه، فسرعان ما ينعطف إليه وينسجم معه، لأنّ الإنسان ذو علاقة بفكره كعلاقته بأبنائه.
وهكذا فإنّ القرآن الكريم يثير الكثير من المسائل على صورة "السؤال والإستفهام" لينتزع جوابه من داخل فكر المخاطب فيراه منه!
وبالطبع فإنّ لكل قانون استثناءً، ومنها هذا القانون أو الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية، فقد يُعدّ في بعض الموارد ضعفاً، أو يكون الطرف الآخر مغروراً الى درجة أن هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدواناً وتكبراً، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنياً: (إلاّ الذين ظلموا منهم ).
وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين، وكتموا كثيراً من الآيات، لئلا يطلع الناس على أوصاف النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله).
الظالمون الذين جعلوا أوامر الله التي لا تنسجم مع منافعهم الشخصية تحت أقدامهم.
الظالمون الذين آمنوا بالخرافات فكانوا كالمشركين في عقيدتهم إذ قالوا: إن المسيح ابن الله، أو العزير ابن الله.
وأخيراً فهم أُولئك الذين ظلموا وتذرعوا بالسيف والقوّة بدلا من البحث المنطقي، وتوسّلوا بالشيطنة والتآمر على النّبي(صلى الله عليه وآله) وعلى الإسلام.
ويختتم الآية بمصداق بارز من "المجادلة بالتي هي أحسن" ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث; فيقول القرآن الكريم: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ).
كم هو جميل هذا التعبير! وكم هو رائع هذا النغم واللهجة! لهجة الوحدة والإيمان بكل ما أنزل الله الواحد، وحذف جميع العصبيّات، ونحن وأنتم جميعاً موحدون لله مسلمون له.
[416]
وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها، ويدلّ على أن الإنسان يجب أن يكون بعيداً عن التحزب أو طلب التفرقة، فنداء الإسلام هو نداء الوحدة والتسليم لكل كلام حق.
وأمثلة هذا البحث كثيرة في القرآن، ومن ضمنها ماأشار إليه الإمام الصادق(عليه السلام) إذ قال: "أمّا الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له، فقال الله حاكياً عنه: قل [يا محمّد]" (يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجرة الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون )(1).
والآية الأُخرى تؤكّد على الأصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة، فتقول: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب ) أي القرآن.
أجل... نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر الله; والمجادلة بالتي هي أحسن!.
قال بعض المفسّرين: إنّ المراد من جملة (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب ) هو تشبيه نزول القرآن على النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله) أيّ كما أنزلنا كتباً من السماء على الأنبياء الماضين، فكذلك أنزلنا إليك الكتاب!.
إلاّ أنّ التّفسير السابق يبدو أكثر دقّة، وإن كان الجمع بين التّفسيرين ممكناً أيضاً.
ثمّ يضيف القرآن الكريم: (والذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ) ويعتقدون بصدقه.. إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم، كما أن محتواه من حيث الأصول العامّة والكلية منسجم مع كتبهم!.
ومن المعلوم أن جميع أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم يؤمنوا بنبوّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 4، ص 163.
[417]
محمّد(صلى الله عليه وآله) "نبي الإسلام" فتكون هذه الجملة في خصوص تلك الجماعة المؤمنة منهم، والتي تبتغي الحق دون تعصب، فتكون جديرة أن يطلق عليها "أهل الكتاب".
ويضيف القرآن بعدئذ: (ومن هؤلاء من يؤمن به )(1) أي أهل مكّة والمشركون العرب.
ثمّ يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى (وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون ).
ومع الإلتفات إلى أنّ مفهوم الجحود، هو أن يعتقد الإنسان بشيء بقلبه وينكره بلسانه، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أن الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات، ويرون علامات الصدق عليها، ومنهج النّبي و طريقته وحياته النقية، وأن أتباعه هم المخلصون، ويعدّون كل ذلك دليلا على أصالته، إلاّ أنّهم ينكرون ذلك عناداً وتعصباً، وتقليداً أعمى لأسلافهم ولآبائهم، ولحفظ منافعهم الشخصية.
وعلى هذا فإنّ القرآن يحدد مواقف الأُمم المختلفة إزاء هذا الكتاب ويصنفهم إلى قسمين:
فقسمٌ هم أهل الإيمان، سواءً من علماء اليهود والنصارى، أو المؤمنين بصدق، أو المشركين العطاشى إلى الحقّ الذين عرفوا الحق فتعلقت قلوبهم به.
وقسم آخر هم المنكرون المعاندون، الذين رأوا الحق إلاّ أنّهم أنكروه وأخفوا أنفسهم عنه كالخفاش، لأنّ ظلمة الكفر كانت جزءاً من نسيج وجودهم، فهم يستوحشون من نور الإيمان.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ جملة "الذين آتيناهم الكتاب" إشارة إلى المسلمين، وجملة "من هؤلاء من يؤمن به" إشارة إلى أهل الكتاب، إلاّ أنّ هذا التّفسير بعيد ـ كما يبدو ـ جدّاً لأنّ التعبير بـ (الذين آتيناهم الكتاب ) وما شابهه لم يأت في القرآن ـ بحسب الظاهر ـ إلاّ في خصوص اليهود والنصارى.
[418]
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ هذا القسم ـ أو هذا الطائفة ـ كانوا كفرةً من قبل، ولكن التأكيد على كفرهم ممكن أيضاً، وذلك لأنّهم لم تتمّ الحجّة عليهم من قبل، ولكنّهم بعد أن تمّت عليهم الحجّة، فقد أصبحوا كافرين كفراً حقيقتاً، وحادوا بعلمهم واطلاعهم عن الصراط المستقيم، وخطوا في دروب الضلال!.
ثمّ يضيف القرآن مشيراً إلى علامة أُخرى من علائم حقانية دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله)الجلية والواضحة، وهي تأكيدٌ على محتوى الآية السابقة، فيقول: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ) وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النّبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين.
ومعنى هذه الآية أنّك لم تذهب إلى مدرسة قط، ولم تكتب من قبل كتاباً قط، لكّنك باشارة من وحي السماء أصبحت تعرف المسائل أفضل من مئة مدرس!.
كيف يمكن أن يُصدق أن شخصاً لم يقرأ كتاباً ولم ير أستاذاً ولا مدرسةً، أن يأتي بكتاب يتحدى به جميع البشر أن يأتوا بمثله، فيعجز جميعهم عن الإتيان بما طلب.
أليس هذا دليلا على أن قوّتك تستمدّ من قوة الخالق غير المحدودة، وأن كتابك وحي السماء ألقاه الله إليك؟!
وينبغي الإشارة إلى أنّه لو سأل سائل: من أين نعرف أن النّبي(صلى الله عليه وآله) لم يذهب إلى مدرسة قط؟!.
فنجيب أنّه(صلى الله عليه وآله) قد عاش في بيئة المثقفون والمتعلمون فيها معدودون ومحدودون... حتى قيل أن ليس في مكّة أكثر من سبعة عشر رجلا يجيدون القراءة والكتابة، ففي مثل هذا المحيط وهذه البيئة، لو قدّر لأحد أن يمضي إلى المدرسة فيتعلم القراءة والكتابة، فمن المستحيل أن يكون مجهولا، بل يكون معروفاً في كل مكان. كما يعرف الناس أستاذه ودرسه أيضاً.
فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يدعي أنّه نبيّ صادق ومع ذلك يكذب
[419]
هذه الكذبة المفضوحة والمكشوفة؟ خاصة أن هذه الآيات نزلت في مكّة، مهد نشأة النّبي(صلى الله عليه وآله) وكذلك في قبال الأعداء الألدّاء الذين لا تخفى عليهم أقل نقطة ضعف!!.
وفي الآية التالية علامة أُخرى أيضاً على حقانية القرآن، إذ تقول: (بل هو آيات بيّنات في صدورالذين أوتوا العلم ).
والتعبير بـ"الآيات البينات" كاشف عن هذه الحقيقة وهي أن دلائل حقانية القرآن تتجلى بنفسها عياناً، وتشرق في أرجائه، فدليلها معها.
وفي الحقيقة، إنّها مثل الآيات التكوينية التي تجعل الإنسان يذعن بحقيقتها عند مطالعتها دون حاجة إلى شيء آخر، هذه الآيات التشريعية ـ أيضاً ـ من حيث ظاهرها ومحتواها كذلك، إذ هي دليل على صدقها.
ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ أتباع هذه الآيات وطلابها المشدودة قلوبهم إليها هم أولوا العلم والإطلاع، بالرغم من أن أيديهم خالية وأرجلهم حافية!.
وبتعبير أوضح: إنّ واحداً من طرق معرفة أصالة مذهب ما دراسة حال المؤمنين به، فإذا كان الجهال المحتالون قد التفوا حول الشخص، فهو أيضاً من نسيجهم، ولكن إذا كان من التفّ حول الشخص هم الذين امتلأت صدورهم بأسرار العلوم وهم أوفياء له، فيكون هذا الأمر دليلا على حقانية ذلك الشخص، ونحن نرى أن جماعة من علماء أهل الكتاب، ورجالا متقين أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر، وشخصية كبيرة كعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، هم حماة هذا المبدأ.
وفي روايات كثيرة منقولة عن أهل البيت(عليهم السلام)، إنّ المراد بالذين أوتوا العلم هم الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) وطبعاً... فليس هذا المعنى منحصراً فيهم، بل هم المصداق الجلي لهذه الآية(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذه الرّوايات وردت في تفسير البرهان الجزء الثالث، ص 254 فما بعد بشكل مفصل.
[420]
وإذا ما لاحظنا أن بعض الرّوايات تصرّح أنّ المراد من هذه العبارة المتقدمة هم الأئمّة(عليهم السلام)، فإنّ ذلك في الحقيقة إشارة إلى المرحلة الكاملة لعلم القرآن الذي عندهم، ولا يمنع أن يكون للعلماء... بل لعامّة الناس الذين لهم نصيب من الفهم، أن يحظوا بقسط من علوم القرآن أيضاً.
كما أنّ هذه الآية تدلّ ضمناً على أن العلم ليس منحصراً بالكتاب، أو بما يلقيه الأستاذ على تلاميذه... لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله) ـ طبقاً لصريح الآيات المتقدمة ـ لم يدرس في مدرسة ولم يكتب من قبل كتاباً... إلاّ أنّه كان خير مصداق للذين "أوتوا العلم".
فإذاً فما وراء العلم "الرسمي" الذي نعهده، علم أوسع وأعظم، وهو علم يأتي من قبل الله تعالى على شكل نور يقذف في قلب الإنسان، كما ورد في الحديث "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء" . وهذا هو جوهر العلم، أمّا ما سواه فهو الصدف والقشر!
وتُختتم الآية بقوله تعالى: (وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون )... لأنّ دليلها واضح، فالنّبي الأميّ الذي لم يقرأ ولم يكتب، هو الذي جاء بها... والعلماء المطلعون هم المؤمنون بها.
ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ الآيات نفسها مجموعة من الآيات البينات "كلمات ذوات محتوى جلي مشرق".
وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة.
ومع كل هذا ترى هل ينكر هذه الآيات إلاّ الذين ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم "ونكرر أن التعبير بـ "بالجحد" يكون في مورد ما لو أن الإنسان يعتقد بالشيء وينكره على خلاف ما يعلمه"!.
* * *
[421]
بحوث
1 ـ الرّسول صل الله عليه وآله وسلمّ.. الأمي
صحيح أن القراءة والكتابة تعدّان ـ لكل إنسان ـ كمالا.. إلاّ أنّه يتفق أحياناً ـ وفي ظروف معينة ـ أن يكون من الكمال في عدم القراءة والكتابة... ويصدق هذا الموضوع في شأن الأنبياء، وخاصة في نبوّة خاتم الأنبياء "محمّد"(صلى الله عليه وآله).
إذ يمكن أن يوجد عالم قدير وفيلسوف مطّلع، فيدّعي النبوّة ويظهر كتاباً عنده على أنّه من السماء، ففي مثل هذه الظروف قد تثار الشكوك والإحتمالات أو الوساوس في أنّ هذا الكتاب ـ أو هذا الدين ـ هو من عنده لا من السماء!.
إلاّ أنّنا إذا رأينا إنساناً ينهض من بين أُمّة متخلفة، ولم يتعلم على يد أي أستاذ، ولم يقرأ كتاباً ولم يكتب ورقةً ـ فيأتي بكتاب عظيم عظمة عالم الوجود، بمحتوى عال جداً... فهنا يمكن معرفة أن هذا الكتاب ليس من نسج فكره وعقله، بل هو وحي السماء وتعليم إلهي، ويدرك هذا بصورة جيدة!.
كما أنّ هناك تأكيداً على أُمية النّبي(صلى الله عليه وآله) في آيات القرآن الأُخرى، وكما أشرنا آنفاً في الآية (157) من سورة الأعراف إلى أن هناك ثلاثة تفاسير لمعنى "الأميّ" ، وأوضحها وأحسنها هو أنّه من لا يقرأ ولا يكتب.
ولم يكن في محيط الحجاز وبيئته ـ أساساً ـ درس ليقرأ النّبي(صلى الله عليه وآله)، ولا معلم ليحضر عنده ويستفيد منه، وقلنا: إنّ عدد المثقفين الذين كانوا يقرأون ويكتبون في مكّة لم يتجاوز سبعة عشر نفراً فحسب، ويقال أن من النساء كانت امرأة واحدة تجيد القراءة والكتابة(1).
وطبيعي في مثل هذا المحيط الذي تندر فيه أدنى مرحلة للعلم وهي القراءة والكتابة، لا يوجد شخص يعرف القراءة والكتابة ولا يعرف عنه الناس شيئاً... وإذا ظهر مدع وقال ـ بضرس قاطع ـ إنّني لم أقرأ ولم أكتب، لم ينكر عليه أحد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فتوح البلدان للبلاذري طبع مصر، ص 459.
[422]
دعاءه، فيكون عدم الإنكار دليلا جليّاً على صدق مدّعاه، وعلى كل حال فإنّ هذه الكيفية الخاصة للنّبي(صلى الله عليه وآله) التي نوهت عنها الآيات المتقدمة، إنّما هي لإكمال إعجاز القرآن، ولقطع السبيل أمام حجج المتذرعين بالأباطيل الواهية، وفيها تأثير بالغ ونافع جدّاً.
أجل، إنّه عالم منقطع النظير، لكنّه لم يدرس في مدرسة، بل تعلّم من وحي السماء!.
تبقى هناك ذريعة واحدة يحتج بها المتذرعون، وهي أنّ النّبي سافر إلى الشام مرّة أو مرتين "لفترة وجيزة ولغرض التجارة".. قبل نبوته، فيقولون: ربّما اتصل في بعض هاتين السفرتين بعلماء أهل الكتاب وتعلّم منهم هذه المسائل!.
والدليل على ضعف هذا الإدّعاء منطو في نفسه، فكيف يمكن أن يسمع إنسان جميع هذه الدروس وتواريخ الأنبياء والأحكام والمعارف الجليلة، وهو لم يمض إلى مدرسة ولم يقرأ شيئاً، فيحفظ كل ذلك بهذه السرعة، ويودعه في ذهنه، ثمّ يبيّنه ويفصله خلال مدّة ثلاث وعشرين سنة؟! وأن يبدي موقفاً مناسباً للحوادث غير المتوقعة والتي لم يسبق لها مثيل.
وهذا يشبه تماماً أن نقول مثلا: إنّ فلاناً تعلم قائمة العلوم والفنون الطبية كلّها في عدّة أيّام، وأنّه كان مشرفاً على معالجة المرضى في المستشفى الفلاني، ومستشاراً للأطباء، هذا كلام أقرب إلى المزاح والهزل منه إلى الجد.
وينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة، هي أن النّبي(صلى الله عليه وآله) بعد أن بلغ مرحلة النبوّة، يحتمل أن يكون قادراً على القراءة والكتابة، حينئذ وذلك بواسطة التعليم الالهي وإن لم يرد في التواريخ أنّه استفاد من هذه الطريقة! ولم يقرأ شيئاً بنفسه أو يكتب شيئاً بيده، ولعل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تجنب كل ذلك في طول عمره لئلا يتذرع المتذرعون فيثيروا الشكوك بنبوّته! الشيء الوحيد الذي جاء في كتب التأريخ أن النّبي (صلى الله عليه وآله)كتبه بنفسه، هو صلح الحديبية الذي جاء في مسند أحمد أن "النّبي أمسك القلم
[423]
بيده وكتب معاهدة الصلح"(1).
إلاّ أنّ جماعة من علماء الإسلام أنكروا هذا الحديث، وقالوا: إنّ هذا مخالف لصريح الآيات، وإن اعتقد البعض بأنّه ليس في الآيات صراحة، لأنّ الآيات ناظرة لحال النّبي قبل بعثته، فما يمنع أن يكتب النّبي على وجه الإستثناء بعد أن نال مقام النبوّة.. في مورد واحد.. ويكون ذلك بنفسه معجزة أُخرى من معاجزه!.
إلاّ أن الإعتماد في مثل هذه المسألة على خبر الواحد مجانب للحزم والأحتياط، ومخالف لما ثبتت في علم الأصول حتى لو قلنا أنّ هذا الخبر لا اشكال فيه.(2)
2 ـ طريق النفوذ في الآخرين
لا يكفي الأستدلال القوي المتين للنفوذ إلى قلوب الآخرين واكتسابهم بالكلام الحق، فانّ أُسلوب التعامل مع الطرف الآخر وطريقة البحث والمناظرة تترك أعمق الأثر في هذه المرحلة.. فكثيراً ما يتفق أن يوجد أناس مطّلعون ولهم يد طولى في البحوث العلمية الدقيقة، إلاّ أنّهم قلّما يوفقون للنفوذ إلى قلوب الآخرين، بسبب عدم معرفتهم بكيفية المجادلة بالتي هي أحسن، وعدم معرفتهم بالبحوث البنّاءة!.
وبتعبير آخر فإنّ النفوذ الى مرحلة الوعي ـ في المخاطب ـ غير كاف وحده، بل ينبغي الدخول إلى مرحلة عدم الوعي الذي يمثل القسم الأكبر لروح الإنسان أيضاً.
ويستفاد من مطالعة أحوال الأنبياء، ولا سيما حال النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله) وأئمّة الهدى(عليهم السلام) ـ بصورة جيدة أن هؤلاء العظام سلكوا أحسن سبل الأخلاق
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مسند أحمد، ج 4، ص 298.
2 ـ ورد في صدد "النّبي الأُمي" شرح مفصل آخر ذيل الآية (157) من سورة الأعراف.
[424]
الإجتماعية وأسس المعارف النفسية والإنسانية، لأجل تحقيق أهدافهم التبليغية والتربوية!.
وكانت طريقة تعاملهم مع الناس أن يكتسبوهم إليهم بشكل سريع فينجذبوا إليهم، وإن كان بعض الناس يميل إلى أن يضفي على مثل هذه الأُمور ثوب الإعجاز دائماً، إلاّ أنّه ليس كذلك، فلو اتبعنا سنتهم وطريقتهم لاستطعنا بسرعة أن نترك في الناس عظيم الأثر، وأن ننفذ إلى أعماق قلوبهم.
والقرآن يخاطب نبيّ الأسلام(صلى الله عليه وآله) بصراحة فيقول: (ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك )(1) أو كثيراً ما يرى أنّ بعضهم بعد ساعات من الجدال والمناظرة، لا أنه لا يحصل على تقدم في مناقشاته فحسب، بل على العكس يجعل الطرف الآخر متعصباً ومتشدداً في عقيدته الباطلة بصورة أكثر... وذلك دليل على أنّه لم يتبع أُسلوب المجادلة بالتي هي أحسن.
فالخشونة في البحث، وطلب الإستعلاء، وتحقير الطرف المقابل، وإظهار التكبر والغرور، وعدم احترام أفكار الآخرين، وعدم الجدية في المناقشات والبحوث، كلها من الأُمور التي تبعث على انهزام الإنسان في بحثه، وعدم انتصاره على الطرف الآخر. لذلك فإنّنا نرى في مباحث الأخلاق الإسلامية بحثاً تحت عنوان "تحريم الجدال والمراء" والمراد منه الأبحاث التي لا يطلب من ورائها الحق، بل المراد منها الإستعلاء وإبراز العضلات لا غير!.
وتحريم الجدال والمراء ـ بالإضافة إلى الجوانب المعنوية والإخلاقية ـ إنّما هو لأنّه لا يحصل من ورائهما على نتيجة فكرية ملحوظة.
والجدال والمراء في حرمتهما متقاربان، إلاّ أن العلماء من المسلمين جعلوا فرقاً بين كلّ منهما... "فالمراء" معناه إظهار الفضل والكمال، "والجدال" يراد منه تحقير الطرف المقابل!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ آل عمران ـ الآية 159.
[425]
وقالوا: إنّ الجدال هي المراحل الهجومية الأُولى في البحث... وأمّا المراء فيراد منه الصدّ الدفاعي في الكلام.
كما أنّ هناك قولا بأن الجدال في المسائل العلمية، أمّا المراء فهو في الأعم منها "وبالطبع فإنه لا تضادّ بين هذه التفاسير جميعاً".
وعلى كل حال، فإنّ الجدال أو البحث مع الآخرين، تارة يقع بالتي هي أحسن، وذلك ما بيّناه بالشرائط المتقدمة آنفاً، وينبغي رعايتها بدقّة. وتارة يكون بغير الأحسن، وذلك في ما لو أهملت الأُمور التي ذكرناها في مستهل كلامنا على الجدال، وجعلت في طيّ النسيان.
ونختتم هذا الكلام بعدة روايات بليغة ونافعة لنتعلم منها:
ففي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً" (1).
ونقرأ في حديث آخر أن سليمان النّبي(عليه السلام) قال لولده "يا بني إيّاك والمراء، فإنّه ليست فيه منفعة، وهو يهيج بين الأخوان العداوة" (2).
3 ـ الكافرون والظالمون
نواجه في الآيات المتقدمة آنفاً هذا التعبير (وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون )ومرّة أُخرى نواجه المضمون ذاته مع شيء من التفاوت فبدلا من كلمة "الكافرون" جاءت كلمة "الظالمون" (وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون ).
والموازنة بين التعبيرين تدلّ على أن المسألة ليست من قبيل التكرار، بل هي لبيان موضوعين، أحدهما يشير إلى جانب عقائدي "الكافرون" والآخر يشير إلى جانب عملي "الظالمون".
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار مادة مرأ.
2 ـ إحياء العلوم.
[426]
فالآية الأُولى تقول: إنّ الذين اختاروا الشرك والكفر بأحكامهم المسبّقة الباطلة وتقليدهم الأعمى لأسلافهم، لا يرون آيةً من آيات الله إلاّ أنكروها وإن تقبلتها عقولهم"!
أمّا التعبير الثّاني فيقول: إنّ الذين اختاروا بظلمهم أنفسهم ومجتمعهم طريقاً يرون فيه منافعهم الشخصية، وعزموا على الإستمرار في هذه الطريق، لا يذعنون لآياتنا. لأنّ آياتنا كما أنّها لا تنسجم مع خطهم الفكري، فهي لاتنسجم مع خطهم العملي أيضاً.
* * *
[427]
الآية
وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيهِ ءَاَيَتٌ مِّنْ رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الاَْيَتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـبَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْم يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ وَالَّذِينَ ءَاَمَنُؤا بِالْبَـطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمَّىً لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (53)يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَُمحِيطَةٌ بِالْكَـفِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَـهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
التّفسير
أليس القرآن كافياً في إعجازه؟!
الأشخاص الذين لم يذعنوا ويسلّموا للبيان الإستدلالي والمنطقي الذي جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل، ولم يقبلوا بكتاب كالقرآن
[428]
الذي جاء به إنسان أمي كالنّبي محمّد(صلى الله عليه وآله) دليلا جليّاً على حقانية دعوته... تذرعوا بحجّة أخرى على سبيل الإستهزاء والسخرية، وهي أنّه لم لا تأت ـ يا محمّد ـ بمعجزة من المعاجز التي جاء بها موسى وعيسى (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه ).
ولِم لَم يكن لديه مثل عصى موسى ويده البيضاء ونفخة المسيح؟!
ولم لا يهلك أعداءه بمعاجزه، كما فعل موسى وشعيب وهود ونوح بأممهم المعاندين؟!.
أو كما يعبر على لسانهم القرآن في الآيات 90 ـ 93 من سورة الإسراء (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أو تسقط السماء كما زعمت كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربّي هل كنت إلاّ بشراً رسولا ).
ومن دون شك فإنّ النّبي(صلى الله عليه وآله) كانت لديه معاجز غير القرآن الكريم، كما أن التواريخ تصرح بذلك أيضاً... إلاّ أن أُولئك لم يكن قصدهم من وراء كلامهم الحصول على معجزة، بل كان قصدهم ـ من جهة ـ أن لا يعتبروا القرآن شيئاً مهماً وكتاباً إعجازياً، ومن جهة أُخرى كانوا يريدون معجزات مقترحة ـ"والمراد من المعجزات المقترحة هو أن يأتي النّبي(صلى الله عليه وآله) طبقاً لرغبات هذا وذاك بمعاجز خارقة للعادة يقترحونها عليه، فمثلا يريد منه بعضهم أن يفجّر له الأرض ينابيع من الماء ا لزلال، ويريد الآخر منه أن يقلب له الجبال التي في مكّة ذهباً، ويتذرع الثّالث بأن هذا لا يكفي أيضاً بل ينبغي أن يصعد إلى السماء، وهكذا يجعلون المعجزة على شكل ألعوبة لا قيمة لها، وآخر الأمر.. وبعد رؤية كل هذه الأُمور يتهمونه بأنه ساحر".
[429]
لذلك فإن القرآن يقول في الآية (111) من سورة الأنعام (ولو أنّنا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا ).
وعلى كل حال فإنّ القرآن، للرد على ذرائع هؤلاء المحتالين ذوي الحجج الواهية، يدخل من طريقين:
فيقول أوّلا في خطابه لنبيه (قل إنّما الآيات عند الله ) أي قل لأُولئك المعاندين أن الله يدري أية معجزة تناسب أي زمان وأي قوم، وهو يعلم أي الأفراد هم أتباع الحق، وينبغي أن يريهم المعاجز الخارقة للعادة، وأي الأفراد المتذرعون وأتباع هوى النفس؟!
ثمّ يضيف القرآن معقباً أن قل (وإنّما أنا نذير مبين ).. فمسؤوليتي الإنذار ـ فحسب ـ والإبلاغ وبيان كلام الله، أمّا المعاجز والأُمور الخارقة للعادة فهي بأمر الله.
والجواب الآخر هو قوله تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ).
فهم يطلبون معاجز مادية "جسمانية"، والقرآن بحد ذاته أعظم معجزة معنوية..
وهم يريدون معجزة عابرة لا تمكث طويلا، في حين أن القرآن معجزة خالدة تتلى آياته ليل نهار عليهم وعلى الأجيال من بعدهم.
ترى هل يعقل أن يأتي إنسان أُمي وحتى لو كان يقرأ ويكتب فرضاً بكتاب بهذا المحتوى العظيم والجاذبية العجيبة، التي هي فوق قدرة الإنسان والبشر، ثمّ يدعوا أهل العلم متحدياً لهم للإتيان بمثله فيعجزون عن الإتيان بمثله؟!
فلو كانوا حقاً طلاب معجزة، فقد آتيناهم بنزول القرآن أكثر ممّا طلبوه إلاّ أنّهم لم يكونوا طلاب معجزة، بل هم متذرعون بالأباطيل!.
وينبغي الإلتفات إلى أن التعبير (أو لم يكفهم ) إنّما يستعمل ـ غالباً ـ في
[430]
موارد يكون الإنسان قد أدّى عملا فوق ما ينتظره الطرف الآخر، وهو غافل عنه أو يتغافل عنه، كأن يقول مثلا: لم أحصل على الخدمة الفلانيّة، في حين أن الخدمة التي قدمت إليه ـ كما في هذه الحال ـ أكبر خدمة، إلاّ أنّه لا يعتبرها شيئاً، ونقول له: أو لم يكفك ما قدمناه؟!
ثمّ بعد هذا كله ينبغي أن تكون المعجزة منسجمة مع ظروف "الزمان والمكان وكيفية دعوة النّبي" فالنّبي الذي يدعوا إلى مبدأ خالد، ينبغي أن تكون معجزته خالدة أيضاً.
والنّبي الذي تستوعب دعوته العالم وتستوعب القرون والأعصار المقبلة، لابدّ له من أن يأتي بمعجزة نيّرة "روحية وعقلانية" ليجلب إليه أفكار جميع العلماء والمفكرين، ومن المسلّم به أن مثل هذا الهدف يتناسب مع القرآن، لا عصى موسى ولا يده البيضاء.
وفي نهاية الآية يضيف القرآن للتأكيد والتوضيح بصورة أجلى، فيقول: (إنّ في ذلك لرحمةً وذكرى لقوم يؤمنون ).
"ذلك" هنا إشارة إلى الكتاب المنزل من السماء، وهو القرآن.
أجل، إن القرآن رحمة "وسيلة" للذكرى والتذكر أيضاً، فهو للمؤمنين الذين فتحوا قلوبهم بوجه الحقيقة، والذين يبتغون النور والطريق السويّ هو لهم رحمة إلهية يحسونها بكل وجودهم، ويشعرون بالإطمئنان والدعة عنده.. وكلّما قرأوا آياته تذكروا، فهي لهم ذكرى وأية ذكرى؟!
ولعل الفرق بين "الرحمة" و "الذكرى" أنّ القرآن ليس معجزة وذكرى فحسب، بل هو إضافة إلى كل ذلك يحتوي على القوانين التي تمنح الرحمة والمناهج التربوية والإنسانية.
فمثلا كانت عصى موسى معجزة فحسب، إلاّ أنّها لم يكن لها أثرٌ في حياة الناس اليومية ،غير أن القرآن معجزة،هو في الوقت ذاته منهج كامل الحياة ورحمة أيضاً.
[431]
ولمّا كان كل مدع بحاجة إلى الشاهد، فالقرآن يبيّن في الآية الأُخرى أن خير شاهد هو الله (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً ).
وبديهي أنّه كلّما كان إطلاع الشاهد وشهادته أكثر، فإنّ قيمة الشهادة تكون أهم، لذلك يضيف القرآن بعدئذ قائلا: (يعلم ما في السماوات والأرض ).
والآن لنعرف كيف شهد الله على حقانية نبيّه(صلى الله عليه وآله)؟!
يحتمل أن تكون هذه الشهادة شهادة عملية، لأنّه حين يؤتي الله نبيّه معجزة كبرى كالقرآن، فقدوقع على سند حقانيته وأمضاه.
ترى هل يمكن أن يأتي الله الحكيم العادل بمعجزة على يد كذّاب، والعياذ بالله! فعلى هذا كانت طريقة إعطاء المعجزة لشخص النّبي(صلى الله عليه وآله) ـ بنفسها ـ أعظم شهادة على نبوته من قبل الله.
وإضافةً للشهادة العملية المتقدمة، نقرأ في آيات كثيرة من القرآن شهادة قولية في نبوة النّبي(صلى الله عليه وآله)، كما في الآية (40) من سورة الأحزاب (ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النّبيين )، وفي الآية (29) من سورة الفتح أيضاً (محمّد رسول اللّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم )
قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية كانت جواباً على ما قاله بعض رؤوساء اليهود من أهل المدينة، أمثال "كعب بن الأشرف" وأتباعه، إذ قالوا: يا محمّد، من يشهد على أنّك مرسل من قبل الله، فنزلت هذه الآية (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم )!.
كما يمكن أن تفسّر الآية المتقدمة بتفسير آخر وبيان ثان، وذلك أنّ المراد من شهادة الله في الآية هي ما سبق من الوعد والذكر في كتب الله السابقة "كالتّوراة والإنجيل" ويعلم بذلك علماء أهل الكتاب بصورة جيدة!.
وفي الوقت ذاته لا منافاة بين التّفسيرات الثلاثة الآنفة الذكر، ومن الممكن
[432]
أن تجتمع هذه التفاسير في معنى الآية أيضاً.
وتختتم الآية بنحو من الوعيد والتهديد لأُولئك الكفار بالله، فيقول: (والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أُولئك هم الخاسرون ).
وأي خسران أعظم من أن يعطي الإنسان جميع وجوده في سبيل لا شيء؟! كما فعله المشركون، فقد أعطوا قلوبهم وأرواحهم للأوثان والأصنام.. ووظّفوا جميع قواهم الجسمانية والإمكانات الاجتماعية والفردية في سبيل الإعلام والتبليغ لمذهبهم الوثني وأهملوا ذكر الله، فلم يُعد عليهم هذا إلاّ بالضرر والخسران!.
وغالباً ما يشير القرآن إلى هذا الخسران في آياته، وفي بعض الآيات يرد التعبير بكلمة "أخسر" وهي إشارة إلى أنّه ليس فوق هذا الخسران من خسارة ولا أعظم منه!.. (راجع آيات السور "هود 22 والنمل 5 والكهف 103").
والمثل الأهمّ هو أنّه قد يتفق للإنسان أحياناً أن يتضرر في معاملته ويخسر رأس ماله ويُغلب على أمره، وقد تتسع هذه الدائرة أحياناً فيثقل كاهله بالديون، وهذه الحالة أسوأ الحالات والمشركون هم في مثل هذه الحالة، بل قديكونون سبباً لضلال الآخرين وخسرانهم، وكما يصطلح عليه: "الفشل سلسلة متصلة"(1).
في الآيات المتقدمة عرض قسمان من ذرائع الكفار قبال دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله)وقد أجيب عنهما:
الأوّل: كان قولهم: لم لا يأتي بمعجزة؟!
فأجاب القرآن: إن هذا الكتاب المنزل من السماء هو أعظم معجزة.
والثّاني: سؤالهم: من الشاهد على صدق دعواك وحقانية النبوة عندك؟
فأجاب القرآن: (كفى بالله شهيداً بيني وبينكم يعلم ما في السماوات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لنا في هذا الصدد بحث مفصّل بيّناه في ذيل الآية (103) من سورة الكهف.
[433]
والأرض ).
أمّا في الآية التالية فإشارة إلى الذريعة الثّالثة إذ تقول: (ويستعجلونك بالعذاب ) إذ يقولون: لو كان عذاب الله حقاً على الكافرين فلم لا يأتينا!؟
فيجيب القرآن على هذه الذريعة بثلاثة أجوبة.
الأوّل: (ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب ).
وهذا الزمان المعين "الأجل" إنّما هو لهدف أصلي، للإرعواء عن باطلهم وتيقظهم، أو إتمام الحجة عليهم، فالله لا يستعجل أبداً في أمره، لأنّ العجلة خلاف حكمته.
والثّانى: إن أُولئك الذين يتذرعون بهذا القول ما يدريهم لعل العذاب يأخذهم على حين غرة من أنفسهم (وليأتينهم بغتةً وهم لا يشعرون )(1).
وبالرغم من أن موعد العذاب ـ في الواقع ـ معين ومقرّر إلاّ أن المصلحة تقتضي ألاّ يطّلعوا عليه، وأن يأتيهم دون مقدمات، لأنّه لو عرف وقته لكان باعثاً على تجرؤ الكفار والمذنبين وجسارتهم.. وكانوا يواصلون الذنب والكفر إلى آخر لحظة.. وحين يأزف الوعد بالعذاب فإنهم سيتجهون بالتوبة ـ جميعاً ـ الى الله وينيبون إليه.
والحكمة التربوية لمثل هذا العقاب تقتضي أن يكتم موعده، لتكون كل لحظة ذات أثر بنفسها، ويكون الخوف والإستيحاش منها عاملا على الردع، ويتّضح ممّا قلناه ـ ضمناً ـ أنّ المراد من جملة (وهم لا يشعرون ) لا تعني أنّهم لا يدركون أصل وجود العذاب. وإلاّ فإنّ فلسفة العذاب والحكمة منه لا يكون لها أثر، بل المراد أنّهم لا يعرفون اللحظة التي ينزل فيها العذاب ولا مقدماته، وبتعبير آخر: إنّ العذاب ينزل عليهم كالصاعقة وهم غافلون.
ويظهر من آيات متعددة من القرآن أن التذرع بالحجج الواهية لم يكن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "البغتة" مشتقة من "البغت" على زنة "وقت" ومعناه التحقق المفاجىء وغير المنتظر لأمر.
[434]
منحصراً بأهل مكّة، بل كثير من الأمم السابقين يلتجئون إلى مثل هذه الذريعة، ويصرون على تعجيل العقوبة والعذاب!.
وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثّالث يتبيّن في الآية إذ يقول: (يستعجلونك بالعذاب وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ).
فإذا تأخر عنهم عذاب الدنيا، فإن عذاب الآخرة واقع لا محالة، ومحيط بهم تماماً وسيصيبهم حتماً بحيث أنّ القرآن يذكره بصورة أمر فعليٍّ (وكأن جهنّم الآن محيطة بهم).
ويوجد تفسير آخر أكثر دقّةً لهذه الآية، وهو أنّ جهنم محيطة، الآن فعلا بالكافرين، من جهتين ـ بالمعنى الواقعي للكلمة.
الجهة الأولى: إنّها جهنم الدنيا، إذ هم على أثر شركهم وتلوثهم بالذنب يحترقون بجهنم التي أعدّوها لأنفسهم، جهنم الحرب وسفك الدماء، جهنم النزاع والشقاق والإختلافات، جهنم القلق والفزع، جهنم الظلم، وجهنم الهوى والهوس والعناد.
والجهة الثّانية: طبقاً لظاهر الآيات في القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلا، وكما تقدم سابقاً فإنّ جهنّم موجودة في باطن الدنيا، وبهذا فهي محيطة بهم على نحو الحقيقة.. وفي سورة التكاثر إشارة لها أيضاً (كلاّ لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثمّ لترونها عين اليقين ) الآيات 5 ـ 7 من سورة التكاثر(1).
ثمّ يضيف القرآن (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون )(2).
يمكن أن تكون هذه الآية توضيحاً لإحاطة عذاب جهنّم في يوم القيامة بالكفار، ويمكن أن تكون بياناً مستقلا لذلك العذاب الأليم لهم الذي يحيط بهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإيضاح يراجع ـ في هذا الصدد تفسير الآية (123) من سورة آل عمران.
2 ـ يرى بعض المفسّرين أن كلمة "يوم" متعلقة بفعل محذوف مقدر، وقال بعضهم: هو متعلق بـ "محيطة".
[435]
اليوم على أثر أعمالهم، وفي غد يتجلى هذا العذاب بوضوح ويكون محسوساً ظاهراً.
وعلى كل حال فذكره لإحاطة العذاب (من فوقهم ومن تحت أرجلهم )وعدم ذكره لبقية الجهات ـ في الحقيقة ـ هو لوضوح المطلب، وإضافة إلى ذلك فإن نار العذاب اذا امتدت ألسنتها من تحت الأرجل ونزلت على الرؤوس، فإنها تحيط بجميع البدن أيضاً وتغشى جميع أطرافه وجوانبه.
وأساساً فإنّ هذا التعبير مستعمل في اللغة العربية، إذ يقال مثلا: إن فلاناً غارق من قرنه إلى قدمه في مستنقع الفسق وعدم العفة، أى إن جميع وجوده غارق في هذا الذنب، وبهذا يرتفع الإشكال عند المفسّرين في ذكر القرآن للجهة العليا "من فوقهم" والجهة السفلى "من تحتهم" والسكوت عن الجهات الأربع الأُخرى، ويتّضح المراد منه بالتقرير الذي بيّناه!
أمّا جملة (ذوقوا ما كنتم تعملون ) التي يظهر أن قائلها هو الله تعالى، فهي بالإضافة إلى أنّها نوع من العقوبة النفسية لمثل هؤلاء الأشخاص، فهي كاشفة عن هذه الحقيقة، وهي أن عذاب الله ليس إلاّ انعكاساً للأعمال التي يقوم بها الإنسان نفسه في النشأة الآخرة!.
* * *
ملاحظات
1 ـ دلائل إعجاز القرآن:
لا شك أنّ القرآن أعظم معجزة للإسلام... معجزة بليغة، خالدة وباقية، مناسبة لكل عصر وزمان ولجميع الطبقات الإجتماعية، وقد ذكرنا بحثاً مفصلا عن إعجاز القرآن في ذيل الآية 23 من سورة البقرة، ولا حاجة إلى إعادته هنا.
[436]
2 ـ التشبث بالحيل لإنكار المعجزات:
يصرُّ بعض العلماء المتأثرين بالغرب ـ الذين يميلون إلى أن لا يعتدّوا بظواهر الأنبياء الخارقة للعادة ـ أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله)ليس له معجزة غير القرآن، وربّما يرون القرآن ليس معجزاً، في حين أنّ مثل هذا الكلام مخالف لآيات القرآن، وللرّوايات المتواترة، وللتأريخ الإسلامي أيضاً.
"وقد بيّنا تفصيل هذا الكلام في ذيل الآيات 90 ـ 93 من سورة الإسراء".
3 ـ المعجزات الإقتراحيّة:
كانت أساليب المخالفين للأنبياء دائماً هي اقتراحهم المعجزات التي يرتؤونها، وكانوا بعملهم هذا يحاولون أن يحطّوا من قيمة المعجزات وعظمتها ويجروها إلى الإبتذال من جهة، وأن تكون في أيديهم ذريعة إلى عدم قبول دعوة الأنبياء من جهة أُخرى، لكن الأنبياء لم يستسلموا لهذه المؤامرات أبداً.. وكما رأينا في إجابتهم آنفاً، فإن المعجزة ليست باختيارهم لتكون مطابقة "لميلكم وهوسكم" كل يوم وكل ساعة نأتي بمعجزة كما تريدون... بل المعاجز هي بأمر الله فحسب، وهي خارجة عن أمرنا.
"وقد ذكرنا شرحاً حول المعجزة الإقتراحية في ذيل الآية 20 من سورة يونس".
* * *
[437]
الآية
يَـعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إنَّ أَرْضِى وَسِعَةٌ فَإِيَّـىَ فَاْعبُدُونَ (56)كُلُّ نَفْس ذآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَـمِلِينَ (58) الِّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّن مِّنْ دَآبَّة لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (90)
سبب النّزول
يعتقد كثير من المفسّرين أنّ الآية ـ من هذا المقطع ـ نزلت في شأن المؤمنين الذين كانوا تحت ضغط الكفار الشديد، حتى أنّهم لم يستطيعوا أن يؤدوا وظائفهم الإسلامية، فجاءت هذه الآية لتأمرهم بالهجرة من هذه الأرض.
كما يعتقد بعض المفسّرين أيضاً أنّ الآية (وكأين من دابة لا تحمل رزقها )وهي الآية الأخيرة ـ من المقطع محل البحث نزلت في شأن بعض المؤمنين الذين كانوا يتعرضون لأذى أعدائهم في مكّة! وكانوا يقولون لو هاجرنا إلى المدينة فليست لدينا دار ولا أرض، من يطعمنا ويسقينا هناك؟ فنزلت الآية (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإيّاكم... ).
[438]
التّفسير
لابدّ من الهجرة:
حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسؤولياتهم قبال المشاكل المختلفة، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك، فتقول الآية الأولى: (يا عبادى الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإيّاي فاعبدون ).
وبديهي أنّ هذا ليس قانوناً خاصاً بمؤمني أهل مكّة، ولا يحدد سبب النّزول مفهوم الآية الواسع المنسجم مع الآيات الأُخرى... فعلى هذا لو سلب الإنسان حريته في أي عصر أو زمان ومكان بشكل كامل، فإنّ بقاءه هناك لا يجلب عليه إلاّ الذل "والخسران والضرر" والإبتعاد عن أداء المناسك الإلهية، فوظيفة الإنسان المسلم عندئذ الهجرة إلى منطقة "حرّة" يستطيع أن يؤدي فيها وظائفه الإسلامية بحرية تامّة أو حرية نسبية.
وبتعبير آخر: إنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبداً لله، عبودية هي في الواقع سبب للحرية والكرامة والإنتصار في جميع الجهات... وجملة(فإيّاي فاعبدون ) إشارة إلى هذا المعنى، كما ورد هذا التعبير في الآية (56) من سورة الذاريات (وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ).
فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي والنهائي مستحيلا، فلا سبيل عندئذ إلاّ الهجرة، فأرض الله واسعة، وينبغي أن يهاجر الفرد نحو منطقة أُخرى، ولا يكون أسيراً لمفاهيم "القبلية والقومية والوطنية والبيت والأهل" في مثل هذه الموارد، ولا يذل الإنسان نفسه من أجلها، فإنّ احترام هذه الأُمور هو فيما لو كان الهدف الأصلي قائماً غير مخاطر به، أمّا إذا أصبح الهدف الأصلي "عبادة الله" مخاطراً به فلا سبيل إلاّ الهجرة!
[439]
وفي مثل هذه الموارد يقول الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام): "ليس بلد بأحق بك من بلدك، خير البلاد ما حملك" (1).
صحيح أنّ حب الوطن والعلاقة بمسقط الرأس جزء من طبيعة كل إنسان، ولكن قد يتفق أن تحدث في حياة الإنسان مسائل أهم من تلك ا لأُمور، فتجعلها تحت شعاعها وتكون أولى منها.
وفي مجال موقف الإسلام ونظرته من مسألة الهجرة والرّوايات الواردة في هذا الصدد، كان لنا بحث مفصل في ذيل الآية (100) من سورة النساء.
والتعبير بـ(يا عبادي ) هو أكثر التعابير رأفة وحبّاً للناس من قبل خالقهم. وتاج للفخر أعلى حتى من مقام الرسالة والخلافة، كما نذكر ذلك في التشهد حيث نقدم العبودية على الرسالة دائماً "أشهد أن محمّداً عبده ورسوله".
من الطريف أنّه حين خلق الله آدم لقبه بـ "خليفة الله"، وهو فخر لآدم، إلاّ أن الشيطان لم ييأس من التسويل والوسوسة له، فكان ما كان، ولكن حين بوأه مقام العبودية أذعن الشيطان له ويئس من إغوائه وقال: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين ).(2)
والله سبحانه ضمن هذا الأمر فقال: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان ).(3)
ويتّضح ممّا ذكرناه ـ بصورة جيدة ـ أنّ المراد بالعباد ليس جميع الناس ـ في الآية محل البحث ـ بل هم المؤمنون منهم فحسب، وجملة (الذين آمنوا ) جاءت للتأكيد والتوضيح(4).
وحيث أنّ البعض بقوا في ديار الشرك، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكلمات القصار، رقم 442.
2 ـ سورة ص الآيتان 82، 83.
3 ـ سورة الحجر، الآية 42.
4 ـ جملة "فإياي فاعبدون" عطف على جزاء جملة الشرط المحذوف والتقدير "إن ضاقت بكم الأرض فهاجروا منها إلى غيرها وإيّاي فاعبدون" .
[440]
يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الأُخرى التي تهددهم... إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلا: (كل نفس ذائقة الموت ثمّ إلينا ترجعون ).
فهذه الدنيا ليست بدار بقاء لأي أحد، فبعض يمضي عاجلا، وبعض يتأخر، ولابدّ أن يذهبوا جميعاً، وعلى كل حال ففراق الأحبة والأبناء والأقارب لابدّ أن يقع ويتحقق، فعلام يبقى الإنسان في ديار الشرك من أجل المسائل العابرة.. وأن يحمل عبء الذل والأسر على كاهله، أكلّ ذلك من أجل أن يبقى بضعة أيّام أو أكثر؟!
ثمّ بعد هذا كلّه ينبغي أن تخافوا أن يدرككم الموت في ديارالكفر والشرك قبل أن تبلغوا دار الاسلام، فما أشد ألم مثل هذا الموت وما أتعسه!
ثمّ لا تظنوا أن الموت نهاية كل شيء، فالموت بداية لحياة الإنسان الأصلية، لأنّكم جميعاً (إلينا ترجعون ).. إلى الله العظيم، وإلى نعمه التي لاحدّ لها ولا انتهاء لأمدها.
والآية التالية تبيّن جانباً من هذه النعم فتقول: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنّة غرفاً تجري من تحتها الأنهار )(1).
فهم في قصور تحيط بها أشجار الجنّة من كلّ جانب، الأنهار المختلفة التي لكلّ منها طعمه ولونه، طبقاً لآيات القرآن الاُخر، وهي ما بين الأشجار وتحت تلك القصور جارية أبداً.. (لاحظوا أن "غرف" جمع غرفة، ومعناها البناء المرتفع المشرف على أطرافه).
والامتياز الآخر لغرف الجنّة أنّها ليست كغرف الدنيا وقصورها ومنازلها التي ما أن يضع الإنسان فيها قدمه حتى يسمع نداء "الرحيل"، فغرف الجنّة دائمة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "لنبوئنهم" من مادة "تبوئة" على زنة "تذكرة" معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم.
[441]
(خالدين فيها ).
ويضيف القرآن معقباً في ختام الآية (نعم أجر العاملين ).
وبموازنة بسيطة بين ما ذكر آنفاً في شأن الكفّار والمذنبين في الآيات السابقة، وما ورد في هذه الآية، تتّضح عظمة ثواب المؤمنين.
فالكفّار غارقون في نار جهنّم من قرنهم إلى قدمهم، ويقال لهم على سبيل التوبيخ (ذوقوا ما كنتم تعملون ).
أمّا المؤمنون فهم مقيمون في نعيم الجنّة وتحيط بهم رحمة الله من كلّ جانب، وبدلا من كلمات التوبيخ يُكلمون بكلام طيب ملؤه المحبّة واللطف الإلهي الكريم، أجل يقال لهم: (نعم أجر العالمين ).
وبديهي أنّ المراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة.
وفي حديث عن نبيّ الإسلام العظيم(صلى الله عليه وآله) يصف الجنّة فيقول: "إنّ في الجنّة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها و بطونها من ظهورها" فنهض بعض أصحابه فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لمن هذه الغرف؟ فقال (صلى الله عليه وآله): "هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام" (1).
والآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المومنون العاملون فتقول: (الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون ).
إذ يبتعدون عن الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شيء عزيز عليهم، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم و يصبرون، وتتلقى أنفسهم العذاب والأذى من أعدائهم من أجل حفظ إيمانهم، ويواجهون الصعاب في جهادهم الأكبر "جهادهم مع النفس" وجهادهم اعداءهم بشدّة، ويتحملون أنواع المشاكل فيصبرون!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث، ج 7، ص 5075.
[442]
أجل، هذا الصبر وهذه الإستقامة هما رمز انتصارهم وعامل فخرهم الكبير، وبدونه لا يتحقق عمل إيجابي في الحياة.
ثمّ بعد هذا كلّه، فهم لا يعتمدون على أموالهم ولا على أصدقائهم، بل يعتمدون على الله ويتوكلون على ذاته المقدسة، وإذ ابتغى ألف عدو هلاكهم تمثلوا قائلين: "امتحانك رحمة فلا أكترث بالأعداء".
وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيداً رأينا أن الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية، فالصبر هو عامل الإستقامة أمام العوائق والمشاكل، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.
وفي الحقيقة ينبغي الإستمداد من هاتين الفضيلتين (الصبر والتوكل) للأعمال الصالحة، إذ بدونهما لا يمكن أن تؤدى الأعمال الصالحة بالمقياس الواسع(1).
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ جواب لأولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر، فالرازق هو الله، لا لكم فحسب بل (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ).
قليل من الدواب والحيوانات والحشرات ـ وكذلك الإنسان ـ يأتي برزقه من الصحراء والشجر إلى وكره ومسكنه كالنحل ـ التي تنتج العسل ـ والنمل، وغالباً ما تكون الحيوانات بمثابة "طائر اليوم" أي كل يوم عليها أن تمضي لرزقها وتبحث عنه من جديد. وهكذا فإنّ ملايين الملايين من الحيوانات التي من حولنا، في النقاط القريبة والبعيدة، وفي الصحاري وأعماق البحار وأعالي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تحدثنا عن حقيقة التوكل وحكمته وفلسفته بإسهاب في ذيل الآية (12) سورة إبراهيم، وعن حقيقة الصبر لدى تفسير الآية (12) من سورة إبراهيم و الآية (24) من سورة الرعد و الآية (26) من سورة الأعراف.
[443]
الجبال والأماكن الأخرى، فإنّها كلّها تقتات من مائدة الله السرمدية.
وأنت أيّها الإنسان أقوى من تلك الحيوانات وأذكى في جلب الرزق، فلم كلّ هذا الخوف من انقطاع الرزق؟!
ولم الركون إلى حياة الذل والإستكانة والفجور؟!
ولم تظل سادراً تحت وطأة الظلم والقهر والهوان والذل؟! اخرج أنت أيضاً من داخل هذه الدائرة المظلمة، واجلس على مائدة خالقك الواسعة ولا تفكر بالرزق!.
فأنت يوم كنت جنيناً محبوساً في بطن أُمّك، ولا تصل إليك أية يد حتى من أبيك وأُمك الرؤوم، لم ينسك الله الذي خلقك، وهيأ ما كنت تحتاج إليه لك بكل دقّة، فكيف وأنت اليوم كائن قوي ورشيد؟!
وحيث أن إيصال الرزق للمحتاجين هو فرع علمه تعالى بحاجاتهم، فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلا: (وهو السميع العليم ).
يسمع كلامكم كلّه، ويعرف لسان حالكم، ولسان حال جميع الدواب، وهو خبير بحاجات الجميع، ولا يخفى على علمه الذي لا حد له شيءٌ أبداً.
* * *
[444]
الآيات
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُوُلُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قَلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَـذِهِ الحَيَوةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَاِنَّ الدَّارَ الاَْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّـهُمْ إِلى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَـهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
التّفسير
الاقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر:
كان الحديث في الآيات السابقة موجّهاً إلى المشركين الذين أدركوا حقانية الإسلام، إلاّ أنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة، خوفاً من انقطاع الرزق عليهم.
[445]
أمّا في هذه الآيات، فالحديث موجه للنّبي(صلى الله عليه وآله)، وفي الواقع لجميع المؤمنين، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق "الخلقة"، و"الربوبيّة"، و"الفطرة"، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة، ويريهم أن مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد الله الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم، لابأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.
فتبدأ الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث ـ مشيرةً إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية... فتقول: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله )!
لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول: إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان.
وبتعبير آخر: لا يشك في "توحيد الخالق" حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق، وكانوا يقولون: إنّما نعبد أوثاناً ليقربونا إلى الله زلفى، فهم الوسطاء بيننا وبين الله، كما نقرأ في الآية (18) من سورة يونس (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عندالله ).. فنحن غير جديرين أن نرتبط بالله مباشرةً، بل ينبغي أن نرتبط به عن طريق الأصنام (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى ).(1)
وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أية فاصلة، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، زد على ذلك: إذا كان الانسان ـ الذي هو بمثابة الدرّة اليتيمة في تاج الموجودات ـ لا يستطيع أن يرتبط بالله مباشرةً، فأي شيء يكون واسطة الإنسان إلى الله؟!
وعلى كلّ حال، فإنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل: (فأنّى يؤفكون )أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الاحجار والاخشاب؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الزمر، الآية 3.
[446]
كلمة "يؤفكون" مشتقّة من "إفك" على زنة "فكر" ومعناها إعادة الشيء من صورته الواقعية والحقيقية، وبهذه المناسبة تطلق الكلمة على الكذب وعلى الرياح المخالفة"للإتجاه" أيضاً.
والتعبير بـ "يؤفكون" بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة.
والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها الله تعالى، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان، ومنافعه.
ثمّ يضيف القرآن تأكيداً لهذا المعنى، وهو أن الله خالق الخلق ورازقهم، فيقول: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له )... فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام.
وما ورد بيانه في الآيات السابقة من أنّ المؤمنين حقّاً هم وحدهم يتوكلون عليه، فلأجل هذا المعنى، وهو أن شيء بيده وبأمره، فعلام يخشون من إظهار الإيمان، ويرون حياتهم في خطر من جهة الأعداء.
وإذا كانوا يتصورون أنّ الله قادر، إلاّ أنّه غير مطّلع على حالهم، فهذا خطأ كبير لـ(أنّ الله بكل شيء عليم ).
ترى هل يمكن لخالق مدبر يصل فيضهُ لحظة بعد أُخرى لموجوداته، وفي الوقت ذاته يكون جاهلا بحالها؟.
وفي المرحلة الثّانية يقع الكلام عن "التوحيد الربوبي" ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم، فيقول: (ولئن سألتهم من نزّل من ا لسماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ).
فهذا هو ما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم! فهم يعرفون أن الخالق هو الله، وأنّه ربّ العالم ومدبره.
ثمّ يضيف القرآن مخاطباً نبيّه (قل الحمد لله ). فالحمد والثناء لمن أنعم
[447]
جميع النعم، إذ لمّا كان الماء الذي هو مصدر الحياة لجميع الحيوانات من رزق الله فيكون واضحاً أن الأرزاق جميعها صادرة من قبله أيضاً.
قل الحمد لله "واشكره"، لأنّهم يعترفون بهذه الحقائق.
وقل الحمد لله، فمنطقنا قوي متين حيٌّ إلى درجة لا يستطيع أي أحد ابطاله أو تفنيده. وحيث أنّ أقوال المشركين من جهة، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة أُخرى، يناقض بعضها بعضاً، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية (بل أكثرهم لا يعقلون ).
وإلاّ فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته، فتارةً يرى أن الخالق والرازق والمدبّر للعالم هو الله، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس!. فمن جهة يعتقدون بتوحيد الخالق والرب، ومن جهة أُخرى يظهرون الشرك في العبادة.
ومن الطريف أنّ الآية لا تقول: "أكثرهم لا عقل لهم" بل تقول: (لا يعقلون )ومعناها أنّهم لديهم العقول، إلاّ أنّهم لا يستوعبون ولا يتعقلون!
ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياساً إلى الحياة الأُخرى الخالدة، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني، فيقول: (وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ).
كم هو تعبير بليغ وبديع! لأنّ "اللهو" معناه الإنشغال.. أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية.
أمّا "اللعب" فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي، والهدف الخيالي أيضاً، ففي اللعب يكون أحد اللاعبين ملكاً، والآخر وزيراً، والثّالث قائداً للجيش، والرابع ـ السارق أو "الحرامي"، والخامس يمثل القافلة وهكذا، وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كل شيء إلى مكانته، وكأن المسألة لا تعدوا
[448]
طيفاً.. أو خيالا.. فلا أثر ولا خبر.
فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة، مبيناً أن الحياة الدنيا هي نوع من الإنشغال واللعب يجتمع الناس فيها وينشدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم، وبعد أيّام يتفرقون ويختفون تحت التراب، ثمّ يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان.
أمّا الحياة الحقيقية التي الافناء بعدها، ولا ألم فيها، ولا قلق ولاخوف ولا تضاد ولا تزاحم، فهي الحياة الآخرة فحسب... لو كان الإنسان يعرف ذلك، وكان أهلا للتدقيق والتحقيق!
أمّا الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة، وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها، ويأنسون بها، فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ المراد من "الحيوان" على زنة "خفقان" هو الحياة، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدرياً(1)..
وهذا التعبير (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) إشارة إلى أن الحياة الحقيقية هي في الأخرى، لا في هذه الدار الدنيا ـ فكأنّ الحياة في الأُخرى تفور من جميع أبعادها، ولا شيء هناك إلاّ الحياة.
وبديهي أن القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأُخرى قياساً صريحاً وواضحاً... وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيراً لهذه المواهب، بل ينبغي أن يكون أميراً عليها، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبداً.
وفي المرحلة الثّالثة... يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان، وضمن مثال بديع جدّاً وبليغ فيقول: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أصل الكلمة مشتق من "حيي" ومصدرها "حييان" ثمّ أبدلت الياء الثّانية واواً فصارت حيوان.
[449]
إلى البرّ إذا هم يشركون ).
أجل، إنّ الشدائد والازمات هي التي تهيء الارضية لتفتح الإجتماعية "الفطرة" الإنسانية، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعاً، إلاّ أن الآداب والمسائل الخرافية والتربية الخاطئة والتلقينات السيئة تلقي عليه ظلالا وأستاراً، ولكن حين تحدق بالإنسان الشدائد وتحيط به دوّامات المشاكل، ويرى يده قاصرة عن الأسباب الظاهرية، يتجه بدون اختياره إلى عالم ما وراء الطبيعة، ويخلص قلبه من كل نوع من أنواع الشرك والكفر، وينصهر في تنور الحوادث، ويكون مصداقاً لقوله تعالى: (مخلصين له الدين ).
وملخص الكلام: إنّه توجد في داخل قلب الإنسان دائماً نقطة نورانية، وهي خطّ ارتباطه بما وراء عالم الطبيعة، وأقرب طريق إلى الله.
إلاّ أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور ـ وخاصة عند السلامة ووفور النعمة ـ تلقي عليها أستاراً، غير أن طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار، وتتجلى نقطة النور آنذاك.
وعلى هذا، فإنّ أئمّة المسلمين العظام كانوا يرشدون المترددين في مسألة "معرفة الله" ويغرقون في الشك والحيرة.. بهذا الأمر.
وقصّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة الله، والذي أرشده الإمام الصادق(عليه السلام) عن طريق الفطرة والوجدان، سمعناها جميعاً إذ قال: يابن رسول الله، دلّني على الله ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني!
فقال له الإمام(عليه السلام): "يا عبدالله، هل ركبت سفينة قطّ؟
قال: نعم.
قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟!
قال: نعم!
قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من
[450]
ورطتك؟!
قال: نعم.
قال الصادق(عليه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث" .(1)
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة الله، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول: إن هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاماً قلائل: (ليكفروا بما آتيناهم فسوف يعلمون ) عاقبة كفرهم وشركهم إلى أين ستبلغ بهم؟ وأي ابتلاء ومصير مشؤوم سيقعون فيه؟!
وبالرغم من أنّ ظاهر الآية هنا هو الأمر بالكفر وإنكار آيات الله...إلاّ أن من البديهي أنّ المراد منه التهديد... وهذا تماماً ينطبق مثلا على ما لو قلنا لمذنب جان: افعل ما بدا لك من إجرام، إلاّ أنّك سرعان ما تذوق مرارة عملك؟
ففي مثل هذه العبارات، وإن استعملت صيغة الأمر فيها، إلاّ أنّ الهدف من ورائها هو التهديد وليس الطلب.
والطريف أن جملة (فسوف يعلمون ) جاءت بصورة مطلقة، فهي لا تقول: أي شيء يعلمون... بل تقول: سيعلمون عاجلا، هذا هو معنى (فسوف يعلمون ).
إطلاق الكلام هذا ليكون مفهومه واسعاً ولا يتحدد ذهن السامع بأي شيء فنتيجة الأعمال السيئة هي عذاب الله، الإفتضاح في الدارين، وكل أنواع الشقاء وسوء العاقبة!.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، ج 3، ص 41"الطبعة الجديدة.
[451]
ملاحظة
الشدائد واشراق القطرة:
سنتحدث بإذن الله في ذيل الآية الثلاثين من سورة الروم حول "فطريّة" أصل التوحيد ومعرفة الله بشكل مفصّل، وما يلزم ذكره هنا هو أنّ القرآن المجيد يتحدث في آيات كثيرة عن المشاكل والصعاب على أنّها باعثة على ظهور الفطرة الإنسانية وبروزها "فالمشاكل والصعاب وسيلة لاشراق الفطرة".
يقول القرآن في بعض آياته: (وما بكم من نعمة فمن الله ثمّ إذا مسكم الضرّ فإليه تجأرون ثمّ إذا كشف الضر عنكم إذاً فريق منكم بربّهم يشركون ).(1)
ويأتي هذا المعنى في سورة يونس، ولكن بأُسلوب آخر، إذ يقول القرآن (إذا مسّ الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه )(2) كما ورد هذا المعنى في سورة الروم الآية (32) وسورة الزمر الآية (49) وسورة الإسراء الآيات (67) ـ (69) بعبارات أُخرى وإشارات مليئة بالمعاني.
وفي الآيات ـ محل البحث ـ قرأنا أيضاً أن المشركين في الحالات العادية يتجهون إلى الأصنام، ولكن إذا سافروا في البحر وأحاطت بهم الأمواج والطوفان، وأضحت سفينتهم كالقشة في وسط الأمواج المتلاطمة تتقاذفها هنا وهنا، وانقطعت بهم السبل تتنور قلوبهم بنور التوحيد ويلقون جانباً جميع المعبودات المصنوعة، ويخلصون قلوبهم كاملا ـ لكن خلوصاً إجبارياً لا قيمة له ـ فما أن يهدأ الطوفان وتتلاشى الأمواج وتعود الحالة الإعتيادية، حتى تنزل الأسدال على الفطرة وتظهر أشواك الشرك والوثنية على هذه "الوردة".
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النحل، الآيتان 53 ـ 54"
2 ـ يونس، الآية 12.
[452]
قد يقال: إنّ هذه الحالة من التوجه تحصل على أثر التلقين والرسوبات الفكرية من الثقافة الإجتماعية وأفكار المحيط.
ويمكن قبول مثل هذا الكلام فيما إذا كانت هذه المسألة تحدث خاصّة في موارد المتدينين أو الذين نشؤوا في محيط ديني، ولكن مع الإلتفات إلى أن هذه الحالة تظهر حتى عند أشد المنكرين لله، وفي المجتمعات غير المذهبية، فيتّضح حينئذ أن جذرها كامن في الضمير (غير الواعي) للإنسان، وفي داخل فطرته وجبلّته!.
* * *
[453]
الآيات
أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَـطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّآ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـفِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَـهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ (69)
سبب النّزول
نقل في تفسير "الدر المنثور" عن ابن عباس ـ ذيل الآية محل البحث ـ أن جماعة من المشركين قالو: يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلاّ مخافة أن يتخطفنا الناس لِقلَّتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس، فانزل الله: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً ) وكانت جواباً لهم.
التّفسير
أشارت الآيات ـ التي سبق ذكرها ـ إلى بعض الحجج الواهية للمشركين، وهي أنّنا نخاف على حياتنا إذا أظهرنا الإيمان ثمّ هاجرنا معك يا رسول الله، وقد ردّ عليها القرآن بطرق مختلفة.
[454]
وفي الآيات ـ محل البحث ـ يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ) أي أرض مكّة المكرمة.
في حين أن العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكّة، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات، إلاّ أن هذه الأرض باقية على أمنها (ويُتخطف الناس من حولهم ).
فالله المقتدر على أن يجعل في هذا البحر المتلاطم والطوفان المحدق بأرض الحجاز "من الفتن" حَرَم مكّة كالجزيرة الهادئة الآمنة وسط البحر. كيف لا يمكنه أن يحفظهم من أعدائهم؟! وكيف يخافون الناس الضعاف قبال قدرة الله العظيمة جلّ وعلا؟ (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ).
وملخص الكلام،إنّ الله القادر على أن يجعل في أرض مضطربة في وسط جماعة من الناس أنصاف وحشيين منطقة صغيرة آمنة، فكيف لا يقدر على حفظ جماعة المؤمنين القلائل بين جماعات كثيرة من الكفار.
وبعد ذكر هذا الدليل الواضح ينتهي القرآن الى هذه النتيجة في الآية التالية (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بالحق لما جاءه ).
لقد قدمنا دلائل واضحة لكم على أنّه لا شيء أحق بالعبادة وأحرى بها من الله، لكنّكم كذبتم على الله، وصنعتم له شركاء بأيديكم، وتدعون أن هذا هو منهج إلهي.
ومن جهة أُخرى، فإنّ القرآن الذي أنزلناه عليكم فيه دلائل الحق لائحة واضحة، إلاّ أنّكم لم تكترثوا به، وألقيتموه وراءكم ظهرياً! فهل يتصور ظلم أشدّ من هذا؟! لقد ظلمتم أنفسكم وظلمتم الناس جميعاً، لأنّ الشرك ظلم عظيم.
وبتعبير آخر: هل الظلم بمعناه الوسيع إلاّ الإنحراف وإخراج الشيء عن محلّه الجدير به، وهل يرى أسوأ من أن يعدّ الإنسان حفنة من الأحجار المصنوعة التي لا قيمة لها أو الخشب المصنوع شركاء للخالق سبحانه الذي
[455]
خلق السماوات والأرض.
إضافة إلى ذلك فإنّ الشرك مصدر جميع المفاسد الإجتماعية، وفي الواقع إن المظالم الأُخرى تسترفد منه، عبادة الهوى، عبادة المقام، عبادة الدنيا، كل منها نوع من الشرك.
ولكن اعلموا أنّ عاقبة الشؤم والخزي للمشركين (أليس في جهنم مثوى للكافرين ).
من الجدير ذكره أنّ في القرآن الكريم 15 مورداً عبّر فيها القرآن عن بعض الأفراد بأنّهم الأظلم، وجميع هذه الموارد بدأت بجملة استفهامية (ومن أظلم )طبعاً الإستفهام هنا استنكاري.
والتدقيق في هذه الآيات يدل على أنّ الآيات المذكورة وإن عالجت مسائل متنوعة، إلاّ أنّها جميعاً تعود إلى الشرك، فعلى هذا لا تضاد بينها أبداً. "لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (21) من سورة الأنعام".
وآخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وهي في الوقت ذاته آخر آية سورة العنكوبت، تبيّن واقعاً مهماً، وهي عصارة جميع هذه السورة، وتنسجم مع بدايتها.،
تقول الآية.. بالرغم من أن المشاكل المتعددة تحيط بطريق المسير إلى الله، من قبيل مشكلة معرفة الحق، ومشكلة وساوس الشياطين من الإنس والجن، ومشكلة عناد الأعداء الألداء الظالمين الذين لا يرحمون، ومشكلة الانحرافات الإحتمالية، لكن هنا حقيقة ثابتة، وهي أن الله يمنحكم القوّة والإطمئنان قبال المشاكل ويدافع عنكم، تقول الآية: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ).
وفي معنى "الجهاد" هنا والمراد منه احتمالات متعددة. أهو جهاد الأعداء؟ أم جهاد النفس؟ أم الجهاد في سبيل معرفة الله عن الطرق العلمية؟
[456]
للمفسّرين آراء في هذا المجال.
وكذلك في معنى "فينا" الذي ورد تعبيره في الآية، هل المراد منه في سبيل الله؟! أم في سبيل الجهاد للنفس، أم في سبيل العبادة، أم مواجهة الأعداء؟
ولكن من الواضح أنّ التعبير بالجهاد له معنى واسع مطلق، ومثله التعبير بكلمة "فينا" فالتعبير يشمل كل سعي وجهاد في سبيل الله ومن أجله، وللوصول إلى الأهداف الإلهية، كل ذلك يصدق عليه (جاهدوا فينا ) سواءٌ كان في سبيل كسب المعرفة! أو جهاد النفس، أو مواجهة الأعداء، أو الصبر على الطاعة، أو الصبر على المعصية، أو في إعانة الضعفاء، أو في الإقدام على أي عمل حسن وصالح!
ويتّضح ممّا قلناه ضمناً أنّ المراد بـ "السبل" الطرق المتعددة التي تنتهي إلى الله، سبيل جهاد النفس، سبيل جهاد الأعداء، سبيل العلم والثقافة. والخلاصة، فإن الجهاد في كل طريق من هذه الطرق والسبل سبب لهداية المسير المنتهي إلى الله.
وهذا وعدٌ وعده الله لجميع المجاهدين في سبيله، وأكده بأنواع التأكيدات كـ "لام التأكيد والنون الثقيلة" وجعل التوفيق والإنتصار والرقي في محور شيئين هما"الجهاد" و "خلوص النية".
ويعتقد جماعة من الفلاسفة أنّ التفكر والمطالعة لا يوجدان العلم، بل يهيآن روح الإنسان لقبول صور المعقولات، وحين تتهيأ الروح الإنسانية للقبول يتنزّل "الفيض" من قبل الخالق المتعال وواهب الصور بالعلم و"الحكمة".
فعلى هذا ينبغي على الإنسان أن يجاهد في هذا الطريق، إلاّ أن الهداية بيد الله تعالى.
وما ورد في الحديث أنّه "ليس العلم بكثرة التعلم والتعليم، بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء" ، فلعله إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.
* * *
[457]
ملاحظتان
1 ـ الجهاد والإخلاص
يستفاد من الآية المتقدمة بصورة جيدة أنّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة عدم الموفقية، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين: إمّا أنا قصّرنا في جهادنا، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل، وإذا اجتمع الجهاد والإخلاص ـ فبناء على وعد الله ـ فإن النصر والهداية حتميّان.
ولو فكّرنا جيداً لاستطعنا أن نعزو جميع المشاكل والمصائب في المجتمع الإسلامي الى التقاعد عن الجهاد وعدم الإخلاص، فهما مصدرها.
فلم تأخر المسلمون، الذين كانوا متقدمين بالأمس!؟
ولم يمدون يد الحاجة إلى الأجانب في كل شيء، حتى في الثقافة والقوانين، وحتى نظمهم الخاصة.
ولم يعتمدون على غيرهم من أجل حفظ أنفسهم من التيارات السياسية والهجومات العسكرية.
لم كان الآخرون جالسين يوماً على مائدة المسلمين التي كان خوانها مبسوطاً بالعلم والثقافة والمعرفة، واليوم أصبح المسلمون جالسين على مائدة الآخرين؟!!
وأخيراً، لم نرى المسلمين أسرى في قبضة الآخرين، وأراضيهم مغصوبة من قبل الظالمين؟
الإجابة على جميع هذه الأسئلة منحصرة في سبب واحد، هو "نسيانهم الجهاد" أو "عدم الخلوص في النية".
أجل، لقد اهملوا الجهاد في الميادين العلمية والثقافية والسياسية والإقتصادية والعسكرية، وتغلّب عليهم حب النفس وعشق الدنياا وطلب الراحةوالنظرة الضيقة والأغراض الشخصيّة، حتى أصبح قتلاهم على أيديهم
[458]
أكثر من قتلاهم على أيدي أعدائهم!.
إنّ استغراب بعض المسلمين الذى أنبهروا بحضارة الغرب الرأسمالي أو الشرق الإشتراكي، وعمالة بعض الرؤساء والزعماء، ويأس وانزواء العلماء والمفكرين كل ذلك سلبهم التوفيق الى الجهاد، وكذلك حرمهم من الإخلاص.
ومتى ما ظهر قليل من الإخلاص بين صفوفنا، وتحرك مجاهدونا حركة ذاتية، فإن النصر يكون حليفنا واحداً بعد الآخر... وتتقطع غلال الأسر... ويتبدل اليأس إلى أمل مشرق، وسوء الخط الى حسن الحظ، والذلة إلى العزة ورفعة الرأس، كما تتبدل الفرقة والشتات إلى الوحدة والإنسجام.
وما أعظم ما قاله القرآن! وما أبلغ إلهامه! إذ جمع في جملة واحدة الداء والدواء معاً.
أجل إن الذين يجاهدون في سبيل الله تشملهم هدايته، ومن البديهي أنّه مع هداية الله، فلا ضلال ولا خسران، ولا انهزام.
وإذا لاحظنا أن الآية مفسرة في بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام) بآل محمّد(صلى الله عليه وآله)وأتباعهم، فهي مصداق كامل لذلك "التّفسير" لأنّهم كانوا السابقين والمتقدمين في طريق الجهاد، وليس في الآية دليل على تحديد مفهومها أبداً.
وعلى كل حال، فإنّ كل إنسان يلمس هذه الحقيقة القرآنية.. في سعيه واجتهاده، حيث يجد الأبواب مفتوحة عندما يعمل لله وفي سبيل الله، وتنتهي مشاكله السهلة والصعبة وتضحى بسيطة متحملة.
2 ـ الناس ثلاثة أصناف:
فصنف لجوج معاند لا تنفعه أية هداية.
وصنفٌ مجد دؤوب مخلص، وهذا الصنف يصل إلى الحق.
وصنفٌ ثالث أعلى من الصنف الثاني، فهذا الصنف ليس بعيداً حتى يقترب
[459]
من الحق، ولا منفصلا عنه حتى يتصل به، لأنّه معه أبداً.
فالآية المتقدمة (ومن أظلم ممن افترى ) إشارة إلى الصنف الأوّل.
وجملة (والذين جاهدوا فينا ) إشارة إلى الصنف الثّاني.
وجملة (إن الله لمع المحسنين ) إشارة إلى الصنف الثّالث.
ويستفاد ـ ضمناً ـ من هذا التعبير أن مقام "المحسنين" أسمى من مقام "المجاهدين"، لأنّ المحسنين إضافة إلى جهادهم في سبيل الله لنجاة أنفسهم، فهم مؤثرون غيرهم على أنفسهم، ويحسنون إلى الآخرين، ويسعون لإعانتهم.
ربّنا وفقنا توفيقاً ترحمنا به، فلا نكفّ أيدينا عن الجد والإجتهاد.
إلهنا.. ارزقنا الإخلاص حتى لا نفكر في سواك، ولا نخطوا لغيرك.
إلهنا.. ارفع درجاتنا حتى نعلو على مقام المجاهدين وننال درجة المحسنين، وارزقنا هدايتك في جميع أعمارنا.
آمين يا ربّ العالمين
انتهاء سورة العنكبوت
غير أنّ ملك الروم "هرقل" بدأ هجومه على بلاد فارس سنة 622 ميلادية وألحق هزائم متتابعة بالجيش الفارسي، واستمرت هذه المعارك حتى سنة 628 لصالح الروم، وغُلب خسرو پرويز، وانكسر انكساراً مريراً، فخلعه الفرس عن السلطنة وأجلسوا مكانه ابنه "شيرويه".
وبملاحظة أنّ مولد النّبي (صلى الله عليه وآله) كان سنة 571 ميلادية وكانت بعثته سنة 610 ميلادية، فإن هزيمة الروم وقعت في السنة السابعة للبعثة، وكان انتصارهم بين
[476]
سنتي خمس وست للهجرة النبوية، ومن المعلوم أن السنة الخامسة حدثت فيها معركة الخندق، وتم في السنة السادسة صلح الحديبية، وبطبيعة الحال فإن تنقّل الأخبار عن حرب فارس والروم إلى منطقة الحجاز ومكّة كانت تستوعب عادة فترة من الزمان، وبهذا ينطبق هذا الخبر القرآني على هذه الفترة التاريخية بوضوح "فلاحظوا بدقة".
* * *
[477]
الآيات
أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنْفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إلاَّ بَالْحَقِّ وَأَجَل مُّسَمّىً وَإِنَّ كَثيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآىءِ رَبِّهِمْ لَكَـفِرُونَ (8) أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأَثَارُواْ الاَْرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَـتِ فَمَا كَانَ اللهَ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِنْ كَانُوآ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَـقِبَةَ الَّذِينَ أَسَـئُواْ السُّـوأَى أَنْ كَذَّبُواْ بِايَـتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10)
التّفسير
عاقبة المسيئين:
كان الكلام في آخر آية من البحث السابق عن السطحيين وأصحاب الظاهر، حيث كان أفق فكرهم لا يتجاوز حدود الدنيا والعالم المادي.. وكانوا جاهلين بما وراء الطبيعة ويوم القيامة.
أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ والآيات المقبلة، فيقع الكلام على مطالب متنوعة حول المبدأ والمعاد، فتبدأ هذه الآيات أولا على صورة استفهام
[478]
فتقول: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض إلاّ بالحق وأجل مسمى ).
أي: لو أنّهم فكروا جيداً ورجعوا إلى عقلهم في الحكم ووجدانهم، لكانوا يطلعون جيداً على هذين الأمرين:
أوّلا: إنّ العالم خلق على أساس الحق، وتحكمه أنظمة هي دليل على أنّ الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة.
وثانياً: هذا العالم يمضي إلى الزوال، وحيث أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثاً، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا، وإلاّ فلا مفهوم لخلق هذا العالم، وهذا الخلق الطويل العريض لا يعقل أن يكون من أجل أيّام معدودات في الحياة الدنيا، وبذلك يذعنون بوجود الآخرة!.
فعلى هذا يكون التدقيق في نظم هذا العالم وحقانيته دليلا على وجود المبدأ، والتدقيق في أن هناك "أجلا مسمى" دليل على المعاد "فلاحظوا بدقة" .
لذلك يضيف القرآن في نهاية الآية قائلا: (وإن كثيراً من الناس بلقاء ربّهم لكافرون ) فينكرون لقاء الله.
أو إنّهم ينكرون المعاد أصلا، كما نقلنا عن قول المشركين مراراً في آيات القرآن، إذ كانوا يقولون: (أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد ) (إنّ هذا إلاّ اختلاق ) (إنَّ هذا لشيء عجاب ). إنَّ هذا.. إنّ هذا.. الخ.. وبتعابير مختلفة "كماورد في سورة الرعد الآية (5)، وسورة المؤمنون الآية (35)، وسورة النمل الآية (67)، وسورة ق الآية (3) وفي غيرها من السور".
أو إنّهم لا ينكرون بلسانهم، لكن أعمالهم "ملوثة" ومخزية تدل على أنّهم غير معتقدين بالمعاد، إذ لو كانوا يعتقدون بالمعاد لم يكونوا فاسدين أو مفسدين!.
والتعبير بـ (في أنفسهم ) لا يعني أن يطالعوا في أسرار وجودهم، كما يدّعي الفخر الرازي في تفسيره، بل المراد منه أن يفكروا في داخل أنفسهم عن طريق
[479]
العقل والوجدان يخلق السماوات والأرض.
والتعبير (بالحق ) له معنيان: الأوّل: أنّ الخلق كان توأماً مع الحق والقانون والنظم، والآخر: أن الهدف من الخلق كان بالحق، ولا منافاة بين هذين التّفسيرين طبعاً(1).
والتعبير (بلقاء ربّهم ) كما قلنا مراراً، هو إشارة إلى يوم القيامة والنشور، حيث تنكشف الحجب، والإنسان يعرف عظمة الله بالشهود الباطنيّين.
وحيث أنّ التعبير بـ (أجل مسمى ) كاشف عن أن هذه الحياة على كل حال لا تدوم، وهذا إنذار لجميع عبدة الدنيا، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات ) أي بالدلائل الواضحات... إلاّ أنّهم أهملوا ذلك، ولووا رؤوسهم، ولم يستسلموا للحق، فابتلوا بعقاب الله الأليم! (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ).
في الواقع إنّ القرآن يشير إلى أمم كانت لهم ـ في نظر مشركي مكّة ـ عظمة ملحوظة من حيث القدرة والقوّة الجسمية والثروة المالية، وكان مصيرهم الأليم يمثل درساً من العبرة لهؤلاء المشركين.
ويمكن أن تكون جملة (أثاروا الأرض ) إشارة إلى حرث الأرض للزراعة والتشجير، أو حفر الأنهار،أو تأسيس العمارات على الأرض، أو جميع هذه الأمور، لأنّ جملة (أثاروا الأرض ) لها مفهوم واسع يشمل جميع هذه الأُمور التي هي مقدمة للعمارة والبناء(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في صورة ما لو قلنا بالتّفسير الأوّل، فإن "الباء" في كلمة "بالحق" للمصاحبة، وفي التّفسير الثّاني تكون الباء بمعنى اللام، أي للحق.
2 ـ "آثار" مأخوذة من مادة (ثور) على زنة (غور) ومعناها التفريق والنثر، وإنّما سمي الثور ثوراً لأنّه يثير الأرض ويفرّقها.
[480]
وحيث كانت أكبر قدرة ـ في ذلك العصر ـ تعني التقدم في الزراعة والرقي الملحوظ من حيث البناء والعمارات، فإنّه يتّضح رفعة الأُمم السالفة وعلوهم على مشركي مكّة الذين كانت قدرتهم في هذه المجالات محدودة جدّاً.
إلاّ أنّ أُولئك مع كل قدراتهم حين أنكروا آيات الله وكذبوا الأنبياء، لم يستطيعوا الفرار من مخالب العقاب، فكيف تستطيعون الفرار من عذاب الله؟!
وهذا العقاب والجزاء الأليم هو نتيجة أعمالهم المهلكة أنفسهم، إذ ظلموا أنفسهم، ولا يظلم ربّك أحداً.
أمّا آخر آية من الآيات محل البحث، فتبيّن آخر مرحلة من كفرهم فتقول: (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ).
أجل، إنّ الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث، فيأكل إيمانه ويعدمه، ويبلغ الأمر حدّاً يكذب الإنسان فيه آيات الله، وأبعد من ذلك أيضاً إذ يحمل الذنب صاحبه على الإستهزاء بالأنبياء، والسخرية بآيات الله، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبداً، ولا تؤثر فيه أية حكمة وأيّة آية، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب الله المؤلمة له.
إنّ نظرة واحدة في صفحات تاريخ كثير من الجناة والبغاة تكشف أنّهم لم يكونوا هكذا في بداية الأمر، إذ كان لديهم على الأقل نور إيمان ضعيف يشع في قلوبهم، ولكن ارتكابهم للذنوب المتتابعة سبّب يوماً بعد آخر أن ينفصلوا عن الإيمان والتقوى، وأن يبلغوا آخر الأمر إلى المرحلة النهائية من الكفر.
ونلاحظ في خطبة العقيلة زينب(عليها السلام) أمام يزيد بن معاوية في الشام، النتيجة ذاتها التي أشرنا إليها آنفاً... لأنّها حين رأت يزيد يسخر بكل شيء ويتكلم بكلمات الكفر وأنشد أشعاراً من ضمنها:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
[481]
لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل
وهذه الكلمات تكشف عن عدم إيمانه بأساس الإسلام، فحمدت زينب الله تعالى وصلّت وسلّمت على النّبي(صلى الله عليه وآله) وقالت:
"صدق الله، كذلك يقول: (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون )" .
أي إذا أنكرت الإسلام والإيمان هذا اليوم بأشعارك المشوبة بالكفر، وتقول لأسلافك المشركين الذين قتلوا على أيدي المسلمين في معركة بدر: ليتكم تشهدون انتقامي من بني هاشم، فلا مجال للتعجب، فذلك ما قاله الله سبحانه: (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ).. وقد ذكرت في هذا الصدد مطالب كثيرة.
ولمزيد من الإيضاح يراجع الجزء الخامس والأربعون من بحار الأنوار الصفحة 157.(1)
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ طبقاً لما ذكرنا في التّفسير تكون كلمة "السوءى" مفعولا لأساءوا وجملة (أن كذبوا بآيات الله )مكان اسم كان وخبرها "عاقبة الذين" .
ويذكر العلاّمة الطباطبائي ذلك في الميزان بصورة احتمال، وإن لم ينتخبه هو نفسه، ويرى "أبو البقاء" في كتاب "إملاء ما منّ به الرحمن" الصفحة 185 الجزء الثاني، أنّه واحد من احتمالين مقبولين.
إلاّ أن أغلب المفسّرين كالطبرسي وصاحب الميزان، والفخر الرازي، والآلوسي، وأبو الفتوح الرازي والقرطبي وسيد قطب في ظلاله، والطوسي في تبيانه" يقوّون إحتمالا آخر في تفسير الآية.. وهو أن كلمة "السوءى" اسم كان، وجملة "إن كذبوا" في مقام التعليل.
وطبقاً لهذا التّفسير يكون معنى الآية: وأخيراً فإن عاقبة أعمال المسيئين كانت السوء، لأنّهم كذبوا بآياتنا. وهذا المعنى شبيه بقوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى ).
إلاّ أن الأنصاف أن هذا التفسير خلاف ما يستظهر من الآية، وانتخاب المفسّرين لهذا الرأي والتفسير لا يصرفنا عما هو منسجم مع الآية، وخاصة أنّهم اضطروا إلى أن يقدروا اللام في جملة "أن كذبوا" والتقدير خلاف الظاهر "فلاحظوا بدقة" .
[482]
الآيات
اللهُ يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْـمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ مِّنْ شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَـؤُاْ وَكَانُوا بِشُرَكَآئِهِمْ كَـفِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّآ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ فَهُمْ فِى رَوْضَة يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّآ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِايَـتِنَا وَلِقَآىءِ الاَْخِرَةِ فَأُولَـئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
التّفسير
مصير المجرمين ومآلهم يوم القيامة!
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن الذين يكذّبون ويستهزؤون بآيات الله، وفي الآيات ـ محل البحث ـ تستكمل البحوث السابقة عن المعاد، مع بيان جوانب منه، ومآل المجرمين في القيامة!
فتبدأ الآيات بالقول: (الله يبدأ الخلق ثمّ يعيده ثمّ إليه ترجعون ) ويُبيّن في هذه الآية استدلال قصير موجز، وذو معنى كبير، على مسألة المعاد. وقد ورد هذا المعنى بعبارة أُخرى في بعض آيات القرآن الأُخرى ومنها (قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكل خلق عليهم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً
[483]
فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم )(1)
وجملة (ثمّ اليه ترجعون )إشارة إلى أنّه بعد النشور والقيامة يعود الجميع إلى محكمة الله، والأسمى من ذلك أن المؤمنين يمضون في تكاملهم نحو ذات الله المقدسة إلى ما لا نهاية..
والآية الأُخرى تجسد حالة المجرمين يوم القيامة (يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ).
"يبلس" مأخوذ من مادة "إبلاس" وتعني في الأصل الغم والحزن المترتبان على أثر شدة اليأس والقنوط.
وبديهي أنّه إذا يئس الإنسان من شيء غير ضروري، فهذا اليأس غير مهم، لكن الحزن والغم يكشف في هذه الموارد عن أُمور ضرورية مأيوس منها، لذلك يرى بعض المفسّرين أنّ "الضرورة" جزء من "الإبلاس" وإنّما سمّي "إبليس" بهذا الإسم، فلأنّه أبلس من رحمة الله واستولى عليه الهم.
وعلى كل حال فيحق للمجرمين أى ييأسوا ويبلسوا في ذلك اليوم، إذ ليس لديهم إيمان وعمل صالح فيشفع لهم في عرصات المحشر، ولا صديق حميم، ولا مجال للرجوع إلى الدنيا وتدارك ما مضى!.
لذلك يضيف القرآن في الاية التالية قائلا: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء ).
فتلك الأصنام والمعبودات المصنوعة التي كانوا يتذرعون بها عندما يسألون: من تعبدون؟ فيقولون: (هؤلاء شفعاؤنا عندالله )(2)، سيتّضح لهم جيداً حينئذ أنّه لا قيمة لها ولا تنفعهم أبداً.. فلذلك يكفرون بهذا المعبودات من دون الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة يس، 79 ـ 81.
2 ـ سورة يونس، الآية 18.
[484]
ويبرأون منها (وكانوا بشركائهم كافرين ).
ولم لا يكفرون بهذه الأصنام؟ وهم يرونها ساكنة عن الدفاع عنهم بل كما يعبّر القرآن تقوم بتكذيبهم وتقول: يا رب (ما كانوا إيانا يعبدون )(1) بل كانوا يعبدون هوى أنفسهم؟!
وأكثر من هذا، فقد عبر القرآن عن هذ المعبودات في الآية (6) من سورة الأحقاف أنّها ستكون معادية لهم وكافرة بهم (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين ).
ثمّ يشير القرآن إلى الجماعات المختلفة من الناس في يوم القيامة، فيقول: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون ).
كلمة "يحبرون" مأخوذة من مادة "حبر" على زنة "قشر" ومعناها الأثر الرائق الرائع، كما يطلق هذا التعبير على حالة السرور والفرح التي يظهر أثرها على الوجه أيضاً، وحيث أن قلوب أهل الجنّة في غاية السرور والفرح بحيث أن آثارها تظهر في وجودهم قاطبة، فقد استعمل هذا التعبير لهذه الحالة أيضاً.
و"الروضة" معناها المكان الذي تكثر فيه الأشجار والماء، ولذلك تطلق هذه الكلمة على البساتين النضرة بأشجارها واخضرارها.. وقد جاءت هذه الكلمة هنا بصيغة التنكير لغرض التعظيم والمبالغة، أي إنّهم في أفضل الجنان وأعلاها التي تبعث السرور، فهم منعمون، بل غارقون في نعيم الجنّة.
(وأمّا الذين كفرا بآياتنا ولقاء الآخرة فأُولئك في العذاب محضرون ).
الطريف هنا أنّه في شأن أهل الجنّة استعملت كلمة "يُحبرون" وتدلّ على منتهى الرضا من جميع الجوانب لدى أهل الجنّة.. ولكن استعملت كلمة "محضرون" في أهل النّار، وهي دليل على منتهى الكراهة وعدم الرضا لما
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة القصص، الآية 63.
[485]
يتلقونه ويستقبلونه، لأنّ الإحضار يطلق في موارد تكون على خلاف الرغبات الباطنيّة للإنسان.
اللطيفة الأُخرى أن أهل الجنّة ذكروا بقيدالإيمان والعمل الصالح، ولكن أهل النّار اكتفي من ذكرهم بعدم الإيمان "إنكار المبدأ والمعاد". وهي إشارة أن ورود الجنّة ـ لابد له من الإيمان والعمل الصالح ـ فلا يكفي الإيمان وحده، ولكن يكفي لدخول النّار عدم الإيمان ـ وإن لم يصدر من ذلك "الكافر" ذنب ـ لأنّ الكفر نفسه أعظم ذنب!.
* * *
ملاحظة
لم كان أحد أسماء القيامة "الساعة"؟!
ينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة الدقيقة... وهي أنّه في كثير من آيات القرآن، ومن ضمنها الآيتان من الآيات محل البحث، عبر عن قيام "القيامة" بقيام"الساعة" وذلك لأنّ "الساعة" في الأصل جزء من الزمان، أو لحظات عابرة، وحيث أنّه من جهة تكون القيامة بصورة مفاجئة وكالبرق الخاطف، ومن جهة أُخرى بمقتضى أن الله سريع الحساب فإنه ينهي حساب عباده بسرعة، فقد استعمل هذا التعبير في شأن يوم القيامة ليفكر الناس بيوم القيامة ويكونوا على "أهبة الإستعداد".
يقول "ابن منظور" في "لسان العرب" اسم للوقت الذي تصعق فيه العباد والوقت الذي يبعثون فيه وتقوم فيه القيامة ، سمّيت ساعة لأنّها تفاجيء الناس في ساعة فيموت الخلق كلّهم عند الصيحة الاُولى التي ذكرها الله عزّوجلّ فقال: (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا خامدون )(1).. وأشار إلى الثّانية بقوله: (إن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة يس، الآية 29 ـ وما بعدها...
[486]
كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم من الاجداث إلى ربّهم ينسلون )(1).
وينقل "الزبيدي" في "تاج العروس" عن بعضهم أن الساعة ثلاث "ساعات":
فساعة كبرى: وهي يوم القيامة، وإحياء الموتى للحساب.
وساعة وسطى: وهي يوم الموت الفجائي لأهل زمان واحد "بالعذاب والعقوبة الإلهية للإستيصال".
وساعة صغرى: وهي يوم الموت الطبيعي لكل إنسان.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
[487]
الآيات
فَسُبْحَـنَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَعَشِّيَّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْىِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
التّفسير
التسبيح والحمد في جميع الأحوال لله!
بعد الأبحاث الكثيرة التي وردت في الآيات السابقة في شأن المبدأ والمعاد، وقسم من ثواب المؤمنين، وجزاء المشركين وعقابهم... ففي الآيات محل البحث يذكر التسبيح والحمد والتقديس والتنزيه لله من جميع أنواع الشرك والنقص والعيب، إذ تقول الآية: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون ).
وعلى هذا فقد ورد في هاتين الآيتين ذكر لأربع أوقات لتسبيح الله:
1 ـ بداية الليل (حين تمسون ).
2 ـ وطلوع الفجر (حين تصبحون ).
3 ـ وعصراً (عشياً ).
[488]
4 ـ وعند الزوال ـ في الظهر ـ (حين تظهرون )(1).
أمّا "الحمد" من حيث المكان فهو عام وشامل لجميع السماوات والأرض.
وذكر هذه الأوقات الأربعة في الآيات المتقدمة لعله كناية عن الدوام والإستمرار في التسبيح، "أي كل وقت وكل زمان".
كما احتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من هذه الأوقات الأربعة الإشارة إلى أوقات الصلاة، إلاّ أنّهم لم يجيبوا على هذا السؤال، وهو: لم ذكر في القرآن أربعة أوقات بدلا من خمسة أوقات؟ "ولم يرد الكلام على صلاة العشاء"!
ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال بأن وقت صلاة المغرب مقارب لوقت صلاة العشاء نسبياً، والفاصلة بينهما حدود الساعة إلى الساعة والنصف، فجاءت الصلاتان في مكان واحد، غير أنّ الفاصلة بين الظهر والعصر أطول نسبياً، حيث تطول أكثر من ساعتين.
لكننا لو أخذنا التسبيح والحمد بمفهومهما الوسيع في الآية، لوجدنا أنّهما لا يتحدّدان بالصلوات الخمس، وإن كانت هذه الصلوات من مصاديقهما الواضحة.
وينبغى أن نذكر هذه المسألة "اللطيفة" وهي: إن كلا من جملتي (سبحان الله )و(له الحمد ) يمكن أن تكونا إنشاء لتسبيح الله وحمده من قبل الله سبحانه، كما قال في الآية (14) من سورة المؤمنون (فتبارك الله أحسن الخالقين ).
ويمكن أن يكون هذا الحمد والتسبيح بمعنى الأمر، أي "سبّحوه واحمدوا له".
وهذا التّفسير يبدو أقرب للنظر، إذ الآيات المتقدمة هي بمثابة دستور لجميع العباد لمحو آثار الشرك والذنب من الروح والقلب كل صباح ومساء وكل ظهر وعصر، فسبحوا الله واحمدوا له في الصلاة وفي غير الصلاة.
ونقرأ حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله) يقول فيه: "من قال حين يمسي ثلاث مرات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يرجى ملاحظة أن "عشياً" و "حين تظهرون" قد عطفتا على "حين تمسون" ويرجع الجميع للتسبيح...
[489]
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (الآيات الثلاث إلى.. تخرجون) أدرك مافاته في يومه، وإن قالها حين يمسي أدرك ما فاته ليلته" (1).
وفي الآية التالية عودة إلى المعاد، ويرد القرآن المنكرين له عن طريق آخر، فيقول: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ).
أي إنّ ميدان "المعاد" وميدان "نهاية الدنيا" المتمثّل أحدهما بخروج "الحي من الميت" والآخر "خروج الميت من الحي" يتكرران أمام أعينكم، فلا مجال للتعجب من أن تحيا الكائنات جميعاً، ويعودالناس في يوم القيامة إلى الحياة مرّة أُخرى!
أمّا التعبير بـ "يخرج الحي من الميت" المستعمل للأراضي الموات، فقد ذكره القرآن مراراً في مسألة المعاد وواضح أنّ الأرض تبدوا ميتة في فصل الشتاء، فلا خضرة ولا أزهار تضحك ولا براعم تتفتح، ولكن في فصل الربيع مع سقوط الغيث واعتدال الهواء، تدبّ الحركة في الأرض، وتنمو الخضرة في كل مكان، وتتبسّم الأزهار وتنمو البراعم على الأغصان وهذا ميدان المعاد الذي نراه في هذه الدنيا.
وأمّا مسألة "إخراج الميت من الحيّ" فهي ليست شيئاً خافياً ولا مستتراً، فدائماً تموت الأشجار على الأرض وتتبدل إلى أخشاب، ويفقد الإنسان والحيوان حياتهما، ويتبدل كل منهما إلى جسد هامد لا روح فيه.
وأمّا ما يتعلق بـ "إخراج الحيّ من الميت" ففسّره بعضهم بخروج الإنسان والحيوان من النطفة، وقال بعضهم: بل المراد منه تولد المؤمن من الكافر، وقال بعضهم: المراد منه تيقظ النائمين والراقدين.
والظاهر أنّه ليس أيّاً من هذه المعاني هو المعنى الأصلي، لأنّ النطفة بنفسها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 172.
[490]
موجود حي، ومسألة "الكفر والإيمان" هي من بطون الآية، لا من ظواهر الآية، وأمّا موضوع التيقظ والنوم فهو أمر مجازي، إذ ليس النوم والتيقظ موتاً وحياة حقيقيين.
إنّما ظاهر الآية هو أنّ الله يخرج الموجودات الحية دائماً من الموجودات الميتة، ويبدل الموجودات الهامدة التي لا روح فيها إلى موجودات حيّة.
وبالرغم من أنّه من المسلّم به ـ في العصر الحاضر على الأقل ـ أنّه لم يُر في المختبرات والمشاهدات اليوميّة أن موجوداً حيّاً يتولد من موجود ميّت، بل تتولد الموجودات الحية دائماً من البيوض أو البذور أونطف الموجودات الحية الأُخرى، غير أن الثابت علمياً والمسلّم به أنّه كانت الأرض في البداية قطعة ملتهبة من النّار، ولم يوجد عليها أي موجود حي، ثمّ وفقاً لظروف خاصة لم يكتشفها العلم ـ حتى الآن ـ بصورة دقيقة، تولدت الموجودات الحية من مواد لا روح فيها بقفزة كبيرة.. لكن هذا الموضوع وفي الظروف الفعلية للكرة الأرضية. وحيث أنّ العلم البشري لم يتوصل إليه، فلم يشاهد هذا الموضوع (وبالطبع يحتمل أن تتحقق هذه القفزة الكبرى في أعماق البحار والمحيطات في بعض الظروف الحالية).
لكن الذي نلمسه وندركه، هو أنّ الموجودات الميتة دائماً تكون جزءاً من الموجودات الحية وتكسى ثوب الحياة! فالماء والطعام اللذان نتناولهما ليسا من الموجودات الحية، لكنّهما حين يكونان في البدن ويصيران جزءاً منه يتحولان إلى موجود حيّ وتضاف كريات جديدة وخلايا جديدة إلى كريات البدن وخلاياه، كما يتبدل الطفل الرضيع عن هذا الطريق إلى شاب قوي متين.
أليس هذا إخراج الحياة من قلب الموت، أو "الحي من الميت"؟!
فعلى هذا يمكن القول بأن في نظام الطبيعة دائماً يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وبهذا الدليل فإنّ الله الذي خلق الطبيعة قادر على إحياء
[491]
الموتى في العالم الآخر.
وبالطبع فإنّ الآية الآنفة من جهة البعد المعنوي لها تفاسير أخر.. منها تولد المؤمن من الكافر، وتولد الكافر من المؤمن، والعالم من الجاهل، والجاهل من العالم، والصالح من المفسد، والمفسد من الصالح، كما أشير إلى كل ذلك في الروايات الإسلامية أيضاً.
ويمكن أن تكون هذه المعاني من بطون الآية، لأنّنا نعرف أنّ آيات القرآن لها ظاهر وباطن، كما يمكن أن يكون للموت والحياة معنى جامع واسع يشمل الجانب المادي والجانب المعنوي.
هذا وقد جاء في رواية عن الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) في تفسير الآية (يحيي الأرض بعد موتها ) مايلي: "ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل، فتحيي الأرض لإحياء العدل ولإقامة العدل فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً" (1).
وواضح أنّ مراد الإمام(عليه السلام) أن معنى الآية لا ينحصر بنزول الغيث، ولا ينبغي تفسير الآية بالغيث فحسب، لأنّ الإحياء المعنوي للأرض بالعدل أهم من إحيائها بالغيث عند نزوله.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقلا عن كتاب الكافي وطبقاً لتسفير نور الثقلين، ج 4، ص 173.
[492]
الآيات
وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَاب ثُمَّ إِذَآ أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ ءَايَـتِهِ خَلْقُ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلَـفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـت لِّلْعَـلَمِينَ (22)
التّفسير
آيات الله في الآفاق وفي الأنفس:
تحدثت هذه الآيات ـ وبعض الآيات الأخر التي تليها ـ عن طرائف ولطائف من دلائل التوحيد، وآيات الله وآثاره في نظام عالم الوجود، وهي تكمل البحوث السابقة، ويمكن القول بأن القسم المهم بشكل عام من آيات التوحيد في القرآن تمثله هذه الآيات!
هذه الآيات التي تبدأ جميعها بقوله تعالى: (ومن آياته ) ولها وقع خاص ولحن بليغ جاذب وتعبيرات مؤثرة وعميقة، مجموعة من سبع آيات، ستٌ منها متتابعات، وواحدة منفصلة "وهي الآية السادسة والأربعون".
[493]
هذه الآيات مقسمة تقسيماً طريفاً من حيث "آيات الآفاق" و "آيات الأنفس" إذ تتحدث ثلاث منها عن آيات الأنفس (دلائل الخالق في وجود الإنسان نفسه) وثلاث منها عن آيات الآفاق (دلائل الخالق خارج وجود الإنسان) وواحدة من هذه الآيات تتحدث عن الآيات في الأنفس وفي الآفاق معاً.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ الآيات التي تبدأ بهذه العبارة: (ومن آياته )مجموعها إحدى عشرة آية فحسب، في سائر سور القرآن، سبع منها في هذه السورة، واثنتان في سورة فصلت هما "الآية 37 والآية 39" وآيتان أُخريان في سورة الشورى هما الآية 29 والآية 32 ـ ومجموعها كما ذكرنا آنفاً إحدى عشرة لا غير. وهي تشكل دورة متكاملة في التوحيد.
ويجدر التنبيهُ ـ قبل الدخول إلى تفسير هذه الآيات ـ على هذه "اللطيفة" وهي أن ما أشار إليه القرآن في هذه الآيات، وإن كانت تبدو للنظر محسوسة وملموسة، يمكن أن يدركها عامّة الناس، إلاّ أنّه مع تطور العلم وتقدمه تبدو للبشر لطائف جديدة في هذا المجال، وتتّضح للعلماء أُمور ذات أهمية كبرى، وسنشير إلى قسم منها خلال تفسيرنا لهذه الآيات إن شاء الله.
ويتحدث القرآن هنا أوّلا عن خلقة الإنسان التي تعد أوّل موهبة إلهية له، وأهمهما أيضاً، فيقول: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون )!
في هذه الآية إشارة دليلين من أدلة عظمة الله.
الأوّل: خلق الإنسان من التراب، وربّما كان إشارة إلى الخلق الأوّل للإنسان، أي آدم(عليه السلام)، أو خلق جميع الناس من التراب، لأنّ المواد الغذائية التي تشكل وجود الإنسان، جميعها من التراب بشكل مباشرة أو غير مباشر!
الثّاني: كثرة النسل "الآدمي" وانتشار أبناء "آدم" على سطح المعمورة، فلو
[494]
لم تُخلق خصوصية التناسل في آدم، لإنطوى نسله من الوجود بسرعة!.
تُرى أين التراب وأين الإنسان بهذا الهندام والرشاقة؟!
فلو وضعنا خلايا وأستار العين التي هي أدق من ورق الزهور وألطف وأكثر حساسية، وكذلك الخلايا الدقيقة للدماغ والمخ إلى جانب التراب وقارناهما بالقياس إلى بعضهما البعض، نعرف حينئذ كم لخالق العالم من قدرة عجيبة، بحيث أوجد من مادة كدرة سوداء لا قيمة لها هذه الأجهزة الظريفة والدقيقة القيّمة.
فالتراب ليس فيه نور، ولا حرارة، ولا جمال، ولا طراوة، ولا حس، ولا حركة ومع ذلك فقدأضحى عجينة الإنسان ولها جميع هذه الصفات، فالذي أوجد من هذا الموجود الميت التافه موجوداً حيّاً عجيباً، لحقيق بكل حمد وثناء على هذه القدرة الباهرة والعلم المطلق (فتبارك الله أحسن الخالقين ).
والآية محل البحث تبيّن ضمناً هذه الحقيقة، وهي أنّه لا تفاوت بين بني الإنسان، ويعود جذرهم إلى شيء واحد، وأصل واحدة وهو التراب وبالطبع فنهايتهم إلى ذلك التراب أيضاً.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه، أن كلمة "إذا" تستعمل في لغة العرب في الموارد الفجائية ولعل هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ الله له القدرة البالغة على أن يخلق مثل آدم أعداداً هائلة بحيث ينتشر نسلها في فترة قصيرة ـ فجأةً ـ ويملأ سطح الأرض.. ويكون مجتمعاً إنسانيّاً كاملا.
والآية الثّانية من الآيات محل البحث تتحدث أيضاً عن قسم آخر من الآيات في الأنفس، التي تمثل مرحلة ما بعد خلق الإنسان، فتقول: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ). أي من جنسكم والغاية هي السكينة الروحية والهدوء النفسي
وحيث أن استمرار العلاقة بين الزوجين خاصة، وبين جميع الناس عامة،
[495]
يحتاج إلى جذب قلبي وروحاني، فإنّ الآية تعقب على ذلك مضيفةً (وجعل بينكم مودةً ورحمة ).
ولمزيد التأكيد تُختتم الآية بالقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ).
الطريف هنا أن القرآن ـ في هذه الآية ـ جعل الهدف من الزواج الإطمئنان والسكن، وأبان مسائل كثيرة في تعبير غزير المعنى "لتسكنوا" كما ورد نظير هذا التعبير في سورة الأعراف الآية 189.
والحقّ أن وجود الأزواج مع هذه الخصائص للناس التي تعتبر أساس الإطمئنان في الحياة، هو أحد مواهب الله العظيمة.
وهذا السكن أو الإطمئنان ينشأ من أن هذين الجنسين يكمل بعضهما بعضاً، وكل منهما أساس النشاط والنماء لصاحبه، بحيث يعد كل منهما ناقصاً بغير صاحبه، فمن الطبيعي أن تكون بين الزوجين مثل هذه الجاذبيّة القوية.
ومن هنا يمكن الإستنتاج بأنّ الذين يهملون هذه السنة الإلهية وجودهم ناقص، لأنّ مرحلة تكاملية منهم متوقفة، (إلاّ أن توجب الظروف الخاصة والضرورة في بقائهم عزّاباً).
وعلى كل حال، فإنّ هذا الإطمئنان أو السكن يكون من عدّة جهات "جسمياً وروحيّاً وفردياً واجتماعيّاً".
ولا يمكن إنكار الأمراض التي تصيب الجسم في حالة عدم الزواج، وكذلك عدم التعادل الروحي والإضطراب النفسي عند غير المتزوجين.
ثمّ أنّ الأفراد العزّاب لا يحسّوون بالمسؤولية ـ من الناحية الإجتماعية ـ كثيراً.. ولذلك فإن الإنتحارتزداد بين أمثال هؤلاء أكثر.. كما تصدر منهم جرائم مهولة أكثر من سواهم أيضاً.
وحين يخطو الإنسان من مرحلة العزوبة الى مرحلة الحياة الأُسرية يجد في نفسه شخصية جديدة، ويحس بالمسؤولية أكثر،، وهذا السكن والإطمئنان في
[496]
ظل الزواج.
وأمّا مسألة "المودة والرحمة" فهما في الحقيقة "ملاط" البناء في المجتمع الإنساني، لأنّ المجتمع يتكون من افراد متفرقين كما أن البناء العظيم يتألف من عدد من الطابوق و "الآجر" أو الأحجار. فلو أن هؤلاء الأفراد المتفرقين اجتمعوا، أو أن تلك الأجزاء المتناثرةوصلت بعضها ببعض، لنشأ من ذلك المجتمع أو البناء حينئذ.
فالذي خلق الإنسان للحياة الإجتماعية جعل في قلبه وروحه هذه الرابطة الضرورية.
والفرق بين "المودة" و "الرحمة" قد يعود إلى الجهات التالية:
1 ـ المودة هي الباعثة على الإرتباط في بداية الأمر بين الزوجين، ولكن في النهاية، وحين يضعف أحد الزوجين فلا يكون قادراً على الخدمة، تأخذ الرحمة مكان المودة وتحلّ محلها.
2 ـ المودة تكون بين الكبار الذين يمكن تقديم الخدمة لهم، أمّا الأطفال والصبيان الصغار، فإنهم يتربون في ظلّ الرحمة.
3 ـ المودّة، غالباً ما يكون فيها "تقابل بين الطرفين"، فهي بمثابة الفعل ورد الفعل، غير أنّ الرحمة من جانب واحد لديه إيثار وعطف، لأنّه قد لا يحتاج إلى الخدمات المتقابلة أحياناً،فأساس بقاء المجتمع هو "المودة" ولكن قد يحتاج إلى الخدمات بلا عوض، فهو الايثار والرحمة.
وبالطبع فإنّ الآية تبيّن المودة والرحمة بين الزوجين، ولكن يحتمل أن يكون التعبير "بينكم" إشارة إلى جميع الناس.. والزوجان مصداق بارز من مصاديق هذا التعبير، لأنّه ليست الحياة العائلية وحدها لا تستقيم إلاّ بهذين الأصلين (المودّة والرحمة) بل جميع المجتمع الإنساني قائم على هذين الأصلين وزوالهما من المجتمع ـ وحتى نقصانهما يؤدي الى أنواع الارباك والشقاء
[497]
والاضطراب الإجتماعي.
أمّا آخر آية ـ من هذه الآيات محل البحث ـ فهي مزيج من آيات الآفاق وآيات الأنفس، فتبدأ بالإشارة إلى خلق السماء والأرض، فتقول: (ومن آياته خلق السماوات والأرض ).
السماوات بجميع ما فيها من كرات، وبجميع ما فيها من منظومات ومجرّات، السماوات التي مهما حلّق فيها الفكر عجز عن إدراك عظمتها ومطالعتها.. وكلّما تقدم علم الإنسان تتجلى له نقاط جديدة من عظمتها.
كان الإنسان يرى الكواكب في السماء بهذا العدد الذي تراه العين (وقد أحصى العلماء الكواكب التي ترى بالعين المجرّدة، فوجدوها تتراوح بين خمسة الآف إلى ستة الآف كوكب).
ولكن كلما تقدم العلم في صناعة المجهر والتلسكوب، فإنّ عظمة وكثرة الكواكب تزداد أكثر... إلى درجة بلغ الإعتقاد اليوم أن مجرتنا لوحدها من بين مجاميع المجرات في السماء تحتوي على أكثر من مئة مليون كوكب وتعد الشمس على عظمتها المذهلة واحدة من النجوم المتوسطة، ولا يعلم عدد المجرات ولا يحصيها إلاّ الله، إذ هو وحده يعلم كم من كوكب ونجمة في هذا المجرات!
وكذلك كلما تقدم العلم الطبيعي والجيولوجيا، وعلم النبات والعلوم البيلوجية "والحيوانية" وعلم التشريح والفيزياء، والعلوم النفسية وغيرها، فستتضح عجائب في خلق الأرض كانت خافية، كل واحدة تعدُّ آية من آيات الله.
ثمّ ينتقل القرآن إلى آية من آيات الأنفس الكبيرة فيقول: (واختلاف ألسنتكم وألوانكم ).
وبلا شك فإنّ الحياة الإجتماعية للبشر، لا تقوم بغير معرفة وتشخيص الأفراد والأشخاص، إذ لو كان الناس جميعاً في يوم ما على صورة واحدة ولباس
[498]
واحد، فإن أسلوب حياتهم يضطرب في ذلك اليوم ، إذ لا يعرف الأب والابن والزوج من الغرباء، ولايميز المجرم من البريء، ولا الدائن من المدين، ولا الآمر من المأمور، ولا الرئيس من المرؤوس، ولا الضيف من المضيف ولا العدوّ من الصديق، وأي ارباك عجيب كان سيحدث لو كانوا على هذه الشاكلة!.
وعلى سبيل الإتفاق قد تحدث هذه المسألة بين الإخوة التوائم، أو الشقيقين التوأمين المتشابهين من جميع الوجوه، وكم تحدث من المشاكل بين الناس وبينهم، وقد سمعنا ذات مرّة أن امرأة كان لديها توأمان متشابهان تماماً، وكان أحدهما مريضاً، فأعطت الدواء لمعافى دون السقيم!!.
لذلك خلق الله الأصوات والألون لتنظيم المجتمع البشري، على حد تعبير "الرازي" في تفسيره في ذيل الآية محل البحث: إن معرفة الإنسان للإنسان تحصل إمّا عن طريق العين أو الأذن، فخلق الله الألوان والصور والأشكال المختلفة لتعرفها العين وتشخصها، وأوجد اختلاف الأصوات لتشخصها الأذن، حتى أنّه لا يمكن العثور في جميع العالم على انسانين متشابهين في الوجه والصوت معاً، أي إن وجه الإنسان الذي هو عضو صغير، وصوته الذي هو موضوع بسيط، بقدرة الله جاءا على مليارات الأشكال والأصوات المختلفة، وما ذلك الإختلاف إلاّ من آيات عظمة الله.
كما يحتمل أن المراد باختلاف الألسنة كما أشار إليه كبار المفسّرين هو اختلاف اللغات، من قبيل العربية والفارسية واللغات الأخرى.
ولكن يمكن أن يستفاد من كلمة "اختلاف" معنى واسع بحيث يشمل هذا التّفسير وما قبله، وأي تفسير آخر، فهذا التنوع في الخلقة شاهد على عظمة الخالق وقدرته.
يقول "فريد وجدي" في دائرة معارفه، نقلا عن قول "نيوتن" العالم الغربي المعروف (لا تشكوا في الخالق، فإنه ممّا لا يُعقل أن تكون الضرورة وحدها هي
[499]
قائدة الوجود، لأنّ ضرورة عمياء متجانسة في كل مكان وفي كل زمان لا يتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات، ولا هذا الوجود كله بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها، مع تغيرات الأزمنة والأمكنة، بل إن كل هذا لا يعقل أن يصدر إلاّ من كائن أزلي له حكمة وإرادة)(1).
ويقول القرآن في نهاية الآية الآنفة الذكر (إنّ في ذلك لآيات للعالمين ).
فالعلماء يعرفون هذه الأسرار قبل كل أحد.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ دائرة المعارف، محمّد فريد وجدي، ج 1، ص 496 (مادة اله).
[500]
الآيات
وَمِنْ ءَاَيَـتِهِ مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ ءَايَـتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَنُنَزِّلُ مِنِ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْىِ بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالاَْرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الاَْرْضِ إِذآ أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
التّفسير
آياتُ عظمته ـ مرّةً أُخرى:
تعقيباً على الأبحاث السابقة حول آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، تتحدث هذه الآيات ـ محل البحث ـ حول قسم آخر من هذه الآيات العظيمة.
فتتحدث في البداية عن ظاهرة "النوم" على أنّها ظاهرة مهمة من ظواهر الخلق ومثل بارز من نظام الحكيم الخالق، فتقول: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ).
وتُختتم الآية بإثارة العبرة بالقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون ).
وهذه الحقيقة غير خافية على أحد، هي أن جميع "الموجودات الحية"
[501]
تحتاج إلى الراحة والدعة، وذلك لتجديد قوتها وتهيئة الإستعداد اللازم لإدامة العمل والفعالية، الراحة التي لابدّ منها حتى لأولئك الأفراد الحريصين والجاديّن.
فأي شيء يُتصور أحسن من النوم للوصول إلى هذا الهدف، وهو يأتيه بشكل إلزامي، ويدعوه إلى تعطيل نشاطه الجسماني، وقسم مهم من نشاطه الفكري والذهني، بينما تستمر أجهزة خاصة في العمل في جسم الإنسان كالقلب الرئة وبعض النشاط الذهني، وما إلى ذلك ممّا يستلزمه استمرار الحياة في الإنسان فحسب، أمّا البقية فتهدأ وتتعطل عن العمل.
هذه الموهبة العظيمة تؤدي الى أن يحصل جسم الإنسان وروحه على الراحة اللازمة، فيرتفع التعب بطرو النوم الذي بمثابة وقفة لعمل البدن، ونوع من التعطيل له. ويجد الإنسان على أثرها قوة ونشاطاً جديداً في حياته.
ومن المسلّم به أنّه لولا النوم لتصدّعت روح الانسان وذبل جسمه وانهار بسرعة، ولعجل عليه العجز والشيخوخة... وبهذا فإن النوم المناسب والهادىء مدعاة للسلامة وطول العمر، ودوام "الشباب" ونشاطه.
وممّا يجدر التنبيه عليه أوّلاً: أنّ النوم ورد قبل عبارة (ابتغاؤكم من فضله )التي تعني السعي وراء الرزق، وهذا التعبير هو إشارة إلى أن النوم أساس السعي لأنّه ـ من دون النوم الكافي ـ يصعب الإبتغاء من فضل الله.
ثانياً: صحيح أنّ النوم يقع في الليل، والإبتغاء من فضل الله في النهار، إلاّ أنّه ليس صعباً على الإنسان أن يغيّر هذا المنهج إذا اقتضت الضرورة. بل الله خلق الإنسان بصورة يستطيع معها تغيير منهجية النوم، ويجعلها وفقاً للضرورات والحاجات، فكأنّ التعبير (منامكم بالليل والنهار ) إشارة إلى هذه "اللطيفة" الدقيقة.
ولا شك أنّ المنهج الأصل للنوم متعلق بالليل، ولأنّ الليل هادىء بسبب الظلمة، فله أولوية خاصة في هذا المورد.
[502]
ولكن قد يتفق للإنسان ولظروف خاصة يكون مجبراً على السفر ليلا وأن يستريح نهاراً.. فلو كان منهج تنظيم النوم خارجاً عن اختيار الإنسان فسيواجه العديد من الصعوبات حتماً.
وأهمية هذا الموضوع، خاصة في عصرنا الذي تضطر فيه بعض المؤسسات الصناعية والطبية والعلاجية أن تعمل ليل نهار، ولا يمكن لها أن تعطل منهجها بحيث يتناوب عمالها في ثلاث مراحل للعمل فيها، هذه الأهمية في هذا العصر أجلى منه في أي عصر مضى!
وحاجة جسم الإنسان وروحه إلى النوم كثيرة إلى درجة لا يستطيع الفرد أن يتحمل السهر المتواصل أكثر من يومين أو ثلاثة.
ولذلك فإنّ المنع من النوم يعتبر من أشد أنواع التعذيب الذي يمارسه الطغاة والجبابرة مع سجنائهم.
وكذلك يُعدُّ النوم واحداً من الطرق العلاجية لكثير من الأمراض، حيث يوصي الأطباء المريض بأن يغطّ في نوم عميق فتزداد بذلك قوّة المريض ومناعته.
وبالطبع لا يمكن لأحد أن يحدد مقداراً معيناً للنوم على أنّه "مقدار النوم اللازم" لعموم الناس لأنّ ذلك يرتبط بسنّ الأشخاص ووضعهم ومزاجهم وكيفية البناء الفيسيولوجي والسيكلوجي "الجسيمي والروحي"، بل المهم النوم الكافي بمقدار يحسّ الإنسان بعده بأنّه شبع منه... كما هي الحال بالنسبة للشبع من الغذاء والماء تماماً.
وينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة، وهي أنّه بالإضافة إلى "طول" زمان النوم ،فلعمقه خصوصية وأهمية أُخرى أيضاً... فرب ساعة ينام فيها الإنسان نوماً عميقاً تسد عن عدد من الساعات التي ينامها نوماً سطحياً في إعادة بناء روح الإنسان وجسمه.
[503]
وبالطبع، فحيث لا يمكن النوم العميق، فالنعاس أيضاً من النعم الإلهية، كما أشارت إليه الآية الحادية عشرة من سورة الأنفال في شأن المجاهدين يوم بدر (إذْ يغشيّكم النعاس أمنة منه ) لأنّه لا يمكن النوم العميق في ميدان الحرب، وليس مفيداً ـ أيضاً ـ ولا نافعاً.
وعلى كل حال فإن نعمة النوم والهدوء والإطمئنان الناشىء منه، وما يحصل عليه الانسان من قوة ونشاط بعد النوم، هي من النعم التي لا يمكن وصفها بأي بيان!.
والآية التي تلتها، والتي تبيّن خامس آية من آيات عظمة الله، تتجه أيضاً إلى "الآيات في الآفاق" وتتحدث عن البرق والرعد والغيث وحياة الأرض بعد موتها فتقول: (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً ).
"الخوف" ممّا يخطر على البال من احتمال نزول الصاعقة مع البرق فتحرق كل شيء تقع عليه وتحيله رماداً.
"والطمع" من جهة نزول الغيث الذي ينزل بعد البرق والرعد على هيئة قطر أو مزنة.
وعلى هذا فإنّ البرق السماوي مقدمة لنزول الغيث (بالإضافة إلى فوائد البرق المختلفة المهمة والتي كشف العلم عنها أخيراً وقد تحدثنا عنه في بداية سورة الرعد"(1).
ثمّ يضيف القرآن معقباً (وينزل من السماء ماءً فيحي به الأرض بعد موتها ).
الأرض الميتة التي لا يؤمل فيها الحياة والنبات، تهتز بنزول الغيث الذي يمنحها الحياة، فتحيا وتظهر آثار الحياة عليها على هيئة الأزهار والنباتات، بحيث لا تصدق أحياناً أنّها الأرض الميتة سابقاً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير "سورة الرعد" الآيات الأُولى منها.
[504]
ويؤكّد القرآن في نهاية هذه الآية مضيفاً: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون )ويفهمون أن وراء هذه الخطة المدروسة يداً قادرة تقودها وتهديها، ولا يمكن أن تكون المسألة وليدة الصدفة والضرورة العمياء الصّماء أبداً.
وفي آخر اية من الآيات محل البحث، يقع الكلام عن آية أُخرى من الآيات الآفاقية، وذلك عن تدبير نظام السماء والأرض وبقائهما ودوامهما، إذ تقول: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمر ).
أي إنّ خلق السماوات ـ المشار إليه في الآيات السابقة ـ ليس آية وحدة فحسب، بل بقاؤها ودوام نظامها أيضاً آية أُخرى، فهذه الأجرام العظيمة في دورانها المنظّم حول نفسها تحتاج إلى أُمور كثيرة، وأهمّها المحاسبة المعقدة للقوّة الجاذبة والدافعة!
إنّ الخالق الكبير جعل هذا التعادل دقيقاً، بحيث لا يعترض الأجرام أدنى انحراف في مسيرها ودورانها حول نفسها إلى ملايين السنين.
وبتعبير آخر: إنّ الآية السابقة كانت إشارة إلى "توحيد الخلق" وأمّا هذه الآية فهي إشارة إلى "توحيد الربوبية والتدبير".
والتعبير بقيام السماء والأرض، تعبير لطيف مأخوذ من حالات الإنسان، لأنّ أحسن حالات الإنسان لأجل استدامة نشاطه هي حالة قيامه، إذ يستطيع فيها أداء جميع حوائجه، وتكون له السيطرة والتسلط الكامل على أطرافه.
والتعبير بـ "أمره" هنا إشارة إلى منتهى قدرة الله، إذ يكفي أمر واحد من قبله لإستمرار الحياة، ونظم هذا العالم الوسيع.
وفي نهاية الآية وبالإستفادة من عامل التوحيد لإثبات المعاد، ينقل القرآن البحث إلى هذه المسألة فيقول: (ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ).
ولقد رأينا ـ مراراً ـ في آيات القرآن أن الله سبحانه يستدل على المعاد
[505]
بآيات قدرته في السماء والأرض، والآية محل البحث واحدة من تلك الآيات.
والتعبير بـ"دعاكم" اشارة إلى أنّه كما أنّ أمراً واحداً منه كاف للتدبير ولنظم العالم، فإنّ دعوة واحدة منه كافية لأن تبعثكم من رقدتكم وتنشركم من قبوركم ليوم القيامة، وخاصة إذا لاحظنا جملة (إذا أنتم تخرجون ) فإنّ كلمة "إذا" تبين بوضوح مؤدى هذه الجملة، حيث أنّها "فجائية" كما يصطلح عليها أهل النحو واللغة، ومعناها: إذا دعاكم الله تخرجون بشكل سريع وفجائي.
والتعبير بـ(دعوة من الأرض ) دليل واضح على المعاد الجسماني، إذ يثب الإنسان في يوم القيامة من هذه الأرض "فلاحظوا بدقّة" .
* * *
بحوث
1 ـ دورة دروس كاملة لمعرفة الله
تناولت الآيات الست المتقدمة بحوثاً مختلفة في معرفة الله، وهي بمجموعها تمثل حلقات متصلة ودورة كاملة طريفة، بدءاً بخلق السماء إلى خلق البشر من التراب، ومن رباط الحب في الأسرة، إلى النوم الذي يمنح الدعة والإطمئنان في الليل والنهار، ومن تدبير النظام والعالم متدرجاً، إلى البرق والغيث واختلاف الألسنة والألوان... فهي مجموعة مناسبة من آيات الآفاق وآيات الأنفس!.
الطريف هنا أن كلّ آية من الآيات الست يذكر فيها قسمان من دلائل التوحيد، ليهيء الأوّل الأرضية المناسبة، والآخر للتحكيم والتأكيد، وهذا يشبه تماماً الإتيان بشاهدين عدلين لإثبات المدّعى، فيكون المجموع اثني عشر شاهداً صادقاً على قدرة الله الحق، التي لا نهاية ولا أمد لها.
[506]
2 ـ من هم المستلهمون من هذه الآيات
ورد في أربع آيات من هذه الآيات الست التأكيد على أن في هذه الأُمور دلائل واضحة "للعالمين، المتفكرين، السميعين، العاقلين" إلاّ أنّ هذا التأكيد لم يرد في الآية الأولى، ولا الآية الأخيرة.
ويوضح الفخر الرازي في هذا المجال فيقول: لعل عدم ذكر ذلك، في الآية الأُولى لأنّ الآية الأُولى والثّانية جاءتا متصلتين في سياق واحد، وكلتاهما من الآيات التي تتحدث في الأنفس.
وأمّا في الآية الأخيرة فإنّ الأمر واضح إلى درجة لا يحتاج بعدها إلى مزيد إيضاح، ولا تأكيد على التعقل والتفكر(1)!
الطريف هنا أن الحديث عن التفكر ورد قبل الحديث والكلام عن "العلم" لأنّ التفكر مقدمة وقاعدة للعلم، ثمّ يأتي الكلام على من يسمع، لأنّ الإنسان يستعد للإستماع وتقبل الحق، إذا كان في صدد العلم والإطلاع، كما يقول القرآن في هذا المجال: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه )(2)
وفي آخر مرحلة كان الكلام عن العقل، لأنّ أُولئك كانوا يسمعون، فلابدّ أن يبلغوا مرحلة العقل الكامل!
كما ينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، هي أنّه وقع الكلام في ذيل الآية الأُولى عن خلق الإنسان وانتشار نسله في الأرض (ثمّ إذا أنتم بشرٌ تنتشرون ).
ووقع الكلام في آخر آية أيضاً عن خروج الناس ونشورهم في يوم القيامة (إذا أنتم تخرجون ).
فالآية الأُولى لبداية الخلق، والأخيرة للنهاية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التفسير الكبير الفخر الرازي ـ ذيل الآيات محل البحث.
2 ـ الزمر، الآية 18.
[507]
3 ـ عجائب عالم النوم
بالرغم من جميع الأبحاث التي كتبها العلماء حول النوم وخصائصه، يبدو أن زوايا هذا العالم لم تنكشف جميعها، ولم يرفع النقاب عن أسراره وحقائقه الغامضة!
فما زال البحث يدور بين العلماء: أي فعل وانفعال يكون في البدن بحيث يتوقف ـ خلال لحظة مفاجئة ـ قسم من نشاطات المخ والبدن، ويظهر تحول في عامّة الروح والجسد؟!
قال بعضهم: إنّ العامل الأصلي للنوم هو "عامل فيزياوي" ويعتقدون أن انتقال الدم من المخ إلى أجزاء البدن الأخرى، يوجد هذه الظاهرة، ولأجل إثبات معتقدهم عمدوا إلى صنع سرير للنوم على شكل خاص يدعى "سرير النوم المعياري" يبيّن كيفية انتقال الدم من المخ إلى سائر أعضاء البدن!.
وقال جماعة: إنّ العامل الأصلي للنوم هو "عامل كيمياوي" ويعتقدون أن الإنسان في حالة السعي والعمل تزداد فيه السموم بحيث تؤدي الى تعطيل قسم من المخ عن عمله، فينام الإنسان على أثر ذلك، وحين تتلاشى السموم وتسيطر عليها كريات الدم يتيقظ الإنسان مرّة أُخرى!
وقال جماعة آخرون: إنّ العامل الأصلي للنوم هو "عامل عصبي" ويعتقدون أن للنشاط العصبي خصوصيةً في المخ لها حكم وقود السيارة، فعندما تتعب ينطفىء المخ ويتوقف عن العمل مؤقتاً.
ولكن هناك أسئلة ونقاط مبهمة حول جميع هذه النظريات، لم نحصل إلى الآن على جواب واضح لها، وما يزال النوم محتفظاً بوجهه المليء بالأسرار.
من عجائب عالم النوم ما أماط العلماء النقاب عنه أخيراً، وهو حين يتعطل قسم كبير من المخ عن العمل تبقى بعض خلاياه التي ينبغي أن تسمى بـ "الخلايا الحارسة" متيقظة ولا تنسى الوصايا التي يوصيها الإنسان قبل النوم عند ساعة
[508]
التيقظ... وعند الحاجة توقظ هذه الخلايا جميع المخ ويتحرك نحو العمل مرّة أُخرى!
فمثلا: الأم المرضعة المتعبة حين تنام الليل وإلى جنبها رضيعها في المهد، يوصي عقلها الباطني الخلايا الحارسة التي تربط بين الروح والجسم، أنّه متى ما سمعت أقل صوت لطفلي فأيقظيني، ولكن لا يهمني أي صوت آخر، فقد لا تتيقظ المرأة من صوت الرعد المهول، ولكنّها تتيقظ لأقل صوت من ولدها الرضيع، فهذه المهمّة هي وظيفة الخلايا الحارسة.
ونحن أيضاً جرّبنا هذا الموضوع كثيراً، فمتى ما كان لدينا تصميم أن نستيقظ مبكرين أو في منتصف الليل لنسافر أو لأداء مهمّة، ونحدث أنفسنا بذلك، فإننا غالباً ما نستيقظ في الوقت المطلوب، في حين أن من الممكن أن نغرق في النوم لساعات طوال في غير هذه الحالة!
والخلاصة، حيث أنّ النوم هو من الظواهر الروحية، وللروح عالم مليء بالأسرار، فليس عجيباً أن تبقى كثير من زوايا هذه المسألة غامضة... ولكن كلما سبرنا غور هذا العالم نتعرف على عظمة خالق هذه الظاهرة.
هذا عن ظاهرة النوم، وأمّا عن الرؤيا والأحلام، فقد بحثنا عنه بحوثاً كثيرة، ولا بأس بمراجعة تفسير سورة يوسف(عليه السلام).
4 ـ علاقة الحب بين الزوجين
بالرّغم من أنّ العلاقة أو الإرتباط بين الإنسان وأبيه وأمه وإخوته هي علاقة نسبية، تمتد جذورها العميقة بالقرابة. والعلاقة بين الزوجين علاقة قانونية. و"معاقدة بينهما" لكن كثيراً ما تتغلب هذه العلاقة حتى على علاقة الإنسان بأبيه وأُمه، وفي الحقيقة هذا هو ما أشارت إليه الآيات الآنفة بالتعبير (وجعل بينكم مودّة ورحمة ).
[509]
ونقرأ حديثاً عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) أنّه أخبر ابنة جحش باستشهاد خالها حمزة، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون. فأخبرها باستشهاد أخيها فقالت مرّة أُخرى: "إنا لله وإنا إليه راجعون" (وطلبت له الأجر والثواب من الله).
ولكن حين أخبرها باستشهاد زوجها، وضعت يدها على رأسها وصرخت، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): "ما يعدل الزوج عند المرأة شيء" (1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج4، ص 174.
[510]
الآيات
وَلَهُ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـنِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِى يَبْدَوُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الاَْعْلى فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلا مِّنْ أَنْفُسِكُمْ هَل لَّكُمْ مِّنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ مِّنْ شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَـكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَْيَـتِ لِقَوْم يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِّنْ نَّـصِرِينَ (29)
التّفسير
المالكية لله وحده:
كانت الآيات المتقدمة تتحدث حول توحيد الخالق، وتوحيد الرّب، أمّا الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث فتتحدث عن فرع آخر من فروع التوحيد، وهو توحيد الملك فتقول: (وله من في السماوات والأرض ).
ولأنّهم ملك يده فـ (كلٌّ له قانتون ) وخاضعون.
وواضح أنّ المراد من المالكية وخضوع المخلوقات وقنوتها، الملك
[511]
والقنوت التكوينيان... أي إن زمام أمر الجميع من جهة القوانين التكوينية كلّه في يده، وهم مستسلمون لقانون عالم التكوين وفق مشيئة الله، شاؤوا أم أبوا.
حتى العُتاة الطغاة الألدّاء والمتمردون على القانون والجبابرة، هم مضطرون أيضاً أن يحنوا رؤوسهم لأمر الله في القوانين التكوينية.
والدليل على هذه "المالكية" هو الخالقية والربوبية، فإنّ من خلق الموجودات في البداية وتكفلها بالتدبير، فمن المسلم أنّه هو المالك الأصلي لها لا سواه!
وبما أنّ جميع موجودات الدنيا سواسية في هذا الأمر، فمن الواضح أن لا يكون معه أي شريك في الملك حتى الأوثان والمعبودات المصطنعة التي يتصورها المشركون أنّها أربابهم، هي أيضاً مملوكة لمالك "الملك" والملوك، وهي طوع أمره.
وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ إلى أنّ كلمة "قانت" تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ في الأصل: الطاعة الملازمة للخضوع!
ونقرأ حديثاً عن النّبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال "كل قنوت في القرآن فهو طاعة".
غاية ما في الأمر، تارة تأتي هذه الطاعة "تكوينية" وأُخرى "تشريعية".
وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ كلمة "قانتون" معناها هنا "قائمون بالشهادة على وحدانيته" (1) فهو في الحقيقة بيان لأحد مصاديق الطاعة، لأنّ الشهادة على وحدانية الله نوع من الطاعات.
وحيث أنّ المسائل المرتبطة بالمبدأ والمعاد هي كالنسيج الواحد في انسجامها في سلسلة الآيات الآنفة، والتي ستأتي في ما بعد، ففي الآية التالية يعود القرآن إلى موضوع المعاد، فيقول: (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقل "الآلوسي" في تفسيره "روح المعاني" ذيل الآية محل البحث هذا الكلام عن بعض المفسّرين المتقدمين.
[512]
أهون عليه )(1).
إنّ القرآن يثبت في هذه الآية ـ بأوجز الإستدلال ـ مسألة إمكان المعاد، إذ يقول لهم: إنكم تعتقدون أن بداية الخلق من قبل الله، فعودة الخلق مرّة أُخرى أيسر وأهون من بداية الخلق!.
والدليل على أن عودة الخلق أهون من البداية، هو أنّه في البداية لم يكن شيء ولكن الله هو الذي أبدعه، وفي الإعادة توجد المواد الأصلية على الأقل، فبعضها في طيّات التراب، وبعضها متناثر في الفضاء، وإنّما تحتاج إلى نظم وإلى إعطائها صورتها الأُولى فحسب، فهي أهون!
ولكن من الضروري أن نلتفت إلى هذه "اللطيفة"، وهي أنّ التعبير بالهيّن والصعب، هو من خلال نافذتنا الفكرية، وأمّا بالنسبة للقادر المطلق فلا فرق عنده بين "الصعب والسهل".
وأساساً فإنّ "الصعب والسهل" يصدقان مفهوماً في مكان يكون الكلام عن قدرة محدودة، كأن يستطيع أحد أن يؤدي عملا بصورة جيدة، والآخرة لا يؤديه بصورة جيدة، بل بمشقّة، أمّا حين يكون الكلام على قدرة لا حدّ لها، فلا معنى للصعب والهيّن هناك!
وبتعبير آخر: إنّ حمل "أعظم الجبال" على الأرض بالنسبة إلى الله وحمل أخف الأشياء عليها عنده سواء، لقدرته التي لا يعظم عليها شيء.
وربّما كان لهذا السبب أن عقّب القرآن في ذيل الآية مباشرة بالقول: (وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ).
لأننا لو تصورنا أي وصف كمالي لأي موجود في السماء والأرض، من علم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ينقل "الفخر الرازي" عن "الزمخشري" في تفسير الكشّاف أن الله قال في شأن ولادة عيسى(عليه السلام) دون أب "هو علي هين" ولأنّ كلمة "عليّ" مقدمة، فهي دليل على الحصر، أي إن هذا العمل سهل علي فحسب لا على سواي، أمّا في هذه الآية محل البحث فقد قال: سبحانه: (وهو أهون عليه ) فلا يستفاد منها الحصر، وهي إشارة إلى أن كل من يستطيع أن يؤدي عملا في البداية فهو قادر على إعادته أيضاً "فلاحظوا بدقة".
[513]
وقدرة وملك وعظمة وجود وكرم، فمصداقه الأتم والأكمل هو عند الله، لأنّ الجميع لديهم المحدود من الصفات، إلاّ هو وحده فإنّ لديه الأوصاف غير المحدودة، والجميع لديهم أوصاف عارضة، أمّا أوصاف الله فذاتية، وهو مصدر الكمالات وأساسها.
حتى الألفاظ التي تجري على ألسنتنا لبيان مقاصدنا يوميّاً.. لا يمكن أن تكون مبينة لأوصافه... كما هو في تعبير "أهون" الذي نجده مثلا عندنا.
والجملة الآنفة هي كالآية (180) في سورة الأعراف، إذ ورد فيها (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) والآية (11) في سورة الشورى إذيقول: (ليس كمثله شيء ).
وتنتهي الآية ـ بما هو ضرب من التأكيد أو الدليل، إذ يقول سبحانه: (وهو العزيز الحكيم ).
هو عزيز لا يقهر، إلاّ أنّه وفي منتهى قدرته غير المحدودة لا يصدر منه فعل غير دقيق، فكل أفعاله وفق حكمته.
وبعد بيان قسم آخر من دلائل التوحيد والمعاد في الآيات المتقدمة، يتناول القرآن موضوع "نفي الشرك" في مثال بيّن فيقول: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم ).
هذا المثال هو لو كان لديكم ـ أيّها المشركون ـ عبيد ومماليك فـ (هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) أي أن عبيدكم هؤلاء يشاركونكم في أموالكم وفي ما رزقناكم. بحيث تكونون أنتم وعبيدكم سواء في مالكية هذه الأموال والنعم وتخافون أن يتصرفوا في هذه الأموال بشكل مستقل كما هو الحالة في تصرف شركاءكم الأحرار فيها أو في الميراث مثلا... فأنتم غير مستعدين لأنّ يتصرفوا في أموالكم.
[514]
فلو كان لكم عبيد وملك يمين "وهو ملك مجازي" لما رضيتم بمثل هذا الفعل منهم، فكيف تتصورون المخلوقات التي هي ملك حقيقي لله شركاءه! أو تزعمون أن بعض الأنبياء كالمسيح أو ملائكة الله أو بعض المخلوقات الأُخرى كالجن أو الأصنام الحجرية والخشبيّة شركاءه، ألا ساء ما تحكمون!!
المملوكات المجازية التي يمكن أن تتحرر وتنعتق بسرعة، وتكون في صفوفكم ومن أمثالكم "كما جرى ذلك في الإسلام" ـ لا تكون حالة كونها مملوكة ـ في صف مالكها، وليس لها حق التدخل في منطقة نفوذه، فكيف تجعلون العبيد الحقيقيين أو المملوكات الحقيقية شركاء الله، في حين أنّهم متعلقون بالله ذاتاً ووجوداً، ولا يمكن أن يُسلب هذا التعلق بالله والإرتباط به منهم، وكل ما عندكم فمن عنده، وما أنتم بشيء من دونه!.
قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية ناظرة لما قاله المشركون من قريش، عند التلبية في مناسك الحج، إذ كانوا يقولون عند التلبية.. "لبيك، اللّهم لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكة وما ملك" ... هكذا كان محتوى تلبية المشركين(1).
وبديهي أن شأن نزول هذه الآيات شأن سائر الآيات في نزولها، إذ لا يحدد معنى الآية، كما هي في الوقت ذاته جواب لجميع المشركين، هي مستقاة من حياتهم أنفسهم التي تدور حول الرق والمملوكين، وتحتج عليهم احتجاجاً متيناً.
والتعبير بـ (ما رزقناكم ) يشير إلى هذه اللطيفة، وهي أنّكم لستم المالكين الحقيقيين لهؤلاء العبيد والمماليك، ولا المالكين الواقعيين للمال، لأنّ كل ذلك لله وحده، ولكنّكم غير مستعدين لأن تخوّلوا ممّاليككم المجازيين بالتصرف في أموالكم المجازية وتعدّوهم شركاءكم، في حين أنّه لا يستلزم محالا ولا مشكلة من الناحية التكوينية لأنّ الكلام يدور مدار الإعتباريّات.
غير أن التفاوت بين الله ومخلوقاته تفاوت تكويني ولا يتغيّر، وجعل هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الميزان وتفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين ذيل الآية محل البحث.
[515]
المخلوقات شريكة لله من سابع المستحيلات.
ومن جهة أُخرى فإنّ عبادة أحد الموجودات، إمّا لعظمته، أو لأنّه ينفع ويضر الإنسان، إلاّ أن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر(1).
ويعقب القرآن في ختام الآية للتأكيد والدقة على مضمون السؤال، فيقول: (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ).
أجل، نذكر لكم الحقائق من الأمثلة الواضحة في حياتكم لتفكروا فيها، ولكيلا تنسبوا لله ـ على الأقل ـ ما لا ترضون أن تنسبوه لأنفسكم!.
غير أنّ هذه الآيات البينات وهذه الأمثلة الواضحة هي لأولي الألباب، لا للظالمين عبدة الهوى الجهلة الذين قلوبهم أسدال الجهل، واستوعبت آفاقهم الخرافات والعصبيات، لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم ).
ولذلك فإنّ الله خلّى بينهم وبين أنفسهم بسبب أعمالهم السيئة، فتاهوا في وادي الضلالة (فمن يهدي من أضل الله )؟!
والتعبير بـ "ظلموا" مكان "أشركوا" إشارة إلى أن الشرك بعد أعظم الظلم: فهو ظلم للخالق، إذ جعله مخلوقه إلى جانبه وأشركه معه (ونعرف أن الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه).
وظلم للخلق، إذ منعوهم عن طريق الخير والسعادة "طريق التوحيد".
وظلم لأنفسهم، لأنّهم أطلقوا جميع وجودهم وكيانهم للريح، وظلوا في مفازة عمياء! وبيداء قفراء.
وهذا التعبير ـ ضمناً ـ مقدمة للجملة التالية، وهو إنّما أضلهم الله عن طريق
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فسّر بعض المفسّرين جملة "تخافونهم كخيفتكم أنفسكم" بهذه المناسبة تفسيراً آخر، حاصله أنّ هؤلاء المعبودين ليست لديهم القدرة حتى تخافوهم كما تخافون من بعضكم، فكيف إذا كان الخوف أكثر! "إلاّ أن التّفسير الذي ذكرناه في البداية يبدو أقرب للنظر".
[516]
الحق فبظلمهم، كما جاء مثل هذا التعبير في سورة إبراهيم الآية (27) (ويضل الله الظالمين ).
ولا شك أن من يتركهم الله ويخلّي بينهم وبين أنفسهم (فما لهم من ناصرين ).
وبهذا يوضح القرآن عاقبة هذه الجماعة المشؤومة، ولم لا تكون كذلك؟! وهم يرتكبون "أعظم الذنوب وأعظم الظلم"، إذ عطلوا عقولهم وأفكارهم عن العمل، وتركوا شمس العلم خلف ظهورهم، وتوجهوا إلى ظلمة الجهل والهوى.
فمن الطبيعي أن يسلب الله منهم التوفيق، ويتركهم في ظلماتهم، وما لهم من ناصرين ولا معينين!.
* * *
[517]
الآيات
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها لاَ تَبْدِيلَ لِخْلْقِ اللهِ ذلِكَ الدَّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيهِ وَاتَّقُوهُ وأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَلاَ تَكُونوُاْمِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعَاً كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
التّفسير
كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة الله، عن طريق مشاهدة نظام الخلق، والإستفادة منه لإثبات مبدأ العلم والقدرة في ما وراء عالم الطبيعة، بالاستفادة من آيات التوحيد في هذه السورة!
وتعقيباً على الآيات الآنفة الذكر، فإن الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد الفطري، أي الإستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: (فأقم وجهك للدين حنيفاً ) لأنّها (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).
"الوجه" معناه معروف، وهو مقدم الرأس. والمراد به هنا الوجه الباطني،
[518]
ووجه القلب والروح فعلى هذا ليس المراد هنا من الوجه أو المحيّا وحده، بل التوجه بجميع الوجود، لأنّ الوجه أهم أعضاء البدن!
وكلمة "أقم" مشتقة من الإقامة، ومعناه الإستقامة والوقوف بثبات (على قدم راسخة)...
وكلمة "حنيف" مشتقة من "حَنَف" ، ومعناها الميل من الباطل نحو الحق، ومن الإعوجاج نحو الإستواء والإستقامة، على العكس من "جنف" على وزن "حنف" أيضاً، ومعناها الميل من الإستواء إلى الضلالة والإعواجاج.
فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والإستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال.
فيكون معنى هذه الجملة بمجموعها، أن وجّه نفسك دائماً نحو مبدأ ومذهب خال من أي أنواع الإعوجاج والإنحراف، وذلك هو مبدأ الإسلام ودين الله الخالص والطاهر(1).
إنّ الآية المتقدمة تؤكّد على أن الدين الحنيف الخالص الخالي من كل أنواع الشرك، هو الدين الذي ألهمه الله سبحانه في كل فطرة، الفطرة الخالدة التي لا تتغير، وإن كان كثير من الناس غير ملتفت لهذه الحقيقة.
والآية المتقدمة تبين عدة حقائق:
1 ـ إنّ معرفة الله ـ ليست وحدها ـ بل الدين والإعتقاد بشكل كلي وفي جميع أبعاده هو أمر فطري، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ الدراسات التوحيدية تؤكّد أن بين جهاز التكوين والتشريع انسجاماً لازماً، فما ورد في الشرع لابدّ أن يكون له جذر في الفطرة، وما هو في التكوين وفطرة الإنسان متناغم مع قوانين الشرع!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الألف واللام في كلمة "الدين" هما للعهد، وهما هنا إشارة إلى الدين الذي أمر النّبي(صلى الله عليه وآله) أن يبلغه، أي دين "الإسلام" .
[519]
وبتعبير آخر: إنّ التكوين والتشريع عضدان قويان يعملان بانسجام في المجالات كافة، فلا يمكن أن يدعو الشرع إلى شيء ليس له أساس ولا جذر في أعماق فطرة الإنسان، ولا يمكن أن يكون شيء في أعماق وجود الإنسان مخالف للشرع!
وبدون شك فإنّ الشرع يعين حدوداً وقيوداً لقيادة الفطرة لئلا تقع في مسار منحرف، إلاّ أنّه لا يعارض أصل مشيئة الفطرة، بل يهديها من الطريق المشروع، وإلاّ فسيقع التضاد بين التشريع والتكوين، وهذا لا ينسجم مع أساس التوحيد.
وبعبارة أُخرى: إنّ الله لا يفعل أعمالا متناقضة أبداً، بحيث يقول أمره التكويني: افعل! ويقول أمره التشريعي: لا تفعل.
2 ـ إنّ الدين له وجود نقي خالص من كل شائبة داخل نفس الإنسان، أمّا الإنحرافات فأمر عارض، ووظيفة الأنبياءإذن إزالة هذه الأُمور العارضة، وفسح المجال لفطرة الإنسان في الأشراق.
3 ـ إنّ جملة (لا تبديل لخلق الله ) وبعدها جملة (ذلك الدين القيّم )تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطرياً، وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة!... وإن كان كثير من الناس لا يدركون هذه الحقيقة بسبب عدم رشدهم كما ينبغي!
وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أن الفطرة في الأصل من مادة "فطر" على زنة "بذر" ومعناها شق الشيء من الطول، وهنا معناها الخلقة، فكأن ستار العدم ينشق عند خلق الموجودات ويبرز كل شيء منها.
وعلى كل حال فمنذ أن وضع الإنسان قدمه في عالم الوجود، كان هذا النور متوقداً في داخله، من أوّل يوم ومن ذلك الحين!
والرّوايات المتعددة التي وردت في تفسير الآية تؤيد ما ذكرناه آنفاً، وسنتحدث عن ذلك لاحقاً إن شاء الله، بالإضافة إلى الأبحاث الأُخرى في مجال كون التوحيد فطرياً.
[520]
ويضيف القرآن في الآية التالية: ينبغي أن يكون التفاتكم للدين الحنيف والفطري حالة كونكم (منيبين إليه ) فأصلكم وأساسكم على التوحيد، وينبغي أن تعودوا إليه أيضاً.
وكلمة "منيبين" من مادة "إنابة" وهي في الأصل تعني الرجوع المكرر، وتعني هنا الرجوع نحو الله والعودة نحو الفطرة (التوحيدية) ومعناها متى ما حصل عامل يحرف الإنسان عقيدته وعن أصل التوحيد فينبغي أن يعود إليه.. ومهما تكرر هذا الأمر فلا مانع من ذلك الى أن تغدو أسس الفطرة متينة وراسخة، وتغدو الموانع والدوافع خاوية ويقف الانسان بصورة مستديمة في جبهة التوحيد، ويكون مصداقاً للآية (وأقم وجهك للدين حنيفاً ).
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أن (أقم وجهك ) جاءت بصيغة الإفراد، وكلمة "منيبين" جاءت بصيغة الجمع، وهذا يدل على أنّه وإن كان الأمر الأوّل مخاطباً به النّبي(صلى الله عليه وآله) إلاّ أن الخطاب ـ في الحقيقة ـ لعموم المؤمنين وجميع المسلمين.
ويعقب على الأمر بالإنابة والعودة إليه، بالأمر بالتقوى، وهي كلمة تجمع معاني أوامر الله ونواهيه، إذ يقول: (واتقوه ) أي اتقوا مخالفة أوامره!.
ثمّ يؤكّد القرآن على موضوع الصلاة من بين جميع الأوامر فيقول: (وأقيموا الصلاة ).
لأنّ الصلاة في جميع أبعادها، هي أهم منهج لمواجهة الشرك، وأشد الوسائل تأثيراً في تقوية أسس التوحيد والإيمان بالله سبحانه.
كما أنّه يؤكّد في نهيه عن "الشرك" من بين جميع النواهي فيقول: (ولا تكونوا من المشركين ).
لأنّ الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، إذ يمكن أن يغفر الله جميع الذنوب إلاّ الشرك بالله، فإنّه لا يغفره. كما نقرأ في الآية (48) من سورة النساء (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ).
[521]
وواضح أن الأوامر الأربعة الواردة في هذه الآية، هي تأكيد على مسألة التوحيد وآثاره العملية، فالمسألة أعمّ من التوبة والعودة إليه تعالى وإلى تقواه وإقامة الصلوة وعدم الشرك به.
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يبيّن القرآن واحداً من آثار الشرك وعلائمه في عبارة موجزة ذات معنى كبير، فيقول: لا تكونوا من المشركين الذين انقسموا في دينهم على فرق واحزاب كثيرة: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ).
والعجيب في الأمر أنّهم على تضادّهم واختلافهم فإنّ (كلّ حزب بما لديهم فرحون ).
أجل، إن واحدة من علائم الشرك هي التفرقة، لأنّ المعبودات المختلفة هي منشأ الأساليب المتفاوتة وهي أساس الإنفصال والتفرق، خاصة وأنّ الشرك هو توأم عادة لهوى النفس والتعصّب والكبر والأنانية وعبادة الذات، أو متولد عنها، لذلك لا يمكن أن تتحقق الوحدة والإتحاد إلاّ في ظل عبادة الله، والعقل والتواضع والإيثار!.
فعلى هذا، حيثما وجدنا تفرقة واختلافاً فينبغي أن نعرف أن نوعاً من الشرك حاكم هناك، ويمكن أن نستنتج من هذا الموضوع أن نتيجة الشرك هي تفرق الصفوف، والتضاد، وهدر القوى، وأخيراً الضعف وعدم القدرة.
وأمّا مسألة (كل حزب بما لديهم فرحون ) فهي واضحة ودليلها بيّن، حين يعتقدون أن ما لديهم حق، لأنّ الهوى يزيّن للنفس عملها في نظر الإنسان وهذا التزيين نتيجته التعلق أكثر فأكثر، والفرح بالطريق الذي اختارته النفس، وإن كان هذا الطريق يؤدي إلى الضلال والإنحراف.
إنّ عبادة الهوى لا تسمح للإنسان أن يرى وجه الحقيقة كما هو، ولا يمكنه أن يقضي قضاءً صحيحاً خالياً من الحبّ والحقد.
[522]
يقول القرآن المجيد في الآية (8) من سورة فاطر: (فمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ).. كالذي يمضي في طريق الحق، ويرى الحقائق كما هي، ويعرفها حق المعرفة؟!
* * *
بحثان
1 ـ التوحيد باعث داخلي قوي:
كما أنّ الدلائل العقلية والمنطقية توجّه الإنسان، فإنّ في داخله دوافع وموانع أيضاً.. بحيث تعين له الجهة "أحياناً" من حيث يدري أو لا يدري!
وفلسفة وجودها في داخل الإنسان، هي أنّ الإنسان لا يستطيع ـ دائماً ـ أن ينتظر إيعاز العقل والمنطق، لأنّ هذا العمل قد يعطل الأهداف "الحياتية" بعض الأحيان.
فمثلا لو أراد الإنسان أن يستلهم من منطق "لزوم بدل ما يتحلل" ضرورة تناول الطعام.. أو "لزوم استمرار النسل عن طريق التوالد والتناسل" ضرورة الممارسة الجنسية، وأن يعمل ويتحرك وفق المنطق في كل ذلك، لكان ينبغي أن ينقرض الإنسان ـ قبل هذا الزمان بكثير ـ إلاّ أن الغريزة الجنسية من جهة وجاذبيتها، والإشتهاء للطعام من جهة أُخرى، يجرانه نحو هذا الهدف شاء أم أبى. وكلما كانت الأهداف حياتيةً أكثر وعمومية، كانت هذه "الدوافع" أشد وأقوى أيضاً.
لكن ينبغي الإلتفات إلى أن هذه الدوافع على نحوين:
فبعضها باطنية (غير واعية) لا تحتاج إلى وساطة العقل والشعور، كما ينجذب الحيوان نحو الطعام والجنس دون الحاجة إلى التفكير.
وقد يكون تأثير الدوافع عن طريق الوعي، أي إن هذه الدوافع الداخلية
[523]
تترك أثرها في العقل والتفكير وتدفعه إلى انتخاب الطريق!
وعادة يطلق على النوع الأوّل من هذه الدوافع "الغريزة" وعلى النوع الثّاني "الفطرة" (فلاحظوا بدقّة).
عبادة الله والإتجاه نحوه لهما مكانه في نفوس جميع الناس، وهو ما يصطلح عليه بـ "الفطرة".
ويمكن أن يعدّ بعض الناس هذا الكلام ادعاءً محضاً، يدّعيه المؤمنون، إلاّ أن لدينا دلائل وشواهد مختلفة توضح بجلاء كون "الميل إلى الله" فطرياً، بل تؤكّد هذا الميل في جميع اصول الدين وأبعاده:
1 ـ إنّ دوام الإعتقاد الديني والإيمان بالله على امتداد التاريخ البشري بنفسه دليل على الفطرة! لأنّه إذا كان ذلك على سبيل العادة، لما كانت له جنبة عمومية ولا جنبة دائمية، فهذا العموم وهذا الدوام دليل على فطرية الحالة.
يقول المؤرخون الكبار: لم يُر في المجتمعات الإنسانية في أعماق التاريخ البشري، وفي عصر ما قبل التاريخ أن اقواماً بشرية عاشت بلا دين إلاّ بشكل استثنائي.
ويقول "ويل دورانت" المؤرخ المعاصر:
"إذا عرّفنا الدين على أنّه عبادة القوى التي هي أسمى من الطبيعة، فينبغي أن نأخذ بنظر الإعتبار هذه المسألة الدقيقة، وهي أن بعض الأُمم البدائية لم يكن لها أي دين ظاهراً" ثمّ يضيف بعد ذكر أمثلة لهذا الموضوع: فما ذكر من الأمثلة هو في عداد الحالات النادرة، والرأي القائل: التدين يشمل عموم أفراد البشر، يوافق الحقيقة"!
ثمّ يضيف قائلا: "تعدّ هذه القضية في نظر الفيلسوف واحدة من القضايا الأساسية في التاريخ والدراسات النفسيّة، فهو لا يقنع بهذه المسألة: إنّ جميع الأديان محشوّة بالباطل واللغو والخرافات، بل هو ملتفت إلى هذه المسألة، وهي
[524]
أن الدين منذ قديم الأيّام كان مرافقاً للتاريخ البشري"(1).
ويختتم كلامه بهذا الإستفهام الكبير معنىً ومغزى "ترى أين هو مصدر التقوى التي لا يخلوا القلب منها بأي وجه"؟!
وهذا المؤرخ نفسه يقول في تحقيقاته حول وجود الدين في فترات ما قبل التاريخ "وإذا لم نتصور للدين جذوراً في فترات ما قبل التاريخ، فلا يمكن أن نعرفها في الفترة التاريخية كما هي عليه"(2).
والتنقيبات عن إنسان ما قبل التاريخ التي تمت عن طريق الحفر، تؤيد هذا الموضوع أيضاً، كما يصرح بذلك العالم الإجتماعي "ساموئيل كنيج" في كتابه "دراسة المجتمع": إن الأسلاف الماضين للإنسان المعاصر "ممن ينتمون إلى إنسان نئاندرتال" كان لديهم دين حتماً، ويستدلّ بعدئذ لإثبات هذا الموضوع بالآثار التي عثر عليها عن طريق التنقيب والحفر، ومنها أنّهم كانوا يدفنون موتاهم بكيفية خاصة، ويدفنون معهم أشياء تدل على اعتقادهم بيوم القيامة".(3)
وعلى كل حال، فإنّ فصل الدين عن التاريخ البشري لا يمكن أن يقبله أي محقق وباحث.
2 ـ إنّ المشاهدات عياناً في العالم المعاصر تكشف أنّه مع جميع ما بذل الطغاة والمستبدون ـ وأنظمتهم الجائرة من جهود وسعي لمحو الدين وآثاره وعن طرق مختلفة ـ لم يستطيعوا أن يستأصلوا الدين وجذوره من أعماق هذه المجتمعات.
ونعرف جيداً أنّ الحزب الشيوعي الحاكم في الإتحاد السوفياتي، ومنذ أكثر من ستين سنة، وبوسائل الإعلام و "الدعايات" المختلفة، حاول أن يغسل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تاريخ التمدن، ج 1، ص 87 ـ 89.
2 ـ تاريخ التمدن، ج 1، ص 156.
3 ـ دراسة المجتمع، ص 192 أصله بالفارسية وعنوانه جامعه شناسي.
[525]
الأذهان والعقول والقلوب من الإعتقادات الدينية مستعيناً بالخلايا التنظيمية الجماعية، إلاّ أنّ الأخبار التي تسربت وتهربت من ذلك المحيط المغلق، وما نقرؤه في الصحف والجرائد، تكشف أنّهم "أي الحزب الحاكم في روسيا" مضافاً الى عدم تحقيقهم هدفهم بالرغم من تشددهم في وسائل الإعلام، فإنّه تبدو هذه الأيّام حالة من التطلع المتزايد الى المسائل الدينية في بعض الدول الإشتراكية وجمهوريات روسيا ممّا أقلق قادة النظام، وهذا يدل على أنّه لو رفعوا الضغوط ولو يوماً واحداً، لعاد الدين إلى مكانه بسرعة فائقة، وهذا بنفسه شاهد آخر على فطرية الدافع الديني أيضاً.
3 ـ الكشوفات الأخيرة من قبل النفسانيين وعلماء النفس في مجال أبعاد الروح الإنسانية، شاهد آخر على هذا المدعى، إذ أنّهم يقولون: "إنّ التحقيقات في المجالات النفسيّة تشير إلى بعد أصيل هو "البعد الديني" أو بتعبير آخر "بعد قدسي" أو "رباني" وربّما عدّوا هذا البعد أساساً للأبعاد الثلاثة الأُخرى وهي "البعد العلمي" ، و"البعد الجمالي"، و"البعد الخيّر".
إذ يدّعون بأن البواعث الأساسية للروح البشرية هي هذه:
1 ـ دافع البحث عن الحقيقة (الشعور العلمي) وهو مصدر أنواع العلوم، والأهداف التحقيقية المستمرة، والمتابعات في معرفة عالم الوجود!
2 ـ حس "الإحسان والعمل الصالح" الذي يجذب الإنسان نحو المفاهيم الأخلاقية كالتضحية والإيثار والعدل والشهامة وأمثالها. حتى أنّه لو كان الإنسان غير واجد لهذه الصفات، فإنّه يعشق من تتوفر فيهم هذه الصفات، وهذا يدل على أن العشق للعمل الصالح والإحسان كامن في جذور النفس.
3 ـ الحس "الجمالي" : وهو يجذب الإنسان نحو الفن الأصيل والأدب والمسائل الذوقية، وربّما أصبح مصدر التحول في حياة الفرد أو المجتمع أحياناً.
4 ـ الحس "الديني"، أي الإيمان بمبدأ عال وعبادته واتّباعه.
[526]
ونقرأ في مقالة كتبها "كوونتايم" في هذا المجال مايلي:
"إنّ معرفة النفس بالبحث داخل النفس البشرية غير الواعية ـ التي بوشر بها بواسطة فرويد "في البداية" استمرّت بالإستعانة بـ"آدلر" و "يونك" ـ في أعماق روح الإنسان وصلت إلى عالم جديد من القوى المستورة، وأنحاء الدرك والمعرفة وراء العقل، ويمكن أن يكون الحسّ الديني مفتاحاً من مفاتيح حل هذه الأحجية.
وبالرغم من أنّنا بعيدون للآن عن اتفاق الآراء، إلاّ أنّه ومع هذه الحال فما يزال "مسير فكري" في ازدياد يوماً بعد يوم، إذ يعتقد كثير من المفكرين بالتعريف الذي نورده ذيلا:
"إنّ الحس الديني واحد من العناصر الأولية الثابتة والطبيعية لروح الإنسان، وهو أكثرها أصالة وما هويّة، ولا يمكن مطابقته لأي من الأحساسيس والدوافع الأُخرى، حيث يمدّ جذوره الى أعماق اللاوعي ويعدّ "المفهوم الديني" أو بتعبير أصح "المفهوم المقدس" بالنسبة لمفاهيم الجمال والإحسان والحقيقة، مقولة رابعة، ولها أصالة المفاهيم الثلاثة ذاتها واستقلالها أيضاً(1).
كما نقرأ في المقالة المترجمة المقتبسة عن المحقق "تان كي دو ـ كنتن" ما يلي "كما أن من مزايا العصر الحاضر ـ في عالم الطبيعة ـ هو اكتشاف البعد الرابع، الذي أطلق عليه اسم "بعد" الزمان مضافاً الى الأبعاد الثّلاثة للجسم، وهو في الوقت ذاته جامع لها، فكذلك اكتشفت في هذا العصر المقولة الرابعة "المقدسة" أو المقولة الإلهية "الربانية" بموازاة المفاهيم الثلاثة "الجمال، الإحسان، طلب الحقيقة" وهي البعد الرّابع لروح الإنسان، ففي هذا المقام أيضاً فان هذا البعد الرّابع الروحي منفصل عن الأبعاد الثلاثة الأخرى، وربّما كان هذا البعد منشأ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يراجع كتاب الحسّ المذهبي أو البعد الرّابع ترجمه مهندس بياني [ للكاتب كوونتايم] .
[527]
ولادة الأبعاد الثلاثة الأخرى"(1).
4 ـ إن التجاء الإنسان في الشدائد والمحن إلى قوة خفية وراء الطبيعة، وطلب حل المشاكل والازمات من قبل هذه القوة، لهو أيضاً شاهد آخر على أصالة هذا الدافع الباطني والإلهام الفطري، ويمكن ـ بضمها إلى مجموع الشواهد التي ذكرناها آنفاً ـ أن توقفنا على مثل هذا الدافع الباطني في داخلنا نحو الله سبحانه.
وبالطبع فمن الممكن أن يعدّ بعضهم هذا التوجه من آثار التلقينات أو الإعلام الديني في المحيط الإجتماعي المتدين!
إلاّ أن عمومية هذه الظواهر في جميع الناس، حتى في أُولئك الذين لا علاقة لهم بالمسائل الدينية عادةً، تدلّ على أن لها جذراً أعمق من هذه الفرضية.
5 ـ وفي حياة الإنسان حوادث وظواهر لا يمكن تفسيرها إلاّ عن طريق أصالة الحسّ الديني... فكثير من الناس نجدهم قد ضحوا بجميع ما لديهم من الإمكانات المادية، ولا يزالون يضحون أيضاً، ويصبّون كل ما عندهم مع ما لديهم من سوابق تحت قدم الدين، وربّما قدّموا أنفسهم في سبيله أيضاً.
الشهداء الذين شربوا كأس الشهادة ـ من أجل تقدم الأهداف الإلهية وتحقّقها ـ بشوق وعشق بالغين، بحيث نرى أمثالهم في تاريخ جهاد الإسلام الطويل، بل في تأريخ الأمم الأُخرى أيضاً، يكشفون عن هذه الحقيقة، وهي أن الحس الديني له جذر عميق في روح الإنسان.
لكن قد يرد على هذا الكلام إشكال، وهو أنّ أفراداً ـ كالشيوعيين مثلا ـ لهم موقع إلحادىّ ـ ضد الأيدلوجية والدين ـ ولا يكتمون موقعهم هذا أبداً.. كما أن لهم مواقف تضحوية في سبيل حفظ فكرتهم واعتقادهم!
إلاّ أنّ هذا الإشكال ينحل تماماً بملاحظة هذه المسألة، وهي أنّه حتى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر نفسه الطبعة الثّانية، ص 39.
[528]
الشيوعيون الذين ينفون الدين كليّاً ـ بحسب الظاهر ـ ويعتقدون أن الدين مرتبط بالتأريخ القديم، ولا يمكن أن يكون له مكان في المجتمعات الشيوعية.. أجل، إن هؤلاء أنفسهم قد قبلوا بالدين بشكل آخر عن طريق العقل الباطني "واللاوعي".
فهم يقدّسون زعماءهم وقادتهم بالنظرة التي ينظرها المصريون القدماء أوثانهم، وصفوفهم الطويلة عند جسد "لينين" لزيارته هي شاهد آخر على هذا الموضوع أيضاً.
وهم عادة يعتبرون الأصول الماركسية كوحي السماء لا تقبل النقد والخدش، فهي مقدّسة عندهم، ويتصورون أن ماركس ولينين وأنجلس كالمعصومين من الأخطاء والسهو، ويعدون مراجعة العقل لاتخاذ موقف جديد من هذه الأصول ذنباً لا يغتفر أبداً.. ويخاطبون مخالفيهم بتعبيرنا الديني على أنّهم "مرتدون" وعلى هذا فهم يعتقدون بكثير من المفاهيم والمسائل الدينية، غاية ما في الأمر هو أن تفكير هم نوع من الفكر الديني في شكل منحرف!
2 ـ فطرة التوحيد في الأحاديث الإسلامية
موضوع "معرفة الله الفطرية" لم يختص به القرآن الكريم فحسب، بل هو وارد في الأحاديث الإسلامية بشكل يسترعي الإنتباه، حيث أن بعضها يؤكّد على التوحيد بالفطرة، وبعضها يؤكّد على المعرفة، وقسم يتناول الفطرة "على الإسلام" وأخيراً فإن قسماً منها تناول عنوان الولاية أيضاً.
ففي حديث معتبر يرويه المحدث الكبير الشيخ الكليني في أصول الكافي، وهو ما نقله عن هشام بن سالم، قال: سألت الإمام الصادق(عليه السلام): ما المراد من قوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها )... فقال "هي التوحيد" (1).
كما ورد في الكافي نفسه نقلا عن بعض أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أصول الكافي، ج 2، ص 10، باب "فطرة الخلق على التوحيد".
[529]
حين سأله عن تفسير الآية المتقدمة فقال الإمام(عليه السلام) "هي الإسلام" (1).
كما نقرأ حديثاً متشابهاً لما سبق ـ عن الإمام الباقر(عليه السلام) جواباً لزرارة أحد أصحابه العلماء حين سأله عن تفسير الآية فقال(عليه السلام) "فطرهم على المعرفة به" (2).
والحديث المنقول عن النّبي(صلى الله عليه وآله) "كل مولود يولد على الفطرة حتى ليكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه" يؤكّد هذا المضمون أيضاً(3).
وأخيراً فإننا نقرأ في أصول الكافي حديثاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً في تفسير الآية قال: "هي الولاية" (4).
وقد ورد في الخطبة الأُولى لنهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) حديث موجز العبارة غزير المعنى، إذ يقول(عليه السلام) "فبعث فيهم رسوله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول".
وطبقاً للرّوايات المتقدمة، فليست معرفة الله هي الفطرية فحسب، بل مجموع الإسلام بشكل موجز "مضغوط" كامن في داخل الفطرة الإنسانية بدءاً من التوحيد وانتهاءً بالقادة الإلهيين وخلفائهم الصادقين، وكذلك فروع الأحكام أيضاً.
فعلى هذا، وطبقاً للتعبير الوارد في نهج البلاغة، فإن عمل الإنبياء هو رعاية الفطرة حتى تفتح، وتذكر الناس نعم الله المنسية، ومن جملة هذه النعم الفطرة على التوحيد، واستخراج كنوز المعرفة الدفينة في روح الإنسان وأفكاره!
وممّا يسترعي الإنتباه أن القرآن الكريم ـ في آيات متعددة ـ يتخذ من الشدائد والمشاكل والحوادث المؤلمة التي يمر بها الإنسان في حياته مناخاً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ تفسير "جمع الجوامع" للمرحوم الطبرسي ذيل الآية محل البحث.
4 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 184.
[530]
ملائماً للحس الديني، أذ يقول في واحدة من هذه الآيات: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلّما نجاهم إلى البرّ إذا هم يشركون )(1).
وسنتحدث بإذن الله في هذا المجال ذيل الآيات المقبلة التي تشبه الآيات من سورة العنكبوت أيضاً.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ العنكبوت، الآية 65.
[531]
الآيات
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَـهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِها وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
التّفسير
إنّ الآية الأُولى من المقطع الذي بين أيدينا، هي في الحقيقة استدلال وتأكيد على البحث السابق في مجال كون التوحيد فطرياً، وتفتح هذا النور الإلهي عند الشدائد والصعاب! إذ تقول الآية: (وإذا مس الناس ضرّ دعوا ربّهم منيبين إليه ).
إلاّ أنّهم الى درجة من السطحية والغباء التعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم المشركين، بحيث أنّه بمجرّد انتهاء المشكلة وهبوب نسيم الرحمة الالهية.. (ثمّ إذا أذاقهم منه رحمةً إذا فريق منهم بربّهم يشركون ).
والتعبير بـ (مسّ الناس ضرّ ) إشارة إلى اصابتهم بقليل من الضرر... كما أنّ التعبير (أذاقهم منه رحمة ) إشارة إلى بلوغ شيء من النعمة، لأنّ التعبير بـ "مسّ"
[532]
أو "ذاق" في مثل هذه الموارد يطلق على الأُمور القليلة والجزئية، وخاصّة باستعمال كلمتي "ضر" و "رحمة" نكرتين.
أي إنّ طائفةً تبلغ بهم الحال إلى أن يفزعوا إلى الله عند حدوث أقل مشكلة لهم، وتنكشف الحُجب عن فطرتهم التوحيدية، ولكن إذا رأوا نعمة ولو بأقل ما يتصوّر، فإنّهم يغفلون عن واقعهم كليّاً، وينسون كل شيء!
وبالطبع ففي الحالة الأُولى يبيّن القرآن أنّ الناس يفزعون جميعاً إلى الله عند الضر والشدائد، لأنّ فطرة التوحيد موجودة في الجميع.
ولكن في الحالة الثّانية يتحدث القرآن عن جماعة تسلك طريق الشرك فحسب، لأنّ طائفة من عباد الله يذكرون الله في الشدائد وفي الرخاء وفي السراء والضراء. فلا تُنسيهم المتغيّرات ذكر الله أبداً.
والتعبير بـ (منيبين إليه ) ـ كما رأينا في مفهوم الإنابة سابقاً ـ من مادة "النوب" وتعني العودة ثانيةً إلى الشيء، هذا التعبير إشارة لطيفة للمعنى التالي، وهو أنّ الأساس في الفطرة هو توحيد الله وعبادته، والشرك أمر عارض، حيث متى ما يئسوا منه فهم يعودون نحو الإيمان والتوحيد، شاؤوا أم أبوا!.
والطريف هنا أنّ "الرحمة" في الآية مسندة إلى "الله" ، فهو سبحانه مصدر الرحمة للعباد، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر إلاّ أن الضرّ لم يسند إليه سبحانه، لأنّ كثيراً من الإِبتلائات والمشاكل التي تحوطنا هي من نتائج أعمالنا وذنوبنا.
و كلمة "ربّهم" التي تكررت في الآية تكررت في الآية مرّتين، تؤكّد على أنّ الإِنسان يحسّ بالتدبير الإِلهي وربوبية الله على وجوده ما لم تؤثر عليه التعليمات الخاطئة فتسوقه نحو الشرك والضلال.
وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ الضمير في كلمة "منه" يعود إلى الله، وهذا تأكيد على أن جميع النعم من الله سبحانه. وقد اختار كثير من المفسّرين هذا المعنى أمثال "الطباطبائى" في الميزان، و"الطوسي" في التبيان، و"أبو
[533]
الفتوح الرازي" في تفسيره وغيرهم، وإن ذهب غيرهم كالفخر الرازي الى إن الضمير في كلمة "منه" يعود على الضرّ، وفسّروا الآية هكذا "حين يذيق الله عباده بعد الضرّ رحمة. إذا فريق منهم يشركون بالله". (فيكون معنى "من" هنا البدلية). إلاّ أنّه من الواضح أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية!
أمّا الآية الأُخرى فجاءت بعنوان التهديد لأُولئك المشركين، الذين ينسون ربّهم عند نيل النعم، إذ تقول: اتركهم (ليكفروا بما آتيناهم ) وليفعلوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! ثمّ يخاطب المشركين بأن يتمتعوا بهذه النعم والمواهب الدنيوية الفانية. وسوف يرون العاقبة السيئة لذلك: (فَتمتعوا فسوف تعلمون )(1)
و بالرغم من أنّ المخاطبين بالآية هم المشركون، إلاّ أنّه لا يَبعُد أن يكون لها مفهوم واسع بحيث يشمل جميع الذين ينسون الله عند إقبال النعم، وينشغلون بالتمتع بهذه النعم فحسب، دون أن يذكروا واهب النعم.
وبديهيٌ أن صيغة الأمر استعملت هنا للتهديد!.
والقرآن في الآية الأُخرى يصوغ الكلام في صيغة الإِستفهام المقرون بالتوبيخ فيقول: (أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ).
"أم" هنا للإستفهام، ويحمل الإِستفهام هنا غرضاً استنكارياً وتوبيخاً... أي إن سلوك هذا الطريق والخطة يجب أن يكون إمّا لنداء الفطرة، أو بحكم العقل، أو بأمر الله، لكن حين يصرخ الوجدان والفطرة في الشدائد والملمات بالتوحيد.... فإن العقل يقول أيضاً: ينبغي التوجه نحو واهب النعم.
يبقى أن حكمَ الله في هذه الآية هو في مورد النفي، أي: لم يؤمروا من قِبل الله بمثل هذا الأمر، فعلى هذا فإن هؤلاء في اعتقادهم هذا لم يستندوا إلى أي أصل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إنّ "اللام" في جملة "ليكفروا" هي لام الأمر، وهذا الأمر للتهديد، وكذلك جملة "تمتعوا" إذ هي للتهديد أيضاً. وإن كانت الأُولى جاءت بصيغة "الغائب" والثّانية بصيغة "الخطاب"... فكأنّما افترض في الحالة الأُولى أنّهم غيّاب ثمّ من أجل التشدّد بالتهديد جعلهم مواجهين للتهديد والخطاب، إلاّ أنّ بعض المفسّرين عدّوا "اللام" للعاقبة، أي كان عاقبة أمرهم الكفر بنعم الله، إلاّ أن المعنى الأوّل أكثر انسجاماً مع ظاهر الآية.
[534]
مقبول!.
و "السلطان" معناه ما يدل على السلطة وينتهي إلى الإِنتصار عادةً، ومعناه هنا هو الدليل المحكم المقنع.
والتعبير بـ "يتكلم" هو نوع من التعبير المجازي، إذ ترانا نعبر عند وضوح الدليل قائلين "كأن هذا الدليل يتكلم مع الإِنسان"!
واحتمل بعض المفسّرين أن المراد بالسلطان هنا هو أحد الملائكة المقتدرين، فيكون استعمال "يتكلم" هنا على نحو الحقيقة، أي لم نرسل عليهم ملكاً يتكلم بالشرك فيتبعوه!.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أوضح كما يبدو!
أمّا آخر آية من الآيات محل البحث، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الاغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة، فتقول: (وإذا أذقنا الناس رحمةً فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ).
في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر الله عند النعم، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة، إذ هم يشكرون الله على نعمه، ويرون المصيبة امتحاناً واختباراً، أو يعدونها نتيجة أعمالهم، فيصبرون ويتّجهون إلى الله تعالى.
فالمشركون يعيشون دائماً بين "الغرور" و "اليأس" ، أمّا المؤمنون فهم بين "الشكر" و "الصبر" .
ويستفاد ضمناً من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسماً من المصائب والإِبتلاءات التي تحل بالإِنسان هي ـ على الأقل ـ نتيجة أعماله وذنوبه، فالله يريد أن ينبههم ويطهرهم ويلفتهم إليه.
و ينبغي الإِلتفات الى أنّ جملة (فرحوا بها ) ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة، وهي الحالة التي يكون عليها الأراذل عندما تتهيأ لهم وسائل العيش والحياة، وإلاّ فإن
[535]
السرور المقرون بالشكر والتوجه نحو الله ليس أمراً سيئاً، بل هو مأمور به (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا )(1).
والتعبير (بما قدمت أيديهم ) الذي ينسب المعاصي إلى الأيدي، هو لأنّ أكثر الذنوب والأعمال يكون على يد الإِنسان، وإن كانت هناك ذنوب يكتسبها القلب أو البصر أو السمع، إلاّ أن كثرة الأعمال التي تصدر عن اليد استدعى هذا التعبير.
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: ألا تخالف هذه الآية، الآية الثّالثة والثلاثين "ما قبل آيتين" لأنّ الكلام في هذه الآية عن يأسهم عند المصائب، في حين أن الآية السابقة تتحدث عن توجههم إلى الله عند بروز المشاكل والشدائد. والخلاصة، إن واحدة من الآيتين تتحدث عن "الرجاء" والأُخرى عن "اليأس"؟
لكن مع الإِلتفات إلى مسألة دقيقة يتّضح جواب هذا السؤال، وذلك أن الآية المتقدمة كان الكلام فيها عن "الضر" أي الحوادث الضارة كالطوفان والزلزلة والشدائد الأُخرى التي تصيب عامة الناس "الموحدين منهم والمشركين". فيتذكرون الله في هذه الحال، وهذا واحد من دلائل الفطرة على التوحيد.
أمّا في الآية محل البحث فالكلام على نتائج المعاصي واليأس الناشىء منها، لأنّ بعض الأفراد إذا عملوا صالحاً أصبحوا مغرورين وحسبوا أنفسهم مصونين من عذاب الله، وحين يعملون السيئات وتحلّ بهم العقوبة فيغم وجودَهم اليأسُ من رحمة الله، فكلتا الحالين "العُجب والغرور" و "اليأس والقنوط من رحمة الله" مذمُومتان!
فعلى هذا تكون كلّ آية من الآيتين قد تناولت موضوعاً منفصلا عن الآخر.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يونس، الآية 58.
[536]
الآيات
أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيت لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ (37) فَأَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيِلْ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَآءَ اتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللهِ وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَوة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَىْء سُبْحَـنَهُ وَتَعَـلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
التّفسير
الآية الأُولى من الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد والربوبيّة أيضاً، وانسجاماً مع سياق الآيات السابقة التي كانت تتحدث عن غرور بعض الناس الماديين عند إقبال النعمة عليهم، ويأسهم وقنوطهم عند مواجهتهم الشدائد والبلاء، فإنّها تقول: (أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ).
فلا ينبغي أن يكون إقبال النعم مدعاةً للغرور ونسيان الله والطغيان، ولا إدبارها سبباً لليأس والقنوط، لأنّ سعة الرزق وضيقه بيد الله، فتارة يرى المصلحة
[537]
للعبد في الحالة الأُولى "سعة الرزق"، وتارةً يراها في الثّانية، أي "الضيق".
وصحيح أنّ العالَم هو عالم الأسباب، فمن جَدّ وجد، ومن سعى قاوم الصعاب ينلْ فائدة أكثر ويربح عادةً، وأمّا أُولئك الكسالى فلا ينالون إلاّ قليلاً... لكن هذه القاعدة في الوقت ذاته ليست دائمية ولا كلية، إذ يتفق أن نرى أناساً جديرين وجادّين يركضون من هنا وهناك، إلاّ أنّهم لا يصلون إلى نتيجة يبلغون هدفهم، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناساً لا يسعون ولا يجدّون وتتفتح عليهم أبواب الرزق من كل حدب وصوب.
وهذه الإِستثناءات كأنّها لبيان أنّ الله بالرغم من جميع ما جَعَل للأسباب من تأثير، لا ينبغي أن يُنسى في عالم الأسباب، ولا ينبغي للانسان أن يغفل أن وراء هذا العالم يداً قوية أُخرى تديره كيف شاءت!
فأحياناً ـ ووفق مشيئته ـ توصد جميع الأبواب بوجه الإِنسان مهما سعى وجدّ في الأمر، وقديرحم الانسان وييسّر له الاُمور الى درجة انه ما أن يخطو خطوة... وإذا الأبواب متفتحة أمامه!
فما نرى في حياتنا من هذه المفارقات، بالإِضافة إلى أنّه يحدّ من الغرور المتولد من وفور النعمة، واليأس الناشىء من الفقر، فهو في الوقت ذاته دليل على أن وراء إرادتنا ومشيئتنا يداً قوية أُخرى "تسيّر أعمالنا".
لذلك يقول القرآن في نهاية الآية: (إنّ في ذلك لآية لقوم يؤمنون ).
وينقل بعض المفسّرين كلاماً بهذا المضمون وهو: سئل أحد العلماء: ما الدليل على أنّ للعالم صانعاً واحداً؟
فقال هناك ثلاثة أدلة: "ذل اللبيب، وفقر الأديب، وسقم الطبيب". (1)
أجل إن وجود هذه المستثنيات والمفارقات دليل على أن الامور بيد قادر آخر، كما ورد في كلام الإِمام علي(عليه السلام) أيضاً "عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير روح البيان، ج 7، ص 29، ذيل الآية محل البحث.
[538]
وحلّ العقود، ونقض الهمم". (1)
وحيث أن كل نعمة وموهبة ينالها الإِنسان تحمّله وظائف ومسؤوليّات وعليه أداؤها، فإن القرآن يوجه الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية التالية قائلا: (فآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السبيل ).
وينبغي أن لا تتصور عند سعة الرزق أن ما عندك هولك فقط، بل إنّ للآخرين في مالك حقّاً أيضاً، ومن هؤلاء الأقارب والمساكين الذين باتوا متربين لشدة الفقر، وكذلك الأعزة الذين ابتعدوا عن الوطن وانقطع بهم الطريق نتيجة حوادث معينة وهم محتاجون!...
والتعبير بـ "حقّه" كاشف عن أنّهم شركاء في أموال الإِنسان، وإذا دفع المرء شيئاً من ماله إليهم فإنّما يؤدي حقهم، وليس له منٌّ عليهم!.
وهناك جماعة من المفسّرين يرون أنّ المخاطب في هذه الآية هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فحسب، وأن "ذا القربى" أرحامه، وقد ورد في رواية عن أبي سعيد الخدري وغيره مايلي: "لما نزلت هذه الآية على النّبي أعطى فاطمة فدكاً وسلّمها إليها". (2)
وبالمضمون نفسه نقل عن الإِمام الباقر والصادق(عليهما السلام) أيضاً.(3)
وقد ورد المعنى نفسه مفصلا في احتجاج فاطمة الزهراء(عليها السلام) على أبي بكر في قضية فدك، وذلك في رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام).(4)
غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا: إنّ الخطاب في هذه الآية عام، وهو يشمل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره، وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ جميع الناس عليهم أن لا ينسوا حق ذوي القربى أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار الجملة 250
2 ـ مجمع البيان.
3 ـ مجمع البيان.
4 ـ تفسير على بن إبراهيم، طبقاً لنقل نور الثقلين عنه، ج4، ص 186.
[539]
وبالطبع فإنه لا منافاة في الجمع بين التّفسيرين، وعلى هذا فإن مفهوم الآية مفهوم واسع، والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقرباه وخاصة فاطمة الزهراء(عليها السلام) هم المصداق الأتم لهذه الآية.
ومن هنا يتّضح أن لا منافاة لأي من التفاسير الآنفة مع كون السورة مكّية، لأنّ مفهوم الآية مفهوم جامع ينبغي العمل به في مكّة وفي المدينة أيضاً، وحتى خبر إعطاء "فدك" لفاطمة(عليها السلام) على أساس هذه الآية مقبول جدّاً.
الشيء الوحيد الذي يبقى هنا، هو جملة "لما نزلت هذه الآية...." في رواية أبي سعيد الخدري، إذ أن ظاهرها أن إعطاء فدك كان بعد نزول الآية، ولكن لو أخذنا كلمة "لما" به معنى العلة، لا بمعنى الزمان الخاص، ينحل هذا الإِشكال، ويكون مفهوم الآية أن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى فاطمة فدكاً لأمر الله إياه، أضف إلى ذلك فإن بعض آيات القرآن يتكرر نزولها!.
ولكن لم ذكر هؤلاء الثلاثة من بين جميع المحتاجين وأصحاب الحق؟
لعل ذلك لأهميتهم، لأنّ حق ذى القربى أهم وأعلى من أي حق سواه، ومن بين المحرومين والمحتاجين فإنّ المساكين وأبناء السبيل أحوج من الجميع!.
أو أن ذلك لما أورده "الفخر الرازي" هنا إذ يقول: "في تخصص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم، مع أن الله ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات، فنقول: أراد هاهنا بيان من يجب الإِحسان إليه على كل من له مال، سواء كان زكوياً أم لم يكن، وسواءً كان بعد الحول أو قبله، لأنّ المقصود هاهنا الشفقة العامة، وهؤلاء الثلاثة يجب الإِحسان إليهم وإن لم يكن للمحسن مال زائد، أمّا القريب فتجب نفقته وإن كان لم تجب عليه زكاة كمال القاصرين أو مال لم يحل عليه الحول، والمسكين كذلك فإنّ من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة، يجب على من له مقدرة دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة، وكذلك من انقطع في مفازة ومع آخر دابةٌ يمكنُه بها إيصاله إلى مأمن، يلزمه ذلك، وإن لم تكن عليه
[540]
زكاة، والفقير داخل في المسكين، لأنّ من أوصى للمساكين شيئاً يصرف إلى الفقراء أيضاً "فما ذكرته الآية من ترتيب لهؤلاء إنّما يناسب شأنهم".(1)
و على كل حال فإنّ القرآن يبيّن في نهاية الآية ترغيباً للمحسنين، وشَرَطَ القبول ضمناً، فيقول: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأُولئك هم المفلحون ).
أُولئك المفلحون في هذه الدنيا، لأنّ الإِنفاق يجلب معه البركات العجيبة، وفي الآخرة أيضاً، لأنّ الإنفاق هو أكثر الأعمال ثقلا في ميزان الله يوم القيامة.
ومع الإِلتفات إلى أن المراد من (وجه الله ) ليس هو المحيّا الجسماني، إذ ليس له تعالى وجه جسماني، بل هو بمعنى ذاته المقدّسة، فإن هذه الآية تشير إلى أن الإِنفاق وإيتاء حق الأقارب وأصحاب الحق الآخرين ليس كافياً، بل المهم هو الإِخلاص والنية الطاهرة والخالية من أي أنواع الرياء والمنة والتحقير وانتظار الأجر والثواب.
وخلافاً لما ذهب إليه بعض المفسّرين. من أنّ الانفاق لغرض الوصول إلى الجنّة ليس مصداقاً لوجه الله، فان جميع الأعمال التي يؤديها الإِنسان وفيها نوع من الإِرتباط بالله، سواء كانت لمرضاته أو ابتغاء ثوابه أو للنجاة من جزائه، فكلها مصداق لوجه الله، وإن كانت المرحلة العليا والكاملة من ذلك أن لا يبتغي الإِنسان من وراء عمله إلاّ الطاعة والعبودية المحضة!.
وتشير الآية التالية ـ بمناسبة البحث المتقدم عن الإِنفاق الخالص ـ إلى نوعين من الإِنفاق: أحدهما لله، والآخر يراد منه الوصول إلى مال الدنيا، فتقول: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلايربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعفون ).
مفهوم الجملة "الثّانية" وهي إعطاء الزكاة والإِنفاق لوجه الله والثواب واضح، إلاّ أن الجملة الأُولى (وما آتيتم من ربا ) مختلَف في تفسيرها مع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذيل الآيات محل البحث "الفخر الرازي".
[541]
الإِلتفات إلى أنّ "الربا" معناه في الأصل "الزيادة".
فالتّفسير الأوّل، وهو أوضح من جميع التفاسير، ومنسجم مع مفهوم الآية أكثر، ومتناسق مع الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، أن المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض الأفراد للآخرين، ولا سيما إلى أصحاب الثروة والمال، كي ينالوا منهم أجراً أحسن وأكثر!
وبديهي أنّه في مثل هذه الهدايا لايؤخذ بنظر الاعتبار استحقاق الطرف الآخر ولا الجدارة والأولوية، بل كل ما يهدف اليه أن تصل الهدية إلى مكان، تعود على مُهديها بمبلغ أوفر ومن الطبيعي أن مثل هذه الهدايا ليس فيها "جنبة" إخلاص، فلا قيمة لها من الجهة الأخلاقية، والمعنوية!.
فعلى هذا يكون معنى "الربا" في هذهِ الآية هو "الهدية والعطية" والمراد من جملة (ليربو في أموال الناس ) هو أخذ الأجر الوافر من الناس!
ولا شك أن أخذ مثل هذه الأجرة ليس حراماً، إذ ليس فيه شرط أو قرار، إلاّ أنّه فاقد للقيمة الأخلاقية والمعنوية... ولذلك فقد ورد التعبير عن هذا الربا ـ في روايات متعددة عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في مصادر معروفة، بـ "الربا الحلال" في قِبالِ "الربا الحرام" الذي يستلزم الشرط والعقد أو الإتفاق.
ونقرأ في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في كتاب تهذيب الأحكام، في تفسير الآية هو قوله(عليه السلام): "هو هديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منهما، فذلك ربا يؤكل"!
كما نقرأ حديثاً آخر عنه(عليه السلام) "الربا رباءان، أحدهما حلال والآخر حرام، فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضاً يريدأن يزيده ويعوضه بأكثر ممّا يأخذه بلا شرط بينهما، فإن أعطاه أكثر ممّا أخذه على غير شرط بينهما فهو مباح له، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه، وهو قوله: (فلا يربو عندالله ) وأمّا الحرام فالرجل
[542]
يقرض قرضاً ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه فهذا هوالحرام". (1)
وهناك تفسير آخر لهذه الآية، وهو أن المراد من الربا في هذه الآية هو الربا الحرام، وطبقاً لهذا التّفسير فإن القرآن يريد أن يقيس الربا بالإِنفاق الخالص لوجه الله، ويبين أن الربا وإن كان ظاهره زيادة المال، إلاّ أنّه ليس زيادةً عند الله، فالزيادة الحقيقية والواقعية هي الإِنفاق في سبيل الله.
وعلى هذا الأساس فقد عدّوا الآية مقدمة لمسألة "تحريم الربا" التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإِرشاد الأخلاقي والنصح، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور "البقرة وآل عمران والنساء" بصورة تدريجية "وكانت لنا إشارة أيضاً في الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل على هذا الأساس".
وبالطبع ليس بين المعنيين أيُّ تضاد، ويمكن أن تؤخذ الآية بمعناها الواسع الذي يجمع "الربا الحلال" و "الربا الحرام" ويقاس كلاهما بالإِنفاق في سبيل الله، إلاّ أن تعبيرات الآية أكثر انسجاماً مع التّفسير الأول، لأنّ الظاهر من الآية هنا أن عملا قد صدر ليس فيه ثواب، وهو مباح، لأنّ الآية تقول: إن هذا العمل لا يربو عند الله، وهذا يتناسب مع الربا الحلال الذي ليس فيه وزر ولا ثواب، وليس شيئاً يستوجب مَقْتَ الله وغضبَهُ... وقد قلنا: إن الروايات الإِسلامية ناظرة إلى هذا المعنى.
وينبغي الإِشارة إلى هذه اللطيفة اللغوية، وهي أنّ كلمة "مضعفون" التي هي صيغة لاسم الفاعل، لا تعني أنّهم يزيدون ويُضعفون بأنفسهم للمال، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول، مثل "الموسِر" أي: صاحب المال الكثير.
وينبغي أيضاً أن يُعرف بالنظرة البعيدة أن المراد من الضعف والمضاعف
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 191.
[543]
ليس معناه "مثل الشيء مرّتين" بل يشمل المثل مرتين ويشمل أمثال الشيء، والحدّ الأقل في الآية هنا عشرة أمثال، لأنّ القرآن يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ).(1)
وتبلغ الزيادة أحياناً كما في القرض إلى ثمانية عشر كما نقرأ في هذا حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: "على باب الجنّة مكتوب: القرض بثمانية عشر والصدقة بعشر". (2)
وقد تبلغ الزيادة إلى سبعمائة "ضعف" كما هو في شأن الإِنفاق في سبيل الله، إذ تقول الآية: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء )(3)
وفي الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ عودة أُخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد، وهي الموضوع الأساس الذي ورد في كثير من آيات هذه السورة... وتصف الآية "الله" بأربعة أوصاف لتكون إشارة للتوحيد ومواجهة الشرك، ودليلا على المعاد أيضاً فتقول: (الله الذي خلقكم ثمّ رزقكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عمّا يشركون ).
و من المسلّم به أن المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأن الخلق كان من قِبل الأوثان، أو أن أرزاقهم بيد الأوثان والأصنام، أو أن نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك!! بل لأنّهم جعلوا هذه الأوثان المصنوعة واسعة وشفعاء بينهم وبين الله، فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النفي، والإِستفهام هنا استفهام إنكاري!.
الموضوع الآخر الذي يثير السؤال هنا هو أن أُولئك المشركين لم يكونوا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأنعام، الآية 160.
2 ـ نور الثقلين، ج 4، ص 190.
3 ـ البقرة، الآية 261.
[544]
يعتقدون بالحياة بعد الموت، فكيف يستند القرآن في آخر وصف لله تعالى إلى ذلك؟!
لعل هذا التعبير هو لأنّ مسألة المعاد والحياة بعد الموت ـ كما ذكرناها في بحوثنا المتقدمة ـ لها "جنبة" فطريّة، والقرآن هنا لا يستند إلى معتقداتهم، بل إلى فطرتهم.
إضافة إلى ذلك فقد يتفق أن متكلماً ذلقاً حين يواجه شخصاً آخر يُنكر موضوعاً ما، فيستدرجه بما لديه من حقائق يتقبلها ذلك الآخر ويستند إليها بشكل قطعي ليظهر أثرها، وينزل صاحبه من مركب الإِنكار.
ثمّ بعد هذا كله فإن بين الحياة الأُولى من قبل الله وقدرته على ذلك، والحياة بعد الموت رابطة لا تقبل الإِنفصام، ومع ملاحظة هذه الرابطة المنطقية فإن "كلا الأمرين" جاءا في عبارة واحدة.
وعلى كل حال فإن القرآن يقول: عندما يكون الخلق والرزق والموت والحياة بيد الله، فالعبادة ينبغي أن تكون له فقط، ويكشف هذه الحقيقة بقوله: (سبحانه وتعالى عمّا يشركون ) وهي أنّ المشركين أهانوا كثيراً مقام رب العزة إذ أشركوه في العبادة مع أوثانهم.
* * *
[545]
الآيات
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِىْ النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّمَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذ يَصَّدَّعُونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَـلِحاً فَلاَِنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَـفِرِينَ (45)
التّفسير
أساس الفساد ومصدره أعمال الناس أنفسهم:
كان الكلام في الآيات االسابقة عن الشرك، ونعلم أنّ أساس جميع المفاسد هو الغفلة عن أصل التوحيد والتوجه نحو الشرك، لذلك فإنّ القرآن ـ في هذه الآيات محل البحث ـ يتحدث عن ظهور الفساد في الأرض بسبب أعمال الناس أنفسهم، فيقول: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ).
والله يريد أن يريهم ما قدموه و(ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم
[546]
يرجعون ).
والآية الآنفة الذكر تبيّن المعنى الواسع حول ارتباط الفساد بالذنب، الذي لا يختصّ بأرض "مكّة" والحجاز، ولا بعصر النّبي(صلى الله عليه وآله)، بل هو من قبيل القضية الحقيقية التي تبيّن العلاقة بين الموضوع والمحمول!
وبعبارة أُخرى: حيثما ظهر الفساد فهو انعكاس لأعمال الناس وفيه ـ ضمناً ـ هدف تربوي، ليذوق الناس "طعم العلقم" نتيجة أعمالهم، لعلهم ينتهون ويثوبون إلى رشدهم!
ويقول بعضهم: إنّ هذه الآية ناظرة إلى القحط و "الجدب" الذي أصاب المشركين بسبب دعاء النّبي(صلى الله عليه وآله) على مشركي مكّة!... فانقطعت المُزن ويبست الصحاري، وصار من الصعب عليهم الصيد من البحر الأحمر أيضاً.
وعلى فرض أن يكون هذا الكلام صحيحاً تاريخياً، إلاّ أنّه بيان لأحد المصاديق ولا يحدد معنى الآية في مسألة ارتباط الفساد بالذنب، فهي ليست محدّدة بذلك الزمان والمكان، ولا بالجدب وانقطاع "الغيث".
وممّا ذكرناه آنفاً يتّضح جيداً أنّ كثيراً من التّفاسير المحدودة والضيقة التي نقلها بعض المفسّرين في ذيل الآية غير مقبولة بأي وجه.
كما فسّروا الفساد في الأرض بأنّه قتل "هابيل" على يد "قابيل"، أو أن المراد بالفساد في البحر هو غصب السفن في عصر موسى، والخضر(عليهم السلام).
أو أنّ المراد من الفساد في البر والبحر هو ظهور الحكّام المتسلطين الفاسدين الذين يشيعون الفساد في جميع هذه المناطق!.
وبالطبع فإنّ الممكن أن تكون مصاديق الآية مثل هؤلاء الأفراد الذين يتسلطون على الناس نتيجة الدنيا والمجاملة وجرّ الناس للذل، ولكن من المسلّم به أن هذا المصداق لا يعني تخصيص مفهوم الآية!.
كما أنّ جماعة من المفسّرين بحثوا في معنى الفساد في البحر أيضاً، فقال
[547]
بعضهم: المراد بالبحر هو المدن التي إلى جانب البحر، وقال بعضهم: إنّ المراد بالبحر هو "المناطق المخصبة ذات البساتين والأثمار".
ولا نجد دليلا على هذه التمحّلات، لأنّ البحر معناه معروف، والفساد فيه لعله قلّة المواهب البحرية، أو عدم الأمن فيه، أو الحروب البحرية.
ونقرأ حديثاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) في هذا الصدد "حياة دواب البحر بالمطر، فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البحر والبرّ، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي" (1).
وبالطبع فإنّ ما ورد في هذه الرواية هو مصداق واضح للفساد وما ورد في شأن نزول المطر "وحياة دواب البحر به" فهو موضوع دقيق، تؤكّد عليه التجربة، فكلما قلّ ماء السماء "المطر" قل السمك في البحر، حتى أنّنا سمعنا ممن يقطنون ساحل البحر يقولون: إن فائدة الغيث للبحر أكثر من فائدته للصحراء!.
وفي الآية التالية يأمر الله الناس بالسير في الأرض ليروا شواهد كثيرة "حيّة" من مسألة ظهور الفساد في الأرض بسبب المعاصي والذنوب من قبل الناس. ويوصي نبيّه(صلى الله عليه وآله) أن يأمرهم بذلك، فيقول: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ).
انظروا قصور "الظالمين" المتهدمة، وأبراجها المتداعية والخزائن المطموسة، وجماعاتهم المتفرقة، ثمّ انظروا إلى قبورهم المدروسة وعظامهم النخرة!
وانظروا عاقبة أمر الظلم والشرك وما آلا إليه.
أجل (كان أكثرهم مشركين ).
والشرك أساس الفساد والإنحراف والضلال!
ممّا يستلفت الإنتباه، أنّه حين كان الكلام في الآيات السابقة عن نعم الله،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القمي: طبقاً لنقل تفسير الميزان، ج 16، ص 210.
[548]
كانت بدايته حول خلق الإنسان ثمّ رزقه من قبل الله (الله الذي خلقكم ثمّ رزقكم ) إلاّ أن الكلام في الآيات محل البحث التي تتحدث عن العقاب يبدأ الكلام فيها أوّلا بالإشارة إلى زوال النعم على أثر المعاصي والذنوب، ثمّ الهلاك على أثر الشرك، لأنّه عند الهبة والعطاء "أوّل الأمر يذكر الخلق ثمّ الرزق".. وعند الإسترجاع، "فأوّل الأمر زوال النعمة ثمّ الهلاك".
والتعبير بـ(كان أكثرهم مشركين ) مع الإلتفات إلى أنّ هذه السورة مكّية وكان المسلمون في ذلك الوقت قلّة، فلعل ذلك إشارة إلى أن لا تخافوا من كثرة المشركين، لأنّ الله أهلك من قبلهم من هو أشدّ منهم، واكثر جمعاً، وهو في الوقت ذاته إنذار للطغاة ليسيروا في الأرض فينظروا بأم أعينهم عاقبة الظالمين من قبلهم!.
وحيث أن التصور والوعي والإنتباه، ثمّ العودة والإنابة إلى الله، كل ذلك لا يكون ـ دائماً ـ مفيداً ومؤثراً، ففي الآية التالية يوجه القرآن الخطاب للنبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) قائلاً: (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدّعون )(1) أي يتفرقون "فريق في الجنّة وفريق في السعير".
ووصف الدين بأنه "قيّم" مع ملاحظة أن "القيّم معناه الثابت والقائم" هو إشارة إلى أن هذا التوجه المستمر "أو الإقامة" هي للدين.. أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس، فلا تمل عنه أبداً، بل أقم وجهك للدين القيم!
وإنّما وجه الخطاب للنبيّ(صلى الله عليه وآله) ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضاً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة "مردّ" في جملة "لا مرد له من الله" مصدر ميمي وهو هنا بمعنى اسم الفاعل فيكون معنى الجملة: لا رادّ له من الله. والضمير في "له" يعود إلى "يوم" ويكون المفهوم العام للجملة. لا يستطيع أي كان أن يعيد ذلك اليوم من الله، أي يقف بوجه القضاء والمحاكمة بتأخير ذلك اليوم و"تعطيله".
والخلاصة: إنّه لا يخلف الله وعده ليعيد ذلك اليوم، وليس لأحد سواه القدرة على ذلك; فوقوع ذلك اليوم لابدّ منه وهو يوم محتوم" [ فلاحظوا بدقة] .
[549]
والتعبير بـ "يصدعون" من مادة "صدع" معناه في الأصل: كسر الإناء، ثمّ انتقل بالتدريج إلى أي نوع من أنواع التفرق والتشتت. وهنا إشارة إلى انفصال صفوف أهل الجنان عن صفوف أهل النيران، وكل من هذه الصفوف يتفرق إلى عدة صفوف، وذلك لسلسلة المراتب في الجنان، ودركات النيران "والعياذ بالله".
والآية التالية ـ بيان لهذا الإنفصال في يوم القيامة، إذ تقول: (من كفر فعليه كفرُه ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون ).
كلمة "يمهدون" مشتقّة من "المهد" على زنة "عهد" وكما يقول الراغب في مفرداته فإنّ معناه السرير المعدّ للطفل، ثمّ توسعوا في المعنى فصار المهد والمهاد لكل مكان مهيأ ومعد "وفيه منتهى الدعة والراحة" وقد انتخب هذا التعبير لأهل الجنّة والمؤمنين الصالحين، من هذه الجهة.
والخلاصة: لا تحسبوا أن إيمانكم وكفركم وأعمالكم الصالحة والطالحة لها أثر على الله، بل أنتم الذين تفرحون بها أو تساءون (يوم ترونها ).
ومن الطريف أنّ القرآن اكتفى في شأن الكفار بالتعبير بـ (ومن كفر فعليه كفره ) ولكن بالنسبة للمؤمنين تضيف الآية التالية: أن المؤمنين لا يرون أعمالهم فحسب، بل يوليهم الله من مواهبه وفضله فيقول: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله ).
ومن المسلّم به أن هذا الفضل لا يشمل الكفار إذ (إنّه لا يحب الكافرين )... ولا شك أنّ الله يعاملهم وفق عدالته، ويجزيهم ما يستحقون، لا أكثر، لكن لاينالهم منه فضل وموهبة أيضاً.
* * *
[550]
بحوث
1 ـ العلاقة بين الذنب والفساد
ممّا لا شك فيه أن كل ذنب يترك أثره في المجتمع، كما يترك أثره في الأفراد عن طريق المجتمع أيضاً... ويسبب نوعاً من الفساد في التنظيم الإجتماعي، فالذنب والعمل القبيح، وتجاوز القانون، مثلها كمثل الغذاءالسيء والمسموم، إذ يترك أثره غير المطلوب والسيء في البدن شئنا أم أبينا، ويقع الإنسان فريسة للآثار الوضعية لذلك الغذاء المسموم.
"الكذب" يسلب الإعتماد.
و"خيانة الأمانة" تحطّم الروابط الإجتماعية.
و"الظلم" يسبب إيذاء الآخرين وظلمهم.
والإفراط في الحرية يجرّ إلى الديكتاتورية، والديكتاتورية تجر إلى الإنفجار.
و"ترك حقوق المحرومين" يورث العداوة والحقد والبغضاء، و"تراكم الأحقاد والعداوات" يزلزل أساس المجتمع!.
والخلاصة، أن كلّ عمل غير صحيح له أثره السيّء سواء كان ذلك في دائرة محدودة أم واسعة، وأحد تفاسير الآية (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ) هو هذا [ وهذا يبيّن العلاقة الطبيعية بين الذنب والفساد ـ "هنا"] .
إلاّ أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ كثيراً من الذنوب ـ إضافة لما ذكرنا ـ تجلب معها سلسلة من الآثار السيئة، وعلاقتها وارتباطها مع تلك الآثار ـ من الناحية الطبيعية على الأقل ـ غير معروفة.
فمثلا ورد في الرّوايات الإسلامية أن قطع الرحم يقصر العمر، وأن أكل المال الحرام يورث ظلمة القلب، وأن كثرة الزنا يورث فناء الناس ويقلل الرزق(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "للزنا عقوبات ثلاث منها في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأمّا العقوبات في الدنيا فإنه يسلب النور من الإنسان، ويبتله بموت الفجأة، ويقطع الرزق. وأمّا التي في الآخرة فهو على سوء الحساب وغضب الله والخلود في نار جهنم" (سفينة البحار ـ مادة زنى).
[551]
حتى أنّنا لنقرأ حديثاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: "من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال" (1)
وقد ورد في القرآن نظير هذا المعنى في تعبير آخر، حيث يقول القرآن: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )(2).
إذن فالفساد ـ في الآية محل البحث ـ هو الفساد الأعمّ "الذي يشمل المفاسد الإجتماعية، والبلايا، وسلب النعم والبركات".
وممّا يستلفت الإنتباه أن الآية المتقدمة يستفاد منها ضمناً أن واحداً من حكم الآفات والبلايا تأثيرها التربوي على الناس، إذ عليهم أن يروا رد الفعل الناتج من أعمالهم.. ليفيقوا من نومهم وغفلتهم، ويعودوا إلى الطهارة والتقوى!
ولا نقول: إنّ جميع الشرور والآفات هي من هذا القبيل، ولكننا نقول: إن قسماً منها ـ على الأقل ـ فيه هذه الحكمة والغاية وبالطبع فإنّ له حكمة أُخرى بحثناها في محلها.
2 ـ فلسفة السير في الأرض
لقد وردت مسألة "السير في الأرض" ست مرات في القرآن المجيد، (في سورة آل عمران والأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والروم) حيث وردت مرّة بقصد التفكر في أسرار الخلق (سورة العنكبوت الآية 20) وخمس مرات بقصد العبرة من العواقب الوخيمة التي نالها الظالمون والجبابرة والطغاة الآثمون!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار (مادة ذنب).
2 ـ الأعراف، الآية 96.
[552]
والقرآن يهتمّ بالمسائل العينية والحسية ـ التي يمكن لمس آثارها في الأُمور التربوية ـ اهتماماً خاصاً، ولا سيما أنّه يأمر المسلمين أن ينطلقوا من محيطهم المحدود إلى المدى الأرحب، ويسيروا ويسيحوا في هذا العالم، وليفكروا في أعمال الآخرين وسجاياهم وعواقب أُمورهم، وأن يستوحوا من هذه "الحياة" العابرة "ويدخروا ذخيرة قيمة" من العبرة والإطلاع!
إنّ القوى الشيطانية في العصر الحاضر ـ من أجل سعة استثمارها في العالم كافة ـ مشطت وفحصت جميع الدول والبلدان والأمم وطريقة حياتهم وثقافتهم ونقاط القوّة والضعف فيهم بصورة جيدة.
إنّ القرآن يقول: بدلا من هؤلاء المستكبرين سيروا أنتم في أرجاء الأرض وبدلا من خططهم ومؤامراتهم الشيطانية تعلموا دروساً رحمانية.
العبرة والإعتبار من حياة الآخرين أهم من التجارب الشخصية وأكثر قيمة، لأنّ الإنسان ينبغي أن يتحمل خلال تجاربه أضراراً ليتعلم مسائل جديدة إلاّ أن الإنسان عند استلهام العبرة من الآخرين يربح معارف جمة وثمينة دون أن يتحمل ضرراً.
وأمر القرآن بالسير في الأرض ينطبق على أكمل الأساليب والطرق التي حصل عليها البشر في العصر الحاضر، وذلك بأن يأخذوا بأيدي التلاميذ ـ بعد استيعاب المسائل في الكتب ـ ويسيروا في الأرض، ويطالعوا الشواهد العينية التي قرأوها في الكتب!
وبالطبع فهناك اليوم نوع آخر من السير في الأرض بعنوان "السياحة" في العالم، وذلك من قبل "الحضارة الشيطانية" لجلب الأموال والثروة "الحرام" التي راجت سوقها، وغالباً ما تكون فيها أهداف منحرفة وتضليلية، كنقل الثقافة السقيمة وإشاعة الهوى والسفاهة والحماقة واللهو هذه هي "السياحة المخربة"!
[553]
ولكن الإسلام يؤيد السياحة التي تكون وسيلة لنقل الثقافات الصحيحة والتجارب المتراكمة، واستكناه أسرار الخلق في عالم البشر وعالم الطبيعة، واستلهام دروس العبرة من عواقب المفسدين والظالمين الوخيمة.
ولا بأس بالإشارة إلى أنّ هناك سياحة منعها الإسلام ونقرأ حديثاً يقول: "لا سياحة في الإسلام" (1).
والمراد من هذا الحديث هو في جميع سنوات حياتهم ـ أو بعضها ـ منفصلين عن الحياة الإجتماعية تماماً، ودون أن يكون لهم نشاط ملحوظ، فهم يسيحون في الأرض ويعيشون كالرهبان! فيكونون عالة على الآخرين.
وبتعبير آخر: إنّ عمل هؤلاء بمثابة "الرهبانية السيارة" مقابل الرهبان الثابتين المنزوين في الدير والمنعزلين عن المجتمع، وحيث أن الإسلام يخالف هذا الإتجاه والإنزواء الإجتماعي، فهو يعد هذه "السياحة" غير مشروعة أيضاً.
3 ـ الدين القيّم
كان الخطاب في الآيات المتقدمة للنّبي(صلى الله عليه وآله) أن يجعل تمام توجهه نحو الدين المستقيم والثابت، الذي ليس فيه إعوجاج ولا إنحراف ولا تزلزل في قواعده أبداً.
ومن الطريف أن تعبيرات أُخرى في آيات القرآن المتعددة جاءت بصدد هذا الدين، ففي الآية (105) من سورة يونس جاء التعبير عنه بالحنيف (فأقم وجهك للدين حنيفاً ).
وفي الآية (3) من سورة الزمر وصف بالخالص (ألا لله الدين الخالص ).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البحرين مادة "سيح"، وفي حديث آخر عن النّبي العظيم(صلى الله عليه وآله) في هذا الكتاب نفسه نقرأ قوله(صلى الله عليه وآله)"سياحة أمتي الغزو والجهاد".
[554]
وفي الآية (52) من سورة النحل، وصف بأنّه واصب، أي لا يتغير (وله الدين واصباً ).
وفي الآية (78) من سورة الحج وصف بأنه خال من الحرج والشدة (وما جعل عليكم في الدين من حرج )!
ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن!
وكل واحد من هذه الأُمور يمثل بعداً من أبعاد الدين الإسلامي، وهو في الوقت ذاته من باب اللازم والملزوم.
أجل ينبغي أن ينتخب مثل هذا الدين، وأن يسعى في معرفته، وأن يحفظ حتى آخر رمق!
4 ـ لا عودة في يوم القيامة!
قرأنا في الآيات المتقدمة عن يوم القيامة قوله تعالى: (يوم لا مرد له من الله ) ولا طريق للعودة إلى الدنيا!
ويلاحظ في آيات القرآن الأخر ما يشبه هذا التعبير، ومن ذلك الآية (44) من سورة الشورى ـ حين يرى الظالمون العذاب يقولون: (فهل إلى مردّ من سبل ).
كماوصف يوم القيامة في الآية (47) من سورة الشورى ـ أيضاً ـ بقوله تعالى: (يوم لا مرد له من الله ).
والحقيقة أن عالم الوجود له مراحل لا عودة فيها إلى مرحلة سابقة، وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول!
ترى، هل يرجع الطفل ـ سواء ولد كاملا أو ناقصاً ـ جنيناً مرّة أُخرى إلى رحم أمه؟!
[555]
وهل ترجع الثمرة المقطوفة من الشجرة ـ ناضجة كانت أم لا ـ إلى أغصانها؟!
فانتقال الإنسان من هذا العالم إلى العالم الآخر على هذه الشاكلة، أي لا طريق للعودة أبداً... وهذه حقيقة تخيف الإنسان وتهزّه وتنذره ليكون يقظاً!.
* * *
[556]
الآيات
وَمِنْ ءَايَـتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرت وَلِيُذِيقَكُمْ مِّنْ رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إِلى قَوْمِهمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَـتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَينَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَـلِهِ فَإِذآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُواْ مِنْ قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى ءَاثَـرِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِى الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذلِكَ لَـمُحْيِى الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (50)
التّفسير
انظر إلى آثار رحمة الله:
قلنا: إن في هذه السورة قسماً مهمّاً "يستلفت النظر" من دلائل التوحيد
[557]
وآيات الله، مبيناً في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله: (ومن آياته ) قرأنا ست آيات منها بصورة متتابعة، والآية الأُولى من الآيات اعلاه هي سابع الآيات التي مرت. وآخرها.
وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح، فبيان دلائل التوحيد ـ أيضاً ـ تأكيداً على ذلك!
تقول هذه الآية: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) فهي تمضي سابقةً للغيث في حركتها، فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى، وتغطي صفحة السماء، ومع تغير درجة حرارة الجو تهيء المطر للنزول من هذه الغيوم.
ولعلّ أهمية قدوم الرياح المبشرات ـ لأهل المدن المتنعمة ـ ليست جليّة واضحة.. إلاّ أن أهل الصحاري اليابسة الظمأى إلى المطر، ما إن تتحرك الرياح مصحوبة بالسحاب التي هطلت في نقطة أُخرى ـ والنسيم يحمل رائحة الطلّ والرطوبة منها، حتى يلمع وميض الأمل في قلوبهم.
وبالرغم من أنّ آيات القرآن تستند إلى البشارة في نزول الغيث أكثر من غيرها، إلاّ أنّه لا يمكن تحديد كلمة "مبشرات" في هذا المضمون فحسب، لأنّ الرياح تصحب بشائر أخر أيضاً.
فالرياح تبدل حرارة الجو وبرودته الشديدة إلى "الإعتدال".
والرياح تستهلك العفونة في الفضاء الكبير وتصفي الهواء.
والرياح تخفف من وطء حرارة الشمس على الأوراق والنباتات، وتمنع من احتراقها بحرارة الشمس.
كما أنّ الرياح تنقل غاز الأوكسجين المتولد من النباتات وأوراق الشجر ـ إلى الإنسان، وتهب غاز ثاني أوكسيد الكاربون الخارج مع زفير الإنسان وتنفسه إلى النباتات أيضاً.
[558]
وهي كذلك تؤدي وظيفة أُخرى، فقد أرسلها الله لواقح تنقل معها لقاح الأزهار الذكور للاناث.
والرياح تحرك الطواحين الهوائية وتصفي البيادر.
والرياح تنقل البذور من المناطق التي قد تجمعت فيها وتنثرها وتبسطها على الصحراء، كأنّها فلاح مشفق، فتغدو خضراء ممرعة بعد أن كانت يباباً.
والرياح تنقل السفن مع مسافريها وأثقالهم إلى نقاط مختلفة.
وحتى في هذا العصر الذي حلت الوسائل الحديثة "الماكنات" مكان الرياح، فما تزال الرياح ذات أثر بالنسبة للسفن في اتجاهاتها المخالفة لها أو الموافقة لها... سرعةً وبطأً!
أجل، أنّ الرياح مبشرات من جهات شتى.
ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى: (وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ).
أجل، إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضاً، وأخيراً فهي سبب للإزدهار التجاري.
وقد أشير إلى الموضوع الأوّل بجملة (وليذيقكم من رحمته ) وإلى الثّاني بجملة (ولتجري الفلك بأمره ) وللثالث بجملة (ولتبتغوا من فضله )!
والطريف هنا أن جميع هذه البركات منشؤها الحركة، الحركة في ذرات الهواء في الفضاء الجوي أ
لكن لا يُعرف قدر أية نعمة حتى تسلب عن الإنسان! فيعرفها حينذاك. فما لم تتوقف هذه الرياح والنسائم، فلا يعرف الإنسان ماذا يحلّ به من بلاء؟!
فتوقف الهواء يجعل الحياة في أفضل الحقول كالحياة في أشد المطامير والسجون ظلمةً! وعلى العكس فلو أن نسيماً عليلا هب في خلايا السجون
[559]
الإنفرادية لجعلها كالفضاء الرحب "المفتوح"، وعادةً فإنّ واحداً من أساليب التعذيب في السجون هو سدّ منافذ الهواء!.
حتى أنّ الهواء لو توقف في المحيطات وهدأت الأمواج، لأصبحت حياة الحيوانات البحرية مهددة بالخطر على أثر قلّة الأوكسجين، ويتحول البحر حينذاك إلى مستنقع متعفن موحش!
يقول "الفخر الرازي" إن جملة (وليذيقكم من رحمته ) مع ملاحظة أن الإذاقة تستعمل في الشيء القليل، فهي إشارة أن جميع الدنيا ونعمها لاتتجاور الرحمة القليلة، أمّا الرحمة الواسعة (من قبل الله) فهي خاصة بالحياة الأُخرى!.
وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم، في حين أن الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة أُخرى، ولعل وجود هذه الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين.
ولعل ذكر النبوّة إلى جانب هذه المسائل، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ والمعاد،إذْ ورد البحث عنهما مراراً في هذه السورة كما قاله بعض المفسّرين.
ويمكن أن يكون وجود هذه الآية إنذاراً لأُولئك الذين يتمتعون بجميع هذه النعم الكثيرة ويكفرون بها.
وعلى كل حال، فإنّ الآية تقول: (ولقد أرسنا رسلنا إلى قومهم فجاءوهم بالبيّنات ) أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح (فانتقمنا من الذين أجرموا ) ونصرنا المؤمنين (وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين ).
والتعبير بـ "كان" التي تدل على أن هذه السنة لها جدر عميق، والتعبير بـ "حقّاً" وبعده التعبير بـ "علينا" هو بنفسه مبين للحق ومشعر به، جميع هذه
[560]
الألفاظ تأكيدات متتابعة في هذا المجال وتقديم "حقاً علينا" على "نصر المؤمنين" الذي يدل على الحصر، هو تأكيد آخر. وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى "إن نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عملياً دون الحاجة إلى نصر من الآخرين".
وهذه الجملة ـ ضمناً ـ فيها تسلية وطمأنة لقلوب المسلمين، الذين كانوا حينئذ في مكّة تحت ضغوط الأعداء واضطهادهم وكان الأعداء أكثر عَدَداً وعُدَداً.
وأساساً فإنّ أعداء الله طالما كانوا غرقى في الآثام والذنوب، فإنّ ذلك بنفسه أحد عوامل انتصار المؤمنين، لأنّ الذنب سيدمرهم آخر الأمر ويهيء وسائل هلاكهم بأيديهم، ويرسل عليهم نقمة الله.
أمّا الآية الأُخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاءُ ويجعله كسفاً )(1) أي القطع الصغيره المتراكمة ثمّ تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة (فترى الودق(2) يخرج من خلاله ).
أجل، إن واحداً من الآثار المهمة عند نزول الغيث، يقع على عاتق الرياح، إذ تحمل قطعات السحاب من البحر إلى الأرض العطشى واليابسة، والرياح هي المأمورة ببسط السحاب والغيوم في السماء جعلها متراكمة بعضها فوق بعض، وبعد أن تلطف الجو وتصيره رطباً تهيء الغيث للنزول.
إن مثل الرياح كمثل راعي الغنم المحنّك، الذي يجمع قطيع الغنم عند الإقتضاء من أطراف الصحراء، ويسير بها في مسير معيّن ليقوم بالتالي على حلب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الكِسَف" جمع "كسفَة" على وزن "حجلة" ومعناها القطعة، وهي هناـ كما يبدو ـ إشارة إلى القطعات [ من الغيوم] المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر.
2 ـ "الودق" على وزن (الحلق) وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحياناً، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء، كما تطلق على قطرات "المطر" المتفرقة أحياناً...
[561]
لبنها!.
وجملة (فترى الودق يخرج من خلاله ) لعلها إشارة إلى أن غلظة الغيوم وشدة هبوب الرياح، ليستا في تلك الدرجة التي تمنع خروج قطرات الغيث الصغيرة من الغيم ونزولها على الأرض، بل إن هذه الذرات الصغيرة ـ على الرغم من الغيوم المغطاة بها صفحة السماء ـ تجد طريقها من خلال الغيوم إلى الأرض، وتتناثر ناعمةً على الأراضي العطشى حتى ترويها بصورة جيدة وفي الوقت ذاته لا تدمر الثمر.
إن الرياح الشديدة والاعاصير التي تقلع الشجرة من أصلها أحياناً ـ على عظمتها وتحرك الصخور، تأذن للقطرة الناعمة أن تمرّ من خلالها وتستقر على الأرض!
وينبغي الإلتفات الى أن كون السحاب قطعات متراكمة "كِسَفاً" ـ وإن لم يكن لنا جلياً بهذه الصورة ـ في اليوم الغائم، حيث تغطي هذه القطع صفحة السماء، فلا نحس بأنّها على شكل قطع، بل نراه سحاباً مبسوطاً.. لكن حين تقلّنا الطائرة وتحلق بنا فوق السحاب أو من خلاله، نلمس هذه الظاهرة بوضوح!
ويضيف القرآن في نهاية الآية قائلا: (وإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون ).
ثمّ تأتي الآية الأُخرى بعدها فتقول: (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين )(1).
وإنّما يدرك هذا اليأس أو تلك البشارة أمثال العرب الذين يعيشون في رحلاتهم وتنقّلهم في الصحراء، ولحياتهم علاقة وصلة قريبة مع هذه القطرات، فأُولئك يتفق أحياناً أن يلقى اليأس ظلاله السوداء على أنفسهم الظمأى، كما أن أراضيهم ومزارعهم تبدو عليها آثار العطش، وفجأة تهب الرياح المبشرة بنزول
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "مبلس" مأخوذة من مادة الإبلاس، ومعناها اليأس وعدم الرجاء.
[562]
المطر، الرياح التي يشمّ من خلالها رائحة "الغيث"! وتمرّ لحظات، فتتسع الغيوم في السماء ثمّ تغلظ وتكون أكثر كثافةً، ثمّ ينزل "القطر" والغيث، وتمتلىء الحفر بالماء الزلازل، وتفيض الروافد والسواقي الصغيرة والكبيرة من هذه المائدة السماوية، وتعود الحياة النضرة إلى الأرض اليابسة، كما تتبرعم الآمال في قلوب الرحّل في الصحراء ويشرق الأمل في قلوبهم، وتنجلي عنها غيوم الظلمة واليأس والقنوط!
ويبدو أن تكرار كلمة "من قبل" في الآية للتأكيد، إذ تبيّن الآية أن الوجوه كانت عابسة متجهمة من قبل المطر بلحظات، أجل... لحظات قبل المطر، وهم قلقون ولكن حين ينزل عليهم الغيث... تشرق فجأة الوجوه وتبتسم الشفاه، فكم هو موجود ضعيف هذا الإنسان! وكم هو رحيم هذا الربّ.
ومثل هذا التعبير وارد في كلماتنا العرفية حيث نقول مثلا: إن فلاناً كان بالامس، نعم بالامس صديقاً لنا، واليوم هو من اعدائنا... والهدف من هذا التكرار هو التأكيد على تغيير حالات الإنسان.
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يتوجه الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله) قائلا: (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها ).
والإهتمام أو الإعتماد على كلمة "انظر" هو إشارة إلى أن آثار رحمة الله في إحياء الأرض بالمطر، هي من الوضوح بمكان بحيث تكفي نظرة واحدة لمشاهدة هذه الآثار، دون حاجة للبحث والتدقيق.
والتعبير بـ(رحمة الله ) في شأن المطر هو إشارة الآثار المباركة فيه من جهات مختلفة!.
فالمطر يسقي الأرض ويرعى بذور النباتات... ويهب الأشجار الحياة الجديدة!
وهو ينقىّ الجو والمحيط من الغبار المتراكم أو المتناثر في الفضاء.
[563]
وهو يغسل النباتات ويمنحها النضرة والطراوة!.
وهو يمضي إلى أعماق التربة والأرض، وبعد فترة يعود على شكل عيون وقنوات إلى سطح الأرض.
والمطر يدفع الأنهار والسيول وبعد تجمعها خلف السدود يتولد منها "الكهرباء" أو الطاقة والنور والحركة!.
وأخيراً فإنّ قطر السماء يحسّن الجوّ إذ يخفف من شدّة الحر، ويهدىء من شدّة البرودة.
والتعبير بـ "الرحمة" عن المطر مذكور في عدة آيات من القرآن كما في الآية (48) من سورة الفرقان، والآية (63) من سورة النمل، ونقرأ كذلك في سورة الشورى الآية (28) قوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته ).
ومع الإلتفات إلى العلاقة بين المبدأ والمعاد في المسائل المختلفة فإن "القرآن" يضيف قائلا في نهاية الآية: (إنّ ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير ).
والتعبير بـ "محيي" بصيغة اسم الفاعل مكان الفعل المضارع، وخاصّة مع كونه مسبوقاً بلام التوكيد، دليل على منتهى التأكيد.
ولقد رأينا مراراً في آيات القرآن الكريم، أن هذا الكتاب السماوي ـ من أجل إثبات مسألة المعاد ـ ينتخب نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها شاهداً على ذلك!.
ففي سورة (ق) الآية (11) يعقب القرآن بعد التعبير بحياة الأرض بعد موتها قائلا: (كذلك الخروج )!
ويشبه هذا التعبير في الآية (9) من سورة فاطر إذ يقول القرآن: (كذلك النشور ).
[564]
والواقع أن قانون الحياة والموت في كل مكان متشابه.. فالذي يحي الأرض الميتة بقطرات السماء، ويهبها الحركة والبهجة، ويتكرر هذا العمل على طول السنة، وأحياناً في كل يوم، فإن له هذه القدرة على إحياء الناس بعد الموت، فالموت بيده في كل مكان، كما أن الحياة بأمره أيضاً.
صحيح أن الأرض الميتة لا تحيى ظاهراً، بل تنمو البذور التي في قلب الأرض، ولكننا نعلم أن هذه البذور الصغيرة تجذب مقداراً عظيماً من أجزاء الأرض إلى نفسها، وتحوّل الموجودات الميتة إلى موجودات حية! وحتى بقايا هذه النباتات المتلاشية ـ أيضاً ـ تمنح القدرة والقوة للأرض لكي تحيى من جديد.
وفي الحقيقة لم يكن لمنكري المعاد أي دليل على مدعاهم سوى الاستبعاد، والقرآن المجيد إنّما يستشهد بهذه الأمثال لإحباط هذا الاستبعاد منهم أيضاً.
* * *
[565]
الآيات
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ (52) وَمَآ أَنْتَ بِهَـدِ الْعُمْىِ عَن ضَلَـلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَيَـتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ (53) اللهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ ضَعْف ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْف قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ قُوَة ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
التّفسير
الموتى والصُّمّ لا يسمعون كلامك:
حيث أنّ الكلام كان ـ في الآيات السابقة ـ عن الرياح المباركة التي كانت مبشرات بالغيث والرحمة، ففي أوّل آية من الآيات أعلاه إشارة إلى الرياح المدمرّة والتي تجلب الضرر، إذ يقول القرآن في هذا الصدد: (ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفرّاً لظلّوا من بعده يكفرون ).
أُولئك هم الضعفاء الحمقى فهم قبل نزول الغيث مبلسون آيسون، وبعد نزوله مستبشرون، وإذا هبت ريح صفراء في بعض الأيّام وابتلُوا مؤقتاً تراهم يتصارخون وبالكفر يجأرون ويتجرأون!
[566]
على العكس من المؤمنين الصادقين الذين هم بنعمة الله مستبشرون وعليهايشكرون، وعند نزول المصائب والمشاكل تراهم صابرون، ولا يؤثر التغيير المعاشي والحياتي المادي في إيمانهم أبداً، وليسوا كعمي القلوب ضعيفي الإيمان، الذين يظهرون إيمانهم بمجرّد هبوب الريح، ويكفرون مرّة أُخرى إذا هبت الريح بشكل آخر!
وكلمة "مصفراً" مشتقّة من "الصُفرة" على زنة "سفرة" وهي لون معروف، ويعتقد أكثر المفسّرين أن الضمير في "رأوه" يعود على الشجر والنباتات التي تصفر وذبل على أثر هبوب الرياح المخربة.
واحتمل بعضهم أنّ الضمير يعود على السحاب، والسحاب المصفّر طبعاً سحاب خفيف، وهو عادة لا يحمل قطراً، على العكس من الغيوم السود الكثيرة، فإنّها تولد الغيث والقطر.
كما يعتقد بعضهم أنّ الضمير في "رأوه" يعود على الريح، لأنّ الرياح الطبيعية عادة لا لون فيها (فهي عديمة اللون) إلاّ أن الرياح التي تهب وهي مصفرة، فهي ريح سموم وهجير، وفي كثير من الأحيان تحمل معها الغبار.
وهناك احتمال رابع، وهو أنّ "المصفّر" معناه الخالي، لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته، يطلق على الإناء الخالي، والبطن الخالية من الطعام، والأوردة من الدم أنّها (صفر) على وزن (سفر)، فعلى هذا يكون هذا التعبير آنف الذكر في شأن الرياح الخالية من القطر والغيث.
وفي هذه الصورة يعود الضمير في "رأوه" على الريح (فلاحظوا بدقة).
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أشهر من الجميع!
وما يستلفت النظر، هو أنّ الرياح النافعة ذات الغيث جاءت هنا بصيغة الجمع، ولكن على العكس منها الريح التي تجلب الضرر فقد جاءت بصيغة المفرد، وهي إشارة إلى أنّ معظم الرياح نافعة ومفيدة، غير أن ريح السموم هي من
[567]
الحالات الإستثنائية التي تهب أحياناً في السنة مرّة أو في الشهر مرّة.. لكن الرياح المفيدة تهب دائماً (ليل نهار).
أو أنّها إشارة إلى أنّ الرياح النافعة إنّما تكون كذلك ويكون لها أثرها المفيد، إذا تتابعت، غير أن الريح السيئة تترك أثرها عند هبوبها في المرّة الأولى.
وآخر ما ينبغي الإشارة إليه من اللطائف الضرورية في ذيل هذه الآية، هو التفاوت ما بين (يستبشرون ) في شأن الرياح النافعة التي ذكرتها الآية المتقدمة، وجملة (لظلوا من بعده يكفرون ) الواردة في الآية محل البحث.
وهذا الإختلاف أو التفاوت يدل على أنّهم يرون هذه النعم العظيمة المتتابعة التي أنعمها الله عليهم فيفرحون ويستبشرون، غير أنّهم لو أصيبوا مرّة واحدة أو يوماً واحداً بمصيبة، فإنّهم يضجون ويكفرون حتى كأنّهم غير تاركين للكفر، حل بهم!.
وهذا تماماً يشابه حال أُولئك الذين يعيشون عمراً بسلامة ولا يشكرون الله، لكنّهم إذا مرضوا ليلة واحدة بالحمى "واشتعلوا بحرارتها" فإنّهم يظهرون الكفر وهذه هي حال الجهلة من ضعفاء الإيمان،
وكان لنا في هذا الصدد في الآية (35) من هذه السورة، والآيتين (9) و (10) من سوره هود، والآية (11) من سورة الحج بحوث أخر أيضاً.
وفي الآيتين التاليتين ـ بمناسبة البحث الوارد في الآية السابقة ـ فإن الناس يُقسمون إلى أربعة طوائف:
1 ـ طائفة "الموتى" الذين لا يدركون أية حقيقة، وإن كانوا أحياءً في الظاهر!
2 ـ وطائفة "الصُم" الذين هم غير مستعدين للإستماع إلى الكلام الحق.
3 ـ وطائفة "العمي" الذي حُرموا من رؤية وجه الحق!
4 ـ وأخيراً طائفة المؤمنين الصادقين الذين لهم قلوب يفقهون بها، ولهم
[568]
أعين يبصرون بها، ولهم آذان يسمعون بها.
فتقول الآية الأولى: (فإنّك لا تسمع الموتى ) ولذلك لا تؤثر مواعظك في أصحاب القلوب الميتة.
وكذلك (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ).
وتأتي الآية الثّانية لبيان بقية الطوائف فتقول: (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ).
وكما قلنا من قبل، فإنّ القرآن لديه ماهو أفضل من "الحياة والموت الماديين والجسمانيين" وأفضل من السمع والبصر الظاهريين فلديه نوع اسمى من هذه الحياة والموت والسمع والبصر، وتكمن فيها سعادة الإنسان أو شقاؤه!
فالقرآن لديه معيار لتقييم هذه الأمور، لا بالقيمة المادية والفيزيائية، بل القيمة المعنوية والإنسانية.
والشرط الأوّل لإدراك الحقيقة أن يكون للإنسان قلب مهيأ ومستعد، وعين باصرة وأذن سميعة، وإلاّ فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياء وتلوا جميع الآيات الإلهية على من لا يدرك الحقيقة لما اقترفه من الذنوب واللجاجة والعناد، فإنها لن تؤثر فيه!.
وإنّما أشار القرآن إلى هاتين الحاستين الظاهرتين، بالإضافة إلى الإدراك الباطني فحسب، فلأجل أن أكثر معلومات الإنسان، إمّا أن يكون عن طريق هاتين الحاستين [ العين والأذن] ، أو عن طريق الوجدان والتحليل العقلي!
والطريف هنا أنّ المراحل الثلاث ـ الواردة في الآيات الآنفة الذكر ـ هي ثلاث مراحل مختلفة من الإنحراف وعدم درك الحقيقة، وهي تبدأ من شديدها وتنتهي بالخفيف منها!
فالمرحلة الأولى: هي موت القلوب المعبر عنها بـ "الموتى" وهذه المرحلة ليس للحقيقة أي طريق للنفوذ فيها.
[569]
والمرحلة الثّانية: مرحلة "الصمم" وعدم السمع، ولا سيما عند أُولئك الذين يديرون ظهورهم وهم في حالة الفرار، فقد يؤثر فيهم الصراخ الشديد لو كانوا قريبين، لكن في مثل هذه الحال وهم يفرون، فلا!
وبالطبع فإنّ هذه الطائفة ليست كالموتى، فمن الممكن أحياناً أن يتمّ تفهيمهم بالإشارة أو العلامة، إلاّ أنّنا نعرف أن كثيراً من الحقائق لا يمكن بيانها وإيصالها إلى الذهن بالإشارة! وخاصة حين يدير الطرف الآخر ظهره ويكون بعيداً.
المرحلة الثّالثة: (العمى) ، وبالطبع فإن الحياة مع العمي أسهل بمراتب من الحياة مع "الصُم" أو الحياة مع "الموتى"، فعلى الأقل لديهم آذان سميعة، ويمكن إيصال كثير من المفاهيم إليهم... لكن اين السمع في إدراك الحقائق من البصر؟!
ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ تبيين المسائل غير كاف وحده، فلنفرض أن يقال للأعمى سر باتجاه اليمين أو اليسار، فإنّ تطبيق هذا الأمر ليس سهلا، وربّما بأقل خطأ ـ أحياناً ـ في تحديد المقدار، يؤدي بالأعمى إلى السقوط!
وفي بحثنا المفصل في ذيل الآيتين (80) و (81) من سورة النمل، بيّنا ـ ضمن التحليل لحقيقة الحياة والموت ـ الإشكال الواهي الذي أثاره جماعة من الوهابيين، إذ يستعينون بمثل هذه الآيات ـ محل البحث وغيرها ـ لإثبات عدم جواز التوسل بالنّبي والأئمّة الطاهرين، ويقولون: إنّ الموتى (حتى النّبي) لايفهمون شيئاً.
غير أنّنا أثبتنا هناك أن الإنسان ـ خاصّة من هو بمستوى الأئمة الكرام والشهداء العظام ـ له نوع من الحياة البرزخية بعد الموت، وهناك وثائق كثيرة وأدلة متعددة من القرآن والأحاديث تشهد بذلك وتؤيده، وفي هذه الحياة البرزخية إدراك وبصر أوسع من الحياة الدنيوية (لمزيد الإيضاح يراجع التّفسير الأمثل، ذيل الآيات المشار إليها آنفاً).
[570]
وهنا ينبغي أن نضيف هذه الجملة، وهي أن جميع المسلمين في صلاتهم ـ دائماً ـ يخاطبون النّبي(صلى الله عليه وآله) ويلسمون عليه بهذه الجملة "السلام عليك أيّها النّبي ورحمة الله وبركاته" ونعرف أنّ المخاطبة الحقيقة لا المجازية يجب أن تكون ـ حتماً ـ مع إنسان يسمع ويدرك!
فعلى هذا الأساس لازم السلام على النّبي بهيأة المخاطبة من بعيد أو قريب، أن روحه المقدسة تسمع جميع هذه التحيات، ولا دليل يقودنا إلى أن نحمل هذه التحيات على المجاز!.
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يشير القرآن إلى دليل آخر من أدلة التوحيد، وهو دليل الفقر والغنى، ويكمل البحوث التي تدور حول التوحيد في هذه السورة، فيقول: (الله الذي خلقكم من ضعف ثمّ جعل من بعد ضعف قوة ثمّ جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة ).
كنتم في البداية ضعافاً إلى درجة أنّكم لم تكن لكم القدرة على طرد الذباب عنكم، أو أن تحافظوا على لعاب أفواهكم أن يسيل، هذا من الناحية الجسمية، أمّا من الناحية الفكرية فمصداقة قوله تعالى: (لاتعلمون شيئاً ) بحيث لم تعرفوا حتى أبويكم المشفقين عليكم.
لكن ـ قليلا قليلا ـ صرتم ذوي رشد وقوّة، وصار لكم جسم قوي، وفكر جيد، وعقل مقتدر إدراك واسع!
ومع هذه الحال لم تستطيعوا أن تحافظوا على هذه القوّة، فمثلكم كمن يصعد من طرف الجبل إلى قمته، ثمّ يبدأ بالإنحدار من القمة إلى قعر الوادي، الذي يمثل "مرحلة ضعف الجسم والروح".
هذا التغير والصعود والنّزول خير دليل لهذه الحقيقة، وهي أنّه لم تكن القوّة من عندكم ولا الضعف، فكل منهما كان من جهة أُخرى، وهذا بنفسه دليل على أن وراءكم من يدبّر اُموركم ويسيّر حياتكم وما عندكم فهو أمر عارض!
[571]
وهذا هو ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلامه النيّر إذ قال: "عرفت الله بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم" (1).
لقد عرفت من هذا الإختلاف والتغير أن القوة الأصلية ليست بأيدينا، فهي بيد الله، وليس لدينا بنحو مستقل أي شيء سوى ما وهبنا إيّاه!
ومن الطريف أنّ القرآن يضيف ـ عند بيان الضعف الثّاني للإنسان ـ كلمة (وشيبة ) غير أنّه لم يذكر "الطفولة" في الضعف الأول...
وهذا التعبير ربّما كان إشارة إلى أن ضعف الشيخوخة والشيب أشدّ ألماً، لأنّه على العكس من ضعف الطفولة، إذ يتجه نحو الفناء والموت... هذا أوّلا.
وثانياً فإن ما يتوقع من الشيبة والمسنين مع ما لهم تجارب ليس كما يتوقع من الأطفال، على حين أن ضعف كل منهما مشابه للآخر، وهذا الموضوع يدعوا إلى الإعتبار كثيراً.
فهذه المرحلة هي التي تدفع الأقوياء والطغاة إلى الانحناء، وتجرهم إلى الضعف والذلة!
أمّا آخر جملة في الآية فهي إشارة إلى علم الله الواسع وقدرته المطلقة: (يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) وهي بشارة وإنذار في الوقت ذاته، أي إن الله مطلع على جميع نيّاتكم، وهو قدير على مجازاتكم وثوابكم!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الجملة 250.
[572]
الآيات
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْـمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيرَ سَاعَة كَذلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالاِْيمَـنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـبِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذ لاَّ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَل وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِايَة لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنْتُمْ إلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ (60)
التّفسير
يوم لا ينفع الإعتذار:
قلنا إن في هذه السورة أبحاثاً منسجمة ومتناغمة تتعلق بالمبدأ والمعاد.. وفي الآيات ـ محل البحث ـ يعقب القرآن على البحوث التي كانت حول المبدأ والمعاد أيضاً، فيعود إلى بيان مشهد من مشاهد يوم القيامة الأليمة، وذلك بتجسيمه حالة المجرمين في ذلك اليوم، إذ يقول: (ويوم تقوم الساعة يقسم
[573]
المجرمون ما لبثوا غير ساعة ) في عالم البرزخ أجل (كذلك كانوا يؤفكون )فإنّهم فيما سبق كانوا محرومين من إدراك الحقائق ومصروفين عنها.
والتعبير بـ "الساعة" عن يوم القيامة ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ هو إمّا لأنّ يوم القيامة يقع في لحظة مفاجئة، أو لأنّه من جهة أن أعمال العباد تحاسب بسرعة هناك،
لأنّ الله سريع الحساب، ونعرف أنّ "الساعة" في لغة العرب تعني جزءاً أو لحظة من الزمن(1).
وبالرغم من أنّ الآية المتقدمة لم تشر إلى مكان (اللبث) حتى احتمل بعضهم أنّ المراد منه هو لبثهم في الدنيا، الذي هو في الواقع بمثابة لحظة عابرة لا أكثر،
إلاّ أنّ الآية التي بعدها دليل واضح على أن المراد منه هو اللبث في عالم البرزخ.. وعالم ما بعد الموت.. وما قبل القيامة، لأنّ جملة (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ) تنهي هذا اللبث إلى يوم القيامة، ولا يصح هذا إلاّ في شأن البرزخ (فلاحظوا بدقة) .
ونعرف ـ هنا أيضاً ـ أن "البرزخ" ليس للجميع على شاكلة واحدة، فقسم له في البرزخ حياة واعية، وقسم مثلهم كمن يغط في نوم عميق ـ في عالم البرزخ ـ ويستيقظون في يوم القيامة، ويتصورون آلاف السنين ساعة واحدة(2).
* * *
مسألتان
الأوّل: كيف يقسم المجرمون مثل هذا القسم الكاذب؟
والجواب واضح، فهم يتصورون ـ واقعاً ـ مثل هذا التصور، ويظنون أن فترة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا في هذا الصدد بحث مفصّل ذيل الآية (14) من هذه السورة.
2 ـ بيّنا هذا البحث "المتعلق بموضوع البرزخ" في ذيل الآية 100، من سورة المؤمنون، كما نوّهنا عن هذه اللطيفة والمسألة الدقيقة هناك.
[574]
البرزخ كانت قصيرة جدّاً، لأنّهم كانوا في حالة تشبه النوم، ألا ترى أن أصحاب الكهف الذين كانوا صالحين مؤمنين، حين أفاقوا بعد نوم طويل، تصوروا أنّهم لبثوا يوماً أو بعض يوم في منامهم.
أو أن أحد الأنبياء الواردة قصته في سورة البقرة [ الآية 259] بعد أن أماته الله مئة عامة ثمّ بعثه للحياة ثانية، لم يظهر في تصوره غير أنّه لبث يوماً أو بعض يوم.
فما يمنع أن يتصور المجرمون ـ مع ملاحظة حالتهم الخاصة في عالم البرزخ وعدم إطلاعهم ـ مثل هذا التصور!؟
لذا يقول المؤمنون الذين أُوتوا العلم ـ كما تذكره الآية التي تأتي بعد هذه الآية ـ : إنّكم غير مُصيبين في قولكم، إذ لبثتم في عالم البرزخ إلى يوم القيامة، وهذا هو يوم القيامة!.
ومن هنا تتّضح المسألة الثّانية. أي تفسير جملة (كذلك كانوا يؤفكون )لأنّ "الإفك" في الأصل معناه تبدل الوجه الحقيقي والإنصراف عن الحق، وهذه الجماعة ابتعدت عن الواقع لحالتها الخاصة في عالم البرزخ، فلم تستطع أن تحدد لبثها في عالم البرزخ.
ومع ملاحظة أنّه لاحاجة لنا إلى الأبحاث الطويلة التي بحثها جمع من المفسّرين، وفي أنّه لم يكذب المجرمون عمداً في يوم القيامة، لأنّه ليس في الآية دليل على كذبهم العمد في هذه المرحلة!.
وبالطبع فإنّنا نرى في آيات القرآن الأخر أمثلة من أكاذيب المجرمين يوم القيامة، وقد بيّنا الإجابة المفصلة على كل ذلك في ذيل الآية (23) من سورة الأنعام، لكن ذلك البحث لا علاقة له بموضوع هذه الآيات!
أمّا الآية التالية فتتحدث عن جواب المؤمنين المطلعين على كلام المجرمين الغافلين عن حالة البرزخ والقيامة فتقول: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لا
[575]
تعلمون ).
وتقديم العلم على الإيمان هو لأنّ العلم أساس الإيمان.
والتعبير (في كتاب الله ) لعله إشارة إلى الكتاب التكويني، أو إلى الكتاب السماوي، أو إشارة إليهما معاً، أي كان ـ بأمر الله التكويني والتشريعي ـ مقدّراً أن تلبثوا مثل هذه المدّة في البرزخ، ثمّ تحشرون في يوم القيامة(1).
وفي أن المقصود بـ (الذين أوتوا العلم والإيمان ) من هم ؟!
قال بعض المفسّرين: هي إشارة إلى ملائكة الله الذين لهم علم وهم مؤمنون أيضاً.
وقال بعضهم: المقصود هم المؤمنين العالمون، والمعنى الثّاني أظهر طبعاً.
وما ورد في بعض الرّوايات من تفسير هذه الآية بالأئمّة الطاهرين، فهو من قبيل المصداق الواضح لها، ولا يحدد معناها الوسيع.
وهذه اللطيفة جديرة بالإلتفات، وهي أن بعض المفسّرين قالوا: إنّ ما قاله المجرمون مقسمين بأنّهم ما لبثوا غير ساعة، وما ردّه عليهم الذين أوتوا العلم والإيمان بأنّهم لبثوا إلى يوم البعث، هذه المحاورة والكلام منشؤهما أنّ الطائفة الأُولى ـ لأنّهم كانوا يتوقعون العذاب ـ كانوا يرغبون في تأخيره، وكانت الفاصلة وإن طالت بالنسبة لهم قصيرة جدّاً عندهم.
أمّا الطائفة الثّانية فلأنّهم كانوا ينتظرون الجنّة ونعمها الخالدة وراغبين في تقديمها، فكانوا يرون الفاصلة طويلة جدّاً(2).
وعلى كل حال، فحين يواجه المجرمون واقعهم المرير المؤلم يظهرون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في كون الآية، هل فيها تقديم وتأخير، أم لا؟ هناك كلام ونقاش بين المفسّرين والعلماء، فقال بعضهم "في كتاب الله" متعلق بجملة "أوتوا العلم والإيمان" فيكون معنى الآية هكذا: الذين أوتوا العلم في كتاب الله ويؤمنون به قالوا مثل هذا الكلام، وقال بعضهم "في كتاب الله" متعلق بجملة "لبثتم" ونحن اخترنا هذا الرأي أيضا في شرحنا للآية، لأنّ الحكم بالتقديم والتأخير بحتاج إلى قرينة واضحة ولا نجد هنا قرينة على ذلك!.
2 ـ تفسير الفخر الرازي ذيل الآيات محل البحث.
[576]
ندمهم ويتوبون ويعتذرون ممّا صنعوا، لكن القرآن يقول في هذا الصدد: (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون )(1)
وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة، وهي أن في بعض آيات القرآن تصريحاً بعدم الإذن للمجرمين أن يعتذروا (ولا يؤذن لهم فيعتذرون )(2)
غير أنّ الآية محل البحث تقول: لا ينفعهم الإعتذار هناك، وظاهرها أنّهم يعتذرون، إلاّ أنّه لا أثر لاعتذارهم.
وبالطبع فإنّه لا تضاد بين هذه الآيات، لأنّ يوم القيامة فيه مراحل مختلفة، وفي بعض المراحل لا يؤذن للمجرمين بالإعتذار أبداً ويختم على أفواههم... وإنّما تتحدث الجوارح بما أساءت فحسب... وفي بعض المراحل تنطلق ألسنتهم بالإعتذار، إلاّ أنّه... لا ينفعهم الإعتذار أبداً.؟!
وواحد من أعذارهم أنّهم يلقون تبعات ذنوبهم على أشياخهم في الكفر والنفاق، فيقولون لهم: (لولا أنتم لكنا مؤمنين )(3)، إلاّ أن أُولئك يردون عليهم بالقول: (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم )(4)
وأحياناً يلقون اللوم على الشيطان في تضليلهم وانحرافهم وأنّه وسوس لهم، إلاّ أن الشيطان يجيبهم (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم )(5)، أي لم أكرهكم على الكفر، إلاّ أنّكم استجبتم لي برغبتكم.
وفي الآية التالية إشارة لجميع المواضيع الوارد بيانها في هذه السورة... إذ تقول: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) لقد ذكرنا فيه الوعد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كلمة "يستعتبون" مشتقة من "عتب" على وزن "حتم" ومعناها في الأصل الإضطراب النفسي "الداخلي" وحين يصاغ هذا الفعل من باب الإفعال فيكون معناه ازالة هذا الأثر والإضطراب، كما جاء في لسان العرب أن الإستفعال يؤدي معنى الإفعال هنا، لذلك يقال في شأن الإسترضاء معناه طلب الرضا والتوبة، ومعنى الكلمة هنا في الآية هو بمثل ما ذكرناه، ومعنى ذلك أنّ المجرمين في يوم القيامة ليس لهم القدرة على التوبة.
2 ـ المرسلات، الآية 36.
3 ـ سبأ، الآية 31.
4 ـ سبأ، الآية 32.
5 ـ إبراهيم، الآية 22.
[577]
والوعيد، الأمر والنهي، البشارة والإنذار، الآيات الآفاقية والأنفسية، دلائل المبدأ والمعاد والأخبار الغيبية والخلاصة ذكرنا فيه كل شىء يمكن أن يؤثر في نفوس الناس.
وفي الحقيقة، إنّ في القرآن ـ بشكل عام ـ وسورة الروم ـ بشكل خاص ـ حيث نحن الآن في مراحلها النهائية، مجموعة من المسائل والدروس الموقظة لكل فئة، ولكل طبقة، ولكل جماعة، ولكل فكر وأسلوب... مجموعة من العبر، والمسائل الأخلاقية، والخطط والمناهج العملية، والأُمور الإعتقادية، بحيث استفيد من جميع الطرق والأساليب المختلفة للنفوذ في أفكارالناس ودعوتهم إلى طريق السعادة!
ومع هذه الحال، فهناك طائفة لا يؤثر في قلوبهم المظلمة السوداء أي من هذه الأُمور، لذلك يقول القرآن في شأنهم: (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلاّ مبطلون ).
والتعبير بـ "مبطلون" تعبير جامع يحمل كل معاني الدجل والإفتراء والنسب الكاذبة والفاسدة من قبل المشركين، كنسبة الكذب للنبي(صلى الله عليه وآله) والسحر والجنون والأساطير الخرافية، إذ أن كل واحد من هذه الأُمور يمثل وجهاً من وجوه الباطل، وقد جمعت كل هذه الأُمور تحت كلمة "مبطلون".
أجل، إنّهم كانوا يتهمون الأنبياء دائماً بواحد من هذه الأُمور الباطلة، ليشغلوا عنهم الناس الطيبين الطاهرين ولو لعدّة أيّام ـ بما ينسبونه للأنبياء ممّا أشرنا إليه.
والمخاطب في كلمة "أنتم" يمكن أن يكون النّبي(صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الحقيقيين، ويمكن أن يكون جميع أصحاب الحق من الأنيباء والائمّة المعصومين(عليهم السلام)وأتباعهم، لأنّ هذه المجموعة من الكفار تخالف جميع اتباع الحق.
والآية التي بعدها تبيّن السبب في مخالفة هذه الطائفة،فتقول: إن لجاجة هؤلاءالتي لاحدّ لها وعداءهم للحق، إنّما هو لفقدانهم الإحساس والإدراك
[578]
بسبب كثرة ذنوبهم، ولأنّهم لا يعلمون شيئاً... إذ تقول: (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ).
وكلمة "يطبع" مأخوذة من الطبع، ومعناها ختم الشيء، وهي إشارة إلى ما كان يجري في السابق، وهو جار أيضاً اليوم إذ يختم على الشيء كيلا يتصرف به ويُغلق بإحكام، وقد يضعون عليه القفل ويضربون عليه مادة لزجة مختومة بإشارة معينة كما بيّنا بحيث لا يمكن فتح ذلك الشيء إلاّ بكسره، فيفتضح أمره بسرعة.
وكان القرآن استعمل هذا التعبير كناية عن القلوب التي لا ينفذ إليها النصح، والذين فقدوا الوجدان والعقل والعلم، ولا أمل في هدايتهم.
وممّا يسترعي الإنتباه أنّ في الآيات السابقة ذكر العلم أساساً للإيمان، وفي هذه الآية ذُكر الجهل أساساً للكفر وعدم التسليم للحق.
أمّا آخر آية ــ من الآيات محل البحث ـ التي تقع في آخر سورة الروم، فهي تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله) أمرين مهمين، وتبشره بشارة كبرى، لتحثه على مواصلة الوقوف والتصدي للمشركين والجاهلين والسفهاء بالاستقامة والصبر.
تقول أوّلا: اذا كان الأمر كذلك، فعليك بالصبر والإستقامة امام الحوادث المختلفة، وفي مقابل انواع الأذى والبهتان والمصاعب (فاصبر ).
لأنّ الصبر والإستقامة هما مفتاح النصر الأصيل.
وليكون النّبي(صلى الله عليه وآله) أكثر اطمئناناً، فإنّ الآية تضيف (إن وعد الله حق ) فقد وعدك والمؤمنين بالنصر، والإستخلاف في الأرض، وغلبة الإسلام على الكفر، والنور على الظلمة، والعلم على الجهل. وسوف يُلبس هذا الوعد ثوب العمل!.
وكلمة "الوعد" هنا إشارة إلى الوعود المكررة التي وعدها القرآن في انتصار المؤمنين، ومن ضمنها الآية (47) من هذه السورة (وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين ).
والآية (51) من سورة غافر (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا
[579]
ويوم يقوم الإشهاد! ).
وتقول الآية (56) من سورة المائدة أيضاً (فإنّ حزب الله هم الغالبون ).
وتأمر ثانياً بضبط الأعصاب والهدوء وعدم الإنحراف في المواجهة الشديدة والمتتابعة، حيث تقول الآية: (ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون ).
إنّ مسؤوليتك أن تتحمل كل شيء، وأن يتسع صدرك وخلقك لجميع الناس فهذا هو الجدير بقائد وزعيم لأمثال هؤلاء.
كلمة (لا يستخفنّك ) مشتقّة من "الخفة" وهي خلاف الثقل، أي كن رزيناً قائماً على قدميك لئلا يهزك مثل هؤلاء الأفراد ويحركوك من مكانك، وكن ثابتاً ومواصلا للمسيرة باطمئنان، إذ أنّهم فاقدوا اليقين، وأنت مركز اليقين والإيمان!.
هذه السورة بدأت بوعد انتصار المؤمنين على الأعداء، وانتهت أيضاً بهذا الوعد، إلاّ أن شرطها الأساس هو الصبر والاستقامة!.
* * *
ربّنا، هب لنا صبراً واستقامة حتى لا يهزنا طوفان الحوادث والمشاكل من مكاننا أبداً.
إلهنا، نلتجىء إلى ذاتك المقدسة، ألاّ نكون من زمرة الذين لا تؤثر في قلوبهم الموعظة والنصح والإرشاد والعبر والنذر!.
إلهنا، إن أعداءنا متحدون، وهم مسلّحون بأنواع الأسلحة الشيطانية، فانصرنا ـ ربّنا ـ على أعدائنا في الخارج، وشيطاننا في الداخل.
آمين يا رب العالمين
انتهاء سورة الروم
ونهاية المجلد الثاني عشر
* * *
[580]
[581]