الأَمْثَلُ
في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل
طبعة جديدة منقّحة مع إضافات
تَأليف
العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى
الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي
المجَلّد الثالث عشر
سورة لقمان
مكّيّة وعددُ آياتِها أربعَ وثلاثونَ آية
[6]
[7]
"سورة لقمان"
محتوى السورة:
المعروف والمشهور بين المفسّرين أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد استثنى بعض آيات هذه السورة كالشيخ الطوسي في (التبيان) حيث استثنى الآية الرّابعة التي تتحدّث عن الصلاة والزكاة، أو الفخر الرازي الذي استثنى مضافاً إلى هذه الآية، والآية (27) التي تبحث في علم الله الواسع، إلاّ أنّه لا يوجد دليل واضح لهذه الإستثناءات، لأنّ الصلاة والزكاة ـ الزكاة بصورة عامّة طبعاً ـ كانتا موجودتين في مكّة أيضاً، وقضيّة البحث عن سعة علم الله لا تصلح لأن تكون دليلا على كونها مدنية.
بناءً على هذا، فإنّ سورة لقمان بحكم كونها مكّية تشتمل على محتوى السور المكّية العام، أي أنّها تبحث حول العقائد الإسلامية الأساسية، وخاصّة المبدأ والمعاد، وكذلك النبوّة. وبصورة عامّة فإنّ محتوى هذه السورة يتلخّص في خمسة أقسام:
القسم الأوّل: يشير ـ بعد ذكر الحروف المقطّعة ـ إلى عظمة القرآن وكونه هدى ورحمة للمؤمنين الذين يتمتّعون بصفات خاصّة، ويتحدّث في الطرف المقابل عن الذين يظهرون التعصّب والعناد أمام هذه الآيات البيّنات بحيث يبدون وكأنّهم صمّ الآذان، بل يسعون أيضاً إلى صرف الآخرين عن القرآن عن طريق إيجاد وسائل لهو غير صحيحة.
القسم الثّاني: يتحدّث عن آيات الله في خلق السماء ورفعها بدون أي عمد، وخلق الجبال، والاحياء المختلفة، ونزول المطر، ونموّ النباتات.
[8]
القسم الثّالث: ينقل جانباً من كلام لقمان الحكيم والمتألّه في وصيّته لإبنه، ويبدأ من التوحيد ومحاربة الشرك، وينتهي بالوصيّة بالإحسان إلى الوالدين، والصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثبات أمام الحوادث الصعبة، والبشاشة والطلاقة مع الناس، والتواضع والإعتدال في الاُمور.
في القسم الرّابع: تعود السورة إلى أدلّة وعلامات التوحيد مرّة اُخرى فتتحدّث عن تسخير السماء والأرض ونعم الله الوفيرة، وذمّ منطق الوثنيين الذين سقطوا في وادي الضلال والإنحراف نتيجة التقليد واتّباع الآباء والأجداد، وتجعلهم يقرّون بمسألة كون الله خالقاً التي هي أساس العبودية له.
وتكشف الستار عن علم الله المطلق بذكر مثال واضح، وتبحث في هذا الباب ـ إضافة إلى ذكر آيات الآفاق ـ عن التوحيد الفطري الذي يتجلّى عند الوقوع في عواصف البلاء، وتطرح ذلك بشكل رائع.
أمّا القسم الخامس: فإنّه يشير إشارة قصيرة مؤثّرة تهزّ الوجدان إلى مسألة المعاد والحياة بعد الموت، وتحذّر الإنسان من الإغترار بهذه الدنيا، وتحثّه على أن يفكّر بتلك الحياة الخالدة ويتهيّأ لها.
ثمّ تنهي هذا المبحث بذكر جانب من علم الله بالغيب بما يتعلّق بالإنسان، ومن جملة ذلك لحظة موته، وحتّى على الجنين في بطن اُمّه، وبذلك تنتهي السورة.
ومن الواضح أنّ تسمية هذه السورة بسورة "لقمان" بسبب البحث المهمّ العميق المحتوى الذي ورد في هذه السورة عن مواعظ لقمان، وهي السورة الوحيدة التي تتحدّث عن هذا الرجل الحكيم.
وردت روايات عديدة عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبعض أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في فضل هذه السورة، ومن جملتها ما ورد في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله): "من قرأ سورة
[9]
لقمان كان لقمان له رفيقاً يوم القيامة، واُعطي من الحسنات عشراً بعدد من عمل بالمعروف ونهى عن المنكر"(1).
وفي حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): "من قرأ سورة لقمان في ليلة وكّل الله به في ليلته ثلاثين ملكاً يحفظونه من إبليس وجنوده حتّى يصبح، فإذا قرأها بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس وجنوده حتّى يمسي"(2).
وقلنا مراراً، بأنّ كلّ هذا الفضل والثواب والإمتياز لتلاوة سورة من القرآن لأنّ التلاوة مقدّمة للتفكّر، والتفكّر مقدّمة للعمل، ويجب أن لا يتوقّع الإنسان كلّ هذا الفضل بلقلقة اللسان فقط.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان: ج8، ص312.
2 ـ نور الثقلين، ج4، ص193.
[10]
الآيات
الم(1) تِلْكَ ءَايَـتُ الْكِتَـبِ الْحَكِيمِ(2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ(3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4) أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)
التّفسير
من هم المحسنون؟
(الم) تبدأ هذه السورة بذكر أهميّة وعظمة القرآن، وبيان الحروف المقطّعة في بدايتها إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الآيات التي تتركّب من حروف الألف باء البسيطة، لها محتوى ومفهوم سام يغيّر مصير البشر بصورة تامّة. ولذلك فإنّها تقول بعد ذكر الحروف المقطّعة: (تلك أيات الكتاب الحكيم).
(تلك) في لغة العرب إشارة للبعيد، وقلنا مراراً أنّ هذا التعبير بالخصوص كناية عن عظمة وأهميّة هذه الآيات، وكأنّها في أعالي السماء وفي نقطة بعيدة المنال.
[11]
إنّ وصف "الكتاب" بـ "الحكيم" إمّا لقوّة ومتانة محتواه، لأنّ الباطل لا يجد إليه طريقاً وسبيلا، ويطرد عن نفسه كلّ نوع من الخرافات والأساطير، ولا يقول إلاّ الحقّ، ولا يدعو إلاّ إليه، وهذا التعبير في مقابل (لهو الحديث) الذي يأتي في الآيات التالية تماماً.
أو بمعنى أنّ القرآن كالعالم الحكيم الذي يتكلّم بألف لسان في الوقت الذي هو صامت لا ينطق، فيعلّم، ويعظ وينصح، ويرغّب ويرهّب، ويحذّر ويتوعّد، ويبيّن القصص ذات العبرة، وخلاصة القول فإنّه حكيم بكلّ معنى الكلمة. ولهذه البداية علاقة مباشرة بكلام لقمان الحكيم الذي ورد البحث فيه في هذه السورة.
ولا مانع ـ طبعاً ـ من أن يكون المعنيان مرادين في الآية أعلاه.
ثمّ تذكر الآية التالية الهدف النهائي من نزول القرآن، فتقول: (هدىً ورحمةً للمحسنين).
إنّ الهداية في الحقيقة مقدّمة لرحمة الله، لأنّ الإنسان يجد الحقيقة أوّلا في ظلّ نور القرآن، ويعتقد بها ويعمل بها، وبعد ذلك يكون مشمولا برحمة الله الواسعة ونعمه التي لا حدّ لها.
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ هذه السورة إعتبرت القرآن سبباً لهداية ورحمة "المحسنين"، وفي بداية سورة النمل: (هدىً وبشرى للمؤمنين) وفي بداية سورة البقرة: (هدىً للمتّقين).
وهذا الإختلاف في التعبير ربّما كان بسبب أنّ روح التسليم وقبول الحقائق لا تحيا في الإنسان بدون التقوى، وعند ذلك سوف لا تتحقّق الهداية، وبعد مرحلة قبول الحقّ نصل إلى مرحلة الإيمان التي تتضمّن البشارة بالنعم الإلهية علاوة على الهداية، وإذا تقدّمنا أكثر فسنصل إلى مرحلة العمل الصالح، وعندها تتجلّى رحمة الله أكثر من ذي قبل.
بناءً على هذا فإنّ الآيات الثلاث أعلاه تبيّن ثلاث مراحل متعاقبة من مراحل
[12]
تكامل عباد الله: مرحلة قبول الحقّ، ثمّ الإيمان، فالعمل، والقرآن في هذه المراحل مصدر الهداية والبشارة والرحمة على الترتيب ـ تأمّلوا ذلك ـ .
ثمّ تصف الآية التالية المحسنين بثلاث صفات، فتقول: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) فإنّ إرتباط هؤلاء بالخالق عن طريق الصلاة، وبخلق الله عن طريق الزكاة، ويقينهم بمحكمة القيامة باعث قوي على الإبتعاد عن الذنب والمعصية، ودافع لأداء الواجبات.
وتبيّن الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ عاقبة عمل المحسنين، فتقول: (اُولئك على هدىً من ربّهم واُولئك هم المفلحون).
جملة (اُولئك على هدىً من ربّهم) توحي بأنّ هداية اُولئك قد ضُمنت من قبل ربّهم من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ التعبير بـ(على) دليل على أنّ الهداية كأنّها مطيّة سريعة السير، واُولئك قد ركبوها وأخذوا بزمامها، ومن هنا يتّضح التفاوت بين هذه الهداية، والهداية التي وردت في بداية السورة، لأنّ الهداية الاُولى هي الإستعداد لقبول الحقّ، وهذه الهداية برنامج للوصول إلى الغاية والهدف.
ثمّ إنّ جملة (اُولئك هم المفلحون) التي تدلّ على الحصر وفقاً للقواعد العربية، توحي بأنّ هذا الطريق هو الطريق الوحيد إلى الإخلاص، طريق المحسنين، طريق اُولئك المرتبطين بالله وخلقه، وطريق اُولئك الذين يؤمنون إيماناً كاملا بالمبدأ والمعاد.
* * *
[13]
الآيات
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَاب أَلِيم(7) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَهُمْ جَنَّـتُ النَّعِيمِ(8) خَـلِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ حَقَّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(9)
سبب النّزول
قال بعض المفسّرين: إنّ الآية الاُولى من هذه الآيات نزلت في "النضر بن الحارث"، فقد كان تاجراً يسافر إلى ايران، وكان يحدّث قريشاً بقصص الإيرانيين وأحاديثهم، وكان يقول: إذا كان محمّد يحدّثكم بقصص عاد وثمود فإنّي اُحدّثكم بقصص رستم وإسفنديار وأخبار كسرى وسلاطين العجم، فكانوا يجتمعون حوله ويتركون إستماع القرآن.
وقال البعض الآخر: إنّ هذا المقطع من الآيات نزل في رجل اشترى جارية
[14]
مغنّية، وكانت تغنّيه ليل نهار فتشغله عن ذكر الله.
يقول المفسّر الكبير الطبرسي (رحمه الله)، بعد ذكر سبب النّزول هذا: وقد روي حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الباب يؤيّد سبب النّزول أعلاه، لأنّه (صلى الله عليه وآله) قال: "لا يحلّ تعليم المغنّيات ولا بيعهن، وأثمانهنّ حرام، وقد نزل تصديق ذلك في كتاب الله: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ...)".
التّفسير
الغناء أحد مكائد الشياطين الكبيرة.
الكلام في هذه الآيات عن جماعة يقعون تماماً في الطرف المقابل لجماعة المحسنين والمؤمنين الذين ذكروا في الآيات السابقة.
الكلام والحديث هنا عن جماعة يستخدمون طاقاتهم من أجل بثّ اللاهدفية وإضلال المجتمع، ويشترون شقاء وبؤس دنياهم وآخرتهم! فتقول أوّلا: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتّخذها هزواً)(1) ثمّ تضيف أخيراً: (اُولئك لهم عذاب مقيم).
إنّ شراء لهو الحديث والكلام الأجوف إمّا أن يتمّ عن طريق دفع المال في مقابل سماع الخرافات والأساطير، كما قرأنا ذلك في قصّة النضر بن الحارث.
أو أن يكون عن طريق شراء المغنّيات لعقد مجالس اللهو والباطل والغناء. أو صرف المال بأيّ شكل كان وفي أي طريق للوصول إلى هذا الهدف غير المشروع، أي لهو الحديث والكلام الفارغ.
والعجيب أنّ عمي القلوب هؤلاء، كانوا يشترون الكلام الباطل واللهو بأغلى القيم والأثمان، ويعرضون عن الآيات الإلهية والحكمة التي منحهم الله إيّاها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ضمير "يتّخذها" يعود إلى (آيات الكتاب) التي وردت في الآيات السابقة. واحتمل البعض أنّه يعود إلى (السبيل)، لأنّ كلمة (السبيل) قد وردت في آيات القرآن بصيغة المذكّر تارةً، وبصيغة المؤنث تارةً اُخرى.
[15]
مجّاناً!
ويحتمل أيضاً أن يكون للشراء هنا معنى كنائي، والمراد منه كلّ أنواع السعي للوصول إلى هذه الغاية.
وأمّا (لهو الحديث) فإنّ له معنىً واسعاً يشمل كلّ نوع من الكلام أو الموسيقى أو الترجيع الذي يؤدّي إلى اللهو والغفلة، ويجرّ الإنسان إلى اللاهدفيّة أو الضلال، سواء كان من قبيل الغناء والألحان والموسيقى المهيّجة المثيرة للشهوة والغرائز والميول الشيطانية، أو الكلام الذي يسوق الإنسان إلى الفساد عن طريق محتواه ومضامينه، وقد يكون عن كلا الطريقين كما هو الحال في أشعار وتأليفات المغنّين الغراميّة العاديّة المضلّلة في محتواها وألحانها.
أو يكون كالقصص الخرافية والأساطير التي تؤدّي إلى إنحراف الناس عن الصراط المستقيم.
أو يكون كلام الإستهزاء والسخرية الذي يطلق بهدف محو الحقّ وتضعيف أُسس ودعائم الإيمان، كالذي ينقلونه عن أبي جهل أنّه كان يقف على قريش ويقول: أتريدون أن اُطعمكم من الزقّوم الذي يتهدّدنا به محمّد؟ ثمّ يبعث فيحضرون الزبد والتمر، فكان يقول: هذا هو الزقّوم! وبهذا الاُسلوب كان يستهزيء بآيات الله.
وعلى كلّ حال، فإنّ للهو الحديث معنىً واسعاً يتضمّن كلّ هذه المعاني وأمثالها، وإذا أشارت الروايات الإسلامية وكلمات المفسّرين إلى إحداها، فإنّ ذلك لا يدلّ مطلقاً على إنحصار معنى الآية فيه.
وتلاحظ في الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تعبيرات تبيّن سعة معنى هذه الكلمة، ومن جملتها ما نراه في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله، وهو ممّا قال الله عزّوجلّ: (ومن الناس من يشتري لهو
[16]
الحديث ليضلّ عن سبيل الله)"(1).
والتعبير بـ (لهو الحديث) بدلا من (حديث اللهو) ربّما كان إشارة إلى أنّ الهدف الأساس لهؤلاء هو اللهو والعبث، والكلام والحديث وسيلة للوصول إليه.
ولجملة (ليضلّ عن سبيل الله) مفهوم واسع أيضاً، يشمل الإضلال العقائدي، كما قرأنا ذلك في قصّة النضر بن الحارث وأبي جهل، وكذلك يشمل الإفساد الأخلاقي كما جاء في أحاديث الغناء.
والتعبير بـ (بغير علم) إشارة إلى أنّ هذه الجماعة الضالّة المنحرفة لا تؤمن حتّى بمذهبها الباطل، بل يتّبعون الجهل والتقليد الأعمى لا غير، فإنّهم جهلاء يورطون ويشغلون الآخرين بجهلهم.
هذا إذا إعتبرنا (بغير علم) وصفاً للمضلّين، إلاّ أنّ بعض المفسّرين اعتبر هذا التعبير وصفاً للضالّين، أي أنّهم يجرّون الناس الجهلة إلى وادي الإنحراف والباطل دون أن يعلموا بذلك لجهلهم.
إنّ هؤلاء المغفّلين قد يتمادون في غيّهم فلا يقنعون بلهو هذه المسائل، بل إنّهم يجعلون كلامهم الأجوف ولهو حديثهم وسيلة للإستهزاء بآيات الله، وهذا هو الذي أشارت إليه نهاية الآية حيث تقول: (ويتّخذها هزواً).
أمّا وصف العذاب بـ (المهين) فلأنّ العقوبة متناغمة مع الذنب، فإنّ هؤلاء قد استهزؤوا بآيات الله وأهانوها، ولذلك فإنّ الله سبحانه قد أعدّ لهم عذاباً مهيناً، إضافة إلى كونه أليماً.
وأشارت الآية التالية إلى ردّ فعل هذه الفئة أمام آيات الله، وتوحي بالمقارنة بردّ فعلهم تجاه لهو الحديث، فتقول: (وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها كأنّ في اُذنيه وقراً) أي ثقلا يمنعه من السماع ..
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، ج12، ص228 باب تحريم الغناء.
[17]
ثمّ تذكر أخيراً عقاب مثل هؤلاء الأفراد الأليم فتقول: (فبشّره بعذاب أليم).
إنّ التعبير بـ (ولّى مستكبراً) إشارة إلى أنّ إعراضه لم يكن نابعاً من تضرّر مصالحه الدنيويّة والحدّ من رغباته وشهواته فحسب، بل إنّ الأمر أكبر من ذلك، فإنّ فيه دافع التكبّر أمام عظمة الله وآياته، وهو أعظم ذنب فيه.
والرائع في تعبير الآية أنّها تقول أوّلا: إنّه لم يعبأ بآيات الله كأنّه لم يسمعها قطّ، ويمرّ عليها دون إكتراث بها، ثمّ تضيف: بل كأنّه أصمّ لا يسمع أيّ كلام قطّ!
إنّ جزاء مثل هؤلاء الأفراد يناسب أعمالهم، فكما أنّ أعمالهم كانت مؤلمة ومؤذية لأهل الحقّ، فإنّ الله سبحانه قد جعل عقابهم وعذابهم أليماً أيضاً.
وينبغي الإلتفات إلى أنّ تعبير (بشّر) في مورد العذاب الإلهي الأليم، يتناسب مع عمل المستكبرين الذين كانوا يتّخذون آيات الله هزواً، والتشبّه بصفات أبي جهل، حيث كانوا يفسّرون "زقّوم جهنّم" بالزبد والتمر!
ثمّ تعود الآيات التالية إلى شرح وتبيان حال المؤمنين الحقيقيّين، وقد بدأت السورة في مقارنتها هذه بذكر حالهم أوّلا ثمّ ختمت به في نهاية هذا المقطع أيضاً، فتقول: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنّات النعيم).
أجل، إنّ هذه الفئة على عكس المستكبرين والضالّين المضلّين الذين لا يرون آثار قدرة الله في عالم الوجود، ولا يصغون إلى كلام أنبياء الله.
إنّ هؤلاء يؤمنون بحكم العقل الواعي، والعين البصيرة، والاُذن السامعة التي منحهم الله إيّاها، يؤمنون بآيات الله ويعملون بها صالحاً، فما أجدر أن يكون لاُولئك العذاب الأليم، ولهؤلاء جنّات النعيم!
والأهمّ من ذلك أنّ هذه الجنان الوافرة النعم خالدة لهؤلاء (خالدين فيها وعد الله حقّاً) والله سبحانه لا يعد كذباً، وليس عاجزاً عن الوفاء بوعوده (وهو العزيز الحكيم).
وثمّة مسألة تستحقّ الدقّة، وهي أنّه قد ورد العذاب في حقّ المستكبرين بصيغة
[18]
المفرد، وفي شأن المؤمنين الذين يعملون الصالحات جاءت "الجنّات" بصيغة الجمع، وذلك لأنّ رحمة الله عزّوجلّ وسعت غضبه.
والتأكيد على الخلود ووعد الله الحقّ، تأكيد أيضاً على سعة هذه الرحمة، وتفوّقها على الغضب.
وللنعيم معنىً واسع يشمل كلّ أنواع النعم الماديّة والمعنوية، وحتّى النعم التي لا يمكن أن ندركها، فنحن اُسارى شهوات البدن في هذه الدنيا، والراغب في (مفرداته) يقول: النعيم: النعمة الكثيرة.
* * *
بحوث
1 ـ تحريم الغناء
لا شكّ في أنّ الغناء بصورة إجمالية حرام على المشهور بين علماء الشيعة، وتصل هذه الشهرة إلى حدّ الإجماع.
وأكّد كثير من علماء أهل السنّة على هذه الحرمة، وإن كان بعضهم قد استثنوا بعض الاُمور، وربّما لا يُعدّ بعضها إستثناءً في الحقيقة، بل تعتبر خارجة عن موضوع الغناء، أو كما يقال: خارج تخصّصاً.
يقول "القرطبي" في ذيل الآيات مورد البحث في هذا الباب: "وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرّك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون الذي يحرّك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يُشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرّمات لا يختلف في تحريمه، لأنّه اللهو والغناء المذموم بالإتّفاق، فامّا ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقّة كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع، فامّا ما إبتدعته الصوفية اليوم
[19]
من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام"(1).
إنّ ما ذكره القرطبي وبيّنه كاستثناء، من قبيل الحداء للإبل، أو الأشعار الخاصّة التي كان يقرؤها المسلمون أثناء حفر الخندق، يحتمل قويّاً أنّه لم يكن من الغناء أساساً، فهو شبيه بالأشعار التي يقرؤها جماعة بلحن خاصّ في المسيرات أو مجالس الفرح ومجالس العزاء الدينيّة.
وفي أيدينا أدلّة كثيرة على تحريم الغناء في المصادر الإسلامية، ومن جملتها الآية أعلاه: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) وبعض آيات اُخر من القرآن التي تنطبق ـ على الأقلّ طبق الروايات الواردة في تفسير هذه الآيات ـ على الغناء، أو أنّ الغناء اعتُبر من مصاديقها:
ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير آية: (واجتنبوا قول الزور)(2)قال: "قول الزور الغناء"(3).
وعنه (عليه السلام) في تفسير الآية: (والذين لا يشهدون الزور)(4) قال: "الغناء"(5).
وقد رويت في تفسير هذه الآية روايات عديدة عن الإمام الباقر والصادق والرضا (عليهم السلام) أوضحوا فيها أنّ أحد مصاديق لهو الحديث الموجب للعذاب المهين هو "الغناء"(6).
إضافةً إلى هذا فإنّه تلاحظ في المصادر الإسلامية روايات كثيرة اُخرى ـ عدا ما ورد في تفسير الآيات ـ تبيّن تحريم الغناء بصورة مؤكّدة:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي، ج7، ص5136.
2 ـ الحجّ، 30.
3 ـ وسائل الشيعة، ج12، ص225 ـ 227، 231 باب تحريم الغناء.
4 ـ الفرقان، 72.
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ المصدر السابق.
[20]
ففي حديث مروي عن جابر بن عبدالله، عن النّبي (صلى الله عليه وآله): "كان إبليس أوّل من تغنّى"(1).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): "بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملك"(2).
وفي حديث آخر عنه (عليه السلام): "الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر"(3).
وفي حديث آخر عن الصادق (عليه السلام): "المغنّية ملعونة، ومن أدّاها ملعون، وآكل كسبها ملعون"(4).
وقد نقلت روايات كثيرة في هذا المجال في كتب أهل السنّة المعروفة أيضاً، ومن جملتها الرواية التي نقلها في (الدرّ المنثور) عن جماعة كثيرة من المحدّثين، عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "لا يحلّ تعليم المغنّيات ولا بيعهنّ، وأثمانهنّ حرام"(5).
ونقل نظير هذا المعنى كاتب (التاج) عن الترمذي والإمام أحمد(6).
ويروي ابن مسعود عن النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"(7).
وبالجملة، فإنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّاً بحيث تصل إلى حدّ التواتر، ولهذا فإنّ أكثر علماء الإسلام قد أفتوا بالحرمة، علاوةً على علماء الشيعة، الذين يتّفقون بالرأي في هذا الموضوع تقريباً، وقد نقل تحريمه عن أبي حنيفة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ وسائل الشيعة، ج12، ص225 ـ 230.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ سفينة البحار، ج2، صفحة 338.
5 ـ الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث.
6 ـ التاج، المجلّد، ج5، ص287.
7 ـ تفسير روح المعاني، ذيل الآية مورد البحث.
[21]
أيضاً، وعندما سألوا "أحمد" ـ إمام السنّة المعروف ـ عن الغناء قال: ينبت النفاق.
وقال "مالك" ـ إمام أهل السنّة المعروف ـ مجيباً عن هذا السؤال:يفعله الفسّاق.
وصرّح "الشافعي" بأنّ شهادة أصحاب الغناء غير مقبولة، وهذا بنفسه دليل على فسق هؤلاء.
ونقل عن أصحاب الشافعي أيضاً أنّهم اعتبروا فتوى الشافعي تحريماً، على خلاف ما اعتقده البعض(1).
2 ـ ما هو الغناء؟
لا يواجهنا إشكال مهم في حرمة الغناء، إنّما الإشكال الصعب هو تشخيص موضوع الغناء، فهل أنّ كلّ صوت حسن غناء؟
من المسلّم أنّ الأمر ليس كذلك، لأنّه قد ورد في الرّوايات الإسلامية، وسيرة المسلمين تحكي أيضاً، أن اقرؤوا القرآن وأذّنوا بصوت حسن.
هل أنّ الغناء كلّ صوت فيه ترجيع ـ وهو تردّد الصوت في الحنجرة ـ؟ هذا أيضاً غير ثابت.
والذي يمكن إستفادته من مجموع كلمات فقهاء وأقوال أهل السنّة في هذا المجال، أنّ الغناء هو كلّ لحن وصوت يطرب، ويشتمل على اللهو والباطل.
وبعبارة أوضح: الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس الفسق والفجور، وأهل المعصية والفساد.
وبتعبير آخر: الغناء يقال للصوت الذي يحرّك القوى الشهوانية في الإنسان، بحيث يشعر الإنسان في تلك الحال بأنّه لو كان إلى جانب هذا الصوت خمر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير روح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.
[22]
ومسكر وإباحة وفساد جنسي، لكان ذلك مناسباً جدّاً!
وهناك مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ بعض الألحان تعدّ أحياناً غناءً ولهواً باطلا بذاتها ومحتواها، مثال ذلك أشعار العشق والغرام والأشعار المفسدة التي تُقرأ بألحان وموسيقى راقصة.
وقد تكون الألحان بذاتها غناءً أحياناً اُخرى، مثال الأشعار الجيدة، أو آيات القرآن والدعاء والمناجاة التي تُقرأ بلحن يناسب مجالس الفاسدين والفسّاق، وهو حرام في كلام الصورتين "فتأمّل".
وثمّة مسألة ينبغي ذكرها، وهي أنّه يذكر للغناء معنيان: معنى عامّ، ومعنى خاصّ، والمعنى الخاصّ هو ما ذكرناه أعلاه، أي الموسيقى والألحان التي تحرّك الشهوات، وتناسب مجالس الفسق والفجور.
والمعنى العامّ هو كلّ صوت حسن، فمن فسّر الغناء بالمعنى العامّ قسّمه إلى قسمين: غناء حلال، وغناء حرام.
والمراد من الغناء الحرام: هو ما قيل أعلاه، والمراد من الغناء الحلال: الصوت الحسن الجميل والذي لا يكون باعثاً على الفساد، ولا يناسب مجالس الفسق والفجور.
وبناءً على هذا فلا يوجد إختلاف ـ تقريباً ـ في أصل تحريم الغناء، بل الإختلاف في كيفية تفسيره.
ومن الطبيعي أن يكون للغناء موارد شكّ ـ ككلّ المفاهيم الاُخرى ـ وأنّ الإنسان لا يعلم حقّاً هل أنّ الصوت الفلاني يناسب مجالس الفسق والفجور، أم لا؟ وفي هذه الصورة يحكم بالحلّية بحكم أصل البراءة، وهذا ـ طبعاً ـ بعد الإحاطة الكافية بالمفهوم العرفي للغناء طبق التعريف أعلاه.
ومن هنا يتّضح أنّ الأصوات والموسيقى الحماسية التي تناسب ساحات الحرب أو الرياضة وأمثالها لا دليل على حرمتها.
[23]
ومن الطبيعي أنّ هناك بحوثاً اُخرى في باب الغناء، من قبيل بعض الإستثناءات التي قبلها جماعة وأنكرها آخرون، ومسائل اُخرى ينبغي الكلام عنها في الكتب الفقهيّة.
والكلام الأخير هو أنّ ما ذُكر أعلاه يتعلّق بالغناء، وأمّا إستعمال الآلات الموسيقية وحرمتها، فهو بحث آخر خارج عن هذا الموضوع.
3 ـ فلسفة تحريم الغناء:
إنّ التدقيق في مفهوم الغناء ـ مع الشروط التي قلناها في شرح هذا المفهوم ـ تجعل الغاية من تحريم الغناء واضحة جدّاً.
فبنظرة سريعة إلى معطيات الغناء سنواجه المفاسد أدناه:
أوّلا: الترغيب والدعوة إلى فساد الأخلاق.
لقد بيّنت التجربة ـ والتجربة خير شاهد ـ أنّ كثيراً من الأفراد الواقعين تحت تأثير موسيقى وألحان الغناء قد تركوا طريق التقوى، واتّجهوا نحو الشهوات والفساد.
إنّ مجلس الغناء ـ عادةً ـ يُعدّ مركزاً لأنواع المفاسد، والدافع على هذه المفاسد هو الغناء.
ونقرأ في بعض التقارير التي وردت في الصحف الأجنبية أنّه كان في مجلس جماعة من الفتيان والفتيات فعُزفت فيه موسيقى خاصّة وعلى نمط خاص من الغناء، فهيّجت الفتيان والفتيات إلى الحدّ الذي هجم فيه بعضهم على البعض الآخر، وعملوا من الفضائح ما يخجل القلم عن ذكره.
وينقل في تفسير (روح المعاني) حديثاً عن أحد زعماء بني اُميّة أنّه قال لهم: إيّاكم والغناء فإنّه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنّه ينوب عن
[24]
الخمر، ويفعل ما يفعل السكر(1). وهذا يبيّن أنّه حتّى اُولئك كانوا مطّلعين على مفاسده أيضاً.
وعندما نرى في الرّوايات الإسلامية: أنّ الغناء ينبت النفاق، فإنّه إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ روح النفاق هي روح التلوّث بالفساد والإبتعاد عن التقوى.
وإذا جاء في الرّوايات أنّ الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه غناء، فبسبب التلوّث بالفساد، لأنّ الملائكة طاهرة تطلب الطهارة، وتتأذّى من هذه الأجواء الملوّثة.
ثانياً: الغفلة عن ذكر الله:
إنّ التعبير باللهو الذي فسّر بالغناء في بعض الرّوايات الإسلامية إشارة إلى حقيقة أنّ الغناء يجعل الإنسان عبداً ثملا من الشهوات حتّى يغفل عن ذكر الله.
وفي الآيات أعلاه قرأنا أنّ "لهو الحديث" أحد عوامل الضلالة عن سبيل الله، وموجب للعذاب الأليم.
في حديث عن علي (عليه السلام): "كلّ ما ألهى عن ذكر الله (وأوقع الإنسان في وحل الشهوات) فهو من الميسر"(2) ـ أي في حكم القمار ـ .
ثالثاً: الإضرار بالأعصاب:
إنّ الغناء والموسيقى ـ في الحقيقة ـ أحد العوامل المهمّة في تخدير الأعصاب، وبتعبير آخر: إنّ الموادّ المخدّرة ترد البدن عن طريق الفمّ والشرب أحياناً كالخمر، وأحياناً عن طريق الشمّ وحاسّة الشمّ كالهيروئين، وأحياناً عن طريق التزريق كالمورفين، وأحياناً عن طريق حاسّة السمع كالغناء.
ولهذا فإنّ الغناء والموسيقى المطربة قد تجعل الأفراد منتشين أحياناً إلى حدّ يشبهون فيه السكارى، وقد لا يصل إلى هذه المرحلة أحياناً، ولكنّه يوجد تخديراً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير روح المعاني، الجزء 21، صفحة 60.
2 ـ وسائل الشيعة، الجزء 12، صفحة 235.
[25]
خفيفاً، ولهذا فإنّ كثيراً من مفاسد المخدّرات موجودة في الغناء، سواء كان تخديره خفيفاً أم قويّاً.
"إنّ الإنتباه بدقّة إلى سيرة مشاهير الموسيقيين يبيّن أنّهم قد واجهوا تدريجيّاً مصاعب وصدمات نفسية خلال مراحل حياتهم حتّى فقدوا أعصابهم شيئاً فشيئاً، وابتُلي عدد منهم بأمراض نفسية، وجماعة فقدوا مشاعرهم وساروا إلى دار المجانين، وبعضهم اُصيبوا بالشلل والعجز، وبعضهم اُصيب بالسكتة، حيث إرتفع ضغط الدم عندهم أثناء عزف الموسيقى"(1).
وقد جاء في بعض الكتب التي كتبت في مجال لآثار المضرّة للموسيقى على أعصاب الإنسان، حالات جمع من الموسيقيين والمغنّين المعروفين الذين اُصيبوا بالسكتة وموت الفجأة أثناء أداء برامجهم، وزهقت أرواحهم في ذلك المجلس(2).
وخلاصة القول فإنّ الآثار المضرّة للغناء والموسيقى على الأعصاب تصل إلى حدّ إيجاد الجنون، وتؤثّر على القلب وتؤدّي إلى إرتفاع ضغط الدم وغير ذلك من الآثار المخرّبة.
ويستفاد من الإحصاءات المعدّة للوفيّات في عصرنا الحالي بأنّ معدّل موت الفجأة قد إزداد بالمقارنة مع السابق، وقد ذكروا أسباباً مختلفة كان من جملتها الغناء والموسيقى.
رابعاً: الغناء أحد وسائل الإستعمار:
إنّ مستعمري العالم يخافون دائماً من وعي الشعوب، وخاصّة الشباب، ولذلك فإنّ جانباً من برامجهم الواسعة لإستمرار وإدامة الإستعمار هو إغراق المجتمعات بالغفلة والجهل والضلال، وتوسعة وسائل اللهو المفسدة.
إنّ المخدّرات لا تتّصف اليوم بصفة تجارية فقط، بل هي أحد الوسائل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تأثير الموسيقى على النفس والأعصاب، صفحة 26.
2 ـ يراجع المصدر السابق صفحة 92 وما بعدها.
[26]
السياسية المهمّة، فإنّ السياسات الإستعمارية تسعى إلى إيجاد مراكز الفحشاء ونوادي القمار ووسائل اللهو الفاسدة الاُخرى، ومن جملتها توسعة ونشر الغناء والموسيقى، وهي من أهمّ الوسائل التي يصرّ عليها المستعمرون لتخدير أفكار الناس، ولهذا فإنّ الموسيقى تشكّل القسم الأكبر من وقت إذاعات العالم ووسائل الإعلام الأساسية.
* * *
[27]
الآيتان
خَلَق السَّمَـوَتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الاَْرْضِ رَوَسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّة وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج كَرِيم(10) هَـذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّـلِمُونَ فِى ضَلَـل مُّبِين(11)
التّفسير
هذا خلق الله:
مواصلة للبحث حول القرآن والإيمان به في الآيات السابقة، تتحدّث الآيتان أعلاه عن أدلّة التوحيد الذي هو أهمّ الاُصول العقائدية.
تشير الآية الاُولى إلى خمسة أقسام من مخلوقات الله التي ترتبط مع بعضها إرتباطاً وثيقاً لا ينفصل، وهي: خلق السماء، وكون الكواكب معلّقة في الفضاء، وخلق الجبال لتثبيت الأرض، ثمّ خلق الدواب، وبعد ذلك الماء والنباتات التي هي وسيلة تغذيتها، فتقول: (خلق السماوات بغير عمد ترونها).
(العَمَد) جمع (عمود)، وتقييد بنائها وإقامتها بـ(ترونها) دليل على أنّه ليس لهذه السماء أعمدة مرئيّة، ومعنى ذلك أنّ لها أعمدة إلاّ أنّها غير قابلة للرؤية، وكما
[28]
قلنا قبل هذا في تفسير سورة الرعد أيضاً، فإنّ هذا التعبير إشارة لطيفة إلى قانون الجاذبيّة الذي يبدو كالعمود القويّ جدّاً، إلاّ أنّه غير مرئيّ، يحفظ الأجرام السماوية.
وقد صُرّح في حديث رواه حسين بن خالد، عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، أنّه قال: "سبحان الله! أليس الله يقول: (بغير عمد ترونها؟)" قلت: بلى، قال: "ثمّ عمد ولكن لا ترونها"(1) (2).
وعلى كلّ حال، فإنّ الجملة أعلاه أحد معاجز القرآن المجيد العلميّة، وقد أوردنا تفصيلا أكثر عنها في ذيل الآية (2) من سورة الرعد.
ثمّ تقول الآية في الغاية من خلق الجبال: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم)(3).
إنّ هذه الآية التي لها نظائر كثيرة في القرآن، توضّح أنّ الجبال وسيلة لتثبيت الأرض، وقد تثبت هذه الحقيقة اليوم من الناحية العلميّة من جهات عديدة:
فمن جهة أنّ أُصولها مرتبطة مع بعضها، وهي كالدرع المحكم يحفظ الكرة الأرضية أمام الضغوط الناشئة من الحرارة الداخلية، ولولا هذه الجبال فإنّ الزلازل المدمّرة كانت ستبلغ حدّاً ربّما لا تدع معه للإنسان مجالا للحياة.
ومن جهة أنّ هذه السلسلة المحكمة تقاوم جاذبية القمر والشمس الشديدة، وإلاّ فسيحدث جزر ومدّ عظيمان في القشرة الأرضية أقوى من جزر ومدّ البحار، وتجعل الحياة بالنسبة للإنسان مستحيلة.
ومن جهة أنّها تقف سدّاً أمام العواصف والرياح العاتية، وتقلّل من تماسّ الهواء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، المجلّد 2، صفحة 278.
2 ـ إنّ الذين اعتبروا الآية أعلاه دليلا على نفي العمد مطلقاً لابدّ لهم من التقديم والتأخير في الآية ليقولوا: إنّ أصل الجملة كانت: خلق السماوات ترونها بغير عمد، وهذا خلاف الظاهر قطعاً.
3 ـ "تميد" من (الميد) أي تزلزل الأشياء وإضطرابها إضطراباً عظيماً، وجملة (أن تميد بكم) في تقدير: لئلاّ تميد بكم.
[29]
المجاور للأرض عند دوران الأرض حول نفسها إلى أقلّ حدّ، ولو لم تكن هذه الجبال لكان سطح الأرض كالصحاري اليابسة، وعرضة للأعاصير والزوابع المهلكة، والعواصف الهوجاء المدمّرة ليل نهار(1).
وبعد ذكر نعمة إستقرار السماء بأعمدة الجاذبية. وإستقرار وثبات الأرض بواسطة الجبال، تصل النوبة إلى خلق الكائنات الحيّة وإستقرارها، بحيث تستطيع أن تضع أقدامها في محيط هاديء مطمئن، فتقول: (وبثّ فيها من كلّ دابّة).
إنّ التعبير بـ (من كلّ دابّة) إشارة إلى تنوّع الحياة في صور مختلفة، إبتداءً من الكائنات الحيّة المجهرية والتي ملأت جميع الأرجاء إلى الحيوانات العملاقة والمخوفة.
وكذلك الحيوانات المختلفة الألوان، والمتفاوتة الأشكال التي تعيش في الماء والهواء من الطيور والزواحف، والحشرات المختلفة وأمثالها، والتي لكلّ منها عالمها الخاصّ تعكس الحياة في مئات الآلاف من المرايا.
إلاّ أنّ من المعلوم أنّ هذه الحيوانات تحتاج إلى الماء والغذاء، ولذلك فإنّ الجملة التالية أشارت إلى هذا الموضوع، فقالت: (وأنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا فيها من كلّ زوج كريم).
وبهذا فإنّ الآية تبيّن أساس حياة كلّ الحيوانات ـ وخاصّة الإنسان ـ والذي يكوّنه الماء والنبات، فالكرة الأرضية تعتبر سماطاً واسعاً ذا أغذية متنوّعة يمتدّ في جميع أنحائها، ويصلح لكلّ نوع منها حسب خلقته، ممّا يدلّ على عظمة الخالق جلّ وعلا.
وممّا يستحقّ الإنتباه هو أنّه في بيان خلق الأقسام الثلاثة الاُولى ذكرت الأفعال بصيغة الغائب، وحين وصل الأمر إلى نزول المطر ونمو النباتات أتت
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإطلاع حول فوائد الجبال راجع ذيل الآية (3) من سورة الرعد.
[30]
الأفعال بصيغة المتكلّم، فيقول: نحن أنزلنا من السماء ماءً، ونحن أنبتنا النباتات في الأرض.
وهذا بنفسه أحد فنون الفصاحة، حيث إنّهم عندما يريدون ذكر اُمور مختلفة، فإنّهم يبيّنونها بشكلين أو أكثر، كي لا يشعر السامع بأيّ نوع من الضجر والرتابة، إضافةً إلى أنّ هذا التعبير يوضّح أنّ نزول المطر ونمو النبات كانا محطّ إهتمام خاصّ.
ثمّ تشير هذه الآية مرّة اُخرى إلى مسألة (الزوجيّة في عالم النباتات) وهي أيضاً من معجزات القرآن العلميّة، لأنّ الزوجيّة ـ أي وجود الذكر والاُنثى ـ في عالم النباتات لم تكن ثابتة في ذلك الزمان بصورة واسعة، والقرآن كشف الستار عنها. ولزيادة التفصيل حول هذه المسألة يمكنكم مراجعة ذيل الآية (7) من سورة الشعراء.
ثمّ إنّ وصف أزواج النباتات بـ"الكريم" إشارة ضمنية إلى أنواع المواهب الموجودة فيها.
بعد ذكر عظمة الله في عالم الخلقة، وذكر صور مختلفة من المخلوقات، وجّهت الآية الخطاب إلى المشركين، وجعلتهم موضع سؤال وإستجواب، فقالت: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذي من دونه) ؟!
من المسلّم أنّ اُولئك لم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون أيّ من المخلوقات من خلق الأصنام، وعلى هذا فإنّهم كانوا يقرّون بتوحيد الخالق، مع هذا الحال كيف يستطيعون تعليل الشرك في العبادة؟! لأنّ توحيد الخالق دليل على توحيد الربّ وكون مدبّر العالم واحداً، وهو دليل على توحيد العبوديّة.
ولذلك اعتبرت الآية عمل اُولئك منطبقاً على الظلم والضلال، فقالت: (بل الظالمون في ضلال مبين).
ومعلوم أنّ "الظلم" له معنىً واسعاً يشمل وضع كلّ شيء في غير موضعه، ولمّا
[31]
كان المشركون يربطون العبادة، وتدبير العالم أحياناً بالأصنام، فإنّهم كانوا مرتكبين لأكبر ظلم وضلالة.
ثمّ إنّ التعبير أعلاه يتضمّن إشارة لطيفة إلى إرتباط "الظلم" و "الضلال"، لأنّ الإنسان عندما لا يعرف مكانة الموجودات الموضوعية في العالم، أو يعرفها ولا يراعيها، ولا يرى كلّ شيء في مكانه، فمن المسلّم أنّ هذا الظلم سيكون سبباً للضلالة والضياع.
* * *
[32]
الآيات
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـنَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ(12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَـنُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَـبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)وَوَصَّيْنَا الإنسَـنَ بِوَلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَـلُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَلِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ(14) وَإِن جَـهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(15)
التّفسير
إحترام الوالدين:
لتكميل البحوث السابقة حول التوحيد والشرك، وأهميّة وعظمة القرآن، والحكمة التي استعملت واتّبعت في هذا الكتاب السماوي، فقد ورد الكلام في هذه الآيات التي نبحثها والآيات الاُخرى التالية عن لقمان الحكيم، وعن جانب
[33]
من المواعظ المهمّة لهذا الرجل المتألّه في باب التوحيد ومحاربة الشرك، وقد إنعكست المسائل الأخلاقيّة المهمّة في مواعظ لقمان لإبنه.
إنّ هذه المواعظ العشرة التي ذكرت ضمن ستّ آيات، قد بيّنت باُسلوب رائع المسائل العقائدية، إضافةً إلى اُصول الواجبات الدينيّة والمباحث الأخلاقية.
وسنبحث فيما بعد ـ في بحث الملاحظات ـ إن شاء الله تعالى، من هو لقمان؟ وأيّة خصائص كان يمتلكها؟ ولكنّ ما نذكره هنا هو أنّ القرائن تبيّن أنّه لم يكن نبيّاً، بل كان رجلا ورعاً مهذّباً إنتصر في ميدان جهاد هوى النفس، فكان أن فجّر الله تعالى في قلبه ينابيع العلم والحكمة.
ويكفي في عظمة مقامه أنّ الله قد قرن مواعظه بكلامه، وذكرها في طيّات آيات القرآن.
أجل .. عندما يتنوّر قلب الإنسان بنور الحكمة نتيجة للطهارة والتقوى، فإنّ الكلام الإلهي يجري على لسانه، ويقول ما يقوله الله، ويفكّر بالشكل الذي يرضاه الله!
بعد هذا التوضيح الموجز نعود إلى تفسير الآيات:
تقول الآية الاُولى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ الله غنيّ حميد)(1).
فما هي الحكمة؟
في معرض الحديث عن ماهية الحكمة ينبغي القول: إنّهم قد ذكروا للحكمة معاني كثيرة، مثل: معرفة أسرار عالم الوجود، والإحاطة والعلم بحقائق القرآن،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل يوجد لجملة (أن اشكر لله) شيء مقدّر أم لا؟ فالبعض يعتقد أنّ جملة (قلنا له) مقدّرة قبلها، والبعض يقولون: لا تحتاج إلى تقدير، و (أنّ) في جملة (أن اشكر) تفسيرية، لأنّ الشكر بنفسه عين الحكمة، والحكمة عينه. وكلا التّفسيرين يمكن قبوله.
[34]
والوصول إلى الحقّ من جهة القول والعمل، ومعرفة الله.
إلاّ أنّ كلّ هذه المعاني يمكن جمعها في تعريف واحد، فالحكمة التي يتحدّث عنها القرآن، والتي كان الله قد آتاها لقمان، كانت مجموعة من المعرفة والعلم، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية.
وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، أنّه قال لهشام بن الحكم في تفسير هذه الآية: "إنّ الحكمة هي الفهم والعقل"(1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية، أنّه قال: "اُوتي معرفة إمام زمانه"(2).
ومن الواضح أنّ كلاًّ من هذه المفاهيم يعتبر أحد فروع معنى الحكمة الواسع، ولا منافاة بينها.
وعلى كلّ حال، فإنّ لقمان بإمتلاكه هذه الحكمة كان يشكر الله، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهيّة، وكيفيّة إستغلالها والإستفادة منها، وكان يضعها بدقّة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق الهدف الذي خلقت من أجله، وهذه هي الحكمة، هي وضع كلّ شيء في موضعه، وبناءً على هذا فإنّ الشكر والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة.
وقد اتّضحت نتيجة الشكر والكفران للنعم بصورة ضمنية في الآية، وهي أنّ شكر النعمة سيكون من صالح الإنسان وفي منفعته، وأنّ كفران النعمة سيكون سبباً لضرره أيضاً، لأنّ الله سبحانه غنيّ عن العالمين، فلو أنّ كلّ الممكنات قد شكرته فلا يزيد في عظمته شيء، ولو أنّ كلّ الكائنات كفرت فلا ينقص من كبريائه شيء!
إنّ "اللام" في جملة (أن اشكر لله) لام الإختصاص، و "اللام" في (لنفسه)لام النفع، وبناءً على هذا، فإنّ نفع الشكر، والذي هو دوام النعمة وكثرتها، إضافة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، ج2، ص13. كتاب العقل والجهل حديث 12.
2 ـ نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 196.
[35]
إلى ثواب الآخرة يعود على الإنسان نفسه، كما أنّ مضرّة الكفر تحيق به فقط.
والتعبير بـ (غنيّ حميد) إشارة إلى شكر الناس للأفراد العاديين أمّا أن يؤدّي إلى النفع المادّي للمشكور، أو زيادة مكانة صاحبه في أنظار الناس، إلاّ أنّ أيّاً من هذين الأمرين لا معنى له ولا مصداق في حقّ الله تعالى، فإنّه غنيّ عن الجميع، وهو أهل لحمد كلّ الحامدين وثنائهم، فالملائكة تحمده، وكلّ ذرّات الوجود والموجودات مشغولة بتسبيحه، وإذا ما نطق إنسان بالكفر فليس له أدنى تأثير، فحتّى ذرّات وجوده مشغولة بحمده وثنائه بلسان الحال!
وممّا يجدر ذكره أنّ الشكر قد ذكر بصيغة المضارع، والذي يدلّ على الإستمرار، أمّا الكفر فقد جاء بصيغة الماضي الذي يصدق حتّى على المرّة الواحدة، وهذا إشارة إلى أنّ الكفران ولو لمرّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى عواقب وخيمة مؤلمة، أمّا الشكر فإنّه لازم، ويجب أن يكون مستمرّاً ليطوي الإنسان مسيره التكاملي.
وبعد تعريف لقمان ومقامه العلمي والحِكَمي، أشارت الآية التالية إلى اُولى مواعظه، وهي في الوقت نفسه أهمّ وصاياه لولده، فقالت: (وإذ قال لقمان لإبنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم).
إنّ حكمة لقمان توجب عليه أن يتوجّه قبل كلّ شيء إلى أهمّ المسائل الأساسية، وهي مسألة التوحيد .. التوحيد في كلّ المجالات والأبعاد، لأنّ كلّ حركة هدّامة ضدّ التوجّه الإلهي تنبع من الشرك، من عبادة الدنيا والمنصب والهوى وأمثال ذلك، والذي يعتبر كلّ منها فرعاً من الشرك.
كما أنّ أساس كلّ الحركات الصحيحة البنّاءة هو التوحيد والتوجّه إلى الله، وإطاعة أوامره، والإبتعاد عن غيره، وكسر كلّ الأصنام في ساحة كبريائه!
وممّا يستحقّ الإشارة أنّ لقمان الحكيم قد جعل علّة نفي الشرك هو أنّ الشرك
[36]
ظلم عظيم، وقد اُحيط بالتأكيد من عدّة جهات(1).
وأيّ ظلم أعظم منه، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصافّ الله ودرجته، هذا من جانب، ومن جانب آخر يجرّون الناس إلى الضلال والإنحراف، ويظلمونهم بجناياتهم وجرائمهم، وهم يظلمون أنفسهم أيضاً حيث ينزلونها من قمّة عزّة العبودية لله ويهوون بها إلى منحدر ذلّة العبودية لغيره.
والآيتان التاليتان جمل معترضة ذكرها الله تعالى في طيّات مواعظ لقمان، لكنّ هذا الإعتراض لا يعني عدم الإتّصال والإرتباط، بل يعني الصلة الواضحة لكلام الله عزّوجلّ بكلام لقمان، لأنّ في هايتن الآيتين بحثاً عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر الله.
إضافةً إلى أنّهما تعتبران تأكيداً على كون مواعظ لقمان لإبنه خالصة، لأنّ الوالدين مع هذه العلاقة القويّة وخلوص النيّة لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلاّ ما فيه خير وصلاح الولد، فتقول أوّلا: (ووصّينا الإنسان بوالديه) وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الاُمّ العظيمة، فتقول: (حملته اُمّه وهناً على وهن)(2).
وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية، إذ أوضحت التجارب أنّ الاُمّهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن، لأنّهنّ يصرفن خلاصة وجودهنّ في تغذية وتنمية الجنين، ويقدّمن له من موادهنّ الحياتية أفضلها، ولذلك فإنّ الاُمّهات أثناء فترة الحمل يبتلين بنقص أنواع الفيتامينات وفي حالة عدم تعويض هذا النقص فسيؤدّي إلى آلام ومتاعب كثيرة.
وهذا الأمر يستمر حتّى في فترة الرضاعة، لأنّ اللبن عصارة وجود الاُمّ، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه سنتان (وفصاله في عامين) كما اُشير إلى ذلك في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إنّ كلاّ من (أن) و "اللام"، وكون الجملة إسمية من أدوات التأكيد.
2 ـ إنّ جملة (وهناً على وهن) يمكن أن تكون حالا للاُمّ بتقدير كلمة "ذات"، فكان تقديرها (حملته اُمّه ذات وهن على وهن). واحتُمل أيضاً أن تكون مفعولا مطلقاً لفعل مقدّر من مادّة (وهن) فكان تقديره: (تهن وهناً على وهن).
[37]
موضع آخر من القرآن: (والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين)(1)، والمراد فترة الرضاعة الكاملة، وإن كانت تتمّ أحياناً بفترة أقلّ.
وعلى كلّ حال، فإنّ الاُمّ في هذه الـ (33) شهراً ـ فترة الحمل، وفترة الرضاع ـ تبدي وتقدّم أعظم تضحية لولدها، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي، أو الجسمي، أو من جهة الخدمات والرعاية.
والملفت للنظر هنا أنّها توصي في البداية بالوالدين معاً، إلاّ أنّها عند بيان المشاقّ والمتاعب تؤكّد على متاعب الاُمّ، لتنبّه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقّها العظيم.
ثمّ تقول: (أن اشكر لي ولوالديك) فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصليّ عليك، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسؤولية إيصال نعمي إليك. فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه!
ويقول الله تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب: (إليّ المصير). نعم، فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كلّ هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقّة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب الله. وكذلك شكر نعمة وجود الأبوين وعواطفهما الصادقة الطاهرة لينجح في ذلك الحساب وتلك المحكمة.
وفي هذا المجال التفت بعض المفسّرين إلى مسألة لطيفة، وهي أنّه قد ورد التأكيد على رعاية حقوق الأبوين مراراً في القرآن المجيد، إلاّ أنّ التوصية بالأولاد تلاحظ قليلا ـ ما عدا مورد النهي عن قتل الأولاد، والتي كانت عادةً مشؤومة قبيحة وإستثنائية في عصر الجاهلية ـ وذلك لأنّ الوالدين، وبحكم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البقرة، 233.
[38]
عواطفهما القويّة، قلّ ما يهملوا أولادهما بيد النسيان، في حين يلاحظ بكثرة أنّ الأولاد ينسون الأبوين، وخاصّة عند الكبر والعجز، وتعتبر هذه آلم وأشدّ حالة لهما، وأسوأ صور كفران النعمة بالنسبة للأولاد(1).
إنّ الوصيّة بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الإشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتّى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان، لكنّ الآية التالية تقول: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان باُمّه وأبيه مقدّمة على علاقته بالله مطلقاً، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينيّة أبداً.
جملة (جاهداك) إشارة إلى أنّ الأبوين قد يظنّان أحياناً أنّهما يريدان سعادة الولد، ويسعيان إلى جرّه إلى عقيدتهما المنحرفة والإيمان بها، وهذا يلاحظ لدى كلّ الآباء والاُمّهات.
إنّ واجب الأولاد أن لا يستسلموا أبداً أمام هذه الضغوط، ويجب أن يحافظوا على إستقلالهم الفكري، ولا يساوموا على عقيدة التوحيد، أو يبدّلوها بأيّ شيء.
ثمّ إنّ جملة (ما ليس لك به علم) تشير ضمناً إلى أنّنا لو نتجاهل أدلّة بطلان الشرك، ولم نقم لها وزناً، فإنّه لا يوجد دليل على إثباته، ولا يستطيع أيّ متعنّت إثبات الشرك بالدليل.
وإذا تجاوزنا ذلك، فإنّ الشرك إن كانت له حقيقة، فينبغي أن يكون هناك دليل على إثباته، ولمّا لم يكن هناك دليل على إثباته، فإنّ هذا بنفسه دليل على بطلانه.
ولمّا كان من الممكن أيضاً أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب إستخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم إحترامهما، ولذلك أضافت الآية أنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلا على وجوب قطع العلاقة معهما، بل تأمره الآية أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، الجزء 6، ص484.
[39]
(وصاحبهما في الدنيا معروفاً).
فلاطفهما وأظهر المحبّة لهما في الحياة الدنيويّة والمعاشرة، ولا تستسلم لأفكارهما وإقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينيّة، وهذه بالضبط نقطة الإعتدال الأصليّة التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين، ولذا يضيف بعد ذلك (واتّبع سبيل من أناب إليّ) لأنّ المصير إليه سبحانه (ثمّ إليّ مرجعكم فاُنبّئكم بما كنتم تعملون).
إنّ سبب النفي والإثبات المتلاحق، والأوامر والنواهي المتتابعة في الآيات أعلاه هو أن يجد المسلمون الخطّ الأصلي ويشخّصوه في مثل هذه المسائل، حيث يبدو في أوّل الأمر أنّ هناك تناقضاً في أداء هذين الواجبين، فإن تفكّروا قليلا فإنّ المسير الصحيح سيكون نصب أعينهم، وسيسيرون فيه دون أدنى إفراط ولا تفريط، وهذه الدقّة واللطافة القرآنية في أمثال هذه الدقائق من صور فصاحة القرآن وبلاغته العميقة.
وعلى كلّ حال، فإنّ الآية أعلاه تشبه ما جاء في الآية (8) من سورة العنكبوت، حيث تقول: (ووصّينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فاُنبّئكم بما كنتم تعملون) وقد أوردنا في ذيل الآية (8) من سورة العنكبوت سبب نزول لها ذُكر في بعض التفاسير.
بحثان
1 ـ من هو لقمان؟
لقد ورد اسم "لقمان" في آيتين من القرآن في هذه السورة، ولا يوجد في القرآن دليل صريح على أنّه كان نبيّاً أم لا، كما أنّ اُسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي بأنّه لم يكن نبيّاً، لأنّه يلاحظ في القرآن أنّ الكلام في شأن الأنبياء عادةً يدور حول الرسالة والدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك وإنحرافات البيئة، وعدم
[40]
المطالبة بالأجر والمكافأة، وكذلك بشارة الاُمم وإنذارها، في حين أنّ أيّاً من هذه الاُمور لم يذكر في شأن لقمان، والذي ورد هو مجموعة مواعظ خاصّة مع ولده (رغم شموليتها وعموميتها)، وهذا دليل على أنّه كان رجلا حكيماً وحسب.
وفي حديثه عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "حقّاً أقول: لم يكن لقمان نبيّاً، ولكن كان عبداً كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ الله فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة".
وجاء في بعض التواريخ: أنّ لقمان كان عبداً أسود من سودان مصر، ولكنّه إلى جانب وجهه الأسود كان له قلب مضيء وروح صافية، وكان يصدق في القول من البداية، ولا يمزج الأمانة بالخيانة، ولم يكن يتدخّل فيما لا يعنيه(1).
واحتمل بعض المفسّرين نبوّته، لكن ـ كما قلنا ـ لا يوجد دليل على ذلك، بل لدينا شواهد واضحة على نقيض ذلك.
وجاء في بعض الرّوايات: أنّ شخصاً سأل لقمان: ألم تكون ترعى معنا؟ قال: نعم.
قال الرجل: فمن أين أتاك كلّ هذا العلم والحكمة؟
قال: قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، والصمت عمّا لا يعنيني(2).
وورد كذلك في ذيل الحديث الذي نقلناه عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "كان لقمان نائماً نصف النهار، إذ جاءه نداء: يالقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت: إن خيّرني ربّي قبلت العافية، ولم أقبل البلاء، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني.
فقالت الملائكة: دون أن يراهم: لِمَ يالقمان؟
قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل وآكدها، يغشاه الظلم من كلّ مكان، إن وقي فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ قصص القرآن. شرح أحوال لقمان.
2 ـ مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.
[41]
الآخرة شريفاً خير من أن يكون في الدنيا شريفاً وفي الآخرة ذليلا، ومن يخيّر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصيب الآخرة.
فتعجّبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فاُعطي الحكمة، فانتبه يتكلّم بها"(1).
2 ـ صور من حكمة لقمان
لقد ذكر بعض المفسّرين بعضاً من كلمات لقمان الحكيمة مناسبة للمواعظ التي وردت في آيات هذه السورة، ونحن نذكر هنا مختصراً منها:
أ ـ كان لقمان يقول لإبنه: يابني، إنّ الدنيا بحر عميق، وقد هلك فيها عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله، واجعل شراعها التوكّل على الله، واجعل زادك فيها تقوى الله، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك(2).
وقد ورد نفس هذا المطلب ضمن كلام الإمام الكاظم (عليه السلام) مع هشام بن الحكم بصورة أكمل، نقلا عن لقمان الحكيم: "يابنيّ، إنّ الدنيا بحر عميق، قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العلم، وسكّانها الصبر"(3).
ب ـ وفي حوار آخر مع إبنه حول آداب السفر يقول:
يابنيّ، سافر بسيفك وخفّك وعمامتك، وخبائك وسقائك، وخيوطك ومخرزك، وتزوّد معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقاً إلاّ في معصية الله عزّوجلّ.
يابنيّ، إذا سافرت مع قوم فاكثر إستشارتهم في أمرك واُمورهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان الجزء 8 صفحة 316 ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ مجمع البيان. ذيل الآية مورد البحث.
3 ـ اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، صفحة 13 كتاب العقل والجهل.
[42]
وأكثر التبسّم في وجوههم.
وكن كريماً على زادك بينهم.
وإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعنهم.
واستعمل طول الصمت، وكثرة الصلاة، وسخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد.
وإذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم.
واجهد رأيك إذا استشاروك، ثمّ لا تعزم حتّى تتثبّت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها وتقعد، وتنام وتأكل وتصلّي، وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته، فإنّ من لم يمحض النتيجة من إستشاره سلبه الله رأيه.
وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم.
واسمع لمن هو أكبر منك سنّاً.
وإذا أمروك بأمر، وسألوك شيئاً فقل: نعم، ولا تقل: لا، فإنّ (لا) عي ولؤم.
يابنيّ، إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشيء، صلّها واسترح منها فإنّها دَين.
وصلّ في جماعة ولو على رأس زجّ.
وإن إستطعت أن لا تأكل طعاماً حتّى تبتديء فتتصدّق منه فافعل.
وعليك بقراءة كتاب الله(1).
ج ـ وثمّة قصّة معروفة أيضاً عن لقمان، وهي أنّ مولاه دعاه ـ يوم كان عبداً ـ فقال: اذبح شاة، فأتني بأطيب مضغتين منها، فذبح شاة، وأتاه بالقلب واللسان.
وبعد عدّة أيّام أمره أن يذبح شاة، ويأتيه بأخبث أعضائها، فذبح شاة وأتاه بالقلب واللسان، فتعجّب وسأله عن ذلك فقال: إنّ القلب واللسان إذا طهّرا فهما أطيب من كلّ شيء، وإذا خبثا كانا أخبث من كلّ شيء(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ تفسير البيضاوي والثعلبي، ولكن نقل في مجمع البيان جزءه الأوّل فقط.
[43]
وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "والله ما اُوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا بسط في جسم ولا جمال، ولكنّه كان رجلا قويّاً في أمر الله، متورّعاً في الله، ساكتاً سكيناً عميق النظر، طويل التفكّر، حديد البصر.
ولم ينم نهاراً قطّ ـ أي أوّله ـ ولم يتكيء في مجلس قطّ ـ وهو عرف المتكبّرين ـ ولم يتفل في مجلس قوم قطّ، ولم يعبث بشيء قطّ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط قطّ، ولا على إغتسال لشدّة تستّره وتحفّظه في أمره.
ولم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلاّ أصلح بينهما، ولم يسمع قولا إستحسنه من أحد قطّ إلاّ سأله عن تفسيره وعمّن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والعلماء، ويتعلّم من العلوم ما يغلب به نفسه، ويجاهد به هواه، وكان لا يظعن إلاّ فيما ينفعه، ولا ينظر إلاّ فيما يعنيه، فبذلك اُوتي الحكمة ومنح القضيّة"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان بتلخيص.
[44]
الآيات
يَـبُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل فَتَكُن فِي صَخْرَة أَوْ فِى السَّمَـوَتِ أَو فِى الاَْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)يَـبُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَوةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم الاُْمُورِ(17) وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الاَْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال فَخُور(18) وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاَْصْوَتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19)
التّفسير
أثبت كالجبل، وعامل الناس بالحسنى!
كانت اُولى مواعظ لقمان عن مسألة التوحيد ومحاربة الشرك، وثانيتها عن حساب الأعمال والمعاد، والتي تكمّل حلقة المبدأ والمعاد، فيقول: (يابنيّ إنّها إن تك مثقال حبّة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله) أي في يوم القيامة ويضعها للحساب (إنّ الله لطيف خبير).
[45]
"الخردل": نبات له حبّات سوداء صغيرة جدّاً يضرب المثل بصغرها، وهذا التعبير إشارة إلى أنّ أعمال الخير والشرّ مهما كانت صغيرة لا قيمة لها، ومهما كانت خفيّة كخردلة في بطن صخرة في أعماق الأرض، أو في زاوية من السماء، فإنّ الله اللطيف الخبير المطّلع على كلّ الموجودات، صغيرها وكبيرها في جميع أنحاء العالم، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب، ولا يضيّع شيء في هذا الحساب.
والضمير في "إنّها" يعود إلى الحسنات والسيّئات، والإحسان والإساءة(1).
إنّ الإلتفات والتوجّه إلى هذا الإطّلاع التامّ من قبل الخالق سبحانه على أعمال الإنسان وعلمه بها، وبقاء كلّ الحسنات والسيّئات محفوظة في كتاب علم الله، وعدم ضياع وتلف شيء في عالم الوجود هذا، هو أساس كلّ الإصلاحات الفرديّة والإجتماعية، وهو قوّة وطاقة محرّكة نحو الخيرات، وسدّ منيع من الشرور والسيّئات. وذكر السماوات والأرض بعد بيان الصخرة، هو في الواقع من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ.
وفي حديث روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّ لها طالباً، يقول أحدكم: أُذنب وأستغفر، إنّ الله عزّوجلّ يقول: (سنكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين). وقال عزّوجلّ: (إنّها إن تك مثقال حبّة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إنّ الله لطيف خبير)(2).
وبعد تحكيم اُسس المبدأ والمعاد، والتي هي أساس كلّ الإعتقادات الدينيّة، تطرّق لقمان إلى أهمّ الأعمال، أي مسألة الصلاة، فقال: (يابنيّ أقم الصلاة) لأنّ الصلاة أهمّ علاقة وإرتباط مع الخالق، والصلاة تنوّر قلبك، وتصفّي روحك، وتضيء حياتك، وتطهّر روحك من آثار الذنب، وتقذف نور الإيمان في أنحاء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إحتمل البعض أنّ الضمير أعلاه ضمير الشأن والقصّة، أو يعود إلى مفهوم الشرك، وكلا الإحتمالين بعيد.
2 ـ نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 204.
[46]
وجودك، وتمنعك عن الفحشاء والمنكر.
وبعد الصلاة يتطرّق لقمان إلى أهمّ دستور إجتماعي، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر).
وبعد هذه الأوامر العمليّة المهمّة الثلاثة، ينتقل إلى مسألة الصبر والإستقامة، والتي هي من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فيقول: (واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الاُمور).
من المسلّم أنّه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الأعمال الإجتماعية، وخاصّة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المسلّم أيضاً أنّ أصحاب المصالح والمتسلّطين، والمجرمين والأنانيّين لا يستسلمون بهذه السهولة، بل يسعون إلى إيذاء وإتّهام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولا يمكن الإنتصار على هذه المصاعب والعقبات بدون الصبر والتحمّل والإستقامة أبداً.
"العزم" بمعنى الإرادة المحكمة القويّة، والتعبير بـ (عزم الاُمور) هنا إمّا بمعنى الأعمال التي أمر الله بها أمراً مؤكّداً، أو الاُمور والأعمال التي يجب أن يمتلك الإنسان فيها إرادة فولاذية وتصميماً راسخاً، وأيّاً من هذين المعنيين كان فإنّه يشير إلى أهميّة تلك الأعمال.
والتعبير بـ "ذلك" إشارة إلى الصبر والتحمّل، ويحتمل أيضاً أن يعود إلى كلّ الاُمور والمسائل التي ذكرت في الآية أعلاه، ومن جملتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلاّ أنّ هذا التعبير قد ورد بعد مسألة الصبر في بعض الآيات القرآنية الاُخرى، وهذا يدعم ويقوّي الإحتمال الأوّل.
ثمّ إنتقل لقمان إلى المسائل الأخلاقية المرتبطة بالناس والنفس، فيوصي أوّلا بالتواضع والبشاشة وعدم التكبّر، فيقول: (ولا تصعّر خدّك للناس) أي لا تعرض بوجهك عن الناس (ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور).
[47]
"تُصَعّر": من مادّة (صعّر)، وهي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدّي إلى إعوجاج رقبته.
و "المرح": يعني الغرور والبطر الناشيء من النعمة.
و "المختال": من مادّة (الخيال) و (الخيلاء)، وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيماً وكبيراً، نتيجة سلسلة من التخيّلات والأوهام.
و "الفخور": من مادّة (الفخر) ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين.
والفرق بين كلمتي المختال والفخور، أنّ الاُولى إشارة إلى التخيّلات الذهنيّة للكبر والعظمة، أمّا الثّانية فهي تشير إلى أعمال التكبّر الخارجي.
وعلى هذا، فإنّ لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدّاً وأساس توهين وقطع الروابط الإجتماعية الصميميّة: إحداهما التكبّر وعدم الإهتمام بالآخرين، والاُخرى الغرور والعجب بالنفس، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهّم والخيال ونظرة التفوّق على الآخرين، وإسقاطه في هذه الهاوية، وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم، خاصّة وأنّه بملاحظة الأصل اللغوي لـ "صعّر" سيتّضح أنّ مثل هذه الصفات مرض نفسي وأخلاقي، ونوع من الإنحراف في التشخيص والتفكير، وإلاّ فإنّ الإنسان السالم من الناحية الروحية والنفسية لا يبتلى مطلقاً بمثل هذه الظنون والتخيّلات.
ولا يخفى أنّ مراد لقمان لم يكن مسألة الإعراض عن الناس، أو المشي بغرور وحسب، بل المراد محاربة كلّ مظاهر التكبّر والغرور، ولمّا كانت هذه الصفات تظهر في طليعة الحركات العاديّة اليوميّة، فإنّه وضع إصبعه على مثل هذه المظاهر الخاصّة.
ثمّ بيّن في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيّين في مقابل النهيين عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول: ابتغ الإعتدال في مشيك: (واقصد في مشيك) وابتغ الإعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عالياً (واغضض من
[48]
صوتك إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير)(1).
إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين، ونهتا عن صفتين:
فالنهي عن "التكبّر" و "العجب"، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبّر الإنسان على عباد الله، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه، وإن كان لا يقارن بينه وبين الآخرين.
وبالرغم من أنّ هاتين الصفتين مقترنتان غالباً، ولهما أصل مشترك، إلاّ أنّهما قد تفترقان أحياناً.
أمّا الأمر بصفتين، فهما رعاية الإعتدال في العمل والكلام، لأنّ التأكيد على الإعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة.
والحقّ أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفّق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند الله.
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ من الممكن أن نسمع أصواتاً أزعج من أصوات الحمير في محيط حياتنا، كصوت سحب بعض القطع الفلزّية إلى بعضها الآخر، حيث يحسّ الإنسان عند سماعه بأنّ لحمه يتساقط، إلاّ أنّ هذه الأصوات لا تمتلك صفة عامّة، إضافةً إلى وجود فرق بين المزعج والقبيح من الأصوات، والحقّ هو أنّ صوت الحمار أقبح من كلّ الأصوات العاديّة التي يسمعها الإنسان، وبه شُبّهت صرخات ونعرات المغرورين البله.
وليس القبح من جهة إرتفاع الصوت وطريقته فحسب، بل من جهة كونه بلا سبب أحياناً، لأنّ بعض المفسّرين يقولون: إنّ أصوات الحيوانات تعبّر غالباً عن حاجة، إلاّ أنّ هذا الحيوان يطلق صوته أحياناً بدون مبرّر أو داع، وبدون أيّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "أنكر" أفعل التفضيل، ومع أنّه لا يأتي عادةً في مورد المفعول، إلاّ أنّ هذه الصيغة وردت بصورة نادرة في باب العيوب.
[49]
حاجة أو مقدّمة! وربّما كان ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ الحمار كلّما أطلق صوته فقد رأى شيطاناً، لهذا السبب.
وقال البعض: إنّ صراخ كلّ حيوان تسبيح إلاّ صوت الحمار!
وعلى كلّ حال، فإنّنا إذا تجاوزنا كلّ ذلك، فإنّ كون هذا الصوت قبيحاً من بين الأصوات لا يحتاج إلى بحث، وإذا رأينا في الرّوايات المرويّة عن الإمام الصادق (عليه السلام)، والتي فسّرت هذه الآية بالعطسة بصوت عال، أو الصراخ عند التكلّم والتحدّث، فإنّه في الحقيقة مصداق واضح لذلك(1).
* * *
تعليقات
1 ـ آداب المشي
صحيح أنّ المشي مسألة سهلة وبسيطة، إلاّ أنّ نفس هذه المسألة السهلة يمكن أن تعكس أحوال وأوضاع الإنسان الداخلية والأخلاقية، وقد تحدّد ملامح شخصيته، لأنّ روحيّة الإنسان وأخلاقه تنعكس في طيّات كلّ أعماله، كما قلنا سابقاً، وقد يكون العمل الصغير حاكياً عن روحية متأصّلة أحياناً. ولمّا كان الإسلام قد اهتمّ بكلّ أبعاد الحياة، فإنّه لم يهمل شيئاً في هذا الباب أيضاً.
ففي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من مشى على الأرض إختيالا لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها"(2).
وفي حديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه نهى أن يختال الرجل في مشيه، وقال: "من لبس ثوباً فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنّم، وكان قرين قارون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ ثواب الأعمال وأمالي الصدوق، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 207.
[50]
لأنّه أوّل من اختال!"(1).
وكذلك ورد عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها ـ إلى أن قال ـ وفرض على الرجلين أن لا تمشي بهما إلى شيء من معاصي الله، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عزّوجلّ، فقال تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحاً) وقال: (واقصد في مشيك)"(2).
وقد نقل ذلك عن نبي الإسلام العزيز (صلى الله عليه وآله)، وذلك أنّه كان قد مرّ من طريق، فرأى مجنوناً قد إجتمع الناس حوله ينظرون إليه، فقال: "علام إجتمع هؤلاء؟" فقالوا: على مجنون يصرع، فنظر إليهم النّبي (صلى الله عليه وآله) وقال: "ما هذا بمجنون! ألا اُخبركم بالمجنون حقّ المجنون؟" قالوا: بلى يارسول الله، فقال: "إنّ المجنون: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرّك جنبيه بمنكبيه، فذلك المجنون وهذا المبتلى"(3).
2 ـ آداب الحديث
لقد وردت إشارة إلى آداب الحديث في مواعظ لقمان، وقد فتح في الإسلام باب واسع لهذه المسألة، وذكرت فيه آداب كثيرة من جملتها:
ـ طالما لم تكن هناك ضرورة للحديث والتكلّم، فإنّ السكوت خير منه، كما نرى ذلك في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "السكوت راحة للعقل"(4).
ـ وجاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): "من علامات الفقه: العلم والحلم والصمت، إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة"(5).
ـ وقد ورد التأكيد في روايات اُخرى على أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يسكت في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ اُصول الكافي، الجزء الثّاني، صفحة 28 باب (أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها).
3 ـ بحار الأنوار، ج76، صفحة 57.
4 ـ الوسائل، الجزء صفحة 532.
5 ـ المصدر السابق.
[51]
المواضع التي يلزم فيها الكلام، وأنّ الأنبياء بعثوا بالكلام لا بالسكوت، وأنّ وسيلة الوصول إلى الجنّة والخلاص من النار هي الكلام في الموضع المناسب(1).
3 ـ آداب العشرة
لقد اهتّمت الروايات الإسلامية الواردة عن النّبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)بمسألة التواضع وحسن الخُلُق والملاطفة في المعاملة، وترك الخشونة والجفاء في المعاشرة، إهتماماً قلّ نظيره في الموارد الاُخرى، وأفضل وأبلغ شاهد في هذا الباب هي الروايات الإسلامية نفسها، ونذكر منها هنا نماذج:
ـ جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يارسول الله، أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: "الق أخاك بوجه منبسط"(2).
وفي حديث آخر عن النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "ما يوضع في ميزان امرىء يوم القيامة أفضل من حسن الخُلُق"(3).
ـ وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): "البرّ وحسن الخُلُق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار"(4).
ونقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أكثر ما تلج به اُمّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخُلُق"(5).
وعن علي (عليه السلام) في شأن التواضع: "زينة الشريف التواضع"(6).
ـ وأخيراً نطالع في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "التواضع أصل كلّ خير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ بحار الأنوار، الجزء 74، صفحة 171.
3 ـ اُصول الكافي، الجزء 2، باب حسن الخُلُق وما بعده صفحة 81، 82.
4 ـ المصدر السابق.
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ بحار الأنوار، الجزء 75، صفحة 120.
[52]
نفيس، ومرتبة رفيعة، ولو كان للتواضع لغة يفهمها الخلق لنطق عن حقائق ما في مخفيات العواقب .. ومن تواضع لله شرّفه الله على كثير من عباده .. وليس لله عزّوجلّ عبادة يقبلها ويرضاها إلاّ وبابها التواضع"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، الجزء 75، صفحة 121.
[53]
الآيات
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمنَ النَّاسِ مَن يُجَـدِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَـب مُّنِير(20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَـنُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(21) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَـقِبَةُ الاُْمُورِ(22) وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَاب غَلِيظ(24)
التّفسير
بعد إنتهاء مواعظ لقمان العشر حول المبدأ والمعاد وطريقة الحياة، وخطط وبرامج القرآن الأخلاقية والإجتماعية، ولأجل إكمال البحث، تتّجه الآيات إلى بيان نعم الله تعالى لتبعث في الناس حسن الشكر .. الشكر الذي يكون منبعاً لمعرفة
[54]
الله وطاعة أوامره(1)، فيوجّه الخطاب لكلّ البشر، فيقول: (ألم تروا أنّ الله سخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض).
إنّ لتسخير الموجودات السماوية والأرضيّة للإنسان معنى واسعاً يشمل الاُمور التي في قبضته وإختياره، ويستخدمها برغبته وإرادته في طريق تحصيل منافعه ككثير من الموجودات الأرضيّة، كما تشمل الاُمور التي ليست تحت تصرّفه وإختياره، لكنّها تخدم الإنسان بأمر الله جلّ وعلا كالشمس والقمر. وبناءً على هذا فإنّ كلّ الموجودات مسخّرة بإذن الله لنفع البشر، سواءً كانت مسخّرة بأمر الإنسان أم لا، وعلى هذا فإنّ اللام في (لكم) لام المنفعة(2).
ثمّ تضيف الآية: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).
"أسبغ" من مادّة (سَبغ) وهي في الأصل بمعنى الثوب أو الدرع العريض الكامل، ثمّ اُطلق على النعم الكثيرة الوفيرة أيضاً.
هناك إختلاف بين المفسّرين في المراد من النعم الظاهرة والباطنة في هذه الآية ..
فالبعض إعتقد أنّ النعمة الظاهرة هي الشيء الذي لا يمكن لأيّ أحد إنكاره كالخلق والحياة وأنواع الأرزاق، والنعم الباطنة إشارة إلى الاُمور التي لا يمكن إدراكها من دون دقّة ومطالعة ككثير من القوى الروحية والغرائز المهمّة.
والبعض عدّ الأعضاء الظاهرة هي النعم الظاهرة، والقلب هو النعمة الباطنة.
والبعض الآخر إعتبر حسن الصورة والوجه والقامة المستقيمة وسلامة الأعضاء النعمة الظاهرة، ومعرفة الله هي النعمة الباطنة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إعتقد بعض المفسّرين كالآلوسي في روح المعاني، والفخر الرازي في التّفسير الكبير، بأنّ هذه الآيات مرتبطة بالآيات التي سبقت مواعظ لقمان، حيث تخاطب المشركين: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) وتقول في الآيات مورد البحث: (ألم تروا أنّ الله سخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض). إلاّ أنّ آخر هذه الآية والآيات التي بعدها، والروايات الواردة في تفسيرها تتناسب مع عموميّة الآية.
2 ـ كانت لنا بحوث اُخرى حول تسخير الموجودات للإنسان في ذيل الآية (2) من سورة الرعد.
[55]
وفي حديث عن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنّ ابن عبّاس سأله عن النعم الظاهرة والباطنة فقال (صلى الله عليه وآله): "يابن عبّاس، أمّا ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق، وأمّا ما بطن فستر مساويء عملك ولم يفضحك به"(1).
وفي حديث آخر عن الباقر (عليه السلام): "النعمة الظاهرة: النّبي (صلى الله عليه وآله) وما جاء به النّبي من معرفة الله، وأمّا النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقد مودّتنا"(2).
إلاّ أنّه لا توجد أيّة منافاة بين هذه التفاسير في الحقيقة، وكلّ منها يبيّن مصداقاً بارزاً للنعمة الظاهرة والنعمة الباطنة دون أن يحدّد معناها الواسع.
وتتحدّث الآية في النهاية عمّن يكفر بالنعم الإلهية الكبيرة العظيمة، والتي تحيط الإنسان من كلّ جانب، ويهبّ إلى الجدال ومحاربة الحقّ، فتقول: (من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير) وبدل أن يعرف ويقدّر هبة وعطاء كلّ هذه النعم الظاهرة والباطنة، فإنّه يتّجه إلى الشرك والجحود نتيجة الجهل.
ولكن ما هو الفرق بين "العلم" و "الهدى" و "الكتاب المنير"؟
لعلّ أفضل ما يمكن أن يقال في ذلك هو أنّ "العلم": إشارة إلى الإدراكات التي يدركها الإنسان عن طريق عقله، و "الهدى": إشارة إلى المعلّمين والقادة الربّانيين والسماويين، والعلماء الذين يأخذون بيده في هذا المسير ويوصلونه إلى الغاية والهدف، والمراد من "الكتاب المنير": الكتب السماوية التي تملأ قلب الإنسان نوراً عن طريق الوحي.
إنّ هذه الجماعة العنيدة في الحقيقة لا يمتلكون علماً، ولا يتّبعون مرشداً وهادياً، ولا يستلهمون من الوحي الإلهي، ولمّا كانت طرق الهداية منحصرة بهذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ المصدر السابق.
[56]
الاُمور الثلاثة فإنّ هؤلاء لمّا تركوها سقطوا في هاوية الضلال والضياع ووادي الشياطين.
وتشير الآية التالية إلى المنطق الضعيف السقيم لهذه الفئة، فتقول: (وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا) ولمّا لم يكن اتّباع الآباء الجهلة المنحرفين جزءاً من أيّ واحد من الطرق الثلاثة المذكورة أعلاه للهداية، فإنّ القرآن ذكره بعنوان الطريق الشيطاني، وقال: (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير)(1).
إنّ القرآن ـ في الحقيقة ـ يزيح هنا الغطاء عن اتّباع سنّة الآباء والأجداد الزائفة، ويبيّن الوجه الحقيقي لعمل هؤلاء والذي هو في حقيقته اتّباع الشيطان في مسير جهنّم.
أجل، إنّ قيادة الشيطان بذاتها تستوجب أن يخالفها الإنسان وإن كانت مبطّنة بالدعوة إلى الحقّ، فمن المسلّم أنّه غطاء وخدعة، والدعوة إلى النار كافية لوحدها أيضاً للمخالفة بالرغم من أنّ الداعي مجهول الحال، فإذا كان الداعي الشيطان، ودعوته إلى نار جهنّم المستعرة، فالأمر واضح.
هل يوجد عاقل يترك دعوة أنبياء الله إلى الجنّة، ويلهث وراء دعوة الشيطان إلى جهنّم؟!
ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى بيان حال مجموعتين: المؤمنين الخلّص، والكفّار الملّوثين، وتجعلهم مورد إهتمامها في المقارنة بينهم، فقالت: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد إستمسك بالعروة الوثقى).
والمراد من تسليم الوجه إلى الله سبحانه، هو التوجّه الكامل وبكلّ الوجود إلى ذات الله المقدّسة، لأنّ الوجه لمّا كان أشرف عضو في البدن، ومركزاً لأهمّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إعتبر المفسّرون (لو) هنا شرطية كالمعتاد، وجزاؤها محذوف، والتقدير: لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير أيتبعونه.
[57]
الحواسّ الإنسانية، فإنّه يستعمل كناية عن ذاته.
والتعبير بـ (وهو محسن) من قبيل ذكر العمل الصالح بعد الإيمان.
والإستمساك بالعروة الوثقى تشبيه لطيف لهذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان يحتاج لنجاته من منحدر الماديّة والإرتقاء إلى أعلى قمم المعرفة والمعنويات وتسامي الروح، إلى واسطة ووسيلة محكمة مستقرّة ثابتة، وليست هذه الوسيلة إلاّ الإيمان والعمل الصالح، وكلّ سبيل ومتّكأ غيرهما متهرّيء متخرّق هاو وسبب للسقوط والموت، إضافة إلى أنّ ما يبقى هو هذه الوسيلة، وكلّ ما عداها فان، ولذلك فإنّ الآية تقول في النهاية: (وإلى الله عاقبة الاُمور).
جاء في حديث نقل في تفسير البرهان عن طرق العامّة عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): "وسيكون بعدي فتنة مظلمة، الناجي منها من تمسّك بالعروة الوثقى، فقيل: يارسول الله، وما العروة الوثقى؟ قال: ولاية سيّد الوصيّين، قيل: يارسول الله، ومن سيّد الوصيّين؟ قال: أمير المؤمنين، قيل: يارسول الله ومن أمير المؤمنين؟ قال: مولى المسلمين وإمامهم بعدي، قيل: يارسول الله، ومن مولى المسلمين وإمامهم بعدك؟ قال: أخي علي بن أبي طالب"(1).
وقد رويت روايات اُخرى في هذا الباب تؤيّد أنّ المراد من العروة الوثقى مودّة أهل البيت (عليهم السلام)، أو حبّ آل محمّد (صلى الله عليه وآله)، أو الأئمّة من ولد الحسين (عليهم السلام)(2).
وقد قلنا مراراً: إنّ هذه التفاسير بيان للمصاديق الواضحة، ولا تتنافى مع المصاديق الاُخرى كالتوحيد والتقوى وأمثال ذلك.
ثمّ تطرقت الآية التالية إلى بيان حال الفئة الثّانية، فقالت: (ومن كفر فلا يحزنك كفره) لأنّك قد أدّيت واجبك على أحسن وجه، وهو الذي قد ظلم نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، الجزء 3، صفحة 279 ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ لمزيد الإيضاح راجع تفسير البرهان، الجزء 3، صفحة 278 و279.
[58]
ومثل هذه التعبيرات التي وردت مراراً في القرآن، تبيّن أنّ النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)كان يتألّم ويتعذّب كثيراً عندما يرى الجاهلين العنودين يتركون سبيل الله مع تلك الدلائل البيّنة والعلامات الواضحة، ويسلكون سبيل الغيّ والضلال، وكان يغتمّ إلى درجة أنّ الله تعالى كان يسلّي خاطره في عدّة مرّات، وهذا دأب وحال المرشد والقائد الحريص المخلص.
فلا تحزن أن تكفر جماعة من الناس، ويظلموا ويجوروا وهم متنعّمون بالنعم الإلهيّة ولا يعاقبون، فلا عجلة في الأمر، إذ: (إلينا مرجعهم فننبّئهم بما عملوا) فإنّنا مطّلعون على أسرارهم ونيّاتهم كإطّلاعنا على أعمالهم، فـ : (إنّ الله عليم بذات الصدور).
إنّ تعبير: إنّ الله ينّبىء الناس في القيامة بأعمالهم، أو أنّه تعالى ينبّئهم بما كانوا فيه يختلفون، قد ورد في آيات كثيرة من القرآن المجيد، وبملاحظة أنّ (ننبّئكم) من مادّة (نبأ) والنبأ ـ على ما أورده الراغب في مفرداته ـ يقال للخبر الذي ينطوي على محتوى وفائدة مهمّة، وهو صريح وخال من كلّ أشكال الكذب، سيتّضح أنّ هذه التعبيرات تشير إلى أنّ الله سبحانه يفشي ويفضح أعمال البشر بحيث لا يبقى لأحد أيّ إعتراض وإنكار، فهو يظهر ما عمله الناس في هذه الدنيا ونسوه أو تناسوه، ويهيّؤه للحساب والجزاء، وحتّى ما يخطر في قلب الإنسان ولم يطّلع عليه إلاّ الله تعالى، فإنّه سبحانه سيذكرهم بها.
ثمّ يضيف بأنّ تمتّع هؤلاء بالحياة لا ينبغي أن يثير عجبك، لأنّا (نمتّعهم قليلا ثمّ نضطرهم إلى عذاب غليظ) ذلك العذاب الأليم المستمر.
إنّ هذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يتصوّروا أنّهم خارجون عن قبضة قدرة الله سبحانه، بل إنّه يريد أن يمهل هؤلاء للفتنة وإتمام الحجّة والأهداف الاُخرى، وإنّ هذا المتاع القليل من جانبه أيضاً، وكم يختلف حال هؤلاء الذين
[59]
يجرّون ويُسحبون بذلّة وإكراه إلى العذاب الإلهي الغليظ، وحال اُولئك الذين وضعوا كلّ وجودهم في طريق العبودية لله سبحانه، وإستمسكوا بالعروة الوثقى، فهم يعيشون في هذه الدنيا طاهرين صالحين، وفي الآخرة يتنعّمون بجوار رحمة الله.
* * *
[60]
الآيات
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(25) لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ(26) وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلَـمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(27) مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْس وَحِدَة إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَل مُّسَمّىً وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَـطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ(30)
التّفسير
عشر صفات لله سبحانه:
بيّنت الآيات الستّة أعلاه مجموعة من صفات الله سبحانه، وهي عشر صفات
[61]
رئيسيّة، أو عشرة أسماء من الأسماء الحسنى:
الغني، الحميد، العزيز، الحكيم، السميع، البصير، الخبير، الحقّ، العليّ، والكبير.
هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ الآية الاُولى تتحدّث عن "خالقية" الله، والآية الثّانية عن "مالكيته" المطلقة، والثالثة عن "علمه" اللامتناهي، والآية الرّابعة والخامسة عن "قدته" اللامتناهية. والآية الأخيرة تخلص إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الذي يمتلك هذه الصفات ويتمتّع بها هو الله تعالى، وكلّ ما دونه باطل أجوف حقير.
مع ملاحظة هذا البحث الإجمالي نعود إلى شرح الآيات، فتقول الآية الاُولى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله).
هذا التعبير ـ والذي يلاحظ في آيات القرآن الاُخرى، كالآية (61 ـ 63) من سورة العنكبوت، والآية (38) من الزمر، والآية (9) من الزخرف ـ يدلّ من جهة على أنّ المشركين لم يكونوا منكرين لتوحيد الخالق مطلقاً، ولم يكونوا يستطيعون ادّعاء كون الأصنام خالقة، إنّما كانوا معتقدين بالشرك في عبادة الأصنام وشفاعتها فقط. ومن جهة اُخرى يدلّ على كون التوحيد فطريّاً وأنّ هذا النور كامن في طينة وطبيعة كلّ البشر.
ثمّ تقول: إذا كان هؤلاء معترفين بتوحيد الخالق فـ (قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).
ثمّ تتطرّق إلى "مالكية" الله، لأنّه بعد ثبوت كونه خالقاً لا حاجة إلى دليل على كونه مالكاً، فتقول: (لله ما في السموات والأرض). ومن البديهي أنّ الخالق والمالك يكون مدبّراً لأمر العالم أيضاً، وبهذا تثبت أركان التوحيد الثلاثة، وهي: "توحيد الخالقية" و "توحيد المالكية" و "توحيد الربوبية". والذي يكون على هذا الحال فإنّه غنيّ عن كلّ شيء، وأهل لكلّ حمد وثناء، ولذلك تقول الآية في النهاية: (إنّ الله هو الغني الحميد).
[62]
إنّه غنيّ على الإطلاق، وحميد من كلّ جهة، لأنّ كلّ موهبة في هذا العالم تعود إليه، وكلّ ما يملكه الإنسان فانّه صادر منه وخزائن كلّ الخيرات بيده، وهذا دليل حيّ على غناه.
ولمّا كان "الحمد" بمعنى الثناء على العمل الحسن الذي يصدر عن المرء بإختياره، وكلّ حسن نراه في هذا العالم فهو من الله سبحانه، فإنّ كلّ حمد وثناء منه، فحتّى إذا مدحنا جمال الزهور، ووصفنا جاذبية العشق الملكوتي، وقدّرنا إيثار الشخص الكريم، فإنّنا في الحقيقة نحمده، لأنّ هذا الجمال والجاذبية والكرم منه أيضاً .. إذن فهو حميد على الإطلاق.
ثمّ تجسّد الآية التالية علم الله اللامحدود من خلال ذكر مثال بليغ جدّاً، وقبل ذلك نرى لزوم ذكر هذه المسألة، وهي ـ طبقاً لما جاء في تفسير علي بن إبراهيم: إنّ قوماً من اليهود عندما سألوا النّبي (صلى الله عليه وآله) حول مسألة الروح، وأجابهم القرآن بأن (قل الروح من أمر ربّي وما اُوتيتم من العلم إلاّ قليلا) صعب هذا الكلام عليهم، وسألوا النّبي (صلى الله عليه وآله): هل أنّ هذا في حقّنا فقط؟ فأجابهم النّبي (صلى الله عليه وآله): "بل الناس عامّة"، قالوا: فكيف يجتمع هذا يامحمّد؟! أتزعم أنّك لم تؤت من العلم إلاّ قليلا، وقد اُوتيت القرآن واُوتينا التوراة، وقد قرأت: (ومن يؤت الحكمة ـ وهي التوراة ـ فقد اُوتي خيراً كثيراً) هنا نزلت الآية (ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام ...) ـ الآية مورد البحث ـ وأوضحت أنّ علم الإنسان مهما كان واسعاً فإنّه في مقابل علم الله عزّوجلّ ليس إلاّ ذرّة تافهة، والذي يعدّ كثيراً في نظركم، هو قليل جدّاً عند الله(1).
وقد بيّنا نظير هذه الرواية عن طريق آخر في ذيل الآية (109) من سورة الكهف.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، الجزء 3، صفحة 279.
[63]
وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن الكريم ولأجل تجسيد علم الله اللامتناهي يقول: (ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إنّ الله عزيز حكيم).
"يمدّه" من مادّة (المداد) وهي بمعنى الحبر أو المادّة الملوّنة التي يكتبون بها، وهي في الأصل من (مدّ) بمعنى الخطّ، لأنّ الخطوط تظهر على صفحة الورق بواسطة جرّ القلم.
ونقل بعض المفسّرين معنى آخر لها، وهو الزيت الذي يوضع في السراج ويسبّب إنارة السراج. وكلا المعنيين في الواقع يرجعان إلى أصل واحد.
"الكلمات" جمع "كلمة"، وهي في الأصل الألفاظ التي يتحدّث ويتكلّم بها الإنسان، ثمّ اُطلقت على معنى أوسع، وهو كلّ شيء يمكنه أن يبيّن المراد والمطلب، ولمّا كانت مخلوقات هذا العالم المختلفة يبيّن كلّ منها ذات الله المقدّسة وعظمته، فقد أطلق على كلّ موجود (كلمة الله)، واستعمل هذا التعبير خاصّة في الموجودات الأشرف والأعظم، كما نقرأ في شأن المسيح في الآية (171) من سورة النساء (إنّما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته) ثمّ إستعملت كلمات الله بمعنى علم الله لهذه المناسبة.
والآن يجب أن نفكّر بدقّة وبشكل صحيح بأنّه قد يكفي أحياناً قلم واحد مع مقدار من الحبر لكتابة كلّ المعلومات التي تتعلّق بإنسان ما، بل قد يكون من الممكن أن يسجّل أفراد آخرون مجموعة معلوماتهم على الأوراق بنفس ذلك القلم، إلاّ أنّ القرآن يقول: لو أنّ كلّ الأشجار الموجودة على سطح الأرض تصبح أقلاماً ـ ونحن نعلم أنّه قد تصنع من شجرة ضخمة، من ساقها وأغصانها، آلاف، بل ملايين الأقلام، ومع الأخذ بنظر الإعتبار المقدار العظيم للأشجار الموجودة في الأرض، والغابات التي تغطّي الكثير من الجبال والسهول، وعدد الأقلام الذي سينتج منها ..
[64]
وكذلك لو كانت كلّ البحار والمحيطات الموجودة، والتي تشكّل ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة تقريباً، بذلك العمق الساحق، تصبح حبراً، عند ذلك يتّضح عظمة ما سيكتب، وكم من العلوم يمكن كتابتها بهذا المقدار من الأقلام والحبر! سيّما مع ملاحظة مضاعفة ذلك بإضافة سبعة أبحر اُخرى، وكلّ واحد منها يعادل كلّ محيطات الأرض، وبالأخصّ إذا علمنا أنّ عدد السبعة هنا لا يعني العدد، بل للكثرة والإشارة إلى البحار التي لا عدّ لها، فعند ذلك ستّتضح سعة علم الله عزّوجلّ وترامي أطرافه، ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الأقلام والمحابر تنتهي ولكنّ علومه سبحانه لا تعرف النهاية.
هل يوجد تجسيد وتصوير للاّنهاية أروع وأبلغ وأجمل من هذا التجسيد؟ إنّ هذا العدد حيّ وناطق إلى الحدّ الذي يصطحب معه أمواج فكر الإنسان إلى الآفاق اللامحدودة، ويغرقها في الحيرة والهيبة والجلال.
إنّ الإنسان يشعر مع هذا البيان البليغ الواضح أنّ معلوماته مقابل علم الله كالصفر مقابل اللانهاية، ويليق به أن يقول فقط: إنّ علمي قد أوصلني إلى أن أطّلع على جهلي، فحتّى التشبيه بالقطرة من البحر لتبيان هذه الحقيقة لا يبدو صحيحاً.
ومن جملة المسائل اللطيفة التي تلاحظ في الآية: أنّ الشجرة قد وردت بصيغة المفرد، والأقلام قد وردت بصيغة الجمع، وهذا تبيان لعدد الأقلام الكثيرة التي تنتج من شجرة واحدة بساقها وأغصانها.
وكذلك التعبير بـ (البحر) بصيغة المفرد مع (الف ولام) الجنس ليشمل كلّ البحار والمحيطات على وجه الأرض، خاصّة وأنّ كلّ بحار العالم ومحيطاته متّصلة ببعضها، وهي في الواقع بحكم بحر واسع.
والطريف في الأمر أنّه لا يتحدّث في مورد الأقلام عن أقلام إضافية ومساعدة، أمّا فيما يتعلّق بالبحار فإنّه يتحدّث عن سبعة أبحر اُخرى، لأنّ القلم يستهلك قليلا أثناء الكتابة، والذي يستهلك أكثر هو الحبر.
[65]
إنتخاب كلمة (سبع) للكثرة في لغة العرب، ربّما كان بسبب أنّ السابقين كانوا يعتقدون أنّ عدد كواكب المنظومة الشمسية سبعة كواكب ـ وفي أنّ ما يرى اليوم بالعين المجرّدة من المنظومة الشمسية سبعة كواكب لا أكثر ـ ومع ملاحظة أنّ الأسبوع دورة زمانية كاملة تتكوّن من سبعة أيّام لا أكثر، وأنّهم كانوا يقسّمون كلّ الكرة الأرضية إلى سبع مناطق، وكانوا قد وضعوا لها اسم الأقاليم السبعة، سيتّضح لماذا إنتخب عدد السبعة كعدد كامل من بين الأعداد، واستعمل لبيان الكثرة(1).
بعد ذكر علم الله اللامحدود، تتحدّث الآية الاُخرى عن قدرته اللامتناهية، فتقول: (ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفس واحدة إنّ الله سميع بصير).
قال بعض المفسّرين: إنّ جمعاً من كفّار قريش كانوا يقولون من باب التعجّب والإستبعاد لمسألة المعاد: إنّ الله قد خلقنا بأشكال مختلفة، وعلى مدى مراحل مختلفة، فكنّا يوماً نطفة، وبعدها صرنا علقة، وبعدها صرنا مضغة، ثمّ أصبحنا تدريجيّاً على هيئات وصور مختلفة، فكيف يخلقنا الله جميعاً خلقاً جديداً في ساعة واحدة؟! فنزلت الآية مورد البحث فأجابتهم.
إنّ هؤلاء كانوا غافلين في الحقيقة عن مسألة مهمّة، وهي أنّ هذه المفاهيم كالصعوبة والسهولة، والصغير والكبير يمكن تصوّرها من قبل موجودات لها قدرة محدودة كقدرتنا، إلاّ أنّها أمام قدرة الله اللامتناهية تكون متساوية، فلا يختلف خلق إنسان واحد عن خلق جميع البشر مطلقاً، وخلق موجود ما في لحظة واحدة أو على مدى سنين طوال بالنسبة إلى قدرته المطلقة.
وإذا كان تعجّب كفّار قريش من أنّه كيف يمكن فصل الأجساد عن بعضها وإرجاع كلّ منها إلى محلّه بعد أن كانت الطبائع مختلفة، والأشكال متغايرة، والشخصيات متنوّعة، وذلك بعد أن تحوّل بدن الإنسان إلى تراب وتطايرت
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تحدّثنا حول (علم الله المطلق) في ذيل الآية (109) من سورة الكهف.
[66]
ذرّات ذلك التراب؟! فإنّ علم الله اللامتناهي، وقدرته اللامحدودة تجيبهم عن سؤالهم، فإنّه قد جعل بين الموجودات روابط وعلاقات بحيث أنّ الواحد منها كالمجموعة، والمجموعة كالواحد.
وأساساً فانّ إنسجام وترابط هذا العالم بشكل ترجع كلّ كثرة فيه إلى الوحدة، وخلقة مجموع البشر تتّبع خلقة إنسان واحد.
وإذا كان تعجّب هؤلاء من قصر الزمان، بأنّه كيف يمكن أن تطوى المراحل التي يطويها الإنسان خلال سنين طوال من كونه نطفة إلى مرحلة الشباب، في لحظات قصيرة؟! فإنّ قدرة الله تجيب على هذا التساؤل أيضاً، فإنّنا نرى في عالم الأحياء أنّ أطفال الإنسان يحتاجون لمدّة طويلة ليتعلّموا المشي بصورة جيّدة، أو يصبحوا قادرين على الإستفادة من كلّ أنواع الأغذية، في حين أنّنا نرى الفراخ بمجرّد أن تخرج من البيضة تنهض وتسير، وتأكل دونما حاجة حتّى للاُمّ، وهذه الظاهرة تبيّن أنّ هذه الاُمور لا تعني شيئاً أمام قدرة الله عزّوجلّ.
إنّ ذكر كون الله "سميعاً وبصيراً" في نهاية الآية قد يكون جواباً عن إشكال آخر من جانب المشركين، وهو على فرض أنّ جميع البشر على إختلاف خلقتهم، وبكلّ خصوصياتهم يبعثون ويحيون في ساعة واحدة، لكن كيف ستخضع أعمالهم وكلامهم للحساب، فإنّ الأعمال والأقوال اُمور تفنى بعد الوجود؟!
فيجيب القرآن بأنّ الله سميع وبصير، قد سمع كلّ كلامهم، ورأى كلّ أعمالهم، علاوة على أنّ الفناء المطلق لا معنى ولا وجود له في هذا العالم، بل إنّ أعمالهم وأقوالهم موجودة دائماً.
وإذا تجاوزنا ذلك فإنّ الجملة أعلاه تهديد لهؤلاء المعاندين، بأنّ الله سبحانه مطّلع على أقوالكم ومؤامراتكم، بل وحتّى على ما في قلوبكم وضمائركم.
الآية التالية تأكيد وبيان آخر لقدرة الله الواسعة، وقد وجّهت الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله) فقالت: (ألم تر أنّ الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليلو
[67]
سخّرالشمس والقمر) لخدمة الناس وتأمين إحتياجاتهم (كلّ يجري لأجل مسمّى وإنّ الله بما تعملون خبير).
"الولوج" في الأصل بمعنى "الدخول"، ودخول الليل في النهار والنهار في الليل قد يكون إشارة إلى طول وقصر الليل والنهار التدريجي على مدار السنة، حيث ينقص شيء من أحدهما تدريجيّاً، ويضاف على الآخر بصورة غير محسوسة، لتتكوّن الفصول الأربعة للسنة بخصائصها وآثارها المباركة. (وليست هناك إلاّ نقطتان على سطح الأرض لا يوجد فيهما هذا التغيير التدريجي والفصول الأربعة: إحداهما: النقطة الحقيقيّة للقطب الشمالي والجنوبي حيث يكون الليل هناك ستّة أشهر، والنهار ستّة أشهر طوال السنة، والاُخرى خطّ الإستواء الدقيق حيث يتساوى ليله ونهاره كلّ السنة).
أو إشارة إلى أنّ تبديل الليل بالنهار والنهار بالليل لوجود الغلاف الجوّي لا يحدث بصورة مفاجئة فيتعرّض الإنسان وكلّ الموجودات الحيّة للأخطار المختلفة حينئذ، بل إنّ أشعّة الشمس تتوغّل من حيث طلوع الفجر في أعماق الظلام أوّلا، ثمّ يتّسع ويزداد ضوء النهار حتّى يعمّ كلّ أرجاء السماء، وعلى العكس تماماً ممّا يحدث عند إنتهاء النهار ودخول الليل.
وهذا الإنتقال التدريجي والمنظّم بدقّة متناهية من مظاهر قدرة الله تعالى.
ومن الطبيعي أنّ هذين التّفسيرين لا يتنافيان، ويمكن أن يجتمعا في معنى الآية وتفسيرها.
أمّا في مورد تسخير الشمس والقمر وسائر الكواكب السماوية للبشر، فإنّ المراد ـ وكما قلنا سابقاً أيضاً ـ تسخيرها في سبيل خدمة الإنسان، وبتعبير آخر فإنّ اللام في (سخّر لكم) لام النفع لا الإختصاص، وقد ورد هذا التعبير في القرآن المجيد في شأن الشمس والقمر، والليل والنهار، والأنهار والبحار والسفن، وكلّ هذه مبيّنة لعظمة شخصيّة الإنسان، وسعة نعم الله عليه حيث أنّ كلّ الموجودات
[68]
الأرضية والسماوية مسخّرة ومطيعة له بأمر الله تعالى، ومع كلّ هذا التسخير فليس من الإنصاف أن يعصي الله سبحانه ولا يطيع أوامره(1).
وجملة (كلّ يجري لأجل مسمّى) إشارة إلى أنّ هذا النظام الدقيق لا يستمرّ إلى الأبد، بل إنّ له نهاية بإنتهاء الدنيا، وهو ما ذكر في سورة التكوير: (إذا الشمس كوّرت وإذا النجوم إنكدرت ...).
إنّ إرتباط جملة (إنّ الله بما تعملون خبير) بهذا البحث سيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفاً، لأنّ الله الذي جعل الشمس والقمر العظيمين خاضعين لنظام دقيق، وعاقب بين الليل والنهار بذلك النظام الخاصّ آلاف وملايين السنين، كيف يمكن أن تخفى عليه أعمال البشر؟ نعم .. إنّه يعلم الأعمال، وكذلك يعلم النيّات والأفكار.
وتقول الآية الأخيرة، كإستخلاص نتيجة جامعة كليّة (ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه الباطل وأنّ الله هو العليّ الكبير)(2).
إنّ مجموع البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول كون الله خالقاً ومالكاً، وعن علمه وقدرته اللامتناهيين، أثبتت هذه الاُمور، وأنّ الحقّ هو الله وحده، وكلّ شيء غيره زائل وباطل ومحدود ومحتاج، والعلي والكبير الذي يسمو على كلّ شيء، ويجلّ عن كلّ وصف، هو ذاته المقدّسة، وعلى قول الشاعر:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل وكلّ نعيم لا محالة زائل
ويمكن إيضاح هذا الكلام بالتعبير الفلسفي كما يلي:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا بحث مفصّل حول تسخير الشمس والقمر والموجودات الاُخرى للإنسان في ذيل الآية (2) من سورة الرعد، والآية (32) من سورة إبراهيم.
2 ـ "الباء" في (بأنّ الله هو الحقّ) بالرغم من أنّها تبدو في بادىء الأمر سببية، وربّما اعتبر بعض المفسّرين كالآلوسي في روح المعاني مضمون هذه الآية سبباً للمطالب السابقة، إلاّ أنّ سياق الآيات وذكر الصفات السابقة ـ أي الخالقية والمالكية والعلم والقدرة وعلاماتها في عالم الخلقة ـ ظاهر في أنّها جميعاً كانت شاهدة على هذه النتيجة، وبناءً على هذا، فإنّ محتوى هذه الآية نتيجة للآيات السابقة لا سبباً لها.
[69]
إنّ الحقّ إشارة إلى الوجود الحقيقي الثابت، وفي هذا العالم فإنّ الوجود الحقيقي القائم بذاته والثابت المستقرّ الخالد هو الله فقط، وكلّ ما عداه لا وجود له بذاته وهو عين البطلان، حيث إنّه يستمدّ وجوده عن طريق الإرتباط بذلك الوجود الحقّ الدائم، فإذا إنقطع الفيض عنه لحظة فإنّه سيفنى ويُمحى في ظلمات الفناء والعدم، وبهذا فإنّه كلّما قوي إرتباط الموجودات الاُخرى بوجود الله تعالى فإنّها تكتسب بتلك النسبة حقّاً أكبر.
وعلى كلّ حال، وكما قلنا سابقاً، فإنّ هذه الآيات مجموعة من عشر صفات من صفات الله تعالى، وعشرة أسماء من أسمائه، وتشتمل على أدلّة قويّة ـ لا يمكن إنكارها ـ وعلى بطلان كلّ أنواع الشرك، ولزوم التوحيد في كلّ مراحل العبودية.
* * *
[70]
الآيتان
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَـتِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـت لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور(31) وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعُوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّـهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَـتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّار كَفُور(32)
التّفسير
في دوّامة البلاء!
يدور البحث والحديث في هاتين الآيتين أيضاً عن نعم الله سبحانه، وأدلّة التوحيد في الآفاق والأنفس، فالحديث في الآية الاُولى عن دليل النظام، وفي الآية الثّانية عن التوحيد الفطري، وهما في المجموع تكمّلان البحوث التي وردت في الآيات السابقة.
تقول الآية الاُولى: (ألم تر أنّ الفلك تجري في البحر بنعمة الله(1) ليريكم من آياته إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبّار شكور).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "الباء" في (بنعمة الله) يمكن أن تكون باء السببية، أو باء المصاحبة، إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل هو الأنسب.
[71]
لا شكّ أنّ حركة السفن على سطح المحيطات تتمّ بمجموعة من قوانين الخلقة:
ـ فحركة الرياح المنتظمة من جهة.
ـ والوزن الخاص للخشب أو المواد التي تصنع منها تلك السفينة من جانب آخر.
ـ ومستوى كثافة الماء من جانب ثالث.
ـ ومقدار ضغط الماء على الأجسام التي تسبح فيه من جهة رابعة.
وحينما يحدث إختلال في واحد من هذه الاُمور فإنّ السفينة إمّا أن تغرق وتنزل إلى قعر البحر، أو تنقلب، أو تبقى حائرة لا تهتدي إلى سبيل نجاتها في وسط البحر.
غير أنّ الله جلّ وعلا الذي أراد أن يجعل البحار الواسعة أفضل السبل وأهمّها لسفر البشر، ونقل المواد التي يحتاجونها من نقطة إلى اُخرى، قد هيّأ ويسّر هذه الشروط والظروف، وكلّ منها نعمة من نعمه تعالى.
إنّ عظمة قدرة الله سبحانه في ميدان المحيطات، وصغر الإنسان مقابلها، تبلغ حدّاً بحيث إنّ كلّ البشر في العالم القديم ـ الذي كانت السفن تعتمد على الرياح في حركتها ـ لو إجتمعوا ليحرّكوا سفينة وسط البحر عكس إتّجاه ريح عاصف قويّة لما استطاعوا.
واليوم أيضاً، حيث حلّت المولِّدات والمكائن العظيمة محلّ الهواء، فإنّ هبوب العواصف قد يبلغ من الشدّة أحياناً بحيث يحرّك ويهزّ أعظم السفن، وقد يحطّمها أحياناً.
والتأكيد الذي ورد في نهاية الآية على أوصاف (صبّار) و (شكور) إمّا أن يكون من باب أنّ الحياة الدنيا مجموعة من البلاء والنعمة، وكلاهما طريق ومحلّ للإختبار، حيث إنّ الصمود والتحمّل أمام الحوادث الصعبة، والشكر على النعم يشكّلان مجمل ما يجب على الإنسان، ولذا نقل كثير من المفسّرين عن الرّسول
[72]
الأكرم (صلى الله عليه وآله): "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر"(1).
أو أن يكون إشارة إلى لزوم وجود هدف لأجل إدراك آيات الله العظيمة في ميدان الخلقة، وهذا الهدف هو شكر المنعم المقترن بالصبر والتحمّل من أجل دقّة وتفحّص أكبر.
وبعد بيان نعمة حركة السفن في البحار، والتي كانت ولا تزال أكبر وأنفع وسائل حمل ونقل البضائع والبشر، أشارت هذه الآية إلى صورة اُخرى لهذه المسألة، فقالت: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين).
"الظللّ" جمع ظُلّة، وقد ذكر المفسّرون لها عدّة معان:
ـ فيقول الراغب في مفرداته: الظلّة سحابة تظلّ، وأكثر ما تقال لما يستوخم ويكره.
ـ والبعض إعتبرها بمعنى المظلّة الكبيرة، من مادّة الظلّ.
ـ والبعض إعتبرها بمعنى الجبل.
وبالرغم من أنّ هذه المعاني ـ من حيث تعلّقها بالآية مورد البحث ـ لا تختلف كثيراً عن بعضها، إلاّ أنّه بملاحظة أنّ هذه الكلمة قد وردت مراراً في القرآن بمعنى السحاب الذي يظلّ، وبملاحظة أنّ تعبير (غشيهم) يناسب معنى السحاب أكثر، فيبدو أنّ هذا التّفسير هو الأقرب.
أي إنّ أمواج البحر العظيمة تهيج فتحيط بهم كأنّ سحاباً قد أظلّهم بظلّ مرعب مهول.
هنا يجد الإنسان نفسه ضعيفاً وعاجزاً رغم كلّ تلك القوى والإمكانيات الظاهرية التي أعدّها لنفسه، ويجد يده قاصرة عن كلّ شيء ومكان، وتقف كلّ الوسائل العادية والماديّة عن العمل، ولا يبقى له أي بصيص أمل إلاّ النور الذي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير مجمع البيان، والقرطبي، والفخر الرازي، والصافي.
[73]
يشعّ من أعماق روحه وفطرته، فيزيح عن قلبه حجب الغفلة، ويقول له: هل يوجد أحد يستطيع إنقاذك؟
نعم، إنّه الذي تطيع أوامره أمواج البحر .. انّه خالق الماء والهواء والتراب.
هنا يحيط التوحيد الخالص بكلّ قلبه ويغمره، ويعتقد بأنّ الدين والعبادة مختّصة به سبحانه.
ثمّ تضيف الآية إنّ الله سبحانه لمّا نجّاهم من الهلكة إنقسم الناس قسمين: (فلمّا نجّاهم إلى البرّ فمنهم مقتصد)(1). وهؤلاء وفوا بعهدهم ولم ينقضوه، ولم ينسوا منّة الله عليهم في تلك اللحظات الحسّاسة.
أمّا القسم الثّاني فإنّهم نسوا كلّ ذلك، واستولى جيش الشرك والكفر على معسكر قلوبهم.
وإعتبر بعض المفسّرين الآية أعلاه إشارة إلى إسلام "عكرمة بن أبي جهل"، إذ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) عفا عن جميع الناس عند فتح مكّة غير أربعة نفر أحدهم عكرمة بن أبي جهل، إذ أهدر دمهم، وأمر بقتلهم حيثما وجدوا، لأنّهم لم يتركوا أيّ سيّئة أو جريمة ضدّ الإسلام والمسلمين إلاّ عملوها، ولذلك إضطرّ عكرمة إلى الفرار من مكّة، فتوجّه إلى البحر الأحمر وركب السفينة، فأخذت بأطرافه ريح عاصف، فقال بعض أهل السفينة لبعضهم الآخر: تعالوا نترك الأصنام ونتضرّع إلى الله وحده ونسأله لطفه، فإنّ آلهتنا هذه لا تنفع شيئاً!
فقال عكرمة: إذا لم ينقذنا غير توحيدنا في البحر، فلن ينقذنا في البرّ سواه أيضاً، اللهمّ إنّ اُعطيك عهداً ـ إذا نجّيتني من هذه المحنة ـ لآتينّ محمّداً (صلى الله عليه وآله)واُبايعه، فإنّي أعلم أنّه كريم عفوّ.
وأخيراً نجا، وأتى إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "مقتصد" من مادّة قصد، بمعنى الإعتدال في العمل، والوفاء بالعهد.
2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، ووردت هذه الحادثة في (اُسد الغابة في معرفة الصحابة) ج4، صفحة 5 بتفاوت يسير.
[74]
وقد ورد في التواريخ الإسلامية أنّ عكرمة قد أصبح في صفّ المسلمين الحقيقيين، وإستشهد في معركة اليوموك أو أجنادين.
وتضيف الآية في النهاية (وما يجحد بآياتنا إلاّ كلّ ختّار كفور).
(ختّار) من الختر، بمعنى نقض العهد، وهذه الكلمة صيغة مبالغة، لأنّ المشركين والعاصين يتوجّهون إلى الله مراراً، ويقطعون على أنفسهم العهود، وينذرون النذور، إلاّ أنّهم بمجرّد أن يهدأ طوفان الحوادث ينقضون عهودهم بصورة متلاحقة، ويكفرون بنعم الله عليهم.
إنّ تعبير "ختّار" و "كفور" الذي ورد في نهاية هذه الآية، هو في الحقيقة مقابل تعبير "صبّار" و "شكور" الذي ورد في نهاية الآية السابقة ـ فالكفران في مقابل الشكر، ونقض العهد في مقابل الصبر والثبات على العهد ـ لأنّ الوفاء بالعهد لا يتمّ إلاّ من قبل الثابتين الصامدين .. اُولئك الذين إذا توهّج الإيمان الفطري في أعماق أرواحهم فلا يدعون هذا النور الإلهي ينطفيء مرّة اُخرى وتتكاثف عليه الحجب.
* * *
[75]
الآيتان
يَـأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَاز عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ(33) إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الاَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(34)
التّفسير
سعة علم الله:
في هاتين الآيتين اللتين هما آخر آيات سورة لقمان، تلخيص للمواعظ والنصائح السابقة ولأدلّة التوحيد والمعاد، وتوجيه الناس إلى الله واليوم الآخر وتحذير من الغرور الناشيء من الدنيا والشيطان، ثمّ الحديث عن سعة علم الله سبحانه وشموله لكلّ شيء، فتقول: (ياأيّها الناس اتّقوا ربّكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً).
[76]
إنّ الدستور الأوّل هو التوجّه إلى المعاد، فالدستور الأوّل يحيي في الإنسان قوّة المراقبة، والثّاني ينمّي روح الثواب والعقاب، ولا شكّ أنّ الإنسان الذي يعلم أنّ شخصاً خبيراً ومطّلعاً على كلّ أعماله يراه ويعلم به ويسجّل كلّ أعماله، ومن ناحية اُخرى يعلم أنّ محكمة عادلة ستتشكّل للتحقيق في كلّ جزئيات أعماله، لا يمكن أن يتلوّث بأدنى فساد ومعصية.
جملة (لا يجزي) من مادّة الجزاء، و "الجزاء" ورد بمعنيين من الناحية اللغوية:
أحدهما: المكافأة والمعاقبة مقابل شيء، كما يقال: جزّاه الله خيراً.
والآخر: الكفاية والنيابة والتحمّل للشيء عن الآخرين، كما جاء في الآية مورد البحث: (لا يجزي والد عن ولده).
ومن الممكن أن يعود كلا المعنيين إلى أصل واحد، لأنّ الثواب والعقاب يحلاّن محلّ العمل وينوبان عنه، وهما بمقداره أيضاً ـ تأمّلوا ذلك ـ .
على كلّ حال، فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه، ومبتلى بمعطيات أعماله وآثارها إلى درجة أنّه لا ينظر إلى أحد ولا يهتمّ به، حتّى وإن كان أبوه، أو إبنه الذي كانت تربطه به أقرب الروابط، فلا يفكّر أحد بآخر مطلقاً.
وهذه الآية نظير ما ورد في بداية سورة الحجّ في الحديث حول القيامة والزلزلة: (يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت).
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّه يعبّر بـ (لا يجزي) في مورد الأب، وهي صيغة المضارع، أمّا في شأن الإبن فإنّه يعبّر باسم الفاعل (جاز) وهذا التفاوت في التعبير لعلّه من باب التنوّع في الكلام، أو إشارة إلى واجب ومسؤولية الإبن تجاه الأب، لأنّ اسم الفاعل يؤدّي معنى الدوام والتكرار أكثر.
وبتعبير آخر، فإنّ المتوقّع من العواطف الأبوية أن يتحمّل الأب مقداراً من العذاب عن إبنه، كما كان في الدنيا يتحمّل المصاعب والمشاكل في سبيله، لكن من
[77]
الإبن أن يتحمّل مصائب الأب أكثر وفاءً لحقوق الاُبوّة المترتّبة عليه، في حين أن أيّاً منهما لا يتحمّل أدنى مشكلة عن الآخر، وكلّ منهما مشغول بأعماله، وحائر في أمره ونفسه.
وتحذّر الآية في النهاية البشر من شيئين، فتقول: (إنّ وعد الله حقّ فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور) أي الشيطان.
في الواقع، يلاحظ هنا نهيان في مقابل الأمرين اللذين كانا في بداية الآية، فإنّ الإنسان إذا نمت فيه مسألة التوجّه إلى الله، والخوف من الحساب والجزاء، فلا يخاف عليه من الإنحراف والفساد، إلاّ من طريقين:
أحدهما: أن تغلب زخارف الدنيا وزبرجها الحقائق في عينيه بصور اُخرى، وتسلب منه القدرة على التشخيص، لأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ الخطايا وأساسها.
والآخر: أن تخدعه وساوس الشيطان وتغرّه، وتبعده عن المبدأ والمعاد.
فإذا أغلق طريقي نفوذ المعصية والذنب هذين، فسوف لا يهدّده أيّ خطر، وعلى هذا فإنّ الدساتير والبنود الأربعة أعلاه تمثّل مجموعة كاملة من برنامج نجاة وخلاص الإنسان.
وفي آخر آية من هذه السورة، وبمناسبة البحث الذي جاء في الآية السابقة حول يوم القيامة، يدور الكلام عن العلوم المختّصة بالله سبحانه، فتقول: (إنّ الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث) ومطّلع على جميع جزئياته وتفاصيله ...
(ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأيّ أرض تموت إنّ الله عليم خبير).
فكأنّ مجموع هذه الآية جواب عن سؤال يطرح في باب القيامة، وهو نفس السؤال الذي سأل المشركون به النّبي (صلى الله عليه وآله) مراراً وتكراراً، وقالوا: (متى هو)؟(1)، فيجيبهم القرآن عن سؤالهم، ويقول: لا يعلم أحد بموعد قيام القيامة إلاّ الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الإسراء، 51.
[78]
سبحانه، وطبقاً لصريح آيات اُخرى، فإنّ الله أخفى هذا العلم عن الجميع: (إنّ الساعة آتية أكاد اُخفيها)(1)، وذلك كي لا يحيط الغرور والغفلة بأطراف البشر.
ثمّ تقول الآية: إنّ مسألة القيامة ليست هي المسألة الوحيدة الخافية عليكم، ففي حياتكم اليومية، ومن بين أقرب المسائل المرتبطة بحياتكم ومماتكم، مسائل كثيرة تجهلونها ..
أنتم لا تعلمون زمان نزول قطرات المطر، والتي ترتبط بها حياة كلّ الكائنات الحيّة، وإنّما تتوقّعونها على أساس الحدس والظنّ والتخمين.
وكذلك زمان تكوّنكم في بطون الاُمّهات وخصائص الجنين فلا علم لأحد منكم بذلك.
ومستقبلكم القريب، أي حوادث الغد، وكذلك مكان موتكم وتوديعكم للحياة، خاف على الجميع.
فإذا كنتم جاهلين بهذه المسائل القريبة من حياتكم والمتّصلة بها، فلا مجال للعجب من عدم علمكم بلحظة قيام القيامة(2).
ونقل في الدرّ المنثور: أنّ رجلا يقال له "الوراث"، من بني "مازن بن حفصة"، جاء إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: يامحمّد، متى تقوم الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غداً؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية(3).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة طه، 15.
2 ـ صحيح أنّ جملة (ينزل الغيث) في الآيات أعلاه لا تتحدّث عن مسألة علم الله ـ ولهذا السبب فإنّ البعض اعتبر هذه الجملة إستثناء من بين هذه الجمل، وجعلها مبيّنة لقدرة الله لا علمه، إلاّ أنّ إنسجام الجمل الخمس مع بعضها من جهة، والروايات المتعدّدة التي وردت في نهج البلاغة وكتب اُخرى ـ وسنشير إليها قريباً ـ من جهة اُخرى، قرينة على أنّها ترتبط بعلم الله أيضاً.
3 ـ تفسير الدرّ المنثور، طبقاً لنقل تفسير الميزان، الجزء، 16 صفحة 241.
[79]
بحوث
1 ـ أنواع الغرور والخدع!
إنّ الآيات أعلاه تحذّر من الإنخداع والإغترار بزخارف الحياة الدنيا وبهارجها، ثمّ تتحدّث عن خدع الشيطان ومكائده، وتعلن عن خطورته، لأنّ الناس عدّة أقسام:
فبعضهم ضعيف وعاجز إلى الحدّ الذي يكفي لخداعه والتغرير به مجرّد رؤية زخارف الدنيا.
أمّا القسم الذي يمتلك مقاومة أكثر، فلابدّ أن تزداد الوساوس الشيطانية لإزدياد مقاومتهم، ويتّحد لإضلالهم وخداعهم الشيطان الداخلي والخارجي. وتعبيرات الآية أعلاه تحذير لأفراد كلا الفئتين.
وممّا يجدر ذكره أنّ (الغرور) على وزن "جسور" يعني كلّ موجود خدّاع، وإنّما فسّروها بالشيطان لأنّه مصداقها الواضح في الحقيقة، وإلاّ فإنّ كلّ إنسان خدّاع، وكلّ كتاب مضلّ، وأيّ مقام ومنصب يوسوس، وكلّ موجود يخدع الإنسان ويضلّه فإنّه يدخل في المفهوم الواسع لهذه الكلمة، اللهمّ إلاّ أن نعطي للشيطان من سعة المعنى بحيث يشمل كلّ المعاني المتقدّمة، ولهذا فإنّ الراغب في مفرداته يقول: فالغرور كلّ ما يغرّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسّر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين.
وقد فسّرها البعض بالدنيا لخداعها وغرورها، كما نقرأ في نهج البلاغة: "تغرّ وتضرّ وتمرّ"(1).
2 ـ خداع الدنيا
لا شكّ أنّ كثيراً من مظاهر الحياة الدنيا غارّة ومضلّة، وقد تشغل الإنسان بها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وردت جملة (تغرّ وتضرّ وتمرّ) في شأن الدنيا في نهج البلاغة في باب الحكم القصار لأمير المؤمنين علي(عليه السلام): 415.
[80]
أحياناً حتّى يغفل عن كلّ شيء، ولا يشتغل إلاّ بها، ولذلك نقرأ في بعض الروايات عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما سأله بعضهم: أيّ الناس أثبت رأياً؟ قال: "من لم يغرّه الناس من نفسه، ولم تغرّه الدنيا بتشويقها"(1).
ولكن، ومع هذه الحال، فإنّ في طيّات مشاهد هذه الدنيا الخدّاعة المختلفة، مشاهد وحوادث ناطقة معبّرة عن زوال هذا العالم، وكون زخارفه وزبارجه جوفاء خالية بأبلغ تعبير وأوضحه، تلك الحوادث تستطيع أن توقظ كلّ إنسان عاقل، بل وتجعل الأغبياء عاقلين حكماء.
ففي حديث: أنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) سمع رجلا يذمّ الدنيا وكان يعدّها خدّاعة، فقال (عليه السلام): "أيّها الذامّ للدنيا المغترّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها، أتغترّ بالدنيا ثمّ تذمّها؟
أنت المتجرّم عليها، أم هي المتجرّمة عليك؟
متى إستهوتك؟ أم متى غرّتك؟ أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع اُمّهاتك تحت الثرى ...؟!
إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله ..."(2).
3 ـ هذه العلوم الخمسة مختّصة بالله
إنّ اُسلوب الآية أعلاه يحكي أنّ العلم بالقيامة، ونزول المطر، ووضعيّة الجنين في رحم الاُمّ، والاُمور التي سيقوم بها الإنسان في المستقبل، ومحلّ موته منحصر بالله، ولا سبيل للآخرين إلى العلم بذلك، إضافةً إلى هذا فإنّ الرّوايات الواردة في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ من لا يحضره الفقيه، وفقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 217.
2 ـ نهج البلاغة، الحكم القصار، جملة 131.
[81]
تفسير هذه الآية تؤكّد هذه الحقيقة، ومن جملتها ما ورد في حديث: "إنّ مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهنّ إلاّ الله، وقرأ هذه الآية"(1).
وجاء في رواية اُخرى وردت في نهج البلاغة: أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يوماً يخبر بحوادث المستقبل، فقال له أحد أصحابه: ياأمير المؤمنين، أتتحدّث عن الغيب وتعلم به؟
فتبسّم الإمام، وقال له: "ياأخا كلب (لأنّ الرجل كان من بني كلب)، ليس هو بعلم غيب، وإنّما هو تعلّم من ذي علم، وإنّما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله: (إنّ الله عنده علم الساعة ...) فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام، من ذكر أو اُنثى، وقبيح أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، وفي الجنان للنبيين مرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلّمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطمّ عليه جوانحي"(2).
ويظهر من هذه الروايات جليّاً أنّ المراد من عدم علم الناس بهذه الاُمور، جهلهم بكلّ خصوصياتها وجزئياتها، فمثلا: إذا وضعت تحت تصرّف الإنسان يوماً ما وسائل معيّنة ـ ولم يحلّ ذلك اليوم إلى الآن ـ بحيث يطّلع تماماً على كون الجنين ذكراً أو اُنثى، فإنّ هذا الأمر برغم كونه تطوّراً علميّاً هامّاً لا يُعدّ شيئاً، لأنّ الإطّلاع على الجنين والعلم به يعني أن نعلم كلّ خصائصه الجسمية، القبح والجمال، الصحّة والمرض، الإستعدادات الداخلية، الذوق العلمي والفلسفي والأدبي، وسائر الصفات والكيفيات الروحية، وهذا الأمر لا يتمّ لغير الله سبحانه.
وكذلك ما يتعلّق بالمطر، فمتى ينزل؟ وأيّة منطقة يصيب ويهطل عليها؟ وأيّ مقدار ـ على وجه الدقّة ـ سينزل في البحر؟ وما مقدار ما ينزل في الصحراء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ نهج البلاغة. الخطبة 128.
[82]
والمنحدرات والجبال؟ لا يعلم بذلك إلاّ الله تعالى.
وكذلك شأن حوادث الغد، والأيّام التالية، وخصوصياتها وجزئيّاتها.
ومن هنا يتّضح جيّداً جواب السؤال الذي يطرح هنا غالباً، حيث يقولون: إنّنا نقرأ في التواريخ والروايات المتعدّدة أنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، بل وحتّى بعض أولياء الله من غير الأئمّة، قد أخبروا بموتهم، أو بيّنوا وحدّدوا مكان دفنهم، ومن جملتها الحوادث المتعلّقة بكربلاء، فقد قرأنا مراراً في الروايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله)، أو أمير المؤمنين (عليه السلام) والأنبياء السابقين قد أخبروا بشهادة الإمام الحسين (عليه السلام)وأصحابه بأرض كربلاء.
وفي كتاب اُصول الكافي يلاحظ باب في علم الأئمّة بزمان وفاتهم(1).
والجواب هو: إنّ العلم بجزء من هذه الاُمور، علماً إجمالياً ـ وهذا العلم أيضاً عن طريق التعليم الإلهي ـ لا ينافي مطلقاً إختصاص العلم التفصيلي بها بذات الله المقدّسة.
ثمّ إنّ هذا الإجمال أيضاً ـ وكما قلنا ـ ليس ذاتياً ومستقلا، بل هو عرضي وحصل بالتعليم الإلهي، بالمقدار الذي يريده الله ويرى فيه الصلاح، ولذلك نرى في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ أحد أصحابه سأله: هل يعلم الإمام الغيب؟ قال: "لا، ولكن إذا أراد الله أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك"(2).
وقد وردت في باب علم الغيب، وكيفيّة علم الأنبياء والأئمّة به روايات كثيرة سنبحثها في نهاية الآيات المناسبة، إلاّ أنّ من المسلّم أنّ هناك علوماً لم يطّلع عليها ولا يعلم بها أحد إلاّ الله عزّوجلّ(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، ص 202 باب أنّ الأئمّة يعلمون متى يموتون.
2 ـ اُصول الكافي، المجلّد الثّاني، ص 201 باب نادر فيه ذكر الغيب.
3 ـ لدينا في كتاب الكافي روايات عديدة في أنّ لله علماً لا يعلمه إلاّ هو، وعلماً علّمه الملائكة والأنبياء والأئمّة. المجلّد الأوّل، صفحة 199 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة.
[83]
اللهمّ نوّر قلوبنا بنور العلم، وهب لنا من علمك اللامتناهي.
اللهمّ إعصمنا زخارف هذه الدنيا، ولا يغرّنا الشيطان وهوى أنفسنا.
إلهنا إجعلنا منتبهين دائماً إلى إحاطة علمك، وجنّبنا أن نعمل بين يديك ما يخالف رضاك ويجلب سخطك.
* * *
نهاية سورة لقمان
[84]
[85]
سورة السَّجدَة
مكّيّة وعددُ آياتِها ثلاثونَ آية
[87]
"سورة السجدة"
أسماء هذه السورة:
المعروف أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، إلاّ أنّ البعض الآخر يرى أنّ الآيات 18 ـ 20 مدنيّة، في حين لا تلاحظ أيّة قرينة أو علامة في هذه الآيات على كونها مدنية.
اسم هذه السورة في بعض الرّوايات، وكذلك المشهور على لسان المفسّرين: (سورة السجدة)، أو (الم السجدة)، ويسمّونها أحياناً (سجدة لقمان) لتمييزها عن سورة (حم السجدة)، لأنّها جاءت بعد سورة لقمان.
وذكرت في بعض الرّوايات باسم (الم تنزيل).
وذكر "الفخر الرازي" و "الآلوسي" أنّ من جملة أسمائها (سورة المضاجع)، وهو إشارة إلى الآية (16) من هذه السورة: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع ...).
* * *
[88]
فضل تلاوة سورة السجدة:
ورد في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "من قرأ الم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك، فكأنّما أحيى ليلة القدر"(1).
وروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) في حديث آخر: "من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة أعطاه الله كتابه بيمينه، ولم يحاسبه بما كان منه، وكان من رفقاء محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته"(2).
ولمّا كانت قد وردت في هذه السورة بحوث واسعة عن المبدأ والمعاد، وعقاب المجرمين في يوم القيامة، ودروس محذّرة ترتبط بالمؤمنين والكافرين، فلا شكّ أنّ تلاوتها ـ التلاوة التي تكون مصدراً ومنبعاً للتفكير، وبالتالي مبدءاً للتصميم والحركة ـ قادرة على أن تصنع من الإنسان مثالا متكاملا تشمله كلّ هذه الفضيلة والفخر، وأن يكون أثرها كإحياء ليلة القدر، ونتيجتها أن يكون في مصافّ أصحاب اليمين، ونيل إفتخار محبّة النّبي وآله صلوات الله عليهم.
* * *
محتوى سورة السجدة:
هذه السورة بحكم كونها من السور المكّية تتابع بقوّة الخطوط الأصلية للسور
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، الجزء 8، صفحة 324.
2 ـ مجمع البيان، الجزء 8، صفحة 325.
[89]
المكّية، أي البحث في المبدأ والمعاد، والبشارة والإنذار، وعلى العموم تنقسم مباحثها إلى عدّة أقسام:
1 ـ الكلام عن عظمة القرآن، ونزوله من قبل ربّ العالمين، ونفي إتّهامات الأعداء عنه.
2 ـ ثمّ البحث حول آيات الله سبحانه في السماء والأرض، وتدبير هذا العالم.
3 ـ بحث آخر حول خلق الإنسان من "التراب" و "النطفة" و "الروح الإلهيّة"، ومنحه وسائل تحصيل العلم، أي العين والاُذن والعقل من قبل الله تعالى.
4 ـ ثمّ تتحدّث بعد ذلك عن القيامة والحوادث التي تسبقها، أي الموت، وما بعدها، أي السؤال والحساب.
5 ـ 6 ـ بحوث مؤثّرة تهزّ الوجدان عن البشارة والإنذار، تبشّر المؤمنين بجنّة المأوى، وتهدّد الفاسقين بعذاب جهنّم الشديد.
7 ـ وفي السورة إشارة قصيرة إلى تأريخ بني إسرائيل، وقصّة موسى (عليه السلام)وإنتصارات هذه الاُمّة.
8 ـ وكذلك تشير ـ مناسبة لبحث البشارة والإنذار ـ إلى أحوال قوم آخرين من الاُمم السابقة، ومصيرهم المؤلم.
9 ـ 10 ـ ثمّ تعود مرّة اُخرى إلى مسألة التوحيد وآيات عظمة الله، وتنهي السورة بتهديد الأعداء المعاندين.
وبهذا فإنّ الهدف الأصلي للسورة تقوية اُسس الإيمان بالمبدأ والمعاد، وإيجاد دفعة قويّة في المحتوى الداخلي للإنسان نحو التقوى، والإبتعاد عن العصيان
[90]
والتمرّد والطغيان، والتوجّه إلى مقام الإنسان الرفيع، وهذا المعنى كان يحظى بالأهميّة القصوى خاصّة في بداية حركة الإسلام، وفي محيط مكّة.
* * *
[91]
الآيات
الم(1) تَنزِيلُ الْكِتَـبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ(2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا آتَـهُم مِّن نَّذِير مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(3) اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ شَفِيع أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ(4) يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ(5)
التّفسير
عظمة القرآن، والمبدأ والمعاد:
مرّة اُخرى نواجه الحروف المقطّعة (الف ـ لام ـ ميم) في هذه السورة، وهذه هي المرّة الخامسة عشرة التي نرى فيها مثل هذه الحروف في بداية السور القرآنية.
[92]
ولقد بحثنا بصورة مفصّلة في بداية سورة البقرة، وآل عمران والأعراف التفاسير المختلفة لهذه الحروف. والبحث الذي جاء بعد هذه الحروف مباشرة حول أهميّة القرآن يبيّن مرّة اُخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ (الم) إشارة إلى عظمة القرآن، والقدرة على إظهار عظمة الله سبحانه، وهذا الكتاب العظيم الغنيّ المحتوى، والذي هو معجزة محمّد (صلى الله عليه وآله) الخالدة يتكوّن من حروف المعجم البسيطة التي يعرفها الجميع.
تقول الآية: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين)(1). هذه الآية ـ في الواقع ـ جواب عن سؤالين: الأوّل عن محتوى هذا الكتاب السماوي، فتقول في الجواب: إنّ محتواه حقّ ولا مجال لأدنى شكّ فيه. والسؤال الثّاني يدور حول مبدع هذا الكتاب، وفي الجواب تقول: إنّ هذا الكتاب من قبل ربّ العالمين.
ويحتمل في التّفسير أيضاً أنّ جملة (من ربّ العالمين) جاءت دليلا وبرهاناً لجملة (لا ريب فيه)، فكأنّ سائلا يسأل: ما هو الدليل على أنّ هذا الكتاب حقّ، ولا مجال للشكّ فيه؟ فتقول: الدليل هو أنّه من ربّ العالمين الذي يصدر منه كلّ حقّ وحقيقة.
ثمّ إنّ التأكيد على صفة (ربّ العالمين) من بين صفات الله سبحانه قد يكون إشارة إلى أنّ هذا الكتاب مجموعة من عجائب عالم الخلقة، وعصارة حقائق عالم الوجود، لأنّه من ربّ العالمين.
وينبغي الإلتفات أيضاً إلى أنّ القرآن لا يريد هنا الإكتفاء بالإدّعاء الصرف، بل يريد أن يقول: إنّ الشيء الظاهر للعيان لا يحتاج إلى البيان، فإنّ محتوى هذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تنزيل الكتاب" خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذا) وجملة (لا ريب فيه) صفته، و (من ربّ العالمين) صفة اُخرى. وإحتمل البعض أن تكون الجمل الثلاث أخباراً متعاقبة. إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب. وعلى كلّ حال فإنّ (تنزيل) مصدر جاء بمعنى اسم المعفول، وإضافته إلى الكتاب من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف. ويحتمل أيضاً أن يكون المصدر بمعناه الأصلي ويؤدّي معنى المبالغة.
[93]
الكتاب شاهد بنفسه على صحّته وأحقّيته.
ثمّ يشير إلى التهمة التي طالما وجهها المشركون والمنافقون إلى هذا الكتاب السماوي العظيم حيث قالوا: إنّ هذا الكتاب من تأليف محمّد. وقد ادّعى كذباً بأنّه من الله: (أم يقولون افتراه)(1) فيقول جواباً على ادّعاء هؤلاء الزائف: (بل هو الحقّ من ربّك) وأدلّة أحقّيته واضحة وبيّنة فيه من خلال آياته.
ثمّ يتطرّق إلى الهدف من نزوله، فيقول: (لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك).
فبالرغم من أنّ دعوة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مبشّرة ومنذرة، وأنّه بشير قبل أن يكون نذيراً، إلاّ أنّه يجب التأكيد على الإنذار أكثر مع القوم الضالّين المعاندين.
وجملة (لعلّهم يهتدون) إشارة إلى أنّ القرآن يهيّء أرضية الهداية، إلاّ أنّ التصميم وإتّخاذ القرار النهائي موكول ومرتبط بنفس الإنسان.
وهنا يطرح سؤالان:
1 ـ من هم هؤلاء القوم الذين لم يأتهم أي نذير قبل النّبي (صلى الله عليه وآله)؟
2 ـ ألم يقل القرآن الكريم: (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير).(2)
قال جمع من المفسّرين في جواب السؤال الأوّل: المراد قبيلة قريش التي لم يكن لها نذير قبل نبيّ الإسلام.
وقال البعض الآخر: المراد مرحلة الفترة والفاصلة الزمنية بين نبوّة عيسى (عليه السلام)وظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله).
إلاّ أنّ أيّاً من هذين الجوابين لا يبدو صحيحاً، لأنّ الأرض لا تبقى خالية من حجّة الله مطلقاً، وفي كلّ عصر وزمان لابدّ من وجود نبي أو وصي نبيّ لإتمام
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "أم" هنا بمعنى "بل"، وإحتمل البعض أنّ في الجملة تقديراً، وكانت في الأصل: أيعترفون به أم يقولون إفتراه ـ تفسير "الفخر الرازي وأبي الفتوح ـ" إلاّ أنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً.
2 ـ فاطر، 24.
[94]
الحجّة.
بناءً على هذا، يبدو أنّ المراد من "النذير" هنا النّبي الكبير الذي يوضّح ويبيّن دعوته مقرونة بالمعجزات وفي محيط واسع، ومعلوم أنّ مثل هذا النذير لم يقم في الجزيرة العربية وبين قبائل مكّة.
وفي الإجابة عن السؤال الثّاني ينبغي أن يقال: إنّ معنى جملة: (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير) هو أنّ كلّ اُمّة كان لها نذير، إلاّ أنّه لا يلزم حضوره بنفسه في كلّ مكان، بل يكفي أن يصل صوت دعوة أنبياء الله العظام بواسطة أوصيائهم إلى أسماع كلّ البشر في العالم.
وهذا يشبه قولنا: إنّ كلّ اُمّة كان لها نبي من اُولي العزم، ولها كتاب سماوي، فمعنى هذا الكلام أنّ صوت هذا النّبي وكتابه السماوي قد وصل عن طريق وكلائه وأوصيائه لكلّ تلك الاُمّة على طول التاريخ.
بعد بيان عظمة القرآن ورسالة النّبي (صلى الله عليه وآله) تطرّقت الآية التالية إلى أساس آخر من أهم اُسس ودعائم العقائد الإسلامية، فتقول: (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام)(1).
وقلنا مراراً: إنّ المراد من (ستّة أيّام) في هذه الآيات: ستّ مراحل، لأنّ أحد معاني اليوم في المحادثات اليومية: المرحلة، كما نقول: كان النظام المستبدّ يحكمنا بالأمس، واليوم يحكمنا نظام الشورى، في حين أنّ الحكومات المستبدّة كانت تحكم آلاف السنين، إلاّ أنّهم يعبّرون عن تلك المرحلة باليوم.
ومن جهة اُخرى، فقد مرّت فترات ومراحل مختلفة على السماء والأرض:
ـ فيوماً كانت كلّ كواكب المنظومة الشمسية كتلة واحدة مذابة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لفظ الجلالة في هذه الجملة مبتدأ، و (الذي) خبره. وإحتملت في تركيب هذه الجملة إحتمالات اُخرى، من جملتها، أنّ لفظ الجلالة خبر لمبتدأ محذوف، أو أنّ لفظ الجلالة مبتدأ وخبره (ما لكم من دونه من ولي) إلاّ أنّ هذين الإحتمالين لا يبدوان مناسبين بتلك الدرجة.
[95]
ـ وفي يوم آخر إنفصلت السيارات عن الشمس وبدأت تدور حولها.
ـ وفي يوم كانت الأرض كتلة نار ملتهبة.
ـ وفي يوم آخر أصحبت باردة وجاهزة لحياة النباتات والحيوانات، ثمّ وجدت الكائنات الحيّة عبر مراحل مختلفة.
وقد أوردنا شرحاً مفصّلا لهذا المعنى والمراحل الستّ بصورة مفصّلة في ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.
ومن البديهي أنّ قدرة الله اللامتناهية كافية لإيجاد كلّ هذا العالم في لحظة، بل وفي أقلّ منها، إلاّ أنّ هذا النظام التدريجي يبيّن عظمة الله وعلمه وتدبيره في جميع المراحل بصورة أفضل.
فمثلا: إذا طوى الجنين في لحظة واحدة كلّ مراحل تكامله وولد، فإنّ عجائبه ستبقى بعيدة عن نظر الإنسان، أمّا عندما نراه يطوي في كلّ يوم واسبوع ـ طوال هذه التسعة أشهر ـ أشكالا عجيبة جديدة، فسنتعرّف أكثر على عظمة الله سبحانه.
وبعد مسألة الخلق تتطرّق الآية إلى مسألة حاكمية الله سبحانه على عالم الوجود، فتقول: إنّ الله تعالى بعد ذلك استوى على عرش قدرته وسيطر على جميع الكائنات: (ثمّ استوى على العرش).
كلمة (العرش) كما قلنا سابقاً، تعني في الأصل الكراسي الطويلة القوائم، وتأتي عادة كناية عن القدرة، كما نقول في تعبيراتنا اليومية: تكسّرت قوائم عرش فلان، أي إنّ قدرته وحكومته قد زالت.
بناءً على هذا، فإنّ إستواء الله على العرش لا يراد منه المعنى الجسمي بأن يكون لله عرش كالملوك يجلس عليه، بل بمعنى أنّه خالق عالم الوجود، وكذلك الحاكم على كلّ العالم(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد التوضيح حول هذا الكلام راجع ذيل الآية (54) من سورة الأعراف.
[96]
وتكمّل الآية مراحل التوحيد بالإشارة إلى توحيد "الولاية" و "الشفاعة"، فتقول: (ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع).
فمع هذا الدليل الواضح، بأنّ كونه سبحانه خالقاً دليل على كونه حاكماً، والحاكميّة دليل على توحيد الولي والشفيع والمعبود، فلماذا تنحرفون وتضلّون وتتمسّكون بالأصنام؟ (أفلا تتذكّرون)!
في الحقيقة، إنّ المراحل الثلاث للتوحيد التي إنعكست في الآية أعلاه يعتبر كلّ منها دليلا على الاُخرى، فتوحيد الخالقية دليل على توحيد الحاكمية، وتوحيد الحاكمية دليل على توحيد الوليّ والشفيع والمعبود.
وهنا طرح بعض المفسّرين سؤال، وهو أنّ الجملة الأخيرة تقول: ما لكم من دون الله من وليّ ولا شفيع، ومعناها أنّ وليّكم وشفيعكم الوحيد هو الله سبحانه وحده، فهل من الممكن أن يشفع أحد عنده؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال من ثلاثة جوانب:
1 ـ بملاحظة أنّ جميع الشفعاء لا يشفعون إلاّ بإذنه تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه)(1)، يمكن القول بأنّ الشفاعة بالرغم من كونها من قبل الأنبياء وأولياء الله، إلاّ أنّها تعود إلى الله سبحانه، سواء كانت الشفاعة لغفران الذنوب والعفو عن العاصين، أم للوصول إلى النعم الإلهيّة، والشاهد على هذا الكلام الآية التي وردت في بداية سورة "يونس" بمضمون هذه الآية تماماً، حيث تقول: (يدبّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه).(2)
2 ـ إنّنا عند التوسّل بالله نتوسّل بصفاته، فنستمدّ من رحمته ورحمانيّته، من كونه غفّاراً غفوراً، ومن فضله وكرمه، فكأنّنا قد جعلناه شفيعاً إلى نفسه، ونعتبر هذه الصفات واسطة بينها وبين ذاته المقدّسة، وإن كانت صفاته عين ذاته في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البقرة، 255.
2 ـ يونس، 3.
[97]
الحقيقة، وهذا هو نفس الشيء الذي جاء في دعاء كميل في عبارة علي (عليه السلام) العميقة المعنى: "واستشفع بك إلى نفسك".
3 ـ المراد من "الشفيع" هنا: الناصر والمعين، ونحن نعلم أنّ الناصر والوليّ والمعين هو الله وحده، وما قيل من أنّ الشفاعة هنا بمعنى الخلق وتكميل النفوس يعود في الحقيقة إلى نفس هذا المعنى.
وتشير الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث إلى توحيد الله سبحانه في البداية، ثمّ إلى مسألة "المعاد"، وبهذا تكمل هنا فروع وأركان التوحيد الثلاثة التي اتّضحت في الآيات السابقة ـ (توحيد الخالقية والحاكمية والعبودية) ـ بذكر توحيد الربوبية، أي تدبير عالم الوجود من قبل الله سبحانه فقط، فتقول: إنّ الله يدبّر اُمور العالم من مقام القرب منه إلى الأرض: (يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض).
وبتعبير آخر، فإنّ الله سبحانه قد جعل عالم الوجود من السماء إلى الأرض تحت أمره وتدبيره، ولا يوجد مدبّر سواه في هذا العالم(1).
ثمّ تضيف: (ثمّ يعرج إليه في يوم كان مقداره الف سنة ممّا تعدّون) والمراد من هذا اليوم يوم القيامة.
وتوضيح ذلك: أنّ المفسّرين قد تحدّثوا كثيراً في تفسير هذه الآية، واحتملوا إحتمالات عديدة مختلفة:
1 ـ فاعتبرها بعضهم إشارة إلى قوس الصعود والنّزول لتدبير العالم في هذه الدنيا.
2 ـ وذهب آخرون إلى أنّها إشارة إلى ملائكة الله الذين يطوون المسافة بين السماء والأرض في خمسمائة سنة، ويرجعون بهذه المدّة أيضاً، وهو مشغولون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ طبقاً للتعبير الأوّل فإنّ "السماء" بمعنى مقام القرب من الله، وطبقاً للتعبير الثّاني فإنّ "السماء" تعني نفس هذه السماء ـ تأمّلوا ذلك ـ .
[98]
بتدبير هذا العالم بأمر الله سبحانه.
3 ـ ويعتبرها البعض الآخر إشارة إلى مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم، ويعتقدون أنّ مراحل التدبير الإلهي في هذا العالم كلّ ألف سنة، ويأمر الله سبحانه ملائكته بتدبير أمر السماء والأرض في كلّ الف سنة، وبعد إنتهاء مرحلة الألف سنة هذه تبدأ مرحلة اُخرى.
إنّ هذه التفاسير علاوة على أنّها تطرح مطالب غامضة ومبهمة، فإنّها لا تمتلك قرينة وشاهداً من نفس الآية أو من آيات القرآن الاُخرى.
وفي إعتقادنا أنّ المراد من الآية ـ بقرينة آيات اُخرى من القرآن، وكذلك الروايات الواردة في تفسير الآية ـ شيء آخر، وهو أنّ الله سبحانه خلق هذا العالم، ونظّم ودبّر السماء والأرض بتدبير خاصّ، وألبس البشر والموجودات الحيّة الاُخرى لباس الحياة، إلاّ أنّه يطوى هذا التدبير في نهاية العالم، فتظلم الشمس، وتفقد النجوم أشعّتها، وبتعبير القرآن ستطوى السماوات حتّى ترجع إلى حالتها قبل توسّع هذا العالم (يوم نطوي السماء كطيّ السجّل للكتب كما بدأنا أوّل خلق نعيده)(1)، وبعد طيّ هذا العالم سيبدأ إبداع برنامج ومشروع عالمي جديد أوسع، أي سيبدأ عالم آخر بعد إنتهاء هذه الدنيا.
وهذا المعنى قد ورد في آيات القرآن الاُخرى، ومن جملتها الآية (156) من سورة البقرة: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).
وجاء في الآية (27) من سورة الروم: (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه).
ونقرأ في الآية (34) من سورة يونس: (قل الله يبدأ الخلق ثمّ يعيده فأنّى تؤفكون).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأنبياء، 104.
[99]
بملاحظة هذه التعبيرات، والتعبيرات الاُخرى التي تقول: (وإليه يرجع الأمر كلّه)(1)، يتّضح أنّ الآية مورد البحث تتحدّث أيضاً عن بداية ونهاية العالم وقيام يوم القيامة، والذي يعبّرون عنه أحياناً بـ "قوس النّزول" و "قوس الصعود".
بناءً على هذا فإنّ معنى الآية يصبح: إنّ الله سبحانه يدبّر أمر هذا العالم من السماء إلى الأرض ـ يبدأ من السماء وينتهي بالأرض ـ ثمّ يعود كلّ ذلك إليه في يوم القيامة.
ونطالع في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل هذه الآية: يعني الاُمور التي يدبّرها، والأمر والنهي الذي أمر به، وأعمال العباد، كلّ هذا يظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سنيّ الدنيا.
وهنا سؤال، وهو: إنّنا نرى في الآية (4) من سورة المعارج في شأن طول يوم القيامة: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة) فكيف يمكن الجمع بين الآية مورد البحث، والتي عيّنت مقداره بألف سنة فقط، وآية سورة المعارج؟!
وقد ورد الجواب عن هذا السؤال في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) روي في (أمالي الشيخ الطوسي) أنّه قال: "إنّ في القيامة خمسين موقفاً، كلّ موقف مثل الف سنة ممّا تعدّون، ثمّ تلا هذه الآية: في يوم كان مقداره خمسين الف سنة"(2).
ومن الطبيعي أنّ هذه التعبيرات لا تنافي عدم كون المراد من عدد الألف والخمسين ألفاً، العدد والحساب هنا، بل كلّ منهما لبيان الكثرة والزيادة، أي إنّ في القيامة خمسين موقفاً يجب أن يتوقّف الإنسان في كلّ موقف مدّة طويلة جدّاً.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة هود، 123.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج4، ص221، وتفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.
[100]
بحث
إساءة الإستفادة من آية (يدبّر الأمر)
لقد اتّخذ بعض أتباع المذاهب المصطنعة المبتدعة(1) الآية أعلاه وسيلة ودليلا لتوجيه مسلكهم ومذهبهم، وأرادوا أن يطبّقوا هذه الآية على مرادهم بإرتكاب المغالطات والإشتباهات وادّعوا أنّ المراد من "الأمر" في الآية: الدين والمذهب، و "التدبير": يعني إرسال الدين، و "العروج": يعني رفع ونسخ الدين! وإستناداً إلى هذا فإنّ كلّ مذهب أو دين لا يمكنه أن يعمّر أكثر من الف سنة، ويجب أن يترك مكانه لدين آخر، وبهذا فإنّهم يقولون: إنّنا نقبل القرآن، لكن، وإستناداً إلى نفس هذا القرآن فإنّ ديناً آخر سيأتي بعد مرور الف سنة!
والآن نريد أن نبحث ونحلّل الآية المذكورة بحثاً محايداً، لنرى هل يوجد فيها إرتباط بما يدّعيه هؤلاء، أم لا؟ ونغضّ النظر عن أنّ هذا المعنى بعيد عن مفهوم الآية إلى الحدّ الذي لا يخطر على ذهن أيّ قاريء خالي الذهن.
إنّنا نرى ـ بعد الدقّة ـ أنّ ما يقولونه لا ينسجم مع مفهوم الآية، بل إنّه مشكل بصورة واضحة من جهات كثيرة:
1 ـ إنّ تفسير كلمة "الأمر" بالدين لا دليل عليه، بل تنفي آيات القرآن الاُخرى ذلك، لأنّ كلمة الأمر قد إستعملت في آيات اُخرى بمعنى أمر الخلق، مثل (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).(2)
وقد إستعملت كلمة الأمر في هذه الآية، وآيات اُخرى مثل: الآية 50/سورة القمر، الآية (27) من سورة المؤمنون، الآية (54) من سورة الأعراف، (32) من سورة إبراهيم، (12) من سورة النحل، (25) من سورة الروم، (12) من سورة الجاثية، بمعنى الأمر التكويني، لا بمعنى تشريع الدين والمذهب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "البهائية والبابية".
2 ـ سورة يس، 82.
[101]
وأساساً فإنّ كلّ مورد يأتي الكلام فيه عن السماء والأرض، والخلق والخلقة وأمثال ذلك، فإنّ "الأمر" يأتي بهذا المعنى (فتأمّل).
2 ـ كلمة "التدبير" تستعمل أيضاً في مورد الخلقة والخلق وتنظيم وضع عالم الوجود، لا بمعنى إنزال الدين والشريعة، ولذلك نرى في آيات القرآن الاُخرى ـ والآيات يفسّر بعضها بعضاً ـ أنّ هذه الكلمة لم تستعمل مطلقاً في مورد الدين والمذهب، بل إستعملت كلمة "التشريع" أو "التنزيل" أو "الإنزال":
ـ (شرّع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً).(1)
ـ (ومن لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الكافرون).(2)
ـ (نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً لما بين يديه).(3)
3 ـ إنّ الآيات التي قبل وبعد هذه الآية مرتبطة بالخلقة وخلق العالم، ولا ترتبط بتشريع الأديان، لأنّ الكلام في الآية السابقة كان عن خلق السماء والأرض في ستّة أيّام ـ وبعبارة اُخرى ستّ مراحل ـ والكلام في الآية التالية عن خلق الإنسان.
ولا يخفى أنّ تناسب وإنسجام الآيات يوجب أن تكون هذه الآية المتوسّطة لآيات الخلقة مرتبطة بمسألة الخلقة وتدبير أمر الخلق، ولهذا فإنّنا إذا طالعنا كتب التّفسير التي كتبت قبل مئات السنين فإنّنا لا نجد أحداً قد إحتمل أن تكون الآية متعلّقة بتشريع الأديان، بالرغم من أنّهم احتملوا إحتمالات مختلفة، فمثلا: مؤلّف تفسير "مجمع البيان" ـ وهو من أشهر التفاسير الإسلامية، ومؤلّفه عاش في القرن السادس الهجري ـ لم ينقل عن أحد علماء الإسلام قولا يدّعي فيه أنّ الآية ترتبط بتشريع الأديان، مع أنّه ذكر أقوالا مختلفة في تفسير الآية أعلاه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الشورى، 13.
2 ـ المائدة، 44.
3 ـ آل عمران، 3.
[102]
4 ـ إنّ كلمة "العروج"، تعني الصعود والإرتفاع، لا نسخ الأديان وزوالها، ولا يلاحظ العروج في أي موضع من القرآن بمعنى النسخ ـ وهذه الكلمة قد ذكرت في خمس آيات من القرآن، ولا تؤدّي هذا المعنى في أيّ منها ـ بل تستعمل كلمة النسخ أو التبديل وأمثالهما في مورد الأديان.
إنّ الأديان والكتب السماوية في الأساس ليست كأرواح البشر تعرج إلى السماء مع الملائكة بعد إنتهاء العمر، بل إنّ الأديان المنسوخة، موجودة في الأرض، إلاّ أنّها تسقط عن الإعتبار في بعض مسائلها، في حين أنّ اُصولها تبقى على قوّتها.
والخلاصة: فإنّ كلمة العروج علاوة على أنّها لم تستعمل في أيّ موضع من القرآن بمعنى نسخ الأديان، فهي لا تتناسب مع مفهوم نسخ الأديان، لأنّ الأديان المنسوخة لا تعرج إلى السماء.
5 ـ إضافةً إلى كلّ ما مرّ فإنّ هذا المعنى لا ينطبق على الواقع الحقيقي العيني، لأنّ الفاصلة بين الأديان السابقة لم تكن ألف سنة في أيّ مورد!
فمثلا: الفاصلة بين ظهور موسى والمسيح (عليهم السلام) أكثر من (1500) سنة، والفاصلة بين المسيح (عليه السلام) وظهور نبي الإسلام العظيم (صلى الله عليه وآله) أقلّ من (600) سنة، وكما تلاحظون فإنّ أيّاً من هذين الموردين لا ينطبق على الألف سنة التي يقول بها هؤلاء، بل إنّ الفاصلة بين الواقع وما يدّعون كبيرة.
وذكروا أنّ الفترة الزمنية بين ظهور نوح (عليه السلام) الذي كان من أنبياء اُولي العزم، وواضع دعائم الدين والشريعة الخاصّة، وبين محطّم الأصنام الصنديد إبراهيم (عليه السلام)الذي كان نبيّاً آخر من ذوي الشرائع أكثر من (1600) سنة، والفترة بين إبراهيم وموسى (عليهما السلام) أقلّ من (500) سنة.
من هذا الموضوع نخلص إلى هذه النتيجة، وهي أنّه لم تكن هناك فترة ولا فاصلة، ولو من باب المثال، بين أحد الأديان والمذاهب وبين الدين الذي يليه
[103]
بمقدار ألف سنة.
6 ـ وإذا غضضنا النظر عن كلّ ما مرّ، فإنّ بدعة "السيّد علي محمّد باب" والتي تحمل أتباعه لأجل الدفاع عنها كلّ هذه التوجيهات الباطلة لا تتناسب مع هذا الحساب، لأنّه بإعترافهم ولد سنة 1325هجري، وكان بدء دعوته سنة 1260 هجري قمري، وبملاحظة أنّ بداية دعوة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) التي كانت بثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة، فإنّ الفاصلة بين الإثنين تكون (1273) أي بإضافة (273) فماذا نصنع بهذا الفارق الكبير؟ وبأيّة خطّة سنتجاهله؟
7 ـ ولو تركنا جانباً كلّ هذه الإيرادات الستّة، وصرفنا النظر عن هذه الردود الواضحة، وجعلنا أنفسنا مكان القرآن، وأردنا أن نقول للبشرية: كونوا بإنتظار نبيّ جديد بعد مرور ألف سنة، فهل هذا يصحّ طرح هذا المفهوم بالشكل الذي ذكرته الآية، حتّى لا ينتبه ويطّلع أحد من العلماء وغير العلماء أدنى إطّلاع على معنى الآية على مدى الإثني أو الثلاثة عشر قرناً، ثمّ يأتي جماعة بعد مرور (1273) عام ليدّعوا أنّهم اكتشفوا إكتشافاً جديداً، وأزاحوا الغطاء عنه، وهو مع ذلك لا يتجاوز إطار قبولهم أنفسهم لا قبول الآخرين؟!
ألم يكن الأحسن والأكثر حكمة وعقلا أن يقال مكان هذه الجملة: اُبشّركم بأنّ نبيّاً بهذا الإسم سيظهر بعد ألف سنة، كما قال عيسى (عليه السلام) في شأن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله): (ومبشّراً برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد).(1)
وعلى كلّ حال، فهذه المسألة قد لا تستحقّ بحثاً بهذا المقدار إلاّ أنّه لتنبيه وإيقاظ جيل الشباب المسلم، وإطلاعهم على المكائد التي هيّأها الإستعمار العالمي، والمسالك والمذاهب التي إبتدعها لتضعيف جبهة الإسلام، لم يكن لنا سبيل إلاّ أن يعلموا ويطّلعوا على جانب من منطق هؤلاء، وعليهم الباقى.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الصف، 6.
[104]
الآيات
ذَلِكَ عَـلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـدَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(6) الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَـنِ مِن طِين(7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَـلَة مِّن مَّاء مَّهِين(8) ثُمَّ سَوَّيـهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَـرَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ(9)
التّفسير
مراحل خلق الإنسان العجيبة!
إنّ الآيات ـ مورد البحث ـ إشارة وتأكيد في البداية على بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة، والتي كانت تتلخّص في أربع مراحل: توحيد الخالقية، والحاكمية، والولاية، والربوبية، فتقول: (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم).
من البديهي أنّ من يريد أن يدبّر اُمور السماء والأرض، وأن يكون حاكماً عليها، ويتعهّد ويقوم بمهام مقام الولاية والشفاعة والإبداع، يجب أن يكون مطّلعاً على كلّ شيء، الظاهر والباطن، حيث لا يمكن أن يتمّ أيّ من هذه الاُمور بدون الإطّلاع وسعة العلم.
[105]
وفي نفس الوقت الذي يجب أن يكون هذا المدبّر عزيزاً قويّاً لا يقهر ليقوى على القيام بهذه الأعمال المهمّة، ينبغي أن تقترن هذه العزّة باللطف والرحمة، لا الخشونة والغلظة.
ثمّ تشير الآية التالية إلى نظام الخلقة الأحسن والأكمل بصورة عامّة، ومقدّمة لبيان خلق الإنسان ومراحل تكامله بشكل خاصّ: (الذي أحسن كلّ شيء خلقه)وأعطى كلّ شيء ما يحتاجه، وبتعبير آخر: فإنّ تشييد صرح الخلقة العظيم قد قام على أساس النظام الأحسن، أي قام على نظام دقيق سالم لا يمكن تخيّل نظام أكمل منه.
لقد أوجد سبحانه بين كلّ الموجودات علاقة وإنسجاماً، وأعطى كلاّ منها ما يطلبه على لسان الحال.
إذا نظرنا إلى وجود الإنسان، وأخذنا بنظر الإعتبار كلّ جهاز من أجهزته، فسنرى أنّها خلقت من ناحية البناء والهيكل، والحجم، ووضع الخلايا، وطريقة عملها، بشكل تستطيع معه أن تؤدّي وظيفتها على النحو الأحسن، وفي الوقت ذاته فقد وضعت بين الأعضاء روابط قويّة بحيث يؤثّر ويتأثّر بعضها بالبعض الآخر بدون إستثناء.
وهذا المعنى هو الحاكم تماماً في العالم الكبير مع المخلوقات المتنوّعة، وخاصّة في عالم الكائنات الحيّة، مع تلك التشكيلات والهيئات المختلفة جدّاً.
والخلاصة: فإنّه هو الذي أودع أنواع العطور البهيجة في الأزهار المختلفة، وهو الذي يهبّ الروح للتراب والطين ويخلق منه إنساناً حرّاً ذكيّاً عاقلا، ومن هذا التراب المخلوط يخلق أحياناً الأزهار، وأحياناً الإنسان، وأحياناً اُخرى أنواع الموجودات الاُخرى، وحتّى التراب نفسه خلق فيه ما ينبغي أن يكون فيه.
ونرى نظير هذا الكلام في الآية (50) من سورة "طه" من قول موسى وهارون(عليهما السلام): (ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى).
[106]
وهنا يطرح سؤال حول خلق الشرور والآفات، وكيفية إنسجامها مع النظام العالم الأحسن، وسنبحثه إن شاء الله تعالى فيما بعد.
بعد هذه المقدّمة الآفاقية يدخل القرآن بحث الأنفس، وكما تحدّث في بحث الآيات الآفاقية عن عدّة أقسام للتوحيد، فإنّه يتحدّث هنا عن عدّة مواهب عظيمة في مورد البشر:
يقول أوّلا: (وبدأ خلق الإنسان من طين) ليبيّن عظمة وقدرة الله سبحانه حيث خلق مثل هذا المخلوق الجليل العظيم من مثل هذا الموجود البسيط الحقير، هذا من جانب، ومن جانب آخر يحذّر الإنسان ويذكّره من أين أتيت، وإلى أين ستذهب؟!
ومن المعلوم أنّ هذه الآية تتحدّث عن خلق آدم، لا كلّ البشر، لأنّ إستمرار نسله قد ذكر في الآية التالية، وظاهر هذه الآية دليل واضح على خلق الإنسان بشكل مستقل، ونفي فرضيّة تحوّل الأنواع (وعلى الأقل في مورد نوع الإنسان).
وبالرغم من أنّ البعض أراد أن يفسّر هذه الآية بحيث تناسب وتلائم فرضية تكامل الأنواع، بأنّ خلق الإنسان يرجع إلى أنواع سافلة، وهي تنتهي أخيراً إلى الماء والطين، إلاّ أنّ ظاهر الآية ينفي وجود أنواع اُخرى من الموجودات الحيّة ـ وهم يدّعون أنّها أنواع لا تحصى ـ تفصل بين آدم والطين، بل إنّ خلق الإنسان قد تمّ من الطين مباشرة وبدون واسطة. ولم يتحدّث القرآن عن أنواع الكائنات الحيّة الاُخرى.
وهذا المعنى يتّضح أكثر عند ملاحظة الآية (59) من سورة آل عمران، حيث تقول: (إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب).
ويقول في الآية (26) من سورة الحجر: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون).
ويستفاد من مجموع الآيات أنّ خلق آدم قد تكوّن من التراب والطين كخلق
[107]
مستقل، ومن المعلوم أنّ فرضية تطور الأنواع لم تكن مسألة علمية قطعية لنحاول تفسير الآيات أعلاه بشكل آخر بسبب تضادّها وتعارضها مع هذه الفرضية، وبتعبير آخر: طالما لا توجد قرينة واضحة على خلاف ظواهر الآيات فيجب أن نطبّقها بمعناها الظاهر، وكذلك الحال في مورد خلق آدم المستقلّ.
ثمّ تشير الآية بعدها، إلى خلق نسل الإنسان، وكيفية تولّد أولاد آدم في مراحل، فتقول: (ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين).
"جعل" هنا بمعنى الخلق، و "النسل": بمعنى الأولاد والأحفاد في جميع المراحل.
"السلالة" في الأصل، بمعنى العصارة الخالصة لكلّ شيء، والمراد منها هنا نطفة الإنسان التي تعتبر عصارة كلّ وجوده، ومبدأ حياة وتولّد الذريّة وإستمرار النسل.
إنّ هذا السائل الذي يبدو تافهاً لا قيمة له ولا مقدار فإنّه يعدّ من الناحية البنائية والخلايا الحيوية التي تسبح فيه، وكذلك تركيب السائل الخاصّ الذي تسبح فيه الخلايا رقيقاً ودقيقاً ومعقّداً إلى أبعد الحدود، ويعتبر من آيات عظمة الله سبحانه، وعلمه وقدرته. وكلمة "مهين" التي تعني الضعيف إشارة إلى وضعه الظاهري، وإلاّ فإنّه من أعمق أسرار الموجودات.
وتشير الآية التالية إلى مراحل تكامل الإنسان المعقّدة في عالم الرحم، وكذلك المراحل التي طواها آدم عند خلقه من التراب، فتقول: (ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون).
"سوّاه" من التسوية، أي الإكمال، وهذه إشارة إلى مجموع المراحل التي يطويها الإنسان من حال كونه نطفة إلى المرحلة التي تتّضح فيها جميع أعضاء
[108]
بدنه، وكذلك المراحل التي طواها آدم بعد خلقه من التراب حتّى نفخ الروح(1).
والتعبير بـ "النفخ" كناية عن حلول الروح في بدن الإنسان، فكأنّه شبّه الحال بالهواء والتنفّس، بالرغم من أنّه لا هذا ولا ذاك.
فإن قيل: إنّ نطفة الإنسان منذ إستقرارها في الرحم ـ بل وقبل ذلك ـ كانت كائناً حيّاً وعلى هذا فأيّ معنى لنفخ الروح؟
قلنا في الجواب: إنّ النطفة عندما تنعقد في البداية ليس لها إلاّ نوعاً من "الحياة النباتية"، أي التغذية والنمو فقط، أمّا الحسّ والحركة التي هي علامة "الحياة الحيوانية"، وكذلك قوّة الإدراكات التي هي علامة الحياة الإنسانية، فلا أثر عن كلّ ذلك.
إنّ تكامل النطفة في الرحم تصل إلى مرحلة تبدأ عندها بالحركة، وتحيا وتنبعث فيها القوى الإنسانية الاُخرى تدريجياً، وهذه هي المرحلة التي يعبّر عنها القرآن بنفخ الروح.
أمّا إضافة "الروح" إلى "الله" فهي "إضافة تشريفية"، أي إنّ روحاً ثمينة وشريفة بحيث أنّ من المناسب أن تسمّى "روح الله" قد دبّت في الإنسان ونفخت فيه، وهذا يبيّن حقيقة أنّ الإنسان وإن كان من ناحية البعد المادّي يتكوّن من الطين والماء، إلاّ أنّه من البعد المعنوي والروحي يحمل "روح الله".
إنّ أحد طرفي وجوده ينتهي إلى التراب، وطرفه الآخر يتّصل بعرش الله، فإنّه خليط من الملائكة والحيوان، ولوجود هذين البعدين فإنّ منحني صعوده ونزوله، وتكامله وإنحطاطه واسع جدّاً(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البعض يعتبر هذه الآية إشارة إلى مراحل التكامل الجنيني فقط، والبعض الآخر إحتمل أن تكون إشارة إلى مراحل تكامل آدم بعد خلقه من التراب، لأنّ عين هذه التعبيرات قد جاء في آيات اُخرى من القرآن. إلاّ أنّه لا مانع من أن تعود إلى الإثنين، لأنّ خلق آدم من التراب، ونسله من مني، طوى ويطوي هذه المراحل.
2 ـ بحثنا في هذا الباب في ذيل الآية (29) من سورة الحجر.
[109]
وأشار القرآن في آخر مرحلة ـ والتي تعتبر المرحلة الخامسة في خلق الإنسان ـ إلى نعمة الاُذن والعين والقلب، ومن الطبيعي أنّ المراد هنا ليس خلقة هذه الأعضاء، لأنّ هذه الخلقة تتكوّن قبل نفخ الروح، بل المراد حسّ السمع والبصر والإدراك والعقل.
والتأكيد على هذه الحواس الثلاث فقط من بين كلّ الحواس "الظاهرة" و "الباطنة"، لأنّ أهمّ حسّ ظاهري يربط الإنسان بالعالم الخارجي رابطة قويّة هو السمع والبصر، فالاُذن تدرك الأصوات، وخاصّة أنّ التربية والتعليم يتمّ بواسطتها، والعين وسيلة النظر إلى العالم الخارجي ومشاهدة مشاهد هذا العالم المختلفة، وقوّة العقل أهمّ حسّ باطني لدى الإنسان، وبتعبير آخر فإنّه حاكم على وجود البشر.
والجدير بالذكر أنّ "أفئدة" جمع "فؤاد" بمعنى "قلب" ولكن مفهومها أدقّ من القلب حين يقصد بها عادةً الحنكة والفطانة في الفرد، وبهذا يبيّن الله تعالى في هذه الآية أهمّ وسائل المعرفة والإدراك الظاهرية والباطنية في الإنسان، لأنّ العلوم والمعارف إمّا أن يحصل عليها الإنسان بواسطة "التجربة" فالوسيلة هي السمع والبصر، أو عن طريق التحليل والإستدلال العقلي، والوسيلة لذلك هو العقل والفؤاد كما ورد التعبير عنه في هذه الآية، وحتّى الإدراك الحاصل من الوحي أو الإشراق والشهود القلبي يتمّ بواسطة هذه الوسيلة أيضاً، أي "الأفئدة".
ولو فقد الإنسان هذه الوسائل للمعرفة، فسوف يخسر قيمته تماماً ويصبح مجرّد كميّة مهملة من المادّة والتراب، ولهذا نجد الآية الشريفة محل البحث تؤكّد في ختامها على مسألة الشكر لهذه النعم العظيمة على الإنسان وتقول (قليلا ما تشكرون) وذلك إشارة إلى أنّ الإنسان مهما سعى في أداء شكر هذه النعم والمواهب العظيمة، فمع ذلك لا يؤدّي حقّ الشكر.
* * *
[110]
بحث
كيفية خلق آدم من التراب:
رغم أنّ الآيات القرآنية تحدّثت أحياناً عن خلق الإنسان من "طين" (كالآيات محلّ البحث)، وكما ورد في قصّة آدم وإبليس في قوله تعالى: (فسجدوا إلاّ إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً).(1)
وأحياناً اُخرى عن الخلق من الماء مثل: (وجعلنا من الماء كلّ شيء حي)،(2) إلاّ أنّ من المعلومن أنّ هذه جميعاً تعود إلى مطلب واحد، وحتّى عند الكلام عن خلق آدم من التراب، مثل (إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب).(3) لأنّ المراد: التراب الممتزج بالماء، أي الطين.
ومن هنا تتّضح عدّة نقاط:
1 ـ أنّ الذين احتملوا أنّ المراد من خلق الإنسان من التراب، هو أنّ أفراد البشر يتغذّون على النباتات ـ سواء كانت التغذية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ وأنّ النباتات كلّها من التراب ـ قد جانبوا الصواب، لأنّ آيات القرآن يفسّر بعضها بعضاً، والآيات أعلاه إشارة إلى شخص آدم الذي خلق من التراب.
2 ـ أنّ كلّ هذه الآيات دليل على نفي فرضية التكامل ـ وعلى الأقل في مورد الإنسان، وأنّ نوع البشر الذي ينتهي بآدم له خلق مستقلّ.
وما قيل من أنّ آيات الخلق من التراب إشارة إلى نوع الإنسان الذي يعود إلى الموجودات أحادية الخليّة بآلاف الوسائط، وهي أيضاً قد جاءت ـ طبقاً للفرضيات الأخيرة ـ من الطين الموجود على جانب المحيطات، أمّا نفس آدم فقد كان فرداً انتُخب من بين نوع البشر، ولم يكن له خلق مستقلّ، بل إنّ إمتيازه كان
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الإسراء، الآية 61.
2 ـ سورة الأنبياء، الآية 30.
3 ـ آل عمران، 59.
[111]
في صفاته الخاصّة .. هذه الفرضية لا تتناسب مع ظواهر آيات القرآن بأيّ وجه من الوجوه.
ونؤكّد مجدّداً أنّ مسألة تحوّل الأنواع ليست قانوناً علميّاً مسلّماً، بل هي مجرّد فرضيّة ـ لأنّ الشيء الذي امتدّ أصله إلى ملايين السنين وخفي فيها، فمن المسلّم أنّه لا يخضع للتجربة والمشاهدة، ولا يمكن أن يكون في مصاف القوانين العلمية الثابتة ـ بل هي فرضية لتوجيه ظاهرة تنوّع الأجناس التي ظهرت إلى الوجود توجيهاً تخمينياً، ونحن نعلم أنّ الفرضيات في حالة تغيّر وتحوّل دائماً حيث تخلي الساحة أمام الفرضيات الجديدة.
بناءً على هذا، فإنّه لا يمكن الإعتماد عليها مطلقاً في المسائل الفلسفية التي تحتاج إلى اُسس مسلّمة قطعية.
وقد أوردنا إيضاحاً مفصّلا حول اُسس فرضية تكامل الأنواع، وعدم صحّتها، تحت عنوان (القرآن وخلق الإنسان) في ذيل الآية (28) من سورة الحجر.
وفي نهاية هذا البحث نرى لزاماً ذكر هذه المسألة، وهي أنّه ليس لفرضية التكامل أي إرتباط بمسألة التوحيد ومعرفة الله، ولا تعتبر دليلا على نفي عالم ما وراء الطبيعة، لأنّ الإعتقاد التوحيدي يقول: إنّ العالم قد خلق من قبل الله سبحانه، وإنّه هو الذي أعطى كلّ خواص الموجودات، ويشملها بفيضه في جميع المراحل.
إنّ هذا المعنى يمكن أن يقبله المعتقد بنظرية (ثبوت الأنواع) كما يقبله من يذهب إلى (تطور الأنواع)، غير أنّ المشكلة الوحيدة التي يواجهها المعتقد بفرضية تحوّل الأنواع هي أنّ هذه الفرضيّة لا تتناسب مع التفصيل الذي بيّنه القرآن الكريم حول خلق آدم، حيث يذكر كيفيّة خلقه من التراب والطين.
بناءاً على هذا فإنّنا ننفي فرضية التكامل لهذا السبب فقط، لا بسبب مخالفتها لمسألة التوحيد. هذا من الناحية التّفسيرية.
[112]
أمّا من الناحية العلمية ـ أي العلوم الطبيعية ـ فإنّنا ننفي فرضية التكامل ـ وكما اُشير إلى ذلك ـ من جهة عدم إمتلاكها الأدلّة القطعيّة على ثبوتها.
* * *
[113]
الآيات
وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الاَْرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْق جَدِيد بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَـفِرُونَ(10) قُلْ يَتَوَفَّـكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الُْمجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ(12) وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُدَاهَا وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لاََمْلاََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا إِنَّا نَسِينَـكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(14)
التّفسير
الندم وطلب الرجوع:
تبدأ هذه الآيات ببحث واضح جلي حول المعاد، ثمّ تبيّن وتبحث حال المجرمين في العالم الآخر، وهي في المجموع تتمّة للبحوث السابقة التي تحدّثت حول المبدأ، إذ أنّ البحث عن المبدأ والمعاد مقترنان غالباً في القرآن المجيد
[114]
فتقول: إنّ هؤلاء الكفّار يتساءلون باستغراب بأنّنا إذا متنا وتحوّلت أبداننا إلى تراب وإندثرت تماماً فهل سوف نُخلق من جديد: (وقالوا ءإذا ضللنا في الأرض أءِنّا لفي خلق جديد).
إنّ التعبير بـ (ضللنا في الأرض) إشارة إلى أنّ الإنسان يصبح تراباً بعد موته كسائر الأتربة ويتفرّق هذا التراب نتيجة العوامل الطبيعية وغير الطبيعية، ولا يبقى منه شيء حتّى يعيده الله سبحانه في القيامة مرّة اُخرى.
إلاّ أنّ هؤلاء ليسوا بمنكرين قدرة الله في الحقيقة (بل هم بلقاء ربّهم كافرون)فإنّهم ينكرون مرحلة لقاء الله والحساب والثواب والعقاب لتبرير حرية العمل وليعملوا ما يريدون!
وهذه الآية تشبه كثيراً الآيات الاُولى من سورة القيامة التي تقول: (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوّي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيّان يوم القيامة).(1)
بناء على هذا، فإنّ هؤلاء ليسوا قاصرين من ناحية الإستدلال، ولكن شهواتهم حجبت قلوبهم، ونيّاتهم السيّئة منعتهم من قبول مسألة المعاد، وإلاّ فإنّ الله الذي أعطى قطعة المغناطيس القوّة التي تجذب إلى نفسها ذرّات الحديد الصغيرة جدّاً والمتناثرة في طيّات أطنان من تراب الأرض من خلال جولة سريعة في تلك الأرض، وتجمعها بكلّ بساطة، هو الذي يجعل بين ذرّات بدن الإنسان مثل هذه الجاذبية المتقابلة.
من الذي يستطيع أن ينكر أنّ المياه الموجودة في جسم الإنسان ـ وأكثر جسم الإنسان ماء ـ وكذلك المواد الغذائية، كانت ذرّاتها متناثرة في زاوية من العالم قبل ألف عام مثلا، وكلّ قطرة في محيط، وكلّ ذرّة في إقليم، إلاّ أنّها تجمّعت عن طريق
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة القيامة، 3 ـ 6.
[115]
السحاب والمطر والعوامل الطبيعية الاُخرى، وكوّنت الوجود الإنساني في النهاية، فأي داع للعجب من أن تجتمع وترجع إلى حالها الأوّل بعد تلاشيها وتبعثرها؟!
وتجيب الآية هؤلاء عن طريق آخر، فتقول: لا تتصوّروا أنّ شخصيتكم بأبدانكم وأجسامكم، بل بأرواحكم، وهي باقية ومحفوظة: (قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وكّل بكم ثمّ إلى ربّكم ترجعون).
إذا لاحظنا أنّ معنى "يتوفّاكم" ـ من مادة "توفّي" (على وزن تصدّي)، هو الإستيفاء، فإنّ الموت سوف لا يعني الفناء، بل نوع من قبض الملائكة لروح الإنسان التي تشكّل أهمّ من وجود الإنسان.
صحيح أنّ القرآن يتحدّث عن المعاد الجسماني، ويعتبر رجوع الروح والجسم المادّي في المعاد حتميّاً، إلاّ أنّ الهدف من الآية أعلاه هو بيان أنّ هذه الأجزاء الماديّة التي شغلتم بها فكركم تماماً ليست هي أساس شخصيّة الإنسان، بل الأساس هو الجوهر الروحي الذي جاء من قبل الله تعالى وإليه يرجع.
وفي المجموع يمكن أن يقال: إنّ الآيتين أعلاه تجيبان منكري المعاد بهذا الجواب: إذا كان إشكالكم في تفرّق الأجزاء الجسمية، فإنّكم تقرّون بقدرة الله سبحانه ولا تنكرونها، وإذا كان إشكالكم في إضمحلال وفناء شخصية الإنسان على أثر تناثر تلك الذرّات، فلا يصحّ ذلك لأنّ أساس شخصيّة الإنسان يستند إلى الروح.
وهذا الإيراد لا يختلف عن شبهة (الآكل والمأكول) المعروفة، كما أنّ جوابه في الموردين يشبه جواب تلك الشبهة(1).
وثمّة مسألة ينبغي التوجّه إليها، وهي أنّ في بعض آيات القرآن نُسب التوفّي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإيضاح حول شبهة (الآكل والمأكول) وجوابها المفصّل راجع التّفسير الأمثل، ذيل الآية (260) من سورة البقرة.
[116]
إلى الله سبحانه: (الله يتوفّى الأنفس حين موتها)،(1) وفي بعضها إلى مجموعة من الملائكة: (الذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ...).(2) وفي الآيات مورد البحث نسب قبض الأرواح إلى ملك الموت، إلاّ أنّه لا منافاة بين هذه التعبيرات مطلقاً، فإنّ لملك الموت معنى الجنس، وهو يطلق على كلّ الملائكة، أو هو إشارة إلى كبير الملائكة وزعيمها، ولمّا كان الجميع يقبضون الأرواح بأمر الله سبحانه، فقد نسب الفعل إلى الله عزّوجلّ.
ثمّ تجسّد وضع هؤلاء المجرمين الكافرين ومنكري المعاد الذين يندمون في القيامة أشدّ الندم على ما كان منهم لدى مشاهدة مشاهدها ومواقفها المختلفة، فتقول: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربّهم ربّنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون)(3).
ستعجب حقّاً! أهؤلاء النادمون الناكسو الرؤوس هم اُولئك المتكبّرون العتاة العصاة الذين لم يكونوا يذعنون في الدنيا لأيّة حقيقة؟! إلاّ أنّهم الآن يتغيّرون تماماً عند رؤية مشاهد القيامة ويصلون إلى مستوى الشهود، لكنّ هذا الوعي وتغيير الموقف سريع الزوال، فإنّهم ـ وطبقاً لآيات القرآن الاُخرى ـ لو رجعوا إلى هذه الدنيا لعادوا إلى حالتهم الاُولى، الأنعام / الآية 28.
"الناكس" من مادّة (نكس) على وزن (كلب) بمعنى إنقلاب الشيء، وهنا يعني خفض الرأس إلى الأسفل وطأطأته.
تقديم "أبصرنا" على "سمعنا" لأنّ الإنسان يرى المشاهد والمواقف أوّلا، ثمّ يسمع إستجواب الله والملائكة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الزمر، 42.
2 ـ النحل، 28.
3 ـ (لو) في الآية الشريفة شرطية، شرطها جملة (وترى ..) وجزاؤها محذوف، والتقدير: "ولو ترى إذ المجرمون ... لرأيت عجباً". وفي جملة (ربّنا أبصرنا) حذف تقديره: يقولون ربّنا أبصرنا.
[117]
ويتبيّن ممّا قلناه أنّ المراد من "المجرمين" هنا الكافرون، وخاصّة منكري القيامة.
وعلى كلّ حال، فليست هذه المرّة الاُولى التي نواجه فيها هذه المسألة في آيات القرآن، وهي أنّ المجرمين يندمون أشدّ الندم عند مشاهدة نتائج الأعمال والعذاب الإلهي، ويطلبون الرجوع إلى الدنيا، في حين أنّ مثل هذا الرجوع غير ممن في السنّة الإلهية، كما أنّ رجوع الطفل إلى رحم الاُمّ، والثمرة المقطوفة إلى الشجرة غير ممكن.
والجدير بالذكر أنّ طلب المجرمين الوحيد هو الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، ومن هنا يتّضح جيّداً أنّ رأس مال النجاة الوحيد في القيامة هو الأعمال الصالحة .. تلك الأعمال التي تنبع من قلب طاهر مليء بالإيمان، وتتمّ بخالص النيّة.
ولمّا كان كلّ هذا الإصرار والتأكيد على قبول الإيمان قد يوهم عجز الله سبحانه عن أن يلقي نور الإيمان في قلوب هؤلاء، فإنّ الآية التالية تضيف: (ولو شئنا لآتينا كلّ نفس هداها).
فمن المسلّم أنّ الله تعالى يمتلك مثل هذه القدرة، إلاّ أنّ الإيمان الذي يتحقّق ويتمّ بالإجبار لا قيمة له، ولذا فالمشيئة الإلهيّة أرادت أن ينال الإنسان شرف كونه مختاراً، وأن يسير في طريق التكامل بحريته وإختياره، ولذلك تضيف في النهاية لقد قرّرت أن أخلق الإنسان مختاراً (ولكن حقّ القول منّي لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين).
أجل .. إنّ المجرمين سلكوا هذا الطريق بسوء إختيارهم، ولذلك فهم مستحقّون للعقاب، ونحن قد قطعنا على أنفسنا أن نملأ جهنّم منهم.
وبملاحظة ما قلناه، وبملاحظة مئات الآيات القرآنية التي تعتبر الإنسان موجوداً مختاراً ذا إرادة، ومكلّفاً بتكاليف، ومسؤولا عن أعماله، وقابلا للهداية
[118]
بواسطة الأنبياء وتهذيب النفس وتربيتها، فإنّ كلّ توهّم يبتني على أنّ الآية أعلاه دليل على الجبر ـ كما ظنّ ذلك الفخر الرازي وأمثاله ـ واضح البطلان.
ولعلّ الجملة الشديدة القاطعة أعلاه إشارة إلى أن لا تتصوّروا أنّ رحمة الله الواسعة تمنع من عقاب المجرمين الفسقة والظالمين، وأن لا تغترّوا بآيات الرحمة وتعدّوا أنفسكم بمأمن من العذاب الإلهي، فإنّ لرحمته موضعاً، ولغضبه موضعاً.
إنّه عزّوجلّ سَيَفِي بوعيده حتماً ـ وخاصّة بملاحظة لام القسم في جملة (لأملأنّ) ونون التوكيد في آخرها ـ وسيملأ جهنّم من أصحابها هؤلاء، وإن لم يفعل فذلك خلاف الحكمة، ولذلك تقول الآية التالية: إنّا سنقول لأصحاب النار (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنّا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون).
مرّة اُخرى يستفاد من هذه الآية أنّ نسيان محكمة القيامة العادلة هو الأساس لكلّ تعاسة وشقاء للإنسان، لأنّه سيرى نفسه في هذه الصورة حرّاً إزاء إرتكاب القبائح والظلم والعدوان.
وكذلك يستفاد من الآية بوضوح أنّ العقاب الأبدي للفرد معلول لما إرتكبه من أعمال في دار الدنيا، لا لشيء آخر.
وضمناً يتّضح أنّ المراد من "نسيان الله" هو عدم رعايته ونصرته لهم، وإلاّ فإنّ جميع العالم حاضر دوماً عند الله، ولا معنى للنسيان بالنسبة له عزّوجلّ.
* * *
مسألتان
1 ـ إستقلال الروح وأصالتها
الآية الاُولى من الآيات مورد البحث، والتي لها دلالة على قبض الأرواح بواسطة ملك الموت، من أدلّة إستقلال روح الإنسان، لأنّ التعبير بالتوفّي (والذي
[119]
يعني القبض) يوحي بأنّ الروح تبقى بعد إنفصالها عن البدن ولا تفنى.
والتعبير عن الإنسان في الآية بالروح أو النفس في الآية أعلاه شاهد آخر على هذا المعنى، لأنّ الروح ـ وفق نظرية الماديّين ـ ليست إلاّ الخواص الفيزيائية والكيميائية للخلايا المخيّة، وهي تفنى بفنائها، تماماً كما تفنى حركات عقارب الساعة بعد فنائها وتحطّمها. وطبقاً لهذه النظرية فإنّ الروح ليست هي المحافظة على شخصية الإنسان، بل هي جزء من خواصّ جسمه تتلاشى عند تلاشي جمسه.
ولدينا أدلّة فلسفية عديدة على أصالة الروح وإستقلالها، ذكرنا بعضاً منها في ذيل الآية (85) من سورة الإسراء، والمراد هنا بيان الدليل النقلي على هذا الموضوع، حيث تعتبر الآية أعلاه من الآيات الدالّة على هذا المعنى.
2 ـ ملك الموت
يستفاد من آيات القرآن المجيد أنّ الله سبحانه يدبّر اُمور هذا العالم بواسطة مجموعة من الملائكة، كما في الآية (5) من سورة النازعات حيث يقول: (فالمدبّرات أمراً)ونعلم أنّ السنّة الإلهيّة قد جرت على أن تمضي الاُمور بأسبابها.
وقسم من هؤلاء الملائكة هم الملائكة الموكّلون بقبض الأرواح، والذين أشارت إليهم الآيات (28 و33) من سورة النحل، وبعض الآيات القرآنية الاُخرى، وعلى رأسهم ملك الموت.
وقد رويت أحاديث كثيرة في هذا الباب، تبدو الإشارة إلى بعضها لازمة من جهات:
1 ـ في حديث روي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "الأمراض والأوجاع كلّها بريد الموت ورسل الموت! فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال: ياأيّها العبد، كم خبر بعد خبر؟ وكم رسول بعد رسول؟ وكم بريد بعد بريد؟ أنا الخبر
[120]
الذي ليس بعدي خبر! وأنا الرّسول أجب ربّك طائعاً أو مكرهاً.
فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه، قال: على مَن تصرخون؟ وعلى من تبكون؟ فوالله ما ظلمت له أجلا، ولا أكلت له رزقاً، بل دعاه ربّه، فليبك الباكي على نفسه، وإنّ لي فيكم عودات وعودات حتّى لا اُبقي فيكم أحداً"(1).
طالعوا هذا الحديث المروّع مرّة اُخرى، فقد اُخفيت فيه حقائق كثيرة.
2 ـ وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): "دخل رسول الله على رجل من الأنصار يعوده، فإذا ملك الموت عند رأسه، فقال رسول الله: ياملك الموت، ارفق بصاحبي فإنّه مؤمن، فقال: أبشر يامحمّد، فإنّي بكلّ مؤمن رفيق، واعلم يامحمّد، أنّي لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله، فأقوم في جانب الدار فأقول: والله، ما لي من ذنب، وإنّ لي لعودة وعودة، الحذر الحذر، وما خلق الله من أهل بيت ولا مدر ولا شعر ولا وبر، في برّ ولا بحر إلاّ وأنا أتصفّحهم في كلّ يوم وليلة خمس مرّات حتّى أنّي لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم"(2).
وقد وردت روايات اُخرى بهذا المضمون في مختلف المصادر الإسلامية، تحذّر جميعاً كلّ البشر أنّ المسافة بينهم وبين الموت ليست كبيرة! ومن الممكن جدّاً أن ينتهي كلّ شيء في لحظة قصيرة.
أيحسن بالإنسان والحال هذه أن يغترّ وينخدع بزخارف هذه الدنيا وزبرجها، ويتلوّث بأنواع المعاصي والظلامات، ويبقى غافلاً عن عاقبة أعماله؟!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، وتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 225.
2 ـ تفسير الدرّ المنثور طبقاً لنقل الميزان، الجزء 16، صفحة 255.
[121]
الآيات
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَـتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ(15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنفِقُونَ(16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُنَ(18) أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ فَلَهُمْ جَنَّـتُ الْمَأْوَى نُزُلاًَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(20)
التّفسير
جوائز عظيمة لم يطّلع عليها أحد!
إنّ طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيراً من الحقائق من خلال مقارنتها مع بعضها، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماماً، وهنا أيضاً بعد الشرح والتفصيل الذي مرّ
[122]
في الآيات السابقة حول المجرمين والكافرين، فإنّه يتطرّق إلى صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة، ويبيّن اُصولهم العقائدية، وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكر ثمان صفات(1)، فيقول أوّلا: (إنّما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خرّوا سجّداً وسبحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون).
التعبير بـ (إنّما) الذي يستعمل عادةً لإفادة معنى الحصر، يبيّن أنّ كلّ من يتحدّث عن الإيمان ويتمشدق به، ولا يمتلك الخصائص والصفات التي وردت في هذه الآيات، فإنّه لا يكون في صفّ المؤمنين الواقعيين، بل هو شخص ضعيف الإيمان.
لقد بيّنت في هذه الآية أربع صفات:
1 ـ أنّهم يسجدون بمجرّد سماعهم آيات الله، والتعبير بـ (خرّوا) بدل (سجدوا) إشارة إلى نكتة لطيفة، وهي أنّ هؤلاء المؤمنين ينجذبون إلى كلام الله لدى سماعهم آيات القرآن ويهيمون فيها بحيث يسجدون لا إرادياً(2).
نعم .. إنّ أوّل خصائص هؤلاء هو العشق الملتهب، والعلاقة الحميمة بكلام محبوبهم ومعشوقهم.
لقد ذكرت هذه الصفة والخاصية في بعض آيات القرآن الاُخرى كأحد أبرز صفات الأنبياء، كما يقول الله سبحانه في شأن جمع من الأنبياء العظام: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكيّاً).(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ الآية الاُولى هي اُولى السجدات الواجبة في القرآن الكريم، وإذا ما تلاها أحد بتمامها، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعاً لا يجب فيها الوضوء، لكن يجب الإحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.
2 ـ يقول الراغب في المفردات: (خرّوا) في الأصل من مادّة الخرير، أي صوت الماء وأمثاله حين إنحداره من مرتفع إلى منخفض، وإستعماله هذا التعبير في شأن الساجدين إشارة إلى أنّ هؤلاء ترتفع أصواتهم بالتسبيح في لحظة هويّهم إلى الأرض للسجود.
3 ـ سورة مريم، الآية 58.
[123]
وبالرغم من أنّ الآيات هنا ذكرت بصورة مطلقة، ولكن من المعلوم أنّ المراد منها غالباً الآيات التي تدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك.
2 ـ 3 ـ علامتهم الثّانية والثالثة تسبيح الله وحمده، فهم ينزّهون الله تعالى عن النقائص من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون عليه لصفات كمالهُ وجماله.
4 ـ والصفة الاُخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كلّ أنواع التكبّر، لأنّ الكبر والغرور أوّل درجات الكفر والجحود، والتواضع أمام الحقّ والحقيقة أُولى خطوات الإيمان!
إنّ الذين يسيرون في طريق الكبر والعُجب لا يسجدون لله، ولا يسبّحونه ولا يحمدونه، ولا يعترفون بحقوق عباده! إنّ لهؤلاء صنماً عظيماً، وهو أنفسهم!
ثمّ أشارت الآية الثّانية إلى أوصاف هؤلاء الاُخرى، فقالت: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(1) فيقومون في الليل، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته.
نعم .. إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغطّ في نوم عميق، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى، ويعمّ الهدوء والظلام كلّ الأرجاء، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة، والخلاصة: عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب، فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى معبودهم، ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب معشوقهم، ويخبرونه بما في قلوبهم، فهم أحياء بذكره، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.
ثمّ تضيف: (يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "تتجافى" من مادّة "جفا"، وهي في الأصل بمعنى القطع والحمل والإبعاد، و (الجنوب) جمع جنب، وهو الجانب، و (المضاجع) جمع مضجع، وهو محل النوم، وإبعاد الجانب عن محلّ النوم كناية عن النهوض من النوم والتوجّه إلى عبادة الله في جوف الليل.
[124]
وهنا تذكر الآية صفتين اُخريين لهؤلاء هما: "الخوف" و "الرجاء"، فلا يأمنون غضب الله عزّوجلّ، ولا ييأسون من رحمته، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه، والحاكم على وجودهم دائماً، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.
وثامن صفاتهم، وآخرها في الآية أنّهم (وممّا رزقناهم ينفقون).
فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير.
إنّهم ينبوع من الخير والبركة، وعين فوّارة من ماء الصالحات العذب الصافي الذي يروي العطاشى، ويغني المحتاجين بحسب إستطاعتهم.
نعم .. إنّ أوصاف هؤلاء مجموعة من العقيدة الرصينة الثابتة، والإيمان القويّ والعشق الملتهب لله، والعبادة والطاعة، والسعي والحركة الدؤوبة، ومعونة عباد الله في كلّ المجالات.
ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتّعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهميّة الفائقة لثوابهم: (فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون).
التعبير بـ (فلا تعلم نفس) وكذلك التعبير بـ (قرّة أعين) مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر، خاصّة وأنّ كلمة (نفس) قد وردت بصيغة النكرة في سياق النفي، وهي تعني العموم وتشمل كلّ النفوس حتّى ملائكة الله المقرّبين وأولياء الله.
والتعبير بـ (قرّة أعين) من دون الإضافة إلى النفس، إشارة إلى أنّ هذه النعم
[125]
الإلهيّة التي خصّصت كثواب وجزاء للمؤمنين المخلصين في الآخرة، في هيئة تكون معها قرّة لعيون الجميع.
(قرّة) مادّة القَرّ، أي البرودة، ومن المعروف أنّ دموع الشوق باردة دائماً، وأنّ دمع الغمّ والحسرة حارّ محرق، فالتعبير بـ (قرّة أعين) يعني في لغة العرب الشيء الذي يسبّب برودة عين الإنسان، أي أنّ دموع الشوق والفرح تجري من أعينهم، وهذه كناية لطيفة عن منتهى الفرح والسرور والسعادة.
وفي حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): "إنّ الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"(1).
وثمّة سؤال طرحه المفسّر الكبير العلاّمة "الطبرسي" في (مجمع البيان) وهو: لماذا اُخفي هذا الثواب والجزاء؟
ثمّ يذكر ثلاثة أجوبة لهذا السؤال:
1 ـ أنّ الاُمور المهمّة والقيّمة لا يمكن إدراك حقيقتها بسهولة من خلال الألفاظ والكلام، ولذلك فإنّ إخفاءها وإبهامها يكون أحياناً أكثر تحفيزاً، وأبعث على النشاط، وهو أبلغ من ناحية الفصاحة.
2 ـ أنّ الشيء الذي يكون قرّة للأعين، يكون عادةً مترامي الأطراف إلى الحدّ الذي لا يصل علم ابن آدم إلى جميع خصوصياته.
3 ـ لمّا كان هذا الجزاء قد جعل لصلاة الليل المستورة، فإنّ المناسب أن يكون ثواب هذا العمل عظيماً ومخفيّاً أيضاً. وينبغي الإلتفات إلى أنّ جملة (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) في الآية السابقة إشارة إلى صلاة الليل.
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "ما من حسنة إلاّ ولها ثواب مبين في القرآن، إلاّ صلاة الليل، فإنّ الله عزّ إسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها، قال: فلا تعلم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقل هذا الحديث كثير من المفسّرين، ومن جملتهم الطبرسي في مجمع البيان، والآلوسي في روح المعاني، والقرطبي في تفسيره. وقد أورده المحدّثان المشهوران البخاري ومسلم في كتبهما أيضاً.
[126]
نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين"(1).
وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ عالم القيامة ـ وكما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ عالم أوسع من هذا العالم سعةً لا تحتمل المقارنة، فهو أوسع حتّى من الحياة الدنيا بالقياس إلى حياة الجنين في رحم الاُمّ، وأبعاد ذلك العالم لا يمكن إدراكها عادةً بالنسبة لنا نحن السجناء داخل الجدران الأربعة للدنيا، ولا يمكن تصوّره من قبل أحد.
إنّنا نسمع كلاماً عنه فقط، ونرى شبحه من بعيد، لكنّنا ما لم ندرك ولم نر ذلك العالم، فإنّ من المحال إدراك أهميّته وعظمته، كما أنّ إدراك الطفل في بطن الاُمّ لنعم هذه الدنيا ـ على فرض إمتلاكه العقل والإحساس الكامل ـ غير ممكن.
وقد ورد نفس هذا التعبير في شأن الشهداء في سبيل الله، ذلك أنّ الشهيد عندما يقع على الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيّبة التي خرجت من البدن الطيّب، أبشر فإنّ لك ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر(2).
وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة أكثر صراحة، فتقول: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً).
لقد وردت الجملة بصيغة الإستفهام الإنكاري، ذلك الإستفهام الذي ينبعث جوابه من عقل وفطرة كلّ إنسان بأنّ هذين الصنفين لا يستويان أبداً، وفي الوقت نفسه، وللتأكيد، فقد أوضحت الآية عدم التساوي بصورة أوضح بذكر جملة: (لا يستوون).
لقد جعل "الفاسق" في مقابل "المؤمن" في هذه الآية، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوماً واسعاً يشمل الكفر والذنوب الاُخرى، لأنّ هذه الكلمة أخذت في الأصل من جملة (فسقت الثمرة) إذا خرجت من قشرها، ثمّ أطلقت على الخروج
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.
2 ـ مجمع البيان، ج2 ذيل الآية (171) من آل عمران، والتّفسير الأمثل، ذيل نفس الآية.
[127]
على أوامر الله والعقل وعصيانها، ونعلم أنّ كلّ من كفر، أو إرتكب معصية فقد خرج على أوامر الله والعقل.
وممّا يجدر ذكره أنّ الثمرة ما دامت في قشرها فهي سالمة، وبمجرّد أن تخرج من القشر تفسد، وبناءً على هذا فإنّ فسق الفاسق كفسق الثمرة، وفساده كفسادها.
ونقل جمع من المفسّرين الكبار ففي ذيل هذه الآية أنّ "الوليد بن عقبة" قال يوماً لعلي (عليه السلام): أنا أبسط منك لساناً، وأحدّ منك سناناً! إشارة إلى أنّه ـ بظنّه ـ يفوق علياً في الفصاحة والحرب، فأجابه علي (عليه السلام): "ليس كما تقول يافاسق"، إشارة إلى أنّك أنت الذي اتّهمت بني المصطلق بوقوفهم ضدّ الإسلام في قصّة جمع الزكاة منهم، فكذّبك الله وعدّك فاسقاً في الآية (6) من سورة الحجرات : (ياأيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ...)(1).
وأضاف البعض هنا بأنّ آية: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً) نزلت بعد هذه المحاورة، لكن يبدو من ملاحظة أنّ السورة مورد البحث (سورة السجدة) نزلت في مكّة، وقصّة الوليد وبني المصطلق وقعت في المدينة، فهذا من قبيل تطبيق الآية على مصداق واضح لها.
وبناءً على ما ذهب بعض المفسّرين من أنّ الآية أعلاه والآيتين بعدها مدنية، لا يبقى إشكال من هذه الجهة، ولا مانع من أن تكون هذه الآيات الثلاث قد نزلت بعد المحاورة أعلاه.
وعلى كلّ حال، فلا بحث ولا جدال في إيمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) العميق المتأصّل، ولا في فسق الوليد، حيث اُشير في آيات القرآن لكلا الإثنين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أورد هذه الرواية العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، والفاضل البرسوئي في روح البيان. وممّا يستحقّ الإنتباه أنّنا نقرأ في كتاب (اُسد الغابة في معرفة الصحابة) أنّه لا خلاف بين المطلعين على تفسير القرآن والعالمين به في أنّ آية (إن جاءكم فاسق بنبأ) قد نزلت في حقّ الوليد بن عقبة في قصّة بني المصطلق.
[128]
وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلا، فتقول: (أمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنّات المأوى(1)) ثمّ تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد أعدّها الله تعالى لإستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة: (نزلا بما كانوا يعملون).
إنّ التعبير بـ "نزلا"، والذي يقال عادةً للشيء الذي يهيّئونه لإستقبال وإكرام الضيف، إشارة لطيفة إلى أنّ المؤمنين يُستقبلون ويُخدمون دائماً كما هو حال الضيف، في حين أنّ الجهنّميين ـ كما سيأتي في الآية الآتية ـ كالسجناء الذين يأملون الخروج منها في كلّ حين، ثمّ يعادون فيها!
وما ورد في الآية (102) من سورة الكهف: (إنّا أعتدنا جهنّم للكافرين نزلا)فانّه من قبيل (فبشّرهم بعذاب أليم) وهو كناية عن أنّه يُعاقب ويعذّب هؤلاء بدل إكرامهم، ويهدّدون مكان بشارتهم.
ويعتقد البعض أنّ "النزل" أوّل شيء يستقبل به الضيف الوارد لتوّه ـ كالشاي والعصير في زماننا ـ وبناءً على هذا فإنّه إشارة لطيفة إلى أنّ جنّات المأوى بتمام نعمها وبركاتها هي أوّل ما يستقبل به ضيوف الرحمن، ثمّ تتبعها المواهب في بركات اُخرى لا يعلمها إلاّ الله سبحانه.
والتعبير بـ (لهم جنّات) لعلّه إشارة إلى أنّ الله سبحانه لا يعطيهم بساتين الجنّة عارية، بل يملّكهم إيّاها إلى الأبد، بحيث لا يعكّر هدوء فكرهم إحتمال زوال هذه النعم مطلقاً.
وتطرّقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء، فتقول: (وأمّا الذين فسقوا فمأواهم النار) فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث أنّهم (كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اُعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "المأوى" من مادّة (أوى) بمعنى إنضمام شيء إلى شيء آخر، ثمّ قيلت للمكان والمسكن والمستقرّ.
[129]
مرّة اُخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل "الكفر والتكذيب"، والثواب والجزاء في مقابل "العمل"، وهذا إشارة إلى أنّ الإيمان لا يكفي لوحده، بل يجب أن يكون حافزاً وباعثاً على العمل، إلاّ أنّ الكفر كاف لوحده للعذاب، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.
* * *
بحث
أصحاب الليل!
ورد لجملة: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) تفسيران في الروايات الإسلامية:
أحدهما: تفسيرها بصلاة "العشاء"، وهو يشير إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا ينامون بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب عليهم النوم فتفوتهم صلاة العشاء (لأنّ المعتاد في ذلك الزمان أنّهم كانوا يستريحون في أوّل الليل ـ وكانوا يفرّقون بين صلاتي المغرب والعشاء، طبقاً لإستحباب التفريق بين الصلوات الخمس، وكانوا يؤدّون كلا منهما في وقت فضيلتها) فربّما لم يستيقظوا لصلاة العشاء إذا ما ناموا بعد صلاة المغرب مباشرةً.
وقد روى هذا التّفسير ابن عبّاس عن النّبي (صلى الله عليه وآله) طبقاً لنقل الدرّ المنثور، وكذلك روي في أمالي الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام)(1).
وثانيهما: أنّها فسّرت بالقيام والنهوض من النوم والمضجع لأداء صلاة الليل في أغلب الرّوايات وكلمات المفسّرين:
ففي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه: "ألا اُخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه"؟ قال: بلى، جعلت فداك، قال: "أمّا أصله فالصلاة،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الدرّ المنثور وأمالي الشيخ طبقاً لنقل تفسير الميزان الجزء 16 صفحة 268.
[130]
وفرعه الزكاة، وذروة نسامه الجهاد"!
ثمّ قال: "إن شئت أخبرتك بأبواب الخير"؟ قال: نعم جعلت فداك، قال: "الصوم جنّة، والصدقة تذهب بالخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل بذكر الله، ثمّ قرأ: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(1).
وروي في (تفسير مجمع البيان) عن معاذ بن جبل، قال: بينما نحن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم، فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقربهم منّي، فدنوت منه، فقلت: يارسول الله، أنبئني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النار، قال: "لقد سألت عن عظيم وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدّي الزكاة المفروضة، وتصوم شهر رمضان".
قال: "وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير" قال: قلت: أجل يارسول الله، قال: "الصوم جنّة، والصدقة تكفّر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله" ثمّ قرأ هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(2).
وبالرغم من عدم وجود المانع من أن يكون للآية معنى واسعاً يشمل البقاء على اليقظة في أوّل الليل لصلاة العشاء، إضافةً إلى النهوض في السحر لصلاة الليل، إلاّ أنّ الدقّة في مفهوم (تتجافى) تعكس المعنى الثّاني في الذهن أكثر، لأنّ ظاهر الجملة أنّ الجنوب قد إضطجعت وهدأت في المضاجع، ثمّ تجافت وإبتعدت عنها، وهذا يناسب القيام آخر الليل لأداء الصلاة، وبناءً على هذا فإنّ المجموعة الاُولى من الروايات من قبيل شمولية المفهوم وإلغاء الخصوصية.
وبالرغم من أنّ هذه الروايات القليلة تبدو كافية حول أهميّة هذه الصلاة المباركة، إلاّ أنّ الروايات الإسلامية قد أولت هذه العبادة إهتماماً عظيماً قلّ أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، الجزء 2، باب دعائم الإسلام صفحة 20 حديث 15، والمصدر السابق.
2 ـ مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث، وتفسير نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 229.
[131]
تحدّثت بهذا المقدار عن عبادة اُخرى.
لقد اهتمّ أنصار الحقّ ومحبّوه وسالكو طريق الفضيلة كثيراً بهذه العبادة الخالية من الرياء، والتي تنير القلب وتصفّيه من كلّ الشوائب.
ومن الممكن أن لا يوفّق البعض إلى هذه العبادة المباركة دائماً، ولكن ما المانع من أن يسعى الفرد إلى نيل هذا التوفيق في بعض الليالي، وفي الوقت الذي يرخي الليل سدوله، وتهدأ الأصوات وتنام العيون يكون الجوّ مهيئاً لحضور القلب، يهبّ إلى مناجاة الله وينوّر قلبه بنور عشق الحبيب ومحبّته(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا بحث آخر حول أهميّة صلاة الليل وطريقتها في ذيل الآية (79) من سورة الإسراء.
[132]
الآيتان
وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاَْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَـتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الُْمجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ(22)
التّفسير
عقوبات تربوية:
بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين وعقابهم الأليم، فإنّ الآيات مورد البحث تشير إلى أحد الألطاف الإلهية الخفيّة وهي موارد العذاب الخفيف في الدنيا ليتّضح أنّ الله سبحانه لا يريد أن يبتلى عبد بالعذاب الخالد أبداً، ولذلك يستخدم كلّ وسائل التوعية لنجاته، فيرسل الأنبياء، وينزل الكتب السماوية، ينعم ويبتلي بالمصائب، وإذا لم تنفع أيّة وسيلة منها فليس إلاّ نار الجحيم.
تقول الآية: (ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون).
من المسلّم أنّ "العذاب الأدنى" له معنى واسعاً يتضمّن أغلب الإحتمالات التي
[133]
كتبها المفسّرون بصورة منفصلة:
فمن جملتها، أنّ المراد المصائب والآلام والمشقّة.
أو القحط والجفاف الشديد الذي دام سبع سنين وابتلي به المشركون في مكّة حتّى اضطروا إلى أكل أجساد الموتى!
أو الضربة القاصمة التي نزلت عليهم في غزوة بدر، وأمثال ذلك.
أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد عذاب القبر، أو العقاب في الرجعة فلا يبدو صحيحاً، لأنّه لا يناسب جملة (لعلّهم يرجعون) أي عن أعمالهم.
من البديهي أنّ العذاب موجود في هذه الدنيا أيضاً، بحيث إذا نزل اُغلقت أبواب التوبة، وهو عذاب الإستئصال، أي العذاب والعقوبات التي تنزل لفناء الأقوام العاصين حينما لا تنفع ولا تؤثّر فيهم أيّ وسيلة توعية وتنبيه.
وأمّا "العذاب الأكبر" فيعني عذاب يوم القيامة الذي يفوق كلّ عذاب حجماً وألماً.
وهناك التفاتة أشار إليها بعض المفسّرين في أنّه لماذا جعل "الأدنى" في مقابل "الأكبر"، في حين أنّه يجب إمّا أن يقع الأدنى مقابل الأبعد، أو الأصغر في مقابل الأكبر؟
وذلك أنّ لعذاب الدنيا صفتين: كونه صغيراً، وقريباً، وليس من المناسب التأكيد على صغره عند التهديد، بل يجب التأكيد على قربه. ولعذاب الآخرة صفتان أيضاً: كونه بعيداً وكبيراً، والمناسب في شأنه التأكيد على كبره وعظمته لا بعده ـ تأمّلوا جيداً ـ .
وتقدّم أنّ التعبير بـ (لعلّ) في جملة (لعلّهم يرجعون) بسبب أنّ الإحساس بالعقوبات التحذيرية ليس علّة تامّة للوعي واليقظة، بل هو جزء العلّة، ويحتاج إلى أرضيّة مهيّأة، وبدون هذا الشرط لا يحقّق النتيجة المطلوبة، وكلمة (لعلّ) إشارة إلى هذه الحقيقة.
[134]
وتتّضح من هذه الآية إحدى حكم المصائب والإبتلاءات والآلام التي تعتبر من المسائل الملحّة والمثيرة للجدل في بحث التوحيد ومعرفة الله وعدله.
وليس في هذه الآية فحسب، بل اُشير في آيات اُخرى من القرآن إلى هذه الحقيقة، ومن جملتها في الآية (94) من سورة الأعراف (وما أرسلنا في قرية من نبيّ إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون).
ولمّا لم تنفع أيّة وسيلة من وسائل التوعية والتنبيه، حتّى العذاب الإلهي، لم يبق طريق إلاّ إنتقام الله من هؤلاء القوم الذين هم أظلم الناس، وكذلك تقول الآية التالية: (ومن أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه ثمّ أعرض عنها إنّا من المجرمين منتقمون).
فلم تؤثّر فيهم النعمة الإلهيّة، ولا العذاب والإبتلاءات التحذيرية، وعلى هذا فلا أحد أظلم منهم، وإذا لم يُنتقم من هؤلاء فمّمن الإنتقام؟
من الواضح ـ وبملاحظة الآيات السابقة ـ أنّ المراد من "المجرمين" هنا هم منكرو المبدأ والمعاد الذين لا إيمان لهم.
وقد وصف جماعة من الناس في آيات القرآن مراراً بأنّهم (أظلم) من الباقين، وبالرغم من تعبيراتها المختلفة إلاّ أنّها تعود جميعاً إلى أصل الكفر والشرك، وبناءً على هذا فإنّ معنى (أظلم) الذي يعتبر صيغة تفضيل يتطابق مع هذه المصاديق.
والتعبير بـ (ثمّ) في الآية، والذي يدلّ عادةً على التراخي، لعلّه إشارة إلى أنّ أمثال هؤلاء يُعطون فرصة ومجالا كافياً للتفكير والبحث، ولا تكون معاصيهم الإبتدائية سبباً لإنتقام الله أبداً، إلاّ أنّهم سيستحقّون إنتقام الله عزّوجلّ بعد إنتهاء الفرصة اللازمة.
ويجب الإلتفات إلى أنّ التعبير بـ "الإنتقام" يعني العقوبة في لسان العرب، ومع أنّ معنى الكلمة أصبح في المحادثات اليومية يعني تشفّي القلب وإبراد الغليل من العدو، إلاّ أنّ هذا المعنى لا وجود له في الأصل اللغوي، ولذلك فإنّ هذا التعبير قد
[135]
إستعمل مراراً في شأن الله عزّوجلّ في القرآن المجيد، في حين أنّه سبحانه أسمى وأعلى من هذه المفاهيم، فهو لا يفعل شيئاً إلاّ وفق الحكمة.
* * *
[136]
الآيات
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَة مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَـهُ هُدىً لِّبَنِى إِسْرَءِيلَ(23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَـتِنَا يُوقِنُونَ(24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(25)
التّفسير
شرط الإمامة: الصبر والإيمان:
تشير الآيات مورد البحث إشارة قصيرة وعابرة إلى قصّة "موسى" (عليه السلام) وبني إسرائيل لتسلّي نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الأوائل وتطيّب خواطرهم، وتدعوهم إلى الصبر والتحمّل والثبات أمام تكذيب وإنكار المشركين التي اُشير إليها في الآيات السابقة، ولتكون بشارة للمؤمنين بإنتصارهم على القوم الكافرين العنودين كما إنتصر بنو إسرائيل على أعدائهم وأصبحوا أئمّة في الأرض.
ولمّا كان موسى (عليه السلام) نبيّاً جليلا يؤمن به كلّ من اليهود والنصارى، فإنّه يكون حافزاً على توجّه أهل الكتاب نحو القرآن والإسلام.
تقول الآية أوّلا: (ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه) أي فلا
[137]
تشكّ أو تتردّد في أنّ "موسى" قد تلقّى آيات الله، وقد جعلنا كتاب موسى "التوراة" وسيلة لهداية بني إسرائيل (وجعلناه هدىً لبني إسرائيل).
ثمّة إختلاف بين المفسّرين في عودة الضمير في قوله: (من لقائه)، وقد إحتملوا في ذلك سبعة إحتمالات أو أكثر، إلاّ أنّ أقربها هو عودته إلى الكتاب ـ كتاب موسى السماوي، أي "التوراة" ـ كما يبدو، وله معنى المفعول وفاعله موسى، وبناءً على هذا فإنّ المعنى الكلّي لهذه الجملة يصبح: لا تشكّ في أنّ موسى(عليه السلام)تلقّى الكتاب السماوي الذي اُلقي إليه من قبل الله تعالى.
والشاهد القويّ على هذا التّفسير هو أنّه قد وردت في الآية أعلاه ثلاث جمل، تتحدّث الجملتين الاُولى والأخيرة عن التوراة قطعاً، فمن المناسب أن تتابع الجملة الوسط هذا المعنى أيضاً، لا أن تتحدّث عن القيامة أو القرآن المجيد حيث ستكون جملة معترضة في هذه الصورة، ونعلم أنّ الجملة المعترضة خلاف الظاهر، وما دمنا في غنىً عنها فلا ينبغي التوجّه إليها.
السؤال الوحيد الذي يبقى في هذا التّفسير هو إستعمال كلمة (لقاء) في مورد الكتاب السماوي، حيث إنّ هذه الكلمة قد إستعملت في القرآن الكريم غالباً بإضافتها إلى الله أو الربّ أو الآخرة وأمثالها، وهي إشارة إلى القيامة. ولهذا السبب رجّح البعض كون الآية أعلاه تتحدّث أوّلا عن نزول التوراة على موسى، ثمّ تأمر نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) أن لا تشكّ في لقاء الله ومسألة المعاد، ثمّ تعود إلى مسألة التوراة، لكن في هذه الصورة ينهار الإنسجام بين جمل هذه الآية ويزول التناسب فيما بينها.
غير أنّه ينبغي الإلتفات إلى أنّ تعبير "لقاء" وإن لم يستعمل في القرآن في مورد الكتب السماوية، إلاّ أنّ الإلقاء والتلقّي قد إستعمل مراراً في هذا المعنى، كما في الآية (25) من سورة القمر: (أاُلقي الذكر عليه من بيننا).
ونقرأ في قصّة سليمان وملكة سبأ أنّها قالت عندما وصلتها رسالة سليمان: (إنّي
[138]
اُلقي إليّ كتاب كريم).
وفي نفس هذه السورة "سورة سليمان" في الآية (6) نقرأ في شأن القرآن الكريم (وإنّك لتلقّى القرآن من لدن حكيم عليم).
بناءً على هذا فإنّ فعل الإلقاء والتلقّي قد إستعمل مراراً في هذا المورد، بل وحتّى نفس فعل اللقاء قد إستعمل في مورد صحيفة أعمال الإنسان، فنقرأ في الآية (13) من سورة الإسراء: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً).
ومن مجموع ما قلناه يتّضح ترجيح هذا التّفسير على سائر الإحتمالات التي إحتملت في الآية أعلاه(1).
لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يشكّ في مثل هذه المسائل مطلقاً، بل إنّ مثل هذه التعبيرات تستعمل عادةً لتأكيد المطلب، وليكون نموذجاً للآخرين.
ثمّ تشير الآية التالية إلى الأوسمة والمفاخر التي حصل عليها بنو إسرائيل في ظلّ الإستقامة والإيمان لتكون درساً للآخرين، فتقول: (وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
لقد ذكرت الآية هنا شرطين للإمامة: أحدهما: الإيمان واليقين بآيات الله عزّوجلّ، والثاني: الصبر والإستقامة والصمود. وهذا الأمر ليس مختصّاً ببني
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مرجع الضمير في (لقائه) إلى موسى، وبناءً على هذا يصبح المعنى: لا شكّ يامحمّد بأنّك ستلتقي بموسى، واعتبروا ذلك إشارة إلى لقائه به في ليلة المعراج أو في يوم القيامة. وهذا المعنى لا يبدو منسجماً مع مفهوم الجملة.
وقال البعض الآخر: إنّ الضمير يرجع إلى الكتاب، والمراد منه القرآن، أي: لا تدع أيّها النّبي للشكّ في أنّ هذا القرآن وحي إلهي إلى نفسك سبيلا، وهذا المعنى وإن كان يتلائم مع آيات بداية السورة، إلاّ أنّه لا يتلاءم كثيراً مع الجمل الاُخرى الموجودة في نفس هذه الآية. إضافة إلى أنّ الكتاب في الآية مورد البحث بمعنى التوراة، فلا ينسجم معه عود الضمير إلى القرآن ـ وتوجيه هذا المعنى بأنّ المراد مطلق الكتاب السماوي لا يقلّل من كونه خلاف الظاهر.
وقال بعض المفسّرين: إنّ الضمير في (لقائه) يعود إلى الله، وهذه الجملة إشارة إلى أنّه لا شكّ أبداً في مسألة المعاد، وهذا المعنى وإن كان يتّفق وينسجم مع الآيات السابقة، إلاّ أنّه لا يتلاءم من أي وجه تقريباً مع نفس الآية مورد البحث.
ومن هنا يتّضح أنّ ما ورد في بعض التفاسير من أنّ الآية إشارة إلى التقاء خطّي وبرنامجي موسى ونبي الإسلام، مطلب ذوقي لا يناسب المفهوم الواقعي لألفاظ الآية، وبناءً على هذا فإنّ أوضح التفاسير وأجلاها ما أوردناه أعلاه.
[139]
إسرائيل، بل هو درس لكلّ الاُمم، ولجميع مسلمي الأمس واليوم والغد بأن يُحكموا اُسس يقينهم، ولا يخافوا من المشاكل التي تعترضهم في طريق التوحيد، وأن يتحلّوا بالصبر والمقاومة ليكونوا أئمّة الخلق وقادة الاُمم ومرشديها في تاريخ العالم.
التعبير بـ (يهدون) و (يوقنون) بصيغة الفعل المضارع دليل على إستمرار هاتين الصفتين طيلة حياة هؤلاء، لأنّ مسألة القيادة لا تخلو لحظة من المشكلات، ويواجه شخص القائد وإمام الناس مشكلة جديدة في كلّ خطوة، ويجب أن يهبّ لمواجهتها مستعيناً بقوّة اليقين والإستقامة المستمرّة، ويديم خطّ الهداية إلى الله سبحانه.
والجدير بالإنتباه أنّ الآية تقيّد الهداية بأمر الله، فتقول: (يهدون بأمرنا)وهذا هو المهمّ في أمر الهداية بأن تنبع من الأوامر الإلهية، لا من أمر الناس، أو تقليد هذا وذاك، أو بأمر من النفس والميول القلبية.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه العميق المحتوى، بالإستناد إلى مضامين القرآن المجيد: "إنّ الأئمّة في كتاب الله عزّوجلّ إمامان: قال الله تبارك وتعالى: وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا، لا بأمر الناس، يقدّمون أمر الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم، وقال: وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النار، يقدّمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّوجلّ"(1).
ثمّ أنّ المراد من الأمر هنا هل هو الأمر التشريعي، أم الأمر التكويني؟ ظاهر الآية يعطي المعنى الأوّل، وتعبيرات الرّوايات والمفسّرين تؤيّد ذلك، إلاّ أنّ بعض كبار المفسّرين إعتبروه بمعنى الأمر التكويني.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكافي، المجلّد الأوّل، صفحة 168 باب أنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان.
[140]
وتوضيح ذلك: أنّ الهداية قد وردت في الآيات والروايات بمعنيين: "تبيان الطريق"، و "الإيصال إلى المطلوب"، وكذلك هداية الأئمّة الإلهيين تتّخذ صورتين: فيكتفون أحياناً بالأمر والنهي، وأحياناً اُخرى ينفذون إلى أعماق القلوب المستعدّة والجديرة بالهداية ليوصلوها إلى الأهداف التربوية والمقامات المعنوية.
وقد إستعملت كلمة "الأمر" في بعض آيات القرآن بمعنى "الأمر التكويني"، مثل: (إنّما أمره إذا أردا شيئاً أن يقول له كن فيكون)(1)، وجملة (يهدون بأمرنا)في الآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، أي إنّ اُولئك كانوا أئمّة ينفذون إلى النفوس المستعدّة بقدرة الله، ويسوقونها إلى الأهداف التربوية والإنسانية العالية(2).
إنّ هذا المعنى يستحقّ الملاحظة والإنتباه، وهو أحد شؤون الإمامة، وفروع وطرق الهداية، إلاّ أنّ حصر جملة: (يهدون بأمرنا) بهذا المعنى لا يوافق ظاهر الآية، لكن لا مانع من أن نفسّر كلمة الأمر في هذه الجملة بمعناها الواسع الذي يتضمّن الأمر التكويني والتشريعي، ويجمع كلا معنيي الهداية في الآية، وهذا المعنى ينسجم مع بعض الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية.
ولكن، وعلى كلّ حال، لا يمكن أن يصل الإمام والهادي إلى هذا المقام إلاّ في ظلّ اليقين والإستقامة فقط.
ويبقى سؤال، وهو: هل المراد من هؤلاء الأئمّة في بني إسرائيل هم الأنبياء الذين بُعثوا إليهم، أم أنّ العلماء الذين كانوا يهدون الناس إلى الخيرات بأمر الله يدخلون في هذه الزمرة؟
الآية ساكتة عن ذلك، واكتفت بالقول بأنّنا قد جعلنا منهم أئمّة، لكن بملاحظة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة يس، الآية 82.
2 ـ تفسير الميزان، المجلّد الأوّل، صفحة 275.
[141]
جملة: (جعلنا) يرجّح في رأينا أنّ المراد هم الأنبياء الذين نصبوا بأمر الله في هذا المنصب.
ولمّا كانوا بنوا إسرائيل ـ كسائر الاُمم ـ قد إختلفوا بعد هؤلاء الأئمّة الحقيقيين، وسلكوا مسالك مختلفة، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تقول بلحن التهديد: (إنّ ربّك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).
أجل .. إنّ مصدر ومنبع الإختلاف دائماً هو مزج الحقّ بالأهواء والميول، ولمّا كانت القيامة يوماً لا معنى فيه للأهواء والميول، حيث تمحى ويتجلّى الحقّ بأجلى صوره، فهناك ينهي الله سبحانه الإختلافات بأمره، وهذه أيضاً إحدى فلسفات المعاد. تأمّلوا ذلك.
* * *
ملاحظة
صمود وإستقامة القادة الإلهيين
قلنا: إنّه قد ذكر في الآيات مورد البحث شرطان للأئمّة: الأوّل: الصبر والثبات، والآخر: الإيمان واليقين بآيات الله.
ولهذا الصبر والثبات فروعاً وأشكالا كثيرة:
فيكون أحياناً أمام المصائب التي تحلّ بالإنسان.
واُخرى مقابل الأذى الذي يحيق بأصحابه ومؤيّديه.
وثالثة في مقابل التعديّات والألسن البذيئة التي تنال مقدّساته.
واُخرى في مقابل المنحرفين فكرياً.
واُخرى أمام الجاهلين الحمقى.
واُخرى أمام العلماء الخبثاء.
والخلاصة: فإنّ القائد الواعي الرشيد يجب أن يصمد أمام كلّ هذه المشاكل
[142]
وغيرها، ولا ينسحب من ميدان الصراع والحوادث، ولا يجزع وييأس، ولا يفقد زمام الاُمور من يده، ولا يضطرب ولا يندم حتّى يحقّق هدفه الكبير.
وقد روي في هذا الباب حديث جامع ورائع عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال لأحد أصحابه: إنّ من صبر صبر قليلا (وبعده الظفر) وإنّ من جزع جزع قليلا (ومن بعده الخسران).
ثمّ قال: عليك بالصبر في جميع اُمورك، فإنّ الله عزّوجلّ بعث محمّداً فأمره بالصبر والرفق; فقال: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا) وقال: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم).
فصبر رسول الله حتّى نالوه بالعظائم ورموه بها ـ فسمّوه ساحراً ومجنوناً وشاعراً، وكذّبوه في دعوته ـ فضاق صدره، فأنزل الله عزّوجلّ عليه: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربّك وكن من الساجدين) ـ أي إنّ هذه العبادة تمنحك الإطمئنان والهدوء ـ .
ثمّ كذّبوه ورموه فحزن لذلك، فأنزل الله عزّوجلّ: (قد نعلم انّه ليحزنك الذي يقولون فإنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا واُوذوا حتّى أتاهم نصرنا).
فألزم النّبي نفسه الصبر، فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل الله عزّوجلّ: (واصبر على ما يقولون)، فصبر النّبي في جميع أحواله.
ثمّ بُشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصبر، فعند ذلك قال: الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر الله عزّوجلّ ذلك له، فأباح له قتال المشركين، فقتلهم الله على يدي رسول الله وأحبّائه، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في
[143]
الآخرة".
ثمّ أضاف الإمام الصادق (عليه السلام): "فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتّى يقرّ الله له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، الجزء 2، صفحة 72 باب الصبر باختصار قليل.
[144]
الآيات
أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـت أَفَلاَ يَسْمَعُونَ(26) أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الاَْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَـمُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ(27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَـنُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ(29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ(30)
التّفسير
يوم إنتصارنا:
كانت الآيات السابقة ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفّار، وتقول الآية الاُولى من الآيات مورد البحث إكمالا لهذا التهديد: (أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون(1)) فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار اُولئك الأقوام
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فاعل (لم يهد) يفهم من جملة (كم أهلكنا من قبلهم) والتقدير: أو لم يهد لهم كثرة من أهلكنا.
[145]
الذين هلكوا من قبلهم (يمشون في مساكنهم)(1).
تقع مساكن "عاد" و "ثمود" المدمّرة، ومدن "قوم لوط" الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام، وكانت هذه المساكن مقرّاً ومركزاً للأقوام الأقوياء المنحرفين، وطالما حذّرهم الأنبياء فلم يؤثّر فيهم ذلك، وأخيراً طوى العذاب الإلهي ملفّ حياتهم، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لكلّ بيوت هؤلاء وقصورهم المتهدّمة مئة لسان، تصيح بهؤلاء أن يتنبّهوا، وتبيّن لهم وتحدّثهم بنتيجة الكفر والإنحطاط، لكنّهم لم يعبؤوا بها ويلتفتوا إليها، وكأنّهم فقدوا أسماعهم تماماً، ولذلك تضيف الآية في النهاية: (إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون).
وتشير الآية التالية إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس عمران كلّ البلدان، ووسيلة حياة كلّ الكائنات الحيّة، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب، فتقول: (أو لم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون).
"الجُرُز" تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ، وهي في الأصل من مادّة (جَرَزْ) على وزن (مرض) بمعنى "القطع"، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات.
والطريف هنا أنّه قد عُبّر بـ : (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب ـ بحكم ثقله ـ أن يكون على الأرض وفي المنخفضات، وبحكم كونه مائعاً يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض، إلاّ أنّه عندما يصله أمرنا يفقد طبيعته، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذكر أغلب المفسّرين في تفسير الآية ما ذكرناه أعلاه، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون جملة (يمشون) بياناً لحال المهلكين، أي أنّ اُولئك الأقوام كانوا في غفلة تامّة عن العذاب الإلهي، وكانوا يسيرون في مساكنهم ويتنّعمون بها، إذ أتاهم عذاب الله بغتةً وأهلكهم. إلاّ أنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً.
[146]
نعم، إنّ هذه السحب السابحة في السماء بحار كبيرة من المياه العذبة تُرسل إلى الأراضي اليابسة بأمر الله ومعونة الرياح.
والواقع أنّه لولا المطر فإنّ كثيراً من الأراضي لا ترى حتّى القطرة الواحدة من الماء، وإذا إفترضنا أنّ هناك أنهاراً غزيرة المياة فانّ تلك المياه لا تصل إلى أغلب الأراضي، إلاّ أنّنا نرى أنّه ببركة هذه الرحمة الإلهيّة قد نبتت ونمت الأعشاب والغابات والأشجار الكثيرة جدّاً على قمم كثير من الجبال والوديان الوعرة والتلال المرتفعة، وهذه القدرة العجيبة للمطر على الري لا يستطيع القيام بها شيء آخر.
"زرعاً" له هنا معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع العشب والشجر، وإن كان يستعمل أحياناً في مقابل الشجر.
ويمكن أن يكون تقديم الدوابّ والأنعام على البشر في هذه الآية لأنّ تغذية الحيوانات تعتمد على النبات، في حين أنّ البشر يتغذّى على النبات وعلى لحوم الحيوانات.
أو من جهة أنّ النبات بمجرّد نموّه يصبح غذاء للحيوانات، وتستطيع الإستفادة منه وهضمه، في حين أنّ إستفادة الإنسان من النباتات، تتأخّر حتّى تحمل الشجرة وتنضج الثمرة.
والطريف هنا أنّ جملة: (أفلا يبصرون) قد وردت في نهاية الآية مورد البحث، في حين أنّ الآية السابقة التي كانت تتحدّث عن أطلال قصور الأقوام الغابرة قد ختمت بجملة: (أفلا يسمعون).
وعلّة هذا الإختلاف هو أنّ الجميع يرون باُمّ أعينهم منظر الأراضي الميّتة وهي تحيا على أثر نزول الأمطار ونموّ نباتها وينع ثمرها، في حين أنّهم يسمعون المسائل المرتبطة بالأقوام السابقين كإخبار غالباً.
ويستفاد من مجموع الآيتين أعلاه أنّ الله تعالى يقول لهؤلاء العصاة
[147]
المتمردّين: انتبهوا جيّداً، وافتحوا عيونكم وأسماعكم، فاسمعوا الحقائق، وانظروا إليها، وتفكّروا كيف أمرنا الرياح يوماً أن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثاراً، وفي يوم آخر نأمر ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة البور لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة، ألا تستسلمون وتذعنون لهذه القدرة؟!
ولمّا كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالإنتقام، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر، فإنّ الكفّار يطرحون هذا السؤال غروراً وإستكباراً وتعلّلا بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقّق؟ كما يذكر القرآن ذلك: (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين).
فيجيبهم القرآن مباشرةً، ويأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) أي: إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النّبي لتؤمنوا، فإنّ الوقت قد فاتكم، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئاً.
وممّا قلنا يتّضح أنّ المراد من "يوم الفتح" يوم نزول "عذاب الإستئصال"، أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين، ولا يدع لهم فرصة الإيمان. وبتعبير آخر فإنّ عذاب الإستئصال نوع من العذاب الدنيوي، لا من عذاب الآخرة، ولا من العقوبات الدنيوية المعتادة، بل هو العذاب الذي يُنهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجّة.
والشاهد على هذا القول اُمور:
أ : إذا كان المراد العقوبات الدنيوية المعتادة، أو الإنتصارات الشبيهة بإنتصار المسلمين في معركة بدر ويوم فتح مكّة ـ كما قال ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ جملة: (لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) لا تصحّ حينئذ، لأنّ الإيمان كان مفيداً حينذاك، وأبواب التوبة كانت مفتّحة يوم الإنتصار في بدر، وفي يوم فتح مكّة.
[148]
ب : إذا كان المراد من يوم الفتح يوم القيامة ـ كما إرتضى ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ ذلك لا يناسب جملة: (ولا هم ينظرون) لأنّ إعطاء الفرصة وعدمه يرتبط بالحياة الدنيا، إضافةً إلى أنّ "يوم الفتح" لم يستعمل بمعنى يوم القيامة في أيّ موضع من القرآن الكريم.
ج : إنّ التعبير بالفتح في مورد عذاب الإستئصال يلاحظ مراراً في القرآن، مثل الآية (118) من سورة الشعراء، حيث يقول نوح: (فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجّني ومن معي من المؤمنين) وهو إشارة إلى عقوبة الطوفان.
وورد نظير هذا المعنى في الآية (77) من سورة المؤمنون أيضاً.
إلاّ أنّ المراد إذا كان عذاب الإستئصال في الدنيا فإنّه يتّفق مع ما قلناه أعلاه، وينسجم مع كلّ القرائن، وهو في الواقع تهديد للكافرين والظالمين بأن لا تطلبوا تحقّق الوعد بالفتح للمؤمنين ووقوع عذاب الإستئصال على الكافرين، فإنّ طلبكم إذا تحقّق فسوف لا تجدون الفرصة للإيمان، وإذا وجدتم الفرصة وآمنتم فإنّ إيمانكم سوف لا يقبل.
وهذا المعنى خاصّة يتلاءم كثيراً مع الآيات السابقة التي تحدّثت عن هلاك الأقوام المتمردّين الطاغين الذين كانوا يعيشون في القرون الماضية، وابتلوا بالعذاب الإلهي والفناء، لأنّ كفّار مكّة إذا سمعوا الكلام الذي ورد في الآيتين السابقتين فإنّهم سيطلبون تحقّق مثل هذا الموضوع في حقّهم، إلاّ أنّ القرآن الكريم يحذّرهم بأن لا يطلبوا مثل هذا الطلب، فإنّ العذاب إذا نزل لا يبقى لهم شيء.
وأخيراً تنهي الآية الأخيرة هذه السورة ـ سورة السجدة ـ بتهديد بليغ عميق المعنى، فتقول: (فأعرض عنهم وانتظر إنّهم منتظرون).
الآن، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار، ولا هم أهل منطق وإستدلال ليعرفوا الله سبحانه بمشاهدة الآثار الإلهيّة في خفايا الخلقة فيعبدوه،
[149]
وليس لهم وجدان حيّ يترنّم في أعماقهم بنغمة التوحيد فيسمعونها، فأعرض عنهم، وانتظر رحمة الله سبحانه، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقّون سواه.
اللهمّ اجعلنا ممّن يسلّم ويؤمن عند رؤية أوّل علامات الحقّ وآياته.
اللهمّ أبعد عنّا روح الكبر والغرور والعناد ونجّنا منها.
اللهمّ عجلّ بنصر جند الإسلام على جنود الكفر والإستكبار والإستعمار.
نهاية سورة السجدة
* * *
[151]
سورة الأَحزَاب
مَدنيّة وعددُ آياتِها ثلاث وسَبعُونَ آية
[153]
"سورة الأحزاب"
سبب التسمية وفضلها:
هذه السورة نزلت في المدينة باتّفاق علماء الإسلام، ومجموع آياتها (73) آية، ولمّا كان جزء مهمّ من هذه السورة يتحدّث عن أحداث غزوة الأحزاب (الخندق) فإنّ هذا الإسم قد اختير لها.
ويكفي في فضل هذه السورة أن نقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله ... اُعطي الأمان من عذاب القبر"(1).
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّد (صلى الله عليه وآله) وأزواجه"(2).
وقد قلنا مراراً: إنّ هذه الفضائل لا تُنال بالتلاوة الخالية من الروح، والعارية من كلّ أنواع الفكر والعمل، بل التلاوة التي تكون مبدأً للتفكّر الذي يضيء آفاق الإنسان يظهر آثاره في أعماله وسلوكه.
محتوى سورة الأحزاب:
إنّ هذه السورة من أغنى سور القرآن المجيد وأجناها ثماراً، وتتابع وتبحث
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 334. بداية سورة الأحزاب.
2 ـ المصدر السابق.
[154]
مسائل متنوّعة وكثيرة جدّاً في باب اُصول الإسلام وفروعه.
ويمكن تقسيم الأبحاث التي وردت في هذه السورة إلى سبعة أقسام:
الأوّل: بداية السورة التي تدعو الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى طاعة الله وترك اتّباع الكافرين ومقترحات المنافقين، وتبشّره بأنّ الله سبحانه سيدعمه وينصره في مقابل إستنكار هؤلاء.
الثّاني: أشار إلى بعض خرافات زمان الجاهلية، كالظهار، حيث كانوا يعتبرونه سبباً للطلاق وإفتراق الرجل عن امرأته، وكذلك مسألة التبنّي، وأكّدت على بطلانها، وحصرت العلاقات والروابط العائلية والسببية بالروابط الواقعية والطبيعية.
الثّالث: وهو أهمّ أقسام هذه السورة، ويرتبط بمعركة "الأحزاب" وحوادثها المرعبة، وإنتصار المسلمين المعجز على الكفّار، وإعاقات وتخرّصات وتعذّر المنافقين، ونقضهم لعهودهم، وقد بيّنت في هذا المجال قوانين رائعة وجامعة.
الرّابع: يرتبط بزوجات النّبي، حيث يجب أن يكنّ اُسوة واُنموذجاً أسمى لكلّ نساء المسلمين، ويصدر لهنّ في هذا الباب أوامر مهمّة.
الخامس: يتطرّق إلى قصّة "زينب بنت جحش" التي كانت يوماً زوجة لزيد، وهو ابن النّبي بالتبنّي، وإفترقت عنه، فتزوّجها النّبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله سبحانه، فأصبح هذا الزواج حربة بيد المنافقين، فأجابهم القرآن الجواب الكافي الشافي.
السّادس: يتحدّث عن مسألة الحجاب، والتي ترتبط بالبحوث السابقة، ويوصي كلّ النساء المؤمنات بمراعاة هذا القانون الإسلامي.
السّابع: الذي يشكّل الجزء الأخير، ويشير إلى مسألة المعاد المهمّة، وطريق النجاة في ذلك الموقف العظيم، وكذلك يشرح ويبيّن مسألة أمانة الإنسان العظمى، أي مسألة التعهّد والتكليف والمسؤولية.
* * *
[155]
الآيات
يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَـفِرِينَ وَالْمُنَـفِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا (3)
سبب النّزول
لقد ذكر المفسّرون هنا أسباب نزول مختلفة، تبحث كلّها تقريباً موضوعاً واحداً.
ومن جملتها: إنّ هذه الآيات نزلت في شأن أبي سفيان وبعض آخر من رؤوس الكفر والشرك الذين أخذوا الأمان من الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعد معركة أُحد ودخلوا المدينة، وأتوا مع عبدالله بن أُبي وجماعة من أصحابه، إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقالوا: يامحمّد، لا تذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة بسوء وقل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك، فشقّ ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال عمر بن الخطّاب: ائذن لنا ـ يارسول الله ـ في قتلهم، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): "إنّي أعطيتهم الأمان" وأمر فأُخرجوا من المدينة ونزلت الآية: (ولا تطع الكافرين) وأمرته أن لا يصغي لمثل هذه
[156]
الإقتراحات(1).
التّفسير
اتّبع الوحي الإلهي فقط:
إنّ من أخطر المنعطفات والمنحدرات التي تعترض طريق القادة الكبار قضيّة إقتراحات الصلح والتنازل والوفاق التي تطرح من قبل المخالفين، وتضع الخطوط الملتوية والطرق المنحرفة إلى جانب طريق القادة، وتسعى لحرفهم عن مسيرهم الأصلي، وهذا إمتحان صعب وعسير لهؤلاء.
لقد بذل مشركو "مكّة" ومنافقو "المدينة" كلّ ما في وسعهم ليحرّفوا الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن خطّ التوحيد من خلال طرح مقترحات السلام والإتّفاق، ومن جملتها ما قرأناه في سبب النّزول، إلاّ أنّ أُولى آيات سورة الأحزاب نزلت فأنهت مؤامراتهم، ودعت النّبي (صلى الله عليه وآله) إلى الإستمرار في اُسلوبه الحاسم في خطّ "التوحيد" بدون أدنى تراجع وتنازل ومسالمة.
إنّ هذه الآيات بمجموعها تأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) بأربعة أوامر مهمّة:
الأوّل: في مجال التقوى، والتي تهيّء الأرضية لكلّ برنامج آخر، فتقول: (ياأيّها النّبي اتّق الله).
إنّ حقيقة التقوى هي ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية، ولولا هذا الإحساس فإنّ الإنسان لا يندفع ولا يتحرّك باتّجاه أي برنامج بنّاء.
التقوى هي الهدف الأسمى للهداية والإنتفاع بآيات الله، كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة: (هدىً للمتّقين).
صحيح أنّ المرحلة النهائية للتقوى تحصل بعد الإيمان والعمل طبق أوامر الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، وتفاسير اُخرى.
[157]
سبحانه، إلاّ أنّ مرحلتها الإبتدائية تقع قبل كلّ هذه المسائل، لأنّ الإنسان إذا لم يحسّ بالمسؤولية داخلياً، فإنّه لا يسعى للتحقّق من دعوة الأنبياء والتثبّت منها، ولا يصغي إليها، وحتّى مسألة (دفع الضرر المحتمل) التي عدّها علماء الكلام والعقائد أساس ودعامة السعي إلى معرفة الله، فإنّها في الحقيقة فرع التقوى.
الثّاني: نفي ورفض طاعة الكافرين: (ولا تطع الكافرين والمنافقين) وتقول الآية في النهاية تأكيداً لهذا الموضوع: (إنّ الله كان عليماً حكيماً) فإنّه تعالى حينما يأمرك بعدم إتّباع هؤلاء، فإنّ ذلك صادر عن حكمته اللامتناهية، لأنّه يعلم ما اُخفي في هذ الإتّباع والمهادنة من المصائب، الأليمة، والمفاسد الجمّة.
وعلى كلّ حال، فإنّ أوّل وظيفة بعد التقوى والإحساس بالمسؤولية، هي غسل القلب وتصفيته من الغير، وإقتلاع الأشواك الضارّة المؤذية من هذه الأرض المعنوية.
الثّالث: نثر بذور التوحيد واتّباع الوحي الإلهي، فيقول: (واتّبع ما يوحى إليك من ربّك) واحذر فـ (إنّ الله كان بما تعملون خبيراً) وبناءً على هذا فإنّ الواجب الأوّل هو طرد الشياطين من أعماق الروح لتحلّ محلّها الملائكة، وأن تقلع الأشواك لتبذر محلّها الورود، ويجب أن تطهّر الأرض من الطواغيت لتخلّفهم حكومة الله ونظامه المقدّس.
ولمّا كانت هناك مشاكل كثيرة، وتهديدات ومؤامرات، ومعوّقات في الإستمرار في سلوك هذا الطريق، فإنّه تعالى يصدر الأمر الرابع بأن (وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا) فلو أنّ الف عدوّ يسعى لقتلك، فلا تخش ولا تخف منهم لأنّي ناصرك ومعينك.
ومع أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبي (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّه خطاب لكلّ المؤمنين، ولعامّة المسلمين، وهو وصفة طبية تمنح الحياة، ودواء لبث النشاط والحيوية في كلّ عصر وزمان.
[158]
وقال بعض المفسّرين: إنّ الخطاب بـ (ياأيّها) خاصّ بالموارد التي يراد منها جلب إنتباه العموم لمطلب ما، وإن كان المخاطب واحداً، بخلاف الخطاب بـ (يا) والذي يستعمل في الموارد التي يراد منها شخص المخاطب(1). ولمّا كانت هذه الآيات قد بدأت بـ (ياأيّها) فإنّها تؤكّد كون الهدف من هذه الآيات هو العموم.
والشاهد الآخر للتعميم، هو أنّ جملة: (إنّ الله كان بما تعملون خبيراً) قد وردت بصيغة الجمع، وإذا كان المخاطب هو النّبي (صلى الله عليه وآله)، فينبغي أن تقول الآية: إنّ الله كان بما تعمل خبيراً ـ .
ولا يخفى أنّ هذه الأوامر الموجّهة إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) لا تعني أنّه كان مقصّراً في التقوى أو أنّه يتّبع الكافرين والمنافقين، بل إنّ لهذه الأوامر صفة التأكيد على واجبات النّبي (صلى الله عليه وآله) من جهة، وهي درس وعبرة لكلّ المؤمنين من جهة اُخرى.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلّد 15، صفحة 190 ذيل الآيات مورد البحث.
[159]
الآيات
مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَجَكُمُ الَّئى تُظَهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ (4)ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَنُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَلِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيَما أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (5)النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَجُهُ أُمَّهَّتُهُمْ وَأُوْلُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِى كِتَبِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَـجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَـبِ مَسْطُوراً(6)
[160]
التّفسير
إدّعاءات جوفاء:
تعقيباً للآيات السابقة التي كانت تأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يتّبع الوحي الإلهي فقط، ولا يتّبع الكافرين والمنافقين، تعكس هذه الآيات التي نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه يدعو الإنسان إلى مجموعة من الخرافات والأباطيل، وقد ذكرت الآية الاُولى من الآيات مورد البحث ثلاث منها، فتقول أوّلا: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).
وقد ذكر جمع من المفسّرين في سبب نزول هذا القسم من الآية: أنّ رجلا في الجاهلية يدعى "جميل بن معمّر" كان عجيب الحفظ، وكان يدّعي أنّ في جوفه قلبين كلّ منهما أفهم من محمّد (صلى الله عليه وآله)، ولذلك كان مشركو قريش يسمّونه: ذا القلبين!
فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون، وفيهم جميل بن معمّر، تلقّاه أبو سفيان وهو آخذ بيده إحدى نعليه، والاُخرى في رجله، فقال له: ياأبا معمّر، ما حال الناس؟ قال: إنهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك، والاُخرى في رجلك؟ فقال أبو معمّر: ما شعرت بذلك، وكنت أظنّهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنّه لم يكن له إلاّ قلب واحد لما نسي نعله في يده(1). بل لم يكن يعقل ويفهم حتّى بمقدار ذي القلب الواحد.
والمراد من "القلب" في مثل هذه الموارد "العقل".
وعلى كلّ حال فإنّ اتّباع الكفّار والمنافقين، وعدم اتّباع الوحي الإلهي يدعو الإنسان إلى مثل هذه الإعتقادات الخرافية.
وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ للجملة معنى أعمق، وهو: أنّه ليس للإنسان إلاّ قلب واحد، ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلاّ عشق معبود واحد، وعلى هذا فإنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث، وتفسير القرطبي.
[161]
اُولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعدّدة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعدّدة، ليجعلوا كلّ واحد منها بيتاً لعشق معبود واحد!
من المسلّم أنّ شخصيّة الإنسان السليم شخصية واحدة، وخطّه الفكري واحد، ويجب أن يكون واحداً في وحدته وإختلاطه بالمجتمع، في الظاهر والباطن، في الداخل والخارج، وفي الفكر والعمل، فإنّ كلّ نوع من أنواع النفاق أز إزدواج الشخصية أمر مفروض على الإنسان وعلى خلاف طبيعته.
إنّ الإنسان بحكم إمتلاكه قلباً واحداً يجب أن يكون له كيان عاطفي واحد، وأن يخضع لقانون واحد ..
ولا يدخل قلبه إلاّ حبّ معشوق واحد ..
ويسلك طريقاً معيّناً في حياته، بأن يتآلف مع فريق واحد، ومجتمع واحد، وإلاّ فإنّ التعدّد والتشتّت والطرق المختلفة والأهداف المتفرّقة ستقوده إلى اللاهدفية والإنحراف عن المسير التوحيدي الفطري.
ولهذا نرى في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: "لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه، فيحبّ بهذا ويبغض بهذا، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه، فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه، فإن شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه"(1).
وبناءً على هذا فإنّ القلب مركز الإعتقاد الواحد، وينفّذ برنامجاً عملياً واحداً، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعتقد بشيء حقيقة وينفصل عنه في العمل، وما يدّعي بعض المعاصرين من أنّهم يمتلكون شخصيات متعدّدة، ويقولون: إنّنا قد قمنا بالعمل الفلاني سياسياً، وبذلك العمل دينياً، والآخر إجتماعياً، ويوجّهون بذلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم، طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 234.
[162]
أفعالهم المتناقضة، فهو ناشيء من نفاقهم وسوء سريرتهم حيث يريدون أن يسحقوا بهذا الكلام قانون الخلقة.
صحيح أنّ أبعاد حياة الإنسان مختلفة، ولكن يجب أن يحكمها خطّ واحد، وتسير ضمن منهاج واحد.
ثمّ يتطرّق القرآن إلى خرافة اُخرى من خرافات الجاهلية، وهي خرافة "الظهار"، حيث أنّ المشركين كانوا إذا غضبوا على نسائهم، وأرادوا أن يبدوا تنفّرهم وعدم إرتياحهم، قالوا للزوجة: أنت عليّ كظهر اُمّي فيعتبرها بمثابة اُمّه، وكان يعدّ هذا الكلام بمنزلة الطلاق!
يقول القرآن الكريم في تتمّة هذه الآية: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهنّ اُمّهاتكم) فلم يمض الإسلام هذا القانون الجاهلي، ولم يصادق عليه، بل جعل عقوبة لمن يتعاطاه، وهي: أنّ من نطق بهذا الكلام فلا يحقّ له أن يقرب زوجته حتّى يدفع الكفّارة، وإذا لم يدفعها ولم يأت زوجته فإنّ لها الحقّ في أن تستعين بحاكم الشرع ليجبره على أحد أمرين: إمّا أن يطلّقها وفقاً لأحكام الإسلام ويفارقها، أو أن يكفّر ويستمرّ في حياته الزوجية كالسابق(1).
أي منطق هذا الذي تصبح فيه زوجة الإنسان بمنزلة اُمّه بمجرّد أن يقول لها: أنت عليّ كظهر اُمّي؟! إنّ إرتباط وعلاقة الاُمّ والولد علاقة طبيعية لا تتحقّق بمجرّد الكلام مطلقاً، ولذلك تقول الآية 2 ـ سورة المجادلة بصراحة: (إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً).
وإذا كان هدف هؤلاء من إطلاق هذه الكلمات هو الإفتراق والإنفصال عن المرأة ـ (وهكذا كان في عصر الجاهلية، حيث كانوا يقولون هذه الكلمات بدل لفظ الطلاق) ـ فإنّ الإنفصال عن المرأة لا يحتاج إلى مثل هذا الكلام القبيح السيّء. ألا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ توضيح أكثر حول المسائل المرتبطة بالظهار في ذيل الآيات المناسبة في سورة المجادلة.
[163]
يمكن أن يصرّح بالطلاق بتعبير صحيح بعيد عن كلّ ذلك القبح؟
وقال بعض المفسّرين: إنّ "الظهار" في الجاهلية لم يكن يؤدّي إلى إنفصال الرجل عن المرأة، بل إنّه كان يجعل المرأة كالمعلّقة لا يعرف حالها ومصيرها، وإذا كانت المسألة كذلك، فإنّ جناية هذا العمل وقبحه ستكون أوضح، لأنّ كلمة لا معنى لها كانت تحرّم على الرجل علاقته الزوجية مع زوجته من دون أن تكون المرأة مطلّقة(1).
ثمّ تطرّقت الآية إلى ثالث خرافة جاهلية، فقالت: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم).
وتوضيح ذلك: أنّه كان من المتعارف في زمن الجاهلية أنّهم كانوا ينتخبون بعض الأطفال كأولاد لهم، ويسمّونهم أولادهم، وبعد هذه التسمية يعطونه كلّ الحقوق التي يستحقّها الولد من الأب، فيرث الولد من تبنّاه، كما يرث المتبنّي الولد، ويجري عليهما تحريم امرأة الأب أو زوجة الإبن.
وقد نفى الإسلام هذه العادات غير المنطقية والخرافية أشدّ النفي، بل ـ وكما سنرى ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أقدم ـ لمحو هذه السنّة المغلوطة ـ على الزواج من زوجة ولده المتبنّى "زيد بن حارثة" بعد أن طلّقها زيد، ليتّضح من خلال هذه السنّة النبوية أنّ هذه الألفاظ الجوفاء لا يمكن أن تغيّر الحقائق والواقع، لأنّ علاقة البنوّة والاُبوّة علاقة طبيعية لا تحصل أبداً من خلال الألفاظ والإتّفاقيات والشعارات.
ومع أنّنا سنقول فيما بعد: أنّ زواج النّبي بزوجة زيد المطلّقة قد أثار ضجّة عظيمة بين أعداء الإسلام، وأصبح حربة بيدهم للإعلام المضادّ السيء، إلاّ أنّ هذا العمل كان يستحقّ تحمّل كلّ ذلك الصخب الإعلامي لتحطيم هذه السنّة الجاهلية، ولذلك يقول القرآن الكريم بعد هذه الجملة: (ذلكم قولكم بأفواهكم).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، المجلّد 6، صفحة 534، ذيل الآية مورد البحث.
[164]
إنّكم تقولون: إنّ فلاناً ولدي، وأنتم تعلمون علم اليقين أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الأمواج الصوتية فقط هي التي تخرج من أفواهكم ولا تنبع مطلقاً من إعتقاد قلبي، وهذا كلام باطل ليس إلاّ (والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل).
إنّ "قول الحقّ" يطلق على القول الذي ينطبق على الواقع الموضوعي تماماً، أو أن يكون من الاُمور الإعتبارية التي تنسجم مع مصالح كلّ أطراف القضيّة، ونعلم أنّ مسألة "الظهار" في الجاهلية، أو "التبنّي" الذي كان يسحق حقوق الأبناء الآخرين إلى حدّ كبير ـ لم يكونا من الموضوعات العينية، ولا من الإعتباريات الحافظة لمصلحة عامّة الناس.
ثمّ يضيف القرآن مؤكّداً وموضّحاً الخطّ الصحيح والمنطقي للإسلام: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله).
إنّ التعبير بـ (أقسط) لا يعني أنّهم إن دعوهم بأسماء المتبنّين لهم فإنّه عدل، وإن دعوهم بأسماء آبائهم الواقعيين فإنّه أعدل، بل ـ وكما قلنا سابقاً مراراً ـ إنّ صيغة (أفعل التفضيل) تستعمل في بعض الموارد ولا تدلّ على الوصف المقابل لصفة ما، فمثلا نقول: من الأفضل أن يحتاط الإنسان ولا يلقي بنفسه في الخطر، فلا يعني هذا أنّ إلقاء النفس في الخطر والتهلكة حسن، إلاّ أنّ الإحتياط أفضل منه، بل إنّ المراد المقارنة بين الحسن والقبح.
وتقول الآية لرفع الأعذار والحجج: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) أي إنّ عدم معرفة آبائهم لا يكون دليلا على أن تضعوا اسم شخص آخر كأب لهذا الإبن، بل يمكنكم أن تخاطبوهم كإخوانكم في الدين أو أصدقائكم ومواليكم.
(الموالي) جمع "مولى"، وقد ذكر المفسّرون له معاني عديدة، فالبعض فسّره هنا بمعنى الصديق والصاحب، والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر، لأنّ بعض الأدعياء كانوا عبيداً يُشترون ثمّ يتحرّرون، ولمّا كان أصحابهم قد اهتّموا
[165]
بهم وأحبّوهم فإنّهم كانوا يدعونهم كأبناء لهم.
وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ تعبير (مولى) في مثل هذه الموارد كان يرتبط بالعبيد المحرّرين من جهة أنّهم كانوا يحتفظون بعلاقاتهم مع مالكيهم بعد تحرّرهم، تلك العلاقات التي كانت تنوب عن اُولي الأرحام في بعض الجهات من الناحية الحقوقية، وكانوا يعبّرون عن ذلك بـ (ولاء العتق) ولذلك نقرأ في الروايات الإسلامية أنّ "زيد بن حارثة" بعد أن أعتقه النّبي كان يدّعي زيد بن محمّد، حتّى نزل القرآن بالأمر أعلاه، فمن ذلك الحين قال له النّبي (صلى الله عليه وآله): "أنت زيد بن حارثة"، وكان الناس يدعونه بعد ذلك: مولى رسول الله(1).
وقالوا أيضاً: كان لأبي حذيفة غلام يدعى "سالماً" فأعتقه وادّعاه، فلمّا نزلت هذه الآية كانوا يسمّونه: سالماً مولى أبي حذيفة(2).
ولكن ربّما يدعو الشخص إنساناً لغير أبيه لإعتياده ذلك سابقاً، أو لسبق لسانه، أو لإشتباهه في تشخيص نسب الأفراد، وهذا خارج عن حدود إختيار الإنسان، فإنّ الله العادل الحكيم لا يعاقب مثل هذا الإنسان، ولذا أردفت الآية: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم(3) وكان الله غفوراً رحيماً).
إنّه تعالى يغفر لكم ما سبق، ويعفو عن السهو والنسيان والإشتباه، أمّا بعد نزول هذا الحكم فإنّ الله عزّوجلّ سوف لا يغفر لكم مخالفتكم إن صدرت عن عمد وقصد، فتدعون أفراداً بغير أسماء آبائهم، وتستمرّون على اتّباع هذا العرف السيء بالدعوة لغير الأب.
وقال بعض المفسّرين: إنّ موضوع الخطأ يشمل الموارد التي يقول فيها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روح المعاني، المجلّد 21، صفحة 131 ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ روح البيان، ذيل الآية مورد البحث.
3 ـ قال المفسّرون: إنّ كلمة (ما) هنا موصولة، وهي من ناحية الإعراب مبتدأ، وخبرها محذوف، وتقدير الجملة: لكن ما تعمّدت قلوبكم فإنّكم تؤاخذون عليه.
[166]
الإنسان لآخر تحبّباً: ولدي، أو يابنيّ، أو يقول فيها لآخر إحتراماً: ياأبت!
وهذا الكلام صحيح ـ طبعاً ـ وهذه التعبيرات لا تعدّ ذنباً، لكن لا لأجل عنوان الخطأ، بل لأنّ لهذه التعبيرات صفة الكناية والمجاز، وقرينتها معها عادة، والقرآن ينفي التعبيرات الحقيقية في هذا الباب، لا المجازية.
ثمّ تتطرّق الآية التالية إلى مسألة مهمّة اُخرى، أي إبطال نظام "المؤاخاة" بينهم.
وتوضيح ذلك: أنّ المسلمين لمّا هاجروا من مكّة إلى المدينة وقطع الإسلام كلّ روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشركين الذين كانوا في مكّة تماماً، فقد أجرى النّبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله عقد المؤاخاة بينهم وعقد عهد المؤاخاة بين "المهاجرين" و "الأنصار"، وكان يرث أحدهم الآخر كالأخوين الحقيقيين، إلاّ أنّ هذا الحكم كان مؤقّتاً وخاصّاً بحالة إستثنائية جدّاً، فلمّا اتّسع الإسلام وعادت العلاقات السابقة تدريجيّاً لم تكن هناك ضرورة لإستمرار هذا الحكم، فنزلت الآية أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذي كان يحلّ محلّ النسب، وجعل حكم الإرث وأمثاله مختّصاً بأُولي الأرحام الحقيقيين.
وبالرغم من أنّ نظام المؤاخاة كان نظاماً إسلامياً ـ على خلاف نظام التبنّي الذي كان نظاماً جاهلياً ـ ولكن كان من الواجب أن يُلغى بعد إرتفاع الحالة الموجبة له، وهكذا حصل، غاية ما في الأمر أنّ الآية قبل أن تذكر هذا الحكم ذكرت حكمين آخرين ـ أي كون النّبي (صلى الله عليه وآله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكون نساء النّبي (صلى الله عليه وآله) كاُمّهاتهم ـ كمقدّمة، فقالت: (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه اُمّهاتهم).
ومع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة اُمّهات المؤمنين إلاّ أنّهم لا يرثون منهم مطلقاً، فكيف يُنتظر أن يرث الابن المتبنّي؟!
ثمّ تضيف الآية: (واُولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين
[167]
والمهاجرين) ولكن مع ذلك، ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمين تماماً وليكون بإمكان المؤمنين تعيين شيئاً من الإرث لإخوانهم ـ وإن كان بأن يوصوا بثلث المال ـ فإنّ الآية تضيف في النهاية: (إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً).
وتقول في آخر جملة تأكيداً لكلّ الأحكام السابقة، أو الحكم الأخير: (كان ذلك في الكتاب مسطوراً) ـ في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم ـ .
كان هذا خلاصة تفسير الآية أعلاه، والآن يجب أن نتطرّق إلى تفصيل كلّ واحد من الأحكام الأربعة التي وردت في هذه الآية:
1 ـ ما هو المراد من كون النّبي أولى بالمؤمنين؟
لقد ذكر القرآن في هذه الآية أولوية النّبي (صلى الله عليه وآله) بالمسلمين بصورة مطلقة، ومعنى ذلك أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أولى بالإنسان المسلم من نفسه في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان في حقّ نفسه.
ومع أنّ بعض المفسّرين فسّروها بمسألة "تدبير الاُمور الإجتماعية"، أو "الأولوية في مسألة القضاء"، أو "طاعة الأمر"، إلاّ أنّنا في الواقع لا نمتلك أي دليل على إنحصار الآية في أحد هذه الاُمور الثلاث.
وإذا لاحظنا في بعض الروايات الإسلامية تفسير الأولوية بـ "الحكومة"، فهو في الحقيقة بيان لأحد فروع هذه الأولوية(1).
لذلك يجب أن يقال: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أولى من كلّ إنسان مسلم في المسائل الإجتماعية والفردية، وكذلك في المسائل المتعلّقة بالحكومة والقضاء والدعوة، وإنّ إرادته ورأيه مقدّم على إرادة أي مسلم ورأيه.
ولا ينبغي العجب من هذه المسألة، لأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) معصوم ووكيل لله سبحانه، ولا يفكّر ويقرّر إلاّ في صالح المجتمع والفرد، ولا يتّبع الهوى أبداً، ولا يعتبر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وردت هذه الروايات في اُصول الكافي، وكتاب علل الشرائع. راجع تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 238 ـ 239.
[168]
مصالحه مقدّمة على مصالح الآخرين وأهمّ منها، بل على العكس من ذلك، فهو يؤثّر ويقدّم مصالح الاُمّة على مصالحه دائماً عند تعارض المصلحتين.
إنّ هذه الأولوية فرع من أولوية المشيئة الإلهيّة، لأنّ كلّ ما لدينا من الله سبحانه. إضافة إلى أنّ الإنسان لا يصل إلى أوج الإيمان إلاّ عند ما يضحّي بأقوى العلائق والدوافع فيه، وهو عشقه لذاته في طريق عشقه لذات الله وخلفائه، ولذلك نقرأ في حديث: "لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعاً لما جئت به"(1).
وجاء في حديث آخر: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين"(2).
وكذلك روي عنه (صلى الله عليه وآله): "ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة"(3).
ويقول القرآن الكريم في الآية (36) من سورة الأحزاب هذه: (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).
ونؤكّد مرّة اُخرى على أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ الله قد جعل أمر الناس تبعاً لأهواء ورغبات شخص ما، بل من جهة أنّ للنبي (صلى الله عليه وآله) مقام العصمة، وبمصداق: (لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) فإنّ كلّ ما يقوله هو كلام الله ومن الله، وهو أحرص وأرحم حتّى من الأب بهذه الاُمّة.
إنّ هذه الأولوية في الحقيقة تقع في مسير منافع الناس في جوانب الحكومة وتدبير المجتمع الإسلامي، وكذلك في المسائل الشخصية والفردية.
ويتبيّن من هذه الأدلّة أنّ هذه الأولوية تضع على عاتق النّبي (صلى الله عليه وآله) مسؤوليات ثقيلة ضخمة، ولذلك نقرأ في الرواية المشهورة الواردة في مصادر الشيعة والسنّة،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ذيل الآيات مورد البحث.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ صحيح البخاري، المجلّد 6، صفحة 145 تفسير سورة الأحزاب، ومسند أحمد، الجزء 2، صفحة 334.
[169]
أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: "أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، ومن ترك مالا فللوارث، ومن ترك دَيناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ"(1).
ينبغي الإلتفات إلى أنّ "الضياع" هنا بمعنى الأولاد أو العيال الذين بقوا بدون معيل، والتعبير بـ "الدَّين" قبلها قرينة واضحة على هذا المعنى، لأنّ المراد بقاء الدَّين بدون مال يسدّد به.
2 ـ الحكم الثّاني في هذا الباب يتعلّق بأزواج النّبي حيث يُعتبرن كاُمّهات لكلّ المؤمنين، وهي طبعاً اُمومة معنوية وروحية، كما أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أب روحي ومعنوي للاُمّة.
إنّ تأثير هذا الإرتباط المعنوي كان منحصراً في مسألة حفظ إحترام أزواج النّبي وحرمة الزواج منهنّ، كما جاء الحكم الصريح بتحريم الزواج منهنّ بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله) في آيات هذه السورة، وإلاّ فليس لهذه العلاقة أدنى أثر من ناحية الإرث وسائر المحرّمات النسبية والسببية، أي إنّ المسلمين كان من حقّهم أن يتزوّجوا بنات النّبي، في حين أنّ أيّ أحد لا يستطيع الزواج من إبنة اُمّه. وكذلك مسألة كونهنّ أجنبيات، وعدم جواز النظر إليهن إلاّ للمحارم.
في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إنّ امرأة قالت لعائشة: يااُمّه! فقالت: لست لك باُمّ إنّما أنا اُمّ رجالكم"(2) وهو إشارة إلى أنّ الهدف من هذا التعبير هو حرمة التزويج، وهذا صادق في رجال الاُمّة فقط.
وثمّة مسألة مطروحة، وهي إحترامهنّ وتعظيمهنّ ـ كما قلنا ـ إضافةً إلى قضيّة عدم الزواج، ولذلك فإنّ نساء المسلمين كنّ قادرات على مخاطبة نساء النّبي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقل هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في وسائل الشيعة، الجزء 7، صفحة 551، وورد هذا المضمون بتفاوت يسير في تفسير القرطبي، وروح المعاني في ذيل الآيات مورد البحث، وورد أيضاً في صحيح البخاري، المجلّد 6، صفحة 145 تفسير سورة الأحزاب.
2 ـ مجمع البيان، وروح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.
[170]
بالاُمّ بعنوان إحترامهنّ.
والشاهد لهذا القول، أنّ القرآن الكريم يقول: (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهذا يعني أولوية النّبي بكلّ النساء والرجال، وضمير الجملة التالية يعود إلى هذا العنوان الواسع المعنى، ولذلك نقرأ في العبارة التي نقلت عن "اُمّ سلمة" ـ وهي من أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ أنّها قالت: أنا اُمّ الرجال منكم والنساء(1).
وهنا يطرح سؤال، وهو: هل أنّ تعبير (وأزواجه اُمّهاتهم) يتناقض مع ما ورد في الآية (2) من سورة المجادلة: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ اُمّهاتهم إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً)فكيف تعتبر نساء النّبي ـ والحال هذه ـ اُمّهات المسلمين ولم يولدوا منهنّ؟
وينبغي في الإجابة على هذا السؤال الإلتفات إلى أنّ مخاطبة امرأة ما بالاُمّ إمّا أن تكون من الناحية الجسمية أو الروحية ..
فأمّا من الناحية الجسمية: فإنّ هذه المخاطبة تكون واقعية في حالة كون الإنسان مولوداً منها فقط، وهذا هو الذي جاء في الآيات السابقة بأنّ الاُمّ الجسمية للإنسان هي التي تلده فقط.
وأمّا الأب أو الاُمّ الروحيين، فهو الذي له حقّ معنويّ على الإنسان كالنّبي (صلى الله عليه وآله)الذي يعتبر الأب الروحي للاُمّة، ولأجله إكتسبت أزواجه منزلة وإحترام الاُمّ.
والإشكال الذي كان يوجّه إلى عرب الجاهلية في مورد "الظهار" أنّهم عندما كانوا يخاطبون أزواجهم بخطاب الاُمّ فمن المسلّم أنّ مرادهم ليس الاُمّ المعنوية، بل المقصود أنّهنّ كالاُمّ الجسمية، ولذلك كانوا يعدّونه نوعاً من الطلاق، ونعلم أنّ الاُمّ الجسمية لا تتحقّق بمجرّد الألفاظ، بل إنّ شرط ذلك الولادة الجسمية، وبناءً على هذا فإنّ كلامهم كان منكراً وزوراً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روح المعاني، ذيل الآيات مورد البحث.
[171]
أمّا في مورد أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله)، فبالرغم من أنّهنّ لسن اُمّهات جسمياً، إلاّ أنّهنّ اُمّهات روحيات إكتساباً من مقام وإحترام النّبي (صلى الله عليه وآله) ولهنّ وجوب الإحترام كاُمّهات. وإذا رأينا القرآن قد حرّم الزواج من أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) في الآيات القادمة، فإنّ ذلك شأن آخر من شؤون إحترامهنّ وإحترام النّبي (صلى الله عليه وآله) كما سيأتي توضيح ذلك بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى.
وهناك نوع ثالث من الاُمّهات في الإسلام وهي الاُمّ المرضعة، والتي اُشير إليها في الآية (23) من سورة النساء: (واُمّهاتكم اللاتي أرضعنكم) إلاّ أنّها في الحقيقة فرع من فروع الاُمّ الجسمية.
3 ـ الحكم الثالث: مسألة أولوية اُولي الأرحام في الإرث بالنسبة إلى الآخرين، لأنّ قانون الإرث في بداية الإسلام ـ حيث قطع المسلمون علاقتهم بأقوامهم وأقاربهم على أثر الهجرة ـ نظّم على أساس الهجرة والمؤاخاة، أي أنّ المهاجرين كانوا يرثون بعضهم من بعض أو مع الأنصار الذين تآخوا معهم ولكن لم تكن هناك ضرورة للإستمرار عليه بعد توسّع الإسلام وإعادة كثير من العلاقات القومية والرحمية السابقة نتيجة إسلام أقوامهم ـ (وينبغي الإلتفات إلى أنّ سورة الأحزاب قد نزلت في السنة الخامسة للهجرة، وهي سنة "حرب الأحزاب") لذلك ثبّتت أولوية اُولي الأرحام بالنسبة إلى الآخرين.
وهناك قرائن على أنّ المراد من الأولوية هنا هي الأولوية الإلزامية لا الإستحبابية، لأنّ إجماع علماء الإسلام على هذا المعنى، إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المصادر الإسلامية، والتي تثبت هذا الموضوع.
ويجب هنا الإلتفات إلى هذه المسألة بدقّة، وهي: أنّ هذه الآية بصدد بيان أولوية اُولي الأرحام في مقابل الأجانب، لا بيان أولوية طبقات الإرث الثلاث بالنسبة إلى بعضها البعض، وبتعبير آخر، فإنّ المفضّل عليهم هنا هم المؤمنون والمهاجرون الذين ورد ذكرهم في متن القرآن: (من المؤمنين والمهاجرين).
[172]
بناءً على هذا فإنّ مفهوم الآية يصبح: إنّ اُولي الأرحام أولى من الأجانب من ناحية الإرث، أمّا كيف يرث هؤلاء الأرحام؟ وعلى أي أساس ومعيار؟ فإنّ القرآن سكت عن ذلك في هذا الموضع، مع أنّه بحث الموضوع مفصّلا في آيات سورة النساء(1).
4 ـ الحكم الرّابع الذي ورد في الآية أعلاه كإستثناء، هو إستفادة وإنتفاع الأصدقاء والأفراد المعينين الذين يخصّهم الأمر من الأموال التي يتركها الإنسان كذكرى، والذي بُيّن بجملة: (إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً) ومصداقه الواضح هو حكم الوصيّة، حيث يستطيع الإنسان أن يتصرّف في ثلث أمواله ويضعه حيث يشاء، أو يوصي به لمن يشاء.
وبهذا فإنّ الإسلام عندما وضع أساس الإرث على دعامة القرابة والرحم بدل الروابط والعلاقات السابقة، لم يقطع وشائج الصلة بين الإنسان ورفقائه الذين يعزّهم وباقي إخوته المسلمين تماماً، فالإنسان حرّ في التصرّف في ماله من ناحية الكميّة والكيفية، إلاّ أنّ هذه الحرية مشروطة بأن لا تزيد على الثلث، ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا لم يوص بشيء فإنّ كلّ أمواله تقسّم بين أقاربه وذوي رحمه طبقاً لقانون الإرث، ولا يترك له ثلث في هذه الحالة(2).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بناءً على هذا، فإنّ إستدلال بعض الفقهاء بهذا التعبير على أولوية طبقات الإرث بالنسبة إلى بعضها البعض لا يبدو صحيحاً، وربّما سبّب حرف الباء في (أولى ببعض) مثل هذا الإشتباه، فظنّوا أنّ المفضّل عليهم هنا هم البعض، في حين أنّ القرآن الكريم ذكر صريحاً أنّ المفضّل عليهم هم من المؤمنين والمهاجرين.
نعم .. إنّ تعبير (اُولو الأرحام) لا يستطيع أن يشعر بمفرده أنّ المعيار هو الرحم والقرابة، وأنّ درجة القرابة كلّما قويت وإرتفعت فستكون أحقّ بالتقدّم ـ لاحظوا ذلك ـ .
2 ـ يعتقد جمع من المفسّرين أنّ الإستثناء في جملة (إلاّ أن تفعلوا ..) إستثناء منقطع، لأنّ حكم الوصيّة غير حكم الإرث، ولكنّا نعتقد أن لا مانع من أن يكون الإستثناء هنا متّصلا، لأنّ جملة (واُولو الأرحام ...) دليل على أن الأقارب أولى من الأجانب بالنسبة إلى الأموال التي يتركها الميّت، إلاّ أن يكون قد أوصى، فإنّ الموصى له يكون حينئذ أولى من الأرحام في إطار الثلث، وهذا في الحقيقة شبيه بالإستثناءات التي وردت في آيات الإرث بصيغة (من بعد وصيّة ...).
[173]
ملاحظة
وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآية أعلاه فيما يتعلّق باُولي الأرحام، حيث فسّرت هذه الآية في بعض منها بمسألة "إرث الأموال"، كما هو المعروف بين المفسّرين، في حين فسّرت في البعض الآخر بمسألة "إرث الخلافة والحكومة" في آل النّبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
ومن جملتها ما نقرؤه في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن تفسير هذه الآية، أنّه قال: "نزلت في ولد الحسين (عليه السلام)" .. قيل: في المواريث؟ قال: "لا، نزلت في الإمرة"(1).
من البديهي أنّه ليس المراد من هذه الأحاديث نفي مسألة إرث الأموال، بل المراد لفت الإنتباه إلى أنّ للإرث معنىً واسعاً يشمل إرث الأموال وإرث الولاية والخلافة.
وليس لهذا التوارث أي وجه شبه مع مسألة توارث السلطنة في سلسلة الملوك والسلاطين، فإنّ التوارث هنا نتيجة للأهلية واللياقة، ولذلك فإنّه يشمل من بين أولاد الأئمّة من كانت له هذه الأهلية، ويشبه تماماً ما يريده إبراهيم (عليه السلام) من الله سبحانه لذريّته، فيقول الله له: إنّ الإمامة والولاية لا تنال الظالمين، بل هي خاصّة بالطاهرين (لا ينال عهدي الظالمين).
ويشبه أيضاً ما نقوله في الزيارات أمام قبور الشهداء في سبيل الله، ومن جملتها ما نقوله أمام قبر الإمام الحسين (عليه السلام): السلام عليك ياوارث آدم، ووارث نوح، ووارث إبراهيم، ووارث موسى وعيسى ومحمّد .. فإنّ هذا الإرث في الجوانب العقائدية والأخلاقية والمعنوية والروحية.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أخرج هذه الأحاديث العلاّمة السيّد هاشم البحراني في تفسير البرهان، المجلّد 3، صفحة 292 ـ 293، ومن جملتها الحديث أعلاه، والحديث (16) من سلسلة الأحاديث هذه.
[174]
الآيتان
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنّ مِيثَـقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوح وَإِبْرَهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـقاً غَلِيظاً (7)لِّيَسْئَلَ الصَّـدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً(8)
التّفسير
ميثاق الله الغليظ:
لمّا كانت الآيات السابقة قد بيّنت الصلاحيات الواسعة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)تحت عنوان (النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فإنّ هذه الآيات تبيّن واجبات النّبي (صلى الله عليه وآله) وسائر الأنبياء العظام الثقيلة العظيمة، لأنّا نعلم أنّ الصلاحيات تقترن دائماً بالمسؤوليات، وحيثما وجد "حقّ" كان إلى جانبه "تكليف" ومسؤولية، فإنّ هذين الأمرين لا يفترقان أبداً. بناءً على هذا فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) إن كان له حقّ وصلاحية واسعة، فإنّ عليه في المقابل مسؤوليات ضخمة.
تقول الآية الاُولى: (وإذا أخذنا من النّبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) وعلى هذا فإنّها تذكر أوّلا جميع الأنبياء في مسألة الميثاق، ثمّ تخصّ بالذكر منهم خمسة أنبياء هم اُولو
[175]
العزم، وعلى رأسهم نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) لعظمته وجلالته وشرفه، وبعده الأنبياء الأربعة من اُولي العزم حسب ترتيب ظهورهم، وهم: "نوح وإبراهيم وموسى وعيسى" (عليهم السلام).
وهذا يوحي بأنّ الميثاق المذكور كان ميثاقاً عامّاً أُخذ من جميع الأنبياء، وإن كان اُولو العزم متعهّدين بذلك الميثاق ومسؤولين عنه بصورة أشدّ. ذلك الميثاق الذي بُيّن بتأكيد شديد جدّاً بجملة: (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً)(1).
المهمّ أن نعلم أيّ ميثاق هذا الذي أخذ من كلّ الأنبياء؟! للمفسّرين هنا أقوال مختلفة يمكن القول أنّها جميعاً فروع مختلفة لأصل واحد، وهو تأدية مسؤولية التبليغ والرسالة والقيادة وهداية الناس في كلّ الأبعاد والمجالات.
إنّ الأنبياء كانوا مكلّفين جميعاً بدعوة كلّ البشر إلى التوحيد قبل كلّ شيء، وكانوا مكلّفين أيضاً بأن يؤيّد بعضهم بعضاً، كما أنّ الأنبياء اللاحقين يصدّقون ويؤكّدون صحّة دعوة الأنبياء السابقين. والخلاصة: أن تكون الدعوة إلى جهة واحدة، وأن يبلغ الجميع حقيقة واحدة، ويوحّدوا الاُمم تحت راية واحدة.
ويمكن ملاحظة الشاهد على هذا الكلام في سائر آيات القرآن أيضاً، فنقرأ في الآية (81) من سورة آل عمران: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).
وورد نظير هذا المعنى في الآية (187) من سورة آل عمران، حيث تقول بصراحة: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين اُوتوا الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه)وعلى هذا فإنّ الله سبحانه قد أخذ الميثاق المؤكّد من الأنبياء بأن يدعوا الناس إلى توحيد الله، وتوحيد دين الحقّ والأديان السماوية، وكذلك أخذه من علماء أهل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الميثاق ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ هو العقد المؤكّد بيمين وعهد، وبناءً على هذا فإن ذكر (غليظاً) في الآية تأكيد يضاف على هذا المعنى.
[176]
الكتاب بأن لا يقصّروا في تبيان الدين الإلهي بكلّ ما في وسعهم، وأن لا يكتموا ذلك أبداً.
وتبين الآية التالية الهدف من بعثة الأنبياء والميثاق الغليظ الذي اُخذ منهم، فتقول: (ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعدّ للكافرين عذاباً أليماً).
للمفسّرين تفسيرات كثيرة لكلمة "الصادقين"، ومن هم المقصودون بها؟ وأيّ سؤال هذا السؤال؟ إلاّ أنّ الذي يبدو منسجماً مع آيات هذه السورة وآيات القرآن الاُخرى، هو: أنّ المراد منهم المؤمنون الذين صدّقوا ادّعاءهم بالعمل، وأثبتوا صدقه بترجمته عمليّاً، وبتعبير آخر: فإنّهم خرجوا من ساحة الإختبار والإمتحان الإلهي مرفوعي الرؤوس.
والشاهد لهذا القول:
أوّلا: إنّ "الصادقين" هنا وُضعوا في مقابل الكافرين، فيستفاد هذا المعنى بوضوح من قرينة المقابلة.
ثانياً: نقرأ في الآية (23) من هذه السورة: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ثمّ تقول الآية (24) مباشرةً: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذّب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم).
ثالثاً: عرّفت الآية (15) من سورة الحجرات، والآية (8) من سورة الحشر (الصادقين) جيّداً، ففي آية الحجرات نقرأ: (إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله اُولئك هم الصادقون).
وتقول آية الحشر: (للفقراء المهاجرين الذين اُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله اُولئك هم الصادقون).
وبهذا يتّضح أنّ المراد من الصادقين: هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في ميادين حماية دين الله والجهاد والثبات والصمود أمام المشاكل وبذل الأرواح
[177]
والأموال(1).
أمّا ما هو المراد من سؤال الصادقين عن صدقهم؟ فيتّضح بملاحظة ما قلناه آنفاً أنّ المراد هو: هل يُثبتون إخلاص نيّتهم في أعمالهم ويصدقون في إدّعائهم .. في الإنفاق والجهاد والثبات أمام الصعاب والمشاكل، وخاصّة صعوبات ميدان الحرب، أم لا؟
وأين سأل هذا السؤال؟ ظاهر الآية أنّه في القيامة، في محكمة العدل الإلهيّة، وآيات القرآن العديدة أيضاً تخبر عن وقوع مثل هذا السؤال في القيامة بصورة عامّة.
إلاّ أنّه يحتمل أيضاً أن يكون لهذا السؤال جانب عملي ويقع في الدنيا، حيث يخضع كلّ من يدّعي الإيمان للسؤال عن بعثة الأنبياء، وعمله هو الجواب على هذا السؤال، لأنّه سيقرّر فيما إذا كان صادقاً في إدّعائه.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ احتمل جمع من المفسّرين إحتمالا آخر في معنى هذه الآية، وهو أنّ المراد من "الصادقين" هنا هم الأنبياء، حيث يسألون يوم القيامة عن مدى قيامهم ووفائهم بعهدهم وميثاقهم؟ إلاّ أنّ الشواهد الثلاثة التي ذكرناها أعلاه تنفي هذا التّفسير.
واحتمل أيضاً أن يكون المراد أعمّ من الأنبياء والمؤمنين، إلاّ أنّ التّفسير الذي ذكر أعلاه أكثر إنسجاماً مع آيات هذه السورة وسائر آيات القرآن.
[178]
الآيات
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً(9) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاَْبْصَـرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا(10) هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيداً (11)
التّفسير
الإمتحان الإلهي العظيم في مواجهة الأحزاب:
تتحدّث هذه الآيات والآيات الاُخرى التالية، والتي تشكّل بمجموعها سبع عشرة آية، عن أعسر الإمتحانات والإختبارات الإلهية للمؤمنين والمنافقين، وإختبار مدى صدقهم في العمل، الذي بحث في الآيات السابقة.
إنّ هذه الآيات تبحث أحد أهمّ حوادث تاريخ الإسلام، أي عن "معركة الأحزاب"، تلك المعركة التي كانت في الواقع نقطة إنعطاف في تأريخ الإسلام، وقلبت موازين القوى بين الإسلام والكفر لصالح المسلمين، وكان ذلك النصر مفتاحاً للإنتصارات المستقبلية العظيمة، فقد إنقصم ظهر الأعداء في هذه الغزوة،
[179]
ولم يقدروا بعد ذلك على القيام بأيّ عمل مهمّ.
إنّ حرب الأحزاب ـ وكما يدلّ عليها إسمها ـ كانت مجابهة شاملة من قبل عامّة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وإنتشار هذا الدين.
لقد اُشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود "بني النظير" الذين جاؤوا إلى مكّة وأغروا "قريش" بحرب النّبي (صلى الله عليه وآله)، ووعدوهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتّى النفس الأخير، ثمّ أتوا قبيلة "غطفان" وهيّئوهم لهذا الأمر أيضاً.
ثمّ دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة "بني أسد" و "بني سليم"، ولمّا كان الجميع قد أحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد، ويقتلوا النّبي (صلى الله عليه وآله)، ويقضوا على المسلمين، ويغيروا على المدينة ويطفئوا مشعل الإسلام ونوره.
أمّا المسلمون الذين رأوا أنفسهم أمام هذا الجحفل الجرّار، فإنّهم إجتمعوا للتشاور بأمر النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقبل كلّ شيء أخذوا برأي "سلمان الفارسي" وحفروا حول المدينة خندقاً حتّى لا يستطيع العدو عبوره بسهولة ويهجم على المدينة، ولهذا كان أحد أسماء هذه المعركة "معركة الخندق".
لقد مرّت لحظات صعبة وخطرة جدّاً على المسلمين، وكانت القلوب قد بلغت الحناجر، وكان المنافقون من جهة اُخرى قد شمّروا عن السواعد وجدّوا في تآمرهم على الإسلام، وكذلك ضخامة عدد الأعداء وقلّة عدد المسلمين ـ (ذكروا أنّ عدد الكفّار كان عشرة آلاف، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف) وإستعداد الكفّار من ناحية المعدّات الحربية وتهيئة كافّة المستلزمات، كلّ ذلك قد رسم صورة كالحة للمصير المجهول في أعين المسلمين.
إلاّ أنّ الله سبحانه أراد أن ينزل هنا آخر ضربة بالكفر، ويميّز صفّ المنافقين عن صفوف المسلمين، ويفضح المتآمرين، ويضع المسلمين الحقيقيين في موضع
[180]
الإختبار العسير.
وأخيراً إنتهت هذه الغزوة بإنتصار المسلمين ـ كما سيأتي تفصيل ذلك ـ فقد هبّت بأمر الله عاصفة هوجاًء إقتلعت خيام الكفّار وأتلفت وسائلهم، وألقت في قلوبهم الرعب الشديد، وأرسل سبحانه قوى الملائكة الغيبية لعون المسلمين.
وقد اُضيف إلى ذلك تجلّي قدرة وعظمة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أمام عمرو بن عبد ودّ، فلاذ المشركون بالفرار من دون القدرة على القيام بأيّ عمل.
نزلت الآيات السبع عشرة من هذه السورة، وإستطاعت بتحليلاتها الدقيقة والفاضحة أن تستفيد من هذه الحادثة المهمّة من أجل إنتصار الإسلام النهائي وقمع المنافقين بأفضل وجه.
كان هذا عرضاً لمعركة الأحزاب التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة(1)، ومن هنا نتوجّه إلى تفسير الآيات ونؤجّل سائر جزئيات هذه الغزوة إلى بحث الملاحظات.
يلخّص القرآن الكريم هذه الحادثة في آية واحدة أوّلا، ثمّ يتناول تبيان خصوصياتها في الستّ عشرة آية الاُخرى، فيقول: (ياأيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود (كثيرة جدّاً) فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً) ويعلم أعمال كلّ جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير.
وهنا جملة مطالب تستحقّ الدقّة:
1 ـ إنّ تعبير (اذكروا) يوحي بأنّ هذه الآيات نزلت بعد إنتهاء الحرب ومضي فترة من الزمن أتاحت للمسلمين أن يحلّلوا في عقولهم وأفكارهم ما كانوا قد رأوه ليكون التأثير أعمق.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ما ذكرناه أعلاه كان إختصاراً لبحث مفصّل أورده المؤرخّون، ومن جملتهم ابن الأثير في الكامل.
[181]
2 ـ إنّ التعبير بـ "الجنود" إشارة إلى مختلف الأحزاب الجاهلية كقريش وغطفان وبني سليم وبني أسد وبني فزارة وبني أشجع وبني مرّة، وكذلك إلى طائفة اليهود في داخل المدينة.
3 ـ إنّ المراد من (جنوداً لم تروها) والتي نزلت لنصرة المسلمين، هو "الملائكة" التي ورد نصرها للمؤمنين في غزوة بدر في القرآن المجيد بصراحة، ولكن كما بيّنا في ذيل الآية (9) من سورة الأنفال، فإنّا لا نمتلك الدليل على أنّ هذه الجنود الإلهية اللامرئية نزلت إلى الميدان وحاربت، بل إنّ القرائن الموجودة تبيّن أنّ الملائكة نزلت لرفع معنويات المؤمنين وشدّ عزيمتهم وإثارة حماسهم(1).
وتقول الآية التالية تجسيداً للوضع المضطرب في تلك المعركة، وقوّة الأعداء الحربية الرهيبة، والقلق الشديد لكثير من المسلمين: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا).
يعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة (فوق) في هذه الآية إشارة إلى الجانب الشرقي للمدينة، وهو المكان الذي دخلت منه قبيلة غطفان، و (أسفل) إشارة إلى غربها حيث دخلت منه قريش ومن معها.
إذا لاحظنا أنّ "مكّة" تقع في جنوب المدينة تماماً، فمن الطبيعي أنّ قبائل المشركين أتت من الجنوب، لكن ربّما كان وضع الطريق ومدخل المدينة في حالة بحيث إنّ هؤلاء قد داروا قليلا حول المدينة ودخلوا من الغرب. وعلى كلّ حال فإنّ الجملة أعلاه إشارة إلى محاصرة هذه المدينة من قبل مختلف أعداء الإسلام.
إنّ جملة (زاغت الأبصار) ـ بملاحظة أن "زاغت" من مادّة الزيغ، أي الميل إلى جانب واحد ـ إشارة إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان عند الخوف والإضطراب، حيث تميل عيناه إلى جهة واحدة، وتتسمّر وتثبت على نقطة معيّنة،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لمزيد الإيضاح في هذا الباب راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (9) من سورة الأنفال.
[182]
ويبقى متحيّراً حينذاك.
وجملة (بلغت القلوب الحناجر) كناية جميلة عن حالة القلق والإضطراب، وإلاّ فإنّ القلب المادّي لا يتحرّك من مكانه مطلقاً، ولا يصل في أي وقت إلى الحنجرة.
وجملة (وتظنّون بالله الظنونا) إشارة إلى أنّ بعض المسلمين كانوا قد خطرت على أفكارهم ظنون خاطئة، لأنّهم لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى مرحلة الكمال في الإيمان، وهؤلاء هم الذين تقول عنهم الآية التالية: إنّهم زلزلوا زلزالا شديداً.
ربّما كان بعضهم يفكّر ويظنّ بأنّنا سننهزم في نهاية المطاف، وينتصر جيش العدوّ بهذه القوّة والعظمة، وقد حانت نهاية عمر الإسلام، وأنّ وعود النّبي (صلى الله عليه وآله)بالنصر سوف لا تتحقّق مطلقاً.
من الطبيعي أنّ هذه الأفكار لم تكن عقيدة راسخة، بل كانت وساوس حدثت في أعماق قلوب البعض، وهذا شبيه بما ذكره القرآن في معركة اُحد، حيث يقول: (وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية).(1)
ولا شكّ أنّ المخاطب في هذه الآية محل البحث هم المؤمنون، وجملة (ياأيّها الذين آمنوا) التي وردت في الآية السابقة دليل واضح على هذا المعنى، وربّما لم يلتفت الذين اعتبروا المنافقين هم المخاطبون هنا إلى هذه المسألة، أو لعلّهم ظنّوا أنّ مثل هذه الظنون لا تتناسب مع الإيمان والإسلام، في حين أنّ ظهور مثل هذه الأفكار لا يتعدّى كونها وسوسة شيطانية، خاصّة في تلك الظروف الصعبة المضطربة جدّاً، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لضعفاء الإيمان، والحديثي العهد بالإسلام(2).
هنا كان الإمتحان الإلهي قد بلغ أشدّه كما تقول الآية التالية: (هنالك ابتلي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ آل عمران، الآية 154.
2 ـ فسّر جمع من المفسّرين (الظنون) هنا بالمعنى الأعمّ من الظنّ السيء والحسن، إلاّ أنّ القرائن الموجودة في هذه الآية والآية التالية تبيّن أنّ المراد من الظنون هنا السيّئة منها.
[183]
المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً).
من الطبيعي أنّ الإنسان إذا اُحيط بالعواصف الفكرية، فإنّ جسمه لا يبقى بمعزل عن هذا الإبتلاء، بل ستظهر عليه آثار الإضطراب والتزلزل، وكثيراً ما نرى أنّ الأشخاص المضطربين فكرياً لا يستطيعون الإستقرار في مجلسهم وتنعكس وبشكل واضح إضطراباتهم الفكرية من خلال حركاتهم وصفقهم يداً بيد.
وأحد شواهد هذا القلق والإضطراب الشديد ما نقلوه من أنّ خمسة من أبطال العرب المعروفين ـ وكان على رأسهم "عمرو بن عبد ودّ" ـ نزلوا إلى الميدان بغطرسة متميّزة وإعتداد بالنفس كبير، فقالوا: هل من مبارز؟ سيّما عمرو بن عبد ودّ الذي كان يرتجز ويسخر من المسلمين ويستهزىء بالجنّة والآخرة، وكان يقول: أيّها المسلمون ألم تزعموا أنّ قتلاكم في الجنّة؟ فهل فيكم من يشتاق إلى الجنّة؟ إلاّ أنّ السكوت ساد على معسكر المسلمين أمام سخريته وإستهزائه ودعوته للبراز، ولم يجرؤ أحد على مناجزته، إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هبّ لمبارزته، وحقّق نصراً كبيراً للمسلمين، وسيأتي ذلك مفصّلا في البحوث.
نعم .. إنّ الحديد يزداد صلابة وجودة إذا عرض على النار، والمسلمون الأوائل كان يجب أن يوضعوا في بوتقة الحوادث الصعبة المرّة، وخاصّة في غزوات كغزوة الأحزاب، ليصبحوا أشدّ مقاومة وصلابة.
* * *
[184]
الآيات
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً(12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُم يَـأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَة إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً(13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لاََتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً(14) وَلَقَدْ كَانُوا عَـهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاَْدْبَرَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولا(15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلا(16) قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّن اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً(17)
التّفسير
المنافقون في عرصة الأحزاب:
فار تنوّر إمتحان حرب الأحزاب، وابتلي الجميع بهذا الإمتحان الكبير العسير،
[185]
ومن الواضح أنّ الناس الذين يقفون ظاهراً في صفّ واحد في الظروف العادية، ينقسمون إلى صفوف مختلفة في مثل هذه الموارد المضطربة الصعبة، وهنا أيضاً إنقسم المسلمون إلى فئات مختلفة: فمنهم المؤمنون الحقيقيون، وفئة خواصّ المؤمنين، وجماعة ضعاف الإيمان، وفرقة المنافقين، وجمع المنافقين العنودين المتعصّبين، وبعضهم كان يفكّر في بيته وحياته والفرار، وجماعة كانوا يسعون إلى صرف الآخرين عن الجهاد، والبعض الآخر كان يسعى إلى تحكيم أواصر الودّ مع المنافقين.
والخلاصة: فإنّ كلّ واحد قد أظهر أسراره الباطنية وما ينطوي عليه في هذه القيامة العجيبة، وفي يوم البروز هذا.
كان الكلام في الآيات السابقة عن جماعة المسلمين ضعفاء الإيمان، والذين وقعوا تحت تأثير الوساوس الشيطانية والظنون السيّئة، وتعكس اُولى الآيات مورد البحث مقالة المنافقين ومرضى القلوب، فتقول: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً).
جاء في تأريخ حرب الأحزاب: أنّه خلال حفر الخندق، وبينما كان المسلمون مشغولين بحفر من الخندق، إصطدموا بقطعة حجر كبيرة صلدة لم يؤثّر فيها أي معول، فأخبروا النّبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، فأتى بنفسه إلى الخندق ووقف إلى جنب الصخرة، وأخذ المعول، فضرب الحجر أوّل ضربة قويّة فانصدع قسم منه وسطع منه برق، فكبّر النّبي (صلى الله عليه وآله) وكبّر المسلمون.
ثمّ ضرب الحجر ضربة اُخرى فتهشّم قسم آخر وظهر منها برق، فكبّر النّبي وكبّر المسلمون، وأخيراً ضرب النّبي ضربته الثالثة، فتحطّم الباقي من الحجر وسطع برق، فكبّر النّبي (صلى الله عليه وآله) ورفع المسلمون أصواتهم بالتكبير، فسأل سلمان النّبي عن ذلك فقال (صلى الله عليه وآله) "أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاُولى، وأخبرني جبرئيل أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثّانية القصور الحمر من أرض الشام
[186]
والروم، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أنّ اُمّتي ظاهرة عليها، فأبشروا" فاستبشر المسلمون.
فنظر المنافقون إلى بعضهم وقالوا: ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل ويخبركم أنّه ينظر من يثرب إلى الحيرة ومدائن كسرى وأنّها تفتح لكم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فأنزل الله: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غروراً)(1).
والحقّ أنّ مثل هذه الأخبار والبشارات إعتبرها المنافقون في ذلك اليوم خدعة وغروراً، إلاّ أنّ عين النّبي (صلى الله عليه وآله) الملكوتية كانت قادرة على رؤية فتح أبواب قصور ملوك ايران والروم واليمن من خلال الشرر المتطاير من ذلك الحجر، ويبشّر هذه الاُمّة المضحيّة التي حملت القلوب على الأكفّ، ويزيح الستار عن أسرار المستقبل.
وربّما لا نحتاج إلى التذكير بأنّ المراد من (الذين في قلوبهم مرض) هم المنافقون، وذكر هذه الجملة توضيح في الواقع لكلمة "المنافقين" التي وردت من قبل، وأيّ مرض أسوأ وأضرّ من مرض النفاق؟! لأنّ الإنسان السليم الذي له فطرة إلهيّة سليمة ليس له إلاّ وجه واحد، أمّا اُولئك الذين لهم وجهان أو وجوه متلوّنة عديدة فإنّهم مرضى، حيث إنّهم مبتلون دائماً بالإضطراب والتناقض في الأقوال والأفعال.
والشاهد لهذا الأمر ما ورد في بداية سورة البقرة في وصف المنافقين، حيث تقول: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً).(2)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكامل لابن الأثير، الجزء 2، صفحة 179. وورد هذا الحادث بتفاوت يسير في سيرة ابن هشام، وهو أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله)قال: أمّا الاُولى فإنّ الله فتح علي بها اليمن، وأمّا الثّانية فإنّ الله فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق". وهذا الترتيب ينسجم مع التسلسل التاريخي لفتح هذه المناطق الثلاث.
2 ـ البقرة، الآية 10.
[187]
ثمّ تتطرّق الآية الاُخرى إلى بيان حال طائفة اُخرى من هؤلاء المنافقين مرضى القلوب، والذين كانوا أخبث وأفسق من الباقين، فمن جانب تقول الآية عنهم: واذكر إذ قالت مجموعة منهم للأنصار: ياأهل المدينة (يثرب) ليس لكم في هذا المكان موقع فلا تتوقّفوا هنا وارجعوا إلى بيوتكم: (وإذ قالت طائفة منهم ياأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).
وخلاصة الأمر أنّكم لا تقدرون على عمل أيّ شيء في مقابل جحفل الأعداء اللجب، فانسحبوا من المعركة ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وبنسائكم وأطفالكم إلى ذلّ الأسر، وبذلك كانوا يريدون أن يعزلوا الأنصار عن جيش الإسلام.
ومن جانب آخر: (ويستأذن فريق منهم النّبي يقولون إنّ بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلاّ فراراً).
كلمة (عورة) مأخوذة من مادّة (عار)، وتقال للشيء الذي يوجب ظهوره العار، وتقال أيضاً للشقوق والثقوب التي تظهر في اللباس أو جدران البيت، وكذلك للثغور الضعيفة والنقاط الحدودية التي يمكن إختراقها وتدميرها، وعلى ما يخافه الإنسان ويحذره، والمراد هنا البيوت التي ليس لها جدار مطمئن وباب محكم، ويخشى عليها من هجوم العدوّ.
والمنافقين بتقديمهم هذه الأعذار كانوا يريدون الفرار من ساحة الحرب وإعتزال القتال، واللجوء إلى بيوتهم.
وجاء في رواية: أنّ طائفة "بني حارثة" أرسلوا رسولا منهم إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)وقالوا: إنّ بيوتنا غير مأمونة، وليس هناك بيت من بيوت الأنصار يشبه بيوتنا، ولا مانع بيننا وبين "غطفان" الذين هجموا من شرق المدينة، فائذن لنا أن نرجع إلى بيوتنا وندافع عن نسائنا وأولادنا، فأذن لهم النّبي.
فبلغ ذلك "سعد بن معاذ" كبير الأنصار، فقال للنبي (صلى الله عليه وآله): لا تأذن لهم، فإنّي اُقسم بالله أنّ هؤلاء القوم تعذّروا بذلك كلّما عرضت لنا مشكلة، إنّهم يكذبون،
[188]
فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يرجعوا.
و "يثرب" هو الإسم القديم للمدينة قبل أن يهاجر إليها النّبي (صلى الله عليه وآله)، وبعد هجرته أصبح إسمها تدريجياً "مدينة الرّسول"، ومخفّفها المدينة.
ولهذه المدينة أسماء عديدة، ذكر لها الشريف المرتضى (رحمة الله عليه) أحد عشر إسماً آخر إضافةً إلى هذين الإسمين، ومن جملتها: طيبة، وطابة، وسكينة، والمحبوبة، والمرحومة، والقاصمة. ويعتقد البعض أنّ "يثرب" اسم لأرض هذه المدينة(1).
وجاء في بعض الروايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: "لا تسمّوا هذه المدينة يثرب" وربّما كان ذلك بسبب أنّ يثرب في الأصل من مادّة "ثرب" (على وزن حرب) أي اللوم، ولم يكن النّبي (صلى الله عليه وآله) ليرضى مثل هذا الإسم لهذه المدينة المباركة.
وعلى كلّ حال فإنّ خطاب المنافقين لأهل المدينة بـ (ياأهل يثرب) لم يكن خطاباً عشوائياً، وربّما كان الباعث لخطابهم بهذا الإسم أنّهم كانوا يعلمون أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يشمئز من هذا الإسم، أو أنّهم كانوا يريدون إعلان عدم إعترافهم بالإسلام واسم مدينة الرّسول، أو أن يعودوا بأهلها إلى مرحلة الجاهلية!
وتشير الآية التالية إلى ضعف إيمان هذه الفئة، فتقول: إنّ هؤلاء بلغ بهم ضعف الإيمان إلى درجة أنّ جيش الكفر لو دخل المدينة من كلّ جانب وصوب، واستولى عليها، ثمّ دعاهم إلى الشرك والكفر فسوف يقبلون ذلك ويسارعون إليه: (ولو دخلت علهيم من أقطارها ثمّ سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبّثوا بها إلاّ يسيراً).
من المعلوم أنّ اُناساً بهذا الضعف والتزلزل وعدم الثبات غير مستعدّين للقاء العدوّ ومحاربته، ولا هم متأهّبون لتقبّل الشهادة في سبيل الله، بل يستسلمون بسرعة ويغيّرون مسيرهم، وبناءً على هذا، فإنّ المراد من كلمة "الفتنة" هنا هي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 346.
[189]
الشرك والكفر، كما جاء في آيات القرآن الاُخرى، كالآية (193) من سورة البقرة: غير أنّ بعض المفسرين احتملوا أن يكون المراد من "الفتنة" هنا: الحرب ضدّ المسلمين، بحيث إنّها لو عرضت على هؤلاء المنافقين لأجابوا إليها بسرعة، ويعينوا أصحاب الفتنة! إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتلاءم مع ظاهر جملة: (ولو دخلت عليهم من أقطارها) وربّما إختار أكثر المفسّرين المعنى الأوّل لهذا السبب.
ثمّ يستدعي القرآن الكريم فئة المنافقين إلى المحاكمة، فيقول: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا) وعليه فإنّهم مسؤولون أمام تعهّدهم.
وقال البعض: أنّ المراد من هذا العهد والميثاق هو ذلك العهد الذي عاهد "بنو حارثة" عليه الله ورسوله يوم اُحد حينما قرّروا الرجوع عن ميدان القتال ثمّ ندموا بعد ذلك، فقطعوا العهد على أنفسهم أن لا يرتكبوا مثل هذه الاُمور، إلاّ أنّهم فكّروا مرّة ثانية في معركة الأحزاب في نقض عهدهم وميثاقهم(1).
ويعتقد البعض أنّه إشارة إلى العهد الذي عاهدوا به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة بدر، أو في العقبة قبل هجرة النّبي(2).
ولكن يبدو أنّ للآية أعلاه مفهوماً واسعاً يشمل هذه العهود والمواثيق، وكلّ عهودهم الاُخرى.
إنّ كلّ من يؤمن ويبايع النّبي (صلى الله عليه وآله) يعاهده على أن يدافع عن الإسلام والقرآن ولو كلّفه ذلك حياته.
والتأكيد على العهد والميثاق هنا من أجل أنّه حتّى عرب الجاهلية كانوا يحترمون مسألة العهد، فكيف يمكن أن ينقض إنسان عهده ويضعه تحت قدميه بعد إدّعائه الإسلام؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي، وتفسير في ظلال القرآن، ذيل الآيات مورد البحث.
2 ـ نقل هذا القول الآلوسي في روح المعاني.
[190]
وبعد أن أفشى الله سبحانه نيّة المنافقين وبيّن أنّ مرادهم لم يكن حفظ بيوتهم، بل الفرار من ميدان الحرب، يجيبهم بأمرين:
الأوّل: أنّه يقول للنّبي (صلى الله عليه وآله): (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتّعون إلاّ قليلا).
فافرضوا أنّكم إستطعتم الفرار، فلا يعدو الأمر حالين: إمّا أن يكون أجلكم الحتميّ وموتكم قد حان، فأينما تكونوا يأخذ الموت بتلابيبكم، حتّى وإن كنتم في بيوتكم وبين زوجاتكم وأولادكم.
وإن لم يكن أجلكم قد حان فستعمّرون في هذه الدنيا أيّاماً قليلة اُخرى تكون مقترنة بالذلّ والهوان، وستصبحون تحت رحمة الأعداء وفي قبضتهم، وبعدها ستلقون العذاب الإلهي.
إنّ هذا البيان يشبه ما ورد في غزوة اُحد، حيث أشار القرآن إلى فئة اُخرى من المنافقين المثبّطين للعزائم، والمفرّقين لوحدة الصفّ: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).(1)
والثّاني: ألم تعلموا أنّ كلّ مصائركم بيد الله، ولن تقدروا أن تفرّوا من حدود حكومة الله وقدرته ومشيئته: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً).
بناءً على هذا، فإنّكم إذا علمتم أنّ كلّ مقدّراتكم بيده سبحانه، فأطيعوا أمره في الجهاد الذي هو أساس العزّة والكرامة والشموخ في الدنيا وعند الله، وحتّى إذا تقرّر أن تنالوا وسام الشهادة فعليكم أن تستقبلوا ذلك برحابة صدر.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ آل عمران ـ 154.
[191]
الآيات
قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لاِِخْوَنِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلا(18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَة حِدَاد أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَـلَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً(19) يَحْسَبُونَ الاَْحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الاَْحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِى الاَْعْرَابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَـتَلُوا إِلاَّ قَلِيلا(20)
التّفسير
فئة المعوّقين:
أشارت هذه الآيات إلى وضع فئة اُخرى من المنافقين الذين إعتزلوا حرب الأحزاب، وكانوا يدعون الآخرين أيضاً إلى إعتزال القتال، فقالت: (قد يعلم الله المعوّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتون البأس إلاّ قليلا).
[192]
"المعوّقين" من مادّة (عوق) على زنة (شوق) تعني منع الشيء ومحاولة صرف الآخرين عنه، و "البأس" في الأصل يعني (الشدّة)، والمراد منه هنا الحرب.
ويحتمل أن تكون الآية أعلاه مشيرة إلى فئتين: فئة من المنافقين الذين كانوا بين صفوف المسلمين ـ وتعبير (منكم) شاهد على هذا ـ وكانوا يسعون إلى صرف ضعاف الإيمان من المسلمين عن الحرب، وهؤلاء هم "المعوّقون".
والفئة الاُخرى هم (المنافقون أو اليهود) الذين تنحّوا جانباً، وعندما كانوا يلتقون بجنود النّبي (صلى الله عليه وآله) كانوا يقولون: هلمّ إلينا وتنحّوا عن القتال، وهؤلاء هم الذين أشارت إليهم الجملة الثّانية.
ويحتمل أن تكون هذه الآية بياناً لحالتين مختلفتين لفئة واحدة، وهم الذين يعوّقون الناس عن الحرب عندما يكونون بينهم، وعندما يعتزلونهم يدعون الناس إليهم.
ونقرأ في رواية: أنّ أحد أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله) جاء من ميدان حرب الأحزاب إلى داخل المدينة لحاجة، فرأى أخاه قد وضع أمامه الخبز واللحم المشوي والشراب، فقال له: أنت في هذه الحال تلتذّ ورسول الله مشغول بالحرب، وهو بين الأسنّة والسيوف؟! فقال أخوه: ياأحمق! ابق معنا وشاركنا مجلسنا، فوالذي يحلف به محمّد إنّه لن يرجع من هذه المعركة! وسوف لن يدع هذا الجيش العظيم الذي إجتمع عليه محمّداً وأصحابه أحياء!
فقال له الأوّل: أنت تكذب، واُقسم بالله لأذهبنّ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره بما قلت، فجاء إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) وأخبره بما جرى، فنزلت الآية.
وبناءً على سبب النّزول هذا، فإنّ كلمة (إخوانهم) وردت هنا بمعنى الإخوة الحقيقيين، أو بمعنى أصحاب المذهب والمسلك الواحد، كما سمّت الآية (27) سورة الإسراء المبذّرين إخوان الشياطين: (إنّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين).
وتضيف الآية التالية: إنّ الدافع لكلّ تلك العراقيل التي وضعوها أمامكم هو
[193]
أنّهم بخلاء: (أشحّة عليكم)(1) لا في بذل الأرواح في ساحة الحرب، بل هم بخلاء حتّى في المعونات الماديّة لتهيئة مستلزمات الحرب، وفي المعونة البدنية في حفر الخندق، بل ويبخلون حتّى في المساعدة الفكرية، بخلا يقترن بالحرص المتزايد يومياً!
وبعد تبيان بخل هؤلاء وإمتناعهم عن أيّ نوع من المساعدة والإيثار، تتطرّق الآية إلى بيان صفات اُخرى لهم، والتي لها صفة العموم في كلّ المنافقين، وفي كلّ العصور والقرون، فتقول: (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت).
فلأنّهم لما لم يذوقوا طعم الإيمان الحقيقي، ولم يستندوا إلى عماد قويّ في الحياة، فإنّهم يفقدون السيطرة على أنفسهم تماماً عندما يواجهون حادثاً صعباً ومأزقاً حرجاً، وكأنّهم يواجهون الموت.
ثمّ تضيف الآية: (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحّة على الخير)فيأتون إليكم كأنّهم هم الفاتحون الأصليون والمتحمّلون أعباء الحرب، فيعربدون ويطلبون سهمهم من الغنائم، وهم كانوا أبخل من الجميع في المشاركة في الحرب والثبات فيها.
"سلقوكم" من مادّة (سَلْق)، وهي في الأصل بمعنى فتح الشيء بعصبية وغضب، سواء كان هذا الفتح باليد أو اللسان، وهذا التعبير يستعمل في شأن من يطلب الشيء بالزجر واُسلوب الأمر. و "الألسنة الحداد" تعني الألسنة الجارحة المؤذية، وهي هنا كناية عن الخشونة في الكلام.
وتشير الآية في النهاية إلى آخر صفة لهؤلاء، والتي هي في الواقع أساس كلّ شقائهم وتعاستهم، فقالت: (اُولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم) لأنّها لم تكن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "أشحّة" جمع شحيح، من مادّة (الشحّ)، أي البخل المقترن بالحرص، ومحلّ الكلمة من الإعراب هنا برأي أكثر المفسّرين (حال)، لكن ذلك لا ينافي أن تكون حالا في مقام بيان العلّة. تأمّلوا ذلك.
[194]
منبعثة عن الإخلاص والدافع الديني الإلهي: (وكان ذلك على الله يسيراً).
وممّا مرّ نخلص إلى هذه النتيجة، وهي: أنّ المعوّقين كانوا منافقين يتميّزون بالصفات التالية:
1 ـ أنّهم لم يكونوا أهل حرب أبداً، إلاّ بنسبة قليلة جدّاً.
2 ـ لم يكونوا من أهل التضحية والإيثار سواء بالمال والنفس، ولم يكونوا يتحمّلون أقلّ المصاعب والمتاعب.
3 ـ كانوا يفقدون توازنهم وشخصيتهم في اللحظات الحرجة العاصفة من شدّة الخوف.
4 ـ يظنّون أنّهم سبب كلّ الإنتصارات، ولهم كلّ الفخر عند الإنتصار.
5 ـ أنّهم كانوا اُناساً بلا إيمان، ولم يكن لأعمالهم أيّة قيمة عند الله تعالى.
وهذه الصفات هي التي تعرفنا بالمنافقين في كلّ عصر وزمان، وفي كلّ مجتمع وفئة.
وهذا الوصف الدقيق الذي وصفهم القرآن به يمكن من خلاله معرفة من يشاركهم في الفكر والسلوك، وكم نرى باُمّ أعيننا في عصرنا من أمثالهم!!
وتجسّد الآية التالية بتصوير أبلغ جبن وخوف هذه الفئة، فتقول: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) من شدّة خوفهم ورعبهم، فقد خيّم عليهم كابوس مخيف، فكأنّ جنود الكفر يمرّون دائماً أمام أعينهم وقد سلّوا السيوف ومالوا عليهم بالرماح!
إنّ هؤلاء المحاربين الجبناء، والمنافقين خائري القلوب والقوى يخافون حتّى من ظلالهم، وينطوون على أنفسهم من الخوف لدى سماع صهيل الخيل ورغاء البعير، ظنّاً أنّ جيوش الأحزاب قد عادت!
ثمّ تضيف الآية: (وإن يأت الأحزاب يودّون لو أنّهم بادون في الأعراب) أي منتشرون في الصحراء بين أعراب البادية، فيختفون هناك ويتتبّعون أخباركم و
[195]
(يسألون عن أنبائكم) فيسألون لحظة بلحظة من كلّ مسافر آخر الأخبار لئلاّ تكون الأحزاب قد إقتربت منهم، وهم مع ذلك يمنّون عليكم بأنّهم كانوا يتابعون أخباركم دائماً!!
وتضيف الآية في آخر جملة: وعلى فرض أنّهم لم ينهزموا ويفرّوا من الميدان، بل بقوا معكم: (ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلاّ قليلا).
فلا تحزنوا وتقلقوا لذهابهم، ولا تفرحوا بوجودهم بينكم، فإنّهم اُناس لا قيمة لهم ولا صفة تحمد، وعدمهم أفضل من وجودهم!
وحتّى هذا القدر المختصر من العمل لم يكن لله أيضاً، بل هو نتيجة الخوف من ملامة وتقريع الناس، وللتظاهر والرياء، لأنّه لو كان لله لكانوا يقفون ويثبتون في ساحة الحرب ما دام فيهم عرق ينبض.
* * *
[196]
الآيات
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً(21) وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الاَْحْزَابَ قَالُوا هَـذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَـناً وَتَسْلِيماً(22) مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا(23) لِّيَجْزِىَ اللهُ الصَّـدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَـفِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (24)وَرَدَّ اللهُ الَّذِين كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً(25)
التّفسير
دور المؤمنين المخلصين في معركة الأحزاب:
يستمرّ الكلام إلى الآن عن الفئات المختلفة ومخطّطاتهم وأدوارهم في غزوة الأحزاب، وقد تقدّم الكلام عن ضعفاء الإيمان والمنافقين ورؤوس الكفر والنفاق
[197]
والمعوّقين عن الجهاد.
ويتحدّث القرآن المجيد في نهاية المطاف عن المؤمنين الحقيقيين، ومعنوياتهم العالية ورجولتهم وثباتهم وسائر خصائصهم في الجهاد الكبير.
ويبدأ مقدّمة هذا البحث بالحديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حيث كان إمامهم وقدوتهم، فيقول: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً).
فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) خير نموذج لكم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كلّ مجالات الحياة، فإنّ كلاًّ من معنوياته العالية، وصبره وإستقامته وصموده، وذكائه ودرايته، وإخلاصه وتوجّهه إلى الله، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل، نموذج يحتذي به كلّ المسلمين.
إنّ هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلا عندما تحيط بسفينته أشدّ العواصف، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة، فهو ربّان السفينة، ومرساها المطمئن الثابت، وهو مصباح الهداية، ومبعث الراحة والهدوء والإطمئنان الروحي لركابها.
إنّه يأخذ المعول بيده ليحفر الخندق مع بقيّة المؤمنين، فيجمع ترابه بمسحاة ويخرجه بوعاء معه، ويمزح مع أصحابه لحفظ معنوياتهم والتخفيف عنهم، ويرغّبهم في إنشاد الشعر الحماسي لإلهاب مشاعرهم وتقوية قلوبهم، ويدفعهم دائماً نحو ذكر الله تعالى ويبشّرهم بالمستقبل الزاهر والفتوحات العظيمة.
يحذّرهم من مؤامرات المنافقين، ويمنحهم الوعي والإستعداد اللازم.
ولا يغفل لحظة عن التجهيز والتسلّح الحربي الصحيح، وإنتخاب أفضل الأساليب العسكرية، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن إكتشاف الطرق المختلفة التي تؤدّي إلى بثّ التفرقة وإيجاد التصدّع في صفوف الأعداء.
نعم .. إنّه أسمى مقتدى، وأحسن اُسوة للمؤمنين في هذا الميدان، وفي كلّ
[198]
الميادين.
"الاُسوة" تعني في الأصل الحالة التي يتلبّسها الإنسان لدى اتّباعه لآخر، وبتعبير آخر: هي التأسّي والإقتداء، وبناءً على هذا فإنّ لها معنى المصدر لا الصفة، ومعنى جملة: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة) هو أنّ لكم في النّبي (صلى الله عليه وآله)تأسّياً وإقتداءً جيّداً، فإنّكم تستطيعون بالإقتداء به واتباعه أن تصلحوا اُموركم وتسيروا على الصراط المستقيم.
والطريف أنّ القرآن الكريم يعتبر هذه الاُسوة الحسنة في الآية أعلاه مختّصة بمن لهم ثلاث خصائص: الثقة بالله، والإيمان بالمعاد، وأنّهم يذكرون الله كثيراً.
إنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد هو سبب وباعث هذه الحركة في الحقيقة، وذكر الله يعمل على إستمراره، إذ لا شكّ أنّ من لم يمتليء قلبه بهكذا إيمان لا يقدر أن يضع قدمه موضع قدم النّبي، وإذا لم يُدم ذكر الله ويعمّر قلبه به أثناء إستمراره في هذا الطريق، ويبعد الشياطين عنه، فسوف لا يكون قادراً على إدامة التأسّي والإقتداء.
وتجدر الإشارة إلى أنّ علياً (عليه السلام) مع شهامته وشجاعته في كلّ ميادين الحرب، والتي تمثّل معركة الأحزاب نموذجاً منها، وسيشار إليها فيما بعد، يقول في نهج البلاغة فيما روي عنه: "كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه"(1).
بعد ذكر هذه المقدّمة تطرّقت الآية التالية إلى بيان حال المؤمنين الحقيقيين، فقالت: (ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلاّ إيماناً وتسليماً).
ولكن ما هذا الوعد الذي كان الله ورسوله قد وعدهم به؟
قال البعض: إنّه إشارة إلى الكلام الذي كان رسول الله قد تكلّم به من قبل بأنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، فصل الغرائب جملة 9.
[199]
قبائل العرب ومختلف أعدائكم سيتّحدون ضدّكم قريباً ويأتون إليكم، لكن اعلموا أنّ النصر سيكون حليفكم في النهاية، فلمّا رأى المؤمنون هجوم الأحزاب أيقنوا أنّ هذا ما وعدهم به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: ما دام الجزء الأوّل من الوعد قد تحقّق، فمن المسلّم أنّ جزأه الثّاني ـ أي النصر ـ سيتحقّق بعده، ولذلك زاد إيمانهم وتسليمهم.
وقال البعض الآخر: إنّ هذا الوعد هو ما ذكره الله سبحانه في الآية (214) من سورة البقرة حيث قال: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتّى يقول الرّسول والذين آمنوا معه متى نصر الله).
أي إنّهم قيل لهم من قبل: إنّكم ستخضعون لإمتحان عسير، فلمّا رأوا الأحزاب تيقّنوا صدق إخبار الله ورسوله، وزاد إيمانهم وتسليمهم.
ومن الطبيعي أنّ هذين التّفسيرين لا يتنافيان، خاصّة بملاحظة أنّ أحد الوعدين كان في الأساس وعد الله، والآخر وعد الرّسول (صلى الله عليه وآله)، وقد جاءا معاً في الآية مورد البحث، ويبدو أنّ الجمع بينهما مناسب تماماً.
وتشير الآية التالية إلى فئة خاصّة من المؤمنين، وهم الذين كانوا أكثر تأسّياً بالنّبي (صلى الله عليه وآله) من الجميع، وثبتوا على عهدهم الذي عاهدوا الله به، وهو التضحية في سبيل دينه حتّى النفس الأخير، وإلى آخر قطرة دم، فتقول: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) من دون أن يتزلزل أو ينحرف ويبدّل العهد ويغيّر الميثاق الذي قطعه على نفسه (وما بدّلوا تبديلا).
إنّهم لم ينحرفوا قيد أنملة عن خطّهم، ولم يألوا جهداً في سبيل الله، ولم يتزلزلوا لحظة، بعكس المنافقين أو ضعاف الإيمان الذين بعثرتهم عاصفة الحوادث هنا وهناك وأفرزت الشدائد في أدمغتهم الخاوية أفكاراً جوفاء خبيثة .. إنّ المؤمنين
[200]
وقفوا كالجبل الأشمّ وأثبتوا أنّ العهد الذي عاهدوا به لا يقبل النقض أو التراجع عنه.
إنّ لفظة (نحب) على زنة (عهد) تعني العهد والنذر والميثاق، ووردت أحياناً بمعنى الموت، أو الخطر، أو سرعة السير، أو البكاء بصوت مرتفع(1).
وهناك إختلاف بين المفسّرين في المعنيّ بهذه الآية.
يروي العالم المعروف (الحاكم أبو القاسم الحسكاني) ـ وهو من علماء السنّة ـ بسند عن علي (عليه السلام) أنّه قال: "فينا نزلت (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) فأنا ـ والله ـ المنتظر وما بدّلت تبديلا، ومنّا رجال قد إستشهدوا من قبل كحمزة سيّد الشهداء"(2).
وقال آخرون: إنّ جملة (من قضى نحبه) إشارة إلى شهداء بدر واُحد، وجملة: (ومنهم من ينتظر) إشارة إلى المسلمين الصادقين الآخرين الذين كانوا بإنتظار إحدى الحسنيين: النصر، أو الشهادة.
وروي عن "أنس بن مالك" أيضاً: أنّ عمّه "أنس بن النضر" لم يكن حاضراً في غزوة بدر، فلمّا علم فيما بعد، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها، أسف لعدم إشتراكه في الجهاد، فعاهد الله على أن يشارك في الجهاد إن وقعت معركة اُخرى ويثبت فيها وإن زهقت روحه، ولذلك فقد شارك في معركة اُحد، وحينما فرّ جماعة لم يفرّ معهم، وقاوم وصمد حتّى جرح ثمّ استشهد(3).
وروي عن "ابن عبّاس" أنّه قال: إنّ جملة: (منهم من قضى نحبه) إشارة إلى حمزة بن عبدالمطّلب وباقي شهداء اُحد، وأنس بن النضر وأصحابه(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مفردات الراغب، ومجمع البيان، ولسان العرب مادّة نَحب.
2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
3 ـ أورد هذه الرّوايات بتفاوت يسير أصحاب تفاسير القرطبي وفي ظلال القرآن، ومجمع البيان في كتبهم.
4 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
[201]
ولا منافاة بين هذه التفاسير مطلقاً، لأنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ شهداء الإسلام الذين إستشهدوا قبل معركة الأحزاب، وكلّ من كان منتظراً للنصر أو الشهادة، وكان على رأسهم رجال كحمزة سيّد الشهداء وعلي (عليهما السلام)، ولذلك ورد في تفسير الصافي: أنّ أصحاب الحسين بكربلاء كانوا كلّ من أراد الخروج للقتال ودّع الحسين (عليه السلام) وقال: السلام عليك يابن رسول الله، فيجيبه: وعليك السلام ونحن خلفك، ويقرأ: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر)(1).
ويستفاد من كتب المقاتل أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) تلا هذه الآية عند أجساد شهداء آخرين كمسلم بن عوسجة، وحين بلغه خبر شهادة "عبدالله بن يقطر"(2).
ومن هنا يتّضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ المؤمنين المخلصين الصادقين في كلّ عصر وزمان، سواء من إرتدى منهم ثوب الشهادة في سبيل الله، أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع، وكان مستعدّاً للجهاد والشهادة.
وتبيّن الآية التالية النتيجة النهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة، فتقول: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذّب المنافقين إن شاء) فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب.
ومع ذلك، ولكي لا يغلق طريق العودة والإنابة بوجه هؤلاء المنافقين العنودين، فإنّ الله سبحانه قد فتح أبواب التوبة أمامهم بجملة: (أو يتوب عليهم) ـ إذا تابوا ـ ووصف نفسه بالغفور والرحيم (إنّ الله كان غفوراً رحيماً) ليحيي فيهم الحركة نحو الإيمان والصدق والإخلاص والوفاء بالتزاماتهم أمام الله والعمل بمقتضاها.
ولمّا كانت هذه الجملة قد ذكرت كنتيجة لأعمال المنافقين القبيحة، فإنّ بعض
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 259.
[202]
كبار المفسّرين رأى على أساسها بأنّ الذنب الكبير في القلوب التي لها قابلية الهداية ربّما كان دفعاً للحركة المضادّة والرجوع إلى الحقّ والحقيقة، وقد يكون الشرّ مفتاحاً للخير والرشاد(1).
وتطرح الآية الأخيرة من هذه الآيات ـ والتي تتحدّث عن غزوة الأحزاب وتنهي هذا البحث ـ خلاصة واضحة لهذه الواقعة في عبارة مختصرة، فتقول في الجملة الاُولى: (وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً).
"الغيظ" يعني (الغضب) ويأتي أحياناً بمعنى (الغمّ)، وهنا جاء مزيجاً من المعنيين، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للإنتصار على جيش الإسلام، لكنّها خابت، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.
والمراد من "الخير" هنا الإنتصار في الحرب، ولم يكن إنتصار جيش الكفر خيراً أبداً، بل إنّه شرّ، ولمّا كان القرآن يتحدّث من وجهة نظرهم الفكرية عبّر عنه بالخير، وهو إشارة إلى أنّهم لم ينالوا أيّ نصر في هذا المجال.
وقال البعض: إنّ المراد من "الخير" هنا (المال) لأنّ هذه الكلمة اُطلقت في مواضع اُخرى بهذا المعنى، ومن جملتها ما في آية الوصية (180) من سورة البقرة: (إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين).
ومع أنّ أحد الأهداف الأصليّة لمعسكر الكفر كان الحصول على غنائم المدينة والإغارة على هذه الأرض، وهذا الباعث كان أهمّ البواعث في عصر الجاهلية، لكنّنا لا نمتلك الدليل على حصر معنى (الخير) هنا بالمال، بل يشمل كلّ الإنتصارات التي كانوا يطمحون إليها، وكان المال أحدها لكنّهم حرموا من الجميع.
وتضيف في الجملة التالية: (وكفى الله المؤمنين القتال) فقد هيّأ عوامل بحيث
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الميزان، ذيل الآية مورد البحث.
[203]
إنتهت الحرب من دون حاجة إلى إلتحام واسع بين الجيشين، ومن دون أن يتحمّل المؤمنون خسائر فادحة، لأنّ العواصف الهوجاء القارصة قد مزّقت أوضاع المشركين من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ الله تعالى قد ألقى الرعب والخوف في قلوبهم من جنود الله التي لا ترى، ومن جهة ثالثة فإنّ الضربة التي أنزلها علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأعظم بطل من أبطالهم، وهو "عمرو بن عبد ودّ"، قد تسبّبت في تبدّد أحلامهم وآمالهم، ودفعتهم إلى أن يلملموا أمتعتهم ويتركوا محاصرة المدينة ويرجعوا إلى قبائلهم تقدمهم الخيبة والخسران.
وتقول الآية في آخر جملة: (وكان الله قويّاً عزيزاً) فمن الممكن أن يوجد اُناس أقوياء، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يُقهرون، بل هناك من يقهرهم ومن هو أقوى منهم، إلاّ أنّ القوي العزيز الوحيد في العالم هو الله عزّوجلّ الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا إنتهاء، فهو الذي أنزل على المؤمنين النصر في مثل هذا الموقف العسير والخطير جدّاً بحيث لم يحتاجوا حتّى إلى النزال وتقديم التضحيات!
* * *
بحوث
1 ـ ملاحظات هامّة في معركة الأحزاب
أ ـ إنّ معركة الأحزاب ـ وكما هو معلوم من اسمها ـ كانت حرباً اتّحدت فيها كلّ القبائل والفئات المختلفة التي تعادي الإسلام، للقضاء على الإسلام اليافع.
لقد كانت "حرب الأحزاب" آخر سعي للكفر، وآخر سهم في كنانته، وآخر إستعراض لقوى الشرك، ولهذا قال النّبي (صلى الله عليه وآله): "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"(1)عندما تقابل أعظم أبطال العدوّ، وهو عمرو بن عبد ودّ، وبطل الإسلام الأوحد أمير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 20، صفحة 215، ونقل هذا الحديث عن الكراجكي.
[204]
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لأنّ إنتصار أحدهما على الآخر كان يعني إنتصار الكفر على الإيمان، أو الإيمان على الكفر، وبتعبير آخر: كان عملا مصيرياً يحدّد مستقبل الإسلام والشرك، ولذلك فإنّ المشركين لم تقم لهم قائمة بعد إنهزامهم في هذه المواجهة العظيمة، وكانت المبادرة وزمامها بيد المسلمين بعدها دائماً.
لقد أفل نجم الأعداء، وإنهدمت قواعد قوّتهم، ولذلك نقرأ في حديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال بعد نهاية غزوة الأحزاب: "الآن تغزوهم ولا يغزوننا"(1).
ب ـ ذكر بعض المؤرخّين أنّ عدد أفراد جيوش الكفر كان أكثر من عشرة آلاف محارب، ويقول "المقريزي" في "الإمتاع": إنّ قريشاً أتت لوحدها بأربعة آلاف رجل، وألف وثلاثمائة فرس، وألف وخمسمائة من الإبل، ونزلت عند حافّة الخندق، وجاءت قبيلة بني سليم بسبعمائة رجل والتقوا بهم في مرّ الظهران، وجاء "بنو فزارة" بألف، وكلّ من "بني أشجع" و "بني مرّة" بأربعمائة، والقبائل الاُخرى أرسلت عدداً من الرجال، فتجاوز مجموع كلّ من حضر عشرة آلاف رجل.
في حين أنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز الثلاثة آلاف رجل، وكانوا قد جعلوا مخيّمهم الأصلي أسفل جبل سلع، وكانت نقطة مرتفعة جنب المدينة مشرفة على الخندق، وكانوا يستطيعون عن طريق رماتهم السيطرة على حركة المرور من الخندق.
على كلّ حال، فإنّ جيش الكفّار قد حاصر المسلمين من جميع الجهات، وطالت هذه المحاصرة عشرين يوماً، وقيل خمسة وعشرين يوماً، وعلى بعض الرّوايات شهراً(2).
ومع أنّ العدوّ كان متفوقاً على المسلمين من جهات مختلفة، إلاّ أنّه خاب في النهاية كما قلنا، ورجع إلى دياره خالي الوفاض.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التاريخ الكامل لابن الأثير الجزء 2 صفحة 184.
2 ـ بحار الأنوار، الجزء 20، صفحة 228.
[205]
ج ـ إنّ مسألة حفر الخندق قد تمّت ـ كما نعلم ـ بمشورة "سلمان الفارسي"، وكانت هذه المسألة اُسلوباً دفاعياً معتاداً في بلاد فارس آنذاك، ولم يكن معروفاً في جزيرة العرب إلى ذلك اليوم، وكان يعتبر ظاهرة جديدة، وكانت لإقامته في أطراف المدينة أهميّة عظيمة، سواء من الناحية العسكرية، أم من جهة إضعاف معنويات العدوّ ورفع معنويات المسلمين.
ولا توجد لدينا معلومات دقيقة عن صفات الخندق ودقائقه، فقد ذكر المؤرخّون أنّه كان من العرض بحيث لا يستطيع فرسان العدو عبوره بالقفز، ومن المحتّم أنّ عمقه أيضاً كان بالقدر الذي إذا سقط فيه أحد لم يكن يستطيع أن يخرج من الطرف المقابل بسهولة.
إضافةً إلى أنّ سيطرة رماة المسلمين على منطقة الخندق كان يمكّنهم من جعل كلّ من يحاول العبور هدفاً وغرضاً لسهامهم في وسط الخندق وقبل عبوره.
وأمّا من ناحية الطول فإنّ البعض قد قدّره بإثني عشر ألف ذراع (ستّة آلاف متر) إستناداً إلى الرواية المعروفة التي تقول بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان قد أمر أن يحفر كلّ عشرة رجال أربعين ذراعاً من الخندق، وبملاحظة أنّ عدد جنود المسلمين ـ طبقاً للمشهور ـ بلغ ثلاثة آلاف رجل.
ولابدّ من الإعتراف بأنّ حفر مثل هذا الخندق، وبالآلات البدائية المستعملة في ذلك اليوم كان أمراً مضنياً وجهداً، خاصّة وأنّ المسلمين كانوا في ضيق شديد وحاجة ملحّة من ناحية الزاد والوسائل الاُخرى.
ومن المسلّم أنّ حفر الخندق قد إستغرق مدّة لا يستهان بها، وهذا يوحي بأنّ جيش المسلمين كان قد قدّر وخمّن وتوقّع التوقّعات اللازمة بدقّة كاملة قبل أن يهجم العدوّ بحيث أنّ حفر الخندق كان قد تمّ قبل ثلاثة أيّام من وصول جيش الكفّار.
[206]
د ـ ساحة إمتحان عظيمة
إنّ غزوة "الأحزاب" كانت محكّاً وإمتحاناً عجيباً لكلّ المسلمين، ولمن كانوا يدّعون الإسلام، وكذلك لاُولئك الذين كانوا يدّعون الحياد أحياناً، وكان لهم في الباطن إرتباط وتعامل مع أعداء الإسلام ويتعاونون معهم ضدّ دين الله.
لقد تبيّن بوضوح تامّ موقع الفئات الثلاث ـ المؤمنون الصادقون، وضعفاء الإيمان، والمنافقون ـ من خلال عملهم، وإتّضحت تماماً القيم والمفاهيم الإسلامية، فقد عكست كلّ من الفئات الثلاث في أتون الحرب الملتهبة حسن إيمانها أو قبحه، وإخلاص نيّاتها أو عدمه.
لقد كانت العاصفة هوجاء شديدة لم تدع المجال لأيّ شخص أن يخفي ما في قلبه، وظهرت اُمور في أقلّ من شهر، وكان يحتاج كشفها إلى سنين ربّما تكون طويلة في الظروف الطبيعيّة.
وهنا مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أثبت عمليّاً إيمانه الكامل بما جاء به من التعليمات الإلهيّة ووفاءه التامّ لها من خلال مقاومته وصلابته، ورباطة جأشه، وتوكّله على الله، وإعتماده على نفسه، وكذلك أثبت للناس أنّه يطبّق قبل الآخرين ما يأمرهم به من خلال مواساته للمسلمين ومساعدتهم في حفر الخندق، وتحمّله لمصاعب الحرب ومشاكلها.
هـ ـ نزال علي (عليه السلام) التاريخي لعمرو بن عبد ودّ
من المواقف الحسّاسة والتاريخية لهذه الحرب مبارزة علي (عليه السلام) لبطل معسكر العدوّ العظيم "عمرو بن عبد ودّ"، فقد جاء في التواريخ أنّ جيش الأحزاب كان قد دعا أشدّاء شجعان العرب للإشتراك والمساهمة في هذه الحرب، وكان الأشهر من بين هؤلاء خمسة: عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة، ونوفل، وضرار.
[207]
لقد إستعدّ هؤلاء في أحد أيّام الحرب للمبارزة الفردية، ولبسوا عدّة الحرب، وإستطاعوا إختراق الخندق والعبور بخيولهم إلى الجانب الآخر من خلال نقطة ضيّقة فيه، كانت بعيدة نسبياً عن مرمى الرماة المسلمين، وأن يقفوا أمام جيش المسلمين، وكان أشهرهم "عمرو بن عبد ودّ".
فتقدّم وقد ركبه الغرور والإعتداد بالنفس، وكانت له خبرة طويلة في الحرب، ورفع صوته طالباً من يبارزه.
لقد دوّى نداؤه (هل من مبارز) في ميدان الأحزاب، ولمّا لم يجرؤا أحد من المسلمين على قتاله إشتدّت جرأته وبدأ يسخر من معتقدات المسلمين، فقال: أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ هل فيكم من أرسله إلى الجنّة، أو يدفعني إلى النار؟
وهنا أنشد أبياته المعروفة:
ولقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجّع موقف البطل المناجز
إنّ السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز
فأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) عند ذاك أن يخرج إليه رجل ويبعد شرّه عن المسلمين، إلاّ أنّ أحداً لم يجب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): "إنّه عمرو" فقال علي (عليه السلام): "وإن كان عمرواً" فدعاه النّبي (صلى الله عليه وآله) وعمّمه، وقلّده سيفه الخاصّ ذا الفقار، ثمّ دعا له فقال: "اللهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته".
فمشى علي (عليه السلام) إلى الحرب وهو يرتجز:
لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيّة وبصيرة والصدق منجي كلّ فائز
إنّي لأرجو أن اُقيم عليك نائحة الجنائز
[208]
من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز
وهنا قال النّبي (صلى الله عليه وآله) كلمته المعروفة: "برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه"(1).
فلمّا التقيا دعاه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى الإسلام أوّلا، فأبى، ثمّ دعاه إلى إعتزال الحرب، فرفض ذلك، وإعتبره عاراً عليه، وفي الثالثة دعاه إلى أن ينزل عن ظهر جواده ويقاتله راجلا، فغضب عمرو وقال: ما كنت أحسب أحداً من العرب يدعوني إلى مثل ذلك، فنزل من على ظهر فرسه وضرب علياً (عليه السلام) على رأسه، فتلقّاها علي (عليه السلام) بمهارة خاصّة بدرعه، إلاّ أنّ السيف قدّه وشجّ رأس علي(عليه السلام).
هنا إستعمل علي (عليه السلام) اُسلوباً خاصّاً، فقال لعمرو: أنت بطل العرب، وأنا اُقاتلك، فعلام حضر من خلفك؟ فلمّا التفت عمرو، ضربه علي (عليه السلام) على ساقه بالسيف، فسقط عمرو إلى الأرض، فثارت غبرة ظنّ معها المنافقون أنّ علياً (عليه السلام) قد قتل بسيف عمرو، غير أنّهم لمّا سمعوا التكبير قد علا علموا بإنتصار علي، ورأوا فجأةً علياً (عليه السلام) يرجع إلى معسكره رويداً رويداً والدم ينزم من رأسه، وعلى شفتيه إبتسامة النصر، وكانت جثّة عمرو قد سقطت في جانب من الميدان.
لقد أنزل مقتل بطل العرب المعروف ضربة قاصمة بجيش الأحزاب بدّدت آمالهم وحطّمت معنوياتهم، وهزمتهم نفسياً هزيمة منكرة، وخابت آمالهم في النصر والظفر، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقّها: "لو وزن اليوم عملك بعمل جميع اُمّة محمّد لرجح عملك على عملهم، وذاك أنّه لم يبق بيت من المشركين إلاّ وقد دخله ذلّ بقتل عمرو، ولم يبق بيت من المسلمين، إلاّ وقد دخله عزّ يقتل عمرو"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 20، صفحة 215، ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، المجلّد 4، صفحة 344 طبقاً لنقل إحقاق الحقّ، الجزء 6، صفحة 9.
2 ـ بحار الأنوار الجزء 20 صفحة 216.
[209]
وقد أورد العالم السنّيى المعروف "الحاكم النيسابوري" هذا القول، لكن بتعبير آخر: "لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال اُمّتي إلى يوم القيامة"(1).
والغاية من هذا الكلام واضحة، لأنّ كلاًّ من الإسلام والقرآن كان على حافّة الهاوية ظاهراً، وكان يمرّ بأحرج لحظاته وأصعبها، ولذلك كانت التضحية في هذه الحرب أعظم التضحيات بعد تضحيات النّبي (صلى الله عليه وآله)، حيث حفظت الإسلام من السقوط ودرأت عنه الخطر، وضمنت بقاءه إلى يوم القيامة، وببركة تضحية الإمام(عليه السلام) تجذّر الإسلام وتأصّل وشملت غصونه وأوراقه العالمين، وبناءً على هذا فإنّ عبادة الجميع مرهونة بعمله.
وذكر البعض: أنّ المشركين أرسلوا رسولا منهم ليشتري جثّة عمرو بعشرة آلاف درهم ـ وربّما كانوا يتصوّرون أنّ المسلمين سيفعلون بجثّة عمرو ما فعله قساة القلوب بجسد حمزة يوم اُحد ـ فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): "هو لكم، لا نأكل ثمن الموتى"!
وهناك موقف يستحقّ الذكر والإنتباه، وهو: أنّ اُخت عمرو لمّا وصلت إلى جسد أخيها، ورأت أنّ علياً (عليه السلام) لم يسلبه درعه الثمينة قالت: ما قتله إلاّ كفؤ كريم(2).
و ـ إجراءات النّبي العسكرية والسياسية في هذه الحرب
كانت هناك مجموعة من العوامل المختلفة، والأساليب العسكرية والسياسية، وكذلك عامل العقيدة والإيمان، ساهمت في إنتصار النّبي (صلى الله عليه وآله) والمسلمين في معركة الأحزاب، إضافةً إلى التأييد الإلهي. عن طريق الرياح والعواصف الهوجاء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مستدرك الحاكم، الجزء 3، صفحة 32.
2 ـ إعتمدنا في هذا الجانب على كتب: إحقاق الحقّ، المجلّد 6، بحار الأنوار، المجلّد 20، تفسير الميزان، المجلّد 16.
[210]
التي مزّقت جيوش الأحزاب شرّ ممزّق، وكذلك جنود الله الغيبيين، ومن جملة هذه العوامل والإجراءات:
1 ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) أدخل بقبوله إقتراح حفر الخندق اُسلوباً جديداً لم يكن موجوداً ومعروفاً بين العرب إلى ذلك اليوم، وكان عاملا مهمّاً في رفع معنويات المسلمين وكسر شوكة الكفّار.
2 ـ المواقف والحسابات الدقيقة للمسلمين، والأساليب والمناورات العسكرية كانت عاملا مؤثّراً في عدم نفوذ العدوّ إلى داخل المدينة.
3 ـ قتل عمرو بن عبد ودّ على يد بطل الإسلام العظيم علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، وتبديد آمال الأحزاب بقتله يعدّ عاملا مؤثّراً آخر.
4 ـ الإيمان بالله، والتوكّل عليه، والذي غرسه النّبي (صلى الله عليه وآله) في قلوب المسلمين، وسقاه المسلمون على إمتداد الحرب بتلاوة القرآن وكلمات النّبي (صلى الله عليه وآله) المؤثّرة.
5 ـ اُسلوب النّبي (صلى الله عليه وآله) وروحه الكبيرة، وإعتماده على نفسه الذي يمنح المسلمين قوّة وإطمئناناً.
6 ـ إضافةً إلى ذلك، فإنّ عمل "نعيم بن مسعود" كان أحد العوامل المهمّة في إيجاد الفرقة بين جيوش الأحزاب.
ز ـ نعيم بن مسعود وبثّ الفُرقة في جيش العدوّ!
جاء "نعيم" إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) وكان قد أسلم لتوّه، ولم تعلم قبيلته (غطفان) بإسلامه، فقال: أسلمت ولم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك، فقال له النّبي (صلى الله عليه وآله): "إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنّا ما إستطعت، فإنّما الحرب خدعة".
فإنطلق نعيم بخطّة رائعة، وأتى يهود بني قريظة، وكانت له معهم صداقة في الجاهلية، فقال لهم: إنّي لكم صديق، وأنتم تعلمون ذلك، فقالوا: صدقت، ونحن لا نتّهمك أبداً، فقال: إنّ البلد بلدكم وبه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإنّما قريش
[211]
وغطفان بلادهم غيرها، وإنّما جاءوا حتّى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة إنتهزوها، وإن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهناً من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّداً، فقالوا: قد أشرت برأي، فقبل بنو قريظة قوله.
ثمّ أتى أبا سفيان وأشراف قريش متخفّياً، فقال: يامعشر قريش، إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً ودينه، وإنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ، فقالوا: نفعل، قال: تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمّد فبعثوا إليه: أنّه لا يرضيك عنّا إلاّ أن نأخذ من القوم رهناً من أشرافهم وندفعهم إليك فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك، فقالوا: بلى، فإن بعثوا إليكم يسألونكم نفراً من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحداً واحذروا.
ثمّ جاء إلى غطفان قبيلته، فقال: تعلمون حسبي ونسبي، وأنا أودّكم، ولا أظنّكم تشكّون في صدقي، فقالوا: نعلم ذلك، فقال: لكم عندي خبر فاكتموه عليّ، فقالوا: نفعل، فقال لهم ما قال لقريش. وكان ذلك ليلة السبت من شوّال سنة خمس من الهجرة.
فأرسل أبو سفيان ورؤساء غطفان جماعة إلى بني قريظة فقالوا: إنّ الكراع والخفّ قد هلكا، وإنّا لسنا بدار مقام، فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه.
فأجابهم اليهود: إنّ غداً السبت، وهو يوم لا نعمل فيه، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا وتدعونا حتّى نناجز محمّداً.
فلمّا بلغ ذلك قريشاً وغطفان قالوا: والله لقد حذّرنا هذا نعيم، فبعث إليهم أبو سفيان: إنّا لا نعطيكم رجلا واحداً فإن شئتم أن تخرجوا وتقاتلوا، وإن شئتم فاقعدوا.
ولمّا علمت اليهود بذلك قالوا: هذا والله الذي قال لنا نعيم، فإنّ في الأمر حيلة،
[212]
وهؤلاء لا يريدون القتال، ويريدون أن يغيروا ويرجعوا إلى ديارهم ويذروكم ومحمّداً.
فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل حتّى تعطونا رهناً، فأصرّت قريش وغطفان على قولهما فوقع الإختلاف بينهم، وبعث الله سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية قارصة البرد، قلعت خيامهم، وكفأت قدورهم.
لقد اتّحدت هذه العوامل، فحزم الجميع أمتعتهم ورجّحوا الفرار على القرار، ولم يبق منهم رجل في ساحة الحرب(1).
ح ـ قصّة حذيفة
جاء في كثير من التواريخ أنّ "حذيفة اليماني" قال: والله، لقد رأيتنا يوم الخندق وبنا من الجهد والجوع والخوف ما لا يعلمه إلاّ الله، وفي ليلة من الليالي ـ بعد أن وقع الإختلاف بين جيش الأحزاب ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ألا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنّة".
قال حذيفة: فوالله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف والجوع، فلمّا رأى النّبي(صلى الله عليه وآله) ذلك دعاني، فقلت: لبّيك، قال: "إذهب فجىء بخبر القوم ولا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع"، فأتيت القوم فإذا ريح الله وجنوده تفعل بهم ما تفعل، ما يستمسك لهم بناء، ولا تثبت لهم نار، ولا يطمئن لهم قدر، فإنّي لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله، ثمّ قال: يامعشر قريش، لينظر أحدكم من جليسه لئلاّ يكون هنا غريب، فبدأت بالذي عن يميني، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقلت: حسناً.
ثمّ عاد أبو سفيان براحلته، فقال: يامعشر قريش ـ والله ـ ما أنتم بدار مقام، هلك الخفّ والحافر، وأخلفتنا بنو قريظة، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سيرة ابن هشام، المجلّد 3، صفحة 240 بإختصار.
[213]
ثمّ عجّل فركب راحلته وإنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلاّ بعد ما ركبها.
فقلت في نفسي: لو رميت عدوّ الله وقتلته كنت قد صنعت شيئاً، فوترت قوسي ثمّ وضعت السهم في كبد القوس، فلمّا أردت أن أطلقه ذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع" وإنّه طلب منّي أن آتيه بالخبر وحسب، حططت القوس ثمّ رجعت إلى رسول الله فأخبرته الخبر، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): "اللهمّ أنت منزل الكتاب، سريع الحساب، أهزم الأحزاب، اللهمّ أهزمهم وزلزلهم"(1).
ط ـ نتائج حرب الأحزاب
لقد كانت حرب الأحزاب نقطة إنعطاف في تاريخ الإسلام، قلبت كفّة التوازن العسكري والسياسي لصالح المسلمين إلى الأبد. ويمكن تلخيص النتائج المثمرة لهذه المعركة في عدّة نقاط:
أ ـ فشل مساعي العدو، وتحطّم قواه.
ب ـ كشف المنافقين، وفضح الأعداء الداخليين الخطرين.
ج ـ جبران الذكرى الأليمة لهزيمة أُحد.
د ـ قوّة المسلمين، وإزدياد هيبتهم في قلوب الأعداء.
هـ ـ إرتفاع معنويات المسلمين نتيجة للمعجزات العظيمة التي رأوها في هذه المعركة.
و ـ تثبيت مركز النّبي (صلى الله عليه وآله) في داخل المدينة وخارجها.
ر ـ تهيؤ الأرضية لتصفية المدينة وإنقاذها من شرّ بني قريظة.
2 ـ النّبي اُسوة وقدوة
نعلم أنّ إختيار رسول الله من بين البشر إنّما هو من أجل أن يكونوا قدوة عملية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، ج20، صفحة208.
[214]
للاُمم، لأنّ أهمّ جانب من جوانب دعوة الأنبياء وأكثرها تأثيراً هي الدعوة العملية، ولذلك فإنّ علماء الإسلام اعتبروا العصمة شرطاً لمقام النبوّة، وإحدى أدلّتها وبراهينها هي أنّهم يجب أن يكونوا "قدوة" للناس، و "اُسوة" للبشر.
وممّا يسترعي الإنتباه أنّ التأسّي بالنّبي (صلى الله عليه وآله) الوارد في هذه الآية قد جاء بصورة مطلقة، وهذا يشمل التأسّي في كافّة المجالات بالرغم من أنّ سبب نزول هذه الآيات هي معركة الأحزاب، ونعلم أنّ أسباب النّزول لا تحدّد مفاهيم الآيات بها مطلقاً، ولذلك نرى في الأحاديث الشريفة أنّ أهمّ المسائل وأبسطها قد طرحت في مسألة التأسّي.
ففي حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "إنّ الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عزّوجلّ لنبيّه: (فاصبر كما صبر اُولو العزم من الرسل) وإيجابه مثل ذلك على أوليائه وأهل طاعته لقوله: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة)(1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ رسول الله كان إذا صلّى العشاء الآخرة أمر بوضوئه وسواكه فوضع عند رأسه مخمراً" ثمّ يبيّن كيفية صلاة الليل التي كان يصلّيها النّبي (صلى الله عليه وآله)، ويقول في آخر الحديث: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة)(2).
وإذا ما اتّخذنا النّبي (صلى الله عليه وآله) اُسوة لنا في حياتنا حقّاً، في إيمانه وتوكّله، في إخلاصه وشجاعته، في تنظيم أمره ونظافته، وفي زهده وتقواه، فإن اُسلوب حياتنا سيختلف تماماً، وسيعمّ الضياء والسعادة كلّ زوايا حياتنا ونواحيها.
يجب اليوم على كلّ المسلمين، وخاصّة الشباب المؤمن، أن يقرؤوا سيرة نبيّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله) بدقّة متناهية ويحفظوها، ويجعلوه قدوة واُسوة لهم في كلّ شيء، فإنّ هذا التأسّي والإقتداء به سبيل السعادة، ومفتاح النصر والعزّة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إحتجاج الطبرسي طبقاً لنقل نور الثقلين، ج4، ص255.
2 ـ وسائل الشيعة، المجلّد 1، صفحة 356.
[215]
3 ـ اذكروا الله كثيراً
لقد وردت الوصيّة بذكر الله ـ وخاصّة الذكر الكثير ـ مراراً في الآيات القرآنية، وقد أولته الروايات الإسلامية إهتماماً كبيراً أيضاً، حتّى أنّنا نقرأ في حديث عن أبي ذرّ أنّه قال: دخلت المسجد فأتيت النّبي (صلى الله عليه وآله) ... فقال لي: "عليك بتلاوة كتاب الله وذكر الله كثيراً فإنّه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض"(1).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إذا ذكر العبد ربّه في اليوم مائة مرّة كان ذلك كثيراً"(2).
وفي حديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لأصحابه: "ألا اُخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: ذكر الله كثيراً"(3).
لكن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ المراد من ذكر الله بكلّ هذه الفضيلة هو الذكر اللساني فقط، بل قد صرّحت الروايات الإسلامية أنّ المراد منه إضافة لما مرّ هو الذكر القلبي والعملي، أي أنّ الإنسان يذكر الله عندما يواجه حراماً فيتركه.
إنّ الهدف أن يجعل الإنسان الله نصب عينيه دائماً، ويشعر بحضوره وشهادته الدائمة، وأن يغمر نور الله كلّ حياته، فيفكّر فيه ويذكره دائماً، ولا يغفل عن أوامره بل يطيعها.
إنّ مجالس الذكر ليست تلك المجالس التي يجتمع فيها جماعة من المغفّلين ويشرعون في الطعام والشراب، وتتخلّل مجالسهم تلك مجموعة من الأذكار
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الخصال، طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، ص257.
2 ـ سفينة البحار، المجلّد 1، صفحة 484.
3 ـ المصدر السابق.
[216]
المخترعة، والبدع التي يروجونها، فقد ورد في حديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: "بادروا إلى رياض الجنّة، قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: حلق الذكر"(1)، والمراد منها الحلقات التي تُحيا فيها العلوم الإسلامية، وتطرح البحوث التربوية التي تؤدّي إلى تهذيب الناس وتطهير المذنبين وتدفعهم إلى سبيل الله(2).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سفينة البحار، المجلّد 1، ص486.
2 ـ كان لنا بحث آخر حول أهميّة ذكر الله ومفهومه ذيل الآية (120) من سورة الرعد.
[217]
الآيتان
وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَـهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـرَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيراً(27)
التّفسير
غزوة بني قريظة إنتصار عظيم آخر:
كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود، وهم: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النّبي (صلى الله عليه وآله) على أن لا تعين عدوّاً له ولا يتجسّسوا لذلك العدوّ، وأن يعيشوا مع المسلمين بسلام، إلاّ أنّ "بني قينقاع" قد نقضوا عهدهم في السنة الثّانية للهجرة، و "بنو النضير" في السنة الرّابعة للهجرة بأعذار شتّى، وصمّموا على مواجهة النّبي (صلى الله عليه وآله) وإنهارت مقاومتهم في النهاية، وطردوا إلى خارج المدينة، فذهب "بنو قينقاع" إلى أذرعات الشام، وذهب بعض
[218]
"بني النضير" إلى خيبر، وبعضهم الآخر إلى الشام(1).
بناءً على هذا فإنّ "بني قريظة" كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب، وكما قلنا في تفسير الآيات السبع عشرة المتعلّقة بمعركة الأحزاب، فإنّهم نقضوا عهدهم في هذه المعركة، واتّصلوا بمشركي العرب، وشهروا السيوف بوجه المسلمين.
بعد إنتهاء غزوة الأحزاب والتراجع المشين والمخزي لقريش وغطفان وسائر قبائل العرب عن المدينة، فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ طبقاً للرّوايات الإسلامية ـ عاد إلى منزله وخلع لامة الحرب وذهب يغتسل، فنزل عليه جبرئيل بأمر الله وقال: لماذا ألقيت سلاحك وهذه الملائكة قد إستعدّت للحرب؟ عليك أن تسير الآن نحو بني قريظة وتنهي أمرهم.
لم تكن هناك فرصة لتصفية الحساب مع بني قريظة أفضل من هذه الفرصة، حيث كان المسلمون في حرارة الإنتصار، وبنو قريظة يعيشون لوعة الهزيمة المرّة، وقد سيطر عليهم الرعب الشديد، وكان حلفاؤهم من قبائل العرب متعبين منهكي القوى خائري العزائم، وهم في طريقهم إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة، ولم يكن هناك من يحميهم ويدافع عنهم.
هنا نادى مناد من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن توجّهوا إلى بني قريظة قبل أن تصلّوا العصر، فاستعدّ المسلمون بسرعة وتهيّئوا للمسير إلى الحرب، وما كادت الشمس تغرب إلاّ وكانت حصون بني قريظة المحكمة محاصرة تماماً.
لقد إستمرت هذه المحاصرة خمسة وعشرين يوماً، وأخير سلّموا جميعاً ـ كما سيأتي في البحوث ـ فقُتل بعضهم، واُضيف إلى سجل إنتصارات المسلمين إنتصار عظيم آخر، وتطهّرت أرض المدينة من دنس هؤلاء المنافقين والأعداء اللدودين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكامل لابن الأثير، المجلّد 2، صفحة 137 ـ 173.
[219]
إلى الأبد.
وقد أشارت الآيات ـ مورد البحث ـ إشارة مختصرة ودقيقة إلى هذه الحادثة، وكما قلنا فإنّ هذه الآيات نزلت بعد الإنتصار، وأوضحت أنّ هذه الحادثة كانت نعمة وموهبة إلهيّة عظيمة، فتقول الآية أوّلا: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم).
"الصياصي" جمع (صيصية)، أي: القلعة المحكمة، ثمّ اُطلقت على كلّ وسيلة دفاعية، كقرون البقر، ومخالب الديك. ويتّضح هنا أنّ اليهود كانوا قد بنوا قلاعهم وحصونهم إلى جانب المدينة في نقطة مرتفعة، والتعبير بـ (أنزل) يدلّ على هذا المعنى.
ثمّ تضيف الآية: (وقذف في قلوبهم الرعب) وأخيراً بلغ أمرهم أنّكم (فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم).
إنّ هذه الجمل تمثّل مختصراً وجانباً من نتائج غزوة بني قريظة، حيث قتل جمع من اُولئك الخائنين على يد المسلمين، واُسر آخرون، وغنم المسلمون منهم غنائم كثيرة من جملتها أراضيهم وديارهم وأموالهم.
والتعبير عن هذه الغنائم بـ "الإرث" لأنّ المسلمين لم يبذلوا كثير جهد للحصول عليها، وسقطت في أيديهم بسهولة كلّ تلك الغنائم التي كانت حصيلة سنين طويلة من ظلم وجور اليهود وإستثماراتهم في المدينة.
وتقول الآية في النهاية: (وأرضاً لم تطؤوها وكان الله على كلّ شيء قديراً).
هناك إختلاف بين المفسّرين في المقصود من (أرضاً لم تطؤوها) وأيّ أرض هي؟
فاعتبرها البعض إشارة إلى أرض خيبر التي فتحت على أيدي المسلمين فيما بعد.
وإعتبرها آخرون إشارة إلى أرض مكّة.
[220]
وآخرون يعتقدون أنّها إشارة إلى أرض الروم وفارس.
ويرى البعض أنّها إشارة إلى جميع الأراضي والبلدان التي وقعت في يد المسلمين من ذلك اليوم وما بعده إلى يوم القيامة.
إلاّ أنّ أيّاً من هذه الإحتمالات لا يناسب ظاهر الآية، لأنّ الآية ـ بقرينة الفعل الماضي الذي جاء فيها (أورثكم) ـ شاهدة على أنّ هذه الأرض قد أصبحت تحت تصرّف المسلمين في حادثة غزوة بني قريظة، إضافةً إلى أنّ أرض مكّة ـ وهي إحدى التفاسير السابقة ـ لم تكن أرضاً لم يطأها المسلمون، في حين أنّ القرآن الكريم يقول: (وأرضاً لم تطؤوها).
والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى البساتين والأراضي الخاصّة ببني قريظة، والتي لم يكن لأحد الحقّ في دخولها، لأنّ اليهود كانوا يبذلون قصارى جهودهم في سبيل الحفاظ على أموالهم وحصرها فيما بينهم.
ولو أغمضنا، فإنّها تتناسب كثيراً مع أرض "خيبر" التي أخذت من اليهود بعد مدّة ليست بالبعيدة، وأصبحت في حوزة المسلمين، حيث إنّ معركة "خيبر" وقعت في السنة السابعة للهجرة.
* * *
بحوث
1 ـ غزوة بني قريظة ودوافعها
إنّ القرآن الكريم يشهد بأنّ الدافع الأساس لهذه الحرب هو دعم يهود بني قريظة لمشركي العرب ومساندتهم في حرب الأحزاب، لأنّه يقول: (الذين ظاهروهم).
إضافةً إلى أنّ اليهود في المدينة كانوا يعتبرون الطابور الخامس لأعداء الإسلام، وكانوا مجدّين في الإعلام المضادّ للإسلام، ويغتنمون كلّ فرصة مناسبة
[221]
للبطش بالمسلمين والفتك بهم.
وكما قلنا سابقاً، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.
2 ـ أحداث غزوة بني قريظة
قلنا: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد اُمر بعد إنتهاء معركة الأحزاب مباشرةً أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم، ويقال: إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد، فقد أمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن تحاصر حصونهم، ودام الحصار خمسة وعشرين يوماً، وقد ألقى الله عزّوجلّ الرعب الشديد في قلوب اليهود، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.
فقال "كعب بن أسد" ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّداً لن يتركنا حتّى يقاتلنا، وأنا أقترح عليكم ثلاثة اُمور إختاروا أحدها:
إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم، وعند ذلك ستُصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، فقالوا: لا نرجع عن حكم التوراة أبداً، ولا نقبل بدلها شيئاً.
قال: فإذا رفضتم ذلك، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّداً وأصحابه ونرى ما يريده الله، فإن قُتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا، وإن إنتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا: أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.
قال كعب بن أسد: فإن أبيتم هذا أيضاً فإنّ الليلة ليلة السبت، وأنّ محمّداً
[222]
وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا: ولا نفعل ذلك، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبداً.
فقال كعب: ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته اُمّه.
بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يرسل إليهم "أبا لبابة" ليتشاوروا معه، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه، فقال الرجال: أترى لنا أن نخضع لحكم محمّد (صلى الله عليه وآله)؟ فقال أبو لبابة: نعم، وأشار إلى نحره، أي إنّه سيقتلكم جميعاً!
يقول أبو لبابة: ما إن تركتهم حتّى إنتبهت لخيانتي، فلم آت النّبي (صلى الله عليه وآله) مباشرةً، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت: لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل (وآخرون اعترفوا بذنوبهم).(1)
وأخيراً اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): "ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ"؟ قالوا: بلى، فقال سعد: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّداً بأنّهم يقبلون بما يحكم، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبي (صلى الله عليه وآله) واقفاً فقال: حكمي فيهم نافذ؟ قال: نعم، فقال: انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين، وسبي نسائهم وذراريهم، وتقسيم أموالهم.
وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(2).
3 ـ نتائج غزوة بني قريظة
إنّ الإنتصار على اُولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين، ومن جملتها:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة التوبة، الآية 102.
2 ـ سيرة ابن هشام، المجلّد 3، صفحة 244 وما بعدها، والكامل لابن الأثير، ج2، ص185 وما بعدها بتلخيص.
[223]
أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة، وإطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.
ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخلياً.
ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.
د ـ فتح آفاق جديدة للأنتصارات المستقبلية، وخاصة فتح "خيبر".
هـ ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق، في داخل المدينة وخارجها.
4 ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!
إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب: (فريقاً تقتلون) أي أنّها قدّمت (فريقاً) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقاً) عن الفعل "تأسرون"!
وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك: إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا اُناساً معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافةً إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن "القتل والأسر" ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر، مراعاة للإنسجام بين الأمرين أكثر.
وكذلك ورد إنزال اليهود من "صياصيهم" قبل جملة: (وقذف في قلوبهم الرعب) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك، أي أنّ الخطوة الاُولى هي إيجاد الرعب، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين، والمفرّح لهم، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّاً.
[224]
والتعبير بـ (أورثكم أرضهم وديارهم) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.
وأخيراً فإنّ التأكيد على قدرة الله عزّوجلّ في آخر آية: (وكان الله على كلّ شيء قديراً) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوماً، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوماً آخر.
* * *
[225]
الآيات
يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِّزْوَجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلا(28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاْخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً(29) يَـنِسَاءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـحِشَة مُّبَيِّنَة يُضَـعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (30)وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَـلِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً(31)
سبب النّزول
ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه، وهي لا تختلف عن بعضها كثيراً من جهة النتيجة.
ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة، أو لوازم الحياة المختلفة، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.
[226]
وطبقاً لنقل بعض التفاسير فإنّ "اُمّ سلمة" طلبت من النّبي (صلى الله عليه وآله) خادماً لها، وطلبت "ميمونة" حلّة، وأرادت "زينب بنت جحش" قماشاً يمنياً خاصّاً، و "حفصة" لباساً مصرياً، و "جويرية" لباساً خاصّاً، و "سودة" بساطاً خيبرياً! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئاً. فامتنع النّبي (صلى الله عليه وآله) عن تلبية طلباتهنّ، وهو يعلم أنّ الإستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة، وإعتزلهنّ شهراً، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الإنفصال عن النّبي (صلى الله عليه وآله) والذهاب إلى حيث تردن، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر، وإقتنعتنّ بحياة النّبي (صلى الله عليه وآله) البسيطة والباعثة على الفخر، فابقين معه، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.
بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقعنّ رفاهية العيش، وخيّرتهنّ بين "البقاء" مع النّبي (صلى الله عليه وآله) و "مفارقته".
* * *
التّفسير
أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!
لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاُولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (اُمّهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسؤوليات ثقيلة، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي اُمّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟
وهكذا ظَنَنَّ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين، ويعطى لهنّ ما ناله
[227]
المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك اُناس في غاية العسرة والشظف.
وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن لا يكون لوحده اُسوةً للناس بحكم الآيات السابقة، بل يجب أن تكون عائلته اُسوة لباقي العوائل أيضاً، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة، فليس النّبي (صلى الله عليه وآله) ملكاً وإمبراطوراً ليكون له جناح خاصّ للنساء، ويُغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.
وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصُفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبي (صلى الله عليه وآله) لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاُخرى.
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف، حتّى أنّهنّ قلن: لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجاً من قومنا غيرك(1). هنا اُمر النّبي(صلى الله عليه وآله) أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي، فخاطبت الآية الاُولى من الآيات أعلاه النّبي (صلى الله عليه وآله) وقالت: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين اُمتّعكن واُسرحكنّ سراحاً جميلا).
"اُمتّعكنّ" من مادّة متعة، وكما قلنا في الآية (236) من سورة البقرة، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر، وإن لم يكن المهر معيّناً فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هاديء مفعم بالحبّ.
"السراح" في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر، و
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كنز العرفان، المجلّد 2، ص238.
[228]
"سرّحت الإبل"، أي: أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص، وتأتي أحياناً كناية عن الطلاق، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله، وفيه معنى الإطلاق أيضاً. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من "السراح الجميل" في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقاً مقترناً بالإحسان، وليس فيه جبر وقهر.
وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقاً بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين، فإن أردن الفراق أجرى النّبي (صلى الله عليه وآله) صيغة الطلاق، وإلاّ يبقين على حالهنّ؟
ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبي (صلى الله عليه وآله)، لأنّه لا يجري في سائر الناس، لا يبدو صحيحاً، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.
وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة، إلاّ أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات، إضافةً إلى أنّ لتعبير (اُسرحكنّ) ظهوراً في أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان يقدّم على تسريحهنّ، خاصّة وأنّ مادّة "التسريح" قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية 229)(1).
وتضيف الآية التالية: (وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمحسنات منكنّ أجراً عظيماً).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية، وخاصة كتاب الجواهر، المجلّد 29، صفحة 122 وما بعدها.
[229]
لقد جمعت هذه الآية كلّ اُسس الإيمان وسلوكيات المؤمن، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر، ومن جهة اُخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات، وبناءً على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.
وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة واُسوة للمؤمنات على الدوام، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الإهتمام بزخارف الدنيا وزينتها، وإهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح، فإنّهن يبقين أزواجاً للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر، وإلاّ فعليهنّ مفارقته والبون منه.
ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلاّ أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم واُسوة لهم، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائماً، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.
ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة، وكذلك مقامهنّ الممتاز، ومسؤولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة، فتقول: (يانساء النّبي من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً).
فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لإرتباطكنّ المستمر بالنّبي (صلى الله عليه وآله) ولقائه، إضافةً إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجاً وقدوة لهم. بناءً على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة، ومعيار العلم، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة، فإنّ لكُنَّ حظّاً أعظم من العلم، ولكُنّ موقع
[230]
حسّاس له تأثيره في المجتمع.
ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبي (صلى الله عليه وآله) من جهة، ومن جهة اُخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنباً آخر، ويستوجب عذاباً آخر.
والمراد من "الفاحشة المبيّنة" الذنوب العلنية، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها اُناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.
ولنا بحث في مورد "الضعف" و "المضاعف" سيأتي في البحوث.
أمّا قوله عزّوجلّ: (وكان ذلك على الله يسيراً) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى، وأنّ علاقتكنّ بالنّبي (صلى الله عليه وآله) ستكون مانعة منه، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء، أو يعيرونها أهميّة قليلة .. كلاّ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.
أمّا في الطرف المقابل، فتقول الآية: (ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرّتين واعتدنا لها رزقاً كريماً).
"يقنت" من القنوت، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(1)، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله، ويراعين الأدب مع ذلك تماماً.
ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اُخرى، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده، بل يجب أن تُلمس آثاره بمقتضى (وتعمل صالحاً).
"الرزق الكريم" له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعاً لكلّ هذه المواهب.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المفردات للراغب، مادّة قنوت.
[231]
بحث
لماذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟
قلنا: إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف، وإن ارتكبن ذنباً مبيّناً فلهنّ عذاب الضعف بما إكتسبن، إلاّ أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان إمتلاك المقام والمكانة المرموقة، والشخصية الإجتماعية البارزة، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز إجتماعي مهمّ.
إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة، بل إنّ لوجودهم بعدين: بعد يتعلّق بهم، وبعد يرتبط بالمجتمع، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سبباً لهداية جماعة من الناس، أو ضلال اُخرى.
بناءً على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين: أحدهما فردي، والآخر إجتماعي، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنّه قال: "يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد"(1)!
ومضافاً إلى ذلك، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة، حيث نقرأ: "إنّ الثواب على قدر العقل"(2).
وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): "إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا"(3).
بل ورد في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): إذا بلغت النفس ههنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة، ثمّ قرأ: (إنّما التوبة للذين يعملون السوء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، ص37 باب لزوم الحجّة على العالم.
2 ـ اُصول الكافي، الجزء الأوّل، صفحة 9 كتاب العقل والجهل.
3 ـ المصدر السابق.
[232]
بجهالة)(1).
ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة، فقد تكون ضعفين حيناً، وتكون أضعافاً مضاعفة حيناً آخر، تماماً كما في الأعداد التي لها صفة التكثير، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف: ضاعفته: ضممت إليه مثله فصاعداً ـ تأمّلوا بدقّة ـ
والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفاً شاهد آخر على هذا الإدّعاء.
إنّ تعدّد مراتب الأشخاص وإختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة إختلاف مكاناتهم الإجتماعية، وكونهم اُسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.
وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسين (عليهما السلام)، وذلك أنّ رجلا قال له: إنّكم أهل بيت مغفور لكم، فغضب الإمام وقال: "نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من أن نكون كما تقول، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، ولمسيئنا ضعفين من العذاب، ثمّ قرأ الآيتين"(2).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، صفحة 38 باب لزوم الحجّة على العالم، والآية (17) من سورة النساء.
2 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 354 ذيل الآية مورد البحث.
[233]
الآيات
يَـنِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفاً (32)وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرَّجَ الْجَـهِلِيَّةِ الاُْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءَاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً(34)
التّفسير
هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!
كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسؤولياتهنّ الخطيرة، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات، وتأمر الآيات نساء النّبي (صلى الله عليه وآله) بسبعة أوامر مهمّة.
فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة: (يانساء النّبي لستنّ كأحد من النساء إن
[234]
اتقيتنّ) فإنّ إنتسابكنّ إلى النّبي من جانب، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر، قد منحكن موقعاً خاصّاً بحيث تقدرن على أن تكن نموذجاً وقدوة لكلّ النساء، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية، وبناءً على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ، ولا تنسين مسؤولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.
وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاُخرى في هذا المجال تلقائياً، فيقول:
(فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وباُسلوب عاديّ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وإرتكاب المعاصي.
إنّ التعبير بـ (الذي في قلبه مرض) تعبير بليغ جدّاً، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عندما تكون في حدود الإعتدال والمشروعية فهي عين السلامة، أمّا عندما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضاً قد يصل إلى حدّ الجنون، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعاً وأقساماً من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.
ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقول عزّوجلّ: يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله، ومقترناً مع الحقّ والعدل: (وقلن قولا معروفاً).
إنّ جملة (لا تخضعن بالقول) إشارة إلى طريقة التحدّث، وجملة: (وقلن قولا
[235]
معروفاً) إشارة إلى محتوى الحديث.
"القول المعروف" له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل، إضافةً إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.
ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحاً للجملة الاُولى لئلاّ يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذياً وبعيداً عن الأدب الإسلامي، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ، وفي الوقت نفسه يكون خالياً من كلّ صفة مهيّجة.
ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة، فيقول: (وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاُولى).
"قرن" من مادّة الوقار، أي الثقل، وهو كناية عن إلتزام البيوت. وإحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار)، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيراً(1).
و "التبرّج" يعني الظهور أمام الناس، وهو مأخوذ من مادّة (برج)، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.
لكن ما هو المراد من "الجاهلية"؟
الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبي (صلى الله عليه وآله)، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.
ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ، تماماً كما نقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ طبعاً يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار، وحذفت الراء الاُولى للتخفيف، وإنتقلت فتحة الراء إلى القاف، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّداً ـ
[236]
للآخرين، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.
إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اُخرى ستأتي كالجاهلية الاُولى التي ذكرها القرآن، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي، إلاّ أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاُولى هي الفاصلة بين "آدم" و "نوح"، أو الفاصلة بين عصر "داود" و "سليمان" حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!
ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاُولى هي الجاهلية قبل الإسلام، والتي اُشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (143) من سورة آل عمران، والآية (50) من سورة المائدة، والآية (26) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.
وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس، فيقول سبحانه: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله).
إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الإتّصال والإرتباط بالخالق عزّوجلّ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة: (أطعن الله ورسوله) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.
إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي، بل هي للجميع، وإن أكّدت عليهنّ.
ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً).
إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادةً ـ دليل على أنّ هذه المنقبة
[237]
خاصّة بأهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله). وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية، وإلاّ فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله)، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.
من الممكن أن يقال: إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبراً، إلاّ أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية إكتسابية عن طريق أعمالهم، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه، ليستطيعوا أن يكونوا اُسوة للناس.
وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة، لا يقدمون على المعصية مع إمتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها، تماماً كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الإمتناع عن هذا العمل، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والإطلاع، والمبادىء الفطرية والطبيعية، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.
ولفظة "الرجس" تعني الشيء القذر، سواء كان نجساً وقذراً من ناحية طبع الإنسان، أو بحكم العقل أو الشرع، أو جميعها(1). وما ورد في بعض الأحيان من تفسير "الرجس" بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد، أو الإعتقاد بالباطل، وأمثال ذلك، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، وإلاّ فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.
و "التطهير" الذي يعني إزالة النجس، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذكر الراغب في مفرداته، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه، وأربعة أنواع كمصاديق له.
[238]
ونفي السيّئات، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيداً آخر على هذا المعنى.
وأمّا تعبير (أهل البيت) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله) باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين، وهو الشيء الذي يُفهم من ظاهر الآية، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة، إلاّ أنّ المراد منه بيت النّبي (صلى الله عليه وآله) بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(1).
إلاّ أنّ هناك إختلافاً في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟
إعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختّص بنساء النّبي، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.
غير أنّ الإنتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الإدّعاء، وهي: أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة، جاءت بصيغة ضمير النسوة، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع وإعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبي (صلى الله عليه وآله) رجالا ونساءً.
ومن جهة اُخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّاً الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله)، وتقول: إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط، وهم: محمّد (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط، أي إختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.
والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو: كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ما ذكره البعض من أنّ "البيت" هنا إشارة إلى بيت الله الحرام، وأهله هم "المتّقون" لا يتناسب مطلقاً مع سياق الآيات، لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبي (صلى الله عليه وآله) وأزواجه، لا عن بيت الله الحرام، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.
[239]
وقد أجاب المفسّر الكبير العلاّمة "الطبرسي" في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاُولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.
وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جواباً آخر ملخّصه: لا دليل لدينا على أنّ جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ...) قد نزلت مع هذه الآيات، بل يستفاد جيّداً من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبي (صلى الله عليه وآله) أو بعده.
والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو: أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي: إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسؤوليات ثقيلة، وينتظر منه الله وعباده إنتظارات كثيرة.
وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.
وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي، ونبّهتهن على ضرورة إستغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها، فتقول: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة).
فإنكنّ في مهبط الوحي، وفي مركز نور القرآن، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّداً من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبي (صلى الله عليه وآله) الذي كان يتحدّث به، فإنّ كل نَفَس من أنفاسه درس، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!
وفيما هو الفرق بين "آيات الله" و "الحكمة"؟ قال بعض المفسّرين: إنّ كليهما
[240]
إشارة إلى القرآن، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.
وقال البعض الآخر: إنّ "آيات الله" إشارة إلى آيات القرآن، و "الحكمة" إشارة إلى سنّة النّبي (صلى الله عليه وآله) مواعظه وإرشاداته الحكيمة.
ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر، إضافةً إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة، كالآية (231) من سورة البقرة: (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) ويشبهه ما جاء في الآية (113) من سورة النساء.
وأخيراً تقول الآية: (إنّ الله كان لطيفاً خبيراً) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها، ويعلم نيّاتكم تماماً، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.
هذا إذا فسّرنا "اللطيف" بالمطّلع على الدقائق والخفيات، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يانساء النّبي، وهو خبير بأعمالكنّ أيضاً.
ويحتمل أيضاً أن يكون التأكيد على "اللطيف" من جانب إعجاز القرآن، وعلى "الخبير" باعتبار محتواه الحِكَمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.
* * *
بحوث
1 ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة:
إعتبر بعض المفسّرين "الرجس" في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد، بل إنّ إطلاق
[241]
الرجس ـ وخاصّة بملاحظة ألفه ولامه، وهي ألف لام الجنس ـ يشمل كلّ أنواع الذنوب والمعاصي، لأنّ كلّ المعاصي رجس، ولذلك فإنّ هذه الكلمة أُطلقت في القرآن على الشرك والخمور والقمار والنفاق واللحوم المحرّمة والنجسة وأمثال ذلك.
اُنظر الآيات: الحجّ ـ 30، المائدة ـ 90، التوبة ـ 125، الأنعام ـ 145.
وبملاحظة أنّ الإرادة الإلهيّة حتمية التنفيذ والوقوع، وأنّ جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) دليل على إرادته الحتمية، وخاصّة بوجود كلمة (إنّما) الدالّة على الحصر والتأكيد، سيتّضح أنّ إرادة الله سبحانه قد قطعت بأن يكون أهل البيت منزّهين عن كلّ رجس وخطأ، وهذا هو مقام العصمة.
وثمّة مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّه ليس المراد من الإرادة الإلهيّة في هذه الآية الأوامر والأحكام الإلهيّة في مسائل الحلال والحرام، لأنّ هذه الأحكام تشمل الجميع، ولا تختّص بأهل البيت، وبناءً على هذا فإنّها لا تتناسب مع مفهوم (إنّما).
إذن، فهذه الإرادة المستمرّة نوع من الإمداد الإلهي الذي يعيّن أهل البيت على العصمة والإستمرار فيها، وهي في الوقت نفسه لا تنافي حرية الإرادة والإختيار، كما فصّلنا ذلك سابقاً.
إنّ مفهوم هذه الآية في الحقيقة هو عين ما جاء في الزيارة الجامعة: "عصمكم الله من الزلل، وآمنكم من الفتن، وطهّركم من الدنس وأذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيراً".
وينبغي أن لا نشكّ بعد هذا الإيضاح في دلالة الآية المذكورة على عصمة أهل البيت (عليهم السلام).
2 ـ فيمن نزلت آية التطهير؟
قلنا: إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها وردت ضمن الآيات المتعلّقة بنساء النّبي، إلاّ
[242]
أنّ تغيير سياقها ـ حيث تبدّل ضمير الجمع المؤنث إلى ضمير الجمع المذكّر ـ دليل على أنّ لهذه الآية معنىً ومحتوىً مستقلا عن تلك الآيات، ولهذا فحتّى اُولئك الذين لم يعتبروا الآية مختّصة بمحمّد (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فإنّهم إعتقدوا أنّ لها معنىً واسعاً يشمل هؤلاء العظام ونساء النّبي (صلى الله عليه وآله).
إلاّ أنّ الرّوايات الكثيرة التي بين أيدينا تبيّن أنّ هذه الآية خاصّة بهؤلاء الأجلاّء، ولا تدخل الزوجات ضمن الآية، بالرغم من أنهنّ يتمتّعن بإحترام خاصّ، ونضع بين أيديكم بعضاً من هذه الروايات:
أ : الرّوايات التي رويت عن أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله) أنفسهنّ، والتي حدثن فيها: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) عندما كان يتحدّث عن هذه الآية الشريفة سألناه: أنحن من أصحاب هذه الآية؟ فكان يجيب: بأنكنّ إلى خير، ولكن لستنّ من أصحابها.
ومن جملتها الرواية التي رواها "الثعلبي" عن "اُمّ سلمة" في تفسيره، وذلك أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان في بيتها إذ أتته فاطمة (عليها السلام) بقطعة حرير، فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): "ادعي لي زوجك وإبنيك ـ الحسن والحسين ـ" فأتت بهم فطعموا، ثمّ ألقى عليهم النّبي (صلى الله عليه وآله)كساءً له خيبرياً وقال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً" فنزلت آية التطهير، فقلت: يارسول الله وأنا معهم؟ قال: "إنّك إلى خير" ولكنّك لست منهم(1).
ويروي "الثعلبي" أيضاً عن "عائشة" أنّها عندما سئلت عن حرب الجمل وتدخّلها في تلك الحرب المدمّرة الطاحنة، قالت بأسف: كان ذلك قضاء الله. وعندما سئلت عن علي (عليه السلام) قالت: تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ لقد رأيت علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً (عليهم السلام)، وجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بثوب عليهم ثمّ قال: "اللهمّ هؤلاء أهل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روى الطبرسي في مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، هذا الحديث بهذا المضمون بطرق متعدّدة عن اُمّ سلمة. راجع شواهد التنزيل، للحاكم الحسكاني، المجلّد 2، صفحة 56 وما بعدها.
[243]
بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً" قالت: فقلت: يارسول الله، أنا من أهلك! قال: "تنحّي فإنّك إلى خير"(1) ـ إلاّ أنّك لست جزءاً منهم ـ .
إنّ هذه الرّوايات تصرّح أنّ زوجات النّبي (صلى الله عليه وآله) لسن جزءاً من أهل البيت في هذه الآية.
ب : لقد وردت روايات كثيرة جدّاً بصورة مجملة في شأن حديث الكساء، يستفاد منها جميعاً أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ـ أو أنّهم أتوا إليه ـ فألقى عليهم عباءة وقال: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"، فنزلت الآية: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ...).
وقد روى العالم المعروف "الحاكم الحسكاني النيسابوري" هذه الروايات في (شواهد التنزيل) بطرق مختلفة عن رواة مختلفين(2).
وهنا سؤال يلفت النظر، وهو: ماذا كان الهدف من جمعهم تحت الكساء؟
كأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان يريد أن يحدّد هؤلاء ويعرّفهم تماماً، ويقول: إنّ الآية أعلاه في حقّ هؤلاء خاصّة، لئلاّ يرى أحد أو يظنّ ظانّ أنّ المخاطب في هذه الآية كلّ من تربطه بالنّبي (صلى الله عليه وآله) قرابة، وكلّ من يعدّ جزءاً من أهله، حتّى جاء في بعض الرّوايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد كرّر هذه الجملة ثلاث مرّات: "اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً"(3).
ج : نقرأ في روايات عديدة اُخرى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) بقي ستّة أشهر بعد نزول هذه الآية ينادي عند مروره من جنب بيت فاطمة سلام الله عليها وهو ذاهب إلى صلاة الصبح: "الصلاة ياأهل البيت! إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً". وقد روى الحاكم الحسكاني هذا الحديث عن أنس بن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ شواهد التنزيل، المجلّد 2، صفحة 31 وما بعدها.
3 ـ الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث.
[244]
مالك(1).
وروى ابن عبّاس أيضاً هذا الحديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله)(2).
وهنا مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ تكرار هذه الأمر ستّة أشهر أو ثمانية أو تسعة أشهر بصورة مستمرّة جنب بيت فاطمة إنّما هو لبيان هذه المسألة تماماً لئلاّ يبقى مجال للشكّ لدى أيّ شخص بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء النفر فقط، خاصّة وأنّ الدار الوحيدة التي بقي بابها مفتوحاً إلى داخل المسجد بعد أن أمر الله نبيّه بأن تغلق جميع أبواب بيوت الآخرين، هي دار فاطمة (عليها السلام)، ولا شكّ أنّ جماعة من الناس كانوا يسمعون ذلك القول من النّبي (صلى الله عليه وآله) حين الصلاة هناك ـ تأمّلوا ذلك ـ .
ومع ذلك، فإنّ ممّا يثير العجب أنّ بعض المفسّرين يصرّون على أنّ للآية معنىً عامّاً تدخل فيه أزواج النّبي، بالرغم من أنّ أكثر علماء الإسلام، السنّة منهم والشيعة، قد حدّدوها بهؤلاء الخمسة.
وممّا يستحقّ الإلتفات أنّ عائشة ـ زوجة النّبي لم تكن تدع شيئاً في ذكر فضائلها، ودقائق علاقتها بالنّبي (صلى الله عليه وآله) بشهادة الروايات الإسلامية، فإذا كانت هذه الآية تشملها فلابدّ أنّها كانت ستتحدّث بها في المناسبات المختلفة، في حين لم يرو شيء من ذلك عنها مطلقاً.
د : رويت روايات عديدة عن الصحابي المعروف "أبي سعيد الخدري" تشهد بصراحة بأنّ هذه الآية قد نزلت في شأن هؤلاء الخمسة الأطهار: "نزلت في خمسة: في رسول الله، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين"(3). وهذه الرّوايات كثيرة بحيث عدّها بعض المحقّقين متواترة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ شواهد التنزيل، المجلّد 2، صفحة 11.
2 ـ الدرّ المنثور، ذيل الآية مورد البحث.
3 ـ شواهد التنزيل، الجزء 2، صفحة 25.
[245]
وممّا قلناه نستنتج أنّ المصادر ورواة الأحاديث التي تدلّ على إختصاص الآية بالخمسة المطهّرة وحصرها بهم كثيرة بحيث لا تدع لأحد المجال للشكّ في هذه الدلالة، حتّى أنّه ذُكر في شرح (إحقاق الحقّ) أكثر من سبعين مصدراً من مصادر العامّة المعروفة، وأمّا مصادر الشيعة في هذا الباب فتربو على الألفا(1). وقد روى صاحب كتاب (شواهد التنزيل) ـ وهو من علماء الإخوة السنّة المشهورين ـ أكثر من (130) حديثاً في هذا الموضوع(2).
وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ بعض أزواج النّبي قد قمن بأعمال طوال حياتهنّ تخالف مقام العصمة، ولا تناسب كونهنّ معصومات، كحادثة "حرب الجمل" التي كانت ثورة وخروجاً على إمام الزمان، والتي تسبّبت في إراقة دماء كثيرة، فقد بلغ عدد القتلى في هذه الحرب ـ عند بعض المؤرخّين ـ سبعة عشر ألف قتيل.
ولا شكّ أنّ هذه المعركة لا يمكن توجيهها، بل إنّنا نرى أنّ عائشة نفسها قد أظهرت الندم بعدها، وقد مرّ نموذج من هذا الندم في البحوث السابقة.
إنّ إنتقاص عائشة من خديجة ـ والتي هي من أعظم نساء المسلمين، وأكثرهنّ تضحية وإيثاراً، وأجلّهنّ فضيلة وقدراً ـ مشهور في تاريخ الإسلام، وقد آلم هذا الكلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى ظهرت على وجهه الشريف آثار الغضب وقال: "لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس"(3).
3 ـ هل أنّ الإرادة الإلهيّة هنا تكوينية أم تشريعية؟
مرّت الإشارة في طيّات تفسير هذه الآية إلى هذا الموضوع، وقلنا: إنّ الإرادة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يراجع الجزء الثّاني، من إحقاق الحقّ وهوامشه.
2 ـ يراجع المجلّد الثّاني، من شواهد التنزيل، صفحة 10 ـ 92.
3 ـ الإستيعاب، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم. طبقاً لنقل المراجعات صفحة 229 الرسالة 72.
[246]
في جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) إرادة تكوينية لا تشريعية.
ولمزيد التوضيح ينبغي أن نذكّر بأنّ المراد من "الإرادة التشريعية" هي أوامر الله ونواهيه، فنعلم مثلا أنّ الله سبحانه يريد منّا أداء الصلاة والصوم والحجّ والجهاد، وهذه إرادة تشريعية. ومن المعلوم أنّ الإرادة التشريعية تتعلّق بأفعالنا لا بأفعال الله عزّوجلّ. في حين أنّ الآية أعلاه تتعلّق بأفعال الله سبحانه، فهي تقول: إنّ الله أراد أن يذهب عنكم الرجس، وبناءً على هذا فإنّ مثل هذه الإرادة يجب أن تكون تكوينية، ومرتبطة بإرادة الله سبحانه في عالم التكوين.
إضافةً إلى ذلك، فإنّ مسألة الإرادة التشريعية فيما يتعلّق بالتقوى والعفّة لا تنحصر بأهل البيت (عليهم السلام)، لأنّ الله قد أمر الجميع بالتقوى والتطهّر من الذنوب، وبذلك لا تكون لهم مزيّة وخاصيّة، لأنّ كلّ المكلّفين مشمولون بهذا الأمر.
وعلى أيّة حال، فإنّ هذا الموضوع ـ أي الإرادة التشريعيّة ـ مضافاً إلى أنّه لا يناسب ظاهر الآية، فانّه لا يتناسب مع الأحاديث السابقة بأيّ وجه من الوجوه، لأنّ كلّ تلك الأحاديث تتحدّث عن فضيلة سامية وهبة مهمّة خاصّة بأهل البيت (عليهم السلام).
ومن المسلّم أيضاً أنّ "الرجس" هنا لا يعني الرجس الظاهري، بل هو إشارة إلى الأرجاس الباطنية، وإطلاق هذه الكلمة ينفي إنحصارها وكونها محدودة بالشرك والكفر والأعمال المنافية للعفّة وأمثال ذلك، فإنّها تشمل كلّ الذنوب والمعاصي والمفاسد العقائدية والأخلاقية والعملية.
والمسألة الاُخرى التي ينبغي الإلتفات إليها بدقّة هي أنّ الإرادة التكوينية التي تعني الخلقة والإيجاد، تعني هنا "المقتضي" لا العلّة التامّة لتكون موجبة للجبر وسلب الإختيار.
وتوضيح ذلك، إنّ مقام العصمة يعني حالة تقوى الله التي توجد عند الأنبياء والأئمّة بمعونة الله سبحانه، لكن وجود هذه الحالة لا يعني أنّهم غير قادرين على
[247]
إرتكاب المعصية، بل إنّهم قادرون على إتيانها، غير أنّهم يعفّون أنفسهم ويجلّونها عن التلوّث بها بإختيارهم، ويغضّون الطرف عنها طوعاً، تماماً كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقاً مادّة سمّية جدّاً وهو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها، ومع أنّه قادر على تناولها، إلاّ أنّ علومه وإطلاعه ومبادئه الفكرية والروحية تدفعه إلى الإمتناع إرادياً وإختياراً عن هذا العمل.
ويجب التذكير بهذه المسألة، وهي أنّ هذه التقوى موهبة خاصّة منحت للأنبياء لا للآخرين، لكن الله سبحانه قد منحهم إيّاها للمسؤوليات الثقيلة الخطيرة الملقاة على عاتقهم في قيادة الناس وإرشادهم، وبناءً على هذا فإنّه إمتياز يعود نفعه على الجميع، وهذه عين العدالة، تماماً كالإمتياز الخاصّ الذي منحه الله لطبقات العين وأغشيتها الرقيقة والحسّاسة جدّاً، والتي يستفيد منها جميع البدن.
إضافةً إلى أنّ الأنبياء تعظم مسؤولياتهم وواجباتهم بنفس المقدار الذي يتمتّعون بهذا المواهب الإلهية والإمتيازات، فإنّ ترك الاُولى من قبلهم يعادل ذنباً كبيراً يصدر من الناس العاديين، وهذا معيار وتشخيص لخطّ العدالة.
والنتيجة أنّ هذه الإرادة إرادة تكوينية في حدود المقتضى ـ وليست علّة تامّة ـ وهي في الوقت نفسه لا توجب الجبر ولا تسلب الإختيار والإرادة الإنسانية.
4 ـ جاهلية القرن العشرين!
مرّت الإشارة إلى أنّ جمعاً من المفسّرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاُولى) وكأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اُخرى في العالم بعد ظهور الإسلام، وأنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة، إلاّ أنّ هذا الأمر قد تجلّى للجميع اليوم، حيث نرى مظاهر جاهلية القرن العشرين المرعبة، ويجب أن تعدّ تلك إحدى تنبؤات القرآن الإعجازية.
إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون ويحاربون، وإذا كان سوق عكاظ ـ
[248]
مثلا ـ ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات، وقتل على أثرها أفراد معدودون، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان، وجرح وتعوّق أكثر من هذا العدد!
وإذا كانت النساء "تتبرّج" في زمن الجاهلية ويلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهنّ ونحورهنّ وقلائدهنّ وأقراطهنّ، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّى بنوادي العراة ـ ونموذجها مشهور في بريطانيا ـ حيث يتعرّى أفرادها كما ولدتهم اُمّهاتهم، وفضائح البلاجات على سواحل البحار والمسابح، بل وحتّى في الأماكن العامّة وعلى قارعة الطريق يخجل القلم من ذكرها.
وإذا كانت في الجاهلية "زانيات من ذوات الأعلام"، حيث كنّ يرفعن أعلاماً فوق بيوتهنّ ليدعين الناس إلى أنفسهنّ، ففي جاهلية قرننا اُناس يطرحون اُموراً ومطالب في هذا المجال عبر صحف خاصّة، يندى لها الجبين، ولجاهلية العرب مئة مرتبة من الشرف على هذه الجاهلية.
والخلاصة: ماذا نقول عن وضع المفاسد التي توجد في عصرنا الحاضر .. عصر التمدّن المادّي الآلي الخالي من الإيمان، فعدم الحديث عنها أولى، ولا ينبغي أن نلوّث هذا التّفسير بذكرها.
إنّ ما قلناه كان جانباً من العبء الملقى على عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن الله تعالى، فإنّهم وإن امتلكوا آلاف الجامعات والمراكز العلمية والعلماء المعروفين، فهم غارقون في وحل الفساد ومستنقع الرذيلة، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية وعلماءها في خدمة هذه الفجائع والمفاسد أحياناً.
* * *
[249]
الآية
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ وَالْقَنِتِينَ وَالْقَـنِتَـتِ وَالصَّـدِقِينَ وَالصَّـدِقَـتِ وَالصَّـبِرِينَ وَالصَّـبِرَتِ وَالْخَـشِعِينَ وَالْخَـشِعَـتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَـتِ وَالصَّـئِمِينَ وَالصَّـئِمَـتِ وَالْحَـفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَـفِظَـتِ وَالذَّكرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّكِرَتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً(35)
سبب النّزول
أورد جمع من المفسّرين في سبب نزول هذه الآية انّه عندما رجعت "أسماء بنت عميس" زوجة "جعفر بن أبي طالب" من الحبشة مع زوجها، جاءت إلى زوجات النّبي، فسألتهن: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ فقلن: لا، فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت:
"يارسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار. فقال: وممّ ذلك؟ قالت: لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال. فأنزل الله تعالى هذه الآية (التي طمأنت النساء بأنّ
[250]
لهنّ درجة عند الله مساوية للرجال، وأكّدت على أنّ المعيار هو العقيدة والعمل والأخلاق الإسلامية).
التّفسير
شخصية المرأة ومكانتها في الأسلام:
بعد البحوث التي ذكرت في الآيات السابقة حول واجبات أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله)، فقد ورد في هذه الآية كلام جامع عميق المحتوى في شأن كلّ النساء والرجال وصفاتهم، وبعد أن ذكرت عشر صفات من صفاتهم العقائدية والأخلاقية والعملية، بيّنت الثواب العظيم المعدّ لهم في نهايتها.
إنّ بعض هذه الصفات العشر تتحدّث عن مراحل الإيمان (الإقرار باللسان، والتصديق بالقلب والجنان، والعمل بالأركان).
والقسم الآخر يبحث في التحكّم باللسان والبطن والشهوة الجنسية، والتي تشكّل ثلاثة عوامل مصيرية في حياة البشر وأخلاقهم.
وتحدّثت في جانب آخر عن مسألة الدفاع عن المحرومين، والإستقامة أمام الحوادث الصعبة، أي الصبر الذي هو أساس الإيمان.
وأخيراً تتحدّث عن عامل إستمرار هذه الصفات، أي "ذكر الله تعالى".
تقول الآية: (إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات). أي المطيعين لأوامر الله والمطيعات.
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد اعتبر الإسلام والإيمان في الآية بمعنى واحد، إلاّ أنّ من الواضح أنّ هذا التكرار يوحي بأنّ المراد منهما شيئان مختلفان، وهو إشارة إلى المطلب الذي ورد في الآية (14) من سورة الحجرات: (قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم)!
وهو إشارة إلى أنّ "الإسلام" هو الإقرار باللسان الذي يجعل الإنسان في صفّ
[251]
المسلمين، ويصبح مشمولا بأحكامهم، إلاّ أنّ "الإيمان" هو التصديق بالقلب والجنان.
وقد أشارت الرّوايات الإسلامية إلى هذا التفاوت في المعنى، ففي رواية أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) سأله عن الإسلام والإيمان، وهل أنّهما مختلفان؟ فقال الإمام (عليه السلام): "إنّ الإيمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان"، فاستوضح الرجل الإمام أكثر فقال (عليه السلام): "الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب، وما ظهر من العمل به"(1).
"قانت" من مادّة (القنوت)، وهي ـ كما قلنا سابقاً ـ الطاعة المقترنة بالخضوع، الطاعة التي تنبع من الإيمان والإعتقاد، وهذه إشارة إلى الجوانب العملية للإيمان وآثاره.
ثمّ تطرقت إلى أحد أهمّ صفات المؤمنين الحقيقيين، أي حفظ اللسان، فتقول: (والصادقين والصادقات).
ويستفاد من الرّوايات أنّ إستقامة إيمان الإنسان وصدقه بإستقامة لسانه وصدقه: "لا يستقيم إيمان امرىء حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه"(2).
ولمّا كان الصبر والتحمّل والصلابة أمام المشاكل والعقبات هو أساس الإيمان، ودوره ومنزلته في معنويات الإنسان بمنزلة الرأس من الجسد، فقد وصفتهم الآية بصفتهم الخامسة، فقالت: (والصابرين والصابرات).
ونعلم أنّ أحد أسوأ الآفات الأخلاقية هو الكبر والغرور وحبّ الجاه، والنقطة التي تقع في مقابله هي "الخشوع"، لذلك كانت الصفة السادسة: (والخاشعين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، المجلّد الثّاني، صفحة 21 باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام.
2 ـ المحجّة البيضاء، المجلّد 5، ص193.
[252]
والخاشعات).
وإذا تجاوزنا حبّ الجاه، فإنّ حبّ المال أيضاً آفةً كبرى، وعبادته والتعلّق به ذلّة خطيرة مرّة، ويقابله الإنفاق ومساعدة المحتاجين، لذلك كانت صفتهم السابعة: (والمتصدّقين والمتصدّقات).
قلنا: إنّ ثلاثة أشياء إذا تخلّص الإنسان من شرّها، فإنّه سيبقى في مأمن من كثير من الآفات والشرور الأخلاقية، وهي: اللسان والبطن والشهوة الجنسية، وقد اُشير إلى الأوّل في الصفة الرّابعة، أمّا الشيء الثّاني والثالث فقد أشارت إليهما الآية في الصفتين الثامنة والتاسعة، فقالت: (والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات).
وأخيراً تطرّقت الآية إلى الصفة العاشرة التي يرتبط بها الإستمرار في كلّ الصفات السابقة والمحافظة عليها، فقالت: (والذاكرين الله كثيراً والذاكرات).
أجل .. إنّ هؤلاء يجب أن يكونوا مع الله ويذكروه في كلّ حال، وفي كلّ الظروف، وأن يزيحوا عن قلوبهم حجب الغفلة والجهل، ويبعدون عن أنفسهم همزات الشياطين ووساوسهم، وإذا ما بدرت منهم عثرة فإنّهم يهبون لجبرانها في الحال لئلاّ يحيدوا عن الصراط المستقيم.
وقد ذكرت تفاسير مختلفة لـ "الذكر الكثير" في الرّوايات وكلمات المفسّرين، وكلّها من قبيل ذكر المصداق ظاهراً، ويشملها جميعاً معنى الكلمة الواسع. ومن جملتها ما نقرؤه في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضّئا وصلّيا كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات"(1).
وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من بات على تسبيح فاطمة (عليها السلام) كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير مجمع البيان وتفسير القرطبي، ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
[253]
وقال بعض المفسّرين: إنّ "الذكر الكثير" هو الذكر حال القيام والقعود، وذكر الله عندما يأوي المرء إلى فراشه.
وعلى أي تقدير، فإنّ الذكر علامة الفكر، والفكر مقدّمة للعمل، فليس الهدف هو الذكر الخالي من الفكر والعمل مطلقاً.
ثمّ تبيّن الآية في النهاية الأجر الجزيل لهذه الفئة من الرجال والنساء الذين يتمتّعون بهذه الخصائص العشرة بأنّهم قد (أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً) فإنّه تعالى قد غسل ذنوبهم التي كانت سبباً في تلوّث أرواحهم، بماء المغفرة، ثمّ كتب لهم الثواب العظيم الذي لا يعرف مقداره إلاّ هو.
والواقع إنّ أحد هذين الأمرين يطرد كلّ المنغّصات، والآخر يجلب كلّ الخيرات.
إنّ التعبير بـ "أجراً" دليل بنفسه على عظمته، ووصفه بـ "العظيم" تأكيد على هذه العظمة، وكون هذه العظمة مطلقة دليل آخر على سعة أطرافها وتراميها، ومن البديهي، أنّ الشيء الذي يعده الله عظيماً يكون خارقاً في عظمته.
وثمّة مسألة تستحقّ الإنتباه، وهي أنّ جملة (أعدّ) قد وردت بصيغة الماضي، وهو بيان لحتمية هذا الأجر والجزاء وعدم إمكان خلفه وعدم الوفاء به، أو أنّه إشارة إلى أنّ الجنّة ونعمها معدّة منذ الآن للمؤمنين.
* * *
بحث
مساواة الرجل والمرأة عند الله:
يتصوّر البعض أحياناً أنّ الإسلام قد رجّح كفّة شخصية الرجال، ولا مكانة مهمّة للنساء في برامج الإسلام، وربّما كان منشأ هذا الإشتباه هو بعض الإختلافات الحقوقية، والتي لكلّ منها فلسفة خاصّة.
[254]
ومع غضّ النظر عن مثل هذه الإختلافات التي لها علاقة بالمكانات والمراكز الإجتماعية وظروفها الطبيعية ـ فلا شكّ في عدم وجود أي فرق بين الرجل والمرأة في تعليمات الإسلام من الناحية الإنسانية والمقامات المعنوية، والآية المذكورة دليل واضح على هذه الحقيقة، لأنّها وضعت المرأة والرجل في مرتبة واحدة ككفّتي ميزان لدى تبيانها خصائص المؤمنين، وأهمّ المسائل العقائدية والأخلاقية والعملية، ووعدت الإثنين بمكافآت متكافئة وثواب متساو بدون أي تفاوت وإختلاف.
وبتعبير آخر: لا يمكن إنكار التفاوت الجسمي بين الرجل والمرأة، كما لا يمكن إنكار التفاوت النفسي بينهما أيضاً، ومن البديهي أنّ هذا التفاوت ضروري لإدامة نظام المجتمع الإنساني، كما أنّه يفرز آثاراً ونتائج في بعض القوانين الحقوقية للمرأة والرجل، إلاّ أنّ الإسلام لم يطرح شخصية المرأة الإنسانية للمناقشة ـ كما فعل ذلك بعض القساوسة المسيحيين في القرون الماضية ـ بأنّ المرأة هل هي إنسان في الواقع؟ وهل لها روح إنسانية أم لا؟!
ولم يكتف بذلك فحسب، بل أكّد على عدم الفرق بين الجنسين من ناحية الروح الإنسانية، ولذلك نقرأ في الآية (97) من سورة النحل (من عمل صالحاً من ذكر أو اُنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياةً طيّبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
لقد أقرّ الإسلام للمرأة نفس الإستقلال الإقتصادي الذي أقرّه للرجل، على عكس كثير من قوانين العالم السابقة، بل وحتّى قوانين عالم اليوم التي لم تبح للمرأة الإستقلال الإقتصادي مطلقاً.
من هنا، فإنّنا نلاحظ في علم الرجال الإسلامي جانباً خاصّاً يتعلّق بالنساء العالمات اللواتي كنّ في مصافّ الرواة والفقهاء، وقد ذكرن كشخصيات مؤثّرة وفاعلة في التاريخ الإسلامي.
[255]
وإذا رجعنا إلى تاريخ العرب قبل الإسلام، وحقّقنا في وضع النساء في ذلك المجتمع، ورأينا كيف أنهنّ كنّ محرومات من أبسط حقوق الإنسان، بل لم يكن المشركون يعتقدون بأنّ لهنّ حقّ الحياة أحياناً، ولذلك كانوا يئدونهنّ وهنّ أحياء بعد ولادتهنّ!!
وكذلك إذا نظرنا إلى وضع المرأة في عالمنا المعاصر حيث أصبحت اُلعوبة لا إختيار لها ولا إرادة في أيدي مجموعة من المتلبّسين بلباس الإنسانية ويدعون التمدّن، فسوف ندرك جيداً بأنّ الإسلام قد خدم المرأة أيّما خدمة، وله حقّ عظيم عليهنّ(1)؟!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كان لنا بحث آخر في هذا المجال في ذيل الآية (228) من سورة البقرة، وكذلك ورد بحث آخر في ذيل الآية (97) من سورة النحل.
[256]
الآيات
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلا مُّبِيناً(36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا(37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَج فِيَما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَّقْدُوراً(38)
سبب النّزول
نزلت هذه الآيات ـ على قول أغلب المفسّرين ـ في قضيّة زواج "زينب بنت جحش" ـ بنت عمّة الرّسول الأكرم ـ بزيد بن حارثة مولى النّبي (صلى الله عليه وآله) المعتق، وكانت القصّة كما يلي:
[257]
كانت خديجة قد إشترت قبل البعثة وبعد زواجها بالنّبي (صلى الله عليه وآله) عبداً إسمه زيد، ثمّ وهبته للنبي (صلى الله عليه وآله) فأعتقه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلمّا طردته عشيرته وتبرّأت منه تبنّاه النّبي (صلى الله عليه وآله).
وبعد ظهور الإسلام أصبح زيد مسلماً مخلصاً متفانياً، وأصبح له موقع ممتاز في الإسلام، وكما نعلم فإنّه أصبح في النهاية أحد قوّاد جيش الإسلام في معركة مؤتة وإستشهد فيها.
وعندما صمّم النّبي (صلى الله عليه وآله) على أن ينتخب زوجة لزيد، خطب له "زينب بنت جحش" ـ والتي كانت بنت "اُميّة بنت عبدالمطلّب"، أي بنت عمّته ـ فكانت زينب تظنّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يريد أن يخطبها لنفسه، فسرّت ورضيت، ولكنّها لمّا علمت فيما بعد أن خطبته كانت لزيد تأثّرت تأثّراً شديداً وإمتنعت، وكذلك خالف أخوها عبدالله هذه الخطبة أشدّ مخالفة.
هنا نزلت الآية الاُولى من الآيات مورد البحث وحذّرت زينب وعبدالله وأمثالهما بأنّهم لا يقدرون على مخالفة أمر يراه الله ورسوله ضرورياً، فلمّا سمعا ذلك سلّما لأمر الله.
إنّ هذا الزواج لم يكن زواجاً بسيطاً ـ كما سنرى ذلك ـ بل كان مقدّمة لتحطيم سنّة جاهلية مغلوطة، حيث لم تكن أيّة امرأة لها مكانتها وشخصيتها في المجتمع مستعدّة للإقتران بعبد في زمن الجاهلية، حتّى وإن كان متمتّعاً بقيم إنسانية عالية.
غير أنّ هذا الزواج لم يدم طويلا، بل إنتهى إلى الطلاق نتيجة عدم الإنسجام وإختلاف أخلاق الزوجين، بالرغم من أنّ النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان مصرّاً على أن لا يتمّ هذا الطلاق.
بعد ذلك اتّخذ النّبي (صلى الله عليه وآله) بأمر الله "زينب" زوجةً له لتعوّض بذلك فشلها في زواجها، فإنتهت المسألة هنا، إلاّ أنّ همهمات وأقاويل قد ظهرت بين الناس، وقد إقتلعها القرآن و عالجها في هذه الآيات التي نبحثها، وسيأتي تفصيل ذلك، إن
[258]
شاءالله تعالى(1).
التّفسير
تمرّد عظيم على العرف:
نعلم أنّ روح الإسلام التسليم، ويجب أن يكون تسليماً لأمر الله تعالى بدون قيد أو شرط، وقد ورد هذا المعنى في آيات مختلفة من القرآن الكريم، وبعبارات مختلفة، ومن جملتها الآية أعلاه، والتي تقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) بل يجب أن يجعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة الله تعالى، كما أنّ كلّ وجودهم من الشعر حتّى أخمص القدمين مرتبط به ومذعن له.
(قضى) هنا تعني القضاء التشريعي، والقانون والأمر والحكم والقضاء، ومن البديهي أنّ الله تعالى غني عن طاعة الناس وتسليمهم، ولم يكن النّبي (صلى الله عليه وآله) ينظر بعين الطمع لهذه الطاعة، بل هي في الحقيقة لمصلحتهم ومنفعتهم، فإنّهم قد يجهلونها لكون علمهم وآفاتهم محدودة، إلاّ أنّ الله تعالى يعلمها فيأمر نبيّه بإبلاغها.
إنّ هذه الحالة تشبه تماماً حالة الطبيب الماهر الذي يقول للمريض: إنّني أبدأ بعلاجك إذا أذعنت لأوامري تماماً، ولم تبد أي مخالفة تجاهها، وهذه الكلمات تبيّن غاية حرص الطبيب على علاج مريضه، والله تعالى أسمى وأرحم بعباده من مثل هذا الطبيب، ولذلك أشارت الآية إلى هذه المسألة في نهايتها، حيث تقول: (ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبيناً).
فسوف يضلّ طريق السعادة، ويسلك طريق الضلال والضياع، لأنّه لم يعبأ بأمر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إقتباس من تفسير مجمع البيان، والقرطبي، والميزان، والفخر الرازي، وفي ظلال القرآن، وتفاسير اُخرى في ذيل الآيات مورد البحث، وكذلك سيرة ابن هشام، المجلّد الأوّل، صفحة 264، والكامل لابن الأثير، المجلّد الثّاني، صفحة 177.
[259]
ربّ الكون الرحيم، وبأمر رسوله، ذلك الأمر الضامن لخيره وسعادته، وأيّة ضلالة أوضح من هذه؟!
ثمّ تناولت الآية التالية قصّة "زيد" وزوجته "زينب" المعروفة، والتي هي إحدى المسائل الحسّاسة في حياة النّبي (صلى الله عليه وآله)، ولها إرتباط بمسألة أزواج النّبي (صلى الله عليه وآله)التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتّق الله).
والمراد من نعمة الله تعالى هي نعمة الهداية والإيمان التي منحها لزيد بن حارثة، ومن نعمة النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه كان قد أعتقه وكان يعامله كولده الحبيب العزيز.
ويستفاد من هذه الآية أنّ شجاراً قد وقع بين زيد وزينب، وقد استمرّ هذا الشجار حتّى بلغ أعتاب الطلاق، وبملاحظة جملة (تقول) حيث إنّ فعلها مضارع، يتسفاد أنّ النّبي كان ينصحه دائماً ويمنعه من الطلاق.
هل أنّ هذا الشجار كان نتيجة عدم تكافؤ الحالة الإجتماعية بين زينب وزيد، حيث كانت من قبيلة معروفة، وكان هو عبداً معتق؟
أم كان ناتجاً عن بعض الخشونة في أخلاق زيد؟
أو لا هذا ولا ذاك، بل لعدم وجود إنسجام روحي وأخلاقي بينهما، فإنّ من الممكن أن يكون شخصان جيدين، إلاّ أنّهما يختلفان من ناحية السلوك والفكر والطباع بحيث لا يستطيعان أن يستمرا في حياة مشتركة؟
ومهما يكن الأمر فإنّ المسألة إلى هنا ليست بذلك التعقيد.
ثمّ تضيف الآية: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه).
لقد أسهب المفسّرون هنا في الكلام، وكان تسامح بعضهم في التعبيرات قد منح الأعداء حربة للطعن، في حين يفهم من القرائن الموجودة في نفس الآية، وسبب نزول الآيات، والتأريخ، أنّ معنى الآية ليس مطلباً ومبحثاً معقّداً، وذلك:
[260]
إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان قد قرّر أن يتّخذ "زينب" زوجة له إذا ما فشل الصلح بين الزوجين ووصل أمرهم إلى الطلاق لجبران هذه النكسة الروحية التي نزلت بابنة عمّته زينب من جرّاء طلاقها من عبده المعتق، إلاّ أنّه كان قلقاً وخائفاً من أن يعيبه الناس ويثير مخالفيه ضجّة وضوضاء، من جهتين:
الاُولى: أنّ زيداً كان ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالتبنّي، وكان الابن المتبنّى ـ طبقاً لسنّة جاهلية ـ يتمتّع بكلّ أحكام الابن الحقيقي، ومن جملتها أنّهم كانوا يعتقدون حرمة الزواج من زوجة الابن المتبنّى المطلّقة.
والاُخرى: هي كيف يمكن للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يتزوّج مطلّقة عبده المعتق وهو في تلك المنزلة الرفيعة والمكانة السامية؟
ويظهر من بعض الروايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد صمّم على أن يقدم على هذا الأمر بأمر الله سبحانه رغم كلّ الملابسات والظروف، وفي الجزء التالي من الآية قرينة على هذا المعنى.
بناءً على هذا، فإنّ هذه المسألة كانت مسألة أخلاقية وإنسانية، وكذلك كانت وسيلة مؤثّرة لكسر سنّتين جاهليتين خاطئتين، وهما: الإقتران بمطلّقة الابن المتبنّى، والزواج من مطلّقة عبد معتق.
من المسلّم أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لا ينبغي أن يخاف الناس في مثل هذه المسائل، ولا يدع للضعف والتزلزل والخشية من تأليب الأعداء وشايعاتهم إلى نفسه سبيلا، إلاّ أنّ من الطبيعي أن يبتلى الإنسان بالخوف والتردّد في مثل هذه المواقف، خاصّة وأنّ أساس هذه المسائل كان إختيار الزوجة، وأنّه كان من الممكن أن تؤثّر هذه الأقاويل والضجيج على إنتشار أهدافه المقدّسة وتوسّع الإسلام، وبالتالي ستؤثّر على ضعفاء الإيمان، وتغرس في قلوبهم الشكّ والتردّد.
لهذا تقول الآية في متابعة المسألة: إنّ زيد لمّا أنهى حاجته منها وطلّقها زوجناها لك: (فلمّا قضى زيد منها وطراً زوّجناكها لكي لا يكون على المؤمنين
[261]
حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطراً) وكان لابدّ أن يتمّ هذا الأمر (وكان أمر الله مفعولا).
"الأدعياء" جمع "دعي"، أي الابن المتبنّى، و "الوطر" هو الحاجة المهمّة، وإختيار هذا التعبير في مورد طلاق زينب للطف البيان، لئلاّ يصرّح بالطلاق الذي يعدّ عيباً للنساء، بل وحتّى للرجال، فكأنّ كلا من هذين الشخصين كان محتاجاً للآخر ليحيا حياة مشتركة لمدّة معيّنة، وإفتراقهما كان نتيجة لإنتفاء هذه الحاجة ونهايتها.
والتعبير بـ (زوجناكها) دليل على أنّ هذا الزواج كان زواجاً بأمر الله، ولذلك ورد في التواريخ أنّ زينب كانت تفتخر بهذا الأمر على سائر زوجات النّبي (صلى الله عليه وآله)، وكانت تقول: زوّجكنّ أهلوكنّ وزوّجني الله من السماء(1).
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ القرآن الكريم يبيّن بمنتهى الصراحة الهدف الأصلي من هذا الزواج، وهو إلغاء سنّة جاهلية كانت تقضي بمنع الزواج من مطلّقات الأدعياء، وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة كلّية، وهي أنّ تعدّد زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن أمراً عادياً بسيطاً، بل كان يرمي إلى أهداف كان لها أثرها في مصير دينه.
وجملة (كان أمر الله مفعولا) إشارة إلى وجوب الحزم في مثل هذه المسائل، وكلّ عمل ينبغي فعله يجب أن ينجز ويتحقّق، حيث لا معنى للإستسلام أمام الضجيج والصخب في المسائل التي تتعلّق بالأهداف العامّة والأساسية.
ويتّضح من التّفسير الواضح الذي أوردناه في بحث الآية أعلاه أنّ الإدّعاءات التي أراد الأعداء أو الجهلاء إسنادها لهذه الآية لا أساس لها مطلقاً، وسنعطي في بحث الملاحظات توضيحاً أكثر في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
وتقول الآية الأخيرة في تكميل المباحث السابقة: (ما كان على النّبي من حرج
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكامل لابن الأثير، المجلّد 2، ص177. وممّا يستحقّ الإلتفات أنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من زينب قد تمّ في السنة الخامسة للهجرة. المصدر السابق.
[262]
فيما فرض الله) فحيث يأمره الله سبحانه لا تجوز المداهنة في مقابل أمره تعالى، ويجب تنفيذه بدون أيّ تردّد.
إنّ القادة الربانيين يجب أن لا يصغوا إلى كلام هذا وذاك لدى تنفيذ الأوامر الإلهيّة، أو يراعوا الأجواء السياسية والآداب والأعراف الخاطئة السائدة في المحيط، وربّما كان هذا الأمر قد صدر لتمزيق هذه الأعراف المغلوطة، ولتحطيم البدع القبيحة.
إنّ القادة الإلهيين يجب أن ينفّذوا أمر الله بدون خوف من الملامة والعتاب والضجّة والغوغاء، وأن كونوا مصداق (ولا يخافون لومة لائم).(1)
إنّنا إذا أردنا أن نجلس وننتظر رضا الجميع وسرورهم ثمّ ننفّذ أمر الله سبحانه، فلنعلم أنّ هذا الأمر لا يمكن تحقّقه، لأنّ بعض الفئات لا ترضى حتّى نستسلم لما تريد ونتّبع دينها وفكرها، كما يقول القرآن الكريم ذلك: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم).(2)
وكذلك كان الأمر في مورد الآية التي نبحثها، لأنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من زينب كان يكتنفه في أفكار الناس العامّة إشكالان كما قلنا:
الأوّل: أنّ الزواج بمطلّقة المدّعى كان في نظر اُولئك كالزواج بزوجة الابن الحقيقي، وكانت هذه بدعة يجب أن تُلغى.
والآخر: أنّ زواج رجل مرموق له مكانته في المجتمع كالنّبي (صلى الله عليه وآله) من مطلّقة غلام محرّر كان يعدّ عيباً وعاراً، لأنّه يجعل النّبي والعبد في مرتبة واحدة، وهذه الثقافة الخاطئة كان يجب أن تقلع وتجتّث من الجذور لتُزرع مكانها القيم الإنسانية، وكون الزوجين كفؤين لبعضهما إنّما يستقيم ويقاس على أساس الإسلام والإيمان والتقوى وحسب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المائدة، 54.
2 ـ البقرة، 120.
[263]
وأساساً فانّ مخالفة السنن والأعراف، وإقتلاع الآداب والعادات الخرافية وغير الإنسانية يقترن عادةً بالضجيج والغوغاء والصخب، وينبغي أن لا يهتمّ الأنبياء بهذا الضجيج والصخب مطلقاً، ولذلك تعقب الجملة التالية فتقول: (سنّة الله في الذين خلوا من قبل).
فلست الوحيد المبتلى بهذه المشكلة، بل إنّ الأنبياء جميعاً كانوا يعانون هذه المصاعب عند مخالفتهم سنن مجتمعاتهم، وعند سعيهم لإجتثاث اُصول الأعراف الفاسدة منها.
ولم تكن المشكلة الكبرى منحصرة في محاربة هاتين السنّتين الجاهليتين، بل إنّ هذا الزواج لمّا كان مرتبطاً بالنّبي (صلى الله عليه وآله) فإنّه يمكن أن يعطي الأعداء حربة اُخرى ليعيبوا على النّبي (صلى الله عليه وآله) فعله، ويطعنوا في دينه، وسيأتي تفصيل ذلك.
ويقول الله سبحانه في نهاية الآية تثبيتاً لاتّباع الحزم في مثل هذه المسائل الأساسية: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً).
إنّ التعبير بـ (قدراً مقدوراً) قد يكون إشارة إلى كون الأمر الإلهي حتمياً، ويمكن أن يكون دالا على رعاية الحكمة والمصلحة فيه، إلاّ أنّ الأنسب في مورد الآية أن يراد منه كلا المعنيين، أي أنّ أمر الله تعالى يصدر على أساس الحساب الدقيق والمصلحة، وكذلك لابدّ من تنفيذه بدون إستفهام أو تلكّؤ.
والطريف أنّنا نقرأ في التواريخ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قد أولم للناس وليمة عامّة لم يكن لها نظير فيما سبق إقترانه بزوجاته(1)، فكأنّه أراد بهذا العمل أن يبيّن للناس أنّه غير قلق ولا خائف من السنن الخرافية التي كانت سائدة في تلك البيئة، بل إنّه يفتخر بتنفيذ هذا الأمر الإلهي، إضافةً إلى أنّه كان يطمح إلى أن يصل صوت إلغاء هذه السنّة الجاهلية إلى آذان جميع من في جزيرة العرب عن هذا الطريق.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يروي المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: فتزوّجها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ... وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة، وأطعم الناس الخبز واللحم حتّى امتدّ النهار. مجمع البيان، ج8، ص361.
[264]
بحثان
1 ـ أساطير كاذبة
مع أنّ القرآن الكريم كان غاية في الصراحة في قصّة زواج النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)من زينب، وفي تبيان هذه المسألة، والهدف من هذا الزواج، وأعلن أنّ الهدف هو محاربة سنّة جاهلية فيما يتعلّق بالزواج من مطلّقة الإبن المدّعى، إلاّ أنّها ظلّت مورد إستغلال جمع من أعداء الإسلام، فحاولوا إختلاق قصّة غرامية منها ليشوّهوا بها صورة النّبي المقدّسة، واتّخذوا من الأحاديث المشكوك فيها أو الموضوعة في هذا الباب آلة وحربة يلوّحون بها.
ومن جملة ذلك ما كتبوه من أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) جاء إلى دار زيد ليسأل عن حاله، فما إن فتح الباب حتّى وقعت عينه على جمال زينب، فقال: "سبحان الله خالق النور! تبارك الله أحسن الخالقين" واتّخذوا هذه الجملة دليلا على تعلّق النّبي (صلى الله عليه وآله)بزينب.
في حين أنّ هناك دلائل واضحة ـ بغضّ النظر عن مسألة العصمة والنبوّة ـ تكذّب هذه الأساطير:
الاُولى: أنّ زينب كانت بنت عمّة النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقد تربيّا وكبرا معاً في محيط عائلي تقريباً، والنّبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي خطبها بنفسه لزيد، وإذا كان لزينب ذلك الجمال الخارق، وعلى فرض أنّه استرعى إنتباهه، فلم يكن جمالها أمراً خافياً عليه، ولم يكن زواجه منها قبل هذه الحادثة أمراً عسيراً، بل إنّ زينب لم تبد أي رغبة في الإقتران بزيد، بل أعلنت مخالفتها صراحةً، وكانت ترجّح تماماً أن تكون زوجة للنبي (صلى الله عليه وآله)، بحيث أنّها سرّت وفرحت عندما ذهب النّبي (صلى الله عليه وآله) لخطبتها ظنّاً منها بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يخطبها لنفسه، إلاّ أنّها رضخت لأمر الله ورسوله بعد نزول هذه الآية القرآنية وتزوّجت زيداً.
مع هذه المقدّمات هل يبقى مجال لهذا الوهم بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن عالماً بحال
[265]
زينب وجمالها؟ وأيّ مجال لهذا الظنّ الخاطيء بأن يكون راغباً في الزواج منها ولا يستطيع الإقدام عليه؟
والثّانية: أنّ زيداً عندما كان يراجع النّبي (صلى الله عليه وآله) لطلاق زوجته زينب، كان النّبي ينصحه مراراً بصرف النظر عن هذا الأمر، وهذا بنفسه شاهد آخر على بطلان هذه الإدّعاءات والأساطير.
ومن جهة اُخرى فإنّ القرآن الكريم قد أوضح الهدف من هذا الزواج بصراحة لئلاّ يبقى مجال لأقاويل اُخرى.
ومن جهة رابعة قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ الله تعالى يقول: قد كان في حادثة زواج النّبي بمطلّقة زيد أمر كان النّبي يخشى الناس فيه، في حين أنّ خشيته من الله أحقّ من الخشية من الناس.
إنّ مسألة خشية الله سبحانه توحي بأنّ هذا الزواج قد تمّ كتنفيذ لواجب شرعي، يجب عنده طرح كلّ الإعتبارات الشخصية جانباً من أجل الله تعالى ليتحقّق هدف مقدّس من أهداف الرسالة، حتّى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتّهاماتهم للنبي، وكان هذا هو الثمن الباهض الذي دفعه النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ ولا زال يدفعه إلى الآن ـ في مقابل طاعة أمر الله سبحانه، وإلغاء عرف خاطيء وسنّة مبتدعة.
إلاّ أنّ هناك لحظات حرجة في حياة القادة المخلصين تحتّم عليهم أن يضحّوا ويعرّضوا أنفسهم فيها لاتّهام أمثال هؤلاء الأفراد ليتحقّق هدفهم!
أجل .. لو كان النّبي (صلى الله عليه وآله) لم ير زينب من قبل مطلقاً، ولم يكن يعرفها، ولم يكن لدى زينب الرغبة في الإقتران به، ولم يكن زيد مستعدّاً لطلاقها ـ وبغضّ النظر عن مسألة النبوّة والعصمة ـ لكان هناك مجال لمثل هذه الأقاويل والتخرّصات، لكن بملاحظة إنتفاء كلّ هذه الظروف يتّضح كون هذه الأكاذيب مختلفة.
إضافةً إلى أنّ تاريخ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يعكس أي دليل أو صورة تدلّ على وجود
[266]
رغبة خاصّة لديه (صلى الله عليه وآله) في الزواج من زينب، بل هي كسائر الزوجات، بل ربّما كانت أقل من بعض الزوجات من بعض الجهات، وهذا شاهد تأريخي آخر على نفي هذه الأساطير.
ونرى في نهاية المطاف ضرورة الإشارة إلى إحتمال أن يقول شخص: إنّ محاربة مثل هذه السنّة الخاطئة واجب، ولكن أيّة ضرورة تدعو إلى أن يقتحم النّبي (صلى الله عليه وآله) هذا الميدان بنفسه؟ فقد كان بإمكانه أن يطرح هذه المسألة ويبيّنها كقانون، ويرغب الآخرين في الزواج من مطلّقة المتبنّي.
غير أنّ مخالفة سنّة جاهلية خاطئة ـ خاصّة وأنّها تتعلّق بالزواج من أفراد هم دون شأن المقابل ظاهراً ـ قد تكون غير مقبولة بالكلام والتقنين أحياناً، إذ يقول الناس: إذا كان هذا الأمر حسناً فلماذا لم يفعله هو؟ لِمَ لم يتزوّج بمطلّقة عبده المعتق وإبنه المتبنى؟
في مثل هذه الموارد ينهي الإقدام والإجراء العملي كلّ هذه الأسئلة والإشكالات، وعندها ستتكسّر وتتلاشى تلك السنّة الخاطئة. إضافةً إلى أنّ هذا العمل كان بنفسه تضحية وإيثاراً.
2 ـ روح الإسلام التسليم أمام الله
لا شكّ أنّ إستقلال الإنسان الفكري والروحي لا يسمح له أن يستسلم لأحد بدون قيد أو شرط، لأنّه إنسان مثله، ومن الممكن أن تكون له أخطاء وإشتباهات في المسائل.
أمّا إذا إنتهت المسألة إلى الله العالم والحكيم، والنّبي الذي يتحدّث عنه ويسير بأمره، فإنّ عدم التسليم المطلق دليل على الضلال والإنحراف، حيث لا يوجد أدنى إشتباه في أوامره سبحانه. إضافةً إلى أنّ أمره حافظ لمنافع الإنسان نفسه، ولا يعود شيء على ذاته المقدّسة، فهل يوجد إنسان عاقل يسحق مصالحه برجله
[267]
بعد تشخيص هذه الحقيقة؟
ومضافاً إلى ذلك فإنّنا منه تعالى، وكلّ ما لدينا منه، ولا يمكن أن يكون لنا أمر وقرار إلاّ التسليم لإرادته وأمره، ولذلك ترى بين دفّتي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه المسألة:
فمرّة تقول آية: (إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا واُولئك هم المفلحون).(1)
وتقول اُخرى: (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً).(2)
ويقول القرآن في موضع آخر: (ومن أحسن ديناً ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن).(3)
إنّ "الإسلام" أخذ من مادّة "التسليم"، وهو يشير إلى هذه الحقيقة، وبناءً على هذا فإنّ كلّ إنسان يتمتّع بروح الإسلام بمقدار تسليمه لله سبحانه.
ينقسم الناس عدّة أقسام من هذه الناحية: فقسم يسلّمون لأمر الله في الموارد التي تنفعهم فقط، وهؤلاء في الحقيقة مشركون إنتحلوا اسم الإسلام، وعملهم تجزئة لأحكام الله تعالى، فهم مصداق (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) فإيمانهم في الحقيقة إيمان بمصالحهم لا بالله تعالى.
وآخرون جعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة الله، وإذا تعارضت منافعهم الزائلة مع أمر الله سبحانه، فإنّهم يغضّون الطرف عنها ويسلّمون لأمر الله، وهؤلاء هم المؤمنون والمسلمون الحقيقيون.
والقسم الثالث أسمى من هؤلاء، فهم لا يريدون إلاّ ما أراد الله، وليس في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النور، 51.
2 ـ النساء، 65.
3 ـ النساء، 125.
[268]
قلوبهم إلاّ ما يشاؤه سبحانه، فقد بلغوا مرتبة من التسامي لا يحبّون معها إلاّ ما يحبّه الله، ولا يبغضون إلاّ ما أبغضه الله عزّوجلّ.
هؤلاء هم الخاصّة والمخلصون والمقرّبون لديه، فقد صبغ التوحيد كلّ وجودهم، وغرقوا في حبّه، وفنوا في جماله(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لقد أوردنا بحثاً آخر في هذا الباب في ذيل الآية (65) من سورة النساء.
[269]
الآية
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـلَـتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً(39)
التّفسير
من هم المبلّغون الحقيقيون؟
تشير الآية مورد البحث، ومناسبة للبحث الذي مرّ حول الأنبياء السابقين في آخر آية من الآيات السابقة، إلى أحد أهم برامج الأنبياء العامّة، فتقول: (الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله).
وكذلك الحال بالنسبة إليك، فينبغي أن لا تخش أحداً في تبليغ رسالات الله، وعندما يأمرك الله سبحانه أن حطّم سنّة جاهلية خاطئة في مسألة زواج مطلّقة المتبنّي، وتزوّج بزينب مطلّقة زيد، فيجب أن لا تدع لأدنى قلق وخوف من قول هذا وذاك في تأدية هذا التكليف إلى نفسك سبيلا، فإنّ هذه سنّة جميع الأنبياء (عليهم السلام).
إنّ عمل الأنبياء (عليهم السلام) في كثير من المراحل هو كسر مثل هذه السنن والأعراف عادةً، ولو أنّهم سمحوا لأقلّ خوف وتردّد أن ينفذ إلى نفوسهم فسوف يفشلون في
[270]
أداء رسالاتهم، فيجب على هذا أن يسيروا بحزم وثبات، ويستوعبوا كلمات المسيئين الجارحة غير المتزنة، ويستمرّوا في طريقهم دون أن يهتّموا بإصطناع الأجواء ضدّهم، وضجيج العوام، وتآمر الفاسدين والمفسدين وتواطئهم، لأنّ كلّ الحسابات بيد الله سبحانه، ولذلك تقول الآية في النهاية: (وكفى بالله حسيباً).
إنّه يحسب إيثار الأنبياء وتضحياتهم في هذا الطريق ويجزيهم عليها، كما يحفظ كلمات الأعداء البذيئة وثرثرتهم ليحاسبهم عليها ويجازيهم.
إنّ جملة: (وكفى بالله حسيباً) دليل في الحقيقة على أنّ القادة الإلهيين يجب أن لا يخشوا شيئاً أو أحداً في إبلاغ الرسالات، لأنّ الله سبحانه هم المحصي لجهودهم، وهو المثيب عليها.
* * *
ملاحظات
1 ـ المراد من "التبيلغ" هنا هو الإبلاغ والإيصال، وعندما يرتبط الأمر بـ "رسالات الله" فإنّه يعني أن يعلّم الأنبياء الناس ما علّمهم الله عن طريق الوحي، وأن ينفذوه إلى القلوب عن طريق الإستدلال والإنذار والتبشير والموعظة والنصيحة.
2 ـ "الخشية" تعني الخوف المقترن بالتعظيم والإحترام، ويختلف عن الخوف المجرّد من هذه الخاصية من هذه الجهة. وقد تستعمل أحياناً بمعنى مطلق الخوف.
وقد ورد في مؤلّفات المحقّق "الطوسي" كلام في الفرق بين هذين اللفظين، وهو في الحقيقة يشير إلى المعنى العرفاني لا اللغوي، فانّه يقول: إنّ الخشية والخوف وإن كانا في اللغة بمعنى واحد ـ أو يقربان من معنى واحد ـ إلاّ أنّ بينهما فرقاً لدى أهل البصائر، وهو: إنّ "الخوف" يعني القلق والإضطراب الداخلي من العواقب التي ينتظرها الإنسان نتيجة إرتكابه المعاصي والذنوب، أو تقصيره في
[271]
الطاعة، وهذه الحالة تحصل لأغلب الناس وإن إختلفت درجاتها، أمّا أعلى مراتبها فلا تحصل إلاّ لفئة قليلة منهم.
أمّا "الخشية" فهي الحالة التي تحصل للإنسان لدى إدراكه عظمة الله وهيبته، والخوف من بقائه مبعداً عن أنوار فيضه، وهذه الحالة لا تحصل إلاّ لاُولئك الذين وقفوا على عظمة ذاته المقدّسة وجلال كبريائه، وتذوّقوا طعم قربه، ولذلك عدّ القرآن هذه الحالة خاصّة بعباد الله العلماء فقال: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)(1).
3 ـ جواب عن سؤال؟
قد يقال: إنّ هذه الآية تتناقض مع ما مرّ في الآيات السابقة، فهي تقول هنا: إنّ أنبياء الله لا يخشون إلاّ الله، ولا يخشون أحداً غيره، إلاّ أنّه قد ورد في الآيات السابقة: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحقّ أن تخشاه)؟
إلاّ أنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بتأمّل النقطتين التاليتين:
الاُولى: أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) إنّما كان خائفاً من عدم تحمّل عدد كبير من الناس لنقض هذه السنّة، ومن عدم إستيعابهم للمسألة، وبذلك ستتزعزع اُسس إيمانهم من هذه الجهة، ومثل هذه الخشية ترجع في الحقيقة إلى خشية الله سبحانه.
والاُخرى: أنّ الأنبياء لا يعيشون حالة الخوف والقلق من شخص ما في تبليغهم رسالات الله، أمّا في ما يتعلّق باُمور الحياة الشخصية والخاصّة فلا مانع من أن يخافوا من أمر خطير كاتّهام وطعن الناس، أو أن يكونوا كموسى (عليه السلام) إذ خاف ـ حسب الطبيعة البشرية ـ عندما ألقى العصا وتحوّلت إلى ثعبان عظيم، فإنّ مثل هذا الخوف والإضطراب إذا لم يكن مفرطاً لا يعدّ عيباً ونقصاً، بل قد يواجه هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البحرين مادّة خشي.
[272]
المسألة أشجع الناس أحياناً، إنّما العيب والنقص هو الخوف من أداء التكليف الإلهي في الحياة الإجتماعية.
4 ـ هل كان الأنبياء يستعملون التقيّة؟
إستفاد جماعة من هذه الآية أنّ التقيّة حرام مطلقاً للأنبياء في تبليغ الرسالة، لأنّ القرآن يقول: (ولا يخشون أحداً إلاّ الله).
غير أنّه يجب الإنتباه إلى أنّ للتقيّة أنواعاً، ولم تنف الآية في مورد دعوة الأنبياء وإبلاغ الرسالة إلاّ نوعاً واحداً، وهو التقيّة خوفاً، في حين أنّ للتقيّة أنواعاً منها التقيّة مداراةً وتورية.
والمراد من التقيّة المداراتية أن يكتم الإنسان عقيدته أحياناً لجلب محبّة الطرف المقابل ليقوى على إستمالته للتعاون في الأهداف المشتركة.
والمراد من تقيّة "التورية" والإخفاء هو أنّه يجب أن تخفى المقدّمات والخطط للوصول إلى الهدف، فإنّها إن اُفشيت وإنتشرت بين الناس وأصبحت علنية، وأطلع العدوّ عليها فمن الممكن أن يقوم باجهاضها.
إنّ حياة الأنبياء ـ وخاصّة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) ـ مليئة بموارد التقيّة هذه، لأنّا نعلم أنّه (صلى الله عليه وآله) كان كثيراً ما يخفي أهدافه ومقاصده عندما كان يتوجّه إلى ميدان الحرب، وكان يرسم خططه الحربية بخفاء تامّ، وكان يستخدم اُسلوب الإستتار والتخفّي ـ والذي هو نوع من التقيّة ـ في جميع المراحل.
وكان يتّبع أحياناً اُسلوب "المراحل" ـ وهو نوع من التقيّة ـ لبيان حكم ما، فمثلا نرى أنّ مسألة تحريم الربا أو شرب الخمر لم تبيّن في مرحلة واحدة، بل تمت في مراحل متعدّدة بأمر الله سبحانه، أي أنّها تبدأ من المراحل الأبسط والأسهل حتّى تنتهي بالحكم النهائي الأساسي.
وعلى أيّة حال، فإنّ للتقيّة معنىً واسعاً، وهو: (إخفاء الحقائق والواقع للحفاظ
[273]
على الأهداف من التعرّض للخطر والإنهيار) وهذا الشيء متعارف بين عقلاء العالم، والقادة الربّانيون يفعلون ذلك في بعض المراحل للوصول إلى أهدافهم المقدّسة، كما نقرأ ذلك في قصّة "إبراهيم" (عليه السلام) بطل التوحيد، حيث أخفى هدفه من البقاء في المدينة في اليوم الذي يخرج فيه عبدة الأصنام خارج المدينة لإجراء مراسم العيد ليستغلّ فرصة مناسبة فينهال على الأصنام ويحطّمها.
وكذلك أخفى "مؤمن آل فرعون" إيمانه ليستطيع أن يعيّن موسى (عليه السلام) في اللحظات الحسّاسة وينقذه من القتل، ولهذا السبب ذكر القرآن له تسعة مواقف وصفات عظيمة.
ومن هنا نعلم أنّ التقيّة خوفاً فقط غير جائزة على الأنبياء، لا الأنواع الاُخرى للتقيّة.
وبالرغم من أنّ الكلام في هذا الباب كثير، إلاّ أنّنا ننهي هذا البحث بحديث جامع غنيّ المحتوى عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: "التقيّة ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقيّة له، والتقيّة ترس الله في الأرض، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل"(1).
وكان لنا بحث مفصّل حول التقيّة في ذيل الآية (106) من سورة النحل.
5 ـ شرط الإنتصار في التبليغ:
إنّ الآية المذكورة دليل واضح على أنّ الحزم والإخلاص وعدم الخوف من أي أحد إلاّ الله تعالى، شرط أساسي في التقدّم والرقي في مجال الإعلام والتبليغ.
الأشخاص الذين يراعون رغبات وميول هذا وذاك في مقابل أمر الله، ويوجّهون الحقّ والعدالة بما يناسب أهواءهم، سوف لا يحصلون على نتيجة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 521 ذيل الآية (28) من سورة المؤمن.
[274]
مطلقاً، فلا نعمة أسمى من نعمة الهداية، ولا خدمة أنفع من إهداء هذه النعمة للبشرية، ولذلك كان جزاء وثواب هذا العمل أعظم من كلّ ثواب وعطاء، ومن هنا نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن وقال لي: ياعلي لا تقاتلن أحداً حتّى تدعوه، وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير ممّا طلعت الشمس وغربت"(1).
ولهذا السبب أيضاً يجب أن يستغني المبلّغون الحقيقيون عن الناس، ولا يخافون أي مقام ومنصب، فإنّ تلك الحاجة والخوف سيتركان أثراً على أفكارهم وإرادتهم شاءوا أم أبوا.
إنّ المبلّغ الإلهي يفكّر فقط ـ بمقتضى (وكفى بالله حسيباً) ـ بأنّ محصي الأعمال والمحاسب عليها هو الله تعالى، وبيده جزاؤه وثوابه، وهذا الوعي والعرفان هو الذي يمدّه ويعينه في هذا الطريق المليء بالعقبات.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكافي، طبقاً لنقل البحار، الجزء 21، صفحة 361.
[275]
الآية
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيماً(40)
التّفسير
مسألة الخاتمية:
هذه الآية هي آخر ما بيّنه الله سبحانه فيما يتعلّق بمسألة زواج النّبي (صلى الله عليه وآله)بمطلّقة زيد لكسر عرف جاهلي خاطيء، وهي جواب مختصر كآخر جواب يقال هنا، وتبيّن في نهايتها حقيقة مهمّة اُخرى ـ وهي مسألة الخاتمية ـ بمناسبة خاصّة.
تقول أوّلا: (ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم) لا زيد ولا غيره، وإذا ما أطلقوا عليه يوماً انّه "ابن محمّد" فإنّما هو مجرّد عادة وعرف ليس إلاّ، وما إن جاء الإسلام حتّى اجتثّت جذوره، وليس هو رابطة طبيعيّة عائلية.
طبعاً كان للنبي (صلى الله عليه وآله) أولاد حقيقيون، وأسماؤهم "القاسم" و "الطيّب" و "الطاهر" و "إبراهيم"، إلاّ أنّهم ـ طبقاً لنقل المؤرخّين ـ جميعاً قد ودّعوا هذه الدنيا وارتحلوا عنها قبل البلوغ، ولذلك لم يطلق عليهم أنّهم "رجال"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي، وتفسير الميزان ذيل الآية مورد البحث.
[276]
والإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام) اللذان كانوا يسمّونهم أولاد النّبي رغم انّهما بلغا سنين متقدّمة في العمر، إلاّ أنّهما كانا لا يزالان صغيرين عند نزول هذه الاية. بناءً على هذا فإنّ جملة: (ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم) والتي وردت بصيغة الماضي، كانت صادقة في حقّ الجميع قطعاً.
وإذا ما رأينا في بعض تعبيرات النّبي (صلى الله عليه وآله) نفسه أنّه يقول: "أنا وعلي أبوا هذه الاُمّة" فمن المسلّم أنّ المراد لم يكن الاُبوّة النسبية، بل الاُبوّة الناشئة من التعليم والتربية والقيادة والإرشاد.
مع هذه الحال، فإنّ الزواج من مطلقّة زيد ـ والذي بيّن القرآن فلسفته بصراحة بأنّه إلغاء للسنن الخاطئة ـ لم يكن شيئاً يبعث على البحث والجدال بين هذا وذاك، أو أنّهم يريدون أن يتّخذوه وسيلة للوصول إلى نواياهم السيّئة.
ثمّ تضيف: بأنّ علاقة النّبي (صلى الله عليه وآله) معكم إنّما هي من جهة الرسالة والخاتمية فقط (ولكن رسول الله وخاتم النّبيين) وبهذا قطع صدر الآية الإرتباط والعلاقة النسبية بشكل تامّ وقطعي، وأثبت ذيلها العلاقة المعنوية الناشئة من الرسالة والخاتمية، ومن هنا يتّضح ترابط صدر الآية وذيلها.
هذا إضافةً إلى أنّ الآية تشير إلى حقيقة هي: أنّ علاقته معكم في الوقت نفسه أشدّ وأسمى من علاقة والد بولده، لأنّ علاقته علاقة الرّسول بالاُمّة، ويعلم أنّ سوف لا يأتي رسول بعده، فكان يجب عليه أن يبيّن لهذه الاُمّة ويطرح لها كلّ ما تحتاجه إلى يوم القيامة في منتهى الدقّة وغاية الحرص عليها.
ولا شكّ أنّ الله العليم الخبير قد وضع تحت تصرّفه كلّ ما كان لازماً في هذا الباب، من الاُصول والفروع، والكليّات والجزئيات في جميع المجالات، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: (وكان الله بكلّ شيء عليماً).
وينبغي الإلتفات إلى أنّ كونه "خاتم الأنبياء" يعني أيضاً أنّه خاتم المرسلين، وما ألصقه بعض مبتدعي الأديان لخدش كون مسألة الخاتمية بهذا المعنى، من أنّ
[277]
القرآن قد اعتبر النّبي (صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء لا خاتم المرسلين، إنّما هو إشتباه كبير، لأنّ من كان خاتماً للأنبياء يكون خاتماً للرسل بطريق أولى، لأنّ مرحلة "الرسالة" أسمى من مرحلة "النبوّة" ـ تأمّلوا ذلك ـ .
إنّ هذا الكلام يشبه تماماً أن نقول: إنّ فلاناً ليس في بلاد الحجاز، فمن المسلّم أنّ هذا الشخص سوف لا يكون موجوداً في مكّة، أمّا إذا قلنا: إنّه ليس في مكّة، فمن الممكن أن يكون في مكان آخر من الحجاز.
بناءً على هذا، فإنّه تعالى لو كان قد سمّى النّبي خاتم المرسلين، فمن الممكن أن لا يكون خاتم الأنبياء، أمّا وقد سمّاه "خاتم الأنبياء" فمن المسلّم أنّه سيكون خاتم الرسل أيضاً، وبتعبير المصطلحات فإنّ النسبة بين النّبي والرّسول نسبة العموم والخصوص المطلق.
* * *
بحوث
1 ـ ما هو الخاتم؟
"الخاتم" ـ على زنة حاتم ـ لدى أرباب اللغة: هو الشيء الذي تُنهى به الاُمور، وكذلك جاء بمعنى الشيء الذي تختم به الأوراق وما شابهها.
وكان هذا الأمر متداولا فيما مضى ـ ولا يزال إلى اليوم ـ حينما يريدون إغلاق الرسالة أو غطاء الوعاء أو باب المنزل لئلاّ يفتحها أحد، فإنّهم كانوا يضعون مادّة لاصقة على الباب أو القفل ويختمون عليها. ويكون هذا الخاتم من الصلابة بحيث إنّه لابدّ من كسره إذا ما اُريد فتح الباب، وهذه المادّة التي توضع على مثل هذه الأشياء تسمّى "خاتماً".
ولمّا كانوا في السابق يستعملون لهذا الأمر الطين الصلب الذي يلصق، فإنّنا نقرأ
[278]
في متون بعض كتب اللغة المعروفة أنّ معنى الخاتم هو "ما يوضع على الطينة"(1).
كلّ ذلك بسبب أنّ هذه الكلمة مأخوذة من مادّة "الختم" أي النهاية، ولمّا كان هذا العمل ـ أي الختم ـ يجري في الخاتمة والنهاية فقد اُطلق عليه اسم الخاتم لذلك.
وإذا ما رأينا أنّ أحد معاني الخاتم هو الخاتم الذي يوضع في اليد، فبسبب أنّهم كانوا يضعون إمضاءهم وتوقيعهم على خواتيمهم ويختمون الرسائل بها، ولذلك فإنّ من جملة الاُمور التي تذكر في أحوال النّبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة الهدى (عليهم السلام)والشخصيات الاُخرى هو نقش خاتمهم.
ويروي "الكليني" ـ(رحمه الله) ـ في الكافي حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ خاتم رسول الله كان من فضّة نقشه محمّد رسول الله"(2).
وجاء في بعض التواريخ أنّ إحدى حوادث السنة السادسة للهجرة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله)إختار لنفسه خاتماً نقش فيها، وذلك أنّهم أخبروه أنّ الملوك لا يقرؤون الرسائل إذا لم تكن مختومة(3).
وجاء في كتاب "الطبقات": أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لمّا صمّم أن ينشر دعوته في الآفاق، ويكتب الرسائل إلى ملوك الأرض وسلاطينها أمر أن يصنعوا له خاتماً كتب عليه (محمّد رسول الله) وكان يختم به رسائله(4).
بهذا البيان يتّضح جيداً أنّ الخاتم وإن اُطلق اليوم على خاتم الزينة أيضاً، إلاّ أنّ أصله مأخوذ من الختم، أي النهاية، وكان يطلق ذلك اليوم على الخواتيم التي كانوا يختمون بها الرسائل.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لسان العرب، وقاموس اللغة مادّة ختم: الخاتم ما يوضع على الطينة.
2 ـ أورد هذا الخبر أيضاً البيهقي في سننه، المجلّد10، ص128.
3 ـ سفينة البحار، المجلّد 1، صفحة 386.
4 ـ الطبقات الكبرى، المجلّد 1، صفحة 258.
[279]
إضافةً إلى أنّ هذه المادّة قد إستعملت في القرآن في موارد متعدّدة، وكلّها تعني الإنهاء أو الختم والغلق، مثل: (اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم).(1)
(ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة).(2)
ومن هنا يعلم أنّ الذين شكّكوا في دلالة هذه الآية على كون نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله)خاتم الأنبياء، وإنتهاء سلسلة الأنبياء به، غير مطّلعين على معنى هذه الكلمة تماماً، أو أنّهم تظاهروا بعدم الإحاطة والإطلاع عليها، وإلاّ فإنّ من له أدنى إحاطة بآداب العرب يعلم أنّ كلمة "خاتم النّبيين" تدلّ على الخاتمية.
وإذا قيل ـ عند ذاك ـ في تفسير هذه الآية غير هذا التّفسير فإنّه تفسير متطفّل غير متّزن، كأن نقول: إنّ نبي الإسلام كان خاتم الأنبياء، أي أنّه زينة الأنبياء، لأنّ الخاتم آلة زينة للإنسان، ولا يمكن أن يوازي الإنسان في المرتبة مطلقاً، وإذا فسّرنا الآية بهذا التّفسير فسنكون قد حططنا من مقام النّبي (صلى الله عليه وآله)، وأنزلنا منزلته إلى أدنى المستويات، مع إنّه لا يناسب المعنى اللغوي، ولذلك فإنّ هذه الكلمة حيثما إستعملت في القرآن الكريم ـ في ثمانية موارد ـ فإنّها أعطت معنى الإنهاء والإغلاق.
2 ـ أدلّة كون نبيّ الإسلام خاتماً للأنبياء:
بالرغم من أنّ الآية المذكورة كافية لوحدها في إثبات هذا المطلب، إلاّ أنّ الدليل على كون نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) خاتماً للأنبياء لا ينحصر بها، فإنّ آيات اُخرى في القرآن الكريم تشير إلى هذا المعنى، إضافةً إلى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب:
فمن جملتها في الآية (19) من سورة الأنعام: (واُوحي إليّ هذا القرآن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة يس، 65.
2 ـ سورة البقرة، 7.
[280]
لاُنذركم به ومن بلّغ) فإنّ سعة مفهوم تعبير (ومن بلغ) توضّح رسالة القرآن ونبي الإسلام العالمية من جهة، ومسألة الخاتمية من جهة اُخرى.
وهناك آيات اُخرى تثبت عمومية دعوة نبي الإسلام لكلّ البشر، مثل: (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً).(1)
وكقوله تعالى: (وما أرسلناك إلاّ كافّة للناس بشيراً ونذيراً).(2)
والآية: (قل ياأيّها الناس إنّي رسول الله إليكم جميعاً).(3)
إنّ ملاحظة سعة مفهوم "العالمين" و "الناس" و "الكافّة" تؤيّد هذا المعنى أيضاً. إضافةً إلى أنّ إجماع علماء الإسلام من جهة، وكون هذه المسألة ضرورية لدى المسلمين من جانب آخر، والروايات الكثيرة الواردة عن النّبي (صلى الله عليه وآله) وباقي أئمّة الهدى (عليهم السلام) من جانب ثالث توضّح هذا المطلب، ونكتفي هنا بذكر بعضها من باب الشاهد والمثال:
1 ـ ورد في الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله): "حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة"(4).
إنّ هذا التعبير مبيّن لإستمرار هذه الشريعة حتّى نهاية العالم وفنائه.
وقد روي هذا الحديث بهذه الصيغة أحياناً: "حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره، ولا يجيء غيره"(5).
2 ـ حديث المنزلة المعروف، والذي ورد في مختلف كتب الشيعة والسنّة، وهو في شأن علي (عليه السلام) وبقائه مكان النّبي في المدينة عندما توجّه (صلى الله عليه وآله) إلى غزوة تبوك، فإنّه يوضّح مسألة الخاتمية تماماً، لأنّا نقرأ في هذا الحديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله)قال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الفرقان ـ 1.
2 ـ سورة سبأ، 28.
3 ـ سورة الأعراف، 158.
4 ـ بحار الأنوار، المجلّد الثّاني، صفحة 260 باب 31 حديث 17.
5 ـ اُصول الكافي، المجلّد الأوّل، باب البدع والرأي والمقاييس حديث 19.
[281]
لعلي(عليه السلام): "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي"(1).
3 ـ وثمّة حديث مشهور أيضاً، وقد روي في كثير من مصادر العامّة، وذلك أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله، فجعل الناس يطيفون به يقولون ما رأينا بنياناً أحسن من هذا إلاّ هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة".
لقد ورد هذا الحديث في صحيح مسلم بعبارات مختلفة، وروي عن رواة عديدين، وقد وردت هذه الجملة "وأنا خاتم النّبيين" في ذيل الحديث الآنف الذكر في أحد الموارد.
ونرى في نهاية حديث آخر: "جئت فختمت الأنبياء"(2).
وقد ورد هذا الحديث أيضاً في صحيح البخاري ـ كتاب المناقب ـ ومسند أحمد بن حنبل، وسنن الترمذي والنسائي وكتب اُخرى، وهو من الأحاديث المعروفة والمشهورة جدّاً، وقد أورده مفسّرو الفريقين كالطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، في ذيل الآية مورد البحث.
4 ـ لقد ورد كون نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) خاتماً للنبيين صريحاً في كثير من خطب نهج البلاغة، ومن جملة ذلك ما نراه في الخطبة 173 في وصف نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله)، حيث يقول (عليه السلام): "أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته، ونذير نقمته".
وجاء في الخطبة 133: "أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع من الألسن. فقفّى به الرسل، وختم به الوحي".
وقال (عليه السلام) في الخطبة الاُولى من نهج البلاغة، بعد أن عدّد تعليمات الأنبياء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روى هذا الحديث محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص79 طبعة مكتبة القدس، وابن حجر في الصواعق المحرقة، ص177 طبعة مكتبة القاهرة، وفي تاريخ بغداد، المجلّد 7، ص452 طبعة السعادة، وكتب اُخرى ككنز العمّال، ومنتخب كنز العمال، وينابيع المودّة.
لمزيد الإيضاح حول حديث المنزلة راجع هذا التّفسير ذيل الآية (144) من سورة الأعراف.
2 ـ صحيح مسلم، الجزء 4، ص1790 ـ 1791 باب ذكر كونه (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيّين من كتاب الفضائل.
[282]
الماضين: "إلى أن بعث الله سبحانه محمّداً رسول لإنجاز عدته، وإتمام نبوّته".
5 ـ وقد وردت مسألة الخاتمية في ختام خطبة الوداع، تلك الخطبة التي ألقاها نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) في آخر حجّة له، وفي آخر سنة من عمره المبارك، كوصيّة جامعة للناس، حيث قال: "ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي، ولا اُمّة بعدكم" ثمّ رفع يديه إلى السماء حتّى بان بياض إبطيه، فقال: "اللهمّ اشهد أنّي قد بلّغت"(1).
6 ـ وجاء في حديث آخر ورد في "الكافي" عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الله ختم بنبيّكم النبيّين فلا نبيّ بعده أبداً، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبداً"(2).
إنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة جدّاً، بحيث جمع منها في كتاب (معالم النبوّة) 135 حديثاً من كتب علماء الإسلام عن النّبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة الإسلام العظام(3).
3 ـ إجابة عن عدّة أسئلة:
1 ـ كيف تتناسب الخاتمية مع سير الإنسان التكاملي؟
السوال الأوّل الذي يطرح في هذا البحث هو: هل يمكن أن يتوقّف المجتمع الإنساني؟ أترى يوجد لسير البشر التكاملي حدّ محدود؟ ألسنا نرى باُمّ أعيننا أنّ بشر اليوم قد وصلوا في العلم والثقافة إلى مرحلة تفوّق مستوى سابقيهم؟ فمع هذا الحال كيف يمكن أن يغلق سجل النبوّة مطلقاً، فيحرم الإنسان من قيادة أنبياء جدد في سيره التكاملي؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتّضح بالإلتفات إلى مسألة واحدة، وهي أنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 21، ص381.
2 ـ اُصول الكافي، المجلّد الأوّل.
3 ـ معالم النبوّة. فصل نصوص كونه (صلى الله عليه وآله) خاتماً.
[283]
الإنسان يصل أحياناً إلى مرتبة من النضج الفكري والثقافي بحيث يكون قادراً على الإستمرار في طريقه بالإستعانة المستمرة بالاُصول والتعليمات التي تركها له النّبي الخاتم بصورة جامعة، دون أن يحتاج إلى شريعة جديدة.
وهذا الأمر يشبه تماماً أن يكون الإنسان محتاجاً لمعلّم جديد ومربّ آخر في كلّ مرحلة من مراحل الدراسة المختلفة، حتّى يقضي المراحل المختلفة، أمّا إذا حصل على الدكتوراه، أو أصبح مجتهداً له رأيه في العلم أو العلوم المختلفة فإنّه لا يحتاج في دراسته إلى اُستاذ جديد، بل يباشر البحث والمطالعة والتحقيق إستناداً إلى ما اكتسبه من الأساتذة السابقين، وخاصّة اُستاذه الأخير.
وبتعبير آخر، فإنّه يحلّ المشاكل والعقبات التي تعترضه بالإستعانة بتلك الاُصول الكليّة التي تعلّمها من اُستاذه الأخير، وبناءً على هذا فلا حاجة لأنّ يظهر دين جديد على مرّ الزمان (تأمّلوا ذلك).
وببيان آخر، فإنّ كلّ واحد من الأنبياء السابقين قد مهّد جانباً من مسير التكامل ليكون الإنسان قادراً على سلوك هذا الطريق الصعب نحو التكامل وينال الأهلية لإستقبال منهج كامل وجامع لهذا الطريق على يد آخر نبي اُرسل من قِبل الله تعالى.
من البديهي أنّه مع إستلام الخريطة الكاملة والمخطّط الجامع سوف لا تكون هناك حاجة إلى مخطّط آخر، وهذا في الحقيقة هو التعبير الذي ورد في الرّوايات الدالة على كونه (صلى الله عليه وآله) خاتماً، والتي عدّت نبيّ الإسلام آخر لبنة، أو واضع آخر لبنة في قصر الرسالة البديع المحكم. وكلّ ذلك يؤكّد عدم الحاجة إلى دين جديد وشريعة مستحدثة.
أمّا فيما يتعلّق بمسألة القيادة والإمامة، والتي تعني الإشراف التامّ على تنفيذ هذه الاُصول، والأخذ بأيدي الناس في هذا الطريق، فهي مسألة اُخرى لا يمكن أن يستغني الإنسان عنها في أيّ حين، ولذلك فإنّ ختام سلسلة النبوّة لا يعني أبداً
[284]
نهاية سلسلة الإمامة، لأنّ "تبيين" و "توضيح" هذه الاُصول و "تحقّقها في الخارج" لا يمكن أن يتمّ من دون الإستعانة بوجود قائد وإمام معصوم.
2 ـ كيف تتلاءم القوانين الثابتة مع الحاجات المتغيّرة؟
بغضّ النظر عن مسألة السير التكاملي للبشر، فإنّ هناك سؤالا آخر يطرح هنا، وهو: أنّنا نعلم أنّ مقتضيات الأزمنة والأمكنة ومتطلباتها متفاوتة، وبتعبير آخر فإنّ حاجات الإنسان في تغيّر مستمر، في حين أنّ للشريعة الخاتمة قوانين ثابتة، فهل تقوى هذه القوانين الثابتة على أن تؤمّن حاجات الإنسان المتغيّرة على مدى الزمان؟
ويمكن الإجابة على هذا السؤال جيداً بملاحظة المسألة التالية، وهي: أنّه لو كانت لكلّ قوانين الإسلام صفة الجزئية، وأنّها قد عيّنت لكلّ موضوع حكماً جزئياً معيناً لكان هناك مجال لهذا السؤال، أمّا إذا عرفنا بأنّ في تعليمات الإسلام سلسلة من الاُصول الكلية الواسعة جدّاً، والتي تقدر على أن تطابق الحاجات المتغيّرة وتؤمّنها، فلا يبقى مجال لهذا الإشكال.
إنّنا نرى إستحداث سلسلة من الإتّفاقيات الجديدة والروابط الحقوقية بين البشر لم يكن لها وجود في عصر نزول القرآن بتاتاً، فمثلا لم يكن في ذلك العصر شيء اسمه "الضمان" بفروعه المتعدّدة(1)، وكذلك أنواع الشركات التي ظهرت في عصرنا وزماننا حسب الإحتياج اليومي، لكن يوجد لدينا في الإسلام أصل عامّ ورد في بداية سورة "المائدة" بعنوان "لزوم الوفاء بالعهد والعقد": (ياأيّها الذين آمنوا اُوفوا بالعقود) وهو قادر على احتواء كلّ هذه الإتفاقيات.
وطبعاً هناك قيود وشروط بصورة عامّة وضعت لهذا الأصل العامّ في الإسلام،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ طبعاً يوجد في الإسلام موضوعات تشبه الضمان في حدود خاصّة، كمسألة ضمان الجريرة، أو تعلّق ديّة الخطأ المحض بالعاقلة، إلاّ أنّ لها مجرّد شبه بالمسألة كما قلنا.
[285]
يجب أن تؤخذ بنظر الإعتبار أيضاً.
بناءً على هذا فالقانون الكلّي ثابت في هذا الباب بالرغم من أنّ مصاديقه متغيّرة، فلا مانع من أن يظهر مصداق جديد له في كلّ يوم.
ونضرب مثالا آخر، وهو: لدينا في الإسلام قانون مسلّم به، وهو قانون (لا ضرر) يمكن من خلاله تحديد أيّ حكم يكون منبعاً ومصدراً للضرر والخسارة في المجتمع، وعن هذا الطريق ترفع كثير من الإحتياجات. إضافة إلى أنّ مسائل "لزوم حفظ المجتمع"، و "وجوب مقدّمة الواجب"، و "تقديم الأهمّ على المهمّ" يمكن أن تكون حلا للمشاكل في كثير من الموارد.
وعلاوة على كلّ ذلك فإنّ الصلاحيات التي تمنح للحكومة الإسلامية عن طريق "ولاية الفقيه" تضع تحت تصرفها إمكانيات واسعة لحلّ المشاكل في إطار اُصول الإسلام العامّة.
إنّ بيان كلّ واحد من هذه الاُمور، مع الأخذ بنظر الإعتبار كون باب الإجتهاد ـ أي إستنباط الأحكام الإلهية من المصادر الإسلامية ـ يحتاج إلى بحث واسع يبعدنا تناوله عن الموضوع ولكن مع ذلك فإنّ ما أوردناه هنا من باب الإشارة يمكن أن يكون جواباً للإشكال المذكور.
3 ـ كيف يحرم البشر من فيض الإرتباط بعالم الغيب؟
السؤال الآخر هو: إنّ نزول الوحي والإتّصال بعالم الغيب وما وراء الطبيعة يعتبر نافذة أمل لكلّ المؤمنين الحقيقيين، إضافةً إلى أنّه موهبة وفخر لعالم البشرية، ألا يعتبر قطع طريق الإتّصال هذا، وغلق نافذة الأمل هذه حرماناً عظيماً للبشر الذين يعيشون بعد وفاة خاتم الأنبياء؟
إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة النقطتين أدناه، وهما:
الاُولى: إنّ الوحي والإرتباط بعالم الغيب وسيلة لإدراك الحقائق ولمّا بُيّنت كلّ
[286]
الإحتياجات والحقائق إلى يوم القيامة في الاُصول العامّة والتعليمات الجامعة التي وضعها خاتم النّبيين، ولذلك فإنّ قطع طريق الاتّصال هذا لا يوجد مشكلة.
الثّانية: إنّ ما يقطع إلى الأبد بعد ختم النبوّة هو الوحي لشريعة جديدة، أو لتكميل شريعة سابقة، لا كلّ أنواع الإتّصال بما وراء عالم الطبيعة، لأنّ للأئمّة إرتباطاً بعالم الغيب، وكذلك المؤمنون الحقيقيون الذين أزالوا الحجب عن قلوبهم ووصلوا إلى مقام المكاشفة والشهادة نتيجة تهذيبهم أنفسهم.
يقول الفيلسوف الشهير "صدر المتألّهين الشيرازي" في مفاتيح الغيب: "واعلم، أنّ الوحي إذا إنقطع، وباب الرسالة إذا انسدّ إستغنى الناس عن الرسل وإظهار الدعوة بعد تصحيح الحجّة وإكمال الدين، كما قال الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) وأمّا باب الإلهام فلا ينسدّ، ومدد نور الهداية لا ينقطع لإحتياج الناس لإستغراقهم في هذه الوساوس إلى التنبيه والتذكير، والله تعالى غلق باب الوحي وفتح باب الإلهام رحمة منه على عباده"(1).
إنّ هذا الإرتباط يتولّد عادةً من سموّ النفس وإرتقاء الروح وتصفيتها وصفاء الباطن، ولا علاقة لها بمسألة النبوّة والرسالة، وبناءً على هذا فمتى ما تحقّقت مقدّماته وشروطه وجدت هذه الرابطة المعنوية، وبذلك فلم يكن أيّ بشر محروماً من هذا الفيض العظيم، ولن يكون ـ تأمّلوا ذلك ـ .
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مفاتيح الغيب، ص41 ـ 42.
[287]
الآيات
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً(41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا(42) هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً(43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقُوْنَهُ سَلَـمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً(44)
التّفسير
تحيّة الله والملائكة فرج للمؤمنين:
لمّا كان الكلام في الآيات السابقة عن مسؤوليات نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) وواجباته الثقيلة الملقاة على عاتقه، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن جانباً من وظائف المؤمنين من أجل تهيئة الأرضية اللازمة لهذا التبليغ، وتوسعة أطرافه في جميع الأبعاد، فوجّهت الخطاب إليهم جميعاً وقالت: (ياأيّها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً) ونزّهوه صباحاً ومساءاً (وسبّحوه بكرةً وأصيلا).
أجل .. لمّا كانت عوامل الغفلة في الحياة المادية كثيرة جدّاً، وسهام وسوسة الشياطين ترمى من كلّ جانب صوب الإنسان، فلا طريق لمحاربتها إلاّ بذكر الله الكثير.
[288]
إنّ "الذكر الكثير" ـ بالمعنى الواقعي للكلمة ـ يعني التوجّه إلى الله سبحانه بكلّ الوجود، لا بلقلقة اللسان وحسب.
"الذكر الكثير" هو الذي يقذف النور في كلّ أعمال الإنسان، ويغمرها بالضياء، ولهذا فإنّ القرآن أمر كلّ المؤمنين في هذه الآية أن يذكروا الله على كلّ حال:
فاذكروه أثناء العبادة، فاحضروا قلوبكم وأخلصوا فيها.
واذكروه عند إقدامكم على المعصية وتجنّبوها وإذا ما بدرت منكم عثرة وهفوة فبادروا إلى التوبة، وارجعوا إلى طريق الحقّ.
واذكروه عند النعم واشكروه عليها.
واذكروه عند البلايا والمصائب واصبروا عليها وتحمّلوها.
والخلاصة: لا تنسوا ذكره في كلّ مشهد من مشاهد الحياة والإبتعاد عن سخطه، والتقرّب لما يجلب رضاه.
ونطالع في حديث مروي في "سنن الترمذي" و "مسند أحمد" عن أبي سعيد الخدري عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): أنّه سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ فقال: "الذاكرون الله كثيراً".
قال أبو سعيد: فقلت: يارسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟! قال: "لو ضرب بسيفه في الكفّار والمشركين حتّى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون أفضل درجة منه"(1)، وذلك لأنّ الجهاد المخلص لا يمكن أن يتمّ بدون ذكر الله الكثير.
ومن هنا يعلم أنّ للذكر الكثير معنىً واسعاً، وإذا ما فسّر في بعض الرّوايات بتسبيح فاطمة (عليها السلام) ـ وهو 34 مرّة (الله أكبر) و33 مرّة (الحمد لله) و33 مرّة (سبحان الله) ـ وفي كلمات بعض المفسّرين بذكر الصفات العليا والأسماء الحسنى، وتنزيه الله سبحانه عمّا لا يليق به، فإنّ كلّ ذلك من باب ذكر المصداق الواضح، لا تحديد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الدرّ المنثور، طبقاً لنقل الميزان، المجلّد 16، صفحة 353.
[289]
المعنى بخصوص هذه المصاديق.
وكما يظهر بوضوح من سياق الآيات، فإنّ المراد من "تسبيح الله" في كلّ غداة وعشي هو إستمرار التسبيح، وذكر هذين الوقتين بالخصوص بإعتبارهما بداية اليوم ونهايته، وما فسّرهما به البعض من أنّ المراد صلاتي الصبح والعصر، أو أمثال ذلك، فهو من قبيل ذكر المصداق أيضاً.
لهذا فإنّ ذكر الله الكثير، وتسبيحه بكرةً وأصيلا لا يحصل إلاّ بإستمرار التوجّه إلى الله، وتنزيهه عن كلّ عيب ونقص، وتقديسه المتّصل، فذكر الله غذاء لروح الإنسان كما أنّ الطعام والشراب غذاء للبدن.
وجاء في الآية (28) من سورة الرعد (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ونتيجة هذا الإطمئنان القلبي هو ما ورد في الآيات 27 ـ 30 من سورة الفجر، حيث تقول: (ياأيّتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي).
والآية التالية بمثابة نتيجة وعلّة غائيّة للتسبيح في الواقع، فهي تقول: (هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور) أي من ظلمات الشرك والكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم والتقوى (وكان بالمؤمنين رحيماً)وبسبب هذه الرحمة كتب على نفسه هداية البشر وإرشادهم، وأمر ملائكته أن تعينهم في ذلك.
"يصلّي" من مادة (صلاة) وهي هنا تعني الرعاية والعناية الخاصّة، وهذه العناية بالنسبة لله تعني نزول الرحمة، وبالنسبة للملائكة تعني الإستغفار وطلب الرحمة، كما نقرأ ذلك في الآية (7) من سورة غافر: (ويستغفرون للذين آمنوا).
وعلى أيّة حال، فإنّ هذه الآية تتضمّن بشارة عظيمة للمؤمنين الذاكرين الله على الدوام، فهي تقول بصراحة: إنّ هؤلاء ليسوا وحدهم في سيرهم إلى الله، بل إنّهم ـ بمقتضى (يصلّي) وهو فعل مضارع يدلّ على الإستمرار ـ يسيرون في ظلّ
[290]
رحمة الله وملائكته، وفي ظلّ هذه الرحمة تزاح حجب الظلمة، ويغمر قلوبهم وأرواحهم نور العلم والحكمة والإيمان والتقوى.
نعم .. إنّ هذه الآية بشارة كبرى لكلّ سالكي طريق الحقّ بأنّ هناك جاذبية قوية من جانب المعشوق تجذب العاشق إليها لينتهي سعي هذا العاشق الصبّ إلى نتيجة ولا يذهب سدى!
إنّ هذه الآية ضمان لكلّ المجاهدين في سبيل الله أن لا ينالهم قسم الشيطان على إغواء بني آدم، لأنّهم في زمرة المخلِصين المخلَصين، وقد أظهر الشيطان عجزه عن إضلال هذه الزمرة منذ الوهلة الاُولى فقال: (فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين).(1)
إنّ جملة (وكان بالمؤمنين رحيماً) وبملاحظة أنّ (كان) فعل ماض يدلّ على أنّ الله كان رحيماً بالمؤمنين رحمة خاصّة على الدوام، تأكيد مجدّد على ما جاء في بداية السورة.
أجل .. هذه هي رحمة الله الخاصّة التي تخرج المؤمنين من ظلمات الأوهام والشهوات والوساوس الشيطانية، وتهديهم إلى نور اليقين والإطمئنان والسيطرة على النفس، ولولا رحمته سبحانه فإنّ هذا الطريق المليء بالمنعطفات والعراقيل لا يكون سالكاً.
وتجسّد الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث مقام المؤمنين وثوابهم بأروع تجسيد وأقصر عبارة، فتقول: (تحيّتهم يوم يلقونه سلام).
"التحيّة" من مادّة "حياة"، وهي تعني الدعاء لسلامة وحياة اُخرى. ولمزيد التوضيح راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (85) من سورة النساء.
هذا السلام يعني السلامة من العذاب، ومن كلّ أنواع الألم والعذاب والمشقّة،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة ص ـ 82، 83.
[291]
سلام ممتزج بالهدوء والإطمئنان.
ومع أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ "تحيتهم" إشارة إلى سلام المؤمنين وتحية بعضهم بعضاً، إلاّ أنّ ملاحظة الآيات السابقة التي كان الكلام فيها عن الصلاة ورحمة الله والملائكة في هذه الدنيا، تُظهر أنّ هذه التحية أيضاً من الملائكة في الآخرة، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الرعد: (والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم).
ممّا قلناه اتّضح بصورة ضمنية أنّ المراد من جملة (يوم يلقونه) هو يوم القيامة الذي سمّي بيوم "لقاء الله"، وهذا التعبير يستعمل عادةً في القرآن بهذا المعنى.
بعد هذه التحيّة، التي ترتبط ببداية الأمر، أشارت الآية إلى نهايته فقالت: (وأعدّ لهم أجراً كريماً).
إنّها جملة جمع فيها كلّ شيء على إختصارها، واُخفيت فيها كلّ النعم والمواهب.
* * *
بحوث
1 ـ ذكر الله على كلّ حال:
عندما يذكر اسم الله تعالى يتجلّى في قلب الإنسان عالم من العظمة والقدرة والعلم والحكمة، لأنّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وربّ كلّ الكمالات، ومنزّه عن كلّ عيب ونقص.
إنّ التوجّه المستمر لمثل هذه الحقيقة التي لها تلك الصفات، يسوق روح الإنسان إلى الخيرات والأعمال الصالحة والطهارات، ويبعده عن السيّئات والقبائح، وبعبارة اُخرى فإنّ نور صفاته عزّوجلّ يتجلّى في روح الإنسان.
إنّ التوجّه إلى هكذا معبود عظيم يبعث على الإحساس الدائم بحضوره بين
[292]
يديه تعالى، وهذا الإحساس يؤدّي إلى زيادة الفاصلة كثيرا بين الإنسان وبين الذنب والمعصية.
ذكر الله يعني تذكر مراقبته .. ذكر حسابه وجزائه .. ذكر محكمته العادلة .. نعيمه وجحيمه .. وهذا هو الذكر الذي يصفّي الروح، ويغمر القلب نوراً وحيوية.
لهذا ورد في الروايات الإسلامية أنّ لكلّ شيء حدّاً، إلاّ ذكر الله فإنّه لا حدّ له!
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في الرواية التي وردت في اُصول الكافي: "ما من شيء إلاّ وله حدّ ينتهي إليه، إلاّ الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه".
ثمّ يضيف: "فرض الله عزّوجلّ الفرائض، فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ، وشهر رمضان فمن صامه فهو، والحجّ فمن حجّ حدّه، إلاّ الذكر، فإنّ الله عزّوجلّ لم يرض منه بالقليل، ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه، ثمّ تلا: (ياأيّها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبّحوه بكرةً وأصيلا)"(1).
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) في ذيل هذه الرواية; "وكان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله".
وأخيراً ينتهي هذا الحديث الغني المحتوى بهذه الجملة: "والبيت الذي يقرأ فيه القرآن، ويذكر الله عزّوجلّ فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض"(2).
إنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان بحيث عُدّ "ذكر الله" في حديث يعدل خير الدنيا والآخرة، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "من اُعطي لساناً ذاكراً فقد اُعطي خير الدنيا والآخرة"(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكافي، المجلّد الثّاني، كتاب الدعاء. باب ذكر الله عزّوجلّ كثيراً.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ المصدر السابق.
[293]
والروايات الواردة في أهميّة "ذكر الله" تبلغ من الكثرة حدّاً بحيث أنّا لو أردنا إيرادها جميعاً هنا لخرجنا عن وضع الكتاب وحدّه، ولذلك نختم هذا الحديث بحديث آخر قصير عميق المعنى عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: "من أكثر ذكر الله عزّوجلّ أظلّه الله في جنّته"(1).
ولمزيد الإطلاع في هذا المجال يُراجع المجلّد الثّاني من اُصول الكافي ـ الأبواب التي تتعلّق بذكر الله، وخاصّة الأبواب التي تقول: إنّ الآفات والبلايا والمصائب لا تحيط بمن يذكرون الله).
وهناك مطلب ينبغي التأكيد عليه، وهو أنّ كلّ هذه البركات والخيرات لا ترتبط قطعاً بالذكر اللفظي وحركة اللسان الخالية من الفكر والعمل، بل الهدف هو الذكر الذي يكون مصدراً ومنبعاً للفكر .. ذلك الفكر الذي يتجلّى نوره في أعمال الإنسان، كما صرّحت الروايات بهذا المعنى(2).
2 ـ توضيح حول "لقاء الله":
قلنا: إنّ هذا التعبير في القرآن المجيد يشير إلى القيامة عادةً، ولمّا كان اللقاء الحسّي لا يصدق في شأن الله، إذ ليس هو بجسم، وليس له العوارض الجسمية، ولذلك اضطر بعض المفسّرين إلى تقدير شيء هنا، فقالوا: إن المراد هو "لقاء ثواب الله"، أو "لقاء ملائكة الله".
غير أنّ "اللقاء" يمكن أن يؤخذ هنا بمعنى اللقاء الحقيقي بعين القلب، حيث أنّ الحجب تُزال في القيامة وتتجلّى عظمة الله وآياته أكثر من أيّ وقت مضى، ويصل الإنسان إلى مقام المشاهدة الباطنية والرؤية القلبية، وينال كلّ شخص من هذه المشاهدة مرتبة تتناسب مع مقدار معرفته وعمله الصالح.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق.
2 ـ خصال الصدوق، طبقاً لنقل تفسير الميزان، المجلّد 16، صفحة 353.
[294]
وللفخر الرازي في تفسيره هنا بيان جميل يمكن جمعه مع ما قلناه، فهو يقول: إنّ الإنسان يغفل في هذه الدنيا عن الله غالباً نتيجة لغرقه في الاُمور المادية، والسعي لتحصيل المعاش، إلاّ أنّه يتوجّه يوم القيامة بكلّ وجوده إلى ربّ العالمين، لأنّ كلّ هذه المشاغل الفكرية ستزول، وهذا هو معنى لقاء الله(1).
ثمّ إنّه اتّضح ممّا قلناه أنّ قول بعض المفسّرين بأنّ هذا التعبير إشارة إلى لحظة الموت واللقاء بملك الموت لا يناسب الآيات مورد البحث، ولا التعبيرات المشابهة الواردة في آيات القرآن الاُخرى، وخاصّة وأنّ ضمير المفعول الذي في جملة "يلقونه" جاء بصيغة المفرد، وهو إشارة إلى ذات الله المقدّسة في حين أنّ الملائكة التي تقبض الأرواح جمع، وجاءت كلمة "الملائكة" بصيغة الجمع في الآية السابقة أيضاً (إلاّ اللهمّ أن تقدّر كلمة ما).
3 ـ اُجور المؤمنين معدّة منذ الآن!
إنّ جملة (أعدّ لهم أجراً كريماً) توحي بأنّ الجنّة ونعمها قد خلقت، وهي بإنتظار المؤمنين. ويمكن أن يتبادر هذا السؤال إلى الأذهان: إنّ التهيئة والإعداد يليقان بالشخص المحدود القدرة، حيث أنّه ربّما لا يستطيع في بعض الأحيان أن يهيء وقت الحاجة ما يريد، إلاّ أنّ مثل هذه الحاجة إلى الإستعداد لا تصدق في شأن الله سبحانه، إذ أنّ قدرته لا تحدّ، وإذا أراد شيئاً في أيّة لحظة فإنّه يقول له: كن فيكون، فما هو المراد من التأكيد على التهيئة والإعداد في هذه الآية وسائر آيات القرآن الاُخرى؟!
وبملاحظة نقطة واحدة يحلّ هذا الإشكال، وهي أنّ تهيئة الشيء ليس نابعاً من كون القدرة محدودة دائماً، بل قد يكون أحياناً من أجل تهدئة الخاطر وإطمئنان
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي ذيل الآية مورد البحث.
[295]
النفس أكثر، وقد يكون أحياناً من أجل زيادة الإحترام والإكرام، ولذلك فإنّنا إذا دعونا ضيفاً، وبدأنا بتهيئة وسائل إستقباله وضيافته، فسنكون قد إهتممنا به وإحترمناه أكثر، على عكس ما إذا قمنا بهذا الإستعداد لإستقباله يوم مجيئه، وفي ساعة وصوله، فإنّ هذا كاف لوحده في الدلالة على عدم إهتمامنا وقلّة إحترامنا لهذا الضيف.
وفي الوقت نفسه، لا يمنع هذا الكلام من تعاظم الأجر والثواب وزيادته وفق العمل، وأنّ المؤمنين كلّما إجتهدوا أكثر في تهذيب أنفسهم وتطهيرها، فإنّ الاُجور الإلهيّة المعدّة لهم تتكامل أكثر وتعظّم، وتسير نحو الكمال بنفس النسبة التي يتكاملون فيها.
* * *
[296]
الآيات
يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَـكَ شَـهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً(46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللهِ فَضْلا كَبِيراً(47) وَلاَ تُطِعِ الْكَـفِرِينَ وَالْمُنَـفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا(48)
التّفسير
السّراج المنير!
الخطاب في هذه الآيات موجّه إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ نتيجته لكلّ المؤمنين، وبذلك فإنّها تكمل الآيات السابقة التي كانت تبحث في بعض وظائف المؤمنين وواجباتهم.
لقد جاءت في الآيتين الأوليين من هذه الآيات الأربع "خمس صفات" للنبي(صلى الله عليه وآله) وجاء في الآيتين الاُخريين بيان خمس واجبات يرتبط بعضها ببعض، وتكمل إحداها الاُخرى.
تقول الآية أوّلا: (إنّا أرسلناك شاهداً) فهو من جانب شاهد على أعمال اُمّته، لأنّه يرى أعمالهم كما نقرأ ذلك في موضع آخر: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم
[297]
ورسوله والمؤمنون).(1) وهذا العلم يمكن تحقّقه عن طريق عرض أعمال الاُمّة على النّبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)، وقد مرّ تفصيل ذلك في ذيل الآية المذكورة (105 من سورة التوبة).
وهو من جانب آخر شاهد على الأنبياء الماضين الذين كانوا شهوداً على اُممهم: (فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).(2)
ومن جهة ثالثة فإنّ وجودك بما لك من الصفات والأخلاق والبرامج والتعليمات البنّاءة، إضافةً إلى تاريخك المشرق وأعمالك المشرفة، شاهد على أحقّية دينك، وشاهد على عظمة الله وقدرته.
ثمّ تطرّقت الآية إلى الصفتين الثّانية والثالثة فقالت: (ومبشّراً ونذيراً) فهو مبشّر للمحسنين بثواب الله اللامتناهي .. بالسلامة والسعادة الخالدة .. بالظفر والتوفيق المليء بالفخر والإعتزاز .. ونذير للكافرين والمنافقين من عذاب الله الأليم .. من خسران كلّ رأسمال الوجود، ومن السقوط في شراك التعاسة في الدنيا والآخرة.
وكما قلنا سابقاً، فإنّ البشارة والإنذار يجب أن يقترنا في كلّ مكان، وأن يكون أحدهما معادل للآخر، لأنّ نصف وجود الإنسان عبارة عن حبّه لجلب المنفعة، ونصفه الآخر سعيه لدفع المضرّة عنه، فالبشارة تشكّل الدافع على القسم الأوّل، والإنذار على النصف الثاني، فالمناهج التي تعتمد على جانب واحد لم تدرك حقيقة الإنسان، ولم تدرك دوافعه وميوله(3).
وأشارت الآية التالية إلى الصفة الرّابعة والخامسة، فقالت: (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التوبة، 105.
2 ـ النساء، 41.
3 ـ لقد أوردنا بحثاً مفصّلا في هذا الباب تحت عنوان أصلان تربويان مهمّان، في ذيل الآية (119) من سورة البقرة.
[298]
ملاحظات
وهنا ينبغي الإنتباه إلى عدّة ملاحظات:
1 ـ لقد ذكر مقام "الشهادة"، وكون النّبي (صلى الله عليه وآله) شاهداً قبل جميع صفاته الاُخرى، وذلك لأنّ هذا المقام لا يحتاج إلى مقدّمة سوى وجود النّبي ورسالته، فعندما يتمّ نصبه في هذا المقام يكون شاهداً من جميع الجهات التي ذكرناها سابقاً، غير أنّ مقام "البشارة" و "الإنذار" أمر يتحقّق بعد ذلك.
2 ـ إنّ الدعوة إلى الله سبحانه مرحلة تأتي بعد البشارة والإنذار، لأنّ البشارة والإنذار وسيلة لتهيئة الأفراد لقبول الحقّ، فعندما تتهيّأ هذه الأرضية عن طريق الترغيب والترهيب، تبدأ مرحلة الدعوة إلى الله سبحانه، وستكون مؤثّرة في هذه الحالة فقط.
3 ـ مع أنّ كلّ أعمال النّبي (صلى الله عليه وآله) بإذن الله وأمره، إلاّ أنّ الدعوة هي الوحيدة التي قيّدت بإذن الله هنا، وذلك لأنّ أشقّ أعمال الأنبياء وأهمّها هي الدعوة إلى الله سبحانه، حيث يجب عليهم أن يسوقوا الناس في طريق يخالف ميولهم وشهواتهم، فيجب أن تستبطن إذن الله وأمره ونصرته في هذه المرحلة ليتمّ تنفيذها، ومن هنا يتّضح أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لا يملك شيئاً من عند نفسه، بل كلّ ما يقوله بإذن الله(1).
4 ـ إنّ كون النّبي (صلى الله عليه وآله) (سراجاً منيراً) إشارة إلى المعجزات وأدلّة أحقّية دعوة الرّسول، وعلامة صدقها، فهو سراج منير شاهد بنفسه على نفسه، يزيح الظلمات ويلفت الأنظار ويجذب القلوب إليه، فكما أنّ بزوغ الشمس دليل على وجود الشمس، فكذلك وجوده (صلى الله عليه وآله) دليل على كونه حقّاً، ودليل على أحقّيته.
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّ لفظة "السراج" قد وردت في القرآن المجيد أربع مرّات، ثلاث منها في شأن الشمس، ومن جملتها ما ورد في الآية (16) من سورة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يحتمل أيضاً أنّ قيد (بإذنه) يعود إلى جميع الأوصاف السابقة، إلاّ أنّ ظاهر الآية هو أنّ الضمير يعود إلى مسألة الدعوة إلى الله.
[299]
نوح حيث تقول: (وجعل القمر فيهنّ نوراً وجعل الشمس سراجاً).
"السراج" في الأصل يعني المصباح الذي يضاء سابقاً بواسطة الفتيلة والزيت، وبواسطة الطاقة الكهربائية وأمثالها في العصر الحاضر، فينبعث ضياؤه ونوره، إلاّ أنّه اُطلق ـ على قول الراغب في مفرداته ـ على كلّ مصدر للنور فيما بعد، وإطلاقه على الشمس من أجل أنّ نورها ينبع من داخلها، ولا تكتسب نورها من مصدر آخر كالقمر.
إنّ وجود النّبي (صلى الله عليه وآله) كالشمس المنيرة التي تزيح ظلمات الجهل والشرك والكفر عن سماء روح البشر، لكن كما لا ينتفع العمي بنور الشمس، وكما تخفي الخفافيش أنفسها عنه حيث لا طاقة لعيونها برؤية هذا النور، فإنّ عمي القلوب العنودين المتعصّبين لم يستفيدوا ولن يستفيدوا من هذا النور مطلقاً، وكان أبو جهل وأمثاله يضعون أصابعهم في آذانهم حتّى لا يسمعوا صوت قرأنه ونغمته.
إنّ الظلام يبعث على الخوف والوحشة دائماً، والنور يبعث الإطمئنان والراحة، فالسرّاق واللصوص يستغلّون ظلام الليل للسطو على الدور ونهب ما يقدرون عليه، والحيوانات المفترسة تخرج من حجورها في ظلمة الليل غالباً.
الظلام يسبّب الفرقة، والنور يسبّب الإجتماع، ولذلك فإنّنا إذا أسرجنا سراجاً في ليلة مظلمة فستجتمع حوله أنواع الحشرات في فترة قصيرة.
إنّ النور والضياء أساس نمو الأشجار، ونضج الفواكه والأثمار، والخلاصة: كلّ نشاطات الحياة، وتشبيه وجود النّبي (صلى الله عليه وآله) بمصدر للنور يبعث على تداعي كلّ هذه المفاهيم في الذهن.
إنّ وجود النّبي (صلى الله عليه وآله) أساس الهدوء والإطمئنان، وفرار لصوص الدين والإيمان، وهرب الذئاب الضارية الظالمة لمجتمعاتها، ويوجب هدوء الخاطر، ونمو روح الإيمان والأخلاق، والخلاصة: أساس الحياة والحركة، وتأريخ حياته شاهد حي على هذا الموضوع.
[300]
وفي الآيتين الاُخريين من الآيات مورد البحث بياناً لخمسة واجبات من واجبات النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) المهمّة بعد بيان صفاته الخمس، فتقول أوّلا: (وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلا كبيراً) وهي إشارة إلى أنّ مسألة تبشير النّبي (صلى الله عليه وآله) لا يحدّ بالثواب الإلهي بمقدار أعمال المؤمنين الصالحة، بل إنّ الله سبحانه يفيض عليهم من فضله بحيث تضطرب المعادلة بين العمل والجزاء تماماً كما تشهد بذلك الآيات القرآنية.
فتقول في موضع: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).(1)
وتقول في موضع آخر: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء).(2)
وقد تذهب أبعد من ذلك فتقول: (فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين).(3)
وبهذا فإنّ أبعاد الفضل الإلهي الكبير أوسع وأسمى ممّا يخطر في التصوّر والأوهام.
ثمّ تناولت الواجب الثّاني والثالث، فقالت: (ولا تطع الكافرين والمنافقين).
لا شكّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يطع الكافرين والمنافقين مطلقاً، إلاّ أنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان، ولذلك أكّدت الآية على هذا الموضوع بالخصوص من باب التأكيد على النّبي (صلى الله عليه وآله) والتحذير والقدوة للآخرين، فهي تحذّرهم من الأخطار والعقبات المهمّة التي تعترض طريق القادة المخلصين، والتي تجرّهم إلى المساومة والتسليم أثناء المسيرة، وتتهيّأ أرضية هذا التسليم عن طريق التهديد تارةً، وعن طريق منح الإمتيازات تارةً اُخرى، حتّى أنّ الإنسان قد يشتبه أحياناً فيظنّ أنّ الخضوع والإمتثال لمثل هذه المساومة والإستسلام هو طريق الوصول
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأنعام، 160.
2 ـ البقرة، 261.
3 ـ الم السجدة، 17.
[301]
إلى الهدف. في حين أنّ نتيجة هذا الإستسلام هي إجهاض كلّ الجهود والمساعي، وإحباط كلّ جهاد وكفاح.
إنّ تأريخ الإسلام يبيّن أنّ الكافرين والمنافقين سعوا مراراً إلى جرّ النّبي (صلى الله عليه وآله)إلى هذا الموضع، فاقترحوا مرّة أن لا يذكر الأصنام بسوء ولا ينتقدها وينتقصها، وقالوا مرّة اُخرى: ائذن لنا أن نعبد ربّك سنة، واعبد آلهتنا سنة، وكانوا يقولون أحياناً: امهلنا سنة نقيم فيها على ديننا ثمّ نؤمن بك. واقترحوا عليه مرّة أن أبعد عنك فقراء المؤمنين ومساكينهم لنضمّ صوتنا ـ نحن الأثرياء ذوي المكانة ـ إليك. وكانوا يعلنون أحياناً إستعدادهم لبذل الإمتيازات المالية والمركز والمنصب الحسّاس، والنساء الجميلات وأمثال ذلك.
من المسلّم أنّ كلّ هذه كانت شراك خطيرة في طريق إنتشار الإسلام السريع، وإقتلاع جذور الكفر والنفاق، ولو كان النّبي (صلى الله عليه وآله) قد أظهر الليونة والميل إلى المساومة أمام واحد من هذه الإقتراحات فإنّ دعائم الثورة الإسلامية كانت ستنهار، ولم تكن الجهود لتصل إلى نتيجة مطلقاً.
ثمّ تقول في الأمر الرابع والخامس: (ودع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا).
إنّ هذا الجزء من الآية يوحي بأنّهم قد وضعوا النّبي (صلى الله عليه وآله) تحت ضغط شديد لحمله على الإستسلام، واستخدموا ضدّه وضدّ أصحابه كلّ أنواع الأذى، سواء كان عن طريق جرح اللسان والكلام الفاحش والإهانة، أم عن طريق الأذى الجسمي، أو عن طريق الحصار الإقتصادي. وكان لهذا الأذى صورة واُسلوباً في مكّة، واُسلوباً آخر في المدينة، لأنّ "الأذى" جاء مطلقاً في الآية ويشمل كلّ أنواع الأذى.
ويرى "الراغب" في المفردات أنّ "الأذى" هو كلّ ضرر يصيب الكائن الحي، سواء في روحه، أو جسمه، أو يصيب من يرتبط به، سواء في الدنيا أم الآخرة.
[302]
وقد إستعملت هذه الكلمة في الآيات القرآنية في "الأذى اللساني" تارةً كالآية (61) من سورة التوبة، حيث تقول: (ومنهم الذين يؤذون النّبي ويقولون هو اُذن).
وإستعملت أيضاً بمعنى "الأذى البدني" في آيات اُخرى، كالآية (16) من سورة النساء: (والّذان يأتيانها منكم فآذوهما) أي يرتكبان الفاحشة، فأقيموا عليهما الحدّ الشرعي.
يقول التاريخ: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الأوائل قد وقفوا كالجبل الأشمّ أمام أنواع الأذى، ولم يقبلوا عار الإستسلام والهزيمة قطّ، وأخيراً إنتصروا في حركتهم.
وكان أساس هذه المقاومة ومعينها هو "التوكيل على الله" والإعتماد على ذاته المقدّسة .. الله الذي تتيسّر كلّ الصعاب والمشاكل أمام إرادته .. أجل يكفي الإنسان أن يكون معينه وناصره هذا الربّ الجليل.
وممّا قلناه اتّضح أنّ محتوى الآية المذكورة لم يكن نسخ لحكم الجهاد ـ كما يظنّ ذلك بعض المفسّرين ـ بل الظاهر أنّ هذه الآيات قد نزلت بعد مدّة من نزول حكم الجهاد، وهي في مصافّ الحوادث المتعلّقة بسورة الأحزاب.
إنّ هذا حكم لكلّ العصور والقرون، بأن لا يصرف الأئمّة الإلهيون طاقاتهم الحيوية في الإهتمام بإيذاء مخالفيهم، فإنّهم إن فعلوا ذلك وصرفوا قواهم وطاقاتهم في هذا المجال، يكون عدوّهم قد حقّق هدفه، لأنّه يريد أن يشغل فكر من يقابله، ويهدر طاقاته عن هذا الطريق .. هنا يكون أمر (دع أذاهم) هو الحلّ الوحيد.
وهنا أمر يستحقّ الإنتباه أيضاً، وهو: أنّ الأوامر الخمسة المذكورة، التي وردت في الآيتين الأخيرتين، يكمل بعضها بعضاً، ويرتبط بعضها ببعض، فإنّ
[303]
تبشير المؤمنين لجذب القوى المؤمنة، وعدم الإستسلام للكفّار والمنافقين، وعدم الإهتمام بأذاهم، والتوكّل على الله تشكّل مجموعة مباديء تؤدّي إلى الهدف، ودستور عمل جامع لكلّ سالكي طريق الحقّ.
* * *
[304]
الآية
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلا(49)
التّفسير
جانب من أحكام الطلاق:
إنّ آيات هذه السورة ـ الأحزاب ـ جاءت على شكل مجموعات مختلفة، والخطاب في بعضها موجّه إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، وفي بعضها الآخر إلى كلّ المؤمنين، ولذلك تقول أحياناً: (ياأيّها النّبي)، وأحياناً اُخرى: (ياأيّها الذين آمنوا) قد وردت فيها الأوامر اللازمة يوازي بعضها بعضاً، وهذا يعني أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان مراداً بهذه التعليمات، كما أنّ عموم المؤمنين يرادون بها أيضاً.
والآية التي نبحثها من الآيات التي توجّه خطابها إلى كلّ المؤمنين، في حين أنّ الآيات السابقة خاطبت شخص النّبي (صلى الله عليه وآله) ظاهراً، ويتوجّه الخطاب إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)في الآيات القادمة مرّة اُخرى، وبهذا فإنّ قسماً من هذه السورة يتّبع اُسلوب "اللفّ والنشر المرتّب".
[305]
تقول الآية: (ياأيّها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها).
لقد بيّن الله سبحانه هنا حكماً إستثنائياً من حكم عدّة النساء المطلّقات، وهو أنّ الطلاق، إن وقع قبل الدخول فلا تلزم العدّة، ومن هذا التعبير يفهم أنّ حكم العدّة كان قد بُيّن قبل هذه الآية.
إنّ التعبير بـ "المؤمنات" لا يدلّ على أنّ الزواج من غير المسلمات ممنوع تماماً، بل من الممكن أن يكون إشارة إلى أولوية المؤمنات، وبناءً على هذا فإنّه لا ينافي الروايات ومشهور فتاوى الفقهاء بجواز الزواج المؤقّت من الكتابيات.
ثمّ إنّه يستفاد من تعبير (لكم) وكذلك جملة (تعتدونها) أنّ إنتظار عدّة المرأة يعتبر حقّاً للرجل، ويجب أن يكون هكذا، لأنّ من الممكن أن تكون المرأة حاملا في الواقع، وتركها العدّة وزواجها برجل آخر يجعل حال الولد غير معلوم، ويؤدّي إلى ضياع حقّ الرجل إضافةً إلى أنّ إنتظار العدّة يمنح الرجل والمرأة فرصة لتجديد النظر والرجوع إلى بعضهما، فقد يقع الطلاق نتيجة إنفعالات شديدة، ومثل هذه الفرصة والتفكير حقّ للرجل والمرأة معاً.
وأمّا ما أورده البعض على هذا الحكم، بأنّ العدّة إن كانت حقّاً للرجل، فبإمكانه أن يسقط حقّه، فلا يصحّ، لأنّ في الفقه حقوقاً كثيرة لا يمكن إسقاطها، كالحقّ الذي لورثة الميّت في أمواله، أو الحقّ الذي للفقراء في الزكاة، إذ لا يقدر أي أحد على إسقاط هذا الحقّ الشرعي.
ثمّ تتطرّق الآية إلى حكم آخر من أحكام النساء اللاتي يطلقن قبل المباشرة الجنسية ـ والذي سبقت الإشارة إليه في سورة البقرة أيضاً ـ فتقول: (فمتّعوهنّ)أي اعطوهنّ هدية مناسبة.
ولا شكّ أنّ تقديم هديّة مناسبة إلى المرأة يكون واجباً في حالة عدم تعيين المهر من قبل، كما جاء في الآية (236) من سورة البقرة (لا جناح عليكم إن طلّقتم
[306]
النساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة ومتّعوهنّ).
بناءً على هذا، فإنّ الآية مورد البحث وإن كانت مطلّقة، وتشمل الموارد التي عين فيها المهر، والتي لم يعيّن فيها، إلاّ أنّنا نحدّدها بالمورد الذي لم يعيّن فيه المهر بقرينة آية سورة البقرة، لأنّه في حالة تعيين المهر وعدم الدخول يجب دفع نصف المهر، كما جاء ذلك في الآية (237) من سورة البقرة.
واحتمل بعض المفسّرين والفقهاء أنّ حكم تقديم هديّة مناسبة عام في الآية مورد البحث، ويشمل حتّى الموارد التي عيّن فيها المهر، غاية ما هناك أنّ له صفة الإستحباب في هذه الموارد، وله صفة الوجوب في الموارد التي لم يعيّن فيها المهر. وتلاحظ في بعض الآيات والروايات إشارة إلى هذا المعنى أيضاً(1).
أمّا كم هو مقدار هذه الهدية؟ فقد بيّنه القرآن المجيد في سورة البقرة إجمالا بقوله: (متاعاً بالمعروف).(2) وكذلك قال في نفس تلك الآية: (على الموسّع قدره وعلى المقتر قدره).
بناءً على هذا، فإن ذكرت في الروايات الإسلامية موارد من قبيل البيت والخادم واللباس وأمثال ذلك، فإنّها من قبيل المصاديق لهذا الكلّي وهي تتفاوت بحسب إمكانيات الزوج وشؤون المرأة.
وآخر حكم في الآية مورد البحث هو: (وسرحوهنّ سراحاً جميلا).
"السراح الجميل" هو الطلاق المقترن بالمحبّة والإحترام، وترك كلّ خشونة وظلم وجور وإحتقار، والخلاصة هو ما ورد في الآية (29) من سورة البقرة: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فإنّ الإستمرار في الحياة الزوجية يجب أن يكون قائماً على أساس المعايير الإنسانية، والطلاق كذلك، فلا يجوز للرجل ـ إذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كالآية (241) من سورة البقرة، ووردت روايات متعدّدة في هذا الباب ذكرت في وسائل الشيعة، الجزء 15، ص59 الباب 50 من أبواب المهور من كتاب النكاح، ومن جملتها ما ورد عن علي (عليه السلام) "لكلّ مطلّقة متعة إلاّ المختلعة".
2 ـ البقرة، 236.
[307]
صمّم على طلاق زوجته ـ هضم حقّ الزوجة ومهرها، وبذاءة الكلام والخشونة معها، فإنّ هذا السلوك غير إسلامي قطعاً، ولا يمتّ إلى الإسلام بصلة.
واعتبر بعض المفسّرين "السراح الجميل" بمعنى إجراء الطلاق طبقاً للسنّة الإسلامية، وجاء هذا المعنى في الرّواية الواردة في تفسير علي بن إبراهيم وعيون الأخبار. إلاّ أنّ من المسلّم أنّ "السراح الجميل" لا يتحدّد بهذا المعنى، بالرغم من أنّه أحد مصاديقه.
واعتقد بعض آخر من المفسّرين أنّ السراح الجميل هنا يعني إذن الخروج من المنزل، لأنّ المرأة ليست مكلّفة هنا بالعدّة، وبناءً على هذا فيجب إطلاق سراحها لتذهب حيث شاءت.
إلاّ أنّ هذا المعنى يبدو بعيداً بملاحظة أنّ تعبير السراح الجميل، أو أمثاله في الآيات القرآنية الاُخرى قد ورد حتّى في شأن النساء اللاتي يجب أن يعتددن.
وقد كان لنا بحث مفصّل حول المعنى الأصلي للسراح، وأصله اللغوي، ولماذا يستعمل في الإطلاقات المتعارفة بمعنى الطلاق والإطلاق في ذيل الآية (28) من سورة الأحزاب هذه.
* * *
[308]
الآية
يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَجَكَ الَّتِى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـلَـتِكَ الَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنِكحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً(50)
التّفسير
يمكنك الزواج من هذه النّسوة:
قلنا: إنّ بعض مقاطع هذه السورة تبحث واجبات النّبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين على طريقة اللفّ والنشر المرتّب، ولذلك فبعد ذكر جانب من الأحكام المتعلّقة بطلاق النساء، وجّهت الخطاب هنا إلى النّبي (صلى الله عليه وآله)، وفصّلت الموارد السبعة التي يجوز للنبي الزواج فيها من تلك النسوة:
[309]
1 ـ فقالت أوّلا: (ياأيّها النّبي إنّا أحللنا لك أزواجك اللاّتي آتيت اُجورهنّ). والمراد من هؤلاء النساء ـ بقرينة الجمل التالية ـ النساء اللاتي لم يكنّ يرتبطن بالنّبي (صلى الله عليه وآله) برابطة قرابة وقد تزوّجنه، وربّما كانت مسألة دفع المهر لهذا السبب، لأنّ العرف المتّبع آنذاك هو أنّهم كانوا يدفعون المهر نقداً عند زواجهم من الأجنبيات، إضافةً إلى أفضلية التعجيل في هذا الدفع، وخاصّة إذا كانت الزوجة بحاجة إليه. إلاّ أنّ هذا الأمر ليس من الواجبات على أي حال، إذ يمكن أن يبقى المهر ديناً في ذمّة الزوج إذا ما اتّفق الطرفان على ذلك.
2 ـ (وما ملكت يمينك ممّا أفاء الله عليك).
(أفاء الله) من مادّة (الفيء)، وتقال للأموال التي يحصل عليها الإنسان بدون جهد ومشقّة، ولذلك يطلق (الفيء) على الغنائم الحربية، وكذلك الأنفال، وهي الثروات الطبيعية التي تعود إلى الحكومة الإسلامية ولا يملكها مالك بالخصوص.
يقول الراغب في مفرداته: الفيء بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة، ومنه فاء الظلّ. (لحالة رجوع الظلّ) ثمّ قال: وقيل للغنيمة من دون مشقّة فيء. قال بعضهم: سمّي ذلك بالفيء تنبيهاً على أنّ أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظلّ زائل.
صحيح أنّ الغنائم الحربية لا تنال في بعض الأحيان إلاّ بشقّ الأنفس وبذل الجهد المضني، إلاّ أنّ مشقّتها أقلّ من مشقّة تحصيل الأموال الاُخرى. وقد يطلق "الفيء" أحياناً على الأموال الطائلة التي يُحصل عليها من خلال هجوم واحد.
لكن مَن مِن نساء النّبي يصدق عليها هذا الحكم؟
قال بعض المفسّرين: إنّ إحدى نساء النّبي وهي "مارية القبطية" ـ كانت من الغنائم، وكانت زوجتان اُخريان ـ وهما "صفيّة" و "جويرية" ـ من الأنفال أعتقهما النّبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ تزوّجهما، وكان هذا الفعل بنفسه جزءاً من خطّة الإسلام العامّة في تحرير العبيد التدريجي، وإرجاع الشخصية الإنسانية لهم.
3 ـ (وبنات عمّك وبنات عمّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاّتي هاجرن
[310]
معك) وبهذا فإنّ اللاّتي يحلّ للنّبي الزواج منهنّ من بين جميع الأقارب: بنات العمّ والعمّة، وبنات الخال والخالة، وبشرط أن يكنّ قد هاجرن مع النّبي (صلى الله عليه وآله).
إنّ التحديد بهذه الفئات الأربع واضح، إلاّ أنّ شرط الهجرة من أجل أنّها كانت دليلا على الإيمان في ذلك اليوم، وعدم الهجرة دليل على الكفر، أو لأنّ الهجرة تمنحهنّ إمتيازاً أكبر وفخراً أعظيم، والهدف من الآية هو بيان النساء الفاضلات المؤهّلات لأن يصبحن زوجات للنّبي (صلى الله عليه وآله).
وهل لهذه الفئات الأربع التي ذكرت كحكم كلّي في الآية، مصداق خارجي من بين نساء النّبي أم لا؟ إنّ المورد الوحيد الذي يمكن ذكره كمصداق هو زواجه (صلى الله عليه وآله)بزينب بنت جحش، الذي مرّت قصّته المثيرة في طيّات هذه السورة، لأنّ زينب كانت بنت عمّة النّبي وكان "جحش" زوج عمّته(1).
4 ـ (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي (من دون مهر) إن أراد النّبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين) أي أنّ هذا الحكم خاص للنبي (صلى الله عليه وآله) ولا يشمل سائر المؤمنين (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم)وبناءً على هذا فإذا كنّا قد حدّدنا بعض المسائل فيما يتعلّق بالزواج من هؤلاء النسوة، فقد كان ذلك إستناداً إلى مصلحة حاكمة في حياتك وحياتهن، ولم يكن أيٍّ من هذه الأحكام والمقرّرات إعتباطياً وبدون حساب.
ثمّ تضيف الآية (لئلاّ يكون عليك حرج) وبالتالي ستكون قادراً على أداء المسؤوليات الملقاة على عاتقك في القيام بهذا الواجب (وكان الله غفوراً رحيم).
وفي مورد القسم الأخير ـ أي النساء اللاّتي لا مهر لهنّ ـ ينبغي الإلتفات إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذكر بعض المفسّرين وجوهاً أوردها "الفاضل المقداد" في كنز العرفان، في أنّه لماذا ورد العمّ بصيغة المفرد والعمّات بصيغة الجمع، وكذلك الخال بصيغة المفرد والخالات بصيغة الجمع، إلاّ أنّ أفضلها هو أنّ العمّ والخال يستعملان كاسم للجنس في لغة العرب، وليس كذلك العمّات والخالات، وقد ذكر ابن العربي عرف أهل اللغة هذا (كنز العرفان، المجلّد 2، ص241).
وقد رجّح الآلوسي هذا الإحتمال في روح المعاني على كلّ الوجوه الاُخرى.
[311]
النقاط أدناه:
1 ـ لا شكّ أنّ جواز إتّخاذ زوجة من دون مهر كان من مختّصات النّبي (صلى الله عليه وآله)والآية صريحة في هذه المسألة، ولذلك فهي من مسلّمات الفقه الإسلامي، وبناءً على هذا فلا يحقّ لأيّ امرىء أن يتزوّج امرأة بدون مهر، قلّ أم كثر، وحتّى إذا لم يرد ذكر المهر أثناء إجراء صيغة العقد، ولم تكن هناك قرينة تعيّنه، فيجب أن يدفع مهر المثل، والمراد من مهر المثل: المهر الذي تجعله النساء اللاتي تشابهها في الأوصاف والخصوصيات لأنفسهنّ عادةً.
2 ـ هناك بحث بين المفسّرين في أنّه هل لهذا الحكم الكلّي مصداق في مورد زوجات النّبي (صلى الله عليه وآله) أم لا؟
يعتقد البعض ـ كإبن عبّاس وبعض آخر من المفسّرين ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يتزوّج بأيّة امرأة على هذه الحال، وبناءً على هذا فإنّ الحكم أعلاه كان إذناً عاماً للنّبي(صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّه لم يطبّق عملياً مطلقاً.
في حين أنّ آخرين ذكروا أسماء ثلاث أو أربع نسوة من زوجات النّبي (صلى الله عليه وآله)اللاّتي تزوجهنّ بدون مهر، وهنّ: "ميمونة" بنت الحارث، و "زينب" بنت خزيمة، وكانتا من الأنصار، وامرأة من بني أسد، واسمها "اُمّ شريك" بنت جابر، و "خولة" بنت حكيم.
ومن جملة ما ورد في الروايات أنّ "خولة" عندما وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله)إعترضت عائشة، فقالت: ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟! فنزلت الآية أعلاه، غير أنّ عائشة إلتفتت إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) وقالت: أرى الله يسارع في هواك ـ وكان هذا نوع من التعريض بالنّبي (صلى الله عليه وآله) ـ فقال لها النّبي (صلى الله عليه وآله): "وإنّك إن أطعت الله سارع في هواك"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، وفي تفسير القرطبي جملة: (والله ما أرى بك إلاّ يسارع في هواك). وأوردها الآلوسي في روح المعاني أيضاً في ذيل الآية مورد البحث. إنّ قبح هذا التعبير، والمعنى الذي اُخفي فيه لا يخفى على أحد، إلاّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يمرّ عليه ويتجاوزه بشكل رائع.
[312]
لا شكّ أنّ أمثال هؤلاء النسوة كنّ لا يطمعن إلاّ في الفخر المعنوي عن طريق الإقتران بالنّبي (صلى الله عليه وآله)، ولذلك كنّ على إستعداد للزواج منه بدون أيّ مهر، إلاّ أنّ وجود مثل هذا المصداق للحكم أعلاه غير مسلّم من الناحية التأريخية كما قلنا، بل المسلّم أنّ الله سبحانه كان قد أذن لنبيّه بذلك للغاية التي سنشير إليها فيما بعد.
3 ـ يستفاد من هذه الآية جيّداً أنّ إجراء صيغة عقد الزواج بلفظ "الهبة" كان مختّصاً بالنّبي (صلى الله عليه وآله) فقط، ولا يستطيع أيّ فرد آخر أن يجري عقد الزواج بهذا اللفظ، ويجوز إجراء العقد بلفظ الزواج أو النكاح، حتّى وإن لم يجر للمهر ذكر فيه، حيث يجب دفع مهر المثل عند عدم ذكر المهر كما قلنا آنفاً، فكأنّه في الحقيقة قد صرّح بمهر المثل.
* * *
بحث
جانب من حكمة تعدّد زوجات النّبي:
إنّ الجملة الأخيرة في الآية أعلاه إشارة في الواقع إلى فلسفة هذه الأحكام الخاصّة بنبيّنا الأكرم، حيث تقول: إنّ للنبي (صلى الله عليه وآله) ظروفاً لا يعيشها الآخرون، وهذا التفاوت في الظروف أصبح سبباً للتفاوت في الأحكام.
وبتعبير أوضح، إنّ الهدف من هذه الأحكام رفع بعض المشاكل والصعوبات من كاهل النّبي (صلى الله عليه وآله). وهذا تعبير لطيف يبيّن أنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) من عدّة نساء كان لحلّ سلسلة من المشاكل الإجتماعية والسياسية في حياته، لأنّا نعلم أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله)كان وحيداً حينما صدع بنداء الإسلام ورفع شعاره، ولم يؤمن به بعد مدّة طويلة سوى عدّة معدودة، فإنّه ثار ضدّ كلّ معتقدات عصره وبيئته الخرافية، وأعلن الحرب ضدّ
[313]
الجميع، فمن البديهي أن تتّحد كلّ الأقوام والقبائل ضدّه.
في هذا الوضع كان لابدّ من أن يستعين بكلّ الوسائل ويستغلّها لكسر إتّحاد الأعداء اللامشروع، وكانت إحدى هذه الوسائل هو الزواج من القبائل المختلفة لإيجاده علاقة قرابة ونسب، لأنّ رابطة القرابة كانت تعدّ أقوى الروابط بين عرب الجاهلية، وكانوا يعتبرون الصهر من نفس القبيلة، والدفاع عنه واجباً، وتركه وحيداً جريمة وذنباً.
إنّ لدينا قرائن كثيرة تبيّن أنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) المتعدّد كان له صبغة سياسيّة في كثير من الموارد على أقلّ تقدير. وأحدها ـ كزواجه بزينب ـ كان لكسر سنّة جاهلية، وقد بيّنا تفصيله في ذيل الآية (37) من هذه السورة. وبعضه لتقليل العداوة، أو لجلب محبّة أشخاص أو أقوام متعصّبين عنودين.
من الواضح أنّ شخصاً يتزوّج وهو في سنّ الخامسة والعشرين، حيث كان في عنفوان شبابه، بامرأة أيم لها أربعون سنة، ويكتفي بها حتّى الثالثة والخمسين من عمره، وبهذا يكون قد قضى مرحلة الشباب وبلغ سنّ الكهولة، ثمّ يقدم على الزواج المتعدّد، لابدّ أن يكون له سبب وفلسفة، ولا يمكن أن يفسّر بأيّ وجه من الوجوه بأسباب العلاقة والرغبة الجنسية، لأنّه لم يكن هناك مانع إجتماعي، أو ظروف مالية صعبة، أو أدنى نقص يمنع النّبي (صلى الله عليه وآله) من الزواج المتعدّد في سنّي شبابه، خاصّة وأنّ تعدّد الزوجات كان أمراً طبيعياً بين العرب آنذاك، بل ربّما كانت الزوجة الاُولى تذهب لخطبة الزوجة الثّانية، ولم يكونوا يعترفون بأيّ حدّ في إتّخاذ الزوجات.
والطريف أنّه قد ورد في التواريخ أنّ النّبي لم يتزوّج إلاّ بكراً واحدة، وهي عائشة، وباقي نسائه كنّ أيامى جميعاً ومن الطبيعي أن لا يتمتعنّ بإثارة جنسية
[314]
ملحوظة(1).
بل نقرأ في بعض التواريخ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) تزوّج بعدّة زوجات، ولم يجر إلاّ مراسم العقد، ولم يباشرهنّ أبداً، بل إنّه اكتفى في بعض الموارد بخطبة بعض نساء القبائل فقط(2).
وقد كان هؤلاء يفرحون ويسرّون ويفتخرون بأنّ امرأةً من قبيلتهم قد سمّيت بزوجة النّبي (صلى الله عليه وآله) فحصل لهم هذا الفخر، وبذلك فإنّ علاقتهم الإجتماعية بالنّبي كانت تشتدّ وتقوى، ويصبحون أكثر تصميماً على الدفاع عنه.
ومن جانب آخر، فمع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن رجلا عقيماً، إلاّ أنّه لم يكن له من الأولاد إلاّ القليل، في حين أنّ هذا الزواج المتعدّد لو كان بسبب جاذبية هذه النسوة، وإثارتهنّ الجنسية، فينبغي أن يكون له من الأولاد الكثير.
وكذلك ينبغي الإلتفات إلى أنّ بعض هذه النساء ـ كعائشة ـ كانت صغيرة جدّاً عندما أصبحت زوجة للنبي (صلى الله عليه وآله)، وقد مرّت سنين حتّى إستطاعت أن تكون زوجة حقيقية له، وهذا يوحي بأنّ الإقتران بمثل هذه البنت الصغيرة كانت له أهداف اُخرى، وكان الهدف الأصلي هو ما أشرنا إليه قبل قليل.
وبالرغم من أنّ أعداء الإسلام أرادوا أن يتّخذوا من تعدّد زواج النّبي (صلى الله عليه وآله)حربة لأشدّ هجماتهم المغرضة، ويحوكون منها أساطير أوهى من خيط العنكبوت للطعن في نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّ سنّ النّبي المتقدّمة عند إقدامه على تكرار الزواج من جهة، والظروف الخاصّة المتعلّقة بالنساء من ناحية العمر والقبيلة من جانب آخر، والقرائن المختلفة التي أشرنا إلى قسم منها آنفاً من جهة ثالثة تجعل الحقيقة واضحة كالشمس، وتحبط مؤامرات المغرضين وتفضحها.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 22، صفحة 191 ـ 192.
2 ـ المصدر السابق.
[315]
الآية
تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَاءَ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً(51)
سبب النّزول
قلنا في تفسير الآيتين 28 و29 من هذه السورة وبيان سبب النّزول: إنّ جمعاً من نساء النّبي ـ بناءً على ما نقله المفسّرون ـ قلن للنبيّ (صلى الله عليه وآله): زد في نفقتنا واُمور معاشنا ـ طمعاً في الغنائم الحربية، فكنّ يحسبن أنّ قسماً كبيراً منها من نصيبهنّ فنزلت الآيات المذكورة وخاطبتهنّ بصراحة بأنهنّ إن أردن الحياة الدنيا وزينتها فليفارقن النّبي إلى الأبد، وإن أردن الله ورسوله واليوم الآخر فليعشن معه حياة بسيطة.
إضافةً إلى أنّه كانت بينهنّ منافسة في كيفية تقسيم أوقات حياة النّبي (صلى الله عليه وآله)بينهنّ، وكنّ يحرجن النّبي ويضايقنه مع كلّ المشاكل والمشاغل التي كانت لديه، ومع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان يراعي العدالة بينهنّ ويبذل الجهد اللازم لتحقيقها تماماً، فقد
[316]
كان لغطهنّ وجدالهنّ مستمرّاً، فنزلت هذه الآية وجعلت النّبي (صلى الله عليه وآله) حرّاً في تقسيم أوقاته، ثمّ أعلنت الآية لهنّ أنّ هذا حكم إلهي لئلاّ يتولّد في أنفسهن أي قلق وسوء ظنّ(1).
التّفسير
حلّ مشكلة اُخرى في حياة النّبي:
إنّ قائداً ربّانياً عظيماً كالنّبي (صلى الله عليه وآله) خاصّة وأنّه ابتلي بسيل من الحوادث الصعبة المرّة، وكانوا يحوكون له الدسائس والمؤامرات داخلياً وخارجياً، لا يقدر أن يشغل فكره بحياته الخاصّة كثيراً، بل يجب أن يكون له هدوء نسبي في حياته الداخلية ليقوى على التفرّغ لحلّ سيل المشاكل التي أحاطت به من كلّ جانب.
إنّ اضطراب الحياة الشخصية، وكون قلبه وفكره مشغولين بوضعه العائلي في هذه اللحظات المضطربة الحسّاسة كان أمراً خطيراً للغاية.
ومع أنّ زواج النّبي (صلى الله عليه وآله) المتعدّد ـ وطبقاً للبحوث السابقة، والوثائق والمستندات التي أوردناها في تفسير الآية السابقة ـ كانت له أبعاد سياسية وإجتماعية وعاطفية غالباً، وكان في الحقيقة جزءاً من تنفيذ وتطبيق رسالة الله سبحانه، إلاّ أنّ الإختلاف بين زوجات النّبي، والمنافسة النسوية المعروفة بينهنّ، قد أثار في الوقت نفسه عاصفة من الإضطراب داخل بيت النّبي ممّا شغل فكره وزاد في همّه.
هنا منح الله سبحانه نبيّه إحدى الخصائص الاُخرى، وأنهى هذه الحوادث والأخذ والعطاء في الجدل إلى الأبد، وأراح فكر النّبي (صلى الله عليه وآله) من هذه الجهة، وهدأ خاطره وروعه، فقال سبحانه في هذه الآية (ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إقتباس من مجمع البيان وتفاسير اُخرى.
[317]
من تشاء).
"ترجي" من (الإرجاء)، أي: التأخير، و "تؤوي"، من (الإيواء) ويعني إستضافة شخص في بيتك.
ونعلم أنّ أحكام الإسلام في شأن الزوجات المتعدّدة تقضي بأن يقسم الزوج أوقاته بينهنّ بصورة عادلة، فإن بات ليلة عند واحدة، فيجب أن يبيت الليلة الاُخرى عند غيرها، إذ لا فرق ولا إختلاف بين النساء من هذه الجهة، ويعبّرون عن هذا الموضوع في الكتب الفقهيّة الإسلامية بـ "حقّ القَسَم".
فكانت إحدى مختّصات النّبي (صلى الله عليه وآله) هي سقوط رعاية حقّ القسم منه بحكم الآية أعلاه، وذلك نتيجة للظروف الخاصّة التي كان يعيشها، والأوضاع المضطربة التي كانت تحيط به من كلّ جانب، وخاصّة أنّ الحرب كانت تُفرض عليه كلّ شهر تقريباً، وكان له في نفس الوقت زوجات متعدّدة، وبسقوط هذا الواجب عنه فقد كان قادراً على أن يقسم أوقاته كيف يشاء، غير أنّه (صلى الله عليه وآله) كان يراعي تحقيق العدالة ما أمكن رغم هذه الظروف، كما جاء ذلك في التواريخ الإسلامية صريحاً.
إلاّ أنّ وجود هذا الحكم الإلهي قد منح نساء النّبي الراحة والإطمئنان، وأضفى على حياته الداخلية الهدوء والسكينة.
ثمّ تضيف الآية: وعندما ترغب عن إحداهن وتعتزلها، ثمّ ترغب فيها فلا تثريب عليك: (ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك).
وبهذا فليس الخيار بيدك في البداية وحسب، بل إنّه بيدك حتّى في الأثناء أيضاً، وهو في الإصطلاح "تخيير إستمراري" لا إبتدائي، وبهذا الحكم الواسع ستقطع كلّ الحجج من برنامج حياتك فيما يتعلّق بأزواجك، وتستطيع أن تسخّر فكرك لمسؤوليات الرسالة العظيمة الثقيلة.
ومن أجل أن تعلم نساء النّبي بأنهنّ إن أذعنّ لأمر الله تعالى في مسألة تقسيم أوقات النّبي (صلى الله عليه وآله) فإنّه يعتبر وسام فخر لهنّ يضاف إلى الفخر بكونهنّ أزواج النّبي
[318]
(صلى الله عليه وآله)، إذ أنّ هذا التسليم نوع من التضحية والإيثار، وليس فيه أيّ عيب وإنتقاص، ولذلك يضيف سبحانه: (ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ولا يحزنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلّهن).
وذلك أوّلا: لأنّ هذا الحكم عامّ يشملهنّ جميعاً ولا يتفاوتن فيه، وثانياً: إنّ الحكم الذي يشرع من جانب الله سبحانه إنّما يشرع لمصلحة مهمّة، وبناءً على هذا فيجب الإذعان له برغبة ورضا، فينبغي مضافاً إلى عدم القلق والتأثّر أن يفرحن لذلك.
لكن النّبي (صلى الله عليه وآله) ـ وكما أشرنا إلى ذلك ـ كان يراعي تقسيم أوقاته بينهنّ بعدالة قدر المستطاع، إلاّ في الظروف الخاصّة التي كانت توجب عدم التسوية وتحتّمه، وكان هذا بحدّ ذاته مطلباً آخر يبعث على ارتياحهنّ، لأنّهنّ كنّ يرين أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله)يسعى للتسوية بينهنّ مع كونه مخيّراً.
وأخيراً ينهي المطلب بهذه الجملة: (والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليماً حليماً) لا يستعجل في إنزال العقاب بالمذنبين.
أجل .. إنّ الله يعلم بأيّ حكم قد رضيتم، وله أذعنتم بقلوبكم، وعن أي حكم لم ترضوا.
وهو سبحانه يعلم إلى مَن أكثر من أزواجكم، ومن منهنّ تحظى بإهتمام أقل، ويعلم كيف تراعون حكمه وتنفّذوه مع هذا الإختلاف في الميول والرغبات.
وكذلك يعلم سبحانه مَن هم الذين يجلسون جانباً، ويعترضون على أحكام الله في شأن النّبي (صلى الله عليه وآله)، ويعارضونها بقلوبهم، ويعلم مَن هو الذي يرضى عن هذه الأحكام ويتقبّلها بدون إعتراض.
بناءً على هذا فإنّ تعبير (قلوبكم) واسع يشمل النّبي (صلى الله عليه وآله) وأزواجه، ويشمل كلّ المؤمنين الذين يقبلون بهذه الأحكام، أو الذين يعترضون عليها وينكرونها وإن لم يبدوا هذا الإعتراض والإنكار.
* * *
[319]
ملاحظة
هل كان هذا الحكم في حقّ كلّ نساء النّبي:
لقد كانت هذه المسألة موضع بحث في الفقه الإسلامي في باب خصائص النّبي(صلى الله عليه وآله) بأنّ تقسيم الأوقات بين الزوجات المتعدّدة بالتساوي هل يجب على النّبي(صلى الله عليه وآله) كما يجب على عامّة المسلمين، أم أنّ النّبي كان له حكم التخيير الإستثنائي؟
المعروف والمشهور بين فقهائنا وعند جمع من فقهاء العامّة أنّه (صلى الله عليه وآله) كان مستثنى من هذا الحكم، ويعدّون الآية المذكورة أعلاه دليلا على ذلك، فهي تقول: (ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء) لأنّ جعل هذه الجملة بعد البحث حول كلّ نساء النّبي يوجب أن يعود ضمير (هنّ) عليهنّ جميعاً، وهذا مطلب مقبول من جانب الفقهاء وكثير من المفسّرين.
إلاّ أنّ البعض يرى أنّ الضمير أعلاه يتعلّق بالنساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهر. في حين أنّه لم يثبت تاريخياً أنّ هذا الحكم قد تحقّق في الخارج، وأنّ له موضوعاً ومصداقاً أم لا. والبعض يرى أنّ النّبي لم يتزوّج على هذه الشاكلة إلاّ امرأة واحدة. وعلى كلّ حال، فإنّ أصل المسألة لم يثبت من الناحية التاريخية هذا أوّلا.
ثانياً: إنّ هذا التّفسير خلاف الظاهر، ولا يتناسب مع سبب النّزول الذي ذكروه لهذه الآية، وبناءً على هذا فيجب قبول الحكم المذكور عاماً.
* * *
[320]
الآية
لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَج وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء رَّقِيباً(52)
التّفسير
حكم مهمّ آخر فيما يتعلّق بأزواج النّبي:
لقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية حكماً آخر من الأحكام المتعلّقة بزوجات النّبي، فقال عزّوجلّ: (لا يحلّ لك النساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسنهنّ إلاّ ما ملكت يمينك) فالآية منعت الرّسول من الزواج الجديد إلاّ الاماء والجواري (وكان الله على كلّ شيء رقيباً).
للمفسّرين وفقهاء الإسلام بحوث كثيرة في هذه الآية، ووردت في المصادر الإسلامية روايات مختلفة في هذا الباب، ونحن نذكر أوّلا ما يبدو من ظاهر الآية أنّه مرتبط بالآيات السابقة واللاحقة ـ بغضّ النظر عن أقوال المفسّرين ـ ثمّ نتناول المطالب الاُخرى.
الظاهر من تعبير (من بعد) أنّ الزواج محرّم عليك بعد هذا، وبناءً على هذا فإنّ
[321]
(بعد) إمّا أن تعني (بعد) الزمانية، أي لا تتّخذ زوجة بعد هذا الزمان، أو أنّ المراد أنّك بعد أن خيّرت أزواجك بين البقاء معك والحياة حياة بسيطة في بيتك، وبين فراقهنّ، وقد رجّحن البقاء معك عن رغبة منهنّ، فلا ينبغي أن تتزوّج بعدهنّ بامرأة اُخرى.
وكذلك لا يمكنك أن تطلّق بعضهنّ وتختار مكانهنّ زوجات اُخر. وبتعبير آخر: لا تزد في عددهنّ، ولا تبدّل الموجود منهنّ.
* * *
مسائل مهمّة:
1 ـ فلسفة هذا الحكم:
إنّ هذا التحديد للنبي (صلى الله عليه وآله) لا يعتبر نقصاً، بل هو حكم له فلسفة دقيقة جدّاً، فطبقاً للشواهد التي تستفاد من التأريخ، أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) كان تحت ضغط شديد من قبل مختلف الأفراد والقبائل بأن يتزوّج بنساء اُخر منهم، وكلّ واحدة من القبائل المسلمة كانت تفتخر على قبائل العرب بأنّ النّبي قد صاهرهم وحتّى أنّ بعض النساء كنّ على إستعداد أن يهبن أنفسهنّ للنبي بدون مهر ـ كما مرّ ذلك ـ ويتزوّجنه بدون أيّ قيد أو شرط.
كانت هذه العلاقة الزوجية مع تلك القبائل والأقوام حلاًّ لمشاكل النّبي (صلى الله عليه وآله)ومحقّقة لأهدافه الإجتماعية والسياسية، غير أنّها إذا تجاوزت الحدّ، فمن الطبيعي أن تخلق له المشاكل بنفسها، وبما أنّ كلّ قبيلة كانت تأمل أن يتزوّج النّبي منها، فلو أراد النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يحقّق آمال الجميع، ويختار منهم أزواجاً، حتّى وإن كانت بمجرّد العقد ولا يدخل بها، فإنّ ذلك سيوجد له مصاعب جمّة. ولذلك فإنّ الله الحكيم قد منع هذا الأمر ووقف دونه بإصدار قانون محكم، فنهاه عن الزواج الجديد، وعن تبديل أزواجه.
[322]
لقد كان هناك أفراد في هذا الوسط يتوسّلون للوصول إلى هدفهم بحجّة أنّ أغلب أزواجك أيامى، ومن بينهنّ من لاحظ لها من الجمال، فاللائق بك أن تتزوّج بامرأة ذات جمال، ولذلك فإنّ القرآن أكّد على هذه المسألة بأنّه لا يحقّ لك أن تتزوّج النساء فيما بعد وإن أعجبك حسنهنّ وكنّ ذوات جمال.
إضافةً إلى أنّ أداء الجميل ورعايته كان يوجب أن يسنّ الله تعالى مثل هذا القانون، ويأمر به نبيّه لحفظ مقام أزواجه بعد أن أبدين وفاءهن، ورجّحن الحياة البسيطة المعنوية مع النّبي (صلى الله عليه وآله) على أي شيء آخر.
وأمّا فيما يتعلّق بالجواري والمملوكات باليمين حيث اُبيح الزواح منهنّ، فإنّما هو من أجل أنّ مشكلة النّبي كانت من ناحية الحرائر، ولذلك لم تكن هناك ضرورة تدعو إلى تحديد هذا الحكم في طرف الجواري، مع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يستفد من هذا الإستثناء طبق الشواهد التأريخية.
هذا هو الشيء الذي يبدو من ظاهر الآية.
2 ـ الروايات المخالفة:
إعتبرت جملة: (لا يحلّ لك النساء من بعد) في روايات عديدة ـ بعضها ضعيفة من ناحية السند، وبعضها يستحقّ الملاحظة ـ إشارةً إلى النساء اللواتي بُيّن تحريمهم في الآيتين (23 و24) من سورة النساء ـ وهنّ الاُمّ والبنت والاُخت والعمّة والخالة و.. ، وصرّح في ذيل بعض هذه الأخبار بأنّه: كيف يمكن أن تكون النساء حلال على الآخرين وحرام على النّبي؟ فلم تكن أيّة امرأة محرّمة عليه سوى ما حرّم على الجميع(1).
طبعاً، يبدو بعيداً جدّاً أن تكون الآية تشير إلى الآيات الواردة في سورة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 294 ـ 295.
[323]
النساء، إلاّ أنّ المشكلة هنا أنّ بعض الروايات قد صرّحت بأنّ المراد من (من بعد): بعد المحرّمات في آية سورة النساء.
بناءً على هذا، فإنّ الأفضل هو أن نغضّ النظر عن تفسير روايات الآحاد هذه، أو كما يقال: ندع علم ذلك إلى أهله، أي المعصومون (عليهم السلام)، لأنّها لا تنسجم مع ظاهر الآية، ونحن مكلّفون بظاهر الآية، والأخبار المذكورة أخبار ظنيّة.
والمطلب الآخر هو أنّ جماعة كثيرة تعتقد بأنّ الآية مورد البحث قد حرّمت كلّ زواج جديد على النّبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّ هذا الحكم قد نسخ فيما بعد، واُذن له بالزواج، وإن كان النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يتزوّج بعد ذلك. حتّى الآية (إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت اُجورهنّ ..) والتي نزلت قبل الآية مورد البحث، فإنّهم يعتبرونها ناسخة لهذه الآية. ويعتقدون بأنّ هذه الآية وإن كانت قد كتبت في القرآن بعد آية (إنّا أحللنا ..) إلاّ أنّ الأخيرة قد نزلت قبلها! بل وينقل "الفاضل المقداد" في كنز العرفان بأنّ هذه هي الفتوى المشهورة بين الأصحاب(1).
وهذا الرأي يتعارض مع الروايات أعلاه بوضوح، وكذلك لا ينسجم مع ظاهر الآيات أيضاً، لأنّ ظاهر الآيات يوحي بأنّ آية (إنّا أحللنا لك أزواجك) قد نزلت قبل الآية مورد البحث، ومسألة النسخ تحتاج إلى دليل قطعي.
وعلى كلّ حال، فليس لدينا شيء أكثر إطمئناناً ووضوحاً من ظاهر الآية نفسها، وطبقاً لذلك فإنّ كلّ زواج جديد، أو تبديل زوجات قد حُرّم على النّبي (صلى الله عليه وآله)بعد نزول هذه الآية، وكان لهذا الحكم مصالح ومنافع هامّة أشرنا إليها فيما سبق.
3 ـ هل يمكن النظر إلى زوجة المستقبل قبل الزواج؟
اعتبر جمع من المفسّرين جملة (ولو أعجبك حسنهنّ) دليلا على حكم معروف اُشير إليه في الروايات الإسلامية أيضاً، وهو: أنّ من أراد من أن يتزوّج
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كنز العرفان، المجلّد 2، صفحة 244.
[324]
بامرأة يستطيع النظر إليها من قبل نظرة تبيّن له هيكلها وأوصافها.
وحكمة هذا الحكم أن يختار الإنسان زوجته عن بصيرة تامّة ولا يندم ويأسف في المستقبل وهو ما يهدّد العلاقة الزوجية والكيان العائلي بالخطر، كما ورد ذلك في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لأحد أصحابه حينما أراد أن يتزوّج: "انظر إليها، فإنّه أجدر أن يدوم بينكما"(1).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال في جواب هذا السؤال: هل يستطيع الرجل أن يدقّق النظر إلى المرأة إذا أراد الزواج منها وينظر إلى وجهها وخلفها: "نعم، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوّجها، ينظر إلى وجهها وخلفها"(2).
والأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة، وقد صرّح بعضها بأنّ هذه النظرة يجب أن لا تكون بدافع الشهوة وطلب اللذّة.
وواضح أيضاً أنّ هذا الحكم خاصّ بالموارد التي يريد فيها الإنسان أن يتحقّق فعلا من المرأة التي يريد الزواج منها، بحيث لو كانت الشروط مجتمعة فيها لتزوّجها، أمّا الذي لم يصمّم على الزواج بعد، بل يحتمله، أو أنّه يريد مجرّد البحث، فلا يجوز له النظر إلى النساء.
واحتمل البعض في هذه الآية أنّها إشارة إلى النظر للنساء صدفة ولا إرادياً، وعلى هذا فإنّ الآية لا تدلّ في هذه الحالة على الحكم المذكور آنفاً، وستكون الروايات هي الدليل الوحيد عليه. إلاّ أنّ جملة: (ولو أعجبك حسنهنّ) لا تنسجم مع نظرة الصدفة السريعة، وبناءً على هذا فإنّ دلالتها على الحكم المذكور تبدو بعيدة.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي، المجلّد 8، صفحة 5303.
2 ـ وسائل الشيعة، المجلّد 14، الباب 36 من أبواب مقدّمات النكاح الحديث 3.
[325]
الآيتان
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَام غَيْرَ نَـظِرِينَ إِنَيـهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيث إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْى مِنكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْى مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلُْتمُوهُنَّ مَتَعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيماً(53) إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شِىْء عَلِيماً(54)
سبب النّزول
ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآية: أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لمّا تزوّج "زينب بنت جحش" أولم للناس وليمة فخمة تقريباً. وقلنا سابقاً: إنّ هذه الأحكام ربّما كانت من أجل تحطيم سنّة جاهلية في مجال تحريم مطلّقات الأدعياء بحزم تامّ، وليكون لهذا التحطيم شعاع أوسع، ولتمحى هذه السنّة الجاهلية التي كانت تعتبر
[326]
الزواج بأيامى العبيد المحرّرين عيباً وعاراً.
يقول "أنس"، وكان خادماً خاصّاً للنبي: أمرني النّبي أن أدعو أصحابه للغداء فدعوتهم، فكانوا يأتون جماعة يأكلون ويخرجون، حتّى قلت: يارسول الله، لم يبق أحد لم أدعه، فأمر برفع السماط، فرفعوا السماط وتفرّق القوم، إلاّ ثلاثة نفر بقوا في بيت النّبي وكانوا مشغولين بالحديث.
فلمّا رأى النّبي (صلى الله عليه وآله) حديثهم قد طال، نهض ونهضت معه لعلّ القوم يلتفتون ويذهبون إلى أعمالهم، فخرج النّبي حتّى أتى حجرة عائشة، ثمّ رجع مرّة اُخرى وكنت معه، فرأيت القوم على جلستهم وحالهم، فنزلت الآية أعلاه وأفهمتهم كيفية التعامل مع هذه المسائل(1).
ويستفاد من بعض الرّوايات أيضاً أنّ الجيران وسائر الناس كانوا يأتون إلى بعض نساء النّبي ويستعيرون أشياء حسب المتعارف والمعتاد، وبالرغم من أنّهم لم يكونوا يرتكبون معصية وذنباً طبقاً لبساطة الحياة آنذاك، إلاّ أنّ الآية أعلاه نزلت لحفظ حيثيّة زوجات النّبي وأمرت المؤمنين أنّهم إن أرادوا أن يأخذوا من نساء النّبي شيئاً فليأخذوه من وراء حجاب.
وجاء في رواية اُخرى أنّ بعض مخالفي النّبي قالوا: كيف تزوّج النّبي بعض نسائنا، أما والله لئن مات لنتزوجنّ نساءه، فنزلت الآية أعلاه وحرّمت الزواج بنساء النّبي من بعده مطلقاً، وأنهت هذه المؤامرة(2).
* * *
التّفسير
مرّة اُخرى يوجّه الخطاب إلى المؤمنين، لتبيّن الآية جانباً آخر من أحكام
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، المجلّد 8، صفحة 366 ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ المصدر السابق، ص366 و368.
[327]
الإسلام ضمن جمل قصيرة بليغة وصريحة، وخاصّة ما كان مرتبطاً بآداب معاشرة النّبي (صلى الله عليه وآله) وبيت النبوّة، فتقول أوّلا: لا ينبغي لكم دخول بيوت النّبي إلاّ إذا دعيتم إلى طعام واُذِن لكم بالدخول بشرط أن تدخلوا في الوقت المقرّر، لا أن تأتوا قبل ذلك بفترة وتجلسون في إنتظار وقت الغذاء (ياأيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبي إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه)(1).
بهذا تبيّن الآية أحد آداب المعاشرة المهمّة، والتي كانت قلّما تراعى في تلك البيئة، ومع أنّ الكلام يدور حول بيت النّبي إلاّ أنّ من المسلّم أنّ هذا الحكم لا يختصّ به، إذ ينبغي أن لا تدخل دار أي إنسان بدون إذنه (كما جاء ذلك في الآية 27 من سورة النور) بل نقرأ في أحوال النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه عندما كان يريد دخول بيت إبنته فاطمة (سلام الله عليها)، كان يقف خارجاً ويستأذن. وكان معه "جابر بن عبدالله" يوماً، فاستأذن له بعد أن استأذن لنفسه(2).
إضافةً إلى أنّهم إذا دُعوا إلى طعام فينبغي أن يكونوا عارفين بالوقت، لئلاّ يوقعوا صاحب البيت في جهد وإحراج في غير مكانه.
ثمّ تناولت الحكم الثّاني فقالت: (ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا).
وهذا الحكم مكمّل ومؤكّد للحكم السابق في الواقع، فلا تدخلوا البيت الذي دعيتم إليه في غير زمان الدعوة، وفي وقت غير مناسب، ولا تهملوا إجابة الدعوة أو أن لا تعبؤوا بها، ولا تتأخّروا بعد تناول الطعام مدّة طويلة.
من البديهي أنّ مخالفة هذه الاُمور وعدم اتّباعها سيؤدّي إلى أذىً وإشمئزاز المضيف، وهي لا تلائم الاُصول الأخلاقية.
وتقول في الحكم الثالث: (ولا مستأنسين لحديث) فلا تجلسوا حلقاً تتحدّثون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "إناه" من مادّة "أنّى يأني" أي حلول وقت الشيء، وتعني هنا تهيئة الطعام للتناول.
2 ـ الكافي، المجلّد 5، ص528.
[328]
بعد تناول الطعام، سواء كان ذلك في بيت النّبي، أم في بيت أي صاحب دعوة.
طبعاً، قد يرغب المضيفون في مثل هذه الحلقات والمجالس، فهذه الحالة مستثناة، إنّما الكلام في ما لو كانت الدعوة لتناول الطعام فقط، لا لتشكيل مجالس الاُنس، حيث تجب مغادرته بعد تناول الطعام، خاصّة إذا كان البيت كبيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مقرّ أداء أكبر رسالات الله وأعظمها، فيجب أن لا يهدر وقته باُمور جانبية تعوقه مدّة عن تأدية رسالته.
ثمّ تبيّن الآية علّة هذا الحكم فتقول: (إنّ ذلكم كان يؤذي النّبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحقّ).
من المسلّم أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن يتردّد لحظة، ولا يخشى شيئاً، أو يستحيي من شيء في بيان الحقّ في الموارد التي لم يكن لها بعد شخصي وخاصّ، إلاّ أنّ بيان الحقّ إذا كان يعود على القائل نفسه ليس بالأمر الجميل الحسن، أمّا تبيانه من قبل الآخرين فانّه رائع ومستحسن، ومورد الآية من هذا القبيل أيضاً، فإنّ اُصول الأخلاق والأدب كانت توجب على النّبي (صلى الله عليه وآله) أن لا يدافع عن نفسه، بل يدافع الله سبحانه عنه.
ثمّ تبيّن الآية الحكم الرابع في باب الحجاب، فتقول: (وإذا سألتموهنّ متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب).
قلنا: إنّ هذا الأمر كان ولا يزال متعارفاً بين العرب وكثير من الناس أنّهم إذا احتاجوا شيئاً من لوازم الحياة ووسائلها فإنّهم يستعيرونها من جيرانهم مؤقتاً، ولم يكن بيت النّبي مستثنى من هذا القانون، بل كانوا يأتون إليه سواء كان الوقت مناسباً أم غير مناسب، ويستعيرون من نساء النّبي شيئاً، ومن الواضح أن جعل نساء النّبي عرضة لأنظار الناس ـ وإن كن يرتدين الحجاب الإسلامي ـ لم يكن بالأمر الحسن، ولذلك صدر الأمر إلى الناس أن يأخذوا الأشياء من خلف حجاب أو من خلف الباب.
[329]
والمسألة التي ينبغي الإنتباه إليها هنا هي أنّه ليس المراد من الحجاب في هذه الآية لباس النساء، بل هو حكم يضاف إلى ما كان خاصّاً بنساء النّبي، وهو: أنّ الناس مكلّفون إذا أرادوا شيئاً من نساء النّبي أن يأخذوه من وراء حجاب لظروف نساء النّبي الخاصّة، ويجب عليهنّ أن لا يخرجن إلى الناس ويظهرن لهم في مثل هذه الموارد حتّى وإن كن محجّبات، وهذا الحكم لم يرد طبعاً في شأن النساء الاُخريات، بل يكفيهنّ أن يراعين الحجاب الإسلامي.
والشاهد على ذلك أنّ كلمة "الحجاب"، وإن كانت تستعمل في المحادثات اليومية بمعنى حجاب المرأة، إلاّ أنّها ليس لها مثل هذا المعنى لا في كتب اللغة، ولا في تعبيرات فقهائنا.
"الحجاب" في اللغة هو الشيء الذي يحول بين شيئين(1)، ولذلك اُطلق على الغشاء الموجود بين الأمعاء والقلب والرئة اسم "الحجاب الحاجز".
وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة بمعنى الحائل أو الساتر في عدّة مواضع، كالآية (45) من سورة الإسراء حيث تقول: (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً).
ونقرأ في الآية (32) من سورة ص: (حتّى توارت بالحجاب).
وجاء في الآية (51) من سورة الشورى: (وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب).
أمّا في كلمات الفقهاء فقد استعملت كلمة "الستر" فيما يتعلّق بلباس النساء منذ قديم الأيّام وإلى يومنا هذا، وورد أيضاً في الرّوايات الإسلامية هذا التعبير أو ما يشبهه، وإستعمال كلمة "الحجاب" في شأن لباس المرأة إصطلاح ظهر في عصرنا على الأكثر، وإذا وجد في التواريخ والرّوايات فقليل جدّاً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لسان العرب مادّة حجب.
[330]
والشاهد الآخر هو ما نقرؤه في الحديث المروي عن "أنس بن مالك" خادم النّبي الخاص، حيث يقول: أنا أعلم الناس بهذه الآية ـ آية الحجاب ـ لمّا اُهديت زينب إلى رّسول اللّه كانت معه في البيت ـ صنع طعاماً، ودعا القوم فقعدوا يتحدّثون، فجعل النّبي يخرج ثمّ يرجع وهم قعود يتحدّثون، فأنزل الله: (ياأيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبي) ـ إلى قوله ـ (من وراء حجاب) فضرب الحجاب وقام القوم(1).
وفي رواية اُخرى عن "أنس" أنّه قال: أرخى الستر بيني وبينه، فلمّا رأى القوم ذلك تفرّقوا(2).
بناءً على هذا فإنّ الإسلام لم يأمر النساء المسلمات بأن يجلسن خلف الستور، ولا يبرحن دورهن، وليس لكلمة "المستورات" أو "المحجّبات" وأمثال ذلك من التعبيرات صفة إسلامية أو بعد إسلامي بالنسبة للنساء، بل إنّ ما يلزم المرأة المسلمة هو محافظتها على الحجاب الإسلامي، إلاّ أنّ نساء النّبي قد أمرن بهذا الأمر الخاص بسبب وجود أعداء كثيرين، ومتتبعين للعيوب والمغرضين، وكان من الممكن أن يصبحن عرضة للتهم، وحربة تقع بيد الإنتهازيين.
وبتعبير آخر: إنّ الناس قد اُموروا أن يسألوا نساء النّبي ما يبتغونه من وراء حجاب. خاصّة وأنّ التعبير بـ "وراء" يشهد لهذا المعنى.
ولذلك بيّن القرآن فلسفة هذا الحكم فقال: (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ).
وبالرغم من أنّ مثل هذا التعليل لا ينافي الحكم الإستحبابي، إلاّ أنّ ظهور الأمر في جملة (فاسألوهنّ) لا يتزلزل في دلالته على الوجوب، لأنّ مثل هذا التعليل قد ورد أحياناً في موارد أحكام واجبة اُخرى.
ثمّ تبيّن الآية الحكم الخامس بأنّه (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله)فبالرغم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ صحيح البخاري، ج6، ص149.
2 ـ المصدر السابق.
[331]
من أنّ هذا العمل قد ذكر في نفس الآية، وهو الذهاب إلى بيت النّبي (صلى الله عليه وآله)في وقت غير مناسب، والجلوس بعد تناول الطعام، فقد ورد في روايات سبب النّزول أنّ بعض المنافقين كانوا قد أقسموا على أن يتزوّجوا نساء النّبي من بعده، وقد آلم ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله). ولكن معنى الآية عام على كلّ حال، فهو يشمل كلّ نوع من الأذى.
وأخيراً تبيّن الآية الحكم السادس والأخير في مجال حرمة الزواج بنساء النّبي من بعده، فقالت: (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إنّ ذلكم كان عند الله عظيماً).
وهنا يأتي سؤال، وهو: كيف حرّم الله نساء النّبي من اتّخاذ زوج لهنّ بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله)، وقد كان بعضهنّ شابات تقريباً؟
وجواب هذا السؤال يتّضح بملاحظة الغاية من هذا التحريم، وذلك لأنّه:
أوّلا: كما علمنا من سبب النّزول، فإنّ البعض صمّم على هذا العمل كإنتقام من النّبي (صلى الله عليه وآله) وإهانة لقدسيته، وكانوا يريدون أن ينزلوا ضربة بكيانه (صلى الله عليه وآله) عن هذا الطريق.
ثانياً: لو كانت هذه المسألة جائزة، فإنّ جماعة كانوا سيتّخذون زوجان النّبي أزواجاً لهم من بعده، وكان من الممكن أن يستغلّوا هذا الزواج لتحقيق مآربهم والوصول إلى مكانة إجتماعية مرموقة. أو أنّهم يبدؤون بتحريف الإسلام على أساس أنّهم يمتلكون معلومات خاصّة صادرة من داخل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله)، وأهل البيت أدرى بالذي فيه، أو أن يبثّ المنافقون بين الناس مطالب عن هذا الطريق تخالف مقام النبوّة ـ تأمّلوا ذلك ـ .
ونلمس ذلك بصورة أوضح عندما نعلم أنّ جماعة هيؤوا أنفسهم للقيام بهذا العمل، وصرّح بذلك بعضهم، وكتمه البعض الآخر في قلبه. وكان من جملة من
[332]
ذكره بعض مفسّري العامّة هنا هو "طلحة"(1).
إنّ الله المطّلع على الأسرار الخفيّة والمعلنة، والخبير بها، قد أصدر حكماً قاطعاً لإحباط هذه الخطّة الخبيثة، وليمنع من وقوع هذه الاُمور، ولتحكيم دعائم هذا الحكم فقد أطلق لقب (اُمّهات المؤمنين) على أزواج النّبي ليعلم اُولئك بأنّ الزواج منهنّ كالزواج من اُمّهاتهم! وبملاحظة ما قيل يتّضح لماذا وجب على نساء النّبي أن يتقبّلن هذا الحرمان بكلّ رحابة صدر؟
قد تطرح أحياناً مسائل مهمّة على مدى حياة الإنسان، يجب أن يظهر تجاهها التضحية والإيثار، وأن يغضّ النظر عن بعض الحقوق التي ثبتت له، خاصّة وأنّ الإفتخارات العظيمة تصاحبها مسؤوليات خطيرة، ولا شكّ أنّ أزواج النّبي قد إكتسبن فخراً لا يضاهى وعزّاً لا يسامى بزواجهنّ من النّبي (صلى الله عليه وآله)، وإكتساب هذا الفخر يحتاج إلى مثل هذه التضحية.
لهذا السبب كانت نساء النّبي يعشن من بعده بكلّ إحترام وتقدير بين الاُمّة الإسلامية، وكن راضيات جدّاً عن حالهنّ، ويعتبرن ذلك الحرمان مقابل هذه الإفتخارات أمراً تافهاً.
وحذّرت الآية الثّانية الناس بشدّة، فقالت: (إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإنّ الله كان بكلّ شيء عليماً) فلا تظنّوا أنّ الله سبحانه لا يعلم ما خططتم له في سبيل إيذاء النّبي (صلى الله عليه وآله) سواء ما ذكرتموه، أو الذي أضمرتموه، فإنّه تعالى يعلم كلّ ذلك جيداً، ويعامل كلّ إنسان بما يناسب عمله.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القرطبي، المجلّد 8، صفحة 5310.
[333]
بحوث
مناسبة للبحث الذي ورد في الآيات المذكورة في شأن واجبات المسلمين عندما يدعون إلى ضيافة النّبي (صلى الله عليه وآله)، نورد جانباً من تعليمات الإسلام فيما يتعلّق بأصل مسألة "الضيافة"، وحقّ الضيف، وواجبات المضيف:
1 ـ الضيافة:
لقد أولى الإسلام مسألة الضيافة أهميّة خاصّة، حتّى أنّه ورد في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله): "الضيف دليل الجنّة"(1).
إنّ أهميّة الضيف ووجوب إحترامه وتقديره، بلغ حدّاً إعتبر فيه هدية سماوية، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "إذا أراد الله بقوم خيراً أهدى إليهم هدية، قالوا: وما تلك الهدية؟ قال: الضيف ينزل برزقه، ويرتحل بذنوب أهل البيت"(2).
والطريف أنّ رجلا حضر عند النّبي (صلى الله عليه وآله) فقال: فداك أبي واُمّي، إنّي اُسبغ الوضوء، واُقيم الصلاة، واُؤتي الزكاة في حينها، واُرحّب بالضيف واُقريه في الله، فقال (صلى الله عليه وآله): "بخ بخ بخ! ما لجهنّم عليك سبيل! إنّ الله قد برأك من الشحّ إن كنت كذلك".
الكلام في هذا الباب كثير، ونكتفي بهذا القدر رعاية للإختصار.
2 ـ مراعاة البساطة في الضيافة:
مع كلّ الأهمية التي يتمتّع بها الضيف، فإنّ الضيافة إذا اتّسمت بالتكلّف فإنّها غير راجحة من وجهة نظر الإسلام، بل ونهى عنها، فإنّ الإسلام يوصي بأن تكون الضيافة بسيطة، وجعل معياراً عادلا بين الضيف والمضيف، وهو: أن لا يبخل
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 75، صفحة 460 باب 93 حديث 14.
2 ـ المصدر السابق.
[334]
المضيف بما عنده ويحضره، وأن لا يتوقّع الضيف أكثر من ذلك!
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "المؤمن لا يحتشم من أخيه، وما أدري أيّهما أعجب؟! الذي يكلّف أخاه إذا دخل عليه أن يتكلّف له، أو المتكلّف لأخيه؟"(1).
ويروي سلمان الفارسي عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "أن لا نتكلّف للضيف ما ليس عندنا، وأن نقدّم إليه ما حضرنا"(2).
3 ـ حقّ الضيف:
قلنا: إنّ الضيف كالهدية السماوية من وجهة نظر الإسلام، ويجب أن يرحّب به ويكرم غاية الإكرام، ويحترم أقصى ما يمكن، حتّى أنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام)يروي عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "من حقّ الضيف أن تمشي معه فتخرجه من حريمك إلى البر"(3).
ويجب تهيئة مستلزمات راحته إلى الحدّ الذي لا يبلغ التكلّف، حتّى أنّه ورد في حديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إنّ من حقّ الضيف أن يعد له الخلال"(4).
وقد يكون الضيوف خجولين أحياناً، ولذلك فقد صدر أمر بعدم سؤالهم عمّا إذا كانوا قد تناولوا الطعام أم لا، بل يمدّ لهم السماط فإن شاءوا وأكلوا، كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "لا تقل لأخيك إذا دخل عليك أكلت اليوم شيئاً؟ ولكن قرّب إليه ما عندك، فإنّ الجواد كلّ الجواد من بذل ما عنده"(5).
ومن جملة واجبات المضيف أمام الله سبحانه أن لا يحقّر الطعام الذي أعدّه، لأنّ نعمة الله سبحانه عزيزة ومحترمة مهما كانت، إلاّ أنّ المتعارف بين المترفين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 75، صفحة 453.
2 ـ المحجّة البيضاء، المجلّد 3، صفحة 29 الباب الثالث.
3 ـ بحار الأنوار، المجلّد 75، صفحة 451.
4 ـ بحار الأنوار، المجلّد 75، صفحة 455.
5 ـ المصدر السابق.
[335]
وأهل التكلّف أنّهم مهما نوّعوا السماط وملؤوه بأنواع الأطعمة فإنّهم يقولون: هذا شيء بسيط لا يليق بمقامكم!
وفي المقابل يجب أن لا يحتقر الضيف ما قدّم إليه، ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "هلك امرؤ احتقر لأخيه ما يحضره، وهلك امرؤ احتقر من أخيه ما قدّم إليه"(1).
إنّ الإسلام دقيق النظرة في إكرام الضيف، فهو يقول: استقبل الضيف وأعنه عندما يدخل إلى بيتك، أمّا إذا أراد الخروج فلا تعنه لئلاّ يتصوّر بأنّك راغب في خروجه(2).
4 ـ واجبات الضيف:
إنّ المسؤوليات تكون متقابلة دائماً، فكما أنّ على المضيف واجبات تجاه الضيف، فكذلك توجد على الضيف واجبات ينبغي أن يراعيها.
فعلاوة على ما ذكر في الأحاديث السابقة، فإنّ على الضيف أن ينفّذ ما يطلبه منه صاحب البيت ويقترحه عليه في شأن منزله، فإذا طلب منه أن يجلس في مكان ما مثلا فليفعل، فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: "إذا دخل أحدكم على أخيه في رحله فليقعد حيث يأمر صاحب الرحل، فإنّ صاحب الرحل أعرف بعورة بيته من الداخل عليه"(3).
وملخّص الكلام أنّ مسألة الضيافة وآدابها قد خصّص لها بحث واسع في آداب المعاشرة الإسلامية، وليراجع لمزيد الإيضاح في هذا الباب "بحار الأنوار"، الأبواب 88 ـ 94 من أبواب العشرة، المجلّد 17 و "المحجّة البيضاء"، المجلّد 3
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المحجّة البيضاء، المجلّد 3، صفحة 30.
2 ـ بحار الأنوار، المجلّد 75، صفحة 455 حديث 27.
3 ـ بحار الأنوار، المجلّد 75، صفحة 451.
[336]
الباب الرابع فضيلة الضيافة.
إلاّ أنّ هذه السنّة الإنسانية القديمة قد تقلّصت وللأسف الشديد في عصرنا الحاضر .. عصر غلبة المادية وطغيانها في العالم، وهيمنتها عليه، بل إنّها قد اجتّثت تقريباً في بعض المجتمعات الغربية، وقد سمعنا أنّ بعض اُولئك عندما يأتون إلى البلاد الإسلامية ويرون إنتشار مسألة الضيافة التي لا زالت قائمة في البيوتات الأصيلة، ومدى العواطف التي تكتنفها، فإنّهم يتعجّبون كيف يمكن أن يقدّم الناس أفضل الوسائل الموجودة في البيت، وأنفس الأطعمة وألذّها للضيوف الذين ربّما تربطهم بهم رابطة ضعيفة أحياناً، وربّما كانوا قد تعارفوا في سفرة قصيرة؟!
إلاّ أنّ ملاحظة الأحاديث الإسلامية ـ التي ورد قسم منها قبل قليل ـ تبيّن سبب هذه التضحية والإيثار، وتوضّح الحسابات المعنوية في هذا المجال .. تلك الحسابات التي لا تعني شيئاً لدى عبّاد المادّة والغارقين في بحرها.
* * *
[337]
الآية
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَنِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهيداً(55)
سبب النّزول
يروي بعض المفسّرين أنّ آباء نساء النّبي وأبناءهنّ وعوائلهنّ سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد نزول آية الحجاب ـ الآية السابقة ـ : يارسول الله، ونحن أيضاً نحدّثهنّ من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية بأنّها لا تشملكم.
التّفسير
الموارد المستثناة من قانون الحجاب:
لمّا كان الحكم الذي ورد في الآية السابقة حول حجاب نساء النّبي مطلقاً، ويمكن أن يوهم هذا الإطلاق بأنّ المحارم مكلّفون بتنفيذه أيضاً، وأن يحدّثوهنّ من وراء حجاب كالأجانب، فقد نزلت هذه الآية وفصلت حكم هذه المسألة.
تقول الآية: (لا جناح عليهنّ في آبائهنّ ولا أبنائهنّ ولا إخوانهنّ ولا أبناء
[338]
إخوانهنّ ولا أبناء أخواتهنّ ولا نسائهنّ ولا ما ملكت أيمانهنّ). وبتعبير آخر: فإنّ محارمهنّ الذين استثنوا في الآية هم هؤلاء الستّة فقط، وإذا قيل: إنّ هناك أفراداً من المحارم أيضاً لم يجر لهم ذكر في الآية كالأعمام والأخوال، فيجاب على هذا السؤال بأنّه:
لمّا كان القرآن يراعي الفصاحة والبلاغة في أجلى صورها وأسماها، وأحد اُصول الفصاحة هو أن لا تكون في الكلام أي كلمة زائدة، فقد إمتنع عن ذكر الأعمام والأخوال هنا، وذلك لأنّه حينما ذكر أولاد الأخ وأولاد الاُخت، فسوف يتّضح حكم الأعمام والأخوال من المحارم، لأنّ لهذه المحرمية جانبان، فكما أنّ ابن الأخ محرم بالنسبة إلى المرأة، فإنّها ستكون محرماً أيضاً بالنسبة إلى ابن أخيها ـ ونحن نعلم أنّ مثل هذه المرأة تعتبر "عمّة" ـ ولأنّ ابن الاُخت كما هو محرم عليها فإنّها ستكون محرماً بالنسبة إلى ابن الاُخت، ونعلم أنّ مثل هذه المرأة هي "الخالة".
وعندما تكون العمّة والخالة محرماً بالنسبة إلى ابن الأخ وابن الاُخت، فإنّ العمّ والخال سيكونان أيضاً محرماً بالنسبة إلى ابنة الأخ وابنة الاُخت، حيث لا فرق بين العمّ والعمّة، والخال والخالة، وهذه إحدى دقائق القرآن الكريم. (تدبّر ذلك).
وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: إنّ أبا الزوج وابن الزوج بعض محارم المرأة، فلماذا لم يذكرا هنا؟ في حين أنّهما ذكرا من جملة المحارم في الآية (31) من سورة النور.
والإجابة عن هذا السؤال واضحة، لأنّ الكلام في هذه الآية منحصر في حكم نساء النّبي (صلى الله عليه وآله)، ونحن نعلم أنّ أبا النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن موجوداً حال حياته، ولا اُمّه، ولم يكن له ابن(1). "فتأمّل".
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ذكر المؤرخّون ثلاثة أولاد للنبي (صلى الله عليه وآله): القاسم وعبدالله (الملقّب بالطيّب والطاهر)، وكانا من خديجة، وقد ودّعا الحياة في طفولتهما، وإبراهيم الذي ولد في السنة الثامنة للهجرة، ولم يعش أكثر من 18 أو 16 شهراً ولم يكن أي منهم حيّاً عند نزول سورة الأحزاب، وإبراهيم ولد بعد ذلك ومات في طفولته. يراجع: اُسد الغابة، وسائر كتب التأريخ والرجال.
[339]
إنّ عدم ذكر الإخوة والأخوات من الرضاعة، وأمثالهم بسبب أنّ هؤلاء في حكم الأخ والاُخت وسائر المحارم، ولا يحتاجون إلى ذكر مستقل.
ويتغيّر اُسلوب الآية في نهايتها من الغائب إلى المخاطب، فتخاطب نساء النّبي وتقول: (واتّقين الله إنّ الله كان على كلّ شيء شهيداً) فإنّ الحجاب والستر وأمثالهما وسائل للحفظ والإبعاد عن الذنب والمعصية ليس إلاّ، والدعامة الأساسية هي التقوى فحسب، ولولاها فسوف لا تنفع كلّ هذه الوسائل.
والجدير بالذكر أنّ (نسائهنّ) إشارة إلى النساء المسلمات، وذلك لأنّ من غير اللائق بالنساء المسلمات ـ وكما قلنا في تفسير سورة النور ـ أن يكنّ بدون حجاب أمام غير المسلمات، إذ أنّ من الممكن أن تصفهنّ غير المسلمات لأزواجهنّ(1).
وأمّا جملة: (ولا ما ملكت أيمانهنّ) فلها معنى واسع ـ كما قلنا ذلك في تفسير سورة النور أيضاً ـ يشمل الجواري والغلمان، إلاّ أنّها تختّص بالجواري طبقاً لبعض الرّوايات الإسلامية، وبناءً على هذا فإن ذكرهنّ بعد ذكر "النساء" قد يكون من جهة شمولها للجواري غير المسلمات عموماً. (دقّقوا ذلك).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (31) من سورة النور.
[340]
الآيات
إِنَّ اللهَ وَمَلَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً(56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً(57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَـناً وَإِثْماً مُّبِيناً(58)
التّفسير(1)
الصلاة على النّبي والسلام عليه:
بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب حفظ حرمة النّبي (صلى الله عليه وآله)وعدم إيذائه، فإنّ هذه الآيات تتحدّث أوّلا عن محبّة الله وملائكته للنّبي (صلى الله عليه وآله)وتعظيمهم له، وبعد ذلك تأمر المؤمنين بذلك، ثمّ تذكر العواقب المشؤومة الأليمة لاُولئك الذين يؤذون النّبي (صلى الله عليه وآله) ثمّ تبيّن أخيراً عظم ذنب الذين يؤذون المؤمنين بإتّهامهم والإفتراء عليهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الطريف أنّ البدء بهذه الآيات صادف ليلة ميلاد النّبي (صلى الله عليه وآله) في شهر ربيع الأوّل سنة الف وأربعمائة وأربع للهجرة.
[341]
تقول أوّلا: (إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبي).
إنّ مقام النّبي (صلى الله عليه وآله) ومنزلته من العظمة بمكان، بحيث أنّ خالق عالم الوجود، وكلّ الملائكة الموكّلين بتدبير أمر هذا العالم بأمر الله سبحانه يصلّون عليه، وإذا كان الأمر كذلك فضمّوا أصواتكم إلى نداء عالم الوجود هذا، فـ (ياأيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً).
إنّه جوهرة نفيسة لعالم الخلقة، وقد جُعل بينكم بلطف الله، فلا تستصغروا قدره، ولا تنسوا مقامه ومنزلته عند الله وملائكة السماوات .. إنّه إنسان ظهر من بينكم، لكنّه ليس إنساناً عادياً، بل هو إنسان يتلخّص عالم الوجود في وجوده.
وهنا اُمور يجب الإلتفات إليها:
1 ـ (الصلاة) وجمعها "صلوات"، كلّما نسبت إلى الله سبحانه فإنّها تعني "إرسال الرحمة"، وكلّما نسبت إلى الملائكة فإنّها تعني "طلب الرحمة"(1).
2 ـ إنّ التعبير بـ (يصلّون) وهو فعل مضارع يدلّ على الإستمرار، يعني أنّ الله وملائكته يصلّون عليه دائماً وباستمرار صلاة دائمة خالدة.
3 ـ إختلف المفسّرون في الفرق بين (صلّوا) و (سلّموا) والذي يبدو أنسب للأصل اللغوي للكلمتين، وأوفق لظاهر الآية القرآنية، هو: أن (صلّوا) أمر بطلب الرحمة والصلاة على النّبي، أمّا (سلِّموا) فتعني التسليم لأوامر نبي الإسلام الأكرم، كما ورد في الآية (65) من سورة النساء (ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً).
وكما نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ أبا بصير سأله فقال: قد عرفت صلاتنا على النّبي، فكيف التسليم؟ قال: "هو التسليم له في الاُمور"(2).
أو أن يكون بمعنى "السلام" على النّبي (صلى الله عليه وآله) بـ (السلام عليك يارسول الله) وما
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أورد الراغب هذا المعنى بعبارات اُخرى في المفردات.
2 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.
[342]
أشبه ذلك، والذي يعني طلب سلامة النّبي (صلى الله عليه وآله) من الله سبحانه.
يروي "أبو حمزة الثمالي" عن "كعب" ـ وهو أحد أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية قلنا: قد عرفنا السلام عليك، فكيف نصلّي عليك؟ فقال: "قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد"(1). ومن هذا الحديث تتّضح كيفية الصلاة على النّبي (صلى الله عليه وآله)وكذلك يتّضح معنى "السلام".
وبالرغم من أنّ هذين المعنيين للسلام يبدوان مختلفين تماماً، إلاّ أنّه يمكن عطفهما وإرجاعهما إلى نقطة واحدة إذا دقّقنا فيهما، وهي: التسليم القولي والفعلي للنبي (صلى الله عليه وآله)، لأنّ من يسلّم عليه ويرجو من الله سلامته، يعشقه ويعرفه كنبي مفترض الطاعة.
4 ـ ممّا يلفت النظر أنّه قد ورد صريحاً في كيفية الصلاة على النّبي وفي روايات لا تحصى من طرق العامّة وأهل البيت، أن يضاف (آل محمّد) عند الصلوات على محمّد (صلى الله عليه وآله).
فقد روي في "الدرّ المنثور" عن صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن مردويه ورواه آخرين عن كعب بن عجرة: أنّ رجلا أتى إلى النّبي (صلى الله عليه وآله) فقال: أمّا السلام عليك فقد علمناه، فكيف الصلاة عليك؟ فقال النّبي (صلى الله عليه وآله): "قل اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد. اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد".
وقد أورد صاحب تفسير الدرّ المنثور ثمانية عشر حديثاً آخر إضافةً إلى هذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ المصدر السابق. وروي الحديث الثّاني في كتب الفريقين بطرق متعدّدة، وبعبارات قريبة الألفاظ.
[343]
الحديث، صرّحت جميعاً بوجوب ذكر "آل محمّد" عند الصلوات.
وقد رويت هذه الأحاديث عن كتب أهل السنّة المعروفة المشهورة عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عبّاس، وطلحة، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وأبو مسعود الأنصاري، وبريدة، وابن مسعود، وكعب بن عجرة، وأمير المؤمنين علي(عليه السلام)(1).
وقد رويت في صحيح البخاري (وهو أشهر مصادر الحديث عند أهل السنّة) روايات عديدة في هذا الباب يستطيع من يريد مزيد الإيضاح أن يرجع إليه(2).
وكذلك وردت في صحيح مسلم روايتان في هذا الباب(3).
والعجيب في هذا الكتاب أنّه بالرغم من ورود (آل محمّد) عدّة مرّات في هذين الحديثين، فإنّه إختار هذا العنوان لهذا الباب: (باب الصلاة على النّبي (صلى الله عليه وآله)) بدون ذكر "الآل"!!
وثمّة مسألة تستحقّ الإنتباه وهي: أنّ في بعض روايات أهل السنّة، وفي كثير من روايات أهل البيت لم ترد حتّى كلمة (على) لتفرّق بين محمّد وآل محمّد، بل كيفية الصلاة هي: اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.
وننهي هذا البحث بحديث آخر عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فإنّ "ابن حجر" يروي في الصواعق: أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: "لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون: اللهمّ صلّ على محمّد وتمسكون، بل قولوا: اللهمّ صلّ على على محمّد وآل محمّد"(4).
ولهذه الرّوايات فقد اعتبر جمع من كبار فقهاء العامّة إضافةً (آل محمّد) إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الدرّ المنثور ذيل الآية مورد البحث، طبقاً لتفسير الميزان، ج16، صفحة 344.
2 ـ صحيح البخاري، المجلّد 6، صفحة 151.
3 ـ صحيح مسلم، المجلّد 1، صفحة 305 باب الصلاة على النّبي (صلى الله عليه وآله).
4 ـ الصواعق المحرقة، صفحة 144.
[344]
اسم "محمّد" في تشهد الصلاة واجباً(1).
5 ـ هل أنّ الصلاة على النّبي (صلى الله عليه وآله) واجبة أم لا؟ وإذا كانت واجبة فأين تجب؟
يقول الفقهاء في الإجابة عن هذا السؤال: إنّ جميع فقهاء أهل البيت يعتبرونها واجبة في التشهّد الأوّل والثّاني من الصلاة، ومستحبة في غيرهما.
وعلاوةً على الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الباب، فإنّ الروايات الواردة في كتب أهل السنّة، والدالّة على الوجوب، ليست بالقليلة، ومن جملتها ما ورد عن عائشة أنّها قالت: سمعت رسول الله يقول: "لا يقبل صلاة إلاّ بطهور وبالصلاة عليّ".
ويعتبر "الشافعي" ـ وهو من فقهاء العامّة ـ الصلاة على النّبي (صلى الله عليه وآله) واجبة في التشهّد الثاني، و "أحمد" في إحدى الروايتين المرويتين عنه، وجمع آخر من الفقهاء، غير أنّ "أبا حنيفة" لا يعتبرها واجبة.
والطريف أنّ "الشافعي" قد نظّم فتواه هذه شعراً وذكرها بصراحة حيث يقول:
ياأهل بيت رسول الله حبّكم فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنّكم من لم يصلّ عليكم لا صلاة له(2)
ثمّ تبيّن الآية التالية النقطة المقابلة للآية السابقة، فتقول: (إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً).
ماذا يراد من أذى الله سبحانه؟
قال البعض: إنّ المراد منه هو الكفر والإلحاد الذي يُغضِب الله عزّوجلّ، لأنّ "الأذى" لا يعني في شأن الله تعالى إلاّ إغضابه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ أورد العلاّمة الحلّي هذا القول في بحث التشهّد من التذكرة ـ إضافةً إلى كلّ علماء الشيعة ـ عن الإمام أحمد وبعض الشافعية.
2 ـ ذكر العلاّمة الأميني في كتاب "الغدير" النفيس نسبة هذه الأشعار إلى الشافعي عن شرح المواهب للزرقاني وجماعة آخرين.
[345]
ويحتمل أيضاً أن يكون إيذاء النّبي (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين هو إيذاء الله تعالى، وذكر الله في الآية لأهمية المطلب وتأكيده.
وأمّا إيذاء نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) فله معنى واسع، ويشمل كلّ عمل يؤذيه، سواء كان الكفر والإلحاد ومخالفة أوامر الله والإفتراءات والتّهم، أم الأذى الذي يراه حين يدعوهم إلى بيته، كما مرّ في الآية (53) من هذه السورة (إنّ ذلكم كان يؤذي النّبي).
أو الموضوع الذي ورد في الآية (61) من سورة التوبة عندما اتّهموا النّبي (صلى الله عليه وآله)بأنّه "اُذن" نتيجة إصغائه لكلام الناس ورعايته لأدب المحادثة (ومنهم الذين يؤذون النّبي ويقولون هو اُذن) وأمثال ذلك.
بل ويستفاد من الرواية الواردة في ذيل الآية أنّ إيذاء أهل بيت النّبي وخاصّة علي وفاطمة (عليهما السلام)، يدخل ضمن الآية، وقد جاء في المجلّد الخامس من صحيح البخاري، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني"(1).
وورد هذا الحديث في "صحيح مسلم" بهذه العبارة: "إنّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها"(2).
وروي هذا المعنى في حقّ علي (عليه السلام) عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)(3).
وأمّا "اللعن" الوارد في الآية أعلاه، فإنّه بمعنى الطرد عن رحمة الله، وهو في مقابل الرحمة والصلوات التي وردت في الآية السابقة تماماً.
إنّ اللعن والطرد عن رحمة الله سبحانه .. تلك الرحمة الواسعة التي لا تعرف الحدود، يعدّ أسوأ أنواع العذاب، خاصّةً إذا كان هذا الطرد في الدنيا والآخرة كما هو في الآية مورد البحث، ولعلّ ذكر مسألة اللعن قبل العذاب المهين لهذا السبب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ صحيح البخاري، الجزء 5، صفحة 26.
2 ـ صحيح مسلم، المجلّد 4، صفحة 1903 باب فضائل فاطمة.
3 ـ تفسير مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.
[346]
والتعبير بـ (أعَدّ) دليل على تأكيد هذا العذاب وشدّته.
وتتحدّث الآية الأخيرة عن إيذاء المؤمنين، وتهتمّ به جدّاً بعد إيذاء الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، فتقول: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) لأنّ للمؤمن علاقة بالله ورسوله عن طريق الإيمان، ولهذا جعل في مرتبة الله ورسوله هنا.
وتعبير (بغير ما اكتسبوا) إشارة إلى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا ذنباً حتّى يؤذوا، ومن هنا يتّضح أنّهم إن بدر منهم ذنب يستوجب الحدّ والقصاص فلا مانع من إجرائه وتنفيذه في حقّهم، وكذلك لا يشمل هذا الكلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنّ تقديم "البهتان" على "الإثم المبين" لأهميّته، لأنّ البهتان يعتبر من أكبر الذنوب، والجراحات التي تنجم عنه أشدّ ألماً من جراحات السنان، كما قال الشاعر العربي:
جراحات السنان لها التيام ولا يلتام ما جرح اللسان
وقد أولت الرّوايات الإسلامية هذه المسألة إهتماماً فائقاً، ففي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إنّ الله عزّوجلّ يقول: "ليأذن بحرب منّي من آذى عبدي المؤمن"(1).
وقال بعض المفسّرين: يستفاد من اُسلوب الآية أنّ جماعة في المدينة كانوا يطلقون الشائعات ويثيرون الشبهات حول المؤمنين، ويتّهمونهم بما ليس فيهم، وحتّى نبي الله لم يكن بمنأى عن ألسن اُولئك المؤذين. وهذه الفئة ليست قليلة في المجتمعات الاُخرى، وخاصّة في مجتمعات اليوم، وليس لها عمل إلاّ التآمر ضدّ الصالحين والمحسنين، وإختلاق الأكاذيب والتّهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اُصول الكافي، المجلّد 2، صفحة 35.
[347]
لقد هاجم القرآن الكريم هؤلاء الأشخاص أشدّ هجوم، ووصفت أعمالهم بالبهتان والإثم المبين. والشاهد لهذا الكلام سيأتي في الآيات التالية.
وجاء في حديث آخر يرويه الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله): "من بهت مؤمناً أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتّى يخرج ممّا قاله فيه"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 75، صفحة 194.
[348]
الآيات
يَـأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لاَِّزْوَجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً(59) لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَـفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا(60) مَّلْعُونِينَ أَيْنََما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا (61)سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا(62)
سبب النّزول
جاء في تفسير "علي بن إبراهيم" في سبب نزول الآية الاُولى: فإنّه كان سبب نزولها أنّ النساء كن يخرجن إلى المسجد ويصلّين خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإذا كان بالليل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة، يقعد الشبّان لهنّ في طريقهنّ فيؤذونهن ويتعرّضون لهنّ فأنزل الله: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين ـ إلى قوله ـ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً
[349]
رحيماً)(1).
وجاء في نفس الكتاب في شأن نزول الآية الثانية، أنّها نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا خرج في بعض غزواته يقولون قتل وأسر فيغتمّ المسلمون لذلك ويشكون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنزل الله في ذلك: (لئن لم ينته المنافقون ـ إلى قوله ـ ثمّ لا يجاورونك إلاّ قليلا)(2) فبذلك هدّدت مختلقي الشايعات بشدّة.
التّفسير
تحذير شديد للمؤذين ومختلقي الإشاعات!
بعد النهي عن إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الذي ورد في الآية السابقة، أكّدت الآية هنا على أحد موارد الأذى، ومن أجل الوقوف أمامه سلكت طريقين: فأمرت المؤمنات أوّلا أن لا يدعن في يد المفسدين والعابثين حجّة يتشبّثون بها في سبيل تحقيق أذاهم، ثمّ هاجمت المنافقين ومختلقي الإشاعات وهدّدتهم بتهديد قلّ نظيره في آيات القرآن.
فتقول الآية في الجزء الأوّل: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين).
هناك رأيان لدى المفسّرين في المراد من "المعرفة" لا يتناقضان:
الأوّل: أنّه كان من المتعارف ذلك اليوم أن تخرج الجواري من المنازل مكشوفات الرأس والرقبة، ولمّا لم يكن مقبولات من الناحية الأخلاقية، فقد كان بعض الشباب المتهوّر يضايقوهنّ، فأمرت المسلمات الحرائر أن يلتزمن الحجاب التامّ ليتميّزن عن الجواري، وبالتالي لا يقدر أن يؤذيهنّ اُولئك الشباب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير القمّي ج2 ص196.
2 ـ المصدر السابق طبقاً لنقل نور الثقلين، ج4، ص307.
[350]
ومن البديهي أنّ هذا الكلام لا يعني أنّه كان لاُولئك الطائشين حقّ أذى الجواري، بل المراد سلب الحجّة من الأفراد الفاسدين.
والآخر: أنّ الهدف هو أن لا تتساهل المسلمات في أمر الحجاب كبعض النساء المتحلّلات والمتبرجات المسلوبات الحياء رغم التظاهر بالحجاب، هذا التبرّج يغري السفلة والأراذل ويلفت إنتباههم.
أمّا المراد من "الجلباب" فقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة عدّة معان له:
1 ـ أنّه "الملحفة"، وهي قماش أطول من الخمار يغطّي الرأس والرقبة والصدر.
2 ـ أنّه المقنعة والخمار.
3 ـ أنّه القميص الفضفاض الواسع(1).
ومع أنّ هذه المعاني تختلف عن بعضها، إلاّ أنّ العامل المشترك فيها أنّها تستر البدن.
وتجدر الإشارة إلى أنّ "الجلباب" يقرأ بكسر الجيم وفتحها.
إلاّ أنّ الأظهر أنّ المراد هو الحجاب الذي يكون أكبر من الخمار وأقصر من العباءة، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب.
والمراد من (يُدنين) أن يقربن الجلباب إلى أبدانهن ليكون أستر لهنّ، لا أن يدعنه كيف ما كان بحيث يقع من هنا وهناك فينكشف البدن، وبتعبير أبسط أن يلاحظن ثيابهنّ ويحافظن على حجابهنّ.
أمّا ما إستفاده البعض من أنّ الآية تدلّ على وجوب ستر الوجه أيضاً، فلا دليل عليه، والنادر من المفسّرين من إعتبر ستر الوجه داخلا في الآية(2).
وعلى كلّ حال، فيستفاد من هذه الآية أنّ حكم الحجاب بالنسبة للحرائر كان
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لسان العرب، مجمع البحرين، مفردات الراغب القطر المحيط، وتاج العروس.
2 ـ كان لنا بحث حول فلسفة الحجاب وأهميّته، وكذلك حول إستثناء الوجه والكفّين في ذيل الآيتين 31 و32 من سورة النور.
[351]
قد نزل من قبل، إلاّ أنّ بعض النسوة كنّ يتساهلن في تطبيقه، فنزلت الآية المذكورة للتأكيد على الدقّة في التطبيق.
ولمّا كان نزول هذا الحكم قد أقلق بعض المؤمنات ممّا كان منهن قبل ذلك، فقد أضافت الآية في نهايتها (وكان الله غفوراً رحيماً) فكلّ ما بدر منكنّ إلى الآن كان نتيجة الجهل فإنّ الله سيغفره لكنّ، فتبن إلى الله وارجعن إليه، ونفذن واجب العفّة والحجاب جيداً.
بعد الأمر الذي صدر في الآية السابقة للمؤمنات، تناولت هذه الآية بُعداً آخر لهذه المسألة، أي أساليب الأراذل والأوباش في مجال الإيذاء، فقالت: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ثمّ لا يجاورونك فيها إلاّ قليلا)(1).
(المرجفون) من مادّة "إرجاف"، وهي إشاعة الأباطيل بقصد إيذاء الآخرين وإحزانهم، وأصل الإرجاف: الإضطراب والتزلزل، ولمّا كانت الإشاعات الباطلة تحدث إضطراباً عامّاً، فقد اُطلقت هذه الكلمة عليها.
و (نغرينّك) من مادّة "الإغراء"، ويعني الدعوة إلى تنفيذ عمل، أو تعلّم شيء، دعوة تقترن بالترغيب والتحريض.
ويستفاد من سياق الآية أنّ ثلاث فئات في المدينة كانت مشتغلة بأعمال التخريب والهدم، وكلّ منها كان يحقّق أهدافه باُسلوب خاصّ، فظهر ذلك كتيار ومخطّط جماعي، ولم تكن له صبغة فردية:
فالفئة الاُولى: هم "المنافقون" الذين كانوا يسعون لإقتلاع جذور الإسلام عبر مؤامرتهم ضدّه.
والثّانية: هم "الأراذل" الذين يعبّر عنه القرآن: (الذين في قلوبهم مرض) كما
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ (قليلا) هنا مستثنى من محذوف، والتقدير: لا يجاورونك زماناً إلاّ زماناً قليلا.
[352]
أنّ هذا التعبير قد ورد في الآية (32) من سورة الأحزاب في شأن من يتّبع أهواءه وشهواته (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).
والفئة الثالثة: هم الذين كانوا بيثّون الإشاعات في المدينة، وخاصّةً عندما كان النّبي (صلى الله عليه وآله) وجيش المسلمين يتّجهون إلى الغزوات، لإضعاف معنوياتهم، وكانوا ينشرون الأخبار الكاذبة عن هزيمة النّبي والمؤمنين، وهؤلاء هم "اليهود" برأي بعض المفسّرين.
وبهذا فإنّ القرآن الكريم هدّد هذه الفئات الثلاثة جميعاً.
ويحتمل في تفسير الآية أيضاً، أنّ كلّ أعمال التخريب للفئات الثلاثة كانت من عمل المنافقين، وفصلها عن بعضها هو فصل الصفات لا الأشخاص.
ومهما كان، فإنّ القرآن يقول: إنّ هؤلاء إن استمروا في أعمالهم القبيحة المشينة فسنصدر أمراً بالهجوم العام عليهم، لنقتلع جذورهم من المدينة بحركة المؤمنين الشعبية، ولا يقدرون على البقاء في المدينة بعد ذلك.
وعندما يطردون من هذه المدينة، ويخرجون عن حماية الحكومة الإسلامية، فإنّهم سيكونون (ملعونين أينما ثقفوا اُخذوا وقتلوا تقتيلا).
"ثقفوا" من مادّة "ثقف" و "ثقافة"، وهي: السيطرة على الشيء بدقّة ومهارة، ولهذا يقال للعلم وتحصيله والإحاطة به "ثقافة". وهذا التعبير إشارة إلى أنّهم سوف لا يجدون مكاناً آمناً بعد هذا الهجوم، بل سيبحث عنهم المؤمنون بدقّة حتّى يجدوهم ويرسلوهم إلى ديار الفناء.
وهناك إحتمالان في المراد من الآية: فامّا أنّه سيطاردون المنافقين ويتعقّبونهم خارج المدينة ويقتلونهم، أو أنّهم إذا بقوا في المدينة بعد حكم الإبعاد العام سيلاقون هذا المصير، ولا منافاة بينهما، إذ أنّ المعنى هو أنّ هؤلاء المنافقين والمخرّبين والمرجفين ومرضى القلوب سوف لا يكونون بمأمن من سطوة المسلمين الشجعان بعد أن هدرت دماؤهم، وسحبت الحماية عنهم، وصدر الحكم
[353]
بإخراجهم من المدينة، سواء بقوا فيها أم خرجوا.
ثمّ تضيف الآية الأخيرة من هذه الآيات أنّ هذا الأمر ليس جديداً، بل (سنّة الله في الذين خلوا من قبل) فكلّما زادت صلافة المفسدين وتجاوزت مؤامراتهم الحدود، يصدر الأمر بالهجوم عليهم.
ولمّا كان هذا الحكم سنّة إلهيّة، فإنّه سوف لا يتغيّر ولا يتبدّل أبداً، حيث أنّ سنّة الله ثابتة (ولن تجد لسنّة الله تبديلا).
إنّ هذا التعبير يجسّد كون هذا التهديد حقيقياً وجدياً، ليعلموا أنّ هذا المطلب والمصير حتمي، وله جذوره ونظائره في التأريخ، ولا سبيل إلى تغييره وتبديله، فإمّا أن ينتهوا عن أعمالهم المخزية، أو أن ينتظروا هذا المصير المؤلم.
* * *
تعليقات
1 ـ إبدأ بنفسك!
الأمر الذي ورد في الآيات مورد البحث حول وجوب رعاية الحجاب الإسلامي بدقّة، وأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن يبلغ هذا الأمر، أوّل ما بدأ بنساء النّبي، ثمّ بناته، ثمّ المؤمنات، وهو إشارة إلى أنّك يجب أن تبدأ بنفسك وأهل بيتك في أيّ برنامج إصلاحي، وهذا خطّ لكلّ مصلحي البشر.
وبدأ بالزوجات عندما دار الأمر بين الزوجات والبنات، وذلك لأنّهنّ أقرب إلى الرجل، لأنّ البنات يتزوجنّ وينتقلن إلى بيوت الأزواج.
2 ـ العلاج من طريقين:
لمّا كانت المفاسد الإجتماعية لا تنبعث من علّة واحدة غالباً، فلذلك يجب أن تبدأ مكافحتها من جميع الجوانب. والطريف في الأمر أنّ الآيات المذكورة، ومن
[354]
أجل الوقوف أمام مضايقات الطائشين قد أمرت المؤمنات أوّلا أن لا يتركن ذريعة بيد الطائشين، ثمّ أوقفتهم عند حدّهم بتهديدهم أشدّ تهديد.
وهذا أيضاً برنامج دائمي للجميع، بأنّ الصديق لابدّ من إصلاحه، ويوقف العدوّ عند حدّه بالقوّة.
3 ـ موقع المسلمين القوي:
يستفاد جيّداً من تهديدات الآيات القويّة والشديدة أنّه بعد إنتهاء حادثة "بني قريظة"، وإجتثاث جذور هذه الفئة من الأعداء الداخليين الخطرين، فإنّ موقع المسلمين قد قوي في المدينة تماماً، ولم تكن المخالفات تأتي إلاّ من جانب المنافقين المندّسين بين صفوف المسلمين، أو من جانب جماعة من الأوباش والمتهوّرين ومطلقي الإشاعات، فتعامل النّبي (صلى الله عليه وآله) معهم من موقع القوّة، وحذّرهم بشدّة بأنّهم إن لم يكفوا عن مؤامراتهم ونفثهم للسموم، فإنّه سيقوم بتصفية الحساب معهم بهجوم واحد ويقضي عليهم!
وقد أثّر هذا التعامل الحازم والدقيق أثره بوضوح تامّ.
4 ـ إجتثاث جذور الفساد:
هل أنّ ما ورد في الآيات أعلاه عن إقتلاع جذور المفاسد كمؤامرات المنافقين، وملاحقة أعراض المسلمين وأذاهم، وإطلاق الإشاعات يصلح علاجاً في سائر الأعصار والقرون، ولكلّ الحكومات الإسلامية؟
قليل من المفسّرين من بحث ذلك، إلاّ أنّه يبدو أنّ هذا الحكم كسائر الأحكام الإسلامية لا يختّص بزمان أو مكان أو أشخاص.
إذا كان نفث السموم والتآمر قد تجاوز الحدّ على أرض الواقع، وأصبح كتيار جارف يهدّد المجتمع الإسلامي بأخطار حقيقية، فما المانع من أن تنفذ الحكومة
[355]
الإسلامية أوامر الآيات أعلاه، والتي اُنزلت على النّبي (صلى الله عليه وآله) ومنحته هذه الصلاحية، وتعبىء الناس للقضاء على جذور الفساد؟
إلاّ أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الأعمال وأمثالها، خاصّة وأنّها مطروحة كسنّة لا تقبل التغيير، لا يسمح بها كتصرّف شخصي، وتمسّك برأي خاصّ، بل تجوز فقط بعد إذن ولي أمر المسلمين وحكّام الشرع بها.
5 ـ سنن الله الثابتة:
قرأنا في الآيات السابقة أنّ القرآن ذكر أنّ إحدى سنن الله التي لا تقبل التغيير هي إقتلاع جذور التآمر بهجوم عامّ، وقد كانت هذه السنّة جارية في الاُمم السابقة.
وقد ورد نظير هذا التعبير في مواضع اُخرى من القرآن، ومن جملتها ما ورد في الآية (38) من سورة الأحزاب هذه، فبعد أن أجاز سبحانه مخالفة سنّة جاهلية خاطئة وإلغاءها في مسألة مطلقة الابن بالادّعاة، يقول: ليس للنبي أيّ ذنب إذا ما نفّذ أوامر الله مهما كانت.
ثمّ يضيف تعالى: (سنّة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدراً مقدوراً).
وفي الآية (43) من سورة فاطر، وبعد أن هدّد الكافرين والمجرمين بالفناء والهلاك، يقول سبحانه: (فهل ينظرون إلاّ سنّة الأوّلين فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا).
وفي الآية (85) من سورة غافر، وبعد أن صرّح بأنّ إيمان الكفّار العنودين من الأقوام الماضين عند مشاهدتهم عذاب الإستئصال لم ينفعهم شيئاً، يضيف: (سنّة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون).
وفي الآية (23) من سورة الفتح، وبعد أن ذكر إنتصار المؤمنين وهزيمة الكفّار في الحروب، وأن ليس لهم ولي ولا نصير، يضيف: (سنّة الله التي قد خلت من قبل
[356]
ولن تجد لسنّة الله تبديلا).
وكذلك في الآية (77) من سورة الإسراء عندما يبيّن مؤامرة إبعاد النّبي أو قتله، يضيف: (وإذاً لا يلبثون خلافك إلاّ قليلا سنّة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنّتنا تحويلا).
يستفاد من مجموع هذه الآيات جيّداً أنّ المراد من السنّة في مثل هذه الموارد: القوانين الإلهيّة الثابتة والأساسية، سواء التكوينية منها أم التشريعية، التي لا تتغيّر مطلقاً.
وبتعبير آخر: فإنّ لله سبحانه في عالم التكوين والتشريع قوانين واُصولا ثابتة، كالقوانين الأساسية والدساتير المسنونة بين شعوب العالم والتي لا تتبدّل، ولا تكون عرضةً للتغيير، وهذه القوانين الإلهية كانت حاكمة على الأقوام الماضين، وتحكّمنا اليوم، وستكون حاكمة في المستقبل على الأجيال الآتية.
إنّ نصرة النّبي، وهزيمة الكفّار، ووجوب تنفيذ أوامر الله والعمل بموجبها، حتّى وإن أدّت إلى إثارة سخط الناس وعدم رضاهم، عدم جدوى التوبة حين نزول العذاب الإلهي، وأمثال ذلك هي جزء من هذه السنن الخالدة.
إنّ هذه التعبيرات تسلّي خواطر كلّ السائرين في طريق الحقّ، وتمنحهم الهدوء والطمأنينة من جهة، وتوضّح من جهة اُخرى وحدة دعوة الأنبياء وإنسجامها، وتناسق القوانين الحاكمة على نظام الخلقة ونظام الحياة الإنسانية وإتّحادها، وهي في الحقيقة فرع من فروع التوحيد.
* * *
[357]
الآيات
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً(63) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَـفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً(64) خَـلِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (65)يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَـلَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ(66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَْ(67) رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً(68)
التّفسير
يسألون أيّان يوم القيامة؟!
كانت الآيات السابقة تتحدّث عن مؤامرات المنافقين والأشرار، وقد اُشير في هذه الآيات التي نبحثها إلى واحدة اُخرى من خططهم الهدّامة، وأعمالهم المخرّبة، حيث كانوا يطرحون أحياناً هذا السؤال: متى تقوم القيامة التي يخبر بها محمّد ويذكر لها كلّ هذه الصفات؟ وذلك إمّا استهزاءً، أو لزرع الشكّ فيها في قلوب
[358]
البسطاء، فتقول الآية: (يسألك الناس عن الساعة).
ويحتمل أيضاً أن يكون بعض المؤمنين قد سأل النّبي (صلى الله عليه وآله) هذا السؤال بدافع من حبّ الإستطلاع، أو للحصول على معلومات أكثر حول هذا الموضوع.
غير أنّ ملاحظة الآيات التي تلي هذه الآية ترجّح التّفسير الأوّل، والشاهد الآخر لهذا الكلام ما ورد في الآيتين 17 ـ 18 / سورة الشورى في هذا الباب، حيث تقولان: (وما يدريك لعلّ الساعة قريب . يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها).
ثمّ تقول الآية ـ مورد البحث ـ في مقام جوابهم: (قل إنّما علمها عند الله) ولا يعلمها حتّى المرسلون والملائكة المقرّبون.
ثمّ تضيف بعد ذلك: (وما يدريك لعلّ الساعة تكون قريباً).
وبناءً على هذا يجب أن نكون مستعدّين دائماً لقيام القيامة، وهذه هي الحكمة من كونها خافية مجهولة لئلاّ يظنّ أحد أنّه في مأمن منها، ويتصوّر أنّ القيامة بعيدة فعلا، ويعتبر نفسه في معزل عن عذاب الله وعقابه.
ثمّ تطرّقت الآية إلى تهديد الكافرين، وتناولت جانباً من عقابهم الأليم، فقالت: (إنّ الله لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون وليّاً ولا نصيراً).
الفرق بين "الولي" و "النصير" هنا هو: أنّ "الولي" من يتولّى القيام بكلّ الأعمال وتنفيذها، أمّا "النصير" فهو الذي يعين على الوصول إلى الهدف المطلوب. إلاّ أنّ هؤلاء الكافرين لا وليّ لهم في القيامة ولا نصير.
ثمّ بيّنت جزءاً آخر من عذابهم الأليم في القيامة فقالت: (يوم تقلّب وجوههم في النهار) وهذا التقليب إمّا أن يكون في لون البشرة والوجه حيث تصبح حمراء أو سوداء أحياناً، أو من جهة تقلّبهم في النار ولهيبها حيث تكون وجوههم في مواجهة النار أحياناً، وأحياناً جوانب اُخرى (نعوذ بالله من ذلك).
[359]
هنا ستنطلق صرخات حسرتهم، و (يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا)فإنّا لو كنّا أطعناهما لم يكن ينتظرنا مثل هذا المصير الأسود الأليم.
(وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا)(1).
(السادة) جمع "سيّد"، وهو المالك العظيم الذي يتولّى إدارة المدن المهمّة أو الدول، و "الكبراء" جمع "كبير" وهو الفرد الكبير سواء من ناحية السنّ، أو العلم، أو المركز الإجتماعي وأمثال ذلك. وبهذا فإنّ السادة إشارة إلى رؤساء البلاد العظام، والكبراء هم الذين يتولّون إدارة الاُمور تحت إشراف اُولئك السادة، ويعتبرون معاونين ومشاورين لهم، وكأنّهم يقولون: إنّنا قد جعلنا طاعة السادة محل طاعة الله، وطاعة الكبراء مكان طاعة الأنبياء، فابتلينا بأنواع الإنحرافات والتعاسة والشقاء.
من البديهي أنّ معيار السيادة وكون الشخص كبيراً بين اُولئك الأقوام هو القوّة والسيطرة، والمال والثروة الغير مشروعة، والمكر والخداع. وربّما كان إختيار هذين التعبيرين هنا من أجل أنّهم يحاولون توجيه عذرهم ويقولون: لقد كنّا تحت تأثير العظمة الظاهرية لاُولئك.
هنا تثور ثائرة هؤلاء الجهنميين الضالّين، ويطلبون من الله سبحانه أن يزيد في عذاب مضلّيهم وعقابهم أشدّ عقاب فيقولون: (ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً) ـ عذاب لضلالهم وعذاب لإضلالهم ـ .
من المسلّم أنّ هؤلاء يستحقّون العذاب واللعن، وإستحقاقهم للعذاب المضاعف واللعن الكبير بسبب سعيهم في سبيل إضلال الآخرين، ودفعهم إلى طريق الإنحراف.
والطريف ما ورد في الآية 38 من سورة الأعراف، من أنّ هؤلاء المتّبعين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إنّ الألف في "الرسولاً" و "السبيلاً" هي ألف الإطلاق، ولتناسق آخر الآيات، وإلاّ فإنّ التنوين لا يجتمع مع الألف واللام مطلقاً.
[360]
الضالّين عندما يطلبون عذاب الضعف لسادتهم وأئمّتهم، يقال: (لكلّ ضعف ولكن لا تعلمون)(1).
إنّ كون عذاب أئمّة الكفر والضلال مضاعفاً واضح، لكن لماذا يكون عذاب من اتّبعهم مضاعفاً؟
إنّ سبب ذلك هو أنّهم استحقّوا عذاباً لضلالتهم، والعذاب الآخر لمعونة الظالمين ومؤازرتهم، لأنّ الظالمين لا يقدرون على أن يستمرّوا في عمل ما لوحدهم مهما كانت لهم من قوّة، إلاّ أنّ أتباعهم هم الذين يؤجّجون نار حروبهم، ويسجرون أتون ظلمهم وكفرهم، وإن كان عذاب أئمّة الكفر ـ إذا ما قورن بعذاب المتّبعين ـ أشدّ وآلم بدون شكّ.
وقد كان لنا بحث مفصّل في هذا الباب في الآية (30) من هذه السورة.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ممّا يستحقّ الإنتباه أنّه قد ورد "الضعفان" في الآيات مورد البحث، و "الضعف" في آية سورة الأعراف، إلاّ أنّه بالتدقيق في معنى الضعف يتّضح أنّ لكليهما معنىً واحداً.
[361]
الآيات
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهاً(69) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)
التّفسير
بماذا رموا موسى (عليه السلام) واتّهموه؟
بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب إحترام مقام النّبي (صلى الله عليه وآله)، وترك كلّ ما يؤذيه والإبتعاد عنه، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين، وقالت: (ياأيّها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرّأه الله ممّا قالوا وكان عند الله وجيهاً).
إنّ إختيار موسى (عليه السلام) من جميع الأنبياء الذين طالما اُوذوا، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر، إضافةً إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله).
وهناك بحث بين المفسّرين في المراد من إيذاء موسى (عليه السلام) هنا؟ ولماذا ذكره
[362]
القرآن بشكل مبهم؟ وقد ذكروا إحتمالات عديدة في تفسير الآية، ومن جملتها:
1 ـ إنّ موسى وهارون (عليهما السلام) قد ذهبا إلى جبل ـ طبق رواية ـ وودّع هارون الحياة، فأشاع المرجفون من بني إسرائيل أنّ موسى (عليه السلام) قد تسبّب في موته، فأبان الله سبحانه حقيقة الأمر، وأسقط ما في يد المرجفين.
2 ـ كما أوردنا مفصّلا في ذيل الآيات الأخيرة من سورة القصص، فإنّ قارون المحتال أراد أن يتملّص من قانون الزكاة، ولا يؤدّي حقوق الضعفاء والفقراء، فعمد إلى بغيّ واتّفق معها على أن تقوم بين الناس وتتّهم موسى (عليه السلام) بأنّه زنى بها، إلاّ أنّ هذه الخطّة قد فشلت بلطف الله سبحانه، بل وشهدت تلك المرأة بطهارة موسى (عليه السلام) وعفته، وبما أراده منها قارون.
3 ـ إنّ جماعة من الأعداء اتّهموا موسى (عليه السلام) بالسحر والجنون والإفتراء على الله، ولكن الله تعالى برّأه منها بالمعجزات الباهرات.
4 ـ إنّ جماعة من جهّال بني إسرائيل قد اتّهموه بأنّ فيه بعض العيوب الجسمية كالبرص وغيره، لأنّه كان إذا أراد أن يغتسل ويستحمّ لا يتعرّى أمام أحد مطلقاً، فأراد أن يغتسل يوماً بمنأى عن الناس، فوضع ثيابه على حجر هناك، فتدحرج الحجر بثيابه، فرأى بنو إسرائيل جسمه، فوجدوه مبرّأً من العيوب.
5 ـ كان المعذرون من بني إسرائيل أحد عوامل إيذاء موسى (عليه السلام)، فقد كانوا يطلبون تارةً أن يريهم الله عزّوجلّ "جهرةً"، واُخرى يقولون: إنّ نوعاً واحداً من الطعام ـ وهو "المنّ والسلوى" ـ لا يناسبنا، وثالثة يقولون: إنّنا غير مستعدّين للدخول إلى بيت المقدس ومحاربة "العمالقة". إذهب أنت وربّك فقاتلا، وافتحاه لنا لندخله بعد ذلك!
إلاّ أنّ الأقرب لمعنى الآية، هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسى (عليه السلام) من جوانب متعدّدة .. ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّنا (صلى الله عليه وآله)) كإشاعة بعض الأكاذيب وإتّهام زوج النّبي
[363]
بتهم باطلة، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور ـ ذيل الآيات 11 ـ 20 ـ والإعتراضات التي اعترضوا بها على النّبي (صلى الله عليه وآله) في زواجه بزينب، وأنواع الأذى والمضايقات التي كانوا يضايقونه بها في بيته، أو مناداته باُسلوب خال من الأدب والأخلاق، وغير ذلك.
وأمّا الإتّهام بالسحر والجنون وأمثال ذلك، أو العيوب البدنية، فإنّها وإن اتُّهم موسى بها، إلاّ أنّها لا تتناسب مع (ياأيّها الذين آمنوا) بالنسبة لنبيّنا (صلى الله عليه وآله) إذ لم يتّهم المؤمنون موسى (عليه السلام) ولا نبيّنا (صلى الله عليه وآله) بالسحر والجنون. وكذلك الإتّهام بالعيوب البدنية، فإنّه على فرض كونه قد حدث بالنسبة لموسى (عليه السلام)، وأنّ الله تعالى قد برّأه، فليس له مصداق أو حادثة تؤيّده في تاريخ نبيّنا (صلى الله عليه وآله).
وعلى أيّة حال، فيمكن أن يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيهاً وذا منزلة، فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل، فكن طاهراً وعفيفاً، واحفظ وجاهتك عند الله، فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس، حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس.
وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة "يوسف" الصدّيق الطاهر، وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة.
وكذلك في شأن "مريم" بنت عمران اُمّ عيسى (عليه السلام)، حيث شهد وليدها الرضيع بطهارتها وعفّتها، وقطع بذلك ألسن المتربّصين بها من بني إسرائيل، والذين كانوا يسعون لإتّهامها وتلويث سمعتها.
والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصاً بالمؤمنين في زمان النّبي (صلى الله عليه وآله)، بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى اُولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به، فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه، وينسون مواريثه، ولذلك جاء في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام): "ياأيّها الذين آمنوا لا
[364]
تؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي والأئمّة صلوات الله عليهم ..."(1).
وآخر كلام في تفسير هذه الآية هو: أنّه بعد ملاحظة أحوال الأنبياء العظام الذين لم يكونوا بمأمن من جراحات ألسن الجاهلين والمنافقين، يجب أن لا نتوقّع أن لا يبتلى المؤمنون والطاهرون بمثل هؤلاء الأفراد، فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: "إنّ رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط .." ثمّ يضيف الإمام في نهاية هذا الحديث: "ألم ينسبوا إلى موسى أنّه عنين وآذوه حتّى برّأه الله ممّا قالوا، وكان عند الله وجيهاً"(2).
قولوا الحقّ لتصلح أعمالكم:
بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النّبي، تصدر الآية التالية أمراً هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الإجتماعي الخطير، فتقول: (ياأيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولا سديداً).
"القول السديد" من مادّة (سد) أي المحكم المنيع الذي لا يعتريه الخلل، والموافق للحقّ والواقع، ويعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل. وإذا ما فسّره بعض المفسّرين بالصواب، والبعض الآخر بكونه خالصاً من الكذب واللغو وخالياً منه، أو تساوي الظاهر والباطن ووحدتهما، أو الصلاح والرشاد، وأمثال ذلك، فإنّها في الواقع تفاسير ترجع إلى المعنى الجامع أعلاه.
ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد، فتقول: (يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم).
إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه، ومنبع قول الحقّ، والقول الحقّ أحد العوامل المؤثّرة في إصلاح الأعمال، وإصلاح الأعمال سبب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، ص308.
2 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، ص309.
[365]
مغفرة الذنوب، وذلك لـ (انّ الحسنات يذهبن السيّئات).(1)
يقول علماء الأخلاق: إنّ اللسان أكثر أعضاء البدن بركة، وأكثر الوسائل تأثيراً في الطاعة والهداية والصلاح، وهو في الوقت نفسه يعدّ أخطر أعضاء البدن وأكثرها معصية وذنباً، حتّى أنّ ما يقرب من الثلاثين كبيرة تصدر من هذا العضو الصغير(2).
وفي حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): "لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه"(3).
ومن الرائع جدّاً ما ورد في حديث آخر عن الإمام السجّاد (عليه السلام): "إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا. ويقولون: الله الله فينا، ويناشدونه ويقولون: إنّما نثاب بك ونعاقب بك"(4).
هناك روايات كثيرة في هذا الباب تحكي جميعاً عن الأهميّة الفائقة للّسان ودوره في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس الإنسانية، ولذلك نقرأ في حديث: "ما جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هذا المنبر قطّ إلاّ تلا هذه الآية: (ياأيّها الذين آمنوا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة هود، الآية 114.
2 ـ عدّ الغزالي في إحياء العلوم عشرين كبيرة أو معصية تصدر عن اللسان، وهي: 1 ـ الكذب 2 ـ الغيبة 3 ـ النميمة 4 ـ النفاق في الكلام، أي كون الإنسان ذا لسانين ووجهين 5 ـ المدح في غير موضعه 6 ـ بذاءة الكلام 7 ـ الغناء والأشعار غير المرضية 8 ـ الإفراط في المزاح 9 ـ السخرية والإستهزاء 10 ـ إفشاء أسرار الآخرين 11 ـ الوعد الكاذب 12 ـ اللعن في غير موضعه 13 ـ التخاصم والنزاع 14 ـ الجدال والمراء 15 ـ البحث في اُمور الباطل 16 ـ الثرثرة 17 ـ البحث في الاُمور التي لا تعني الإنسان 18 ـ وصف مجالس الشراب والقمار والمعصية 19 ـ السؤال عن المسائل الخارجة عن إدراك الإنسان والبحث فيها 20 ـ التصنّع والتكلّف في الكلام.
ونزيد عليها عشرة مواضيع مهمّة اُخرى، وهي: 1 ـ الإتّهام 2 ـ شهادة الزور 3 ـ إشاعة الفحشاء، ونشر الإشاعات التي لا أساس لها 4 ـ مدح الإنسان نفسه 5 ـ الإصرار في غير محلّه 6 ـ الغلظة والخشونة في الكلام 7 ـ الأذى باللسان 8 ـ ذم من لا يستحقّ الذمّ 9 ـ كفران النعمة اللسان 10 ـ الإعلام الباطل.
3 ـ بحار الأنوار، المجلّد 71، صفحة 78.
4 ـ بحار الأنوار، المجلّد 71، صفحة 278.
[366]
اتّقوا الله وقولوا قولا سديداً)(1).
ثمّ تضيف الآية في النهاية: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون أعمال الإنسان صالحة، وذنوبه مغفورة، وهو عند الله من المبيضة وجوههم الذين رضي الله عنهم؟!
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الدرّ المنثور، طبقاً لنقل تفسير الميزان، الجزء 16، صفحة 376.
[367]
الآيتان
إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَـنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا(72) لِّيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَـفِقِينَ وَالْمُنَـفِقَـتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيَما(73)
التّفسير
حمل الأمانة الإلهية أعظم إفتخارات البشر:
تكمل هاتان الآيتان ـ اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب ـ المسائل المهمّة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان، والعمل الصالح، والجهاد، والإيثار، والعفّة والأدب والأخلاق، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعاً سامياً جدّاً بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة الله العظيمة، وكيف أنّه إذا ما جهل قيمه الحياتية والوجودية سيظلم نفسه غاية الظلم، وينحدر إلى أسفل سافلين!
تبيّن الآية أوّلا أعظم إمتيازات الإنسان وأهمّها في كلّ عالم الخلقة، فتقول: (إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن
[368]
منها).
ممّا لا شكّ فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وإمتناعها عن ذلك لم يكن إستكباراً منها، كما كان ذلك من الشيطان، حيث تقول الآية (24) من سورة البقرة: (أبى واستكبر)، بل إنّ إباءها كان مقترناً بالإشفاق، أي الخوف الممتزج بالتوجّه والخضوع.
إلاّ أنّ الإنسان، اُعجوبة عالم الخلقة، قد تقدّم (وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولا).
لقد تحدّث كبار مفسّري الإسلام حول هذه الآية كثيراً، وسعوا كثيراً من أجل الوصول إلى حقيقة معنى "الأمانة"، وأبدوا وجهات نظر مختلفة، نختار أفضلها بتقصّي القرائن الموجودة في طيّات الآية.
ويجب التأكيد في هذه الآية العميقة المحتوى على خمس موارد:
1 ـ ما هو المراد من الأمانة؟
2 ـ ما معنى عرضها على السماوات والأرض والجبال؟
3 ـ لماذا وكيف أبت هذه الموجودات حمل هذه الأمانة؟
4 ـ كيف حمل الإنسان ثقل الأمانة هذا؟
5 ـ لماذا وكيف كان ظلوماً جهولا؟
لقد ذُكرت تفاسير مختلفة للأمانة ومن جملتها:
أنّ المراد من الأمانة: هي الولاية الإلهية، وكمال صفة العبودية، والذي يحصل عن طريق المعرفة والعمل الصالح.
أنّ المراد: صفة الإختيار والحرية والإرادة التي تميّز الإنسان عن سائر الموجودات.
أنّ المراد: العقل الذي هو ملاك التكليف، ومناط الثواب والعقاب.
أنّ المراد: أعضاء جسم الإنسان، فالعين أمانة الله، ويجب الحفاظ عليها وعدم
[369]
إستعمالها في طريق المعصية، والاُذن واليد والرجل واللسان كلّها أمانات يجب حفظها.
أنّ المراد: الأمانات التي يأخذها الناس بعضهم من بعض، والوفاء بالعهود.
أنّ المراد: معرفة الله سبحانه.
أنّ المراد: الواجبات والتكاليف الإلهيّة كالصلاة والصوم والحجّ.
لكن يتّضح من خلال أدنى دقّة أن هذه التفاسير لا تتناقض مع بعضها، بل يمكن إدغام بعضها في البعض الآخر، فبعضها أخذت جانباً من الموضوع، وبعضها الآخر كلّه.
ومن أجل الحصول على جواب جامع كاف، يجب أن نلقي نظرة على الإنسان لنرى أي شيء يمتلكه وتفتقده السماوات والأرضون والجبال؟
إنّ الإنسان موجود له إستعدادات وقابليات يستطيع من خلال إستغلالها أن يكون أتمّ مصداق لخليفة الله، ويستطيع أن يصل إلى قمّة العظمة والشرف بإكتساب المعرفة وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات، وأن يسمو حتّى على الملائكة.
إنّ هذا الإستعداد المقترن بالحرية والإرادة والإختيار يعني أنّ الإنسان يطوي هذا الطريق بإرادته وإختياره، ويبدأ فيه من الصفر ويسير إلى ما لا نهاية.
إنّ السماء والأرض والجبال تمتلك نوعاً من المعرفة الإلهية، وهي تذكر الله سبحانه وتسبّحه، وتخضع لعظمته وتخشع لها وتسجد، إلاّ أنّ كلّ ذلك ذاتي وتكويني وإجباري، ولذلك ليس فيه تكامل ورقي، والموجود الوحيد الذي لا ينتهي منحنى صعوده ونزوله، وهو قادر على إرتقاء قمّة التكامل بصورة لا تعرف الحدود، ويقوم بكلّ هذه الأعمال بإرادته وإختياره، هو الإنسان، وهذه هي "الأمانة الإلهيّة" التي إمتنعت من حملها كلّ الموجودات، وحملها الإنسان! ولذلك نرى الآية التالية قسّمت البشر إلى ثلاث فئات: "المؤمنين" و "الكفّار" و
[370]
"المنافقين".
بناءً على هذا يجب القول في عبارة مختصرة أنّ الأمانة الإلهية هي قابلية التكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والإختيار، والوصول إلى مقام الإنسان الكامل، وعبودية الله الخاصّة وتقبّل ولاية الله.
لكن لماذا عُبّر عن هذا الأمر بالأمانة، مع أنّ كلّ وجودنا وكلّ ما لدينا أمانة الله؟
لقد عبّر بهذا التعبير لأهميّة إمتياز البشر العظيم هذا، وإلاّ فإنّ بقية المواهب أمانات الله أيضاً، غير أنّ أهميّتها تقلّ أمام هذا الإمتياز.
ويمكن أن نعبّر هنا عن هذه الأمانة بتعبير آخر ونقول: إنّها التعهّد والإلتزام وقبول المسؤولية.
بناءً على هذا فإنّ اُولئك الذين فسّروا الأمانة بصفة الإختيار والحرية في الإرادة، قد أشاروا إلى جانب من هذه الأمانة العظمى، كما أنّ اُولئك الذين فسّروها بالعقل، أو أعضاء البدن، أو أمانات الناس لدى بعضهم البعض، أو الفرائض والواجبات، أو التكاليف بصورة عامّة، قد أشار كلّ منهم إلى غصن من أغصان هذه الشجرة العظيمة المثمرة، وإقتطف منها ثمرة.
لكن ما هو المراد من عرض هذه الأمانة على السموات والأرض؟
هل المراد: أنّ الله سبحانه قد منح هذه الموجودات شيئاً من العقل والشعور ثمّ عرض عليها حمل هذه الأمانة؟
أو أنّ المراد من العرض هو المقارنة؟ أي أنّها عندما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من القابليات والإستعدادات أعلنت عدم لياقتها وإستعدادها عن تحمّل هذه الأمانة العظيمة.
طبعاً، يبدو أنّ المعنى الثّاني هو الأنسب، وبهذا فإنّ السماوات والأرض والجبال قد صرخت جميعاً بأنّا لا طاقة لنا بحمل هذه الأمانة.
[371]
ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثالث أيضاً، بأنّ هذه الموجودات لماذا وكيف رفضت وأبت حمل هذه الأمانة العظمى، وأظهرت إشفاقها من ذلك؟
ومن هنا تتّضح كيفية حمل الإنسان لهذه الأمانة الإلهية، لأنّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤولية والقيام بها، وأن يتقبّل ولاية الله، ويسير في طريق العبودية والكمال ويتّجه نحو المعبود الدائم، وأن يطوي هذا الطريق بقدمه وإرادته، وبالإستعانة بربّه.
أمّا ما ورد في روايات عديدة وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) من تفسير هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وولده، فمن أجل أنّ ولاية الأنبياء والأئمّة نور ساطع من تلك الولاية الإلهية الكليّة، والوصول إلى مقام العبودية، وطي طريق التكامل لا يمكن أن يتمّ من دون قبول ولاية أولياء الله.
جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه سئل عن تفسير آية عرض الأمانة، فقال: "الأمانة الولاية، من إدّعاها بغير حقّ كفر"(1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال عندما سئل عن تفسير هذه الآية: "الأمانة الولاية، والإنسان هو أبو الشرور المنافق"(2).
والمسألة الاُخرى التي يلزم ذكرها هنا، هي أنّنا قلنا في ذيل الآية (172) من سورة الأعراف فيما يتعلّق بعالم الذرّ بأن أخذ ميثاق الله على التوحيد كان عن طريق الفطرة، وإستعداد وطبيعة الآدمي، وإنّ عالم الذرّ هو عالم الإستعداد والفطرة.
وفي مورد قبول الأمانة الإلهيّة يجب القول بأنّ هذا القبول لم يكن قبول اتّفاق وعقد، بل كان قبولا تكوينياً حسب عالم الإستعداد.
السؤال الوحيد الذي يبقى هو مسألة كون الإنسان "ظلوماً جهولا"، فهل أنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، المجلّد 3، صفحة 341 ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ المصدر السابق.
[372]
وصف الإنسان بهاتين الصفتين ـ وظاهرهما ذمّه وتوبيخه ـ كان نتيجة قبوله لهذه الأمانة؟
من المسلّم أنّ النفي هو جواب هذا السؤال، لأنّ قبول هذه الأمانة أعظم فخر وميزة للإنسان، فكيف يمكن أن يُذمّ على قبوله مثل هذا المقام السامي؟
أم أنّ هذا الوصف بسبب نسيان غالب البشر وظلمهم أنفسهم، وعدم العلم بقدر الإنسان ومنزلته .. وبسبب الفعل الذي بدأ منذ إبتداء نسل آدم من قِبل قابيل وأتباعه، ولا يزال إلى اليوم.
إنّ الإنسان الذي ينادى من العرش، وبني آدم الذين وُضع على رؤوسهم تاج (كرّمنا بني آدم) والبشر الذين هم وكلاء الله في الأرض بمقتضى قوله سبحانه: (إنّي جاعل في الأرض خليفة) والإنسان الذي كان معلّماً للملائكة وسجدت له، كم يجب أن يكون ظلوماً جهولا لينسى كلّ هذه القيم السامية الرفيعة، ويجعل نفسه أسيرة هذه الدنيا، وتابعاً لهذا التراب، ويكون في مصاف الشياطين، فينحدر إلى أسفل سافلين؟!
أجل .. إنّ قبول هذا الخطّ المنحرف ـ والذي كان ولا يزال له أتباع وسالكون كثيرون جدّاً ـ خير دليل على كون الإنسان ظلوماً جهولا، ولذلك نرى أنّه حتّى آدم نفسه، والذي كان رأس السلسلة ومتمتّعاً بالعصمة، يعترف بأنّه قد ظلم نفسه (ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين).(1)
لقد كان "ترك الأولى" الذي صدر منه ناشئاً في الحقيقة عن نسيان جزء من عظمة هذه الأمانة الكبرى!
وعلى أي حال، فيجب الإعتراف بأنّ الإنسان الضعيف والصغير في الظاهر، هو اُعجوبة علم الخلقة، حيث إستطاع أن يتحمّل أعباء الأمانة التي عجزت السماوات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأعراف، 23.
[373]
والأرضون عن حملها إذا لم ينس مقامه ومنزلته(1).
وتبيّن الآية التالية علّة عرض هذه الأمانة على الإنسان، وبيان حقيقة أنّ أفراد البشر قد إنقسموا بعد حمل هذه الأمانة إلى ثلاث فئات: المنافقين والمشركين والمؤمنين، فتقول: (ليعذّب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً).
يوجد هناك إحتمالان في معنى "اللام" في (ليعذّب):
الأوّل: أنّها "لام الغاية" التي تذكر لبيان عاقبة الشيء ونهايته، وبناءً على هذا يكون معنى الآية: كانت عاقبة حمل هذه الأمانة أن سلك جماعة طريق النفاق، وجماعة سبيل الشرك، وهؤلاء سيبتلون بعذاب الله لخيانتهم أمانته، وجماعة هم أهل الإيمان الذين ستشملهم رحمته لأدائهم هذه الأمانة والقيام بواجباتهم.
والثاني: أنّها "لام العلّة"، فتكون هناك جملة مقدرة، وعلى هذا يكون تفسير الآية: كان الهدف من عرض الأمانة أن يوضع كلّ البشر في بوتقة الإختبار، ليُظهر كلّ إنسان باطنه فيرى من الثواب والعقاب ما يستحقّه.
وهنا اُمور ينبغي الإلتفات إليها:
1 ـ إنّ سبب تقديم أهل النفاق على المشركين هو أنّ المنافق يتظاهر بأنّه أمين في حين أنّه خائن، إلاّ أنّ خيانة المشرك ظاهرة مكشوفة، ولذلك فإنّ المنافق يستحقّ حظّاً أكبر من العذاب.
2 ـ يمكن أن يكون سبب تقديم هاتين الفئتين على المؤمنين هو أنّ الآية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ اتّضح ممّا قلناه في تفسير الآية أن لا حاجة مطلقاً إلى أن نقدر شيئاً في الآية، كما قال ذلك جمع من المفسّرين، ففسّروا الآية بأنّ المراد من عرض أمانة الله على السماء والأرض والجبال هو عرضها على أهلها، أي الملائكة! ولذلك قالوا بأنّ اُولئك الذين أبوا أن يحملوها قد أدّوها، واُولئك الذين حملوها خانوها.
إنّ هذا التّفسير ليس مخالفاً لظاهر الآية من ناحية الإحتياج إلى التقدير وحسب، بل يمكن أن يناقش ويورد على إعتقاده بأنّ على الملائكة نوع تكليف، وأنّها حاملة لجزء من هذه الأمانة. وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإنّ تفسير أهل الجبال بالملائكة لا يخلو من غرابة، دقّقوا ذلك.
[374]
السابقة قد ختمت بـ (ظلوماً جهولا) وهاتان الصفتان تناسبان المنافق والمشرك، فالمنافق ظالم، والمشرك جهول.
3 ـ لقد وردت كلمة (الله) مرّة واحدة في شأن المنافقين والمشركين، ومرّة في شأن المؤمنين، وذلك لأنّ مصير الفئتين الاُوّليين واحد، وحساب المؤمنين يختلف عنهما.
4 ـ يمكن أن يكون التعبير بالتوبة بدل الجزاء والثواب في شأن المؤمنين بسبب أنّ أكثر خوف المؤمنين من الذنوب والمعاصي التي تصدر عنهم أحياناً، ولذا فإنّ الآية تطمئنهم وتمنحهم السكينة بأنّ ذنوبهم ستغفر.
أو لأنّ توبة الله على عباده تعني رجوعه عليهم بالرحمة، ونعلم أنّ كلّ الهبات والعطايا والمكافآت قد اُخفيت في كلمة "الرحمة".
5 ـ إنّ وصف الله بالغفور والرحيم ربّما كان في مقابل الظلوم والجهول. أو لمناسبته ذكر التوبة بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات.
الآن وقد بلغنا نهاية سورة الأحزاب بفضل الله سبحانه، نرى لزاماً ذكر هذه المسألة، وهي: أنّ إنسجام بداية هذه السورة مع نهايتها يستحقّ الدقّة والإنتباه، لأنّ هذه السورة ـ سورة الأحزاب ـ قد بدأت بخطاب النّبي (صلى الله عليه وآله) وأمره بتقوى الله، ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين، والتأكيد على كون الله عليماً حكيماً، وإنتهت بذكر أعظم مسألة في حياة البشر، أي حمل أمانة الله. ثمّ بتقسيم البشر إلى ثلاث فئات: المنافقين، والكافرين، والمؤمنين، والتأكيد على كون الله غفوراً رحيماً.
وبين هذين البحثين طرحت بحوثاً كثيرة حول هذه الفئات الثلاثة، واُسلوب تعاملهم مع هذه الأمانة الإلهية، وكلّ هذه البحوث يكمل بعضها بعضاً، ويوضّح بعضها بعضاً.
اللهمّ إجعلنا ممّن قبلوا أمانتك بإخلاص، وحملوها بعشق ولذّة، وقاموا
[375]
بواجباتهم تجاهها.
اللهمّ اجعلنا من المؤمنين الذين وسعتهم رحمتك، لا من المنافقين والمشركين الذين استحقّوا العذاب لكونهم ظلومين جهولين.
اللهمّ انزل غضبك وسخطك على أحزاب الكفر التي اتّحدت مرّة اُخرى، واحتّلت مدينة الإسلام في عصرنا الحاضر، واهدم قصورهم على رؤوسهم. اللهمّ وهب لنا من الثبات والإستقامة ما نقف به كالجبل لندافع عن مدينة الإسلام ونحرسها في هذه اللحظات الحسّاسة.
آمين ياربّ العالمين.
نهاية سورة الأحزاب
* * *
[377]
سورة سَبأ
مَكّيّة وعددُ آياتِها أربعَ وخَمسُونَ آية
[378]
"سورة سبأ"
محتوى سورة سبأ:
سمّيت السورة بهذا الاسم (سبأ) لذكرها قصّة قوم سبأ، وهي من السور المكيّة، التي تشتمل عادةً على بحوث المعارف الإسلامية واُصول الإعتقادات، خصوصاً "المبدأ" و "المعاد" و "النبوّة". فأغلب بحوثها تحوم حول تلكم الموضوعات، لحاجة المسلمين لبلورة اُمور العقيدة في مكّة، وإعدادهم للإنتقال إلى فروع الدين، وتشكيل الحكومة، وتطبيق كافّة البرامج الإسلامية.
وبشكل إجمالي يمكن القول بأنّ محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع:
1 ـ "التوحيد"، وبعض الآثار الدالّة عليه في عالم الوجود، وبعض صفات الله المقدّسة كالوحدانية، والربوبية، والاُلوهية.
2 ـ قضيّة المعاد التي نالت النصيب الأوفى من العرض في هذه السورة، باستعراضها ضمن بحوث منوّعة ومن زوايا مختلفة.
3 ـ نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله) والردّ على تخرصات أعدائه حوله، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء.
4 ـ التعرّض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال إستعراض جانب من حياة النّبي سليمان (عليه السلام) وحياة قوم سبأ.
5 ـ الدعوة إلى التفكّر والتأمّل والإيمان والعمل الصالح، وبيان تأثير هذه
[380]
العوامل في سعادة وموفقية البشر.
وعلى كلّ حال، فانّها تشكّل برنامجاً تربوياً شاملا لتربية الباحثين عن الحقّ.
فضيلة هذه السورة:
يلاحظ في الروايات تعبيرات ملفتة حول أهميّة هذه السورة وأهميّة قراءتها. من جملتها ما ورد في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلاّ كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً"(1).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "من قرأ الحمدين جميعاً، سبأ وفاطر، في ليلة لم يزل ليلته في حفظ الله تعالى وكلاءته، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، واُعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه"(2).
ونذكّر ـ كما في بداية كلّ سورة ـ بأنّ من الطبيعي أنّ هذا الثواب العظيم لا يكون نصيب من يكتفي من قراءته بلقلقة اللسان وحسب، بل يجب أن تكون القراءة مقدّمة للتفكير الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح.
فإنّ من يقرأ هذه السورة مثلا، سيعلم بأنّ الدمار الذي حلّ بقوم سبأ وجعل من مصرعهم عبرة للعالمين، ومصيرهم مضرباً للأمثال، إنّما كان لكفرانهم النعم الإلهية الوافرة.
ومن يطّلع على ذلك فسيؤدّي شكر النعمة بطريقة عملية. والشاكر بنعمة الله سيكون في حفظه وأمانه تعالى.
وقد ذكرنا شرحاً أوفى حول هذا الموضوع في أوّل تفسيرنا لسورة النور.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، بداية سورة سبأ، المجلّد 8، صفحة 375.
2 ـ المصدر السابق.
[381]
الآيتان
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ(2)
التّفسير
هو المالك لكلّ شيء والعالم بكلّ شيء:
خمس سور من القرآن الكريم إفتتحت "بحمد الله"، وإرتبط (الحمد) في ثلاثة منها بخلق السموات والأرض وهي (سبأ وفاطر والأنعام) بينما كان مقترناً في سورة الكهف بنزول القرآن على قلب الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وجاء في سورة الفاتحة تعبيراً جامعاً شاملا لكلّ هذه الإعتبارات (الحمد لله ربّ العالمين). على كلّ حال، الحمد والشكر لله تعالى في مطلع سورة سبأ هو في قبال مالكيته وحاكميته تعالى في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في
[382]
الآخرة).
لذا فإنّ الحاكمية والمالكية في الدنيا والآخرة له سبحانه، وكلّ موهبة، وكلّ نعمة، ومنفعة وبركة، وكلّ خلقة سوية عجيبة مذهلة، تتعلّق به تعالى، ولذا فإنّ "الحمد" الذي حقيقته "الثناء على فعل إختياري حسن" كلّه يعود إليه تعالى، وإذا كانت بعض المخلوقات تستحقّ الحمد والثناء، فلأنّها شعاع من وجوده عزّوجلّ ولأنّ أفعالها وصفاتها قبس من أفعاله وصفاته تعالى. وعليه فكلّ مدح وثناء يصدر من أحد على شيء في هذا العالم، فإنّ مرجعه في النهاية إلى الله سبحانه وتعالى.
ثمّ يضيف تعالى قائلا: (وهو الحكيم الخبير).
فقد إقتضت حكمته البالغة أن يُخضع الكون لهذا النظام العجيب، وأن يستقرّ ـ بعلمه وإحاطته ـ كلّ شيء في محلّه من الكون، فيجد كلّ مخلوق ـ كلّ ما يحتاج إليه ـ في متناوله.
وقد تحدّث المفسّرون كثيراً في هذه الآية عن المقصود من الحمد والشكر في الآخرة ..
فذهب بعضهم: إنّ الآخرة وإن لم تكن دار تكليف، إلاّ أنّ عبّاد الرحمن الذين تسامت أرواحهم بعشق بارئهم هناك، يشكرونه ويحمدونه وينتشون بلذّة خاصّة من ذلك.
وقال آخرون: إنّ أهل الجنّة يحمدونه على فضله، وأهل النار يحمدونه على عدله.
وقيل: إنّ الإنسان ـ نتيجة وجود الحجب المختلفة على قلبه وعقله في الدنيا ـ لا يمكنه أن يحمد الله حمداً خالصاً، وعندما ترتفع هذه الحجب يوم القيامة تتّضح مالكيته تعالى وهيمنته على عالم الوجود للجميع مصداقاً لقوله تعالى (الملك يومئذ لله) وحينها تلهج الألسن بحمده والثناء عليه بكامل خلوص النيّة.
[383]
وكذلك فإنّ الإنسان قد يغفل في هذه الدنيا فيحمد بعض المخلوقات، متوهماً إستقلالها، إلاّ أنّه في الآخرة، وحيث يتّضح إرتباط الكلّ به تعالى كإرتباط أشعّة الشمس بقرصها، فإنّ الإنسان لن يؤدّي الحمد والثناء إلاّ لله سبحانه.
فضلا عن كلّ هذا، فقد ورد مراراً في القرآن الكريم ـ أيضاً ـ أنّ أصحاب الجنّة يحمدون الله حين دخولهم جنّات الخلد: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن).(1)
(وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين).(2)
على كلّ حال فإنّ هذا الحمد والثناء لا ينطلق من ألسنة الناس والملائكة فقط، بل تُسمع همهمة الحمد والتسبيح من كلّ ذرّة في عالم الوجود بإدراك العقل، فليس من موجود إلاّ ويحمده ويسبّحه تعالى.
تنتقل الآية التي بعدها إلى التوسّع في إظهار جانب من علم الله اللامحدود، تناسباً مع وصف الآية السابقة له تعالى بالحكيم والخبير، فيقول سبحانه: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها).
نعم، فقد أحاط علماً بكلّ حبّة مطر وقطرة ماء تنفذ وتلج في أعماق الأرض حتّى إذا وصلت طبقة صلدة تجمّعت هناك وصارت ذخيرة للإنسان.
ويعلم بالبذور التي تنتقل على سطح الأرض بواسطة الريح أو الحشرات، لتنبت في مكان ما وتصبح شجرة باسقة أو عشباً طريّاً.
يعلم بجذور الأشجار عند توغلها في أعماق التربة بحثاً عن الماء والغذاء.
يعلم بالموجات الكهربائية والغازات المختلفة، بذرّات الهواء التي تنفذ في الأرض، يعلم بالكائنات الحيّة التي تشقّ طريقها فيها، ويعطيها الحياة.
وكذلك، يعلم بالكنوز والدفائن وأجساد الموتى من الإنسان وغيره .. نعم إنّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فاطر، 34.
2 ـ يونس، 10.
[384]
مطّلع على كلّ هذا.
وكذلك فهو عارف وعالم بالنباتات التي تخرج من الأرض، والناس الذين يبعثون منها، بالعيون التي تفور بالماء منها، بالغازات التي تتصاعد منها، بالبراكين التي تلوّح بجحيمها، بالحشرات التي تتّخذ أوكاراً فيها، وتخرج منها.
والخلاصة، فهو عالم بكلّ الموجودات التي تلج الأرض وتخرج منها أعمّ ممّا نعلمه أو ما لا نعلمه.
ثمّ يضيف قائلا: (وما ينزل من السماء وما يعرج فيها).
فهو يعلم بحبّات المطر، وبأشعّة الشمس التي تنثر الحياة، بأمواج الوحي والشرائع السماوية العظيمة، وبالملائكة التي تهبط إلى الأرض لإبلاغ الرسالات أو أداء الأوامر الإلهيّة المختلفة. بالأشعة الكونية التي تدخل جو الأرض من الفضاء الخارجي، بالشهب والذرّات المضطربة في الفضاء والتي تهوي نحو الأرض، فهو تعالى محيط بهذا كلّه.
وكذلك فإنّه يعلم بأعمال العباد التي تعرج إلى السماء، والملائكة التي تقفل صاعدة إلى السماء بعد أداء تكاليفها، وبالشياطين الذين يرتقون إلى السماء لإستراق السمع، وبفروع الأشجار التي تتطلّع برؤوسها إلى السماء، وبالأبخرة التي تتصاعد من البحار إلى أعالي السماء لتتكاثف مكونةً سحباً. وبالآهات التي تنطلق من قلب المظلوم متصاعدة إلى السماء ... نعم هو عالم بكلّ ذلك.
فهل هناك من مطّلع على كلّ ذلك غيره تعالى؟ وهل يمكن لعلوم جميع العلماء مجتمعة أن تحيط ولو بجزء من هذه المعلومات؟
وفي ختام الآية يضيف تعالى: (وهو الرحيم الغفور).
لقد وصف الله تعالى نفسه بهاتين الصفتين إمّا لأجل أنّه من جملة الاُمور التي تعرج إلى السماء أعمال العباد وأرواحهم فيشملها برحمته ...
أو لأنّ نزول البركات والعطايا السماوية تترشّح من رحمته، والأعمال
[385]
الصالحة المتصاعدة من العباد مشمولة بغفرانه بمقتضى (والعمل الصالح يرفعه).
أو لكون "الرحمة" تشمل من يشكر هذه النعم، و "الغفران" يشمل المقصّرين في ذلك.
والخلاصة: أنّ الآية أعلاه، لها معان واسعة من جميع الوجوه، ولا يجب حصر مؤدّاها في معنىً واحد.
* * *
[386]
الآيات
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـلِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِى السَّمَـوَتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـب مَّبِين (3)لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءَايَـتِنَا مُعَـجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْز أَلِيمٌ(5)
التّفسير
أقسم بالله لتأتينكم القيامة:
تتعرّض الآيات مورد البحث إلى موضع التوحيد وصفات الله في نفس الوقت الذي تهيء أرضيّة لموضوع المعاد، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلاّ عن طريق العلم اللامتناهي للباريّ عزّوجلّ، كما سنرى.
لذا فإنّ الآيات مورد البحث تبدأ أوّلا بقوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة). فما هو إلاّ كذب وإفتراء، بل إنّ القيامة لا تأتي أحداً من الناس.
[387]
ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الإعتقادات; الحساب والكتاب والعدل والجزاء، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.
ولكنّ القرآن بناءً على وضوح أدلّة القيامة يخاطب الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)بصورة حاسمة وفي معرف بيان النتيجة، فيقول: (قل بلى وربّي لتأتينكم).
والتركيز على كلمة "ربّ" لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية. فكيف يمكن أن يكون الله مالكاً ومربياً للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي، ثمّ يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كلّ شيء، فتكون حياتهم بلا هدف وخلقهم هباءً وبلا معنى.
وقد ركّز القرآن في الآية السابعة من سورة التغابن أيضاً على هذا الوصف، فقال تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربّي لتبعثنّ ثمّ لتنبئنّ بما عملتم).
وبما أنّ أحد إشكالات الكافرين بالمعاد، هو شكّهم ـ من جانب ـ في إمكانية جمع وإعادة بناء أعضاء الإنسان الميّت بعد تبعثرها وتفسّخها في التراب. وكذلك ـ من جانب آخر ـ في إمكانية وجود من يمكنه النظر في جميع أعمال العباد التي عملوها في السرّ والعلن والظاهر والباطن، لذا فإنّ الله تعالى يضيف في تتمّة الآية الكريمة (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين)(1).
ولذا، فلا يغيب عن علمه تبعثر ذرّات جسم الإنسان في التراب، ولا إختلاطها بسائر الموجودات، ولا حتّى حلولها في أبدان اُناس آخرين عن طريق الغذاء، ولا يشكّل مشكلة أمام إعادة بنائه من جديد .. وأعمالهم في هذه الدنيا تبقى محفوظة أيضاً، وإن تغيّر شكلها، فهو سبحانه المحيط بها علماً.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "يعزب": من مادة "عزوب" وتعني المتباعد في طلب الكلأ عن أهله، يُقال عَزَبَ يعزُبُ ويعزِب ثمّ أطلق على كلّ غائب، يقال رجل عزبٌ، وامرأة عزبةٌ إذا غاب عنها زوجها.
[388]
وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيات الثالثة والرّابعة من سورة (ق) في قوله تعالى: (أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد، قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ).
ولكن ما هو المقصود من "الكتاب المبين"؟
أغلب المفسّرين قالوا بأنّه "اللوح المحفوظ" ولكن السؤال هو: ما هو اللوح المحفوظ؟!
وكما ذكرنا سابقاً فإنّ أقرب تفسير (للّوح المحفوظ)، هو "لوح العلم الإلهي اللامتناهي" نعم في ذلك اللوح ضُبط وقُيّد كلّ شيء، بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.
وعالم الوجود المترامي الأطراف، هو الآخر إنعكاس عن ذلك اللوح المحفوظ، بلحاظ أنّ كلّ ذرّات وجودنا وكلّ أقوالنا وأفعالنا، تبقى محفوظة فيه، وإن كانت الظواهر تتغيّر، لكنّها لا تخرج عن حدّها أبداً.
ثمّ يوضّح تعالى الهدف من قيام القيامة في آيتين، أو بتعبير آخر إعطاء الدليل على لزوم مثل ذلك العالم بعد عالمنا الحالي لمنكري القيامة، فيقول تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك لهم مغفرة ورزق كريم).
فإن لم يُجازِ المؤمنين بصالح عملهم ثواباً، أفلا يعني ذلك تعطيل أصل العدالة الذي هو أهم أصل من اُصول الخلقة؟ وهل يبقى معنى لعدالة الله بدون ذلك المفهوم؟! في الوقت الذي نرى أنّ أغلب هؤلاء الأفراد الصالحين، لا يتلقون جزاء أعمالهم الحسنة في هذه الدنيا أبداً، إذن لابدّ من عالم آخر لكي يتحقّق فيه هذا الأصل.
تقديم "المغفرة" على "الرزق الكريم" ربّما كان سببه: أنّ أشدّ ما يقلق المؤمنين هو الذنوب التي إرتكبوها، لذا فإنّ الآية تطمئنهم بعرض المغفرة عليهم أوّلا، فضلا عن أنّ من لم يغتسل بماء المغفرة الإلهية لن يكون أهلا (للرزق الكريم) والمقام
[389]
الكريم!
(الرزق الكريم) يشمل كلّ رزق ذي قيمة، ومفهوم ذلك واسع إلى درجة أنّه يشمل كلّ المواهب والعطايا الإلهية، ومنها ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وبتعبير آخر فإنّ "الجنّة" بكلّ نعمها المعنوية والماديّة جمعت في هذه الكلمة، والبعض فسّر "الكريم" بأمرين: الجيد والخالي من المنغّصات، ولكن يبدو أنّ مفهوم الكلمة أوسع من ذلك بكثير.
ثمّ تضيف الآية الكريمة التالية، موضّحة نوعاً آخر من العدالة فيما يخصّ عقاب المذنبين والمجرمين، فيقول تعالى: إنّ الذين كذّبوا آياتنا وسعوا في إنكارها وإبطالها وتصوّروا أنّهم يستطيعون الخلاص من دائرة قدرتنا ... (والذين سعوا في آياتنا معاجزين اُولئك لهم عذاب من رجز أليم).
فهناك كان الحديث عن "الرزق الكريم" وهنا عن "الرجز الأليم".
"الرِّجْز": في الأصل بمعنى الإضطراب وعدم القدرة على حفظ التوازن، ومنه قيل "رَجَزَ البعيرُ رجزاً" فهو أرجز، وناقةٌ "رجزاءُ" إذا تقارب خطوها وإضطرب لضعف فيها. واُجبرت على تقصير خطواتها لحفظ توازنها، ثمّ اُطلقت الكلمة على كلّ ذنب ورجس. كذلك فإنّ إطلاق كلمة "الرَجَزْ" على المقاطع الشعرية الخاصّة بالنزال في الحرب، من باب قصر مقاطعها وتقاربها.
على كلّ حال فالمقصود من (الرجز) هنا، أسوأ أنواع العذاب ـ الذي يتأكّد بإرداف كلمة "الأليم" أيضاً وأنواع العقوبات البدنية والروحية الأليمة.
والتفت البعض إلى هذه النكتة، وهي أنّ القرآن الكريم حين ذكر نِعم أهل الجنّة لم يستعمل كلمة "من" ليدلّل على سعتها، بينما جاءت هذه الكلمة عند ذكر العذاب لتكون دليلا على محدوديته النسبية، ولتتضح رحمته تبارك وتعالى.
"سعوا": من السعي، بمعنى كلّ جهد وجدٍّ في أمر، والمقصود منها هنا، الجدّ
[390]
والجهد في تكذيب وإنكار آيات الحقّ وصدّ الناس عن طريق الله سبحانه وتعالى.
معاجزين: من المعاجزة، بمعنى معجّزين، أي مثبّطين، وفي مثل هذه الموارد تطلق على من يفرّ من شخص آخر بحيث لا يمكّنه من التسلّط عليه، وبديهي أنّ هذا الوصف يستخدم للمجرمين لتوهمّهم الذي يظهرونه عملياً بهذا الإتّجاه، وعملهم يشبه إلى حد كبير من يتصوّر أنّه يستطيع القيام بأيّة جناية يشاء، ثمّ يستطيع الفرار من سلطة القدرة الإلهيّة!!.
* * *
[391]
الآيات
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّق إِنَّكُمْ لَفِى خَلْق جَدِيد(7) أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَـلِ الْبَعِيدِ(8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِن نَّشَأَ نَخْسِفْ بِهِمْ الاَْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لِّكُلِّ عَبْد مُّنِيب(9)
التّفسير
العلماء يرون دعوتك إنّها حقّ:
كان الحديث في الآيات السابقة عن عمي البصائر، المغفّلين الذين أنكروا المعاد مع كلّ تلك الدلائل القاطعة، وسعوا سعيهم لتكذيب الآيات الإلهية، وإضلال الآخرين.
[392]
وعلى هذا، فإنّ الآيات مورد البحث، تتحدّث عن العلماء والمفكّرين الذين صدّقوا بآيات الله وسعوا سعيهم لتشجيع الآخرين على التصديق بها، يقول تعالى: (ويرى الذين اُوتوا العلم الذي اُنزل إليك من ربّك هو الحقّ ويهدي إلى صراط العزيز الحميد).
فسّر بعض المفسّرين عبارة (الذين اُوتوا العلم)، بتلك المجموعة من علماء أهل الكتاب الذين يتّخذون موقف الخضوع والإقرار للحقّ عند مشاهدة آثار حقّانية القرآن الكريم.
وليس هناك مانع من إعتبار علماء أهل الكتاب أحد مصاديق الآية، ولكن تحديدها بهم يفتقد إلى الدليل، بل مع الإلتفات إلى الفعل المضارع (يرى) وسعة مفهوم "الذين اُوتوا العلم" يتّضح شمول الآية لكلّ العلماء والمفكّرين في كلّ عصر وزمان ومكان.
وإذا فُسّرت بكونها إشارة إلى "أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام"، كما في تفسير علي بن إبراهيم، فإنّ ذلك توضيح وإشارة إلى أتمّ وأكمل مصاديق الآية.
نعم، فأي عالم موضوعي وغير متعصّب إذا تأمّل في ما ورد في هذا الكتاب السماوي، وتدبّر في معارفه العميقة، وأحكامه المتينة، ونصائحه الحكيمة، ومواعظه المؤثّرة في الوجدان إلى قصصه التأريخية المشعّة بالعِبرة، وبحوثه العلمية الإعجازية، فسيعلم بأنّها جميعاً دليل على حقّانية هذه الآيات.
واليوم، فإنّ هناك كتباً متنوّعة كتبها مفكّرون غربيون وشرقيون حول الإسلام والقرآن، تحوي إعترافات ظاهرة على عظمة الإسلام وصدق الآية مورد البحث.
التعبير بـ "هو الحقّ" تعبير جامع ينطبق على جميع محتوى القرآن الكريم، حيث أنّ "الحقّ" هو تلك الواقعة العينية والوجود الخارجي، أي إنّ محتوى القرآن يتساوق وينسجم مع قوانين الخلق وحقائق الوجود وعالم الإنسانية.
[393]
ولكونه كذلك فهو يهدي إلى صراط الله، الله "العزيز" و "الحميد" أي أنّه تعالى الأهل لكلّ حمد وثناء وفي ذات الوقت فانّ قدرته غاية القدرة والغلبة، وليس هو كأصحاب القدرة من البشر الذي يتعامل منطلقاً من كونه على عرش القدرة بالدكتاتورية والظلم والتجاوز والتلاعب.
وقد جاء نظير هذا التعبير في الآية الاُولى من سورة "إبراهيم" حيث قال جلّ من قائل: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم إلى صراط العزيز الحميد).
وواضح أنّ من كان مقتدراً وأهلا للحمد والثناء، ومن هو عالم ومطّلع رحيم وعطوف، من المحتّم أن يكون طريقه أكثر الطرق إطمئنان وإستقامة. فمن يسلك طريقه إنّما يقترب من منبع القدرة وكلّ الأوصاف الحميدة.
ويعود تعالى إلى مسألة القيامة والبعث في الآية التي بعدها، ويكمل البحوث السابقة بطريقة اُخرى، فيقول تعالى: (وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كلّ ممزق إنّكم لفي خلق جديد).
يبدو أنّ إصرار ـ هؤلاء الكفّار ـ على إنكار مسألة المعاد يعتمد على أمرين: ـ
الأوّل: توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) وهو "المعاد الجسماني"، أمر يسهل الإشكال عليه والطعن فيه، وأنّ بإمكانهم تنفير الناس منه فينكرونه بسهولة.
الثّاني: أنّ الإعتقاد بالمعاد، أو حتّى القبول بإحتماله ـ على كلّ حال ـ إنّما يفرض على الإنسان مسؤوليات وتعهّدات، ويضعه وجهاً لوجه أمام الحقّ، وهذا ما إعتبره رؤوس الكفر خطراً حقيقيّاً، لذا فقد أصرّوا على إلغاء فكرة المعاد والجزاء الاُخروي على الأعمال من أذهان الناس. فقالوا: أيمكن لهذه العظام المتفسّخة، وهذه الذرّات المبعثرة، التي تعصف بها الريح من كلّ جانب، أن تُجمع في يوم وتُلبس ثوب الحياة من جديد؟
[394]
وإستخدامهم لكلمة (رجل) بصيغة النكرة في تعبيرهم عن الرّسول (صلى الله عليه وآله) يقصد منه التحقير "وحاشاه".
ولكن فاتهم أنّنا في بدء الخليقة لم نكن إلاّ أجزاء مبعثرة، فكلّ قطرة ماء في أبداننا إنّما كانت قطرة في زاوية من بحر أو ينبوع ماء، وكلّ ذرّة من مواد أجسامنا، كانت في جانب من جوانب هذه الأرض المترامية، وسيجمعها الله تبارك وتعالى في النهاية أيضاً كما جمعها في البدء، وهو على كلّ شيء قدير.
والعجيب أنّهم اعتبروا ذلك دليلا على كذب الرّسول (صلى الله عليه وآله) أو جنونه، وحاشاه (افترى على الله كذباً أم به جنّة).
وإلاّ فكيف يمكن لرجل عاقل أو صادق أن يتفوّه بمثل هذا الحديث!!؟
ولكن القرآن يردّ عليهم بشكل حاسم قائلا: (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد).
فأي ضلال أوضح من أن يرى مُنكِرُ المعاد باُمّ عينيه مثالا لهذا المعاد في عالم الطبيعة في كلّ عام بإحياء الأرض الميتة بالزرع.
المعاد الذي لولا وجوده لما كان للحياة في هذا العالم أي معنى أو محتوى.
وأخيراً فإنكار المعاد مساو لإنكار قدرة وعدل وحكمة الله جلّ وعلا.
ولكن لماذا يؤكّد تعالى أنّهم الآن في العذاب والضلال؟
ذلك لأنّ الإنسان يواجه في حياته مشاكل وأحداثاً لا يمكنه ـ بدون الإيمان بالآخرة ـ تحمّلها، والحقيقة أنّ الحياة لو حُدَّت بهذه الأيّام القليلة من عمر الدنيا لكان تصوّر الموت بالنسبة لكلّ إنسان كابوساً مرعباً، لهذا السبب نرى أنّ منكري المعاد في قلق دائم منغّص وعذاب أليم، في حال المؤمنين بالمعاد يعتبرون الموت قنطرة إلى عالم البقاء، ووسيلة لكسر القيود والتحرّر من سجن الدنيا.
نعم، فالإيمان بالمعاد، يغمر قلب الإنسان بالطمأنينة، ويهوّن عليه المشكلات، ويجعله أكثر قدرة على الإيثار والفداء والتضحية.
[395]
أمّا الذين يرون المعاد ـ لجهلهم وكفرهم ـ دليلا على الكذب أو الجنون، إنّما يأسرون أنفسهم في عذاب العمى، والضلال البعيد.
ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبروا هذا العذاب إشارة إلى عذاب الآخرة، ولكنّ ظاهر الآية يدلّل على أنّهم أسرى هذا العذاب والضلال الآن وفي هذه الدنيا.
ثمّ ينتقل القرآن الكريم لتقديم دليل آخر عن المعاد، مقترن بتهديد الغافلين المعاندين فيقول تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض).
فإنّ هذه السماء العظيمة بكلّ عجائبها، بكواكبها الثابتة والسيّارة، وبالأنظمة التي تحكمها، وكذلك الأرض بكلّ مدهشاتها وأنواع موجوداتها الحيّة، وبركاتها ومواهبها، لأوضح دليل على قدرة الخلاّق العظيم.
فهل أنّ القدير على كلّ هذه الاُمور، عاجز عن إعادة الإنسان بعد الموت إلى الحياة؟
وهذا هو "برهان القدرة" الذي استدلّ به القرآن الكريم في آيات اُخرى في مواجهة منكري المعاد، ومن جملة هذه الآيات، الآية (82) من سورة يس. الآية (99) من سورة الإسراء والآيتين (6 و7) من سورة ق.
ونشير إلى أنّ هذه الجملة كانت مقدّمة لتهديد تلك الفئة المتعصّبة من ذوي القلوب السوداء، الذين يصّرون على عدم رؤية كلّ هذه الحقائق. لذا يضيف تعالى قائلا: (إن نشأ نخسف بهم الأرض) فنأمر الأرض فتنشقّ بزلزلة مهولة وتبتلعهم، أو نأمر السماء فترميهم بقطعات من الحجر وتدمّر بيوتهم وتهلكهم (أو نسقط عليهم كسفاً من السماء) أجل، إنّ في هذا الأمر دلائل واضحة على قدرة الله تعالى على كلّ شيء، ولكن يختّص بإدراك ذلك كلّ إنسان يتدبّر في مصيره ويسعى في الإنابة إلى الله (إنّ في ذلك لآية لكلّ عبد منيب).
لابدّ أن سمع أو شاهد كلّ منّا نماذج من الزلازل أو الخسف في الأرض، أو
[396]
سقوط النيازك من السماء، أو بتساقط وتناثر صخور الجبال بسبب صاعقة أو إنفجار بركان، وكلّ عاقل يدرك إمكانية حصول مثل هذه الاُمور في أيّة لحظة وفي أيّ مكان من العالم، فإذا كانت الأرض هادئة تحت أقدامنا، والسماء آمنة فوق رؤوسنا، فلأنّها كذلك بقدرة اُخرى وبأمر من آمر، فكيف نستطيع ـ ونحن المحكومون بقدرته في كلّ طرفة عين ـ إنكار قدرته على البعث بعد الموت، أو كيف نستطيع الفرار من سلطة حكومته!!.
* * *
هنا يجب الإلتفات إلى جملة اُمور:
1 ـ يعبّر القرآن الكريم هنا عن السماء التي فوق رؤوسنا، والأرض التي تحت أقدامنا بـ (ما بين أيديهم) و (ما خلفهم). وهو المورد الوحيد الذي يلاحظ فيه مثل هذا التعبير. وهذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ قدرة وعظمة الله أظهر في السماء وقت طلوع أو غروب الشمس وظهور القمر والنجوم فيها. ونعلم أنّ من يقف غالب باتّجاه الاُفق تكون السماء بين يديه، والأرض التي تأتي بالدرجة الثّانية من الأهميّة اُطلق عليها (ما خلفهم).
كذلك هي إشارة إلى هؤلاء المغرورين أنّهم إن لم يجيزوا لأنفسهم النظر إلى ما فوق رؤوسهم، فلا أقل من أن ينظروا إلى ما بين أيديهم في جوار الاُفق.
2 ـ نعلم بأنّنا نعيش بين مصدرين عظيمين من مصادر الخطر على حياتنا:
أوّلهما: باطن الكرة الأرضية المشتعل الذي هو عبارة عن صخور مذابة ومشتعلة وفي حالة من الفوران، وفي الحقيقة فإنّ حياة جميع البشر فوق مجموعة من البراكن ـ بالقوّة ـ وبمجرّد صدور أمر إلهي صغير ينطلق أحد هذه البراكين ليهزّ منطقة عظيمة من الأرض وينثر عليها الأحجار الملتهبة والمواد المعدنية المذابة المشتعلة.
[397]
وثانيهما: مئات الآلاف من الأحجار الصغيرة والكبيرة السابحة في الفضاء الخارجي تنجذب نحو الأرض يومياً بفعل جاذبيتها، ولولا إحتراقها نتيجة إصطدامها بالغلاف الغازي، لكنّا هدفاً "لمطر حجري" بشكل متواصل ليل نهار، وأحياناً تكون أحجامها وسرعتها وقوّتها إلى درجة أنّها تتخطّى ذلك المانع وتنطلق باتّجاه الأرض لتصطدم بها. وهذا واحد من الأخطار السماوية، وعليه فإذا كنّا نعيش وسط هذين المصدرين الرهيبين للخطر، بمنتهى الأمن والأمان بأمر الله، أفلا يكفي ذلك لأن نتوجّه إلى جلال قدرته العظيمة ونسجد تعظيماً وطاعة له!!.
3 ـ من الجدير بالملاحظة أنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث أشارت إلى (أنّ في ذلك لآية) ولكنّها حدّدت (لكلّ عبد منيب). والإشارة تستبعد ذلك المتمرّس بالعصيان الذي خلع عن رقبته طوق العبودية لله سبحانه وتعالى، والغافلين الذين أداموا السير في الطريق الخاطئة الملوّثة بالخطايا واستبعدوا عن أذهانهم ـ كلياً ـ التوبة والإنابة، فهولاء أيضاً لا يمكنهم الإنتفاع من هذه الآية المشرقة، لأنّ وجود الشمس الساطعة لا يكفي وحده لتحصل الرؤية، بل يستلزم أيضاً العين المبصرة وإرتفاع الحجاب بينهما.
* * *
[398]
الآيتان
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَـجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ(10) أَنِ اعْمَلْ سَـبِغَـت وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَـلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(11)
التّفسير
المواهب الإلهية العظيمة لداود:
بناء على ما مرّ ذكره في آخر المجموعة السابقة من الآيات وما قلناه حول "العبد المنيب" والثواب. ولعلمنا بأنّ هذا الوصف قد ذكر للنبي داود (عليه السلام) (في الآية 24 من سورة ص) ـ كما سيرد شرحه بإذن الله ـ فالأفضل من أن نتعرّض لجانب من حياة هذا النّبي (عليه السلام) كمثال للإنابة والتوبة وإكمال البحث السابق. وهي أيضاً تنبيه لكل من يغمط نعم الله ويتناساها، ويتخلّى عن عبوديته لله عند جلوسه على مسند القدرة والسلطة.
في الآية الاُولى يقول تعالى: (ولقد آتينا داود منّا فضلا).
مفردة "فضل" ذات معنى وسيع، يشمل كلّ المواهب التي تفضّل الله بها على داود، وزادها التنكير سعة ودلّل على عظمة تلك المواهب.
[399]
فقد شُمل داود بالمواهب العظيمة سواء من الناحية المادية أو المعنوية، وقد تعرّض القرآن الكريم مراراً لذكرها.
ففي موضع يقول تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين).(1)
وفي موضع آخر يقول تعالى على لسان داود (ياأيّها الناس عُلِّمنا منطق الطير واُوتينا من كلّ شيء إنّ هذا لهو الفضل المبين).(2)
وسترد ضمن حديثنا حول آخر هذه الآيات، معجزات مختلفة تمثّل جزءاً من هذا الفضل العظيم، وكذلك الصوت الباهر، والقدرة العالية على القضاء العادل التي اُشير إليها في سورة (ص) تمثّل لوناً آخر من ذلك الفضل الإلهي، وأهمّ من ذلك كلّه النبوّة والرسالة التي شُرِّف بها داود.
وعلى كلّ حال، فبعد هذه الإشارة الإجمالية العامّة، تبدأ الآية بشرح وتوضيح جوانب من الفضائل المعنوية والمادية التي تمتّع بها داود، فيقول تعالى: (ياجبال أوّبي معه والطير).
كلمة "أوّبي" في الأصل من "التأويب" بمعنى الترجيع وإعادة الصوت في الحلق. وهذا الأصل يستعمل أيضاً بمعنى "التوبة" لأنّ حقيقتها الرجوع إلى الله.
ومع أنّ كلّ ذرّات الوجود تذكر الله وتسبّح بحمده، سواء أسَبَّحَ داود (عليه السلام) معها أو لم يسبّح، ولكن الميزة التي خُصّ بها داود هي أنّه ما إن يرفع صوته ويبدأ التسبيح، إلاّ ويظهر ما كان خفيّاً وكامناً في الموجودات، وتتبدل الهمهمة الباطنية إلى نغمة علنية منسجمة، كما ورد في الروايات من تسبيح الحصاة في يد الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله).
وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عند ذكره لقصّة داود "إنّه خرج يقرأ الزبور،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النمل، 15.
2 ـ النمل، 16.
[400]
وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلاّ أجابه"(1).
وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية، تذكر الآية فضيلة مادية اُخرى فتقول: (وألنّا له الحديد).
يمكن القول، بأنّ الله تعالى علّم داود ـ إعجازاً ـ ما استطاع بواسطته تليين الحديد حتّى يمكنه من صنع أسلاك رقيقة وقوية لنسج الدروع منها، أو أنّه كان قبل داود يستفاد من صفائح الحديد لصناعة الدروع والإفادة منها في الحروب، ممّا كان يسبّب حرجاً وإزعاجاً للمحاربين نتيجة ثقل الحديد من جهة، وعدم قابلية تلك الدروع للإنحناء أو الإلتواء حين إرتدائها، ولم يكن أحدٌ قد إستطاع حتّى ذلك اليوم نسج الدروع من أسلاك الحديد الرفيعة المحكمة، ليكون لباساً يمكن إرتداؤه بسهولة والإفادة من قابليته على التلوّي والإنحناء مع حركة البدن برقّة وإنسياب(2).
ولكن ظاهر الآية يدلّل على أنّ ليونة الحديد تمّت لداود بأمر إلهي، فما يمنع الذي أعطى لفرن النار خاصية إلانة الحديد، أن يعطي هذه الخاصية لداود بشكل آخر، وقد أشارت بعض الروايات أيضاً إلى هذا المعنى.
فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: "إنّ الله أوحى إلى داود: نعم العبد أنت إلاّ أنّك تأكل من بيت المال، فبكى داود أربعين صباحاً، فألان الله له الحديد، وكان يعمل كلّ يوم درعاً فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعاً فباعها بثلاثمائة وستّين ألفاً فاستغنى عن بيت المال"(3).
صحيح أنّ بيت المال يؤمّن مصارف الأشخاص الذين يقدّمون خدمة مجانية للاُمّة، ويتحمّلون الأعباء التي لا يتحمّلها غيرهم، ولكن ما أروع أن يستطيع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الميزان، ج16، ص367.
2 ـ اُنظر تفسير البرهان، ج3، ص343. وتفسير نور الثقلين، ج4، ص315.
3 ـ مجمع البيان ـ ج8 ص381.
[401]
الإنسان تقديم هذه الخدمة، وتأمين معاشه ـ في حال الإستطاعة ـ من كدّ يمينه، وداود (عليه السلام) أراد أن يكون ذلك العبد الممتاز.
على كلّ حال، فإنّ داود وجّه هذه القدرة التي وهبها إيّاه الله في أفضل الطرق وهي صناعة وسائل الجهاد والدفاع ضدّ الأعداء، ولم يحاول الإستفادة منها في صناعة وسائل الحياة العادية، وعلاوة على الإستفادة من دخله منها في تصريف اُمور حياته المعاشية البسيطة، فقد هيّأ جزءاً منه للإنفاق على المحتاجين(1). وفوق كلّ هذا، فقد كان عمله بحدّ ذاته معجزة إرتبطت به.
نقل بعض المفسّرين قال "حُكي أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها فجعل يتفكّر فيها ولا يدري ما يريد، ولم يسأله حتّى فرغ منها ثمّ قام فلبسها وقال: نعم جُنة الحرب هذه. فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله!"(2).
الآية التي بعدها تتعرّض لشرح صناعة داود للدروع والأمر الإلهي العميق المعنى بهذا الخصوص. يقول تعالى: (أن اعمل سابغات وقدّر في السرد).
"سابغات": جمع (سابغ) وهو الدرع التامّ الواسع، و"إسباغ النعمة" أيضاً بمعنى توسيعها.
"سرد": في الأصل بمعنى حياكة ما يخشن ويغلظ كنسج الدرع وخرز الجلد، واستعير لنظم الحديد. وجملة (وقدّر في السرد) معناها مراعاة المقاييس المتناسبة في حلقات الدرع وطريقة نسجها. وفي الواقع فإنّ الله تعالى قد أمر داود بأن يكون مثالا يحتذى لكل الحرفيين والعمّال المؤمنين في العالم، بمراعاته للإتقان والدقّة في العمل من حيث الكمّ والكيف في المصنوعات، ليستطيع بالتالي مستهلكوها إستعمالها براحة وبشكل جيّد، والإفادة من متانتها.
يقول تعالى لداود: أن اصنع الدروع واسعة ومريحة، حتّى لا تكون سجناً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير أبو الفتوح الرازي، ج9، ص192.
2 ـ مجمع البيان، ج8، ص382.
[402]
للمقاتل وقت إرتدائها .. لا تجعل حلقاتها صغيرة وضيّقة أكثر من اللازم فتفقد بذلك خاصيّة الإنثناء والتطوّي، ولا كبيرة إلى درجة يمرّ منها حدّ السيف والخنجر والسنان، فكلّ شيء يجب أن يكون ضمن مقياس معيّن وتناسب محدّد.
الخلاصة: هي أنّ الله تعالى قد قيّض لداود "المادّة" بمقتضى (وألنّا له الحديد).
وكذلك علّمه بطريقة تحويلها وصناعتها، حتّى يكون الناتج كاملا بإجتماع "المادّة" و "الصورة".
ثمّ تُختم الآية بخطاب لداود وأهل بيته (واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون بصير).
ويلاحظ أنّ المخاطب كان في صدر الآية داود وحده، بيننما تحوّل الخطاب في آخر الآية ليشمل داود وأهل بيته أو داود وقومه، ذلك لأنّ هذه الاُمور مقدّمة للعمل الصالح، فالهدف ليس صناعة الدروع وتحقيق الربح، بل إنّ ذلك كلّه وسيلة في المسير باتّجاه العمل الصالح. وليستفيد أيضاً داود وأهل بيته. وإحدى خصائص العمل الصالح هي مراعاة الدقّة الكافية في الصناعات من كلّ الجوانب وتقديم نتاج كامل ومفيد خال من أي عيب أو تقصير.
ومن المحتمل أيضاً أن يكون الخطاب لداود وكلّ من تحقّقت له الإستفادة من جهده ونسيجه، إشارة إلى أنّ هذه الوسيلة الدفاعية ينبغي أن تستخدم في طريق العمل الصالح، وليس في طريق المعاصي والجور والظلم.
* * *
[403]
الآيات
وَلِسُلَيْمَـنَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ(12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَـرِيبَ وَتَمَـثِيلَ وَجِفَان كَالْجَوَابِ وَقُدُورِ رَّاسِيَـت اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ(13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْه الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاَْرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ(14)
التّفسير
هيبة سليمان وموته العبرة!!
بعد الحديث عن المواهب التي أغدق الله بها على داود (عليه السلام) تنتقل الآيات إلى الحديث عن إبنه سليمان (عليه السلام)، وفي حين أنّ الآيات السابقة أشارت إلى موهبتين تخصّان داود، فهذه الآيات تشير إلى ثلاث مواهب عظيمة خُصّ بها إبنه
[404]
سليمان(عليه السلام) يقول تعالى: (ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر)(1).
الملفتُ هنا أنّ الله تبارك وتعالى حينما سخّر للأب جسماً خشناً وصلباً جدّاً وهو الحديد، نرى أنّه قد سخّر للإبن موجوداً لطيفاً للغاية، ولكنّ العملين كانا نافعين وإعجازيين، جسم صلب يلين لداود، وأمواج الهواء اللطيفة تجعل محكمة وفعّالة لسليمان!!
ولطافة الريح لا تمنع من أدائه أعمال هامّة، فمن الرياح ما يحرّك السفن الكبيرة على ظهر المحيطات، ومنها ما يدير أحجار الطاحونات الهوائية الثقيلة، ومنها ما يرفع البالونات إلى عنان السماء ويحرّكها كالطائرات.
نعم، هذا الجسم اللطيف بهذه القدرة الإيجابية سُخّر لسليمان.
أمّا كيف تحمل الريح مقعد سليمان، (سواء أكانت كرسياً أم بساطاً)؟ فليس بواضح لنا. والقدر المتيقّن هو أن لا شيء يمثّل مشكلة أو عقبة أمام قدرة الله، لقد إستطاع الإنسان بقدرته ـ الحقيرة أمام قدرة الله ـ أن يحرّك البالونات والطائرات التي تحمل مئات بل آلاف المسافرين والأحمال الاُخرى في عنان السماء، فهل أنّ تحريك بساط سليمان بواسطة الريح يشكّل أدنى مشكلة للباري جلّت قدرته!؟
ما هي العوامل التي تحفظ سليمان ووسيلة نقله من السقوط أو من ضغط الهواء والمشكلات الاُخرى الناشئة من الحركة في السماء؟ هذه أيضاً من المسائل التي خفيت عنّا تفصيلاتها. ولكن ما نعلمه أنّ تأريخ الأنبياء حافل بخوارق العادة والتي ـ مع الأسف ـ إمتزجت نتيجة جهود بعض الجهلة أو أعداء المعرفة بالخرافات حتّى أضحت الصورة الحقيقية لهذه الاُمور مشوشة وقبيحة، ونحن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "لسليمان" جار ومجرور متعلّق بفعل مقدّر تقديره "سخّرنا" كما يفهم بقرينة الآيات السابقة، وقد صُرّح بذلك في الآية (36) من سورة ص. التي قال فيها سبحانه وتعالى: (فسخّرنا له الريح). وبعض المفسّرين يعتقد بأنّ (اللام) في (لسليمان) للتخصيص، إشارةً إلى أنّ المعجزة إختصّ بها سليمان ولم يشاركه فيها أحد من الأنبياء.
[405]
نقتنع بهذا الخصوص بالمقدار الذي أشار إليه القرآن الكريم.
"غدو": بمعنى وقت الصبح من النهار، يقابله "الرواح" بمعنى وقت الغروب من النهار، ويطلق على الحيوانات عند عودتها إلى مساكنها في آخر النهار للإستراحة، ويبدو من القرائن في الآية مورد البحث أنّ "الغدو" هنا بمعنى النصف الأوّل من النهار، و "الرواح" النصف الثّاني منه، لذا يحتمل في معنى الآية أنّ سليمان (عليه السلام)يقطع في وقت مقداره من الصبح إلى الظهر ـ بمركبه ـ ما يعادل المسافة التي يقطعها المسافرون في ذلك الزمان بشهر كامل، وكذا نصف النهار الثاني.
بعدئذ تنتقل الآية إلى الموهبة الثّانية التي خصّ الله بها سليمان (عليه السلام) فتقول الآية الكريمة: (وأسلنا له عين القطر).
"أسلنا" من مادّة "سيلان" بمعنى الجريان، و "القطر" بمعنى النحاس، والمقصود أنّنا أذبنا له هذا الفلز وجعلناه كعين الماء، وذهب البعض إلى أنّ "القطر" يعني أنواع الفلزات أو "الرصاص"، وعلى هذا يكون قد اُلين الحديد للأب، واُذيبت الفلزات بأجمعها للابن، ولكن المشهور هو المعنى الأوّل.
كيف يكون النحاس أو الفلزات الاُخرى كعين الماء بين يدي سليمان (عليه السلام)؟ هل أنّ الله علّم هذا النّبي كيفية إذابة هذه الفلزات بكميات كبيرة بطريقة الإعجاز؟ أو جعل عيناً من هذا الفلز المائع تحت تصرفه، تشبه عيون البراكين وقت فعاليتها، حيث تنحدر منها على أطراف الجبل بصورة إعجازية، أو بأي شكل آخر؟ ليس واضحاً لدينا وما نعلمه هو أنّ ذلك أيضاً كان من الألطاف الإلهية على هذا النّبي العظيم.
أخيراً تنتقل الآية إلى بيان الموهبة الإلهية الثالثة لسليمان (عليه السلام) وهي تسخير مجموعة كبيرة من الجنّ لخدمته فتقول الآية: (ومن الجنّ من يعمل بين يديه بإذن ربّه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير).
"الجنّ": وكما هو معلوم من إسمه، ذلك المخلوق المستور عن الحسّ البشري،
[406]
له عقل وقدرة ومكلّف بتكاليف إلهية ـ كما يستفاد من آيات القرآن ـ .
لقد صيغت حول "الجنّ" أساطير وحكايات وقصص خرافية كثيرة، لو حذفناها لكان أصل وجودهم والصفات الخاصّة بهم التي وردت في القرآن موضوعاً لا يخالف العلم والعقل مطلقاً، وسوف نتعرّض إن شاء الله لتفصيل هذا الموضوع أكثر عند تفسير سورة "الجنّ".
وعلى كلّ حال، يستفاد من تعبير الآية أعلاه، أنّ تسخير هذه القوّة العظيمة كان ـ أيضاً ـ بأمر الله، وأنّهم كانوا يتعرّضون للعقاب لدى تقصيرهم في أداء مهامهم.
قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود من "عذاب السعير" هنا، عقوبة يوم القيامة، في حين أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّها عقوبة في الدنيا.
وكذلك يستفاد من الآيات 37 و38 من سورة "ص" بأنّ الله قد سخّر لسليمان(عليه السلام) مجموعة من الشياطين لإنجاز أعمال عمرانية هامّة له، وأنّهم كانوا يكبّلون بالسلاسل بأمر من سليمان عند ظهور أي تخلّف منهم (والشياطين كلّ بنّاء وغواص وآخرين مقرنين بالأصفاد).
والجدير بالملاحظة. هو أنّه لإدارة حكومة كبيرة، ودولة واسعة كدولة سليمان يلزم وجود عوامل عديدة، ولكن أهمّها ثلاثة عوامل ذكرتها الآية أعلاه وهي:
الأوّل: توفّر واسطة نقل سريعة مهيّأة على الدوام، لكي يستطيع رئيس الحكومة تفقّد جميع أطراف دولته بواسطتها.
الثاني: مواد أوّلية يستفاد منها لصناعة المعدّات اللازمة لحياة الناس والصناعات المختلفة.
الثالث: قوّة عاملة فعّالة، تستطيع الإفادة من تلك المواد بدرجة مناسبة، وتصنيعها بالكيفية اللازمة، وسدّ حاجة البلاد من هذه الجهة.
ونرى أنّ الله تعالى قد قيّض لسليمان هذه العناصر الثلاثة، وقد حقّق سليمان منها أحسن الفائدة في ترقية الناس وتعمير البلاد وتحقيق الأمن فيها.
[407]
وهذا الموضوع لا يختّص فقط بعصر سليمان (عليه السلام) وحكومته، فالإلتفات إليه ومراعاته من الضروريات اليوم وغداً، وفي كلّ مكان لأجل إدارة الدول بطريقة صحيحة.
الآية التالية، تشير إلى جانب من الأعمال الإنتاجية الهامّة، التي كان يقوم بها فريق الجنّ بأمر سليمان.
يقول تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات).
فكلّ ما أراده سليمان من معابد وتماثيل وأواني كبيرة للغذاء والتي كانت كالأحواض الكبيرة، وقدور واسعة ثابتة، كانت تهيّأ له، فبعضها يرتبط بالمسائل المعنوية والعبادية، وبعضها الآخر يرتبط بالمسائل الجسمانية، وكانت متناسبة مع أعداد جيشه وعمّاله الهائلة.
"محاريب" جمع محراب، ويعني "مكان العبادة" أو "القصور والمباني الكبيرة" التي بنيت كمعابد. كذلك اُطلقت أيضاً على صدر المجلس، وعندما بُنيت المساجد سمّي صدر المسجد به، قيل: سمّي محراب المسجد بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى(1). وقيل: سمّي بذلك لأنّ الإنسان فيه يكون حريباً من أشغال الدنيا ومن توزّع الخواطر(2).
على كلّ حال، فإنّ هؤلاء العمّال النشطين المهرة، قاموا ببناء المعابد الضخمة والجميلة في ظلّ حكومته الإلهية والعقائدية، حتّى يستطيع الناس أداء وظائفهم العبادية بسهولة.
"تماثيل": جمع تمثال، بمعنى الرسم والصورة والمجسمة، وقد وردت تفاسير عديدة حول ماهية هذه التماثيل ولأي الموجودات كانت؟ أو لماذا أمر سليمان
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مفردات الراغب، مادّة (حرب).
2 ـ المصدر السابق.
[408]
بصنعها؟.
يمكن أن تكون صنعت لتزيين المباني، كما نلاحظ ذلك في المباني المهمّة القديمة في عصرنا الحالي، أو حتّى في بعض المباني الجديدة.
أو لإضفاء الاُبّهة والهيبة على المباني التي بنيت، حيث أنّ رسم بعض أنواع الحيوانات كالأسد مثلا يضفي نوعاً من الاُبّهة في أفكار غالبية الناس.
ثمّ، هل كان صنع تماثيل ذوات الأرواح مباحاً في شريعة سليمان (عليه السلام) مع كونه حراماً في الشريعة الإسلامية؟ أو أنّ التماثيل التي كانت تصنع لغير ذوات الروح من الموجودات كالأشجار والجبال والشمس والقمر والنجوم؟
أو أنّها كانت مجرّد نقوش ورسوم على الجدران ـ كما تلاحظ في الآثار القديمة ـ وهي غير محرّمة كما هو الحال في حرمة التماثيل المجسّمة.
كلّ ذلك محتمل، لأنّ تحريم صناعة المجسّمات في الإسلام، كان بقصد مكافحة قضيّة عبادة الأوثان وإقتلاعها من الجذور، في حين أنّ ذلك لم يكن بتلك الدرجة من الضرورة في زمن سليمان، لذا لم تحرم في شريعته!
ولكنّنا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: "والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنّها الشجر وشبهه"(1).
وبالإستناد إلى هذه الرّواية فإنّ صنع التماثيل من ذوات الروح في شريعة سليمان كان حراماً أيضاً.
"جفان" جمع "جفنة" بمعنى إناء الطعام.
"جوابي" جمع "جابية" بمعنى حوض الماء.
وهنا يستفاد أنّ المقصود من التعبير الوارد في الآية الكريمة، أنّ هؤلاء العمّال قد صنعوا لسليمان (عليه السلام) أواني للطعام كبيرة جدّاً، بحيث أنّ كلاًّ منها كان كالحوض،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، ج12، ص219 ـ 220، ب94، ح1.
[409]
لكي يستطيع عدد كبير من الأفراد الجلوس حوله وتناول الطعام منه. والإستفادة من الأواني الجماعية الكبيرة لتناول الطعام كانت موجودة إلى أزمنة ليست بالبعيدة. وفي الحقيقة فإنّ مائدتهم كانت تلك الأواني الكبيرة التي لا تشبه ما نستعمله هذه الأيّام من أوان صغيرة ومستقلّة.
"قدور": جمع "قدر" على وزن "قشر". بنفس معناه الحالي، أي الإناء الذي يطبخ فيه الطعام.
"راسيات": جمع "راسية" بمعنى ثابتة، والمقصود أنّ القدور كانت من العظمة بحيث لا يمكن تحريكها من مكانها.
وتعرج الآية في الختام وبعد ذكر هذه المواهب الإلهية، إلى آل داود فتخاطبهم: (اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور).
وبديهي أنّ (الشكر) الذي أشارت إليه الآية، لو كان مقصوداً به الشكر باللسان لما كانت هناك أدنى مشكلة ولمّا كان العاملون به قليلين، ولكن المقصود هو (الشكر العملي). أي الإستفادة من تلك المواهب في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها. والمسلّم به أنّ الذين يستفيدون من المواهب الإلهية في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها هم الندرة النادرة.
قال بعض العلماء: إنّ للشكر ثلاثة مراحل: الشكر بالقلب، بتصوّر النعمة والرضى والسرور بها. والشكر باللسان، وبالحمد والثناء على المنعم. الشكر بسائر الأعضاء والجوارح، وذلك بتطبيق الأعمال مع متطلّبات تلك النعمة.
"شكور": صيغة مبالغة. يعبّر بها عن كثرة الشكر ودوامه بالقلب واللسان والأعضاء والجوارح.
وهذه الصفة تطلق أحياناً على الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الآية (17) من سورة التغابن: (إنّه سكور حليم). والمقصود به أنّ الله سبحانه وتعالى، يشمل العباد المطيعين بعطاياه وألطافه، ويشكرهم، ويزيدهم من فضله أكثر ممّا
[410]
يستحقّون.
كذلك يمكن أن يكون التعبير بـ (قليل من عبادي الشكور) إشارة إلى تعظيم مقام هذه المجموعة النموذجية، أو بمعنى حثّ المستمع ليكون من أفراد تلك الزمرة ويزيد جمع الشاكرين.
آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر حديث عن النّبي سليمان (عليه السلام)، يخبرنا الله سبحانه وتعالى فيها بطريقة موت ذلك النّبي العجيبة والداعية للإعتبار، فيوضّح تلك الحقيقة الساطعة، وهي كيف أنّ نبيّاً بتلك العظمة وحاكماً بكلّ تلك القدرة والاُبّهة، لم يستطع حين أخذ الموت بتلابيبه من أن يستلقي على سرير مريح، وإنتزعت روحه من بدنه بتلك السهولة والسرعة. يقول تعالى: (فلمّا قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلاّ دابة الأرض تأكل منسأته)(1).
يستفاد من تعبير الآية ومن الروايات المتعدّدة الواردة في تفسيرها، أنّ سليمان كان واقفاً متّكئاً على عصاه حين فاجأه الموت واستلّ روحه من بدنه، وبقي جثمان سليمان مدّة على حالته، حتّى أكلت الأُرضةُ ـ التي عبّر عنها القرآن بـ "دابّة الأرض" ـ عصاه، فاختلّ توازنه وهوى على الأرض، وبذا عُلم بموته.
لذا تضيف الآية بعد ذلك (فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).
جملة "تبيّنت" من مادّة "بيّن" عادةً بمعنى (اتّضح) (وهو فعل لازم). وأحياناً يأتي أيضاً بمعنى "العلم والإطلاع" (فعل متعد). وهنا يتناسب الحال مع المعنى الثاني. بمعنى أنّ الجنّ لم يعلموا بموت سليمان إلى ذلك الوقت، ثمّ علموا وفهموا أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب لما بقوا حتّى ذلك الحين في تعب وآلام الأعمال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "منسأته": من مادّة (نسأ) وهو التأخير في الوقت، والمنسأة: عصا يُنسأ بها الشيء، أي يؤخّر. قال بعض المفسّرين: إنّ هذه اللفظة من كلمات أهل اليمن، وبما أنّ سليمان (عليه السلام) حكم تلك المنطقة فقد إستخدمها القرآن حين حديثه عن ذلك النّبي. راجع مفردات الراغب وتفسير القرطبي وروح البيان.
[411]
الشاقّة التي كلّفوا بها.
جمع من المفسّرين أخذ المعنى بالحالة الاُولى، وقال: إنّ مقصود الآية هو أنّه بعد أن هوى جثمان سليمان (عليه السلام) إلى الأرض اتّضحت حقيقة الجنّ للناس، وأنّهم لا يعلمون شيئاً من الغيب، وعبثاً كان إعتقاد البعض بإطّلاع الجنّ على الغيب(1).
(العذاب المهين) هذا التعبير قد يكون إشارة إلى الأعمال الشاقّة التي كان سليمان (عليه السلام) يعهد بها إلى مجموعة من الجنّ كنوع من العقاب، وإلاّ فإنّ نبيّ الله لا يمكن أن يضع أحداً في العذاب عبثاً، وهو على ما يبدو عذاب مذلّ.
* * *
بحوث
1 ـ صور من حياة سليمان (عليه السلام):
على عكس "التوراة" الموجود اليوم والتي صوّرت "سليمان" أحد السلاطين الجبابرة وباني معابد الأوثان الضخمة ومستهتر النساء ـ يعدّ القرآن الكريم "سليمان" من أنبياء الله العظام ونموذج للحكومة والقدرة المنقطعة النظير، وقد أعطى القرآن الكريم بعرضه البحوث المختلفة المتعلّقة بسليمان دروساً للبشر هي الأساس من ذكر قصّته.
قرأنا في هذه الآيات الكريمة، أنّ الله تعالى أعطى لهذا الرّسول العظيم مواهب عظيمة، فمن وسيلة النقل السريعة جدّاً والتي إستطاع بواسطتها التنقّل في مملكته الواسعة في مدّة قصيرة، إلى المواد المعدنية المختلفة الكثيرة، إلى القوى العاملة الفعّالة الكافية لتصنيع تلك المعادن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في الحالة الاُولى يكون إعراب الآية كما يلي: "تبيّنت" فعل و "الجنّ" فاعل وجملة "أن لو كانوا ..." في محلّ مفعول به، وفي الحالة الثّانية "تبيّنت" فعل و "أمر الجنّ" فاعل ثمّ حذف المضاف وأصبح "المضاف إليه" في محلّه، وأن لو كانوا ... بيان وتوضيح للجملة.
[412]
وقد قام سليمان (عليه السلام) بالإستفادة من المواهب المذكورة، ببناء المعابد الضخمة، وترغيب الناس بالعبادة، وكذلك فقد نظّم برامج واسعة لإستضافة أفراد جيشه وعمّاله وسائر الناس في مملكته. ومن الأواني التي مرّ ذكرها يمكننا تخيّل أكثر من ذلك.
وفي قبال ذلك طالبه الله تعالى بأداء الشكر على هذه النعم، مع تأكيده سبحانه على أنّ أداء شكر النعم يتحقّق من فئة قليلة نادرة.
ثمّ اتّضح كيف أنّ رجلا بكلّ هذه القدرة والعظمة كان أمام الموت ضعيفاً لا حول له ولا قوّة، بحيث فارق الدنيا فجأةً وفي لحظة واحدة. نعم .. كيف أنّ الأجل لم يعطه حتّى فرصة الجلوس أو الإستلقاء على سريره. ذلك حتّى لا يتّوهم المغرورون العاصون حينما يبلغون مقاماً أو منصباً أن قد أصبحوا مقتدرين حقيقة، فإنّ المقتدر الحقيقي الذي كان الجنّ والإنس والشياطين خدماً بين يديه، والذي كان يجول في الأرض والسماء وقد بلغ قمّة الهيبة والحشمة .. ثمّ في لحظة قصيرة فارق الدنيا.
وإتّضح كذلك كيف أنّ عصاً تافهةً، أقامت جثمانه مدّة، وجعلت الجنّ يعملون بجد وإجتهاد وهم يلحظون جثمانه الواقف أو الجالس. ثمّ كيف أسقطته الأرضة على الأرض، وكيف إضطربت بسقوطه الدولة بكلّ مسؤوليها. نعم، عصاً تافهة أقامت دولةً عظيمة، ثمّ حشرة صغيرة أوقفت تلك الدولة!!
الجميل هو ما ورد في الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) إذ قال: "أمر سليمان بن داود الجنّ فصنعوا له قبّة من قوارير فبينا هو متكيء على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف ينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبّة قال له: من أنت، قال: أنا الذي لا أقبل الرشا ولا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه وهو قائم متكيء على عصاه في القبّة والجنّ ينظرون إليه. قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتّى بعث الله عزّوجلّ الأرضة فأكلت منسأته ـ وهي العصا ـ فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ
[413]
أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين" الحديث(1).
ويجب أن نذكّر هنا أيضاً، بأنّ قصّة النّبي سليمان (عليه السلام) ككثير من قصص الأنبياء، إختلطت مع الأسف بروايات كثيرة موضوعة وخرافات شوّهت صورة هذا النّبي العظيم، وأكثر هذه الخرافات أخذت من التوراة الرائجة اليوم، ولو إقتنعنا بما ورد في القرآن الكريم حول هذا النّبي لما واجهتنا أيّة مشكلة.
2 ـ لماذا خفي موت سليمان مدّة من الزمن؟
كم هي المدّة التي ظلّ فيها موت سليمان مخفياً عن حكومته، هل كانت سنة، أم شهراً، أم عدّة أيّام؟ إختلف المفسّرون حول هذا الموضوع.
هل أنّ الكتمان كان من قبل مقربيه الذين قصدوا من وراء ذلك تمشية اُمور الدولة، أم أنّهم هم الآخرون قد خفي عليهم ذلك؟
يبدو من المستبعد تماماً أن يخفى أمر وفاته عن حاشيته لمدّة طويلة، لا بل حتّى لأكثر من يوم واحد، لأنّ من المسلّم أنّ هناك أفراداً كانوا مكلّفين بإيصال إحتياجاته وغذائه إليه، وهؤلاء سيعلمون بموته حتماً، وعليه فلا يستبعد ـ كما قال بعض المفسّرين ـ أنّهم علموا بأمر موته، لكنّهم أخفوا ذلك الأمر لغايات معيّنة، لذا فقد ورد في بعض الروايات بأنّ "آصف بن برخيا" وزير سليمان الخاص، هو الذي كان يدير اُمور الدولة.
ألم تشكّل مسألة عدم تناول الطعام والماء لمدّة طويلة تساؤلا لدى ناظريه؟
مع اليقين بأنّ كلّ أعمال سليمان (عليه السلام) كانت عجيبة، فيمكن إعتبار هذه المسألة من عجائبه أيضاً، وحتّى أنّه ورد في بعض الروايات أنّه بعد مدّة من بقاء سليمان(عليه السلام) على حاله كثر الهمس بين البعض في وجوب عيادة سليمان، لأنّه على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ علل الشرائع، طبقاً لنقل الميزان، ج16، ص366.
[414]
حاله منذ مدّة لم يتحرّك ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم(1). ولكن حينما تحطّمت العصا، وسقط الجثمان على الأرض تبدّدت كلّ هذه الأفكار والأوهام.
على كلّ حال، فإنّ تأخير إعلان موت سليمان (عليه السلام) كشف كثيراً من الاُمور:
1 ـ اتّضح للجميع أنّ الإنسان حتّى إذا بلغ أوج القدرة والقوّة، فلا يزال هو الموجود الضعيف قبال الحوادث، كالقشّة في خضمّ الطوفان يتقاذفها في كلّ جانب.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) في إحدى خطبه "فلو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سلماً أو لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود (عليهما السلام) الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة"(2).
2 ـ اتّضح للجميع أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب، والمغفّلين من البشر الذين كانوا يعبدونهم كانوا على خطأ فادح.
3 ـ اتّضحت لجميع الناس أيضاً حقيقة إمكان أن يرتبط نظام دولة بموضوع صغير، بوجوده يمكن أن يقوم هذا النظام، وبإنهياره ينهار هذا النظام، ومن وراء ذلك تجلّت القدرة اللا متناهية للباري عزّوجلّ.
3 ـ سليمان في القرآن والتوراة الحالية
يصوّر القرآن سليمان بصورة نبي عظيم، ذي علم وافر، وتقوى عالية، لم يأسره المقام والمال أبداً، مع كلّ ما كان له من سلطة في حكومة عظيمة، وقال حينما أرسلت ملكة سبأ ـ لخداعه ـ هدايا نفيسة وثمينة (أتمدونن بمال فما آتاني الله خير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، ج3، ص345.
2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 182.
[415]
ممّا آتاكم)(1) لم يكن لهم من هم سوى أداء الشكر لله على نعمه (وقال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي ...)(2).
قائد لم يسمح بظلم نملة حينما قالت وهم في وادي النمل: (ياأيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)(3).
كان "عابداً" إذا غفل عن ذكر ربّه أو شغل بالدنيا عاد منيباً وهو يقول: (إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي ..)(4).
كان "حكيماً" لم يجانب المنطق في قول، حتّى في حديثه مع الهدهد، لم يتخلّ عن الحقّ والعدالة.
كان "حاكماً" له من المعاونين من له من علم الكتاب ما استطاع به إحضار عرش بلقيس في أقلّ من طرفة عين.
وقد وصفه القرآن الكريم بـ "الأوّاب" و "نعم العبد".
شخص أعطاه الله "الحكم" و "العلم" وشمله بهدايته، ولم يشرك بالله طرفة عين أبداً.
لكنّنا نجد أنّ التوراة الحالية المحرّفة، قد لوّثت صفحة هذا النّبي العظيم بالشرك وغيره، فقد نسبت إليه أسوأ الأوصاف فيما يخصّ بناء المعابد الوثنية، والترويج لعبادة الأوثان، والولع المفرط بالنساء، وتعبيرات قبيحة جدّاً من أوصاف العشّاق المبتذلين، التي نخجل عن ذكرها.
ونكتفي بذكر بعض ما ورد في التوراة من الأساطير الأهون قبحاً، ففي الكتاب الأوّل للملوك من التوراة نقرأ ما يلي:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النمل، 36.
2 ـ النمل، 19.
3 ـ النمل ـ 18.
4 ـ سورة ص، 32.
[416]
"وأولع سليمان بنساء غريبات كثيرات فضلا عن إبنة فرعون، فتزوّج نساء موآبيات وعمّونيّات وأدوميات وصيدونيات وحثيات، وكلّهنّ من بنات الاُمم التي نهى الربّ بني إسرائيل عن الزواج منهنّ قائلا لهم: "لا تتزوّجوا منهم ولا هم منكم لأنّهم يغوون قلوبكم وراء آلهتهم" ولكن سليمان التصق بهنّ لفرط محبّته لهنّ، فكانت له سبع مائة زوجة، وثلاث مئة محضية، فانحرفن بقلبه عن الربّ فاستطعن في زمن شيخوخته أن يغوين قلبه وراء آلهة اُخرى، فلم يكن قلبه مستقيماً مع الربّ إلهه كقلب داود أبيه، وما لبث أن عبد عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم إله العمونيين البغيض، وإرتكب الشرّ في عيني الربّ، ولم يتّبع سبيل الربّ بكمال كما فعل أبوه داود، وأقام على تلّ شرقي اورشليم مرتفعاً تكموش إله الموآبيين الفاسق. ولمولك إله بني عمون البغيض، وشيّد مرتفعات لجميع نسائه الغربيات، اللواتي رحن يوقدن البخور عليها، ويقربن المحرّقات لآلهتهنّ فغضب الربّ على سليمان لأنّ قلبه ضلّ عنه مع أنّه تجلّى له مرّتين ونهاه عن الغواية وراء آلهة اُخرى، فلم يطع وصيّته، لهذا قال الله لسليمان! لأنّك إنحرفت عنّي ونكثت عهدي، ولم تطع فرائضي التي أوصيتك بها، فانّي حتماً اُمزّق أوصال مملكتك واُعطيها لأحد عبيدك، إلاّ أنّني لا أفعل ذلك في أيّامك، من أجل داود أبيك، بل من يد إبنك اُمزّقها، غير أنّي اُبقي له سبطاً واحداً يملك عليه إكراماً لداود عبدي ..."(1).
ومن مجموع هذه القصّة الخرافية للتوراة يتّضح ما يلي:
1 ـ إنّ سليمان كان يحبّ كثيراً النساء الوثنيات، وتزوّج بكثير منهنّ على خلاف أوامر الله تعالى، وتدريجيّاً مال إلى دينهنّ، وبالرغم من كثرة نسائه (700 زوجة و300 محضية) فانّ حبّه لهنّ أدّى إلى إنحرافه عن طريق الحقّ (نعوذ بالله).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التوراة كتاب الملوك الأوّل ـ الفصل 11 ـ 12 ـ زوجات سليمان.
[417]
2 ـ إنّ سليمان أمر بصراحة ببناء معابد للأوثان فوق الجبل المقابل لأورشليم المركز الديني المقدّس لبني إسرائيل، وأحد المعابد كان لصنم "كموش" الذي يعبده الموآبيون، والآخر لصنم "عشترون" الذي كان يعبده الصيداويون. وكلّ ذلك حدث في أيّام شيخوخته.
3 ـ إنّ الله تعالى قرّر عقوبة سليمان بسبب إنحرافه وذنوبه الكبيرة بأن يفقد مملكته، ولكن لا من يده، بل من يد إبنه "رحبعام" ويتركه إلى آخر عمره يلعب ويعبث كيفما شاء من أجل أبيه داود العبد المخلص، أي ذلك العبد الذي تقول التوراة عنه انّه إرتكب قتل النفس وزنا المحصنة والإستيلاء على زوجة قائد جيشه المتفاني!! فهل يمكن تصديق مثل هذه التّهم ضدّ رجل مقدّس مثل سليمان؟!
ولو فرضنا أنّ سليمان لم يكن نبيّاً ـ كما يصرّح القرآن بذلك ـ وقلنا بأنّه من ملوك بني إسرائيل، فمع ذلك لا يمكن تصديق مثل هذه التّهم في حقّه، لأنّه لو لم يكن نبيّاً فلا أقل من أنّ مرتبته كانت تالية لمرتبة النّبي، لأنّ له كتابين من كتب العهد القديم أحدها يدعى: "مواعظ سليمان" والآخر "أشعار سليمان".
وأساساً كيف يجيب اليهود والنصارى الذين يعتقدون بهذه التوراة الحالية على هذه الأسئلة والإشكالات؟ وكيف يتسنّى لهم قبول مثل هذه الفضائح؟!
4 ـ وقليل من عبادي الشكور
قبل كلّ شيء يلزم البحث في الأصل اللغوي لكلمة "شُكر".
الراغب الأصفهاني يقول في مفرداته، الشكر: تصوّر النعمة وإظهارها، قيل وهو مقلوب عن "الكشر" أي الكشف، ويضادّه الكفر، وهو نسيان النعمة وسترها، "ودابة شكور" مظهرة بسمنها إسداء صاحبها إليها. وقيل أصله عين شكرى، أي ممتلئة فالشكر على هذا هو الإمتلاء من ذكر المنعم عليه.
[418]
والشكر ثلاثة أضرب: شكر القلب، وهو تصوّر النعمة. وشكر اللسان، وهو الثناء على المنعم، وشكر سائر الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقدر إستحقاقها.
التعبير القرآني في الآية (اعملوا آل داود شكراً) يشير إلى أنّ الشكر أكثر من مقولة، إنّه "عمل"، ويجب أن يظهر من بين أعمال الإنسان، وعليه فقد يكون القرآن الكريم قد عدّ الشاكرين الحقيقيين قلّة لهذا السبب. وفضلا عمّا ورد في هذه الآيات فإنّ في الآية (23) من سورة الملك، ذكر بعد تعداد بعض النعم الإلهية العظيمة، كخلق السمع والبصر والقلب، ذكر (قليلا ما تشكرون)، وكذا في الآية (73) من سورة النمل ورد (ولكن أكثرهم لا يشكرون). هذا من جانب.
ومن جانب آخر فمع الإلتفات إلى أنّ الإنسان غارق من رأسه حتّى أخمص قدميه بنعم الله التي لا تعدّ ولا تحصى، كما عبّر عن ذلك القرآن الكريم (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها) يتّضح لماذا يمتنع الشكر كما ينبغي لله قبال جميع النعم التي أفاضها الباري جلّ وعلا.
بتعبير آخر، وكما ورد على لسان بعض كبار المفسّرين، فإنّ "الشكر المطلق"، هو أن يكون الإنسان على ذكر دائم لله بلا أدنى نسيان، سائراً في طريقه تعالى بدون أيّة معصية، طائعاً لأوامره بلا أدنى لفّ أو دوران، ومسلّم بأنّ هذه الأوصاف لا تجتمع إلاّ في القلّة النادرة، ولا يصغى إلى قول من يقول: إنّه أمر بما لا يطاق، فإنّه ناشىء من قلّة التدبّر في هذه الحقائق والبعد من ساحة العبودية(1).
قد يقال: إنّ أداء حقّ الشكر لله سبحانه وتعالى قضيّة معقّدة بلحاظ إنّه في الوقت الذي يقف فيه الإنسان في مقام الشكر ويوفّق لذلك، بأن تتوفّر لديه أسباب أداء الشكر، فإنّ ذلك بحدّ ذاته نعمة جديدة تحتاج إلى شكر آخر، وبذا يستمرّ هذا الموضوع بشكل متتابع، وكلّما بذل الإنسان جهداً أكثر في طريق الشكر سيكون مشمولا بنعمة متزايدة لا يمكنه معها أداء شكرها. لكن إذا إنتبهنا أنّ أحد طرق أداء
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الميزان، ج4، ص38.
[419]
الشكر لله هو بإظهار العجز عن أدائه كما بيّن القرآن الكريم يتّضح حقيقة قلّة الشاكرين وملاحظة الأحاديث التالية تساعد في توضيح هذا المطلب.
فعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله الصادق (عليه السلام): هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكراً؟ قال: "نعم" قلت: ما هو؟ قال: يحمد الله على كلّ نعمة عليه في أهل ومال، وإن كان فيما أنعم عليه في ماله حقّ أدّاه"(1).
وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "شكر النعمة إجتناب المحارم"(2).
وعن الإمام أبو عبدالله الصادق (عليه السلام) أيضاً قال: "فيما أوحى الله عزّوجلّ إلى موسى (عليه السلام): ياموسى أشكرني حقّ شكري، فقال: ياربّ وكيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلاّ وأنت أنعمت به عليّ؟ قال: ياموسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي"(3).
نلفت النظر كذلك إلى أنّ شكر الإنسان الذي يكون وسيلة للنعمة لشخص آخر، هو شعبة من شكر الله، وكما ورد عن علي بن الحسين السجّاد (عليه السلام) قوله: إنّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ويحبّ كلّ عبد شكور، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟ فيقول: بل شكرتك ياربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثمّ قال: أشكركم لله أشكركم للناس"(4).
وفيما يخصّ موضوع (حقيقة الشكر) وكيف يكون الشكر سبباً في زيادة النعمة، وكيف يكون الكفر سبباً في ذهابها وفنائها، هناك شرح مفصّل في تفسير الآية السابعة من سورة إبراهيم.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الكافي، ج2، باب الشكر، ص95، ح12 و ح10.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ الكافي، ج2، باب الشكر، ص98، ح27.
4 ـ الكافي، ج2، باب الشكر، ص99، ح30.
[420]
الآيات
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإِ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِين وَشِمَال كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَىْء مِّن سِدْر قَلِيل(16) ذَلِكَ جَزَيْنَـهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَـزِى إِلاَّ الْكَفُورَ(17)
التّفسير
المدينة الراقية التي أضاعها الكفران:
بعد أن تطرّقت الآيات السابقة إلى توضيح النعم الإلهية العظيمة التي أولاها الله داود وسليمان (عليهما السلام)، وأداء هذين النّبيين العظيمين وظيفتهما بالشكر، تنتقل الآيات أعلاه إلى الحديث عن قوم آخرين يمثّلون الموقف المقابل للموقف السابق، ويحتمل أن يكونوا قد عاصروا داود وسليمان أو عاشوا بعدهما بفترة قليلة .. قوم شملهم الله بأنواع النعم، ولكنّهم سلكوا طريق الكفران، فسلبهم الله ذلك، ومزّقهم شرّ ممزّق، حتّى أصبح ما حلّ بهم عبرةً للعالمين، اُولئك كانوا "قوم سبأ".
عرض القرآن المجيد تأريخ "قوم سبأ" من خلال خمس آيات، وأشار
[421]
بإختصار إلى بعض خصوصيات وجزئيات حياتهم.
يقول تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية).
وكما سنرى فإنّ عظمة هذه الآية تنبع من أنّهم بالإستفادة من خصوصيات موقعهم وطريقة إحاطة الجبال بمنطقة سكناهم وبالذكاء العالي الذي وهبهم الله، إستطاعوا حصر مياه السيول ـ التي لا تخلف وراءها إلاّ الدمار ـ خلف سدٍّ عظيم، وبذا عمّروا دولة رفيعة التمدّن، فكانت آية عظيمة أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى عامل رئيسي من عوامل العمران والتمدّن!!
"سبأ" اسم من؟ وما هي؟. الموضوع مورد أخذ وردّ بين المؤرخين، ولكن المشهور هو أنّ "سبأ" اسم "أبي العرب" في اليمن، وطبقاً للرواية الواردة عن "فروة بن مسيك" أنّه قال: "سألت رسول الله عن "سبأ" أرجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد له عشرة، تيامن منهم ستّة وتشاءم منهم أربعة، فأمّا الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وأنمار ومجد. فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأمّا الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان. فالمراد بسبأ هاهنا القبيلة الذين هم أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"(1).
وبعضهم ذهب إلى أنّ "سبأ" اسم لأرض اليمن أو لإحدى مناطقها. وظاهر الآيات القرآنية التي تحدّثت في قصّة سليمان (عليه السلام) و (الهدهد) أشارت إلى هذا المعنى أيضاً ففي الآية (22) من سورة النمل، يقول تعالى على لسان الهدهد: (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) يعني لقد جئتك من أرض سبأ بنبأ يقين.
في حال أنّ ظاهر الآية مورد البحث هو أنّ "سبأ" كانوا "قوماً" عاشوا في تلك المنطقة، بلحاظ أنّ ضمير "هم" في "مساكنهم" يعود عليهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، ج8، ص385 ـ 386.
[422]
ولا منافاة بين التّفسيرين لأنّ من الممكن أن يكون "سبأ" اسم شخص ابتداءً، ثمّ بعدئذ سمّي كلّ أولاده وقومه من بعده باسمه، ثمّ إنتقل الاسم ليشمل مكان سكناهم.
تنتقل الآية بعد ذلك لتجلّي الموقف عن تلك الموهبة الإلهية التي وضعت بين يدي قوم سبأ. فيقول تعالى: (جنّتان عن يمين وشمال).
ما حصل هو أنّ قوم سبأ إستطاعوا ـ ببناء سدٍّ عظيم بين الجبال الرئيسية في منطقتهم ـ حصر مياه السيول المدمّرة أو الضائعة هدراً على الأقل، والإفادة منها .. وبإحداث منافذ في ذلك السدّ سيطروا تماماً على ذلك الخزّان المائي الهائل، وبالتحكّم فيه تمكّنوا من زراعة مساحات شاسعة من الأرض.
الإشكال الذي أثاره (الفخر الرازي) هو: ما هي أهميّة وجود مزرعتين لكي يذكر ذلك في آية مستقلّة؟ ثمّ يقول في الجواب أنّ هاتين المزرعتين لم تكونا عاديتين، بل إنّهما عبارة عن سلسلة من رياض المترابطة مع بعضها البعض والممتدة على جانبي نهر عظيم يتغذّى من ذلك السدّ العظيم. وكانت تلك الرياض مليئة بالبركات إلى درجة أنّه ورد في كتب التأريخ عنها، أن لو مرّ شخص يحمل على رأسه سلّة فارغة من تحت أشجار تلك المزارع في فصل نضوج الأثمار فانّها تمتلىء بسرعة نتيجة ما يتساقط من تلك الأثمار الناضجة.
أليس من العجيب إذاً أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى سبب رئيسي للعمران بذلك الشكل المدهش؟ ثمّ ألا يعدّ ذلك من عجائب آيات الله سبحانه وتعالى؟
وعلاوة على كلّ ذلك ـ وكما سترد الإشارة إليه في الآيات الآتية ـ فإنّ من آيات الله أيضاً ذلك الأمن والأمان غير العاديين اللذين شملا تلك الأرض.
ثمّ يضيف القرآن: (كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدةً طيّبة وربّ
[423]
غفور)(1)(2).
هذه الجملة القصيرة تصوّر مجموعة النعم المادية والمعنوية بأجمل تعابير، فبلحاظ النعم المادية أرض طيّبة خالية من الأمراض المختلفة، من السراق والظلمة، من الآفات والبلايا، من الجفاف والقحط، من الخوف والوحشة، وقيل خالية حتّى من الحشرات المؤذية.
هواء نقي، ونسيم يبعث على السرور، أرض معطاءة وأشجار وافرة الثمر.
وأمّا بلحاظ النعم المعنوية فمغفرة الله التي شملتهم، والتغاضي عن تقصيرهم، وصرف البلاء والعذاب عنهم وعن بلدتهم.
ولكن هؤلاء الجاحدين غير الشكورين. لم يقدّروا تلك النعمة حّق قدرها. ولم يخرجوا من بوتقة الإمتحان بسلام، سلكوا طريق الإعراض والكفران، فقرّعهم الله أيّما تقريع!!
قال تعالى: (فاعرضوا) استهانوا بنعمة الله، توهّموا بأنّ العمران والمدنية والأمن أشياء عادية، نسوا الله، وأسكرتهم النعمة، وتفاخر الأغنياء على الفقراء، وظنّوا أنّهم يزاحمونهم في أرزاقهم ـ كما سيرد في الآيات اللاحقة ـ .
وهنا مسّهم سوط الجزاء، يقول تعالى: (فأرسلنا عليهم سيل العرم) فدمّر بيوتهم ومزارعهم وحوّلها إلى خرائب ..
"العرم": من "العرامة" وهي شراسة وصعوبة في الخلق تظهر بالفعل، ووصف "السيل" بالعرم إشارة إلى شدّته وقابليته على التدمير. وتعبير "سيل العرم" من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.
وقيل: "العرم" الجرذان الصحراوية، وهي التي سبّبت إنهيار السدّ بنفوذها فيه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "بلدة": خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذه بلدة طيّبة وهذا ربّ غفور.
2 ـ يمكن أن يكون هذا الخطاب الإلهي لهؤلاء القوم على أحد إحتمالين، فإمّا أن يكون قد أبلغ ذلك بواسطة الأنبياء المبعوثين منهم، كما قال به بعض المفسّرين، أو أنّ هذه النعم كانت توصل إلى إدراكهم مثل هذا الخطاب.
[424]
(قصّة نفوذ الجرذان الصحراوية في السدّ، مع كونها ممكنة ـ كما سيرد شرحه فيما بعد ـ لكن تعبير الآية ليس فيه أدنى تناسب مع هذا المعنى).
في "لسان العرب"، مادّة "عرم" وردت معان مختلفة من جملتها "السيل الذي لا يطاق" ومنه قوله تعالى "الآية"، وقيل: إضافة إلى المسنّاة أو السدّ، وقيل: إلى الفأر(1).
ولكن أنسب التفاسير هو الأوّل، وهو الذي إعتمده ـ أيضاً ـ علي بن إبراهيم في تفسيره.
بعدئذ يصف القرآن الكريم عاقبة هذه الأرض كما يلي: (وبدلّناهم بجنتيهم جنّتين ذواتي أُكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل).
"أُكل": بمعنى الطعام.
"خمط": بمعنى النبات المرّ وهو "الأراك".
"أثل": شجر معروف.
وبذا يكون قد نبت محلّ تلك الأشجار الخضراء المثمرة، أشجار صحراوية غليظة ليست ذات قيمة، والتي قد يكون "السدر" أهمّها، وهذا أيضاً كان نادراً بينها. ولك ـ أيّها القارىء ـ أن تتخيّل أي بلاء حلّ بهؤلاء وبأرضهم؟!
ولعلّ ذكر هذه الأنواع الثلاثة من الأشجار التي بقيت في تلك الأرض المدمّرة إشارة إلى ثلاثة اُمور: أحدها قبيح المنظر، والثّاني لا نفع فيه، والثالث له منفعة قليلة جدّاً.
يقول تعالى في الآية التالية بصراحة وكتلخيص وإستنتاج لهذه القصّة (ذلك جزيناهم بما كفروا).
ويجب أن لا يتبادر إلى الذهن بأنّ هذا المصير يخصّ هؤلاء القوم، بل إنّ من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لسان العرب مادّة "عرم" ج12، ص396.
[425]
المسلّم أنّه يعمّ كلّ من كانت لهم أعمال شبيهة بأعمال هؤلاء. وهكذا تضيف الآية (وهل نجازي إلاّ الكفور).
كان هذا مختصراً عن مصير "قوم سبأ" الذي سنفصّله أكثر في تفسير الآيات اللاحقة.
* * *
[426]
الآيتان
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَـرَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَـهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ(18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَـعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَـهُمْ كُلَّ مُمَزَّق إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـت لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور(19)
التّفسير
(فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كلّ ممزّق !!)
تعود هذه الآيات إلى قصّة قوم سبأ مرّة اُخرى، وتعطي شرحاً وتفصيلا أكثر حولهم وحول العقاب الذي حلّ بهم. ليكون درساً بليغاً وتربوياً لكلّ سامع.
يقول تعالى: لقد عمّرنا أرضهم إلى حدّ أنّ النعمة لم تغطّها وحدها، بل (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرة). فقد جعلنا بينهم وبين الأرض المباركة مدائن وقرىً اُخرى متّصلة بفواصل قليلة إلى درجة أنّ القرية ترى من القرية الثّانية.
بعض المفسّرين قالوا في تفسير "قرى ظاهرة" بأنّها إشارة إلى القرى التي كانت تظهر للعيان من جادّة المسير بشكل واضح، ويستطيع المسافرون التوقّف فيها، أو
[427]
أنّها القرى التي كانت على مرتفعات من الأرض فكانت واضحة للعابرين.
أمّا ما هي "الأرض المباركة"؟ فقد أجمع أغلب المفسّرين على أنّها "أرض الشام" (سوريا وفلسطين والأردن)، لأنّ هذا التعبير اُطلق على نفس هذه المنطقة في الآية الاُولى من سورة الإسراء، والآية (81) من سورة الأنبياء.
ولكن بعض المفسّرين إحتمل أنّ المقصود منها هو "صنعاء" أو "مأرب" وكلتاهما كانتا في اليمن، ولا يستبعد هذا التّفسير، لأنّ المسافة بين (اليمن) الواقعة في أقصى جنوب الجزيرة العربية، و (الشام) الواقعة في أقصى شمالها، شاسعة ومليئة بالصحاري اليابسة المقفرة ممّا يجعل تفسير الأرض المباركة هنا (بالشام) بعيداً جدّاً، ولم ينقل في التواريخ ما يشير إلى ذلك.
بعضهم إحتمل أيضاً أن يكون المقصود (بالأرض المباركة). (مكّة) وهو بعيد أيضاً.
هذا من جهة العمران، ولكن العمران وحده لا يكفي، بل إنّ شرطه الأساسي هو "الأمان"، ولذلك تضيف الآية (وقدّرنا فيها السير) أي جعلنا بينها فواصل معتدلة. (سيروا فيها ليالي وأيّاماً آمنين).
وبهذا فإنّ الفواصل والمسافات بين القرى كانت متناسقة محسوبة، وكذلك فإنّها طرق محفوظة من حملات الضواري أو السرّاق أو قطّاع الطرق. بحيث أنّ الناس كانوا يسافرون خلال هذه الطرق. بلا زاد أو دواب وبلا إستفادة من الحراس المسلّحين، ولم يكونوا يخافون من حوادث الطريق أو قلّة الماء والزاد لديهم.
أمّا بأيّة وسيلة تمّ إبلاغ هذه الرسالة للناس (سيروا فيها) الآية، يرد أيضاً الإحتمالان بأن يكون ذلك بواسطة أحد الأنبياء (عليهم السلام)، أو أنّ ظاهر حال المنطقة كان يوصل هذا المعنى إلى وجدانهم.
تقديم "الليالي" على "الأيّام" قد يكون بلحاظ أنّ وجود الأمن في الليل من
[428]
السرّاق أو الوحوش أهمّ منه في النهار الذي تسهل معه مهمّة الأمن.
ولكن هؤلاء جحدوا نعم الله العظيمة التي شملت كلّ مناحي حياتهم ـ كما هو الحال بالنسبة لغيرهم من الأقوام المتنّعمة ـ ولبسهم الغرور، وأحاطت بهم الغفلة ونشوة النعيم وعدم لياقتهم له، فاسلكتهم طريق الكفران وعدم الشكر، وإنحرفوا عن الصراط وتركوا أوامر الله خلف ظهورهم.
فمن جملة مطالبهم العجيبة من الله، (فقالوا ربّنا باعد بين أسفارنا).
أي طلبوا أن يجعل الله المسافات بين قراهم طويلة، كي لا يستطيع الفقراء السفر جنباً إلى جنب مع الأغنياء، ومقصودهم هو أن تكون بين القرى ـ كما أسلفنا ـ فواصل صحراوية شاسعة، حتّى لا يستطيع الفقراء ومتوسّطو الحال الإقدام على السفر بلا زاد أو ماء أو مركّب، وبذا يكون السفر أحد مفاخر الأغنياء وعلامة على القدرة والثروة، ووجوب أن يظهر هذا الإمتياز ويثبت لدى الجميع.
أو أنّهم ملّوا من الراحة والرفاه، كما ملّ بنو إسرائيل من (المنّ والسلوى) (الغذاء السماوي) وطلبوا من الله البصل والثوم والعدس.
بعضهم إحتمل أيضاً أن يكون المقصود بعبارة (باعد بين أسفارنا) أنّهم أصبحوا كسالى إلى درجة لم يكونوا معها حاضرين للسفر لغرض رعي الحيوانات أو التجارة أو الزراعة، ولذا طلبوا من الله أن يبقيهم في وطنهم دائماً ويباعد بين السفرة والاُخرى. ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أفضل.
على كلّ حال فإنّهم بهذا العمل أوقعوا الظلم على أنفسهم (وظلموا أنفسهم).
نعم، فإن كانوا يظنّون أنّهم إنّما يظلمون غيرهم فقد اشتبهوا، إذ أنّهم قد استلّوا خنجراً ومزّقوا به صدورهم، ودخّان النار التي أسعروها أعمى عيونهم.
ويا له من تعبير رائع، ذلك الذي أوضح به القرآن الكريم مصيرهم المؤلم، حيث يقول: إنّنا جازيناهم ودمّرنا بلادهم ومعيشتهم بحيث: (فجعلنا أحاديث).
نعم فلم يبق من تلك الحياة المرفّهة، والتمدّن العريض المشرق، إلاّ أخبار على
[429]
الألسن، وذكريات في الخواطر، وكلمات على صفحات التاريخ (ومزّقناهم كلّ ممزّق).
كيف دمّرنا أرضهم بحيث سلبت منهم معها قدرة البقاء فيها، وبذا أصبحوا مجبرين على أن يتفرّقوا كلّ مجموعة إلى جهة لإدامة حياتهم، ونُثروا كما تنثر أوراق الخريف التي عصفت بها الريح حتّى أضحى تفرّقهم مثلا يضرب فقيل: "تفرّقوا أيادي سبأ"(1).
وكما قال بعض المفسّرين، فقد ذهبت قبيلة (غسّان) إلى الشام، و (أسد) إلى عمان، و (خزاعة) إلى جهة تهامة، و (أنمار) إلى يثرب(2).
وفي ختام الآية يقول تعالى: (إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبّار شكور)، لأنّ الصابرين والشاكرين وحدهم يستطيعون الإعتبار ممّا جرى، خصوصاً مع ملاحظة أنّ كلاًّ من (صبّار) و (شكور) هي صيغة مبالغة. ذلك لكونهم بصبرهم وإستقامتهم يتمكّنون من الإمساك بزمام مركب الهوى والهوس الجموح، ويقفون بوجه المعاصي، وبشكرهم لله تعالى في طريق طاعته فإنّهم مرتبطون به ويقظون، وعليه فإنّهم يأخذون العبرة بشكل جيّد، أمّا اُولئك الذين ركبوا سفينة الهوى وتجاهلوا نعم الله عليهم فكيف يمكنهم أخذ العبرة ممّا جرى؟
* * *
بحوث
1 ـ المصير المذهل لقوم سبأ!!
يستفاد ممّا ورد في القرآن الكريم والروايات، وكذلك كتب التاريخ، بأنّ "قوم سبأ" كانوا يقطنون جنوب الجزيرة، وكانت لهم حكومة راقية، وحضارة خلاّبة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نقل هذا المثل على صورتين "تفرّقوا أيدي سبأ" و "أيادي سبأ"، ففي الشكل الأوّل إشارة إلى التمزّق البشري، والشكل الثّاني إشارة إلى تمزّق الأموال والنعم والإمكانات، لأنّ "أيادي" عادةً تستعمل بمعنى النعم.
2 ـ تفسير القرطبي وتفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآيات مورد البحث.
[430]
ورغم أنّ أرض (اليمن) كانت واسعة وصالحة للزراعة، إلاّ أنّه من إستغلالها لعدم وجود نهر مهمّ في تلك المنطقة، كما أنّ مياه الأمطار ـ التي كانت تهطل بغزارة على قمم الجبال كانت تذهب هدراً في هضاب وصحاري تلك المنطقة. ولكن أهل تلك المنطقة الأذكياء فكّروا في كيفية الإستفادة من تلك المياه المهدورة، فبنوا لهذا الغرض عدداً من السدود في النقاط الحسّاسة كان أهمّها وأكثرها مخزوناً "سدّ مأرب".
"مأرب" بلدة صغيرة تقع عند إنتهاء إحدى ممرّات السيول تلك، وكانت تمرّ سيول جبال "صراة" العظيمة من جنبها، وفي فم هذا المضيق وبين جبلي "بلق" بنوا سدّاً عظيماً قوياً، وأوجدوا فيه منافذ كثيرة للماء، وقد إستطاع هذا السدّ خزن كميّات هائلة من الماء خلفه إلى درجة أنّهم إستطاعوا ـ بالإستفادة من ذخيرته ـ إحداث جنّات جميلة جدّاً، وبساتين مملوءة بالبركة على طرفي النهر الوارد إبتداءً من مصبّ السدّ.
وكما ذكرنا سابقاً فإنّ القرى المأهولة في تلك الأرض كانت شبه متّصلة ببعضها، بحيث أنّ ظلال الأشجار كانت تتواصل مع بعضها البعض، وكانت الأشجار محمّلة بكميّات كبيرة من الثمار حتّى أنّ من يمرّ تحتها بسلّته الخالية يخرج بعد مدّة قصيرة بسلّة ممتلئة تلقائياً، وفور النعمة ـ ممزوجاً بالأمان ـ هيّأ محيطاً مرفّهاً لحياة طاهرة، محيطاً نموذجياً لطاعة الله، والتكامل المعنوي، ولكنّهم لم يقدّروا النعمة حقّ قدرها، فنسوا الله، وجحدوا النعمة، وانشغلوا بالتفاخر والعناوين والمستوى الإجتماعي.
ورد في بعض كتب التاريخ بأنّ الجرذان الصحراوية، بعيداً عن مرأى هؤلاء المغرورين السكارى، كانت تتّخذ لها جحوراً في ذلك السدّ الترابي، وتنخره من الداخل، وفجأةً هطلت أمطار غزيرة وتجمّعت لتشكّل سيولا عظيمة، تراكمت خلف ذلك السدّ الذي لم يعدّ حينها مؤهّلا لتحمّل الضغط الشديد من تلك الكمّيات
[431]
الهائلة، وما هي إلاّ لحظة حتّى إنهار هذا السدّ ليضع النهاية لتلك الحياة الزاهية، ودمّر القرى المعمورة، الجنان، المزارع، المحاصيل، قضى على الحيوانات، هدّم القصور والبيوت الجميلة الجذّابة، وتحوّلت تلك الأرض الحيّة إلى صحراء جافّة لا ماء فيها ولا كلأ، ولم يبق من تلك الجنان والأشجار المثمرة إلاّ شجر (الأراك) المرّ، و (شجر المنّ) وقليل من (السدر)، وهاجرت الطيور المغردة ليحلّ محلّها البوم والغربان ...(1).
نعم، حينما يريد الله سبحانه وتعالى إظهار قدرته، فإنّه يدمّر مدينة راقية بعدد من الفئران حتّى يتّضح للعباد مدى ضعفهم ولا يغترّوا بقدرتهم مهما بلغت.
2 ـ الإعجاز القرآني التأريخي
أورد القرآن الكريم قصّة "قوم سبأ" في الوقت الذي كان المؤرخّون لا يعلمون شيئاً عن وجود هؤلاء القوم، وعن مثل تلك المدنيّة. والملفت للنظر أنّ المؤرخّين قبل الإكتشافات الحديثة، لم يذكروا شيئاً حول سلسلة ملوك سبأ والمدنية العظيمة لهم، وإعتقدوا فقط بأنّ (سبأ) هو شخص إفتراضي، عرف كأب مؤسّس لدولة "حمير"، في حين أنّ القرآن الكريم أفرد سورة كاملة باسم هؤلاء القوم وأشار إلى أحد مظاهر مدينتهم وهو بناؤهم (لسدّ مأرب) التأريخي.
ولكن بعد الكشوف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم في اليمن، تغيّرت أفكار علماء التأريخ. والسبب في تأخّر الكشف عن الآثار التأريخية لهؤلاء القوم يعود إلى:
1 ـ صعوبة الطريق المؤدّية إلى مناطق التنقيب وشدّة حرارة الجو هناك.
2 ـ تنفّر سكنة المنطقة حالياً من الأجانب، ممّا جعل الأوربيين غير المطّلعين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ إقتباس من تفسير مجمع البيان وقصص القرآن وتفاسير اُخرى.
[432]
وغير العارفين يطلقون صفة "التوحّش" على هذه الأحاسيس الصادرة من أهل المنطقة، حتّى إستطاع عدّة معدودة من علماء الآثار يدفعهم التعلّق الشديد بكشف الأسرار الأثرية النفوذ إلى قلب مدينة "مأرب" وما حولها. وإكتشفوا مجموعة من الأحجار الحاوية للخطوط والنقوش الكثيرة، وبعد ذلك تعاقبت مجاميع المنقّبين في القرن التاسع عشر الميلادي ناقلين معهم في كلّ مرّة مجموعة من النقوش والخطوط والآثار، وبالإستفادة من تلك الآثار، التي ناهزت الألف أثر، أطلع العلماء على جزئيات وخصوصيات حضارة هؤلاء القوم، وعلى تأريخ بناء "سدّ مأرب" وخصوصيات اُخرى، وثبت للغربيين بأنّ ما ذكره القرآن الكريم بهذا الخصوص لم يكن اُسطورة، بل واقع تاريخي لم يكونوا قد اطّلعوا عليه، وبعد ذلك إستطاعوا رسم مخطّط كامل لذلك السدّ العظيم وتشخيص منافذ عبور المياه فيه، والجداول الخاصّة بالبساتين والمزارع يميناً وشمالا وسائر خصوصيات المنطقة الاُخرى.
3 ـ لفتات هامّة للعبرة في قصّة قصيرة
إنّ التعرّض لسرد قصّة قوم سبأ بعد قصّة سليمان (عليه السلام) له مفهوم خاصّ:
1 ـ إنّ داود وسليمان (عليهما السلام) كانا نبيّين عظيمين إستطاعا تشكيل حكومة قويّة، وإيجاد حضارة مشرقة تلاشت بوفاتهم، وكذلك الحضارة الكبرى التي أقامها قوم سبأ تلاشت بإنهيار سدّ مأرب!!
والجدير بالملاحظة أنّ الروايات تشير إلى أن عصا سليمان (عليه السلام) أكلتها حشرة "الأُرضة"، كما أنّ سدّ مأرب نخرته الجرذان الصحراوية، كي يعلم هذا الإنسان المغرور بأنّ النعم المادية مهما كانت عظيمة ومصدراً للخير، فإنّها أحياناً تتلاشى بواسطة حشرة أو حيوان ضعيف يقلب عاليها أسفلها. وبالنتيجة ينتبه المؤمنون
[433]
والعارفون ولا يقعوا أسرى في شراك هذه النعم، ويفيق المغرورون من سُكر غفلتهم ولا يسلكوا طريق الظلم والعدوان.
2 ـ نلاحظ هنا حضارتين عظيمتين، إحداهما رحمانية، والاُخرى شيطانية المصير، لكنّهما واجهتا الفناء ولم تخلدا.
3 ـ وممّا يستحقّ الإنتباه، هو أنّ المغرورين من قوم سبأ الذين لم يستطيعوا تحمّل وجود المستضعفين بينهم، وتمنّوا حاجزاً منيعاً بين الأقليّة الأشراف والأكثرية الفقراء يحول دون إختلاطهم، ودعوا الله أن يباعد بين قراهم حتّى يشقّ السفر على الفقراء، وقد إستجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم وفرّق جمعهم، ومزّقهم أيادي سبأ، حتّى أنّهم لو أرادوا الإلتقاء لتطلّب منهم ذلك أن يصرفوا عمراً كاملا في السفر.
4 ـ حينما يدقّق المتأمّل في وضع تلك الأرض قبل هجوم "سيل العرم" وبعده، لا يمكنه أن يصدّق بسهولة أنّ هذه الأرض بعد السيل هي تلك الأرض الخضراء المليئة بالأشجار المورقة المثمرة، وكيف أضحت الآن صحراء موحشة ليس فيها إلاّ بضعة أشجار مبعثرة من الشجر المرّ والأراك وقليل من شجر السدر تتراءى من بعيد كمسافرين أضاعوا طريقهم وتبعثروا هنا وهناك.
وهذا يجسّد بلسان الحال: أنّ "كيان الإنسان" كهذه الأرض، فإذا إستطاع السيطرة على قواه الخلاّقة وإستخدمها بالشكل الصحيح، فإنّه ينبت بساتين مليئة بالطراوة من العلم والعمل والفضائل الأخلاقية، ولكن إذا كُسر سدّ التقوى، وإنهالت الغرائز كالسيل المدمّر، وغطّت أرض حياة الإنسان، فلن يبقى غير الخراب، وأحياناً فإنّ أعمالا ظاهرها أنّها بسيطة تبدأ بالتأثير تدريجياً على الاُسس، حتّى ينهار كلّ شيء، لذا يجب الخوف والحذر حتّى من هذه الاُمور الصغيرة التافهة ظاهراً.
[434]
5 ـ آخر ما نروم الإشارة إليه، هو أنّ ذلك المصير العجيب يثبت مرّة اُخرى حقيقة أنّ (الموت) مخفي في جوهر حياة الإنسان، ونفس الشيء الذي يكون سبباً لحياة الإنسان وعمرانها يوماً، يكون عامل موته وهلاكه في يوم آخر.
* * *
[435]
الآيتان
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ(20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَـن إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاْخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْء حَفِيظٌ(21)
التّفسير
لا أحد مجبر على اتّباع الشّيطان:
هذه الآيات في الحقيقة تمثّل نوعاً من الإستنتاج العام من قصّة "قوم سبأ" التي مرّت في الآيات السابقة، ورأينا كيف أنّهم بإستسلامهم لهوى النفس ووسوسة الشيطان، أصبحوا معرضاً لكلّ تلك الخيبة وسوء التوفيق.
يقول تعالى في الآية الاُولى من هذه الآيات: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلاّ فريقاً من المؤمنين).
بتعبير آخر، فإنّ إبليس بعد إمتناعه من السجود لآدم وطرده من محضر الكبرياء الإلهي، توقّع وقال: (فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين)(1) وإنّ هذا التوقّع قد صحّ بالنسبة لهؤلاء القوم. فمع أنّه (لعنه الله) قد قال
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النمل، 19.
[436]
حديثه هذا تخميناً وتوقّعاً، ولكن هذا التخمين أصبح واقعاً في النتيجة. واتّبعه ضعفاء الإيمان والإرادة وسقطوا في فخاخه زرافات ووحداناً، إلاّ مجموعة صغيرة من المؤمنين إستطاعت تحطيم سلاسل الوساوس الشيطانية، وتفادت الوقوع في مصيدته، جاءوا أحراراً وعاشوا أحراراً ورحلوا أحراراً، ومع أنّهم كانوا قلّة من حيث العدد، إلاّ أنّ كلّ واحد منهم كان يعدل دنيا بأسرها من حيث القيمة المعنوية "اُولئك هم الأقلّون عدداً والأكثرون عند الله قدراً"(1).
وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية، والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته، والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان، فتقول الآية المباركة: (وما كان له عليهم من سلطان).
إذن فنحن الذين نجيز له الدخول ونعطيه تأشيرة العبور من حدود دولة الفردية إلى داخل قلوبنا. وذلك هو عين ما ينقله القرآن عن لسان الشيطان نفسه (وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي)(2)، ولكن من الواضح أنّه بعد إجابة دعوته من قبل عديمي الإيمان، وعبيد الهوى، لا يهدأ له بال، بل يسعى إلى إحكام سلطته على وجودهم.
لذا فإنّ الآية تؤكّد أنّ الهدف من إطلاق يد إبليس في وسوساته، إنّما هو لأجل معرفة المؤمنين من غيرهم ممّن هم في شكّ: (إلاّ لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شكّ)(3).
بديهي أنّ الله تعالى مطّلع تماماً على كلّ ما يقع في هذا العالم منذ الأزل حتّى الأبد، وعليه فإنّ جملة "لنعلم" ليس مفهومها أنّ الله تعالى يقول: "بأنّنا لم نكن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار.
2 ـ إبراهيم، 22.
3 ـ على هذا المعنى الذي ذكرناه في تفسير الآية، فإنّ الإستثناء هنا "إستثناء متّصل" بقرينة ما ورد في الآية (42) من سورة الحجر: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين)، بلحاظ أنّ ظاهر هذه الآية أنّ للشيطان سلطة على الغاوين ـ طبعاً بعض المفسّرين احتملوا أن يكون "الإستثناء منقطعاً أيضاً".
[437]
نعلم بالمؤمنين بالآخرة من الذين هم في شكّ منها، ويجب أن تكون هناك للشيطان وسوسة حتّى نعلم ذلك" كلاّ، بل المقصود من هذه الجملة هو التحقّق العيني لعلم الله، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعاقب أحداً بناءً على علمه بالبواطن، والأعمال المستقبلية لذلك الشخص، بل يجب توفّر ميدان للإمتحان، ومن خلال وساوس الشياطين وهوى النفس يُظهر الإنسان ما بداخله ـ بكامل الإرادة والإختيار ـ إلى الواقع الفعلي، ويتحقّق علم الله سبحانه وتعالى عيناً، لأنّه لولا تحقّق الأعمال بالفعل لا يحصل الإستحقاق للثواب والعقاب.
وبتعبير آخر: فإنّ الثواب والعقاب لا يقع على حسن الباطن أو سوئه، فلابدّ لما هو موجود بالقوّة أن يتحقّق بالفعل.
ثمّ تختتم الآية بتنبيه للعباد (وربّك على كلّ شيء حفيظ). حتّى لا يتصوّر أتباع الشيطان بأنّ أعمالهم وأقوالهم تتلاشى في هذه الدنيا، أو أنّ الله ينسى، كلاّ، بل إنّ الله يحتفظ بكلّ ذلك إلى يوم الجزاء.
* * *
[438]
الآيات
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّة فِى السَّمَـوَتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْك وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير(22) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَـعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ(23) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ قَلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِى ضَلَـل مُّبِين(24) قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ(25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ(26) قُلْ أَرُونِىَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)
التّفسير
نبئوني لماذا؟
قلنا في بداية السورة بأنّ هناك مجموعة من آياتها تتحدّث حول المبدأ والمعاد والإعتقادات الحقّة، ومن ربطها مع بعضها نحصل على حقائق جديدة.
[439]
في هذا المقطع من الآيات يجرّ القرآن المشركين في الواقع إلى المحاكمة، وبالضربات الماحقة للأسئلة المنطقية، يحشرهم في زاوية ضيّقة، ثمّ يبيّن تفسّخ منطقهم الواهي بخصوص شفاعة الأصنام.
في هذه المجموعة من الآيات، خوطب الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) خمس مرّات، وقيل له: (قل) لهم ... وفي كلّ مرّة تعرض الآيات مطلباً جديداً يتعلّق بمصير الأصنام وعبّادها، بشكل يُشعر معه بأن ليس هناك عقيدة أفرغ ولا أجوف من عبادة الأصنام، بل لا يمكن أساساً تسمية هذه العبادة (عقيدة) أو (مذهباً).
في الآية الاُولى يقول تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله)(1) ولكن اعلموا أنّ هذه الأصنام أو الشركاء لا يستجيبون لدعائكم أبداً، ولا يحلّون لكم مشكلة، ثمّ تنتقل الآية إلى عرض الدليل على هذا القول، فيقول تعالى: لأنّهم (لا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير).
فلو كانوا يستطيعون شيئاً لكان لهم أحد هذه الأوصاف الثلاثة: إمّا مالكية مستقلّة لشيء في السماء أو الأرض، أو على الأقل مشاركة مع الله في أمر الخلق، أو معاونة الخالق في شيء من هذه الاُمور.
في حال أنّ الواضح هو أنّ "واجب الوجود" واحد لا غير، والباقون جميعهم "ممكن الوجود" مرتبطون به. ولو قطع الله تعالى نظر لطفه عنهم لحظة لأحلّهم دار البوار والعدم.
واللطيف هو قوله تعالى: (مثقال ذرّة في السموات والأرض)، فموجودات لا تملك في هذه السماء اللامحدودة، وهذه الأرض المترامية الأطراف ما يعادل "مثقال ذرّة"، فأي مشكلة يمكنها حلّها لنفسها، ناهيك عن سواها!!
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ في الحقيقة إنّ في الجملة مستترين: الأوّل بعد "زعمتم" تقديره "أنّهم آلهة" والثّاني بعد "من دون الله" تقديره "لا يستجيبون دعاءكم" والجملة تكون هكذا "قل ادعوا الذين زعمتم أنّهم آلهة من دون الله لا يستجيبون لكم".
[440]
هنا يتبادر إلى الذهن فوراً السؤال التالي: إذا كانت الأمر كذلك، فماذا تكون قضيّة شفاعة الشفعاء؟
وللإجابة على هذا التساؤل تقول الآية التي بعدها: لو كان هناك شفعاء لدى الله تعالى فانّهم لا يشفعون إلاّ بإذنه وأمره (ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له).
وعليه فإنّ العذر الذي يتعلّل به الوثنيون بقولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)(1)، ينتهي بهذا الجواب، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى، لم يجز شفاعتها أبداً.
أمّا جملة (إلاّ لمن أذن له) فهي إشارة إلى الشافعين أو إلى المشفوع لهم. إحتمل المفسّرون الإحتمالين، وإن كان يناسب ما ورد في الآية السابقة من الحديث حول الأصنام واُولئك الذين توهّموا أنّها شفعاؤهم، أن تكون الإشارة إلى "الشافعين".
ثمّ هل أنّ المقصود من "الشفاعة" هنا شفاعة الدنيا، أم الآخرة؟ كلاّ الإحتمالين واردان، ولكن الجملة التي تلي ذلك تدلّل على أنّ المقصود هو شفاعة الآخرة.
لذا تقول العبارة بعدها بأنّه في ذلك اليوم تهيمن الوحشة والإضطراب على القلوب، ويستولي القلق على الشافعين والمشفوع لهم بإنتظار أن يروا لمن يأمر الله بجواز الشفاعة؟ وعلى من ستجوز تلك الشفاعة؟ وتستمر حالة القلق والإضطراب، حتّى حين .. فيزول ذلك الفزع والإضطراب عن القلوب بصدور الأمر الإلهي. (حتّى إذا فزّع عن قلوبهم)(2).
على كلّ حال فذلك يوم الفزع، وعيون الذين يطمعون بالشفاعة تعلّقت بالشفعاء، ملتمسة منهم الشفاعة بلسان الحال أو بالقول. ولكن الشفعاء أيضاً ينتظرون أمر الله، كيف؟ ولمن سيجيز الشفاعة؟ ويبقى ذلك الفزع وذلك
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يونس، 18.
2 ـ (فزع) من مادّة "فزع"، وفي وقت تعدّيها بحرف الجرّ (عن) تكون بمعنى إزالة الفزع والوحشة والإضطراب، كذلك لو وردت بصورة الثلاثي المجرّد وتعدّت بحرف الجرّ (عن) يكون لها نفس المعنى أيضاً.
[441]
الإضطراب عاماً، إلى أن يصدر عن الحكيم المتعالي أمره بخصوص المتأهّلين للشفاعة.
هنا وحينما يتواجه الفريقان ويتساءلان، (أو أنّ المذنبين يسألون الشافعين) (قالوا: ماذا قال ربّكم) فيجيبونهم: (قالوا: الحقّ)، وما الحقّ إلاّ جواز الشفاعة لمن لم يقطعوا إرتباطهم تماماً مع الله، لا للذين قطعوا كلّ حلقات الإرتباط، وأضحوا غرباء عن ورسوله وأحبّائه.
وتضيف الآية في الختام (وهو العلي الكبير) وهذه العبارة متمّمة لما قاله "الشفعاء"، حيث يقولون: لأنّ الله عليٌّ وكبير فأي أمر يصدره هو عين الحقّ، وكلّ حقّ ينطبق مع أوامره.
ما عرضناه هو أقرب تفسير يتساوق وينسجم مع تعابير الآية، وللمفسّرين بهذا الخصوص تفسيرات اُخرى، والعجيب أنّ بعضها لم يأخذ بنظر الإعتبار الترابط بين صدر الآية وذيلها وما قبلها وما بعدها.
في الآية التالية يلج القرآن الكريم طريقاً آخر لإبطال عقائد المشركين، ويجعل مسألة "الرازقية" عنواناً بعد طرحه لمسألة "الخالقية" التي مرّت معنا في الآيات السابقة. وهذا الدليل ـ أيضاً ـ يطرحه القرآن بصيغة السؤال والجواب من أجل إيقاظ وجدان هؤلاء والفاتهم إلى إشتباههم من خلال تثوير الجواب في ذواتهم.
يقول تعالى: (قل من يرزقكم من السموات والأرض).
بديهي أن لا أحد منهم يستطيع القول بأنّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي التي تنزل المطر من السماء، أو تنبت النباتات في الأرض، أو تسخّر المنابع الأرضية والسماوية لنا.
الجميل أنّه ـ بدون إنتظار الجواب منهم ـ يردف تعالى قائلا: (قل الله).
قل الله الذي هو منبع كلّ هذه البركات، أي أنّ الأمر واضح إلى درجة لا يحتاج
[442]
إلى جواب من طرف آخر، بل إنّ للسائل والمجيب رأياً واحداً، لأنّ المشركين يعتقدون بأنّ الله هو الخالق والرازق، والأصنام لها مقام الشفاعة فقط.
من الجدير بالملاحظة ـ أيضاً ـ أنّ الأرزاق التي تصل إلى الناس من السماء ليست محصورة بالغيث، بل إنّ النور والحرارة الصادرة عن الشمس، والهواء الموجود في جوّ الأرض، هي الاُخرى لا تقلّ أهميّة عن قطرات المطر.
كما أنّ بركات الأرض كذلك، ليست محصورة في النباتات، بل إنّ المنابع المائية تحت سطح الأرض، والمعادن المختلفة التي كانت معروفة في ذلك الوقت والتي عرفت بعد مرور الزمان تندرج تحت هذا العنوان أيضاً.
آخر الآية تشير إلى موضوع يمكنه أن يكون أساساً لدليل واقعي ومتوائم مع غاية الأدب والإنصاف، بطريقة تستنزل الطرف المقابل من مركب الغرور والعناد الذي يمتطيه، وتدفعه إلى التفكّر والتأمّل، يقول تعالى: (وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين)(1).
وهذا إشارة إلى: أنّ عقيدتنا وعقيدتكم متضادّتان، وعليه ـ بناءً على إستحالة الجمع بين النقيضين ـ فلا يمكن أن تكون الدعوتان على حقّ، لذا فمن المحتّم أن يكون أحد الفريقين أهل هدى، والثّاني أسير الضلال.
والآن عليكم أن تفكّروا في أيّ الفئتين على هدىً، وأيّهما على ضلال؟ .. انظروا إلى علامات وخصائص كلّ منهما، ومدى تطابقها مع علامات الهدى والضلال.
وهذا أحد أفضل أساليب المناظرة والبحث، بأن يضع الطرف الآخر في حالة من التفكّر والتفاعل، وما يتوهّمه البعض أنّ ذلك نوع من التقيّة فهو منتهى الإشتباه.
الملفت للنظر هو ذكر "على" من "الهدى" و "في" مع "الضلال"، إشارة إلى أنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ هذه الجملة تقديراً تعود إلى جملتين كما يلي "وانّا لعلى هدىً أو في ضلال مبين، وإنّكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين" (مجمع البيان، مجلّد7، ص388).
[443]
المهتدين كأنّهم يركبون مركباً سريعاً، أو يستعلون مناراً عالياً ويتسلّطون على كلّ شيء، في حال كون الضالّين مغمورين في ظلمة جهلهم.
ومن الجدير بالملاحظة كذلك هو أنّه تعالى تحدّث عن "الهدى" أوّلا ثمّ "الضلال"، وذلك أنّه قال: "إنّا" في بداية الجملة أوّلا، ثمّ قال "إيّاكم"، لتكون تلميحاً إلى هدى الفريق الأوّل، وضلالة الفريق الثاني.
ورغم أنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ وصف "المبين" يرتبط فقط (بالضلال)، بلحاظ أنّ الضلال أنواع وضلال الشرك أوضحها. ولكن يحتمل أيضاً أن يكون هذا الوصف للهدى والضلال على حدّ سواء، لأنّ "الصفة" في مثل هذه الموارد لا تتكرّر لتكون أكثر بلاغة، وعليه فيكون (الهدى) مبنياً و (الضلال) مبنياً، كما ورد في كثير من آيات القرآن(1).
وتستمرّ الآية التي بعدها بالإستدلال بشكل آخر ـ ولكن بنفس النمط المنصف الذي يستنزل الخصم من مركب العناد والغرور. يقول تعالى: (قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نُسأل عمّا تعملون).
والعجيب هنا أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله) مأمور بإستعمال تعبير "جرم" فيما يخصّه، وتعبير "أعمال" فيما يخصّ الطرف الآخر، وبذا تتّضح حقيقة أنّ كلّ شخص مسؤول أن يعطي تفسيراً لأعماله وأفعاله، لأنّ نتائج أعمال أي إنسان تعود عليه، حسنها وقبيحها، وفي الضمن إشارة لطيفة إلى إنّنا إنّما نصرّ على إرشادكم وهدايتكم، لا لأنّ ذنوبكم تقيّد في حسابنا، ولا لأنّ شرّكم يضرّ بنا، نحن نصرّ على ذلك بدافع الغيرة عليكم وطلباً للحقّ.
الآية التالية ـ في الحقيقة ـ توضيح لنتيجة الآيتين السابقتين، فبعد أن نبّه إلى أنّ أحد الفريقين على الحقّ والآخر على الباطل، وإلى أنّ كلاًّ منهما مسؤول عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع الآيات التالية: النمل: 1، النور: 12، هود: 6، القصص: 2، النمل: 79.
[444]
أعماله، إنتقل إلى توضيح كيفية التحقّق من وضع الجميع، والتفريق بين الحقّ والباطل ومجازاة كلّ فريق طبق مسؤوليته، فيقول تعالى، قل لهم بأنّ الله سوف يجمعنا في يوم البعث، ويحكم بيننا بالحقّ، ويفصل بعضنا عن بعض، حتّى يعرف المهتدون من الضالّين، ويبلغ كلّ فريق بنتائج أعماله. (قل يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا بالحقّ).
وإذا كنتم اليوم ترون أنّكم مخلوطون بعضكم البعض، وكلاًّ يدّعي بأنّه على الحقّ وبأنّه من أهل النجاة، فإنّ هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد، ولابدّ أن يأتي يوم التفريق بين الصفوف. فربوبية الله إقتضت فصل "الطيب" من "الخبيث" و "الخالص" من "المشوب" و "الحقّ" عن "الباطل" في النهاية. ويستقرّ كلّ منهما في مكانه اللائق.
فكّروا الآن ماذا ستعملون في ذلك اليوم؟ وفي أي صفّ ستقفون؟ وهل أحضرتم إجابة لمساءلة الله في ذلك اليوم؟.
وفي آخر الآية يضيف ليؤكّد حتمية ذلك التفريق فيقول: (وهو الفتّاح العليم). هذان الإسمان ـ وهما من أسماء الله الحسنى ـ أحدهما يشير إلى قدرة الله تعالى على عملية فصل الصفوف، والآخر إلى علمه اللا متناهي. إذ أنّ عملية تفريق صفوف الحقّ عن الباطل لا يمكن تحقّقها بدون هاتين الصفتين. وإستخدام كلمة "الربّ" في الآية أعلاه إشارةً إلى أنّ الله هو المالك والمربّي للجميع، وذلك ممّا يقتضي أن يكون برنامج مثل ذلك اليوم معدّاً، وفي الحقيقة هي إشارة لطيفة إلى إحدى دلائل "المعاد".
لفظة "فتح"، كما يشير الراغب في مفرداته "الفتح إزالة الإغلاق والإشكال، وذلك ضربان: أحدهما يدرك بالبصر كفتح الباب ونحوه، وكفتح القفل، والغلق والمتاع. والثّاني: يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغمّ، وذلك ضروب: أحدها: في الاُمور الدنيوية كغمّ يُفرج وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه، والثاني: فتح
[445]
المستغلق من العلوم، ... إلى أن يقول: و "فتح القضيّة فتاحاً" فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها". وعليه فإنّ إستخدام هذه المفردة هنا لأنّ الحكم والقضاء يتمّ أيضاً هناك، فضلا عن الفصل والتفريق بينهما الذي هو أحد معاني كلمة "فتح" ـ ومجازاة كلّ بما يستحق.
الجدير بالملاحظة، هو أنّ بعض الرّوايات أشارت إلى ذكر "يافتّاح" في الأدعية لحلّ بعض المعضلات، لأنّ هذا الإسم الإلهي العظيم وهو بصيغة المبالغة من الفتح ـ يدلّل على قدرة الله على حلّ أي مشاكل ورفع أي حسرة وغمّ، وتهيئة أسباب أي فتح ونصر، وفي الواقع فإنّه هو وحده (الفتّاح)، ومفتاح كلّ الأبواب المغلقة في يد قدرته تعالى.
في الآية الأخيرة من هذه الآيات والتي هي عبارة عن الأمر الخامس للرسول (صلى الله عليه وآله) يعود القرآن إلى الحديث مرّة اُخرى في مسألة التوحيد التي ابتدأ بها ليختمه بها، يقول تعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء).
فما هي قيمة هؤلاء وقابلياتهم؟ فإن كان مقصودكم حفنة الحجر والخشب الجامدة الميتة. فإنّ ذلك لممّا يدعو إلى الخجل ويدلّل على سوء التوفيق أن تتوهّموا تشابه أحقر الموجودات ـ وهي الجمادات ممّا صنعت أيديكم ـ مع الله تعالى. وإن إعتقدتم بأنّها تمثّل الأرواح والملائكة فالمصيبة أعظم، لأنّ هؤلاء أيضاً مخلوقات له سبحانه وتعالى، ومنفذة لأوامره.
لذا فبعد هذه الجملة مباشرة، وبكلمة واحدة يشطب على هذه الأباطيل فيقول: (كلاّ) فهذه الأشياء لا تستحقّ أن تعبد أبداً وهذه الأوهام والتصورات ليس لها شيء من الواقعية، فإلى متى تسلكون هذه الطريقة الخاطئة.
وكلمة "كلاّ" مع صغرها استبطنت كلّ هذه المعاني.
ثمّ لأجل تأكيد وتثبيت هذا المعنى يقول مختتماً الحديث (بل هو الله العزيز الحكيم). فعزّته وقدرته الخارقة، تقتضي الدخول في حريم ربوبيته، وحكمته
[446]
تقتضي توجيه هذه القدرة في محلّها.
نعم، فإنّ إمتلاك هذه الصفات علامة كونه واجب الوجود، وواجب الوجود وجود لا نهاية له ولا حدّ، وغير قابل للتعدّد، ولا شريك له ولا شبيه، لأنّ أي تعدّد له يعني حدّه وإمكانيته، بينما "الوجود اللا متناهي" دائماً وأبداً واحد لا غير "تأمّل".
* * *
بحث
طريق تسخير القلوب:
كثيراً ما يلاحظ أفراد فضلاء وعلى مستوى من العلم والمعرفة، لا يمكنهم النفوذ في أفكار الآخرين، لعدم إطّلاعهم على الفنون الخاصّة بالبحث والإستدلال، وعدم رعايتهم للجوانب النفسية، على عكس البعض الآخر الذين ليسوا على وفرة من العلم، إلاّ أنّهم موفّقين من ناحية جذب القلوب وتسخيرها والنفوذ في أفكار الآخرين.
والعلّة الأساسية لذلك هي أنّ طريقة البحث، واُسلوب التعامل مع الطرف المقابل يجب أن تكون مقرونة باُصول وقواعد تتّسق مع الخُلُق والروح، فلا تستثار الجوانب السلبية في الطرف المقابل، كي لا يندفع إلى العناد والإصرار، إذ أنّ مراعاة الجانب النفسي ستؤدّي إلى إيقاظ وجدانه وإثارة روح البحث عن الحقيقة وإحيائها فيه.
والمهمّ هنا أن نعلم أنّ الإنسان ليس فكراً وعقلا صرفاً كي يستسلم أمام قدرة الإستدلال، بل علاوةً على ذلك فإنّ مجموعة من العواطف والأحاسيس التي تشكّل جانباً مهمّاً من روحه مطوية في وجوده، والتي يجب إشباعها بشكل صحيح ومعقول.
[447]
والقرآن الكريم علّمنا كيفية مزج البحوث المنطقية بالاُصول الأخلاقية في المحاورة، حتّى تنفذ في أرواح الآخرين.
شرط التأثير والنفوذ في روح الطرف المقابل هو إحساس الطرف المقابل بأنّ المتحدّث يتحلّى بالصفات التالية:
1 ـ مؤمن بما يقول، وما يقوله صادر من أعماقه.
2 ـ هدفه من البحث طلب الحقّ، وليس التفوّق والتعالي.
3 ـ لا يقصد تحقير الطرف المقابل، وإعلاء شأن نفسه.
4 ـ ليس له مصلحة شخصية فيما يقول، بل إنّ ما يقوله نابع من الإخلاص.
5 ـ يكنّ الإحترام للطرف المقابل، لذا فهو يستخدم الأدب والرقّة في تعبيراته.
6 ـ لا يريد إثارة العناد لدى الطرف المقابل، ويكتفي من البحث في موضوع بالمقدار الكافي، دون الإصرار على إثبات أنّ الحقّ إلى جانبه. ليعرض حديثه.
7 ـ منصف، لا يفرط بالإنصاف أبداً، حتّى وإن لم يراع الطرف المقابل هذه الاُصول.
8 ـ لا يقصد تحميل الآخرين أفكاره، بل يرغب في إيجاد الدافع لدى الآخرين حتّى يوصلهم إلى الحقيقة بمنتهى الحرية.
الدقّة المتناهية في هذه الايات، واُسلوب تعامل الرّسول (صلى الله عليه وآله) ـ بأمر الله ـ مع المخالفين، المقترن بكثير من اللفتات الجميلة، تعتبر دليلا حيّاً على ما ذكرناه. فهو أحياناً يصل إلى حدّ لا يشير بدقّة إلى المهتدي أو المضلّ في أحد الفريقين، بل يقول: (وإنّا وإيّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) حتّى يثير في الذهن التساؤل عن علامات الهدى أو الضلال في أي الفريقين.
أو يقول: (قل يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا بالحقّ).
طبعاً لا يمكن إنكار أنّ كلّ ذلك بالنسبة إلى الأشخاص المؤمّل إهتداؤهم، وإلاّ فإنّ القرآن يتعامل مع الأعداء المعاندين والظلمة القساة الذين لا يؤمّل منهم القبول بذلك بطريقة اُخرى. اُسلوب محاورات الرّسول (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) مع
[448]
مخالفيهم يمثّل نموذجاً حيّاً في هذا المجال، وكمثال على ذلك لاحظوا ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) بهذا الخصوص في كتب الحديث:
ففي أوائل كتاب توحيد المفضّل نقرأ "روى محمّد بن سنان قال: حدّثني المفضّل بن عمر قال: كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر، وأنا مفكّر فيما خصّ الله تعالى به سيّدنا محمّداً (صلى الله عليه وآله)، من الشرف والفضائل، وما منحه وأعطاه وشرّفه وحباه، ممّا لا يعرفه الجمهور من الاُمّة وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته، وخطير مرتبته، فإنّي لكذلك إذ أقبل "ابن أبي العوجاء، "رجل ملحد معروف". إلى أن يذكر أحاديث هذا الرجل التي سمعها المفضّل ... إلى أن (قال المفضّل): فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً، فقلت: ياعدوّ الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصوّرك في أتمّ صورة، ونقلك في أحوالك حتّى بلغ إلى حيث إنتهيت. فلو تفكّرت في نفسك وصدقك ولطيف حسّك، لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده جلّ وتقدّس في خلقك واضحة، وبراهينه لك لائحة، فقال: ياهذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في جوابنا، وإنّه الحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا، ويصغي إلينا ويتعرّف حجّتنا، حتّى إذا إستفرغنا ما عندنا، وظننا أنّا قطعناه، دحض حجّتنا بكلام يسير، وخطاب قصير يلزمنا به الحجّة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردّاً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه"(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ توحيد المفضّل ـ أوائل الكتاب.
[449]
الآيات
وَمَا أَرْسَلْنَـكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(29) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْم لاَّ تَسْتَئْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ(30)
التّفسير
الدّعوة العالمية:
الآية الاُولى من هذه الآيات، تتحدّث في نبوّة الرّسول (صلى الله عليه وآله)، والآيات التي تليها تتحدّث حول الميعاد، ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن التوحيد، نصبح أمام مجموعة كاملة من بحوث العقائد، تتناسب مع كون السورة مكية.
أشارت الآيات إبتداءً إلى شمولية دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله) وعمومية نبوّته لجميع البشر فقالت: (وما أرسلناك إلاّ كافّة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
"كافّة" من مادّة "كفّ" وتعني الكفّ من يد الإنسان، وبما أنّ للإنسان يقبض
[450]
على الأشياء بكفّه تارةً ويدفعها عنه بكفّه تارةً اُخرى، فلذا تستخدم هذه الكلمة للقبض أحياناً، وللمنع اُخرى.
وقد إحتمل المفسّرون الإحتمالين هنا، الأوّل بمعنى "الجمع" وفي هذه الحالة يكون مفهوم الآية "إنّنا لم نرسلك إلاّ لجميع الناس". أي عالمية دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله). ويقوّي هذا المعنى روايات عديدة وردت في تفسير الآية من طرق الفريقين.
وعليه فمحتوى الآية شبيه بالآية (1) سورة الفرقان (تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً). وكذلك الآية (19) من سورة الأنعام (واُوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ).
جاء في حديث عن ابن عبّاس ينقله المفسّرون بمناسبة هذه الآية، أنّ عمومية دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله) ذكرت كواحدة من مفاخره العظيمة.
فعنه (صلى الله عليه وآله) يقول: "اُعطيت خمساً ولا أقول فخراً، بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، واُحلّ لي المغنم ولا يحلّ لأحد قبلي، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر، واُعطيت الشفاعة فادّخرتها لاُمّتي يوم القيامة"(1).
وإن كان لم يرد في الحديث أعلاه تصريح بتفسير الآية، فثمّة أحاديث اُخرى بهذا الخصوص، إمّا أن تصرّح بأنّها في تفسير الآية، أو يرد فيها تعبير "للناس كافّة" الذي ورد في نفس الآية(2). وجميعها تدلّل على أنّ مقصود الآية أعلاه، هو عالمية دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله).
وذُكر للآية تفسير آخر مأخوذ من المعنى الثّاني لكلمة "كفّ" وهو (المنع)، وطبقاً لهذا التّفسير تكون "كافّة" صفة للرسول (صلى الله عليه وآله)(3) ويكون المقصود أنّ الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير مجمع التبيان، مجلّد 8، ص391.
2 ـ اُنظر تفسير نور الثقلين، مجلّد 4، ص255 و256.
3 ـ أحياناً تلحق (التاء) اسم الفاعل لتكون صيغة مبالغة لا علامة للتأنيث كما في "رواية".
[451]
سبحانه وتعالى أرسل الرّسول (صلى الله عليه وآله) كمانع ورادع وكافّ للناس عن الكفر والمعصية والذنوب، ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب.
على كلّ حال ـ كما أنّ لكلّ الناس غريزة جلب النفع ودفع الضرر ـ فقد كان للرسل أيضاً مقام "البشارة" و "الإنذار". لكي يوظّفوا هاتين الغريزتين ويحرّكوهما، ولكن أكثر المغفّلين الجهّال ـ بدون الإلتفات إلى مصيرهم ـ ينهضون للوقوف في وجههم ويتنكّرون تلك المواهب الإلهية العظيمة.
وبناءً على ما أشارت إليه الآيات السابقة من أنّ الله سبحانه وتعالى يجمع الناس ويحكم بينهم تورد هذه الآية سؤال منكري المعاد كما يلي: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين).
لقد طرح هذا السؤال من قبل منكري المعاد على الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو الأنبياء الآخرين مراراً، حيناً لفهم وإدراك هذا المطلب، وأغلب الأحيان للإستهزاء والسخرية من قبيل: أين هذه القيامة التي تؤكّدون على ذكرها مراراً وتكراراً، لو كانت حقّاً فقولوا متى ستأتي؟ إشارة منهم إلى أنّ الإنسان الصادق في إخباره يجب أن يعلم بجميع جزئيات الموضوع الذي يُخبر عنه.
ولكن القرآن الكريم يمتنع دائماً عن الإجابة الصريحة على هذا السؤال وتعيين زمان وقوع البعث، ويؤكّد أنّ هذه الاُمور هي من علم الله الخاصّ به سبحانه وتعالى، وليس لأحد غيره الإطلاع عليها.
لذا فقد تكرّر في الآية التي بعدها، هذا المعنى بعبارة اُخرى، يقول تعالى: (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون).
إنّ إخفاء تأريخ قيام الساعة ـ حتّى على شخص الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ كما أسلفنا ـ لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لعباده نوعاً من حرية العمل مقترنة بحالة من التهيّؤ الدائم، لأنّه لو كان تأريخ قيام القيامة معلوماً فإنّ الجميع سيغطّون في الغفلة والغرور والجهل حينما يكون بعيداً عنهم، أمّا حين إقترابه منهم فستكون أعمالهم
[452]
ذات جنبة إضطرارية، وفي كلتا الحالتين تتحجّم الأهداف التربوية للإنسان، لذا بقي تأريخ القيامة مكتوماً، كما هو الحال بالنسبة إلى "ليلة القدر" تلك الليلة التي هي خير من ألف شهر، أو تاريخ قيام المهدي (عليه السلام)، وعبّر عن ذلك المعنى بلطف ما ورد في الآية (15) من سورة طه (إنّ الساعة لآتية أكاد اُخفيها لتجزي كلّ نفس بما تسعى).
أمّا اُولئك الذين يتصوّرون أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن يكون على علم بالتأريخ الدقيق ليوم القيامة لأنّه يخبر عنها، فإنّ ذلك غاية الإشتباه، ودليل على عدم معرفتهم بوظيفة النبوّة، فالنّبي مكلّف بالإبلاغ والبشارة والإنذار، أمّا مسألة القيامة فمرتبطة بالله سبحانه وتعالى، وهو وحده الذي يعلم تمام تفاصيلها، وما يراه الله لازماً لأغراض تربوية، أطلع عليه الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله).
هنا يثار سؤال، وهو أنّ القرآن الكريم في مقام تهديد المخالفين يقول: (لا تستأخرون) ولكن لماذا يقول أيضاً: (لا تستقدمون)؟ فما هو تأثير ذلك في هدف القرآن.
للإجابة يجب الإلتفات إلى نكتتين:
الاُولى: أن ذكر ذينك الإثنين معاً إشارة إلى قطعية ودقّة تأريخ أي أمر، تماماً كما تقول: "فلان قطعي الموعد، وليس لديه تقديم أو تأخير".
الثّانية: أنّ جمعاً من الكفّار المعاندين يلحّون على الأنبياء دائماً، بقولهم: لماذا لا تأتي القيامة؟ وبتعبير آخر، كانوا يستعجلون ذلك الأمر سواءً كان ذلك من قبيل الإستهزاء أو غير ذلك. والقرآن يقول لهم: "لا تستعجلوا فإنّ تأريخ ذلك اليوم هو عينه الذي قرّره الله سبحانه وتعالى".
* * *
[453]
الآيات
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَـذَا الْقُرْءَانِ وَلاَ بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّـلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ(31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَـكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ(32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الاَْغْلَـلَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(33)
التّفسير
لمناسبة البحث الوارد في الآيات السابقة، حول مواقف المشركين إزاء مسألة المعاد، تعرّج هذه الآيات إلى تصوير بعض فصول المعاد المؤلمة لهؤلاء المشركين كي يقفوا على خاتمة أعمالهم.
[454]
أوّلا، يقول تعالى: (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه). أي ولا بالكتب السماوية السابقة.
كلمة "لن" للنفي الأبدي، وعليه فهم يريدون القول لرسول الله (صلى الله عليه وآله): انّك حتّى لو بقيت تدعونا للإيمان إلى الأبد فلن نؤمن لك، وهذا دليل على عنادهم، بحيث أنّهم صمّموا على موقفهم إلى الأبد، في حين أنّ من يطلب الحقّ ويسعى له، إذا لم يقتنع بدليل ما لا يمكنه أن ينكر جميع الأدلّة الممكن ظهورها مستقبلا قبل أن يسمعها، فيقول: إنّي أردّ جميع الأدلّة الاُخرى أيضاً.
أمّا من المقصود بـ "الذين كفروا"؟ فقد أشار جمع من المفسّرين إلى أنّهم "المشركون"، وبعضهم أشار إلى أنّهم "اليهود وأهل الكتاب"، ولكن القرائن الواردة في الآيات اللاحقة، والتي تتحدّث عن الشرك، تُدلّل على أنّ المقصود هم المشركون.
والمقصود من "الذي بين يديه" هو تلك الكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن على أنبياء سابقين، وقد ورد هذا التعبير في كثير من آيات القرآن مشيراً إلى هذا المعنى ـ خصوصاً بعد ذكر القرآن ـ وما احتمله البعض من أنّ المقصود منه هو "المعاد" أو "محتوى القرآن" فيبدو بعيداً جدّاً.
على كلّ حال فإنّ إنكار الإيمان بكتب الأنبياء السابقين، يحتمل أن يكون المقصود به. نفي نبوّة الرّسول (صلى الله عليه وآله) من خلال نفي الكتب السماوية الاُخرى، بإعتبار أنّ القرآن أكّد على موضوع ورود دلائل على نبوّة الرّسول (صلى الله عليه وآله) في التوراة والإنجيل، ولهذا يقولون: نحن لا نؤمن لا بهذا الكتاب ولا بالكتب التي سبقته.
ثمّ تنتقل إلى الحديث حول وضع هؤلاء في القيامة من خلال مخاطبة الرّسول(صلى الله عليه وآله) فيقول تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربّهم يرجع بعضهم
[455]
إلى بعض القول)(1).
ومرّة اُخرى يستفاد من الآية أعلاه أنّ من أهمّ مصاديق "الظلم" هو "الشرك والكفر".
التعبير "عند ربّهم" إشارة إلى أنّهم حاضرون بين يدي مالكهم وربّهم، وما أكثر وأشدّ خجلا من أن يكون الإنسان حاضراً بين يدي من كفر به، في حين أنّ كلّ وجوده غارق بنعمه.
في حين أنّ "المستضعفين" الذين اتّبعوا بجهلهم "المستكبرين" وهم الذين سلكوا طريق الغرور والتسلّط على الآخرين ورسموا لهم منهجهم الشيطاني، هناك: (يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنّا مؤمنين).
إنّهم يريدون بذلك إلقاء مسؤولية ذنوبهم على عاتق هؤلاء "المستكبرين"، مع أنّهم لم يكونوا حاضرين للتعامل معهم بمثل هذه القاطعية في دار الدنيا، لأنّ الضعف والخور والذلّة كانت حاكمة على وجودهم، وقد فقدوا حريتهم، أمّا هناك وبعد أن تبعثرت تلك المفاهيم الطبقية التي كانت سائدة في دار الدنيا، وإنكشفت نتائج أعمال الجميع، فهم يقفون وجهاً لوجه مقابل هؤلاء ويتحدّثون بصراحة ويتلاومون معهم.
لكن "المستكبرين" لا يبقون على صمتهم بل (قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذا جاءكم). كلاّ، فلسنا بمسؤولين، فمع إمتلاككم حرية الإرادة، إستسلمتم لأحاديثنا الباطلة، وكفرتم وألحدتم متناسين أحاديث الأنبياء المنطقية، (بل كنتم مجرمين).
صحيح أنّ المستكبرين ارتكبوا ذنباً كبيراً بوسوستهم، ولكن حديثهم الذي تذكره الآية الكريمة له حقيقة أيضاً، حيث أنّ المتملّقين لم يكن عليهم أن يصمّوا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ (يرجع): تأتي كفعل لازم وكفعل متعدّي، وقد وردت هنا بالحالة الثّانية لتعطي معنى العودة، ومجيئها بعد "بعضهم إلى بعض" معناه في النتيجة بمعنى "مفاعلة".
[456]
أسماعهم وأبصارهم ويلهثوا وراءهم، وإنّما عليهم أيضاً مسؤولية ذنوبهم.
ولكن المستضعفين لا يقتنعون بهذا الجواب، ويعاودون القول مرّة اُخرى لإثبات جرم المستكبرين: (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا، بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً).
نعم، فأنتم الذين لم تكفوا عن بثّ السموم، ولم تفرطوا بأي فرصة من الليل أو النهار من أجل تحقيق أهدافكم المشؤومة، فصحيح أنّنا كنّا أحراراً في القبول بذلك، وبذا نكون مقصّرين وجناة، ولكن بإعتباركم عامل الفساد فأنتم مسؤولون ومجرمون، بل إنّكم واضعوا حجر الأساس لذلك، خاصّة وأنّكم كنتم تتحدّثون معنا دائماً من موقع القدرة والسلطة، (التعبير بـ "تأمروننا" شاهد على هذا المعنى).
بديهي أنّ المستكبرين لا يملكون جواباً لهذا القول، ولا يمكنهم إنكار جرمهم الكبير ذاك، لذا فإنّ الفريقين يندمون على ما قدّمت أيديهم، المستكبرون على إضلالهم للآخرين، والمستضعفون على إيمانهم وقبولهم بتلك الأباطيل المشؤومة، ولكن لكي لا يفتضحوا أكثر فانّهم يكتمون الندم حينما يواجهون العذاب الإلهي .. (وأسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا).
فمع أنّ الكتمان لا ينفع في "يوم البروز" هناك، ومع عدم إمكانية إخفاء شيء، إلاّ أنّهم ـ جرياً على ما تعوّدوه في الدنيا من قبل ـ يتوهّمون أنّ في إستطاعتهم كتمان حالتهم، فيلجأون إلى ذلك.
نعم، فهم في الدنيا حينما يلتفتون إلى إشتباههم ويندمون لم يكونوا يمتلكون الشجاعة لإظهار ندمهم الذي هو أوّل طريق التوبة وإعادة النظر، وتلك هي الخصلة الأخلاقية الخاصّة بهم والتي يمارسونها في الآخرة أيضاً. ولكن ما الفائدة؟
بعض المفسّرين احتملوا أن يكون ذلك الكتمان للندامة بسبب الرهبة الشديدة من مشاهدة العذاب الإلهي، وإنحباس أنفاسهم في صدورهم وإنعقاد ألسنتهم
[457]
نتيجة الأغلال التي غُلّت بها رقابهم والسلاسل التي لفّتهم. مع أنّهم يطلقون صرخاتهم في مواقف اُخرى من القيامة (ياويلنا إنّا كنّا ظالمين)(1).
وقال آخرون: إن "أسرّوا" بمعنى "أظهروا" بناءً على أنّ هذه اللفظة تستعمل لمعنيين متضادّين في اللغة العربية، ولكن من ملاحظة الموارد التي إستعملت فيها هذه اللفظة في القرآن وغير القرآن، يبدو هذا المعنى مستبعداً، بلحاظ أنّ "سرّ" عادة تستخدم للإشارة إلى ما يقابل "العلن". وقد ضعّف الراغب هذا المعنى أيضاً مع أنّ بعض علماء اللغة أشار إلى كلا المعنيين(2).
وعلى كلّ حال، فإنّ هؤلاء قد وجدوا نتائج أعمالهم (هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون).
نعم، فأعمال وجنايات الكفّار والمجرمين هي التي أضحت قيوداً وسلاسل تلفّ أعناقهم وأيديهم وأرجلهم، لقد كانوا في هذه الدنيا أسارى هوى النفس والطمع والظلم والرغبة في المقام، وفي يوم القيامة حيث تتجسّد الأعمال، يظهر ذلك الأسر بشكل آخر ... إذن، فالآية تشير أيضاً إلى قضيّة تجسّم الأعمال التي أشرنا إليها مراراً. لأنّها تقول: (هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون) وأي تعبير أكثر وضوحاً وحيوية من ذلك التعبير عن تجسّم الأعمال.
التعبير بـ "الذين كفروا" يشير إلى أنّ فريقي الغاوين والمغويين المستضعفين وكلّ الكفّار يلقون ذلك المصير، وعادةً فإنّ ذكر ذلك الوصف هو إشارة إلى أنّ علّة عقابهم إنّما هي "كفرهم".
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأنبياء، 14.
2 ـ اُنظر لسان العرب ذيل مادّة (سرّ) فهناك بحث مفصّل بهذا الخصوص مع إختلافات أهل اللغة والأدب، مجلّد 4، ص357.
[458]
الآيات
وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة مِّن نَّذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَـفِرُونَ(34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَلا وَأَوْلَـداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(35) قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(36) وَمَا أَمْوَلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـدُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـلِحاً فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِى الْغُرُفَـتِ ءَامِنُونَ(37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَـتِنَا مُعَـجِزِينَ أُوْلَـئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(38)
التّفسير
الأموال والأولاد ليست دليلا على القرب من الله ..
بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة في الغاوين من المستكبرين، فإنّ جانباً آخر من هذا المبحث تعكسه الآيات أعلاه بطريقة اُخرى، وتقدّم المواساة أيضاً للرسول (صلى الله عليه وآله) ضمن إشارتها بأن لا تعجب إذا خالفك المخالفون، فإنّ المستكبرين
[459]
المرفّهين طبعوا على مخالفة أنبياء الحقّ، فتقول الآية المباركة: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا بما اُرسلتم به كافرون).
"نذير" من "الإنذار" وهو الإخبار الذي فيه تخويف، وإشارة إلى أنبياء الله الذين ينذرون الناس من عذاب الله في قبال الإنحرافات والظلامات والذنوب والفساد.
"مترفوها" جمع "مترف" من مادّة "ترف" بمعنى "التوسّع في النعمة" و (المترف) الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش. وأترفته النعمة أي أطغته(1).
نعم، فإنّ هذه الفئة المترفة الغافلة الطاغية كانت الصف المتقدّم من مخالفي الأنبياء عادةً، لأنّهم يرون أنّ تعليمات الأنبياء تتضارب مع أمانيهم وأهوائهم من جهة، ولأنّ الأنبياء يدافعون عن حقوق المحرومين التي إغتصبها هؤلاء المترفين ونالوا هذا النعيم، من جهة ثانية، ولأنّهم دائماً يستخدمون عامل التسلّط لحماية مصالحهم وأموالهم من جهة ثالثة، والأنبياء يقفون قبالهم في كلّ هذه الحالات، لذا فإنّهم يهبّون فوراً لمخالفة الأنبياء.
العجيب أنّهم لا يشيرون إلى حكم أو فقرة خاصّة ليخالفوها، بل إنّهم فوراً ومرّة واحدة يقولون (نحن كافرون بكلّ ما بعثتم به) ولن نخطوا معكم خطوة واحدة، وهذا بعينه أحسن دليل على عنادهم وتعصّبهم إزاء الحقّ.
وقد كشف القرآن في آيات مختلفة عن مسألة مهمّة، وهو أنّ المحرومين هم أوّل من يلبّي دعوة الأنبياء، والمتنّعمين المغرورين أيضاً هم أوّل مجموعة ترفع لواء المخالفة.
ورغم أنّ منكري دعوة الأنبياء لا ينحصرون في هذه المجموعة فقط، ولكنّهم غالباً عامل الفساد الأوّل والدعاة إلى الشرك والخرافات، ويسعون دوماً إلى إكراه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لسان العرب، مجلّد 9، ص17.
[460]
الآخرين لسلوك طريقهم. وردّ هذا المعنى أيضاً في الآيات 23 ـ الزخرف، و116 ـ هود، و33 ـ المؤمنون.
هذه المجموعة لم تقف فقط في وجه الأنبياء فحسب، بل قبال أيّة خطوة إصلاحية من قبل أي عالم أو مصلح أو مفكّر مجاهد، فقد كانوا السبّاقين للمخالفة، ولا يتورّعون في إرتكاب أيّة جريمة وتآمر ضدّ هؤلاء المصلحين.
تشير الآية التالية إلى المنطق الأجوف الذي يتمسّك به هؤلاء لإثبات أفضليتهم ولإستغفال العوام فتقول: (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولاداً).
إنّ الله يحبّنا، فقد أعطانا المال الوفير، والقوّة البشرية، وذلك دليل على لطفه بحقّنا وإشارة إلى مقامنا وموقعنا عنده، ولذلك لن نعاقب أبداً (وما نحن بمعذّبين)! فلو كنّا مطرودين من رحمته فلِمَ سخّر لنا كلّ هذه النعم؟ الخلاصة، إنّ وفرة النعيم في دنيانا دليل واضح على كونه كذلك آخرتنا!!
بعض المفسّرين إحتملوا أن يكون قولهم: (وما نحن بمعذّبين) دليلا على إنكارهم الكلّي للقيامة والعذاب. ولكن الآيات اللاحقة تدلّل على عدم قصد هذا المعنى، بل المراد هو (القرب من الله بسبب الثروة التي يملكونها).
الآية التي بعدها تردّ بأرقى اُسلوب على هذا المنطق الأجوف الخدّاع وتنسفه من الأساس، وبطريق مخاطبة الرّسول (صلى الله عليه وآله) تقول الآية الكريمة: قل لهم: إنّ ربّي يرزق من يشاء ويقدر لمن يشاء، وذلك أيضاً طبق مصالح مرتبطة بإمتحان الخلق وبنظام حياة الإنسان، وليس له أي ربط بقدر ومقام الإنسان عند الله سبحانه وتعالى: (قل إن ربّي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).
وعليه فلا يجب إعتبار سعة الرزق دليلا على السعادة، وقلّته على الشقاء. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون). طبعاً أكثر الجهّال المغفّلين هم كذلك، وإلاّ فإنّ هذا الأمر واضح للعارف.
ثمّ تتابع الآيات هذا المعنى بصراحة أكثر. تقول: (وما أموالكم ولا أولادكم
[461]
بالتي تقربكم عندنا زلفى)(1) لقد عمّ هذا الإشتباه الخطير بعضاً من البسطاء، وتصوّروا بأنّهم ما داموا محرومين في الدنيا فهم مغضوب عليهم ومطرودون من رحمة الله، وهؤلاء المرفّهون هم المحبوبون المقبولون لديه.
ما أكثر المحرومين الذين امتحنوا بالحرمان، فنالوا أرقى الدرجات والمراتب الروحية.
وما أكثر المرفّهين الذين أصبحت أموالهم وثرواتهم وبالا عليهم ومقدّمة لعقابهم.
أليس قد ذكرت الآية (15) من سورة التغابن بصراحة (إنّما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم).
ولكن ليس معنى هذا هو حثّ الإنسان على ترك السعي والدأب اللازم لإقامة الأود، بل المقصود هو التأكيد على أنّ إمتلاك الإمكانات الإقتصادية والقوّة البشرية الواسعة لا يمثّل أبداً أيّة قيمة معنوية للإنسان عند الله.
ثمّ تتناول الآية موضوع المعيار الأصلي لتقييم الناس، وما يسبّب قربهم منه (على شكل إستثناء منفصل) فتقول: (إلاّ من آمن وعمل صالحاً فاُولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون)(2).
وعليه فجميع المعايير تعود أصلا إلى هذين الأمرين "الإيمان" و "العمل الصالح". ويستوعب هذا المعيار جميع الأفراد وفي أي زمان أو مكان، ومن أي طبقة أو مجموعة كان. وإختلاف مراتب البشر أمام الله إنّما هو بتفاوت درجات إيمانهم ومراتب عملهم الصالح، ولا شيء سوى ذلك. حتّى طلب العلم أو
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ "زلفى" و "زلفة" بمعنى المنزلة والحظوة (مفردات الراغب)، ولهذا السبب عبّر عن (منازل الليل) بـ (زلف الليل) ـ والتعبير بـ "التي" لأجل أنّه في كثير من الموارد يعود الضمير المفرد المؤنث إلى جمع التكسير، وعليه فلا حاجة إلى التقدير هنا.
2 ـ التعبير بـ "جزاء الضعف" من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.
[462]
الإنتساب إلى أفراد عظماء، بل حتّى للأنبياء، إذا لم يكن مقترناً بهذين الأمرين فإنّه وحده لا يضيف إلى قيمة الإنسان شيئاً.
هنا يشطب القرآن وبصراحة قلّ نظيرها على كلّ الظنون المنحرفة والخرافات بخصوص عوامل القرب من الله، وما يرفع من قيمة الإنسان، ويخلص إلى أنّ المعيار الأصيل هو في شيئين فقط، يستطيع كلّ الناس تحصيلها، وأنّ الإمكانات والمحروميات المادية لا أثر لها في ذلك.
أجل، فإنّ الأموال والأولاد أيضاً إذا وُجّهت بهذا المسير، صبغت بتلك الصبغة الإلهيّة وتقبّلت لون الإيمان والعمل الصالح، وأصبحت سبباً في القرب من الله. أمّا الأموال والأولاد التي تبعد الإنسان عن الله، وتكون له صنماً يُعبد من دون الله وسبباً للفساد والإفساد، فهي جواذب جهنّم، وكما قال القرآن الكريم: (ياأيّها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم).(1)
كلمة "ضعف" ليست بمعنى "مضاعفة الشيء مرتين" فقط، بل بمعنى "أضعاف مضاعفة لأكثر من مرتين". وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى. لأنّنا نعلم أنّ أي عمل حسن يحسب عند الله بعشرة أمثاله على الأقل (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).(2) وأحياناً أكثر من ذلك بكثير.
"غرفات" جمع "غرفة" بمعنى الحجرات العلوية من البناء، والتي غالباً ما تكون إضاءتها أكثر وهواؤها أفضل. وبعيدة عن الآفات، لذا عبّر القرآن عن أفضل منازل الجنّة (بالغرف). وهذه اللفظة من مادّة "غرف"، على زنة (بحر) بمعنى رفع الشيء وتناوله.
التعبير بـ "آمنون" فيما يخصّ أهل الجنّة، تعبير جامع يعكس حالة الطمأنينة الروحية والجسدية لهم من كافّة النواحي، فلا خوف من هجوم عدوّ، أو مرض، أو
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ التغابن، 14.
2 ـ أنعام، 160.
[463]
آفة أو ألم، ولا خوف حتّى من الخوف!، وليس أغلى من هذه النعمة بأن يكون الإنسان آمناً من كلّ جانب، فلا بلاء أشدّ من الإحساس بعدم الأمن في مختلف جوانب الحياة.
الآية التالية تصف الفريق المقابل لهؤلاء، فتقول: أمّا هؤلاء الذين يسعون ويجتهدون لتسفيه آياتنا، لا يؤمنون ولا يتركون غيرهم يسيرون في طريق الإيمان، ويتوهّمون أنّهم يستطيعون الفرار من يد قدرتنا، هؤلاء يحضرون في عذاب أليم يوم القيامة (والذين يسعون في آياتنا معاجزين اُولئك في العذاب محضرون).
هؤلاء هم الذين اعتمدوا على أموالهم وأولادهم وكثرة عددهم لتكذيب الأنبياء، وعملوا على اغواء عباد الله، حتّى بلغ غرورهم درجة أن توهّموا أنّهم يفلتون من قبضة العذاب الإلهي، ولكن هيهات فانّ مصيرهم في قلب جهنّم.
وبما أنّ جملة (اُولئك في العذاب محضرون) ليس فيها ما يدلّل على الزمان الآتي ـ فقد تكون إشارة إلى كون هؤلاء مأسورين بالعذاب حتّى في الوقت الحاضر، وأي عذاب أشدّ من هذا السجن الذي صنعوه لأنفسهم من أموالهم وأولادهم.
كذلك يحتمل أن يكون التعبير للتدليل على أنّ وعد الله مسلّم به إلى درجة يمكن القول بأنّهم حالياً فيه، كما هو الحال بالنسبة إلى قوله: (فهم في الغرفات آمنون).
"معاجزين": كما ذهب بعض أرباب اللغة إلى أنّ معناه أنّ هؤلاء تصوّروا أنّهم يستطيعون الفرار من دائرة قدرة الله تعالى وجزائه وعقابه، إلاّ أنّ هذا التوهّم باطل وسراب خادع(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الحقيقة أن تعبير "معاجزين" الذي أوردنا تفسيره من مفردات الراغب، شبيه بتعبير (يخادعون الله ورسوله) البقرة ـ 9، لأنّ باب مفاعلة يمكن أن يأتي على هذه الصورة.
[464]
بحث
معايير التقييم:
من القضايا المهمّة في حياة الأفراد والمجتمعات هي قضيّة "معايير التقييم" و "نظام القيم" الذي يتحكّم بثقافة ذلك المجتمع. لأنّ كلّ الحركات الصادرة عن الأفراد والجماعات في حياتهم إنّما تنبع من هذا النظام وتهدف إلى خلق تلك القيم.
وإشتباه قوم من الأقوام واُمّة من الاُمم في هذه القضيّة والتعامل بقيم خيالية لا أساس لها قد يؤدّي إلى طبع تأريخهم بطابع الغرور. وإدراك القيم الواقعية والمعايير الحقيقية يشكّل أساساً متيناً لبناء سعادتهم.
عبيد الدنيا المغرورون يتصوّرون بأنّ القيم تنحصر فقط في المال والقدرة المادية والتعداد البشري، وحتّى القيمة أمام الله ينظرون إليها من داخل هذا الإطار، كما لاحظنا نموذجاً من ذلك في الآيات السابقة، وهناك نماذج كثيرة من هذا القبيل تلاحظ في القرآن الكريم، منها:
1 ـ فرعون، الطاغية المتجبّر، الذي كان يقول لمن حوله بأنّه لا يصدق أنّ موسى (عليه السلام) رسول من الله، فإن كان حقّاً ما يقول فلِمَ لم يعطه الله سواراً من الذهب (فلولا اُلقي عليه أسورة من ذهب).(1)
وحتّى انّه يرى عدمها دليل هي المهانة والدونية، فيقول: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين).(2)
2 ـ مشركو عصر الرسالة المحمّدية، تعجّبوا من نزول القرآن على رجل فقير كرسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم).(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الزخرف، 53.
2 ـ الزخرف، 25.
3 ـ الزخرف، 31.
[465]
3 ـ بنو إسرائيل اعترضوا على نبي زمانهم "أشموئيل" في قضيّة إنتخاب "طالوت" كقائد للجيش وقالوا: (نحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال).(1)
4 ـ مشركو زمان نوح (عليه السلام) الأثرياء إعترضوا عليه بأن اتّبعه أراذلهم، وهم الفقراء في نظرهم (قالوا أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون)(2)
5 ـ أثرياء مكّة أوردوا نفس هذا الإعتراض على الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقولهم: لقد أحاط بك الحفاة، ونحن نشمئزّ حتّى من رائحتهم، فلا نتبعك إلاّ بإبتعادهم عنك. وقد حقّرهم القرآن الكريم في سورة الكهف بشدّة، وهدّدهم، وأمر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بأن يكون مع الذين عشقوا الله، ويدعونه صباحاً ومساءً وإن كانوا فقراء (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم).(3)
لهذه الأسباب، كان أوّل عمل إصلاحي يقوم به الأنبياء هو تحطيم اُطر التقييم الكاذبة تلك، وإستبدالها بالقيم الإلهية الأصيلة والقيام بـ "ثورة ثقافية" أبدلوا أساس الشخصية ومحورها من الأموال والأولاد والثروة والجاه والشهرة القبلية والعائلة إلى التقوى والإيمان والعمل الصالح.
وقد مرّ نموذج لذلك في الآيات السابقة، فبعد شجب الأموال والأولاد كوسيلة للتقرّب من الله تعالى، والآية (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)أعطت بعدها مباشرة القيم الأصيلة كبديل بالقول: (إلاّ من آمن وعمل صالحاً).
والآية الشريفة (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) والتي أضحت شعاراً إسلامياً بعد إستبعاد القيم المرتبطة بالقبيلة والعشيرة، تشير إلى هذه الثورة الفكرية والإعتبارية. فإستناداً إلى هذه الآية (الحجرات ـ 13) فليس هناك شيء غير
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ البقرة، 247.
2 ـ الشعراء، 111.
3 ـ الكهف، 28.
[466]
التقوى، والإيمان المقترن بالشعور بالمسؤولية، وصلاح العمل، ليس سوى ذلك معياراً لتقييم شخصية الإنسان وقربه من الله تعالى. وكلّ من كان له نصيب أكبر من ذلك كان إلى الله أقرب وعنده أكرم.
والملفت للنظر أنّ محيط الجزيرة العربية كان قبل نزول التعاليم الإسلامية القرآنية السامية ـ بتأثير هيمنة القيم الظالمة ـ خاضعاً لأصحاب الأموال والكذبة من أمثال أبي سفيان وأبي جهل وأبي لهب. ولكن بعد ثورة القيم ظهر من نفس ذلك المحيط أمثال أبي ذرّ وعمّار والمقداد (رضوان الله عليهم).
الجميل أنّ القرآن المجيد في سورة "الزخرف" وبعد ذكر الآيات التي أوردناها آنفاً يقول: (ولولا أن يكون الناس اُمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضّة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كلّ ذلك لمّا متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربّك للمتّقين)(1).
هذا كلّه لكي لا تحلّ القيم المزيّفة محلّ القيم الإنسانية الواقعية.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الزخرف، 33 ـ 35.
[467]
الآيات
قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَىْء فَهُوَ يَخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّزِقِينَ(39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَـئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَـنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ(41) فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْض نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ(42)
التّفسير
نفور المعبودين من عابديهم:
تعود هذه الآيات لتؤكّد مرّة اُخرى خطأ الذين يتوهمون بأنّ أموالهم وأولادهم سبب لقربهم من الله فتقول: (قل إنّ ربّي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له).
ثمّ تضيف الآية: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين).
[468]
فمع أنّ محتوى هذه الآية يؤكّد ما عرضته الآيات السابقة إلاّ أنّ هناك ما هو جديد من جهتين:
الاُولى: أنّ الآية السابقة التي عرضت نفس المفهوم، كانت تتحدّث عن أموال وأولاد الكفّار، بينما الآية محلّ البحث باحتوائها على كلمة "عباد" تشير إلى المؤمنين، والمعنى أنّه حتّى فيما يخصّ المؤمنين فإنّه قد يتّسع الرزق ـ لأنّه الأصلح بالنسبة للمؤمن ـ وقد يضيق ـ لأنّ المصلحة تقتضي ذلك ـ على كلّ حال، فإنّ سعة وضيق الرزق لا يمكن أن يشكّل دليلا على أي شيء.
الثّانية: الآية السابقة أشارت إلى سعة الرزق وضيقه بالنسبة إلى مجموعتين مختلفتين، في حين أنّ هذه الآية تشير إلى حالتين مختلفتين بالنسبة لشخص واحد، حيناً يتّسع رزقه وحيناً يضيق.
إضافةً إلى أنّ ما جاء في بداية هذه الآية هو في الحقيقة مقدّمة لما جاء في آخرها، وهو الترغيب في الإنفاق في سبيل الله.
جملة "فهو يخلفه" تعبير جميل يشير إلى أنّ ما ينفق في سبيل الله إنّما هو في الحقيقة تجارة وافرة الربح، لأنّ الله سبحانه وتعالى تعهّد بأن يخلفه، ونعلم أنّه في الوقت الذي يتعهّد فيه الكريم بأداء العوض فإنّه لا يراعي المقدار الذي يريد تعويضه، بل إنّه يعوّض بأضعاف مضاعفة، بل بمئات الأضعاف.
طبعاً فإنّ هذا الوعد الإلهي لا ينحصر بالآخرة، فإنّ ذلك مسلّم به، ولكن في الدنيا أيضاً فإنّه يخلف ما أنفق بمختلف البركات.
جملة (هو خير الرازقين) ذات معنى واسع، ويمكن الإفادة منها من وجوه مختلفة.
هو خير من يعطي رزقاً، لأنّه يعلم ماذا يعطي وإلى أي حدّ، بحيث لا يكون ما يعطيه عاملا للفساد والغرور، لأنّه عالم بكلّ شيء.
هو يعطي أي شيء يريد أن يعطيه لأنّه قادر على كلّ شيء.
[469]
ولا يريد جزاءاً على ما يعطيه لأنّه غني بذاته. ويعطي إبتداءً، لأنّه حكيم وعالم بكلّ شيء. بل الحقيقة أنّه ليس من رزّاق غيره، لأنّ أي معط إنّما يعطي ممّا رزقه الله، وبذا فهو ليس سوى "واسطة إنتقال" لا رزّاقاً.
وكذلك فهو تعالى يعطي النعم الباقية قبال المال الفاني، والكثير مقابل القليل.
ولأنّ فريقاً من الأثرياء الظالمين الطغاة كانوا في صفّ المشركين، وادّعوا بأنّهم يعبدون الملائكة وأنّهم شفعاؤهم يوم القيامة، فقد ردّ القرآن على هذا الإدّعاء الباطل فقال: (ويوم يحشرهم جميعاً ثمّ يقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون).
بديهي أنّ هذا السؤال ليس من باب الإستفهام عن الجواب، لأنّ الله تعالى عالم بكلّ شيء، ولكن الهدف هو أن تظهر الحقائق من إجابة الملائكة، لكي يخسأ هؤلاء الضالّون ويخيب ظنّهم، ويعلموا بأنّ الملائكة متنفّرين من أعمالهم، فيصيبهم اليأس إلى الأبد.
ذكر (الملائكة) من بين المعبودات التي كان المشركون يعبدونها، إمّا لأنّ الملائكة أشرف المخلوقات التي عبدها الضالّون، والتي لم يحصلوا على شفاعتها يوم القيامة، فماذا يستطيعون الحصول عليه من حفنة من الحجر أو الأخشاب أو الجنّ أو الشياطين!؟
أو أنّه من قبيل أنّ عبدة الأوثان كانوا يعتقدون بأنّ الأحجار والأخشاب هي مظهر ونموذج لموجودات علوية (كالملائكة وأرواح الأنبياء)، ولذا عبدوها. فكما ورد في تاريخ الوثنية عند العرب "إنّ سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب، هو أنّ "عمرو بن لحي" مرّ بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له: هذه أرباب نتّخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصر بها ونستسقي. فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسوّل للعرب فعبدوه وإستمرّت عبادة الأصنام
[470]
فيهم إلى أن جاء الإسلام"(1) (2).
والآن لننظر ماذا تقول الملائكة للإجابة على سؤال الباري عزّوجلّ؟ لقد إختارت الملائكة في الحقيقة أكثر الأجوبة شمولية وأعظمها أدباً (قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون).
أمّا ما هو المقصود من الجواب الذي أجابت به الملائكة؟ فللمفسّرين أقوال، ويبدو أنّ أقربها هو القول بأنّ المقصود (بالجنّ) هو (الشيطان) وسائر الموجودات الخبيثة التي شجّعت عبدة الأوثان على ذلك العمل، وزينته في أنظارهم، وعليه فإنّ المراد من عبادة الجنّ هي تلك الطاعة والإنقياد لأوامرها والرضى بأضاليلها.
فالملائكة إذاً يقولون ضمن إعلان تنفّرهم وعدم رضاهم على هذه الأعمال: إنّ العامل الأساسي لهذا الفساد هم الشياطين، وإن كان الظاهر أنّهم يعبدوننا، فالمهمّ هو الكشف عن الوجه الحقيقي لهذا العمل أمام الملأ.
وقد ورد نظير هذا المعنى في سورة يونس ـ الآية (28) حيث يقول تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون). أي إنّكم في الحقيقة لم تعبدونا نحن، بل تعبدون أهواءكم وأوهامكم وخيالاتكم، ناهيك عن أنّ هذه العبادة لم تكن بأمرنا ورضانا. وعبادة هذا شكلها ليست بعبادة أصلا.
وبهذه الطريقة يتبدّل أمل المشركين في ذلك اليوم إلى يأس كامل، وتتجلّى لهم بذلك حقيقة أنّ معبوديهم لن يحلّوا من مشاكلهم عقدة صغيرة واحدة، بل على العكس فهم منهم متنفّرون مستاءون.
لذا ـ وكإستخلاص للنتيجة ـ تقول الآية الكريمة التي بعدها: (فاليوم لا يملك
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير روح المعاني، مجلّد 22، ص140 ـ كذلك ورد هذا المعنى بتفاوت يسير في سيرة ابن هشام، مجلّد 1، ص79 ـ وهناك نقرأ أنّه جلب معه الصنم "هبل".
2 ـ عمرو بن لُحي: أحد الشخصيات المعروفة في مكّة قبل الإسلام.
[471]
بعضكم لبعض نفعاً ولا ضرّاً). وبناءً على ذلك فلا الملائكة ـ الذين هم ظاهراً معبودون ـ يستطيعون الشفاعة لهم، ولا هم يستطيعون مساعدة بعضهم البعض.
(ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذّبون).
ليست هذه هي المرّة الاُولى التي يعبّر فيها القرآن عن المشركين بـ "الظلم" بل ورد ذلك في الكثير من آيات القرآن.
التعبير عن "الكفر" بـ "الظلم". أو عن "الكافرين والمشركين" بـ "الظالمين". ذلك لأنّهم قبل كلّ شيء ظلموا أنفسهم بخلعهم تاج العبودية لله عن رؤوسهم، ولفّوا طوق الذلّة للأوثان على رقابهم. ودمّروا شخصيتهم ومصيرهم.
وفي الحقيقة فإنّهم سيعاقبون يوم القيامة على شركهم وعلى إنكارهم للمعاد، وجملة (ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذّبون) تشتمل على المعنيين.
* * *
بحوث
1 ـ الإنفاق سبب النماء لا النقصان
التعبير الوارد في الآية السابقة يحتوي على معان جمّة:
أوّلا: فمن جهة أنّ كلمة "شيء" بمعناها الواسع تشمل كلّ أنواع الإنفاق، المادّي والمعنوي القليل والكثير، لأيّ من المحتاجين كان الإنفاق، صغيراً أو كبيراً، المهمّ أن يعطي الإنسان شيئاً ممّا يملك في سبيل الله بأي كيفية كان وبأي كميّة كانت.
ثانياً: لقد أخرجت الآية (الإنفاق) بمفهومه من "الفناء"، ولوّنته بلون "البقاء" لأنّ الله ضَمِنَ إخلاف ما يُنفق في سبيله بمواهبه المادية والمعنوية، بمرّات مضاعفة، مئات الآلاف، أقلّها عشرة أضعاف، وبذا فإنّ المنفق ـ وبهذه الروحية
[472]
وهذا الإعتقاد ـ سيلج ميدان الإنفاق بيد وقلب أكثر إنفتاحاً، ولن يخطر على باله إحساس بالقلّة، ولن يفكّر بالفقر، بل إنّه سيشكر الله على حسن توفيقه له على هذه التجارة الوفيرة الربح.
وقد عبّر القرآن في الآيات (10) و (11) من سورة الصفّ عن هذا المعنى فقال: (ياأيّها الناس هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ـ تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
ونقرأ في الحديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله):
ينادي مناد كلّ ليلة: لدوا للموت.
وينادي مناد: ابنوا للخراب.
وينادي مناد: اللهمّ هب للمنفق خلفاً.
وينادي مناد: اللّهمّ هب للممسك تلفاً.
وينادي مناد: ليت الناس لم يخلقوا.
وينادي مناد: ليتهم إذ خلقوا فكّروا فيما له خلقوا!!"(1).
والمقصود من هؤلاء المنادين هم الملائكة الذين يدبّرون اُمور هذا العالم بأمر الله.
وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله): "من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة"(2).
وقد نقل نفس المعنى عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام).
والجدير بالتذكير هو أنّ الإنفاق يجب أن يكون من المال الحلال والكسب المشروع، وإلاّ فلا قبول لغيره عند الله ولا بركة فيه.
لذا فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سأله أحدهم قال: قلت: آيتان في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان: ذيل الآيات مورد البحث.
2 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، ص340، ح77.
[473]
كتاب الله عزّوجلّ أطلبهما فلا أجدهما.
قال (عليه السلام) "وما هما؟".
قلت: قول الله عزّوجلّ: (ادعوني أستجب لكم)، فندعوه ولا نرى إجابة.
قال (عليه السلام): أفترى الله عزّوجلّ أخلف وعده؟".
قلت: لا.
قال: فممّ ذلك؟
قلت: لا أدري.
قال (عليه السلام): "لكنّي أخبرك، من أطاع الله عزّوجلّ فيما أمره من دعائه من جهة الدعاء أجابه".
قلت: وما جهة الدعاء.
قال: "تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ثمّ تشكره ثمّ تصلّي على النّبي (صلى الله عليه وآله)، ثمّ تذكر ذنوبك فتقرّ بها، ثمّ تستعيذ منها فهذا جهة الدعاء".
ثمّ قال (عليه السلام): "وما الآية الاُخرى؟".
قلت: قول الله عزّوجلّ: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين)وإنّي أنفق ولا أرى خلفاً؟
قال: "أفترى الله عزّوجلّ أخلف وعده؟
قلت: لا.
قال: "فممّ ذلك؟".
قلت: لا أدري؟
قال: لو أنّ أحدكم إكتسب المال من حلّه وأنفقه في حلّه لم ينفق درهماً إلاّ أخلف عليه"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير البرهان، مجلّد 3، ص353.
[474]
2 ـ أمّنوا على أموالكم بتأمين إلهي!!
لأحد المفسّرين تحليل جميل بهذا الخصوص، يقول: "ثمّ إنّ من العجب أنّ التاجر إذا علم أنّ مالا من أمواله في معرض الهلاك يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء، ويقول بأنّ ذلك أولى من الإمهال إلى أن يهلك المال، فإن لم يبع حتّى يهلك ينسب إلى الخطأ، ثمّ إن حصل به كفيل مليء ولا يبيع ينسب إلى قلّة العقل. فإن حصل به رهن وكتب به وثيقة ولا يبيعه ينسب إلى الجنون، ثمّ إنّ كلّ أحد يفعل هذا ولا يعلم أنّ ذلك قريب من الجنون، فإنّ أموالنا كلّها في معرض الزوال المحقّق، والإنفاق على الأهل والولد إقراض، وقد حصل الضامن المليء وهو الله العلي وقال تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) ثمّ رهن عند كلّ واحد إمّا أرضاً أو بستاناً أو طاحونة، أو حمّاماً أو منفعة، فإنّ الإنسان لابدّ أن يكون له صفة أو جهة يحصل له منها مال، وكلّ ذلك ملك الله، وهو في يد الإنسان بحكم العارية، فكأنّه مرهون بما تكفّل الله من رزقه ليحصل له الوثوق التامّ، ومع هذا لا ينفق ويترك ماله ليتلف لا مأجوراً ولا مشكوراً"(1).
3 ـ سعة مفهوم الإنفاق:
لأجل فهم الحدّ لمفهوم الإنفاق في الإسلام، نطالع الحديث التالي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) إذ يقول: "كلّ معروف صدقة، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة، وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها، إلاّ ما كان من نفقة في بنيان أو معصية"(2).
يبدو أنّ إستثناء البنيان من قانون الإخلاف، لأنّ عين البناء باقية، أو لأنّه يكثر توجّه الناس إليه.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الفخر الرازي، مجلّد 25، ص263 (ذيل الآيات مورد البحث).
2 ـ الجامع لأحكام القرآن (القرطبي)، مجلّد 14، ص307.
[475]
الآيات
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـتُنَا بَيِّنَـت قَالُوا مَا هَـذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَـذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(43) وَمَا ءَاتَيْنَـهُم مِّن كُتُب يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِير(44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا ءَاتَيْنَـهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(45)
التّفسير
بأيِّ منطق ينكرون آيات الله:
تعود هذه الآيات لتكمل البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المشركين الكفّار وأقوالهم يوم القيامة، فتتحدّث حول وضع هؤلاء في الدنيا ومواقفهم عند سماعهم القرآن حتّى يتّضح أنّ مصيرهم الاُخروي المشؤوم إنّما هو نتاج تلك المواقف الخاطئة التي اتّخذوها إزاء آيات الله في الدنيا.
تقول الآية الكريمة الاُولى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قالوا ما هذا إلاّ رجل
[476]
يريد أن يصدّكم عمّا كان يعبد آباؤكم).
فهذا أوّل ردّ فعل لهم إزاء "الآيات البيّنات" وهو السعي إلى تحريك حسّ العصبية في هؤلاء القوم المتعصّبين.
خاصّة مع ملاحظة إستخدامهم تعبير "آباؤكم" بدل "آباؤنا"، يفهم منه أنّهم يريدون القول لقومهم بأنّ تراث الأجداد في خطر، وإنّ عليكم النهوض والتصدّي لهذا الرجل عن العبث بذلك الميراث.
ثمّ تعبير (ما هذا إلاّ رجل) إنّما يقصد به تحقير النّبي (صلى الله عليه وآله) من جهتين الاُولى كلمة "هذا" والثّانية "رجل" بهيأة النكرة، مع العلم بأنّهم يعرفون النّبي (صلى الله عليه وآله) جيّداً، ويعلمون بأنّ له ماضياً مشرقاً.
من الجدير بالملاحظة أيضاً أنّ القرآن وصف "الآيات" بـ "البيّنات"، أي أنّها تحمل دلائل حقّانيتها معها، وما هو قابل للمعاينة لا يحتاج إلى توضيح أو بيان.
ثمّ توضّح الآية مقولتهم الثّانية التي قصدوا بها إبطال دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله) فتقول: (وقالوا ما هذا إلاّ إفك مفترى).
"إفك" كما ذكرنا سابقاً بمعنى كلّ مصروف عن وجهه الذي يحقّ أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهابّ "مؤتفكة"، وأي صرف عن الحقّ في الإعتقاد إلى الباطل، ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح. ولكن كما قال البعض، فإنّ "الإفك" يطلق على الأكاذيب الكبيرة.
وكان يكفي إستخدامهم لكلمة "الإفك" في إتّهام الرّسول (صلى الله عليه وآله) بالكذب، لكنّهم أرادوا تأكيد ذلك المعنى بإستخدامهم لكلمة "مفترى"، دون أن يكون لهم أدنى دليل على ذلك الإدّعاء.
وأخيراً، كان الإتّهام الثالث الذي ألصقوه بالرّسول (صلى الله عليه وآله) هو (السحر) كما نرى ذلك في آخر هذه الآية (وقال الذين كفروا للحقّ لمّا جاءهم إنّ هذا إلاّ سحر مبين).
العجيب أنّ هؤلاء الضالّين يطلقون هذه التّهم الثلاث المذكورة بأصرح
[477]
التأكيدات، ففي موضع يقولون إنّه سحر، وفي آخر يقولون: إنّه مجرّد كذب، ثمّ يقولون في موضع ثالث; إنّه يريد أن يصدّكم عن مآثر أجدادكم!
طبعاً هذه الصفات الذميمة الثلاثة ليست متضادّة فيما بينها ـ مع أنّ هؤلاء لا يأنفون من الكلام المتضادّ ـ وعلى فلا داعي ـ كما يقول المفسّرين ـ لإعتبار أنّ كلّ واحدة من هذه الصفات تنسب إلى مجموعة مستقلّة من الكفّار.
كذلك فمن الجدير بالملاحظة أنّ القرآن الكريم إستخدم في المرتين الاُولى والثّانية جملة "قالوا"، ثمّ إستخدم في المرّة الثالثة جملة "قال الذين كفروا"، إشارة إلى أنّ كلّ التعاسة التي أصابتهم إنّما منشأها الكفر وإنكار الحقّ ومعاداة الحقيقة، وإلاّ فكيف يمكن لأحد أن يتّهم رجلا تظهر دلائل حقّانيته من حديثه وعمله وماضيه بهذه التّهم المتلاحقة وبلا أدنى دليل.
فكأنّهم يواصلون بهذه التّهم الثلاث برنامجاً مدروساً لمواجهة النّبي (صلى الله عليه وآله) فقد لاحظوا من جانب أنّ الدين جديد وله جاذبية، ومن جانب آخر، فقد أخافت إنذارات الرّسول (صلى الله عليه وآله) بالعذاب الإلهي في الدنيا والآخرة فئة من المجتمع شاءوا أم أبوا، ومن جانب ثالث فإنّ معجزات الرّسول (صلى الله عليه وآله) تركت أثرها الإيجابي في نفوس عامّة المجتمع ـ شاءوا أم أبوا كذلك.
لذا فإنّهم ـ لأجل إبطال مفعول هذه الاُمور الثلاثة ـ فكّروا بالدعوة إلى حفظ تراث السلف في قبال الدين الجديد، في حين أنّ السلف كان مصداقاً لما ذكره القرآن الكريم (لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) البقرة ـ 170. فلا جرم أن يتخلّى الناس عن مثل تلك الهياكل الخرافية التي كانت إرث هؤلاء الجهلة والحمقى.
وأمّا في قبال إنذارات الرّسول (صلى الله عليه وآله) بالعذاب الإلهي، فقد طرحوا قضيّة الإتّهام بالكذب لكي يريحوا العامّة.
وفي قبال المعجزات، طرحوا تهمة (السحر). ظنّاً منهم أنّ المعجزات لن تترك أثراً في نفوس الناس بسبب هذا التوجيه.
[478]
ولكن تاريخ الإسلام شاهد على أنّ أيّاً من هذه المخطّطات الشيطانية لم تكن ذات أثر، وكانت النتيجة أن دخل الناس في هذا الدين العظيم فوجاً بعد فوج.
في الآية التي بعدها، يشطب القرآن الكريم على جميع تلك الإدّعاءات الواهية، مع أنّها واضحة البطلان، فيقول: (وما آتيناهم من كتب يدرسونها، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير).
وهي إشارة إلى أنّ هذه الإدّعاءات يمكنها أن تكون مقبولة فيما لو جاءهم رسول من قبل بكتاب سماوي يخالف مضمونه الدعوة الجديدة، فلا بأس أن ينبروا لتكذيبها، وينادوا بتراث الأجداد تارةً، وبتكذيب الدعوة الجديدة تارةً اُخرى، أو إتّهام من جاء بها بالسحر. أمّا من لا يعتمد إلاّ على فكره الشخصي ـ بدون أي وحي من السماء ـ وبدون أن يكون له نصيب من علم، فلا يحقّ له الحكم لمجرّد تلفيقه الخرافات والأوهام.
ويستفاد من هذه الآية أيضاً أنّ الإنسان لا يمكنه أن يطوي طريق الحياة بعقله فقط، بل لابدّ أن يستمدّ المعونة من وحي السماء ويتقدّم إلى الأمام بالإستعانة بالشرائع، وإلاّ فهي الظلمات والخوف من التيه.
الآية الأخيرة من هذه الآيات، تهدّد تلك المجموعة المتمردّة بكلمات بليغة مؤثّرة فتقول: (وكذب الذين من قبلهم) في حين أنّ هؤلاء لم يبلغوا في القوّة والقدرة عشر ما كان لاُولئك الأقوام (وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذّبوا رسلي فكيف كان نكير).
فمدنهم المدمّرة بضربات العقوبة الإلهية الساحقة ليست ببعيدة عنكم .. فهي في الشام القريب منكم، فليكونوا لكم مرآةً للعبرة، واستمعوا إلى النصائح التي يقولها الدمار، وقارنوا مصيركم بمصيرهم، فلا السنّة الإلهيّة قابلة للتغيير ولا أنتم أقوى منهم!.
"معشار": بمعنى واحد إلى عشرة. البعض إعتبرها "عُشر العُشر" أيّ واحد إلى
[479]
مائة، ولكن أكثر كتب اللغة والتفاسير ذكرت المعنى الأوّل. وإن كان مثل تلك الأعداد لا يقصد بها التعداد، وتستخدم للتقليل في مقابل سبعة وسبعين وألف وأمثالها التي تستخدم للتكثير، وبذا يكون المعنى المقصود من الآية، إنّنا دمّرنا عصاة أقوياء لا يمتلك هؤلاء إلاّ جزءاً صغيراً من قدرتهم.
وقد ورد نظير هذا المعنى في آيات كثيرة من آيات القرآن الكريم، من جملتها ما ورد في الآية (6) من سورة الأنعام (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكّناهم في الأرض ما لم نمكّن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين). وكذا ورد نظير هذا المعنى في الآيات 21 ـ المؤمن، 9 ـ الروم.
لفظة "نكير" من مادّة "نكر" والإنكار ضدّ العرفان، والمقصود أنّ إنكار الله هو تلك المجازاة والعذاب الصادر عنه تعالى(1).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بعض المفسّرين احتملوا تفسيراً آخر لهذه الآية، وهو أنّ المقصود من (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) وهو عشر الآيات التي أنزلناها على مشركي قريش لإتمام الحجّة عليهم، لم ننزّله على الأقوام السابقين، فإذا كان العذاب الذي عذّبناهم به بتلك الشدّة، فما بالك بمصير مشركي قريش الذين نالهم عشرة أضعاف الآيات لإتمام الحجّة! ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب (وبناءً على التّفسير الأوّل فإنّه من أربعة ضمائر موجودة في الآية، يعود الضميران الأوّل والثّاني على كفّار قريش، والضمير الثالث والرابع على الكفّار السالفين، أمّا بناءً على التّفسير الثّاني فإنّ الضمير الأوّل يعود على كفّار قريش، والثّاني على الكفّار السالفين، والثالث على كفّار قريش والرابع على الكفّار السابقين ـ تأمّل).
[480]
الآية
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَحِدَة أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَدَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَاب شَدِيد(46)
التّفسير
الثّورة الفكرية أساس لأيّ ثورة أصيلة:
في هذا المقطع من الآيات والآيات التالية، والتي تشكّل أواخر سورة سبأ المباركة، يؤمر الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مرّة اُخرى بدعوة هؤلاء بالأدلّة المختلفة ليؤمنوا بالحقّ، ويرجعوا عن ضلالهم، وكما مرّ في البحوث السابقة فقد خوطب الرّسول (صلى الله عليه وآله) خمس مرّات بأن قيل له (قل ...).
ففي الآية الاُولى إشارة إلى اللبنة الأساسية في كلّ التحوّلات والتبدلات الإجتماعية والأخلاقية والسياسية والإقتصادية والثقافية، فتقول وبجمل قصيرة وعميقة المعنى (قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمّ تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
كلمات وتعبيرات هذه الآية يشير كلّ منها إلى موضوع هامّ، نجملها في عشرة
[481]
نقاط كما يلي:
1 ـ جملة "أعظكم" توضّح في الحقيقة واقع أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله) يريد القول بأنّي ألحظ فيما أقول لكم خيركم وصلاحكم دون أيّ شيء آخر.
2 ـ التعبير بـ "واحدة" مع إرتباطه بالتأكيد بواسطة "إنّما" إشارة معبّرة إلى أنّ أصل جميع الإصلاحات الفردية والجماعية، إنّما هي بإعمال الفكر، فما دام تفكير الاُمّة في سبات فستكون هدفاً لسرّاق ولصوص الدين والإيمان والحرية والإستقلال، ولكن حينما تصحوا الأفكار فإنّها تقطع الطريق أمام هؤلاء.
3 ـ التعبير بـ "قيام" ليس معناه مجرّد الوقوف على القدمين، بل معناه الإستعداد لإنجاز العمل، بلحاظ أنّ الإنسان بوقوفه على قدميه إنّما يكون مستعدّاً لإتمام البرامج الحياتية المختلفة، وعليه فإنّ التفكّر يحتاج إلى إستعداد قبلي، لكي يوجد السبب والمحرّك في الإنسان الذي يدفعه بالإرادة والتصميم إلى التفكّر.
4 ـ تعبير "لله" يوضّح أنّ القيام والإستعداد يجب أن يكون باعثه إلهياً، والتفكّر الذي يكون صادراً عن هذا الدافع له قيمة عالية، فالإخلاص في العمل عادةً ـ وحتّى في التفكّر ـ هو الأساس للنجاة والسعادة والبركة.
والملفت للنظر هو إعتبار الإيمان بالله هنا أمراً مسلّماً، وعليه فالتفكّر المطلوب إنّما هو في مسائل اُخرى، وتلك إشارة إلى أنّ التوحيد إنّما هو أمر فطري واضح يدرك حتّى بدون تفكّر.
5 ـ التعبير بـ "مثنى وفرادى" إشارة إلى أنّ التفكّر يجب أن يكون بعيداً عن الغوغائية والفوضى، بأن يقوم الناس آحاداً أو على الأكثر مثنى ويتفكّرون، لأنّ التفكّر وسط الضوضاء والغوغائية لا يمكنه أن يكون عميقاً، خصوصاً وأنّ عوامل الذاتية والتعصّب في طريق الدفاع عن الإعتقادات الشخصية ستكون أشدّ فعلا في التجمّعات الأكبر.
بعض المفسّرين إحتمل أن يكون هذان التعبيران إشارة إلى الإفادة من
[482]
المشورة بالخلط بين الأفكار الفردية والجماعية، فالإنسان يجب أن يتفكّر منفرداً وكذلك يستفيد من أفكار الآخرين، لأنّ الإستبداد بالرأي والفكر سبب للعجب، والتشاور والتعاون لأجل حلّ المشكلات العلمية ـ والذي لا يؤدّي إلى الغوغاء ـ سيعطي حتماً ـ أثراً أفضل، ويمكن أن يكون تقديم "مثنى" على "فرادى" في الآية لهذا السبب.
6 ـ الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول هنا "تتفكّروا" دون أن يذكر بماذا؟ فحذف المتعلّق دليل على العموم، أي في كلّ شيء، في الحياة المعنوية والمادية، في الاُمور الكبيرة والصغيرة. وبكلمة: في كلّ أمر يجب التفكّر أوّلا، وأهمّ من ذلك كلّه هو التفكّر للعثور على الإجابة للأسئلة الأربعة التالية: من أين جئت؟ لأي شيء أتيت؟ إلى أين أذهب؟ وأين أنا الآن؟
ولكن بعض المفسّرين ذهبوا إلى أن "تتفكّروا" تتعلّق بالجملة التي تليها وهي "ما بصاحبكم من جنّة" بمعنى أنّكم لو تفكّرتم قليلا لوجدتم أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله) منزّه عن إتّهامكم الواهي له بالجنون. والظاهر أنّ المعنى الأوّل أوضح.
ومن البديهي أنّ من الاُمور التي يجب التفكّر بها هي مسألة النبوّة والصفات العالية التي كان يتمتّع بها شخص النّبي (صلى الله عليه وآله) دون أن تكون منحصرة بذلك.
7 ـ تعبير "صاحبكم" إشارة إلى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وإنّه ليس نكرة بالنسبة لكم، فقد كان بينكم لسنوات طويلة. لقد عرفتموه بالأمانة والصدق والإستقامة، ولم تجدوا حتّى الآن نقطة ضعف واحدة في مسيرة حياته، لذا فعليكم بالإنصاف قليلا، فالتّهم التي تلصقونها به لا أساس لها جميعاً.
8 ـ "جنّة" بمعنى "جنون" وفي الأصل من مادّة "جن" بمعنى ستر الشيء عن الحاسّة، ومن كون أنّ (المجنون) سُتر عقله، فقد اُطلق عليه هذا التعبير، والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ العبارة تريد الكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ من يدعو إلى التفكّر والإنتباه كيف يكون هو مجنوناً، والحال أنّ مناداته بالتفكّر إنّما هي دليل
[483]
على تمام عقله ودرايته.
9 ـ جملة (إن هو إلاّ نذير لكم) تلخّص رسالة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مسألة "الإنذار" أي: التحذير من المسؤولية، ومن المحكمة الإلهية، والعقاب الإلهي، صحيح أنّ للرسول (صلى الله عليه وآله) رسالة في "التبشير" أو "البشارة" ولكن الذي يدفع الإنسان أكثر إلى التحرّك هو "الإنذار"، لذا فقد ذُكرت مسألة "الإنذار" في آيات اُخرى من القرآن الكريم على أنّها وظيفة الرّسول الأكرم الأساسية، كما في الآية (9) من سورة الأحقاف (وما أنا إلاّ نذير مبين)، كما ورد كذلك شبيه هذا المعنى في الآية 65 من سورة (ص) وآيات اُخرى.
10 ـ التعبير بـ (بين يدي عذاب شديد) إشارة إلى أنّ القيامة قريبة إلى درجة وكأنّها أمام العين، والحقّ أنّها كذلك بالنسبة إلى عمر الدنيا، كذلك فقد ورد في الروايات الإسلامية نظير هذا المعنى كما في الأثر عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وضمّ (صلى الله عليه وآله) الوسطى والسبّابة.
* * *
ملاحظتان
1 ـ إستقلال آيات القرآن الكريم وتفسيرها المنحرف.
لقد إتّضح لدينا من خلال تفسير الآية الأخيرة بأنّ الأصنام والأوثان وما يعبد من دون الله تعالى ليس لها آذان صاغية لما يُطلب منها، وإن كان لها فهي غير قادرة على حلّ مشكلة ما، وليس لها في هذا العالم أيّ ملك ولو بقدر رأس الإبرة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) وعلى هذا الأساس اتّخذ الوهّابيون هذه الآية ذريعة لهم للإدّعاء بأنّ كلّ شيء ما خلا الله جلّ وعلا ـ وإن كان نبيّاً ـ لا يسمع دعاءً، وإن سمع فلا يجيب! كما رفضوا أي نوع من التوسّل بأرواح الأنبياء والأئمّة والأولياء. واعتبروا ذلك مخالفاً للتوحيد محتجّين بقوله تعالى: (والذين تدعون
[484]
من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون).
ولو أمعنا النظر في الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية للاحظنا أنّ المقصود من قوله: (من دونه) هي الأصنام لا غير، وذلك يصدق على مجموعة الأحجار والأخشاب وغيرها والتي كانت في نظر مشركي الجاهلية بأنّها ذات قدرة إزاء قدرة الخالق الكريم جلّ وعلا، كما أنّ الأنبياء والأولياء وحتّى الشهداء في سبيل الله أحياء في البرزخ، وحياة البرزخ ـ كما هو معلوم ـ مجرّدة من الحجب المادية ومتعلّقات الدنيا ممّا يجعلها أوسع منها. يضاف إلى ذلك فإنّ التوسّل بالأرواح الطاهرة للأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) لا يعني إقرارنا لهم بالإستقلالية إزاء الخالق الكريم، بل إنّنا إنّما نطلب العون والمدد من مقامهم وجاههم في حضرة الباريء العزيز، وهذا هو عين التوحيد (تأمّلوا جيداً).
وقد صرّح القرآن الكريم بأنّ الشفيع إنّما يشفع بإذن الله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه) فمن يستطيع إنكار مثل هذه الآيات الصريحة غير الجهلة المغرورين الذين هتفوا بمثل هذه الإدّعاءات لزرع الفرقة بين المسلمين؟!
وفي كثير من الحالات نقرأ في سيرة الصحابة أنّهم حينما تحيق بهم المشكلات يأتون إلى قبر الرّسول (صلى الله عليه وآله) ويتوسّلون إليه، ويطلبون العون من الله عزّوجلّ بشفاعة روحه الطاهرة.
مثالنا على ذلك ما ذكره "البيهقي" من محدّثي العامّة، قال: في زمن الخليفة الثّاني مرّ في الناس قحط وجدب، ممّا حدا ببلال وعدد من الصحابة إلى الذهاب لقبر رسول الله وقالوا عنده: "يارسول الله، استق لاُمّتك ... فإنّهم قد هلكوا"(1).
كما نقل "الآلوسي" في (روح المعاني) الكثير من الأحاديث في هذا الصدد، وبعد المناقشة لهذه الأحاديث يخرج بالقول: إنّني لا أرى مانعاً من التضرّع لله
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ من كتاب (التوصّل إلى حقيقة التوسّل).
[485]
جلّوعلا بمقام الرّسول الأكرم في حياته أو بعد مماته ... ثمّ انّ الآخرين الذين يمتلكون مقاماً وقرباً من الخالق الكريم يجوز التوسّل بالله سبحانه بواسطتهم(1).
ولمزيد من الإطلاع راجع تفسيرنا هذا، ذيل الآية 35 من سورة المائدة.
2 ـ جانب من الروايات الإسلامية في التفكّر والتأمّل:
إهتّمت الرواية الإسلامية ـ وعلى خطى القرآن الكريم ـ بمسألة التفكّر إلى حدّ أن جعلتها في المقام الأوّل من الأهميّة، ويلاحظ المطالع للروايات تعبيرات جميلة ومعبّرة أوردنا نماذج منها هنا:
ألف ـ التفكّر أعظم عبادة: نقرأ عن الإمام الرضا (عليه السلام) "ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزّوجلّ"(2).
ونقرأ في رواية اُخرى: "كان أكثر عبادة أبي ذكر التفكّر"(3).
ب ـ ساعة تفكّر أفضل من ليلة من العبادة: عن الحسن الصيقل قال: سألت أبا عبدالله الصادق (عليه السلام): عمّا يروي الناس أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكّر؟ قال: "يمرّ بالخربة أو بالدار فيقول: أين ساكنوك وأين بانوك، ما لك لا تتكلّمين؟"(4).
ج ـ التفكّر مصدر العمل: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّ التفكّر يدعو إلى البرّ والعمل به"(5).
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ روح المعاني.
2 ـ اُصول الكافي، المجلّد 2، كتاب الكفر والإيمان ـ باب التفكّر ـ صفحة 55 حديث 4.
3 ـ سفينة البحار، المجلّد الثّاني، صفحة 382.
4 ـ المصدر السابق.
5 ـ المصدر السابق.
[486]
الآيات
قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ(47) قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّـمُ الْغُيُوبِ(48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَـطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبَِما يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ(50)
التّفسير
وما يبديء الباطل وما يعيد:
قلنا أنّ الله تعالى أمر رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) في هذه السلسلة من الآيات الكريمة خمس مرّات بأن يخاطب هؤلاء الضالّين ويقطع عليهم طريق الإعتذار من كلّ جانب.
فالآية السابقة كانت دعوة للتفكّر ونفي أي حالة من عدم التوازن الروحي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
وفي مطلع هذه الآيات، يتحدّث القرآن في عدم مطالبة الرّسول (صلى الله عليه وآله) بأي أجر مقابل تبليغ الرسالة. تقول الآية الاُولى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن
[487]
أجري إلاّ على الله).
وذلك إشارة إلى أنّ العاقل حينما يتصرّف أي تصرّف يجب أن يكون لتصرفه باعث، فحينما يثبت لكم بأنّ لدي عقل كامل، وترون بأن ليس لي هدف مادّي، فيجب أن تعلموا بأنّ هناك دافعاً ومحرّكاً إلهياً ومعنوياً هو الذي دفعني إلى ذلك التصرّف أو العمل.
بتعبير آخر: أنا دعوتكم للتفكّر، والآن تأمّلوا، واسألوا وجدانكم، أي سبب يدعوني لأن أنذركم من العذاب الإلهي الشديد؟، وأي ربح سوف أجنيه من هذا العمل؟، وأي فائدة مادية لي فيه؟. إضافةً إلى ذلك فإن كانت حجّتكم في هذا الإعراض ومخالفة الحقّ، هو أنّكم ستدفعون لي أجراً عليه، فسيضيع جزافاً، لأنّي أساساً لم اُطالبكم بأي أجر أو جزاء.
كذلك فقد ورد هذا المعنى بصراحة أيضاً في الآية (46) من سورة القلم (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون).
أمّا ما هو تفسير جملة (فهو لكم)؟ فهناك تفسيران:
الأوّل: أنّ الجملة كناية عن عدم المطالبة بأي أجر كما لو قلت "كلّ ما أردته منك فهو لك" كناية عن أنّك لا تريد شيئاً مطلقاً. والدليل على ذلك هو الجملة التالية والتي تقول: (إن أجري إلاّ على الله).
الثاني: أنّكم إن لاحظتم أنّي في بعض ما أخبرتكم به عن الله سبحانه وتعالى، قلت لكم: (لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)(1)، فهذا أيضاً يعود نفعه إليكم، لأنّ مودّة ذي القربى ترتبط بمفهوم (الإمامة والولاية) و "إستمرار خطّ النبوّة، الذي هو ضروري لإدامة هدايتكم.
الدليل على هذا القول هو ما ورد في أسباب النّزول الذي نقله بعضهم هنا، ففي
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الشورى، 23.
[488]
تفسير روح البيان، ورد أنّه عند نزول الآية (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمشركي مكّة: "لا تؤذوا ذوي قرباي" وهم قبلوا بهذا الطلب، ولكن عندما نال الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من أصنامهم، قالوا: إنّ محمّداً لم ينصفنا، فهو من جانب يدعونا لعدم التعرّض لذوي قرباه بالأذى، ولكنّه من جانب آخر يمسّ أربابنا بالأذى، وهنا نزلت الآية موضوع بحثنا (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم). فما أردته منكم بهذا الخصوص هو بنفعكم، سواء آذيتموهم أو لم تؤذوهم.
ثمّ تختم الآية بالقول: (وهو على كلّ شيء شهيد). فإن كنت اُريد أجري من الله وحده فلأنّه وحده عالم بكلّ أعمالي ومطّلع على نواياي. علاوةً على أنّه هو سبحانه وتعالى شاهد صدقي وحقّانية دعوتي، لأنّه هو سبحانه سخّر لي كلّ هذه المعجزات والآيات البيّنات، والحقّ أنّه سبحانه وتعالى نعم الشاهد، فهو الذي قد أحاط بكلّ شيء علماً وهو أفضل من يستطيع الأداء، ولا يصدر عنه إلاّ الحقّ وهو خير الشاهدين. وهو الله سبحانه وتعالى.
بالإلتفات إلى ما قيل حول حقّانية دعوة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، تضيف الآية التي بعدها قائلة أنّ القرآن واقع غير قابل للإنكار لأنّه ملقى من الله سبحانه وتعالى على قلب الرّسول (صلى الله عليه وآله): (قل إنّ ربّي يقذف بالحقّ علاّم الغيوب).
كلمة "يقذف" من مادّة (قذف) وهو الرمي البعيد، وثمّة تفسيرات متعدّدة لهذه الآية، يمكن جمعها مع بعضها البعض.
أوّلا: المقصود بـ "يقذف بالحقّ" هو الكتب السماوية والوحي الإلهي على قلوب الأنبياء والمرسلين، ولأنّه سبحانه وتعالى هو علاّم الغيوب، فهو يعلم بالقلوب المهيّأة، فينتخبها ويقذف الوحي فيها حتّى ينفذ إلى أعماقها.
وعلى ذلك فالمعنى شبيه بما ورد في الحديث المعروف "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء".
[489]
والتعبير بـ "علاّم الغيوب" يؤيّد هذا المعنى.
الآخر: إنّ المقصود من "قذف الحقّ على الباطل وزهوق الباطل"، يعني أنّ للحقّ قوّة تجعله قادراً على تجاوز أي عائق في طريقه، وليس لأحد طاقة على الوقوف بوجهه، وبهذا تكون الآية تهديداً للمخالفين لكي لا يقفوا بوجه القرآن، وأن يعلموا أنّ حقّانية القرآن ستسحقهم.
وبذا تكون الآية تعبيراً مشابهاً لما ورد في الآية (18) من سورة الأنبياء (بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق).
ويحتمل أن يكون المقصود بتعبير "القذف" هنا هو نفوذ حقّانية القرآن إلى نقاط العالم القريبة والبعيدة، وهي إشارة إلى أنّ هذا الوحي السماوي سيضيء جميع العالم بنوره في نهاية الأمر.
بعدئذ ولزيادة التأكيد يضيف سبحانه وتعالى: (قل جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد)(1). وعليه فلن يكون للباطل أي دور مقابل الحقّ، لا خطّة اُولى جديدة، ولا خطّة معادة، إذ أنّ خطط الباطل نقش على الماء، ولهذا السبب فلم يتمكّن الباطل من طمس نور الحقّ ومحو أثره من القلوب.
مع أنّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مصاديق "الحقّ" و "الباطل" في هذه الآية في حدود معيّنة، لكن الواضح أنّ مفهوم الإثنين واسع وشامل جدّاً، القرآن، الوحي الإلهيى، تعليمات الإسلام، جميعها مصاديق لمفهوم "الحقّ". والشرك والكفر، والضلال، والظلم والذنوب، ووساوس الشيطان، والبدع الطاغوتية كلّها تندرج تحت معنى "الباطل"، وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية شبيهة بالآية (81) من سورة الإسراء، (وقل جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً).
وقد ورد أنّ ابن مسعود قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكّة وحول البيت ثلاثمائة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ (يبدىء) من مادّة "بدء" بمعنى الإيجاد الإبتدائي، و (يعيد): من مادّة (عود) بمعنى التكرار، الباطل: فاعل، والمفعول محذوف، والتقدير "ما يبدىء الباطل شيئاً وما يعيد شيئاً".
[490]
وستّون صنماً فجعل يطعنها بعود في يديه ويقول: "جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً ـ جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد"(1).
سؤال:
يثار هنا سؤال وهو أنّ الآية أعلاه تقول: إنّه بظهور الحقّ، يمحق الباطل، ويفقد كلّ خلاّقيته، والحال أنّنا نرى أنّ الباطل له جولات وصيت إلى الآن، ويسيطر على مناطق كثيرة؟
وللإجابة على هذا السؤال، يجب الإلتفات إلى ما يلي:
أوّلا: إنّه بظهور الحقّ وإشراقه. فإنّ الباطل ـ والذي هو الشرك والنفاق والكفر وكلّ ما ينبع عنها ـ يفقد بريقه، وإذا استمرّ وجوده فبالقوّة والظلم والضغط، وإلاّ فإنّ النقاب قد اُزيل عن وجهه، وظهرت صورته القبيحة لمن يطلب الحقّ، وهذا هو المقصود من مجيء الحقّ ومحو الباطل.
ثانياً: لأجل تحقّق حكومة الحقّ وزوال حكومة الباطل في العالم، فإضافة إلى الإمكانيات التي يضعها الله في خدمة عباده، هناك شرائط اُخرى مرتبطة بالعباد أنفسهم، والتي أهمّها "القيام بترتيب المقدّمات للإستفادة من تلك الإمكانات الإلهية". وبتعبير آخر، فإنّ إنتصار الحقّ على الباطل ليس فقط في المناحي العقائدية والمنطقية وفي الأهداف، بل في المناحي الإجرائية على أساسين، "فاعلية الفاعل" و "قابلية القابل" وإذا لم يصل الحقّ إلى النصر على الباطل في المرحلة العملية نتيجة عدم تحقّق (القابلية) فليس ذلك دليلا على عدم إنتصاره.
ولنضرب لذلك مثلا قرآنياً، فالآية الكريمة تقول: (ادعوني أستجب)(2)، ولكن المعلوم لدينا بأنّ إستجابة الدعاء ليست بدون قيد أو شرط، فإن تحقّقت شرائط
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، مجلّد 8، صفحة 397.
2 ـ المؤمن، 60.
[491]
الدعاء فهو مستجاب قطعاً، وفي غير هذه الحالة ينبغي عدم إنتظار الإستجابة، (شرح هذا المعنى جاء في تفسير الآية 186 ـ من سورة البقرة).
وذلك بالضبط كما لو أنّنا أتينا بطبيب حاذق لمريض ممدّد على فراشه، وعندها نقول له: زادت فرصة النجاة لك، وفي أي وقت أحضرنا له دواء نذكره بأنّنا قد حللنا له مشكلا آخر، في حين أنّ كلّ هذه الاُمور هي من مقتضيات الشفاء وليست (علّة عامّة)، فيجب أن يكون الدواء مؤثّراً في المريض، وأن تراعى توصيات الطبيب، كما أنّه يجب أن لا ننسى الحمية وأثرها، لكي يتحقّق الشفاء العيني والواقعي (تأمّل).
ثمّ يضيف تعالى: لأجل إيضاح أنّ ما يقوله (صلى الله عليه وآله) هو من الله، وأنّ كلّ هداية منه، وأن ليس هناك أدنى خطأ أو نقص في الوحي الإلهي، (قل إن ضللت إنّما أضلّ على نفسي وإن إهتديت فبما يوحي إليّ ربّي)(1).
أي إنّني لو اتّكلت على نفسي فسوف أضلّ، لأنّ الإهتداء إلى طريق الحقّ من بين أكداس الباطل ليس ممكناً بغير إمداد الله، ونور الهداية الذي ليس فيه ضلال وتيه هو نور الوحي الإلهي.
صحيح أنّ العقل هو مصباح مضيء، غير أنّ الإنسان ليس معصوماً، وشعاع هذا المصباح لا يمكنه كشف جميع حجب الظلام، إذاً تعالوا وتعلّقوا بنور الوحي الإلهي هذا حتّى تخرجوا من الظلمات، وتضعوا أقدامكم على أرض النور.
وفي ختام الآية يضيف تعالى: (إنّه سميع قريب).
فلعلّكم تعتقدون أنّه تعالى لا يسمع ما نقول وما تقولون، أو أنّه يسمع ذلك ولكنّه بعيد، كلاّ، فهو (سميع) و (قريب)، فلا تعزب عنه ذرّة ممّا نقول أن ندعو.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ فيما يخصّ لماذا أورد في الجملة الاُولى (على نفسي) وفي الجملة الثّانية (فيما يوحي إليّ ربّي) قال بعض المفسّرين: كلّ واحدة من هاتين الجملتين تحتوي على محذوف مقدّر، والتقدير كاملا "إن ضللت فإنّما أضلّ نفسي وإن إهتديت فإنّما أهتدي لنفسي بما يوحي إليّ ربّي" (تأمّل!!) ـ تفسير روح المعاني ـ تفسير الآية مورد بحثنا.
[492]
الآيات
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَان قَرِيب (51)وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيد(52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَان بَعِيد(53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِى شَكٍّ مُّرِيب(54)
التّفسير
ليس للكافرين مفرّ:
الآيات الأخيرة من سورة سبأ تعود إلى الحديث في المشركين المعاندين الذين مرّ الحديث فيهم في الآيات السابقة عن طريق مخاطبة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)فتصوّر حال تلك المجموعة عند وقوعها في قبضة العذاب الإلهي، كيف تفكّر في الإيمان، حين لا يكون لإيمانهم أدنى فائدة.
يقول تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت واُخذوا من مكان قريب).
ثمّة آراء بين المفسّرين في: متى يكون ذلك الصراخ والفزع والإضطراب؟ فبعضهم يرى أنّه عذاب الدنيا أو عذاب الموت، وبعضهم يرى أنّه يخصّ عقاب يوم
[493]
القيامة، غير أنّ آخر هذه الآية، يشير إلى أنّ هذه الآيات جميعها تتحدّث عن الدنيا وعذاب الإستئصال، أو لحظة تسليم الروح، إذ يقول تعالى في الآية الأخيرة من هذا المقطع (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل) وهذا التعبير لا ينسجم مع يوم القيامة. لأنّ الجميع يجمعون في ذلك اليوم للحساب، كما تشير إلى ذلك الآية (102) من سورة هود (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود).
وفي الآيتين 49 ـ 50 من سورة الواقعة أيضاً نقرأ (قل إنّ الأوّلين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم).
وعليه فإنّ المقصود من جملة (اُخذوا من مكان قريب) هو أنّ هؤلاء الأفراد الكافرين والظالمين، ليس فقط لا يمكنهم الفرار من يد القدرة الإلهيّة فحسب، بل إنّ الله سبحانه وتعالى يأخذهم بالعذاب من مكان قريب منهم جدّاً.
ألم يدفن الفراعنة في أمواج النيل الذي كان المصدر الأساس لفخرهم، ألم تنخسف الأرض بقارون وكنوزه، و "قوم سبأ" الذين مرّت بنا قصّتهم في هذه السورة ألم يحيق بهم الهلاك أقرب الأمكنة لهم، وهو ذلك السدّ العظيم الذي كان سبب عمران بلادهم وسبب حياتهم وحركتهم؟ لذا فإنّه الله يأخذ بالعذاب من أقرب الأماكن حتّى يُعلم مدى قدرته وسطوته.
فأكثر السلاطين الظلمة قتلوا على أيدي أقرب أفراد حواشيهم، وأغلب المتسلّطين الجبابرة تلقّوا الضربة الأخيرة من داخل قصورهم.
ولو لاحظنا ما ورد في الكثير من الروايات من طرق السنّة والشيعة، لرأينا أنّ لهذه الآية مصداقاً في أحاديث "السفياني" (مجموعة على خطّ أبي سفيان وعصارة عصر الجاهلية يخرجون على أتباع الحقّ في عصر ظهور المهدي (عليه السلام)). حيث أنّ السفياني وجيشه تخسف بهم الصحراء وسط الطريق إلى مكّة، وذلك في الحقيقة واحد من مصاديق الآية (واُخذوا من مكان قريب). حيث أنّهم وقعوا في
[494]
العذاب الإلهي من أقرب النقاط لهم، وهي الأرض التي تحت أقدامهم. وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المضمون عن ابن عبّاس وابن مسعود وأبي هريرة وحذيفة واُمّ سلمة وعائشة، كما يلاحظ في كتب السنّة، وكلّهم ينقلون عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)(1).
وقد أوردت تلك الأحاديث في تفسير هذه الآية في الكثير من كتب التّفسير الشيعية من أمثال تفسير القمّي، ومجمع البيان، ونور الثقلين، والصافي، والكثير من كتب التّفسير السنّية كتفسير روح المعاني، وروح البيان، والقرطبي.
كذلك فإنّ العلاّمة المجلسي ـ أعلى الله مقامه ـ أورد العديد من الروايات عن الإمام الباقر (عليه السلام) بهذا الخصوص، والتي تشير إلى كونها أحد مصاديق هذه الآيات، بإعتبار أنّ الخسف الذي يحلّ بالسفياني وجيشه هو مصداق للأخذ من مكان قريب(2).
وكما أشرنا مراراً فإنّ الرّوايات التي يوردها المفسّرون للتدليل على معنى الآية، إنّما هي المصاديق الأوضح، وليس معناها تحديد معنى الآية في ذلك.
الآية التي بعدها، تعرض وضع هؤلاء بعد أن أخذهم العذاب الإلهي تقول الآية الكريمة (وقالوا آمنا به)(3) ولكن (أنّى لهم التناوش من مكان بعيد).
نعم فبحلول الموت وعذاب الإستئصال اُغلقت أبواب العودة كليّاً، وحيل كالسدّ المحكم بين الإنسان وبين أن يكفّر عن ذنوبه، لذا فإنّ إظهار الإيمان في ذلك الحين، كأنّه كائن من مكان بعيد، وهو إيمان إضطراري بسبب الخوف الشديد من العذاب الذي يعاين هناك، مثل ذلك الإيمان أصلا لا قيمة له، لذا فإنّ الآية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تفسير الميزان، المجلّد 16، صفحة 419.
2 ـ بحار الأنوار، مجلّد 52، صفحة 185 فيما بعد.
3 ـ الضمير في كلمة "به" يعود على "الحقّ" على إعتبار أنّه أقرب مرجع له، ونعلم بأنّ الحقّ الآيات السابقة يشير إلى "القرآن ومحتواه والمبدأ والمعاد ورسول الإسلام".
[495]
(28) من سورة الأنعام تعبّر عنهم قائلة: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون).
"التناوش" من مادّة "نوش" ـ على زنة خوف ـ بمعنى التناول، وبعضهم إعتبروا أنّها بمعنى "التناول بسهولة" أي كيف يتناولون الإيمان من مكان بعيد ولم يكونوا يتناولونه من قريب؟
كيف يستطيعون الآن وبعد أن انتهى كلّ شيء، أن ينبروا لجبران خطاياهم ويؤمنوا، في حين أنّهم قبل هذا كفروا مع أنّهم كانوا يتمتّعون بالإختيار والإرادة: (وقد كفروا به من قبل).
ولم يكتفوا بالكفر فقط، بل إنّهم ألصقوا بالرّسول (صلى الله عليه وآله) وبتعاليمه مختلف أنواع التّهم، وحكموا أحكاماً خاطئة فيما يخصّ (عالم الغيب ـ والقيامة ـ والنبوّة): (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد).
"القذف" ـ كما قلنا ـ الرمي من بعيد، و "الغيب" هو عالم ما وراء الحسّ، والجملة كناية لطيفة عمّن يطلق أحكامه على عالم ما وراء الطبيعة بلا سابق علم أو معرفة، كمن يرمي شيئاً من نقطة بعيدة، فقلّما يصيب الهدف، فظنونهم وأمانيهم وأحكامهم لا تصيب أهدافها أيضاً. فقد عدّوا الرّسول (صلى الله عليه وآله) (ساحراً) حيناً، وحيناً (مجنوناً) وآخر (كذّاباً)، وحيناً اعتبروا القرآن "نتاجاً فكرياً بشرياً". ومرّة أنكروا الجنّة والنار والقيامة بشكل كلّي، كلّ هذه أنواع "للرجم بالغيب" أو "إصطياد الطيور في ظلام الليل" أو بعبارة اُخرى "القذف من مكان بعيد".
ثمّ يضيف تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل)ففي لحظة مؤلمة، فصل بينهم وبين كلّ ثرواتهم وأموالهم، وقصورهم ومقاماتهم، وأمانيهم، فكيف سيكون حالهم؟ هؤلاء الذين كانوا يعشقون الدرهم والدينار، والذين كانت قلوبهم لا تطاوعهم في التخلّي عن أبسط الإمكانات المادية .. كيف سيكون حالهم في تلك اللحظة التي يجب عليهم فيها أن يودّعوا كلّ ذلك وداعاً
[496]
أخيراً، ثمّ يغمضون عيونهم ويسيرون باتّجاه مستقبل مظلم موحش.
جملة (حيل بينهم وبين ما يشتهون)، فُسّرت بتفسيرين:
الأوّل: هو ما عرضناه سابقاً.
الثاني: أنّه حيل بينهم وبين رغبتهم في الإيمان وجبران ما فاتهم .. غير أنّ التّفسير الأوّل ينسجم أكثر مع جملة (ما يشتهون).
فضلا عن أنّ جملة (أنّى لهم التناوش من مكان بعيد) قد تعرّضت إلى قضيّة عدم تمكّنهم من الإيمان عند الموت وعذاب الإستئصال كما ذكرنا، فلا يبدو أنّ هناك داعياً للتكرار.
من الجدير بالذكر أيضاً أنّ كثيراً من مفسّري هذه الآية اعتبروا هذه الآيات ممّا يخصّ الحديث في عقوبات الآخرة وندامة المسيئين في المحشر، ولكن الآية الأخيرة وبالأخصّ جملة (كما فعل بأشياعهم من قبل) لا تنسجم مع هذا المعنى، بل إنّ المقصود هو لحظة الموت ومشاهدة عذاب الفناء.
وما أجمل ما يقول أمير المؤمنين علي (عليه أفضل الصلاة والسلام) حينما يصوغ بكلماته النورانية وصفاً للحظات فراق الروح لعالم الدنيا، ومفارقة نعمها:
"إجتمعت عليهم سكرة الموت، وحسرة الفوت، ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم!
ثمّ زاد الموت فيهم ولوجاً، فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنّه لبين أهله، ينظر ببصره ويسمع باُذنه ...
يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها، أغمض في مطالبها، وأخذها من مصرحاتها ومشبهاتها!...
فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره، ويتمنّى أنّ الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها
[497]
دونه"!(1).
اللهمّ إجعلنا من الذين ينتبهون قبل فوات الفرص، ويجبرون ما فاتهم.
شِباك الدنيا ومغرياتها مشرعة لنا، والعدوّ شديد المراس، ولولا لطفك، فإنّ أعمالنا تافهة حقيرة ..
اللهمّ! اجعلنا من الذين يشكرون النعم حين حلولها، وأعذنا من الغفلة والغرور، واجعلنا من الذين لا يجزعون حين المصائب والشدائد ..
... إنّك عليٌّ سميع
نهاية تفسير سورة سبأ
نهاية المجلّد الثالث عشر
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نهج البلاغة، خطبة 109.