تفسير مجمع البيان
الشيخ الطبرسي ج 1

[ 1 ]
مجمع البيان
[ 3 ]
مجمع البيان في تفسير القران تأليف امين الاسلام أبي على الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري حققه وعلق عليه لجنة من العلماء والمحققين الاخصائيين قدم له الامام الاكبر السيد محسن الامين العاملي الجزء الاول منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ص ب: 7120
[ 4 ]
الطبعة الاولى تمتاز هذه الطبعة بتحقيقات مهمة واخراج فنى عصري جيد، وجميع حقوق الطبع على هذه الطبعة محفوظة ومسجلة للناشر 1415 ه‍ - 1995 م موسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت - شارع المطار - قرب كلية الهندسة ملك الاعلمي - ص - ب 7120 الهاتف: 833447 - 833453
[ 5 ]
مقدمة الناشر بسم الله الرحمن الرحيم إن لكل نبي ورسول معجزة تثبت رسالته ونبوته، بحيث لا يمكن لأي شخص عادي أن يجئ بمثلها، لكي يتميز هذا النبي عن غيره من الناس، بإتيانه هكذا خوارق عادات ومعجزات. وقد اختلفت معجزة كل نبي عن معجزة غيره، حسب عادات مجتمع ذلك الوقت وأطوارهم ومعارفهم، فكان الرائج في عصر النبي موسى عليه السلام، بين المصريين صناعة السحر المبتنية على قوانين عادية يجري عليها التعليم والتعلم. فلأجل ذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يحتج عليهم بمعجزة العصا، التي ألقاها موسى عليه السلام أمام أعينهم فصارت ثعبانا تلقف ما يأفكون، وما يسحرون به الناس من الحبال والعصي. ثم رجوع العصا إلى حالها الأول، وزوال أثر الحبال والعصي. فإنهم بسبب معرفتهم لحدود السحر، عرفوا أن أمر العصا خارج عن صناعة السحر، وعن حدود القدرة البشرية، ولذا آمن السحرة بالنبي موسى عليه السلام. وأما عصر النبي عيسى عليه السلام، فكان للطب فيه رواج كثير، حيث إن فلسطين كانت مستعمرة لليونان، الذين كانوا بارعين في الحكمة والطب وشفاء الأمراض، فكانت معجزة المسيح عليه السلام، بشفاء الأبرص والأكمه والأعمى، هو خارج عن حدود الطب. وأمور كهذه لا تكون إلا خارقا
[ 6 ]
للعادة، وتكون من قدرة الله تبارك وتعالى فقط. وأما عصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان العرب في شبه الجزيرة العربية لا يعرفون شيئا من العلوم، وكانت معارفهم منحصرة في الأدب العربي والشعر الجاهلي، والبلاغة في الكلام. وقد تقدموا في هذا المجال تقدما باهرا، لذا اقتضت الحكمة الالهية أن يكون القران الكريم هو المعجز الأساس لرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. مع العلم أن الرسول كان أميا، لا يعرف القراءة والكتابة - حسب الظاهر - وما تعلمها عند أحد. ومع ذلك كله قد جاء بهذا الكتاب المقدس الذي تفوق على كل كتاب وتحدى كل البشر بأن يأتوا بآية مثله مهما كانت قدرتهم في الفصاحة والبلاغة: (قل لئن إجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (1). فالقرآن الكريم بحد ذاته معجزة من حيث انعدام قدرة البشر على الإتيان بمثله، ومعجزة بجمعه هكذا، وترتيبه من قبل بعض الصحابة، وعدم تحريفه وزيادته ونقصانه. قال الله تبارك وتعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه)، وبقاءه بصورته كما كان ويكون، إلى يوم القيامة، وحفظه أيضا، فلم يتفق لأمر تاريخي أو كتاب سماوي مثل ما اتفق للقرآن الكريم، بالبقاء على صورته، وبدون أي تغيير، كما وعد الله تعالى في قوله في سورة الحجر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). ونظرا لأهمية القرآن الكريم من جميع النواحي، فقد أخذ علماء الإسلام بالإهتمام به، وحفظه وتفسيره، بدءا بحبر الأمة عبد الله بن عباس، وإلى يومنا هذا، فقد ألف في تفسير القرآن وعلومه مئات التفاسير من قبل جميع العلماء والمذاهب الإسلامية، فبعض اهتم بتفسير القرآن من الوجهة الفلسفية، وبعض من الوجهة الأدبية، وقسم من الوجهة العلمية، وآخر فسر بعض آيات القرآن حسب الأحاديث الواردة فيه فقط. (1) سورة الإسراء، الآية: 90. (*)
[ 7 ]
وقد امتاز الإمام الطبرسي - رحمه الله - بتفسيره هذا للقرآن، بحيث تطرق للتفسير من جميع جوانبه: أولا اللغة، ثم الإعراب، ثم الحجة، ثم القراءة، ثم المعنى. وما اقتصر على آراء مذهب دون آخر، بل ذكر آراء جميع المذاهب الإسلامية وعلمائها، فجاء هذا التفسير مميزا عن سائر التفاسير ومعترفا به من قبل الامة الإسلامية. وقد طبع هذا التفسير القيم في كل من القاهرة، وبيروت، وصيدا، وإيران عدة طبعات، منها طباعة حجرية، واخرى عادية، بعضها معلق عليه ببعض التعليقات، والبعض الآخر بدونها. ولما كانت الطبعات الموجودة غير متقنة، فإن هذه المؤسسة الثقافية (كعادتها منذ ثلاثين سنة) قد أخذت على عاتقها إخراج هذا التفسير، وطباعته طباعة ممتازة، تليق ومكانة هذا الكتاب. فقد جمعنا أكثر النسخ المطبوعة والمخطوطة من هذا التفسير، للمقابلة والتصحيح، ووضعنا بعض التعليقات المفيدة الموجودة في طبعة صيدا، وبعض التعليقات المهمة التي وضعها العلامة الحجة السيد هاشم الرسولي المحلاتي، والسيد فضل الله الموسوي اليزدي في طبعة قم إيران، وبعض التعليقات التي أوردها الأخ الفاضل الحاج علي العسيلي العاملي حفطهم الله تعالى. فجاء الكتاب، والحمد لله، على ما يرام، خاليا من الأغلاط، ومميزا من حيث الطباعة والإخراج والتقنية. نرجو من الله التوفيق. والحمد لله أولا وآخرا. بيروت في 20 / شوال 1414 ه‍. الموافق 1 / 4 / 1994 م. حسين الأعلمي
[ 9 ]
ترجمة المؤلف بقلم: الإمام الاكبر السيد محسن الأمين العاملي هو أمين الدين، أو أمين الإسلام، أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي الطوسي، السبزواري، الرضوي، أو المشهدي، رحمه الله تعالى. اقوال العلماء في حقه: عن كتاب " نقد الرجال " للسيد الأجل الأمير مصطفى التفريشي، وفي تعليقة العلامة الآقا محمد باقر البهبهاني على رجال ميرزا محمد الكبير: ثقة فاضل دين عين من أجلاء هذه الطائفة. وعن (نظام الأقوال) للمولى نظام الدين القرشي تلميذ الشيخ البهائي: ثقة فاضل دين عين. وعن (فهرست) الشيخ منتجب الدين، علي بن عبيد الله بن بابويه، بعد وصفه بالإمام: ثقة فاضل دين عين. وفي (الوجيزة) للعلامة المجلسي: ثقة جليل. وفي (مستدركات الوسائل): فخر العلماء الأعلام، وأمين الملة والإسلام، المفسر الفقيه الجليل، الكامل النبيل، صاحب تفسير (مجمع البيان) الذي عكف عليه المفسرون، وغيره من المؤلفات الرائقة، الشائع جملة منها. وعن (رياض العلماء) للشيخ الحافظ المتبحر ملا عبد الله الأصفهاني المعروف بالأفندي أنه وصفه بالشيخ الشهيد الإمام، وأنه قال: رأيت نسخة من (مجمع البيان) بخط الشيخ قطب الدين الكيدري، قد قرأها نفسه على نصير الدين الطوسي، وعلى ظهرها أيضا بخطه هكذا: تأليف الشيخ الإمام الفاضل السعيد الشهيد (انتهى). قال في (مستدركات الوسائل) بعد نقل ذلك: ولم يذكر هو ولا غيره كيفية شهادته، ولعلها كانت بالسم (انتهى). وعن صاحب (رياض العلماء) أيضا أنه قال، بعد مدحه له بعبارات عالية: كان، قدس سره، وولده رضي الدين أبو نصر حسن بن الفضل، صاحب كتاب (مكارم الأخلاق)، وسبطه أبو الفضل علي بن الحسن صاحب (مشكاة الأنوار)، وسائر سلسلته وأقربائه من أكابر العلماء (انتهى). وفي (الروضات): الشيخ الشهيد السعيد، والحبر الفقيه الفريد، الفاضل العالم، المفسر الفقيه، المحدث
[ 10 ]
الجليل، الثقة الكامل النبيل. ثم حكى عن صاحب (رياض العلماء) أنه ترجمه بنحو ذلك. وفي (المقابيس) لرئيس المحققين الشيخ أسد الله التستري عند ذكر ألقاب العلماء: ومنها أمين الاسلام للشيخ الأجل الأوحد، الأكمل الأسعد، قدوة المفسرين، وعمدة الفضلاء المتبحرين، أمين الدين أبي علي... الخ، قدس الله نفسه الزكية، وأفاض على تربته المراحم السرمدية. وعن (مجالس المؤمنين) ما ترجمته: إن عمدة المفسرين أمين الدين ثقة الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، كان من نحارير علماء التفسير، وتفسيره الكبير الموسوم ب‍ (مجمع البيان) بيان كاف، ودليل واف، لجامعيته لفنون الفضل والكمال (أنتهى). وسيأتي عند ذكر جملة من آثاره حكاية وصفه بالشيخ الإمام الأجل، العالم الزاهد، أمين الدين، ثقة الإسلام، أمين الرؤساء. وبالجملة ففضل الرجل وجلالته، وتبحره في العلوم، ووثاقته، أمر غني عن البيان، وأعدل شاهد على ذلك كتابه (مجمع البيان) كما أشار إليه صاحب (مجالس المؤمنين) بما جمعه من أنواع العلوم، وأحاط به من الأقوال المشتتة في التفسير، مع الإشارة في كل مقام إلى ما روي عن أهل البيت عليهم السلام، في تفسير الآيات بالوجوه البينة المقبولة، مع الإعتدال وحسن الإختيار في الأقوال، والتأدب وحفظ اللسان، مع من يخالفه في الرأي، بحيث لا يوجد في كلامه شئ ينفر الخصم، أو يشتمل على التهجين والتقبيح. وقل ما يوجد في المصنفين من يسلم كلامه من ذلك، وانظر إلى كلامه في مقدمة (جامع الجوامع) في حق صاحب (الكشاف)، وما فيه من التعظيم له، والثناء البليغ على علمه وفضله، لتعلم أنه من الفضل والإنصاف وطهارة النفس، في مرتبة عالية. مشايخه: يروي هذا الشيخ الجليل عن جماعة 1 - الشيخ أبو علي ابن الشيخ الطوسي 2 - الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار بن علي المقري الرازي، عن الشيخ الطوسي. 3 - الشيخ الأجل الحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمي الرازي جد منتجب الدين صاحب (الفهرست). 4 - الشيخ الإمام موفق الدين الحسن بن الفتح الواعظ البكر ابادي، عن أبي علي الطوسي. 5 - السيد أبو طالب محمد بن الحسين الحسيني القصبي الجرجاني. 6 - الشيخ الإمام السعيد الزاهد، أبو الفتح عبد الله بن عبد الكريم بن هوازن القشيري روى عنه
[ 11 ]
(صحيفة الرضا) المعروفة. 7 - الشيخ أبو الحسن عبيد الله محمد بن الحسين البيهقي الذي قال في حقه صاحب (رياض العلماء) على ما حكي عنه أنه فاضل عالم، محدث من كبار الإمامية، يروي عنه الشيخ أبو علي الطبرسي على ما يظهر من تفسير سورة طه في (مجمع البيان) (انتهى). 8 - الشيخ جعفر الدوريستي الذي هو من تلامذة المفيد. تلامذته: يروي عنه جماعة من أفاضل العلماء منهم: ولده رضي الدين أبو نصر حسن بن الفضل صاحب كتاب (مكارم الأخلاق) المشهور الذي طبع مرارا في مصر محرفا تحريفا قبيحا، ثم تصدى بعض أهل الفضل والغيرة لطبعه طبق أصله في بلاد إيران، مع التنبيه على مواضبع التحريف في الطبعة المصرية، وهو من تلامذته أيضا كما في (المقابيس). ويروي عنه أيضا رشيد الدين أبو جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب، وهو من تلامذته أيضا، قال في باب الكنى من كتابه (معالم العلماء) على ما حكي عنه: شيخي أبو علي الطبرسي. والشيخ منتجب الدين صاحب (الفهرست) وهو من تلامذته أيضا، قال في فهرسته: شاهدته وقرأت تفقها عليه. والقطب الراوندي، والسيد فضل الله الراوندي، صاحب كتاب (الخرائج والجرائح) (1) والسيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القايني، والسيد شرفشاه بن محمد بن زيادة الأفطسي، والشيخ عبد الله بن جعفر الدوريستي، وشاذان بن جبرئيل القمي وغيرهم. وعن صاحب (اللؤلؤة) أنه عده من جملة مشايخ برهان الدين بن محمد بن علي القزويني الهمداني. مصنفاته: له مصنفات كثيرة نافعة وجملة منها مشهور. وفي (المقابيس): له مؤلفات فائقة رائقة وقد سمعت قول الفاضل النوري إن له مؤلفات رأئقة وجملة منها شائع، وقال السيد مصطفى التفريشي: له مصنفات حسنة. وفي التعليقة: له تصانيف حسنة. إلى غير ذلك من أقوال العلماء. ونحن نذكر أسماء ما وصل إلينا من مصنفاته وهي: (مجمع البيان) لعلوم القرآن فسر به القرآن الكريم في عشر مجلدات المستمد من (التبيان) لشيخ الطائفة محمد بن الحسن بن علي الطوسي، كما ألمح إلى ذلك في مقدمة (مجمع (1) وصاحب الشرح الكبير على نهج البلاغة. (*)
[ 12 ]
البيان) والفائق عليه في الترتيب والتهذيب، والتحقيق والتنميق، واختصار الفروع الفقهية التي أكثر الشيخ من ذكرها وهو من أحسن التفاسير، وأجمعها لفنون العلم، وأحسنها ترتيبا، فرغ من تأليفه منتصف ذي القعدة، سنة ست وثلاثين وخمسمائة. قال في (كشف الظنون): مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ فقيه الشيعة ومصنفهم، أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، المتوفى سنة إحدى وستين وخمسمائة، وهو كبير، وقد رأيت تفسيره المسمى (مجمع البيان) وهو على طريقة الشيعة، وقد اختصر (الكشاف) وسماه (جوامع الجوامع) (1) (انتهى). وقال في مقام آخر: جوامع الجامع في التفسير، للشيخ أبي علي الطرطوشي، صاحب (مجمع البيان) (انتهى). فقد اشتبه عليه مصنف (مجمع البيان) بمصنف (التبيان)، وجعل (جوامع الجامع) تارة للشيخ أبي جعفر الطوسي، وتارة للشيخ أبي علي الطبرسي، مع تصحيف الطبرسي بالطرطوشي. والإشتباه في تسميته بجوامع الجوامع، مع أنه إنما يسمى بجامع الجوامع أو (جوامع الجامع) كما ستعرف، وجعل تاريخ وفاة الطبرسي تاريخا لوفاة الشيخ الطوسى، فإن الطوسي توفي سنة ستين وأربعمائة، مع أن التاريخ المذكور لا ينطبق على وفاة الطبرسي أيضا، كما ستعرف من أنه توفي سنة خمسمائة وثمان وأربعين، أو اثنتين وخمسين، ولم يذكر أحد أنه توفي سنة إحدى وستين، وله في بيان كتب الشيعة اشتباهات كثيرة غير هذا يجدها المتتبع. (ولنعد) إلى ذكر بقية مؤلفات الطبرسي وهي (الكاف الشاف) من كتاب الكشاف (جامع الجوامع)، أو (جوامع الجامع)، صنفه بعد اطلاعه على (الكشاف) لأنه صنف (مجمع البيان) قبل أن يطلع على الكشاف. فلما اطلع عليه صنف (جامع الجوامع) ليكون جامعا بين فوائد الكتابين بوجه الاختصار، كما صرح به في مقدمته. وعد الشيخ منتجب الدين على ما نقل عنه في الفهرست في مصنفاته (الوسيط) في التفسير أربع مجلدات (والوجيز) مجلدة وعن (نقد الرجال) عند ذكر مصنفاته: الوسيط أربع مجلدات، والوجيز مجلدان. وفي (المقابيس) أن جامع الجوامع هو الوسيط الذي في أربع مجلدات أو الوجيز الذي في مجلد، أو مجلدين، والظاهر أن الوسيط هو الكاف الشاف (إنتهى). ويظهر مما تقدم عن (كشف الظنون) أن الكاف الشاف هو (1) مختصر الكشاف إنما هو (الكاف الشاف) لا (جامع الجوامع) كما لا يخفى على من رآه، ولعل الإسمين لمسمى واحد كما سنراه قريبا. (*)
[ 13 ]
جامع الجوامع. (الوافي) في تفسير القرآن ايضا (أعلام الورى) بأعلام الهدى في فضائل الأئمة عليهم السلام في مجلدين. قيل ومن الغرائب ان السيد رضي الدين بن طاووس ألف كتاب (ربيع الشيعة) على نهج أعلام الورى، وقد وافقه في جميع الأبواب والفصول والمطالب وبالجملة لا تفاوت بينهما أصلا. (تاج المواليد)، (الآداب الدينية)، (الخزانة المعينية) (النور المبين)، (الفائق)، (غنية العابد)، (كنوز النجاح) نسبه إليه فيما قيل رضي الدين بن طاووس في (مهج الدعوات) والكفعمي في (المصباح) وحواشيه، (عدة السفر وعمدة الحضر) نسبه إليه الكفعمي أيضا على ما قيل (معارج السؤال)، (أسرار الأئمة) أو الامامة نسبهما إليه بعض العلماء على ما قيل، واستظهر صاحب (الروضات) أن الأخير لولده الحسن بن الفضل. (مشكاة الأنوار) في الأخبار، نسبه إليه في كتاب دفع المناواة على ما قيل. وفي (الروضات) الظاهر أنه غير (مشكاة الأنوار في غرر الأخبار) التي هي لسبطه الشيخ أبي الفضل علي ابن الشيخ رضي الدين أبى النصر، وهو كتاب ظريف يشتمل على أخبار غريبة، لأن ما له في الأخبار وما لسبطه في الأدعية (انتهى). (رسالة) حقائق الأمور، (العمدة) في أصول الدين والفرائض والنوافل بالفارسية، (كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل)، ذكره في (مجمع البيان) في ذيل آية (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) كتاب الجواهر في النحو. ولكن في (الروضات): ظني أنه من مؤلفات الشيخ شمس الدين الطبرسي النحوي الذي قد ينقل عنه الكفعمي في (البلد الأمين). وينسب إليه كتاب (نثر اللآلي) وربما قيل إنه للسيد علي بن فضل الله الحسني الراوندي، وهي رسالة مختصرة مجموعة من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، مرتبة على حروف المعجم على نهج كتاب (غرر الحكم ودرر الكلم) الذى جمعه عبد الواحد الآمدي التميمي، فيما يزيد عن أربعة آلاف بيت (1) ويزيد حجمه عن (نهج البلاغة). رأيت منه نسخة بدمشق بخط جيد، وذكر في مقدمته أن الجاحظ جمع مائة حكمة شاردة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وافتخر بذلك، فجمع هو ما يزيد عليه أضعافا مضاعفة. قال في (الروضات): مع أن ما جمع في كتاب (غرر الحكم) هو غير المائة كلمة المشهورة، وغير الألف كلمة التي جمعها ابن أبي الحديد في آخر (شرح النهج). (1) يراد بالبيت في اصطلاحهم السطر. (*)
[ 14 ]
وقال أيضا: إن كتاب (نثر اللآلي) المذكور غير كتاب (نثر اللآلي في الأخبار والفتاوى) لابن أبي جمهور الاحسائي (انتهى). وبالمناسبة لا بأس أن نذكر هنا ما وجدناه منقولا عن قطب الدين الكيدري في (شرح نهج البلاغة) عن صاحب المنهاج أنه قال: سمعت بعض العلماء بالحجاز ذكر أنه وجد بمصر مجموعا من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نيف وعشرين مجلدا (انتهى) ولا يستغرب ذلك عن باب مدينة العلم. وعد غير واحد من العلماء كتاب (الإحتجاج) من مصنفاته، وهو غلط بل هو من مصنفات أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي كما صرح به ابن شهرآشوب في معالم العلماء وغيره على ما حكي. وفي (الروضات) قد يوجد في بعض الفهارس نسبة كتاب (الكافي) إليه، ولا يبعد اشتباهه بكتاب (الوافي). أقول: بل الظاهر أنه هو (الكاف الشاف) الذي تقدم ذكره. حكاية غريبة عنه: عن صاحب رياض العلماء أنه قال مما اشتهر بين الخاص والعام أنه (ره) أصابته السكتة، فظنوا به الوفاة، فغسلوه وكفنوه ودفنوه وانصرفوا. فأفاق ووجد نفسه مدفونا، فنذر إن خلصه الله من هذه البلية، أن يؤلف كتابا في تفسير القرآن. واتفق أن بعض النباشين كان قد قصد قبره في تلك الحال، وأخذ في نبشه. فلما نبشه وجعل ينزع عنه الأكفان، قبض بيده عليه. فخاف النباش خوفا عظيما، ثم كلمه فازداد خوف النباش. فقال له: لا تخف، وأخبره بقصته فحمله النباش على ظهره، وأوصله إلى بيته، فأعطاه الأكفان، ووهب له مالا جزيلا، وتاب النباش على يده. ثم وفى بنذره وألف كتاب مجمع البيان (انتهى). قال الفاضل النوري في (مستدركات الوسائل) بعد نقل هذه الحكاية: ومع هذا الإشتهار لم أجدها في مؤلف أحد قبله، وربما نسبه إلى العالم الجليل المولى فتح الله الكاشاني صاحب تفسير (منهج الصادقين) وخلاصته، وشرح النهج المتوفى سنة تسعمائة وثمان وثمانين (انتهى). أقول: ومما يبعد هذه الحكاية مع بعدها في نفسها، من حيث استبعاد بقاء حياة المدفون بعد الإفاقة، أنها لو صحت لذكرها في مقدمة (مجمع البيان) لغرابتها، ولاشتمالها على بيان السبب في تصنيفه، مع أنه لم يتعرض لها، والله أعلم. جملة من آثاره: قال في (أمل الآمل): ومن رواياته صحيفة الرضا عليه السلام
[ 15 ]
(انتهى). قال صاحب (رياض العلماء) على ما حكي عنه ان في أول بعض نسخ صحيفة الرضا عليه السلام هكذا: أخبرنا الشيخ الإمام الأجل، العالم الزاهد، أمين الدين، ثقة الإسلام، أمين الرؤساء، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، أطال الله بقاءه، يوم الخميس، غرة شهر الله الأصم رجب، سنة 529، قال: أخبرنا الشيخ الإمام السيد الزاهد، أبو الفتح عبد الله بن عبد الكريم، وفي بعضها يروي تلك الصحيفة عن ذلك السيد قراءة عليه، داخل القبة التي فيها قبر الرضا عليه السلام، غرة شهر الله المبارك، سنة إحدى وخمسمائة قال: حدثني الشيخ الجليل العالم، أبو الحسن علي بن محمد بن علي الحاتمي الزوزني، قراءة عليه سنة 457 (انتهى موضع الحاجة). وتفرد بمقالة في الرضاع معروفة مذكورة في كتب فقهائنا، وهي قوله بعدم اعتبار اتحاد الفحل في نشر الحرمة. ويحكى عنه القول بأن المعاصي كلها كبائر، وإنما يكون اتصافها بالصغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر منها. مدة عمره ومدفنه: قيل إنه عاش تسعين سنة، وولد في عشر سبعين وأربعمائة، وتوفي سنة اثنتين وخمسمائة (انتهى). والظاهر سقوط لفظة خمسين من تاريخ الوفاة، وكون الولادة في السنة الثانية من عشر السبعين وأربعمائة، ليكون عمره تسعين سنة، ولكن عن رجال الأمير السيد مصطفى التفريشي أنه انتقل من المشهد الرضوي إلى سبزوار، سنة خمسمائة وثلاث وعشرين، وانتقل بها إلى دار الخلود سنة خمسمائة وثمان وأربعين، وقد سمعت عند تعداد مصنفاته قول صاحب (كشف الظنون) أنه توفي سنة إحدى وستين وخمسمائة والله أعلم. وفي (الروضات): كانت وفاته ليلة النحر من تلك السنة أي سنة 548، ثم نقل نعشه إلى المشهد المقدس الرضوي، وقبره الآن فيه معروف في موضع يقال له (قتلگاه) أي: مكان القتل، وذلك لما وقع فيه من القتل العام بأمر عبد الله خان أمير الأفغان في أواخر دولة الصفوية (انتهى). وفي (المقابيس)، قال: نقل أنه دفن في مغتسل الرضا عليه السلام بطوس (انتهى). وقال بعضهم: إن قبره بطوس معروف مشهور يزار، وبتبرك به. نسبته: الطبرسي: بالطاء المهملة والباء الموحدة المفتوحتين والراء الساكنة بعدها سين مهملة نسبة إلى (طبرستان) بفتح الطاء والباء وكسر الراء كما
[ 16 ]
في (معجم البلدان). وعن (رياض العلماء): هي بلاد مازندران بعينها، وقد يعم بلاد جيلان لاشتراكهم في حمل الطبر (انتهى). وفي (معجم البلدان): الطبر بالتحريك: هو الذي يشقق به الأحطاب وما شاكله بلغة الفرس، واستان: الموضع أو الناحية، كأنه يقول ناحية الطبر. ثم ذكر سبب تسميتها بذلك فقال: سببه أن أكثر أهل تلك الجبال كثير والحروب، وأكثر أسلحتهم بل كلها الأطبار، حتى إنك قل أن ترى صعلوكا أو غنيا إلا وبيده الطبر، صغيرهم وكبيرهم، فكأنها لكثرتها فيهم سميت بذلك. ومعنى طبرستان من غير تعريب: موضع الأطبار والله أعلم (انتهى). والرضوى والمشهدي نسبة إلى مشهد الرضا عليه السلام، لأنه سكن فيه. ثم إن الطبرسي حيث يطلق ينصرف إلى صاحب الترجمة، وإن كان يطلق أيضا على أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي مصنف كتاب (الاحتجاج)، والشيخ محمد بن علي بن شهر آشوب فيكون معاصرا لصاحب الترجمة، لأن ابن شهرآشوب يروي عن صاحب الترجمة أيضا، كما مر عند تعداد تلامذته، ويطلق أيضا على ولد صاحب الترجمة رضي الدين أبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي صاحب كتاب (مكارم الأخلاق) المار ذكره، ويطلق أيضا على أبي علي محمد بن الفضل الطبرسي المذكور بهذا العنوان في (أمل الأمل)، والموصوف فيه بأنه كان عالما صالحا عابدا، يروي ابن شهر آشوب عنه عن تلامذة الشيخ الطوسي (انتهى). فيكون معاصرا لصاحب الترجمة أيضا. هذا ما تيسر لنا جمعه من ترجمة أحواله، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله وسلم. دمشق محسن الحسيني العاملي (عفي عنه)
[ 17 ]
كلمة في التفسير اللغة فيه: التفسير: مأخوذ من فسر المشتق بالإشتقاق الكبير من السفر، وهو الكشف والظهور. يقال: أسفر الصبح إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته. أو هو مأخوذ من فسر يفسر، كضرب يضرب، أو كنصر ينصر، فسرا. والفسر: هو الإبانة وكشف المغطى، تقول: فسرت الشئ إذا بينته. وقال اللغويون أيضا: إن التفسير هو كشف معنى اللفظ وإظهاره. قاله في (مجمع البحرين). التأويل: التأويل: مأخوذ من الاول كالقول، من آل الأمر إلى كذا يؤول أي: صار إليه، ورجع، ومنه قيل للمرجع: مآل. وأول الكلام تأويلا: دبره وقدره وفسره قاله في (القاموس المحيط). وقال ثعلب: إن التأويل والتفسير واحد. وقال غيره: إن التفسير هو كشف المراد عن المشكل، والتأويل: رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر كما في (القاموس) و (مجمع البحرين). ماهيته: استعمل التفسير في اصطلاح العلماء لمعنيين: أولهما التفسير الذي هو قسم من أقسام البديع الراجع إلى المحسنات المعنوية، ويراد به عندهم أن يأتي المتكلم بمعنى لا يستقل الفهم بإدراك فحواه، ما لم يفسره كلام آخر بعده، كما في قول الشاعر: آراؤهم، ووجوههم، وسيوفهم * في الحادثات، إذا دجون، نجوم منها معالم للهدى، ومصابح * تجلو الدجى، والأخريات رجوم وهذا القسم غير ما نريده الآن. والمعنى الثاني للتفسير فهو ما نعني بالكلام فيه في مقالنا هذا، وقد كثر كلام العلماء في شرح ماهيته، فقال بعضهم: هو علم بأصول تعرف به معاني كلام الله
[ 18 ]
تعالى من الأوامر والنواهي وغيرها، ومثله قول الرازي: وهو ما يبحث فيه عن مراد الله تعالى من قرآنه المجيد. وقول التفتازاني: وهو العلم الباحث عن أحوال ألفاظ كلام الله من حيث الدلالة على مراد الله تعالى. وعرفه أبو حيان وأدخل فيه علم التجويد بقوله، هو علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها، وأحكامها الافرادية والتركيبية، ومعانيها التي هي عنها حالة التركيب وتتمات ذلك. ولكن الزركشي جعل التعريف موضحا لذكر ما يحتاج إليه علم التفسير فقال: هو علم يفهم به كتاب الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف والبيان، وأحوال الفقه، والقراآت. ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ. وقد دقق العلامة الفناري في هذه التعريفات، ولم يرتضها لعدم جمعها ومنعها، واختار للتفسير تعريفا آخر على ما في (كشف الظنون) فقال: هو معرفة أحوال كلام الله تعالى من حيث القرآنية، ومن حيث دلالته على ما يعلم، أو يظن أنه مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية. وأنت تعلم من اختلاف كلماتهم في التعريفات التي مر بيانها، ومن التأمل فيها، أنهم قد أعملوا الفكر ليكون التعريف جامعا مانعا، ولكن هذا العلم لكونه يطوي في تضاعيف مسائله مسائل من علوم شتى، يدخلها بعضهم فيه، ويخرجها بعضهم منه، وهي داخلة في حدود غيره من العلوم، لا تكاد تجد تعريفا جامعا لمسائله، مانعا من دخول غيره فيه، ولا تكاد تدلنا على جهة واحدة تضبط مسائله إجمالا. موضوعه والغرض منه: قالوا: إن موضوعه كلام الله تعالى، والغرض منه حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة، ومعرفة معاني النظم. فائدته: لم يخلق الله تعالى الخلق عبثا، وانما خلقهم ليعملوا بأوامره وطاعته، ويجتنبوا نواهيه ومعاصيه، وليتعبدوه بما أوحاه إلى رسله من التكليف، لا عن حاجة منه تعالى إليهم، بل ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وليفوز المطيع بالطاعة والثواب، ويشقى العاصي بالمعصية والعقاب. ويدلنا بذلك على أنه لم يخلق لهم العقول إلا ليفكروا، ولم يمن عليهم بالجوارح إلا ليعملوا، وأشرف ثمار العقول والأعمال ما أوصل إلى
[ 19 ]
السعادة الأبدية، والفوز الاخروي، باتباع أوامره تعالى، وتجنب معاصيه، سواء في ذلك أمر المعاد والمعاش. وقد بين الله تعالى لعباده طرق الفوز، ودلهم على ما يرضيه من الأعمال التي تعود عليهم أنفسهم بالصلاح، بما أنزله من الشرائع الإلهية على لسان أنبيائه الكرام، عليهم الصلاة والسلام، الذين أقام بهم الحجة على العباد، فصدعوا بأمره، وزجروا عن معصيته، فأنزل الله على كل رسول ذي شريعة كتابا بلسان قومه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وليسمعوا كلام ربهم، ويعرفوا أحكامه. والرسول هو الزعيم بتفصيل ما أجمل في الكتاب، وتبيان ما أبهم منه، فكان من ذلك الكتاب، وكان من ذلك السنة النبوية، اللذان هما أول الأدلة عند علماء اصول الفقه، ثم علم الأنبياء أوصياءهم وأمناءهم وخواص أصحابهم ما إليه يرجعون، وبه يهتدون، من معاني كتاب ربهم، وسنة نبيهم، ليكونوا بعده منارا به يهتدى، ونبراسا بنوره يستضاء إذا ادلهم ليل الجهالة، وأدجن ظلام الأهواء، لئلا تذهب بالأمة مذاهب الأهواء، فتصرف موارد الشريعة عن مجراها ويتأولون أحكام الله على ما يريدون لا على ما يريد الله، ميلا مع الشهوات وجريا مع الأهواء المضلة ويتكلمون بالرأي في القرآن بلا سند إليه يسندون ولا استمساك بكلام الراسخين في العلم إليه يرجعون كما صرف بعض الصوفية معنى قوله تعالى (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) إلى معنى الحب والعشق، وكما ذهب إليه بعض الجاهلين من معنى قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب) فتكلم فيه بما لا أستحسن ذكره، وكما تصرف بعض المنتسبين إلى العلم في قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) فكتبها ووصل ذا بلام الذي، وقطع عين يشفع عنها، وجعلها كلمة مستقلة، فقال فيها من ذل ذي يشف ع، وجعل ذي إشارة إلى النفس، ويشف من الشفاء، وع أمرا من الوعي، فكان معناها (وأستغفر الله) من ذل هذه النفس يشف فع هذا الأمر. وأنت خبير بما لهذا الشذوذ من القيمة عند أولي العلم، نجانا الله من أمثال هذه الجهالات. ولهذا ورد النهي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، برواية ابن عباس بأنه: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار). وكان الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يتلقون منه ما يصل بهم إلى فهم كتاب ربهم، ومعرفة ما يراد منه في كثير من الآيات، فاتسعت دائرة السنة النبوية، والأحاديث الشريفة، كل متسع، ونشأ من ذلك علم التفسير الذي عني المسلمون به
[ 20 ]
عناية تامة، وصرف جل علمائهم معظم أوقاتهم بحثا فيه، وتدقيقا. فعلم التفسير هو أجل العلوم قدرا، لأنه الموصل إلى فهم مراد الله من كتابه، ومعرفة أحكام الله في وحيه، وما فرضه على عباده. وهذه الغاية كما لا يخفى هي أشرف الغايات، وأحسن الطرق لنيل السعادات. وجه الحاجة إليه: أنزل القرآن على النبي العربي، بلسان عربي مبين، فهو عربي الكلام، عربي النظم والاسلوب، ببلاغة عربية. إلا أن لغات العرب مختلفة، فلغة تميم تخالف لغة قريش، ولغة عرب الحجاز تتميز عن لغة أهل اليمن، والقرآن الكريم، وإن نزل بلغة قريش، قوم النبي، وهم أفصح العرب على الإطلاق، إلا أنه تضمن بعض الألفاظ من غير اللغة القرشية، وعليه حمل كثير من المحققين منهم الإمام الطبري، في مقدمة تفسيره الكبير، معنى قوله، عليه الصلاة والتسليم: " نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف " وفي بعض الروايات: " إن القرآن نزل على سبعة أحرف فلا تماروا في القرآن فإن المراء كفر ". حملوه على أن المراد بالأحرف السبعة لغات العرب التي نزل بها القرآن. وقال بعضهم: هم قريش وألفافها. وقال آخر: المراد ألحان العرب في أقوالهم، واختلاف لهجاتهم، فأذن لكل قوم أن يقرأوا بلهجاتهم وألحانهم المعروفة عندهم. وقال آخرون: هي القراآت السبع، وعليه الأكثر. وكيفما كان تفسير هذا الحديث، فإن القرآن الكريم عربي البيان، وإعجازه وارد في النظم والأسلوب الذي يطلق عليه الشيخ عبد القاهر إمام البيان اسم النظم والصور، والخواص والمزايا والكيفيات، ونحو ذلك. ويحكم قطعا بأن الفصاحة من الأوصاف الراجعة إليها، وأن الفضيلة التي يستحق بها الكلام أن يوصف بالفصاحة والبلاغة والبراعة وما شاكل ذلك، إنما هي فيها، لا في الألفاظ المنطوقة التي هي الأصوات والحروف، ولا في المعاني التي هي الأغراض التي يريد المتكلم إثباتها أو نفيها، وهي مطروحة في الطريق يعرفها كل أحد. والنظم والصور هي التي استحسن السعد التفتازاني أن يطلق عليها عند البحث في عبارات الشيخ عبد القاهر اسم الالفاظ والمعاني الاول. ولكن مراتب الكلام تتفاوت في البلاغة بحسب تفاوتها في هذه الألفاظ والمعاني الأول، وإن شئت قل في هذه التراكيب والصور المبنية في الأكثر على المدلولات
[ 21 ]
الإلتزامية التي منها البين وغير البين، ومع ذلك فإنا نجد أن البليغ المتفنن في بيانه، قد يسلك لاعتبارات بيانية مسالك الاختصار والإيجاز، أو يرد موارد الإطناب والتطويل، أو يعتمد على الحذف في بعض الأحوال، استنادا إلى قرائن ظاهرة أو خفية، حالية أو مقالية، أو يهمل طريق استنتاج بعض المقدمات، أو يغفل بعض العلل اعتمادا على قرائن تتفاوت الأفهام في إدراكها، ويكون في ذلك جاريا على سنة من الفصاحة ظاهرة، فيغلق كلامه على من لا يعرف الدقائق البيانية. وكم من اللوازم غير البينة، بلى ومن البينة أيضا، ما لا يتنبه لها إلا من راضت البلاغة نفسه، وكيفت ذهنه، وأسست ملكته، فالناس إذا في إدراك ذلك متفاوتو الأفهام. على أن هذه السنة كانت جارية بين فصحاء العرب، وكانوا يأتون بالكلام على وجوه يحتملها، ومغاز يشير إليها. قال ابن قتيبة في كتابه المعروف ب‍ (مشكلات القرآن) ما نصه: (والخطيب من العرب إذا ارتجل كلاما ني نكاح أو حمالة أو تحضيض أو صلح أو ما أشبه ذلك، لم يأت به من واد واحد، بل يتفنن فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إراده الإفهام، ويكرر إرادة التوكيد، ويخفي بعض معانيه حتى تغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجمين، ويشير إلى الشئ، ويكني عن الشئ، وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام، ثم لا يأتي بالكلام كله مهذبا كل التهذيب، ولا مصفى كل التصفية، بل تجده يمزج ويشوب ليدل بالناقص على الوافر، وبالغث على السمين، ولو جعله كله من بحر واحد لبخسه بهاه، وسلبه ماءه. ومثل ذلك الشهاب من القبس يبرزه الشعاع، والكوكبان يقترنان، فينقص التوازن. والسحاب ينتظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان، ولا يجعله كله جنسا واحدا من الرفيع، ولا النفيس المصون). وقد سرت هذه السنة إلى المؤلفين، فترى بعضهم يتحرى البلاغة مع الإختصار في مؤلفه، بحيث يطوي تحت ألفاظ قليلة معاني كثيرة، وبعضهم يبسط ويطيل، وهكذا، حتى احتاج كثير من كتب العلم إلى شروح وهوامش تفتح ما استغلق، وتفصل ما أبهم، بل تجد الخلاف قائما بين الشراح على تأويل عبارة، أو في مؤداها، ولذلك عني بعض المؤلفين بشرح كتبهم أنفسهم، ليدلوا على مقاصدهم. ومع ذلك قد يعترض عليهم بأن شرحهم بعض الجمل لا ينطبق على مؤداها، وما كان ذلك إلا لاختلاف الأفهام في إدراك ماهية النظم والأسلوب. وإنا نجد عناية العلماء
[ 22 ]
كانت مصروفة لعقد المجالس اللغوية، لشرح المعاني البيانية في كلام الخطباء والشعراء، شرحا يفتح مغلقها، ويبين مجملها. وفي كل ذلك لم يتخذ أحد منه قدحا في الكلام المشروح، ولا طعنا فيه، ما دام جاريا على سنة التراكيب العربية، وعلى مقتضى الأسلوب البياني، بل كان ذلك رافعا من شأن الكلام، مظهرا مزيته في عالم البلاغة، وهذا مما امتازت به اللغة العربية، وكان من أهم خاصياتها. والقرآن الكريم وإن كان أنزل بألفاظ عربية، يفهم معانيها المخاطبون في عصر صاحب الرسالة، صلوات الله عليه وآله، وكل من عرف أوضاع اللغة في غير ذلك العصر، ولكن نظمه المعجز، وأسلوبه العالي، لو كان مغسولا مبذولا، لم يكن له قيمة عند العرب الذين كانت تقام أسواقهم، وتعمر منتدياتهم، بالتفاخر في أفانين الفصاحة والبلاغة، وتبريز الخطباء، ونشر شعر الشعراء. فإذا كان القرآن مبذول الأسلوب بقصد إفهام كل أحد ممن سلف وخلف، ما يراد منه، عارفا بأفانين الكلام، أو غير عارف، كان غير جار على سننهم، بل كان دون كلامهم، فتنصرف عنه القلوب، ولا تذعن له تلك الطبائع الجافية، ولا تطأطئ له هذه الرؤوس الشامخة التي أذعنت لبلاغته، ووقفت حيرى دون إعجازه، وخلبت ألبابها بفصاحته، وعند ذلك تفوت الفائدة المطلوبة، ولا يؤثر الأثر المقصود. والله سبحانه أنزله على نبيه الكريم وتحدى البلغاء بمعجز بلاغته، فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، بل لو اجتمعت الإنس والجن، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وإنما كان معتزا في نظمه وأسلوبه، وللنظم في اللغة العربية، المنزلة الفريدة في إلباس الكلام حلة البهاء، والنضرة والرواء، والبهجة. وللتراكيب أفانين ومناهج يستطرقها أرباب الفصاحة بما يختارون لها من متخير الألفاظ، وبديع الكنايات، ولطائف الإستعارات والمجازات، ولطافة الأسلوب، كما يجذب إليهم القلوب. والعقول متفاوتة فيما رزقته من الإدراك. فرب مستدل على معنى بجملة، يستدل غيره بها على ضده، فلا بد إذا من الرجوع إلى الراسخين في العلم، بعد انحطاط اللغة، لتمحيص ذلك، وبمثل هذا احتاج الكتاب الكريم إلى التفسير والبيان، وتفسيره من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة، وكشف معانيها، وترجيح بعض الإحتمالات على بعض.
[ 23 ]
وإن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، وفيه ناسخ ومنسوخ، ومجمل ومبين، وعام وخاص، وأحكام وفرائض وسنن، وقصص ومواعظ، وحكم وأمثال، وما أشبه ذلك. فما كان راجعا إلى الأخبار والمواعظ، فاللفظ دال بظاهره على معناه، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عصره، يأخذون منه بما يفهمون، يوم كانت ملكة اللسان عند العرب لا يرجع فيها إلى كتاب أو نقل، بل كانت فطرية حتى إذا فسدت اللغة بمخالطة الأعاجم، وبعد زمن العرب عن أهل اللسان المخاطبين بالقرآن، تنوسي ذلك، واحتيج في مثله إلى علم التفسير. وما كان راجعا إلى الفرائض والسنن، والناسخ والمنسوخ، وأمثال ذلك، فلا بد فيه من الوقف حتى زمن نزوله، ليعلم النص من قبل من شرع الله هذا الدين على لسانه، وبذلك كانت السنة النبوية شارحة لمعاني الكتاب، متممة لما فرضه الله، أو ندب إليه، وعلم التفسير كافلا بإيضاح ذلك. وقد تداوله الصحابة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم حتى دونت العلوم، وبوبت أبوابها، وجعل كل علم أصلا برأسه بعد زمن التابعين. وكان دخل في الإسلام جماعة من علماء أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وأمثالهم، وكثير من مشركي العرب الذين لقنوا علومهم عن علماء اليهود، وهؤلاء لم تتغير معارفهم فيما يرجع إلى الأخبار والمواعظ، التي لم يتوقف القول فيها على نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا يفصلون مجمل القصص، وأخبار الملاحم، وأمثال ذلك، بعد عصر النبي، على ما هو مغروس في أذهانهم من علومهم الإسرائيلية، وكانت العامة يومئذ تنعكف عليهم لاستماع أخبارهم، والنفس مولعة بتعلم ما تجهله، فكثرت المرويات الاسرائيلية في كتب التفاسير، واختلط الغث بالسمين، ولم يمحصها العلماء بنقدهم، لما هو معروف بينهم من التسامح في أدلة السنن، وما جرى مجراها، ولانصراف همهم إلى نقد أدلة الأحكام التكليفية، وتمحيصها، اللهم إلا قليلا من المحققين، لم يغفلوا هذا الأمر، ولكنهم لم تكن قوتهم هذه لتصد تياره الجارف، فلم يؤثروا الأثر المطلوب. فاتسعت بذلك دائرة علم التفسير، وازدادت في الناس الحاجة إلى الوقوف على المصفى المنقى من الأقوال فيه. اختلاف أذواق المفسرين: قد يتصدى للأمر من لا يحسنه، فيعجز عن
[ 24 ]
نيل المراد، وقد يتصدى له الضليع فيه، ولكنه يغلب على طبعه جهة واحدة منه، فيطنب فيها، حتى يكاد يهمل ما سواها، ويحسن بالمفسر لكتاب الله أن يكون جامعا للعلوم العربية، ولعلوم القرآن، قال الزمخشري: " إن العلماء كما بينوا في التفسير شرائط، بينوا في المفسر أيضا شرائط، لا يحل التعاطي لمن عري عنها، أو هو فيها ضالع، وهي أن يعرف خمسة عشر علما على وجه الإتقان والكمال: 1 - اللغة 2 - النحو 3 - التصريف 4 - الإشتقاق 5 - المعاني 6 - البيان 7 - البديع 8 - القراآت 9 - أصول الدين 10 - أصول الفقه 11 - أسباب النزول والقصص 12 - الناسخ والمنسوخ 13 - الفقه 14 - الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم 15 - علم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم. فإذا كان العالم جامعا لهذه العلوم، مع رسوخ قدم فيها، وفضل تحقيق، وصلح لأن يكون مفسرا، فربما يغلب عليه الجهة التي هو إليها أميل، وبها أعرق، فينحو في البحث نحوها، ويطنب في أمرها إطنابا، يكاد يجعل بحثه مقصورا عليها. والزمخشري نفسه مع سعة باعه، وجودة تفسيره المعروف بالكشاف، قد نحا فيه منحى الجانب البياني من التفسير أكثر من غيره، فكان (الكشاف) بذلك كتابا بيانيا، أكثر منه تفسيريا. وقد عني بعض المفسرين بعلوم النحو والإعراب، فبحث وأطال حتى خرج عن الحد، وتمسك بعضهم بعلم الفقه، فلم يدع شاردة إلا ذكرها. وبعضهم نحا منحى الإخباريات، وغفل عما عداها. وبعضهم شغف بالعلوم الفلسفية، فصرف كلامه في التفسير إليها. وهكذا حتى أصبحت كتب التفاسير كأن كل كتاب منها ألف في غير ما ألف فيه الآخر، بل تكاد تستخرج من مجموعها دائرة معارف عربية. قال صاحب (كشف الطنون): (ومنهم من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن، واقتصر على ما تمهر فيه، كأن القرآن أنزل لأجل هذا العلم، لا غير، مع أن فيه تبيان كل شئ. فالنحوي تراه ليس له إلا الإعراب، وتكثير الأوجه المحتملة فيه، وإن كانت بعيدة. وينقل قواعد النحو ومسائله، وفروعه وخلافياته، كالزجاج والواحدي في البسيط، وأبي حيان في البحر، والنهر. والاخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها، والاخبار عمن سلف، سواء كانت صحيحة أو باطلة، ومنهم
[ 25 ]
الثعلبي. والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه جميعا، وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية أصلا، والجواب عن الادلة للمخالفين كالقرطبي. وصاحب العلوم العقلية وخصوصا الإمام الرازي، قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وخرج من شئ إلى شئ حتى يقضي الناظر عجبا. قال أبو حيان في البحر: جمع الإمام الرازي في تفسسره أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شئ إلا التفسير. أما قدماء المفسرين، فقد كانوا على طريقة مؤلفي عصرهم، من إيراد الأقوال والأحاديث مسندة إلى رواتها، منقولة بوجوه متعددة، واقتصروا فيها على شرح المعاني، وإيراد الأحاديث الدالة على ذلك، مع بيان الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومقتضيات الحال، وما أشبه ذلك، مما كان متداولا في عصر الصحابة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يعنوا بشرح اللغة، ودقائق الإعراب، ونكات البيان، لأن ملكة اللغة كانت في زمنهم لم تنحط إلى درجتها التي وصلت إليها بعدهم، بل كانت علوم اللسان يومئذ غير مدونة، وكانت معرفتها إلى السليقة والفطرة أقرب منها إلى التعلم. ولم تكن هذه المباحث يومئذ معدودة في التفسير، حتى إذا دونت الكتب، وكثر المؤلفون، وبعد عصر العربية الفصحى، أصبح هذا البحث من أركان علم التفسير، وعني به المحققون من المفسرين، وظهر في العصر السادس الهجري كتاب (الكشاف) للعلامة الزمخشري، جامعا لغرائب الفنون من علوم اللسان، شارحا دقائق البيان، ونكات البلاغة، شرح خبير عليم، فكان كتابا ممتعا في بابه. ثم ظهر كتاب (مجمع البيان) للعلامة الطبرسي، فكان غاية في الاتقان، وحسن الترتيب والتبويب، وجمع إلى البحث عن اللغة والاعراب، بيان النظم، وسبب النزول، ثم فصل المعنى تفصيلا، لم يكن فيه إطناب ممل، ولا اختصار مخل، وهو بذلك من أحسن كتب التفسير تنسيقا وتأليفا، ومع ذلك فهو يورد الأقوال المختلفة، غير متعرض لنقد، أو اعتراض، بل تراه يسرد الأقوال، ويترك الحكم فيها للمطالع، ليشحذ ذهنه باختيار ما يراه صوابا، ويتعود به من لم يتعود ملكة النقد، والتمحيص. اقسام التفسير: تقدم معنا البحث أنه بعد أن بعد عصر اللغة الفصيحة،
[ 26 ]
وفسدت الملكات اللسانية من العرب، أصبح البحث عن ما يرجع إلى اللسان من بيان اللغة والإعراب والبلاغة، في تأدية المراد، وما أشبه، جزءا من علم التفسير، فكان هذا قسما. والقسم الآخر ما كان مستندا إلى الآثار المنقولة عن السلف، كمعرفة الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومقاصد الآي والقراآت، وقصص الأمم، وأخبار الملاحم. وهذا عزل الرأي عنه، وتوقف البحث فيه على ما يرد من الأحاديث المستندة إلى النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأمنائه الكرام، وإن كان يمكن في القصص والمواعظ، الأخذ بظاهر اللفظ، دون إعمال الفكر، وملكة الإستنباط. ثم إن من التفسير ما يجوز للراسخ في العلم أن يأخذه بطريق النظر والإستدلال، ومنه ما لا يجوز مما يتوقف البحث فيه على الآثار النبوية، فليس للفكر والإستنباط عليه سبيل، لأنه وارد في موارد خاصة لا يعرفها إلا من خبرها، ليس للرأي فيها مجال البتة، ومنه ما لا يتوقف القول فيه على الآثار النبوية، وهو ما كان مبناه على الأقيسة والقواعد العلمية، كفنون البلاغة، وضروب المواعظ والحكم، ففي هذا مجال لقوة الإستدلال والإستنباط، ومنه استنباط الأحكام الشرعية عما يصلح أن يكون دليلا لها في الكتاب المبين. وأما الآيات المتشابهات فقد اختلف في جواز إعمال النظر فيها، ورجح المحققون أن يرد الحكم فيها إلى الله ورسوله. وأما ما ورد من النهي عن التفسير بالرأي فقد جعله في (كشف الظنون) في أنواع خمسة أولها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير وثانيها: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. وثالثها: التفسير المقرر للمذاهب الفاسدة، بأن يجعل التفسير تابعا للمذهب، فيرده إليه بأي طريق كان، وإن كان ضعيفا. ورابعها: التفسير بأن مراد الله كذا على القطع من غير دليل. وخامسها: التفسير بالإستحسان والهوى المنهي عنه. وقد قسم ابن عباس (رض) وجوه التفسير إلى أربعة أقسام: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب بكلامها، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته فهو ما يلزم به الكافة من الشرائع التي في القرآن، وجل دلائل التوحيد. وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة، وموضوع كلامهم. وأما الذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه، وفروع الأحكام.
[ 27 ]
وأما الذي لا يعلمه إلا الله فهو ما يجري مجرى الغيوب، وقيام الساعة. طبقات المفسرين: أول من تكلم في تفسير القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو أعلم المسلمين بكتاب الله وتأويله بلا مدافع، بل هو باب مدينة العلم. قال ابن مسعود: إن القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن عليا عنده من الظاهر والباطن. ثم عبد الله بن العباس حبر الامة، وترجمان القرآن، ووارث ثلثي علوم رسول الله، وقد دعا له النبي بقوله: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " ولذلك كثرت الرواية في التفسير عنه حتى كان ما يقارب النصف من الأحاديث الواردة في التفسير، مسندا إليه. ثم عبد الله بن مسعود، ذو المقام العالي بين المفسرين، وثاني ابن عباس في كثرة الرواية. وأبي بن كعب، وهو أحد الاربعة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمقدم بين القراء. وفي الصحابة غير من ذكرنا كثيرون تكلموا في التفسير، ولكن الرواية عنهم قليلة. وفي التابعين اشتهر علي بن أبي طلحة، خريج ابن عباس، وقيس بن مسلم الكوفي، ومجاهد بن جبير المكي، وقتادة بن دعامة السدوسي، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكوفي، وعكرمة مولى ابن عباس، وهولاء هم أشهر التابعين في التفسير، وطاوس بن كيسان اليماني، وعده ابن تيمية من أعلم الناس في التفسير، كما في (الإتقان)، وعطاء بن أبي رباح المكي، وجابر بن يزيد الجعفي، ومحمد بن السائب الكلبي، وهو علامة وقته، والحسن البصري، وهو أشهر من أن يعرف، ومالك بن أنس، وعامر الشعبي، وعطاء بن أبي سلمة، وسليمان بن مهران الأعمش، وأبو العالية رفيع بن مهران الرياحي، والضحاك بن مزاحم، وعطية بن سعيد العوفي، وكثير غيرهم ممن لا يسع المقام تعدادهم. وفي زمن التابعين دون التفسير، وصنف فيه، وأول كتاب ظهر في التفسير كان
[ 28 ]
لسعيد بن جبير المتوفى (سنة 64)، وكان أعلم التابعين في التفسير، نص على ذلك قتادة، وحكاه السيوطي في (الإتقان). ثم أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي القرشي، المعروف بالسدي، المتوفى (سنة 127) قال السيوطي: إن تفسيره من أمثل التفاسير. ثم محمد بن السائب الكلبي المتوفى (سنة 146) صاحب التفسير الكبير، وأبو حمزة الثمالي، صاحب الإمام أبي محمد علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، ذكر تفسيره ابن النديم، ثم أبو بصير الأسدي، صاحب الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وله تفسير جليل، وهو من تابعي التابعين. وممن صنف في التفسير من التابعين: جابر بن يزيد الجعفي المتوفى (سنة 127) ومنهم شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ومجاهد، وهولاء عدا سعيد بن جبير، من أهل المائة الثانية للهجرة. وعرف بالتصنيف في هذا العلم من أهل هذه المائة: عبد الملك بن جريج المكي الأموي بالولاء، وزيد بن أسلم العدوي، ومقاتل الأزدي، ووكيع بن الجراح الكوفي، وأبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي المتوفى (سنة 207) صاحب كتاب (الرغيب في علوم القرآن). وفي المائة الثالثة: اشتهر بالتفسير محمد بن جرير الطبري، صاحب التفسير الذي جمع فأوعى، وهو البحر الذي ورده أكثر من تأخر عنه من المفسرين، ومحمد بن خالد البرقي، صاحب كتاب التفسير إملاء الإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، حكاه ابن شهر آشوب في (معالم العلماء) وعلي بن إبراهيم القمي، وابن ماجة محمد بن يزيد القزويني، المحدث المشهور، والأشج أبو سعيد بن راهويه. وفي المائة الرابعة: عرف النيسابوري، وأبو الحسن الأشعري، إمام أهل السنة، وعلي بن عيسى الرماني النحوي المشهور، وأبو هلال العسكري، وعبد الله بن محمد الكوفي، وابن حبان، وابن فورك. وفي المائة الخامسة: عرف شيخ الطائفة الإمامية وفقيهها الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي صاحب كتاب التبيان الجامع لكل علوم القرآن، ثم السيد الشريف الرضي الموسوي صاحب كتاب (حقائق التنزيل ودقائق التأويل) وإمام
[ 29 ]
الحرمين أبو المعالي الجويني، وعبد الملك الثعالبي. وفي المائة السادسة: اشتهر جار الله الزمخشري صاحب (الكشاف) الذي لم يؤلف في بابه مثله جودة وإتقانا، واشتهر أبو علي الفضل بن الحسن الفاضل الطبرسي صاحب كتاب (مجمع البيان)، وهو التفسير المشهور الذي لم ينسج على منواله أبدع منه، وأبو البقاء العكبري، وأبو محمد البغوي، وابن الدهان. وفي المائة السابعة: اشتهر البيضاوي صاحب التفسير المشهور المسمى بأنوار التنزيل الذي تناوله العلماء بالشروح والتعاليق، واتخذه طلاب التفسير منارا لهم، وعرف ابن رزين والشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي، صاحب (الفتوحات)، وابن عقيل النحوي، ومحمد بن سليمان البلخي المعروف بابن النقيب. وفي المائة الثامنة: عرف الشيخ بدر الدين الزركشي الفقيه الشافعي، وابن كثير إسماعيل بن عمر القرشي، وأبو حيان الأندلسي صاحب كتابي البحر والنهر في التفسير، ومحمد بن عرفة المالكي، وابن النقاش. وفي المائة التاسعة: عرف البقاعي صاحب (نظم الدرر في تناسب الآي والسور)، والمولى الجامي، وبرهان الدين بن جماعة، وعلاء الدين القراماني صاحب (بحر العلوم) في التفسير، والجلال السيوطي صاحب كتاب (الإتقان في علوم القرآن). وفي المائة العاشرة: عرف الشيخ علي بن يونس النباطي صاحب (مختصر مجمع البيان)، والعلامة ابن كمال باشا أحمد بن سليمان بن كمال الرومي، وأبو السعود العمادي مفتي القسطنطينية، صاحب التفسير الكبير المسمى بارشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، الذي اشتهر صيته، وانتشرت نسخه، والشيخ أبو يحيى زكريا بن محمد الأنصاري. وفي المائة الحادية عشرة: عرف الشيخ علي القاري، والشيخ حسن البوريني، والشيخ بهاء الدين العاملي الكركي، صاحب التفسير المسمى (بعين الحياة) وهو مؤلف (الكشكول)، والشيخ خير الدين الرملي، والشهاب الخفاجي. وفي المائة الثانية عشرة: عرف الشيخ العارف عبد الغني النابلسي، صاحب (التحرير الحاوي في شرح تفسير البيضاوي)، والسيد هاشم البحراني صاحب
[ 30 ]
(البرهان في تفسير القرآن). وفي المائة الثالثة عشرة: اشتهر الألوسي صاحب التفسير المشهور المسمى (روح المعاني)، والسيد محمود الحمزاوي مفتي دمشق الشام بكتابه (در الأسرار) وهو تفسير بالحرف المهمل، وما أحوج هذا التفسير إلى تفسير. وفي المائة الرابعة عشرة: اشتهر العلامة المحقق الأستاذ الإمام محمد عبده، مفتي الديار المصرية، بما كان يلقيه من دروس التفسير المفيدة على طلاب العلوم في الجامع الأزهر بالقاهرة، سلك فيها مسلكا رائعا، دل على مزيد تبحر، وسلامة ذوق، وجامعية كبرى، وقد اقتبس دروسه هذه العلامة السيد محمد رشيد رضا، فنشرها في (مجلة المنار) التي تصدر عن مصر، وزاد عليها فوائد مهمة في التفسير. وهذا أنموذج من كتب التفسير، وأسماء طائفة من علمائه، ذكرناها تكملة للبحث، وإلا فإن تعداد مفسري كتاب الله الكريم في كل عصر ومصر، وفي كل لغة من لغات البشر الشائعة، لمما يفوت الإحصاء والاستقاء، جزى الله العاملين على إعلاء كلامه، وإحياء لغة الضاد التي لا حياة لها إلا بحياته، وهو الكلمة الباقية الخالدة ما دامت الأرض والسماء. [ النبطية ] أحمد رضا
[ 31 ]
مقدمة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي ارتفعت عن مطارح الفكر جلالته، وجلت عن مطامح الهمم عزته، وتعالت عن مشابهة الأنأم صفته، وأعجزت مدارك الأفهام حكمته، وفاقت مبالغ الأوهام عظمته، الذي له في كل ما رأته الأبصار اللاحظة، وذكرته الألسن اللافظة، وبلغته العقول الزاكية، وعرفته القلوب الواعية، آيات واضحة على وحدانيته، ودلالات ناطقة على ربوبيته، الواحد لا ثاني له في القدم، والمحدث للأشياء بعد العدم، أنشاها بلا طوية ولا روية آل إليها، ولا قريحة غريزة أضمر عليها. هو الظاهر عليها بسلطانه وقدرته، الباطن لها بعلمه ولطيف صنعته. الأول الذي لا يقدمه قبل، الآخر الذي لا يعقبه بعد. لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد. أحمده على آلائه المتوالية المتظاهرة، ونعمه الباطنة والظاهرة، حمدا يستدر شآبيب جوده الهاطلة، ويمتري اخلاف فضله الحافلة، حمدا يدوم ولا يبيد، ويستدعي بمثله المزيد. وأشهد أنه الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. وأساله بأوضح بيان وأفصح لسان، أن يصلي على نبيه وصفيه، وحبيبه ونجيه، محمد سيد الأنبياء والمرسلين، وخير الأولين والآخرين، المؤكد دعوته بالتأييد، المخصوص شريعته بالتأبيد، نسخت بها شرائع الماضين، ولا نبي بعده إلى يوم الدين. وعلى آله وعترته المتفرعين من نبعته، المستودعين لحكمته، الحافظين لشريعته، أعلام الإسلام، وأئمة الأنام، ما اعتقبت الليالي والأيام، واختلف الضياء والظلام. ثم الحمد لله الذي أنزل القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، نورا يتوقد مصباحه، وضياء يتلألأ صباحه، ودليلا لا يخمد برهانه، وحقا لا تخذل أعوانه، وحبلا وثيقا عروته، وجبلا منيعا ذروته، وشفاء للصدور ليس وراءه شفاء، ودواء للقلوب ليس مثله دواء، وإماما يقتدي بسمته المقتدون، وعلما يهتدي بهداه
[ 32 ]
المهتدون، جعله سبحانه لأفئدة الأئمة ربيعا مربعا، ولجنوب ذوي المحارب من الامة جنابا ممرعا، ففيه رياض الحكم وأنوارها، وينابيع العلوم بل بحارها، وأودية الحق وغيطانه، ومراتع العدل وغدرانه، وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. (وبعد): فإن أحق الفضائل بالتعظيم، وأسبقها في استحقاق التقديم، هو العلم إذ لا شرف إلا وهو نظامه، ولا كرم إلا وهو ملاكه وقوامه، ولا سيادة إلا وهو ذروتها وسنامها، ولا سعادة إلا وبه صحتها وقوامها، به يكسب الإنسان رفعة القدر، وعلو الأمر في حياته. ويحوز جزيل الأجر، وجميل الذكر بعد وفاته. هو الصديق إذا خان كل صديق، والشفيق إذا لم يوثق بكل ناصح شفيق، والعلماء ورثة النبيين، وسادة المسلمين، والدعاة إلى الدين. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه لنا الثقات بالأسانيد الصحيحة مرفوعا إلى إمام الهدى، وكهف الورى، أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام، عن آبائه سيد عن سيد، وإمام عن إمام، إلى أن اتصل به عليه وآله السلام، أنه قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. فاطلبوا العلم من مظانه، واقتبسوه من أهله، فإن تعلمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والمصاحب في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الاخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم، ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى آرائهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه. إن العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الأبصار من الظلمة، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار، والدرجات العلى في الآخرة والأولى. الذكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الرب ويعبد، وبه يوصل الأرحام، ويعرف الحلال والحرام. العلم إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله منه حظه. وفي أمثال هذا من
[ 33 ]
الأخبار كثرة لا نطول بذكرها. ثم إن أشرف العلوم وأسناها، وأبهرها وأبهاها، وأجلها وأفضلها، وأنفعها واكملها، علم القرآن، فإنه لجميع العلوم الأصل، منه تتفرع أفانينها، والعماد عليه تبنى قوانينها. وقد قال أمير المومنين، وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه السلام: القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه. وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. وعن سعيد، عن قتادة في قوله عز وجل (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)، قال: هو القرآن. وعن رجاء بن حياة، قال: كنا يوما أنا وأبي عند معاذ بن جبل، فقال: من هذا يا حياة ؟ فقال: هذا ابني رجاء. فقال معاذ: هل علمته القرآن ؟ قال: لا. قال: فعلمه القرآن، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من رجل علم ولده القرآن، إلا توج أبواه يوم القيامة بتاج الملك، وكسيا حلتين لم ير الناس مثلهما. ثم ضرب بيده على كتفي فقال: يا بني ! إذا استطعت أن تكسو أبويك يوم القيامة حلتين فافعل. وروي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار. وصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رواية العام والخاص، أنه قال: إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. وإنما أحذف أسانيد أمثال هذه الأحاديث إيثارا للتخفيف، ولاشتهارها عند أصحاب الحديث. وقد خاض العلماء، قديما وحديثا، في علم تفسير القرآن، واجتهدوا في إبراز مكنونه، وإظهار مصونه، وألفوا فيه كتبا جمة، غاصوا في كثير منها إلى أعماق لججه، وشققوا الشعر في إيضاح حججه، وحققوا في تفتيح أبوابه، وتغلغل شعابه. إلا أن أصحابنا، رضي الله عنهم، لم يدونوا في ذلك غير مختصرات، نقلوا فيها ما وصل إليهم في ذلك من الأخبار، ولم يعنوا ببسط المعاني وكشف الأسرار، إلا ما جمعه الشيخ الأجل السعيد، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، قدس الله روحه، من كتاب (التبيان) فإنه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق، ويلوح عليه رواة الصدق، قد تضمن من المعاني الأسرار البديعة، واحتضن من الألفاظ اللغة الوسيعة، ولم يقنع بتدوينها دون تبيينها، ولا بتنميقها دون تحقيقها، وهو القدوة أستضئ بأنواره، وأطأ مواقع آثاره، غير أنه خلط في أشياء مما ذكره في الإعراب والنحو الغث بالسمين، والخاثر بالزباد، ولم يميز بين الصلاح مما ذكره فيه
[ 34 ]
والفساد، وأدى الألفاظ في مواضع من متضمناته قاصرة عن المراد، وأخل بحسن الترتيب، وجودة التهذيب، فلم يقع لذلك من القلوب السليمة الموقع المرضي، ولم يعل من الخواطر الكريمة المكان العلي. وقد كنت في عهد ريعان الشباب، وحداثة السن، وريان العيش، ونضارة الغصن، كثير النزاع، قلق التشوق، شديد التشوف إلى جمع كتاب في التفسير، ينتظم أسرار النحو اللطيفة، ولمع اللغة الشريفة، ويفي موارد القراآت من متوجهاتها، مع بيان حججها الواردة من جميع جهاتها، ويجمع جوامع البيان في المعاني المستنبطة من معادنها، المستخرجة من كوامنها، إلى غير ذلك من علومه الجمة، مطلعة من الغلف والأكمة، فيعترض لذلك جوائح الزمان، وعوائق الحدثان، وواردات الهموم، وهفوات القدر المحتوم، وهلم جرا إلى الآن، وقد ذرف سني على الستين، واشتعل الرأس شيبا، وامتلأت العيبة عيبا، فحداني على تصميم هذه العزيمة ما رأيت من عناية مولانا - الأمير السيد الأجل، العالم، ولي النعم، جلال الدين، ركن الإسلام، مخلص الملوك والسلاطين، سيد نقباء الشرف، تاج أمراء السادة، فخر آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبي منصور محمد بن يحيى بن هبة الله الحسيني، أدام الله علاه، وكبت أعداه - بهذا العلم، وصدق رغبته في معرفة هذا الفن، وقصر هممه على تحصيل حقائقه، والاحتواء على جلائله ودقائقه، والله عز اسمه المسؤول أن يحرس للإسلام والمسلمين رفيع حضرته، ويفيض على الفضل والفضلاء سجال سيادته، ويمد على العلم والعلماء إمداد سعادته، ويبقي إقباله في دولة شماء السماء لا ترتقى هضباتها، ورفعة سامية البناء لا تبتغى جنباتها، ويوفي آماله في ظلال مجد محلول طلله، مطلول حلله، وجلال فضل مزرور عليه حلله، مضروب عليه كلله، ويديم جماله في غبطة رفيعة القلل، وبسطة مريعة الظلل. حتى يحوز من المنى غاياتها * متلقيا بيمينه راياتها ويفوز بالآمال غير مدافع * يتلو عليه سعده آياتها وتظل شمس المجد في ساحاته * تجلو عليه جرمها باناتها وكل غاية في المجد أدنى درجات قدره، وكل نهاية في الشرف أدون طبقات فخره، فأوجبت على نفسي إجابته إلى مطلوبه، وإسعافه بمحبوبه، واستخرت الله تعالى، ثم قصرت وهمي وهمي على اقتناء هذه الذخيرة الخطيرة، واكتساب هذه
[ 35 ]
الفضيلة النبيلة، وشمرت عن ساق الجد، وبذلت غاية الجهد والكد، وأسهرت الناظر، وأتعبت الخاطر، وأطلت التفكير، وأحضرت التفاسير، واستمددت من الله سبحانه التوفيق والتيسير، وابتدأت بتأليف كتاب هو في غاية التلخيص والتهذيب، وحسن النظم والترتيب، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه، ويحوي نصوصه وعيونه، من علم قراءته وإعرابه، ولغاته وغوامضه ومشكلاته، ومعانيه وجهاته، ونزوله وأخباره، وقصصه وآثاره، وحدوده وأحكامه، وحلاله وحرامه، والكلام على مطاعن المبطلين فيه، وذكر ما يتفرد به أصحابنا، رضي الله عنهم، من الاستدلالات بمواضع كثيرة منه على صحة ما يعتقدونه من الأصول والفروع، والمعقول والمسموع، على وجه الإعتدال والاختصار، فوق الإيجاز ودون الاكثار، فإن الخواطر في هذا الزمان، لا تحتمل أعباء العلوم الكثيرة، وتضعف عن الاجراء في الحلبات الخطيرة، إذ لم يبق من العلماء إلا الأسماء، ومن العلوم إلا الذماء. وقدمت في مطلع كل سورة ذكر مكيها ومدنيها، ثم ذكر الاختلاف في عدد آياتها، ثم ذكر فضل تلاوتها، ثم اقدم في كل آية الاختلاف في القراءات، ثم ذكر العلل والإحتجاجات، ثم ذكر العربية واللغات، ثم ذكر الاعراب والمشكلات، ثم ذكر الأسباب والنزولات، ثم ذكر المعاني والأحكام والتأويلات، والقصص والجهات، ثم ذكر انتظام الآيات. على أني قد جمعت في عربيته كل غرة لائحة، وفي إعرابه كل حجة واضحة، وفي معانيه كل قول متين، وفي مشكلاته كل برهان مبين، وهو بحمد الله للاديب عمدة، وللنحوي عدة، وللمقرئ بصيرة، وللناسك ذخيرة، وللمتكلم حجة، وللمحدث محجة، وللفقيه دلالة، وللواعظ آلة. وسميته كتاب (مجمع البيان لعلوم القرآن) وأرجو إن شاء الله تعالى أن يكون كتابا كثير الدرر، غزير الغرر، متواصف السمات، متناصف الصفات، سيارا في الابحار والأغوار، طيارا في الآفاق والأقطار، مهذب الترتيب، مذهب التهذيب، أحكام الشريعة بمعانيه منوطة، وأعلام الحقيقة بمبانيه مربوطة، وبحول الله أعتصم، وبقوته وعونه أفتتح وأختتم، واياه أسأل الهداية التي هي أقوم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه انيب. وقبل أن نشرع في تفسير السور والآيات، فنحن نصدر الكتاب بذكر مقدمات لا بد من معرفتها، لمن أراد الخوض في علومه، تجمعها فنون سبعة:
[ 36 ]
[ الفن الأول ]: قي تعداد أي القرآن، والفائدة في معرفتها: إعلم أن عدد أهل الكوفة أصح الأعداد وأعلاها إسنادا، لأنه ماخوذ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وتعضده الرواية الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: فاتحة الكتاب سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم. وعدد أهل المدينة: منسوب إلى أبي جعفر يزيد بن القعقاع القاري، وشيبة بن نصاح، وهما المدني الأول، وإلى إسماعيل بن جعفر، وهو المدني الأخير. وقيل: المدني الأول هو الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، والمدني الأخير: أبو جعفر وشيبة وإسماعيل. والأول أشهر. وعدد أهل البصرة منسوب إلى عاصم بن أبي الصباح الجحدري، وأيوب بن المتوكل، لا يختلفان إلا في آية واحدة في ص قوله: فالحق والحق أقول، عدها الجحدري، وتركها أيوب. وعدد أهل مكة منسوب إلى مجاهد بن جبر، وإلى إسماعيل المكي، وقيل: لا ينسب عددهم إلى أحد بل وجد في مصاحفهم على رأس كل آية ثلاث نقط، وعدد أهل الشام منسوب إلى عبد الله بن عامر. والفائدة في معرفة آي القرآن أن القارئ إذا عدها بأصابعه كان أكثر ثوابا لأنه قد شغل يده بالقرآن مع قلبه ولسانه، وبالحري أن تشهد له يوم القيامة، فإنها مسؤولة، ولأن ذلك أقرب إلى التحفظ، فإن القارئ لا يأمن من السهو، وقد روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: تعاهدوا القرآن فإنه وحشي. وقال عليه الصلاة والسلام لبعض النساء: اعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات ومستنطقات. وقال حمزة بن حبيب، وهو أحد القراء السبعة: العدد مسامير القرآن. [ الفن الثاني ]: في ذكر أسامي القراء المشهورين في الأمصار، ورواتهم: أما المدني: فأبو جعفر يزيد بن القعقاع، وليس من السبعة، وذكر أنه قرأ على عبد الله بن عباس، وعلى مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وهما قرءآ على أبي بن كعب، وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وله رواية واحدة. ونافع بن عبد الرحمن، وقرأ على أبي جعفر، ومنه تعلم القرآن، وعلى شيبة بن نصاح، وعلى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وقرأ على ابن عباس، وله ثلاث روايات: رواية ورش: وهو عثمان بن سعيد، ورواية قالون: وهو عيسى بن مينا، ورواية إسماعيل بن جعفر. وأما المكي: فهو عبد الله بن كثير لا غير، وقرأ على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عباس، وله ثلاث روايات: رواية البزي، ورواية ابن فليح،
[ 37 ]
ورواية أبي الحسين القواس. وإذا اجتمع أهل مكة والمدينة قيل حجازي. وأما الكوفي: فأولهم عاصم بن أبي النجود بهدلة، وله روايتان: رواية حفص بن سليمان البزاز، ورواية أبي بكر بن عياش. ولأبي بكر بن عياش ثلاث روايات: رواية أبي يوسف الأعشى، وأبي صالح البرجمي، ويحيى بن آدم. ولحفص أربع روايات: رواية أبي شعيب القواس، وهبيرة التمار، وعبيد بن الصباح، وعمرو بن الصباح، ثم حمزة بن حبيب الزيات، وله سبع روايات: رواية العجلي عبد الله بن صالح، ورواية رجاء بن عيسى، ورواية حماد بن أحمد، ورواية خلاد بن خالد، ورواية أبي عمر الدوري، ورواية محمد بن سعدان النحوي، ورواية خلف بن هشام. ثم أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي، وله ست روايات: رواية قتيبة بن مهران، ورواية نصير بن يوسف النحوي، ورواية أبي الحارث، ورواية أبي حمدون الزاهد، ورواية حمدون بن ميمون الزجاج، ورواية أبي عمر الدوري. ثم خلف بن هشام البزاز، وليس من السبعة، وله اختيار. فاما عاصم: فإنه قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وهو قرأ على علي بن أبي طالب عليه السلام، وقرأ أيضا على زر بن حبيش، وهو قرأ على عبد الله بن مسعود. وأما حمزة: فقرأ على جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وقرأ أيضا على الأعمش سليمان بن مهران، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وهو قرأ على علقمة، ومسروق، والأسود بن يزيد، وقرأوا على عبد الله بن مسعود. وقرأ حمزة على حمران بن أعين أيضا، وهو قرأ على أبي الأسود الدؤلي، وهو قرأ على علي بن أبي طالب عليه السلام. وأما الكسائي: فقرأ على حمزة، ولقي من مشايخ حمزة ابن أبي ليلى، وقرأ عليه، وعلى إبان بن تغلب، وعيسى بن عمر، وغيرهم. وأما البصري: فأبو عمرو بن العلاء، وله ثلاث روايات: رواية شجاع بن أبي نصير، ورواية العباس بن الفضل، ورواية اليزيدي يحيى بن المبارك. ولليزيدي ست روايات: رواية أبي حمدون الزاهد، وأبي عمر الدوري، وأوقية، وأبي نعيم غلام شحادة، وأبي أيوب الخياط، وأبي شعيب السوسي. ومن البصرة: يعقوب بن إسحاق الحضرمي، وأبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، وليسا من السبعة. فأما يعقوب: فله ثلاث روايات: رواية روح، وزيد، ورويس وإذا اجتمع أهل البصرة والكوفة قيل: عراقي. وأما الشامي: فهو عبد الله بن عامر اليحصبي لا غير، وقرأ على المغيرة بن أبي
[ 38 ]
شهاب المخزومي، وقرأ المغيرة على عثمان بن عفان، وله روايتان: رواية ابن ذكوان، ورواية هشام بن عمار. قالوا: وإنما اجتمع الناس على قراءة هولاء، واقتدوا بهم فيها لسببين. أحدهما: إنهم تجردوا لقراءة القرآن، واشتدت بذلك عنايتهم مع كثرة علمهم، ومن كان قبلهم، أو في أزمنتهم، ممن نسب إليه القراءة من العلماء، وعدت قراءتهم في الشواذ. لم يتجرد لذلك تجردهم، وكان الغالب على أولئك الفقه، أو الحديث، أو غير ذلك من العلوم. والآخر: إن قراءتهم وجدت مسندة لفظا، أو سماعا، حرفا حرفا، من أول القرآن إلى آخره، مع ما عرف من فضائلهم، وكثرة علمهم بوجوه القرآن. فإذ قد تبينت ذلك فاعلم أن الظاهر من مذهب الإمامية أنهم أجمعوا على جواز القراءة بما تتداوله القراء بينهم من القراءات، إلا أنهم اختاروا القراءة بما جاز بين القراء، وكرهوا تجريد قراءة مفردة، والشائع في أخبارهم أن القرآن نزل بحرف واحد، وما روته العامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف، اختلف في تأويله، فأجرى قوم لفظ الأحرف على ظاهره، ثم حملوه على وجهين. أحدهما: إن المراد سبع لغات مما لا يغير حكما في تحليل، ولا تحريم، مثل هلم، واقبل، وتعال. وكانوا مخيرين في مبتدأ الإسلام في أن يقرأوا بما شاءوا منها، ثم أجمعوا على أحدها، وإجماعهم حجة، فصار ما أجمعوا عليه مانعا مما أعرضوا عنه، والآخر: إن المراد سبعة أوجه من القراءات، وذكر أن الاختلاف في القراءة على سبعة أوجه أحدها: إختلاف إعراب الكلمة مما لا يزيلها عن صورتها في الكتابة، ولا يغير معناها نحو قوله (فيضاعفه) بالرفع والنصب. والثاني: الاختلاف في الإعراب مما يغير معناها، ولا يزيلها عن صورتها نحو قوله: (إذ تلقونه وإذا تلقونه). والثالث: الإختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها، مما يغير معناها، ولا يزيل صورتها، نحو قوله: (كيف ننشزها وننشرها) بالزاء والراء. والرابع: الاختلاف في الكلمة مما يغير صورتها، ولا يغير معناها نحو قوله: (إن كانت إلا صيحة، وإلا زقية)، والخامس: الإختلاف في الكلمة مما يزيل صورتها ومعناها نحو: (طلح منضود وطلع)، والسادس: الإختلاف بالتقديم والتأخير نحو قوله: (وجاءت سكرة الموت بالحق وجاءت سكرة الحق بالموت)، والسابع: الإختلاف بالزيادة والنقصان نحو قوله: (وما عملت أيديهم وما عملته أيديهم). وقال الشيخ السعيد أبو جعفر الطوسي، قدس الله روحه: هذا الوجه أملح لما
[ 39 ]
روي عنهم عليه السلام، من جواز القراءة بما اختلف القراء فيه، وحمل جماعة من العلماء الأحرف على المعاني والأحكام التي ينتظمها القرآن دون الألفاظ. واختلفت أقوالهم فيها، فمنهم من قال: إنها وعد ووعيد، وأمر ونهي، وجدل وقصص، ومثل، وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: نزل القرآن على سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. وروى أبو قلابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: نزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، وقصص، ومثل. وقال بعضهم: ناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، ومجمل ومفصل، وتأويل لا يعلمه إلا الله عز وجل. [ الفن الثالث ] في ذكر التفسير والتأويل والمعنى، وتحرير جملة موجزة إليها ينساق أكثر الكلام فيما يأتي من الكتاب: التفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل. والتأويل: رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر والتفسير البيان، وقال أبو العباس المبرد: التفسير والتأويل والمعنى واحد. وقيل: التفسير: كشف المغطى. والتأويل: إنتهاء الشئ ومصيره وما يؤول إليه أمره. والمعنى: مأخوذ من قولهم: عنيت فلانا أي: قصدته. فكان المراد من قولهم عنى به كذا: قصد بالكلام كذا. وقيل: هو من قولهم عنيت بهذا الأمر أي: تكلفته. واعلم أن الخبر قد صح عن النبي صلى الله عليه واله وسلم وعن الأئمة القائمين مقامه عليهم السلام أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح، والنص الصريح. وروت العامة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ، قالوا: وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيب، وعبيدة السلماني، ونافع، وسالم بن عبد الله وغيرهم. والقول في ذلك أن الله سبحانه ندب إلى الاستنباط وأوضح السبيل إليه، ومدح أقواما عليه، فقال (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) وذم آخرين على ترك تدبره، والاضراب عن التفكر فيه، فقال (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها) وذكر أن القرآن منزل بلسان العرب فقال: (إنا جعلناه قرآنا عربيا). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط. فبين أن الكتاب حجة ومعروض عليه، وكيف يمكن العرض عليه وهو غير مفهوم المعنى ؟ فهذا وأمثاله يدل
[ 40 ]
على أن الخبر متروك الظاهر، فيكون معناه إن صح: ان من حمل القرآن على رأيه، ولم يعمل بشواهد ألفاظه، فأصاب الحق فقد أخطا الدليل. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه على أحسن الوجوه. وروي عن عبد الله بن عباس أنه قسم وجوه التفسير على أربعة أقسام: تفسير لا يعذر أحد بجهالته. وتفسير تعرفه العرب بكلامها. وتفسير يعلمه العلماء. وتفسير لا يعرفه إلا الله عز وجل. فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته: فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن، وجمل دلائل التوحيد. وأما الذي تعرفه العرب بلسانها: فهو حقائق اللغة، وموضوع كلامهم. وأما الذي يعلمه العلماء: فهو تأويل المتشابه، وفروع الأحكام. وأما الذي لا يعلمه إلا الله: فهو ما يجري مجرى الغيوب، وقيام الساعة. وأقول إن الإعراب أجل علوم القرآن، فإن إليه يفتقر كل بيان، وهو الذي يفتح من الألفاظ الأغلاق، ويستخرج من فحواها الأعلاق، إذ الأغراض كامنة فيها، فيكون هو المثير لها، والباحث عنها، والمشير إليها، وهو معيار الكلام الذي لا يبين نقصانه ورجحانه حتى يعرض عليه، ومقياسه الذي لا يميز بين سقيمه ومستقيمه حتى يرجع إليه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: اعربوا القرآن والتمسوا غرائبه. وإذا كان ظاهر القرآن طبقا لمعناه، فكل من عرف العربية والإعراب عرف فحواه، ويعلم مراد الله به قطعا، هذا إذا كان اللفظ غير مجمل يحتاج إلى بيان، ولا محتمل لمعنيين، أو معان، وذلك مثل قوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، وقوله: (وإلهكم إله واحد)، وقوله: (ولا يظلم ربك أحدا) وأشباه ذلك. وأما ما كان مجملا لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا، مثل قوله سبحانه (أقيموا الصلاة وأتوا الزكاة)، (وآتوا حقه يوم حصاده) فإنه يحتاج فيه إلى بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوحي من الله سبحانه إليه، فيبين تفصيل أعيان الصلوات، وأعداد الركعات، ومقادير النصب في الزكاة، وأمثالها كثيرة. والشروع في بيان ذلك من غير نص وتوقيف ممنوع منه، ويمكن أن يكون الخبر الذي تقدم محمولا عليه. وأما ما كان محتملا لأمور كثيرة، أو لأمرين: فلا يجوز أن يكون الجميع مرادا، بل قد دل الدليل على أنه لا يجوز أن يكون المراد به إلا وجها واحدا، فهو من باب المتشابه لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد، فيحمل على الوجه الذي يوافق الدليل، وجاز أن يقال إنه هو المراد، وإن كان اللفظ مشتركا بين معنيين أو أكثر، ويمكن أن يكون كل
[ 41 ]
واحد من ذلك مرادا فلا ينبغي أن يقدم عليه بجسارة، فيقال: إن المراد به كذا قطعا إلا بقول نبي، أو إمام مقطوع على صدقه، بل يجوز أن يكون كل واحد مرادا على التفضيل، ولا يقطع عليه، ولا يقلد أحد من المفسرين فيه، إلا أن يكون التأويل مجمعا عليه، فيجب اتباعه لانعقاد الإجماع عليه. فهذه الجملة التي لخصتها أصل يجب أن يرجع إليه، ويعول عليه، ويعتبر به وجوه التفسير، وما اختلف فيه العلماء من نزول القرآن، والمعاني، والأحكام. [ الفن الرابع ]: في ذكر أسامي القرآن ومعانيها: القرآن: معناه القراءة في الأصل، وهو مصدر قرأت أي: تلوت، وهو المروي عن ابن عباس. وقيل: هو مصدر قرأت الشئ أي: جمعت بعضه إلى بعض، وقال عمرو بن كلثوم: ذراعي عيطل أدماء بكر * هجان اللون لم تقرأ جنينا أي: لم تضم جنينها في رحمها، وهو المروي عن قتادة، وإنما سمي بالمصدر وهو في الحقيقة المقر، وكما سمي المكتوب كتابا، والمحسوب حسابا، ومن أسمائه الكتاب أيضا: وهو مأخوذ من الجمع أيضا، يقال: كتبت السقاء إذا جمعته بالخرز. ومن أسمائه الفرقان: سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل بأدلته الدالة على صحة الحق فبطلان الباطل، عن ابن عباس. وقيل: سمي بذلك لأنه يؤدي إلى النجاة والمخرج، كقوله سبحانه (ويجعل لكم فرقانا). ومن أسمائه الذكر: قال سبحانه وتعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وهو يحتمل أمرين أحدهما: أن يريد به أنه ذكر من الله لعباده بالفرائض والأحكام. والآخر: إنه شرف لمن آمن به، وصدق بما فيه، كقوله سبحانه: (وإنه لذكر لك ولقومك) فهذه أربعة أسماء. وقد شاع في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، ومكان الإنجيل المثاني، ومكان الزبور المئين، وفضلت بالمفصل. وفي رواية واثلة بن الأسقع: وأعطيت مكان الإنجيل المئين، ومكان الزبور المثاني، وأعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم البقرة من تحت العرش، لم يعطها نبي قبلي، وأعطاني ربي المفصل نافلة. فالسبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال مع التوبة، لأنهما يدعيان القرينتين، ولذلك لم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: إن السابعة
[ 42 ]
سورة يونس والطول جمع الطولى تأنيث الأطول، وإنما سميت هذه السور الطول لأنها أطول سور القرآن. وأما المثاني: فهي السورة التالية للسبع الطول، وأولها سورة يونس وآخرها النحل، وإنما سميت مثاني لأنها ثنت الطول أي: تلتها، وكان الطول هي المبادي، والمثاني لها ثواني وواحدها مثنى، مثل المعنى والمعاني. وقال الفراء: واحدها المثناة. وقيل: المثاني سور القرآن كلها طوالها وقصارها، من قوله تعالى: (كتابا متشابها مثاني) وهو قول ابن عباس، وإنما سميت مثاني لأنه سبحانه ثنى فيها الأمثال والحدود والفرائض. وقيل: إن المثاني في قوله (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) آيات سورة الحمد، وهو المروي عن أئمتنا صلى الله عليه وآله وسلم، وبه قال الحسن البصري. وأما المئون: فهي كل سورة تكون نحوا من مائة آية أو فويق ذلك، أو دوينه، وهي سبع: أولها سورة بني إسرائيل، وآخرها المؤمنون. وقيل: إن المئين ما ولي السبع الطول، ثم المثاني بعدها، وهي التي تقصر عن المئين، وتزيد على المفصل، وسميت المثاني لأن المئين مباد لها. وأما المفصل: فما بعد الحواميم من قصار السور إلى آخر القرآن، سميت مفصلا لكثرة الفصول بين سورها ببسم الله الرحمن الرحيم. [ الفن الخامس ]: في أشياء من علوم القرآن يحال في شرحها، وبسط الكلام. فيها على المواضع المختصة بها، والكتب المؤلفة فيها: من ذلك: العلم بكون القرآن معجزا خارقا للعادة، والاستدلال به على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والكلام في وجه إعجازه، وهل هو ما فيه من الفصاحة المفرطة، أو ما له من النظم المخصوص، والاسلوب البديع، والصرفة: وهو ان الله تعالى صرف العرب عن معارضته، وسلبهم العلم الذي به يتمكنون من مماثلته، في نظمه وفصاحته، فموضع ذلك أجمع كتب الاصول. وقد دونه مشايخ المتكلمين في كتبهم، لا سيما السيد الأجل المرتضى، علم الهدى، ذو المجدين أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، قدس الله روحه في كتابه الموضح عن وجه إعجاز القرآن، فإنه فرع الكلام فيه هناك إلى غاية ما يتفرع، ونهاه إلى نهاية ما ينتهي، فلا يشق غباره غاية الأبد، إذ استولى فيه على الأمد. ومن ذلك: الكلام في زيادة القرآن ونقصانه فإنه لا يليق بالتفسير. فأما الزيادة
[ 43 ]
فيه: فمجمع على بطلانه. وأما النقصان منه: فقد ررى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامة، أن في القرآن تغييرا أو نقصانا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى، قدس الله روحه، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن، كالعلم بالبلدان. والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، واشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت، والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتى عرفوا كل شئ اختلف فيه من إعرابه، وقراءته، وحروفه، وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا، مع العناية الصادقة، والضبط الشديد. وقال أيضا، قدس الله روحه: إن العلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحة نقله، كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني، فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب، لعرف وميز وعلم أنه ملحق، وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني. ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه، أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء. وذكر أيضا (رض) أن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وإن كان يعرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتلى عليه، وإن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وغيرهما، ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مبثوث. وذكر أن من خالف في ذلك من الامامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته. ومن ذلك: الكلام في النسخ والناسخ والمنسوخ، وحدودها وأقسام النسخ وشرائطه، والفصل بينه وبين البداء والتخصيص، وهل يجوز نسخ العبادة قبل وقت
[ 44 ]
فعلها، وهل يجوز نسخ القرآن بالسنة، وما يعرف به الناسخ ناسخا، والمنسوخ منسوخا، فإن ذلك أجمع وإن كان من العلوم المتعلقة بالقرآن، فإن موضعها الكتب المؤلفة في أصول الفقه، وسيأتي منه ما يليق بالتفسير في مظانه من الكتاب مستوفيا إن شاء الله. [ الفن السادس ]: في ذكر بعض ما جاء من الأخبار المشهورة في فضل القرآن وأهله: أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته. وعنه أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل العبادة قراءة القرآن. وعنه أنه قال عليه السلام: القرآن غنى لا غنى دونه، ولا فقر بعده. حماد بن سلمة، عن ثابت، عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حملة القرآن المخصوصون برحمة الله، المعلمون كلام الله، المقربون إلى الله، ومن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، يدفع الله عن مستمع القرآن بلاء الدنيا، ويدفع عن قارئ القرآن بلاء الآخرة، يا حملة القرآن ! تحببوا إلى الله بتوقير كتابه، يزدكم حبا ويحببكم إلى عباده. وعن مكحول، قال: جاء أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ! إني أخاف أن أتعلم القرآن، ولا أعمل به ! فقال: لا يعذب الله قلبا أسكنه القرآن. وعن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار. وعن عطاء، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة يوم القيامة. وقال عليه السلام: لا ينبغي لحامل القرآن أن يرى أن أحدا من أهل الأرض أغنى منه ولو ملك الدنيا برحبها. وعن عيسى بن قائد، قال: حدثني من سمع سعد بن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه، إلا لقي الله أجذم. عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أشراف أمتي حملة القرآن، وأصحاب الليل. عن عبد الله بن مسعود، عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله يؤجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات. أما إني لا أقول آلم عشر، ولكن ألف
[ 45 ]
عشر، ولام عشر، وميم عشر. الحديث. الحارث بن الأعور، عن أمير المؤمنين، علي عليه السلام، قال في حديث طويل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: إنها ستكون فتن ! قلت: فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال: كتاب الله، فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، هو الذي من عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم. عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه، أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار. عبد الله بن عمر، عنه عليه السلام قال: يقال لصاحب القرآن إقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرأها. وعنه، عليه السلام، أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي، فقد حقر ما عظمه الله، وعظم ما حقره الله. وعنه عليه السلام، أنه قال: من قرأ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه. أبو سعيد الخدري عنه عليه السلام، قال: حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنة يوم القيامة. وقال أمير المومنين عليه السلام: من دخل في الإسلام طائعا، وقرأ القرآن ظاهرا، فله في كل سنة مائتا دينار في بيت مال المسلمين، إن منع في الدنيا، أخذها يوم القيامة وافية أحوج ما يكون إليها. وهذه الأخبار يسير من كثير، وغيض من فيض، ونزر من غمر، اقتصرنا عليها إيثارا للاختصار. [ الفن السابع ]: في ذكر ما يستحب للقارئ من تحسين اللفظ، وتزيين الصوت بقراءة القرآن: البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زينوا القرآن بأصواتكم. حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق، وأهل الكتابين، وسيجئ قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم.
[ 46 ]
علقمة بن قيس قال: كنت حسن الصوت بالقرآن، فكان عبد الله بن مسعود يرسل إلي فأقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي قال: زدنا من هذا فداك أبي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن حسن الصوت زينة للقرآن. أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن لكل شئ حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن. عبد الرحمن بن السائب قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص فأتيته مسلما عليه، فقال: مرحبا يا بن أخي، بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن ؟ قلت: نعم والحمد لله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن القرآن نزل بالحزن. فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنوا به فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا. وتأول بعضهم تغنوا به بمعنى استغنوا به، وأكثر العلماء على أنه تزيين الصوت وتحزينه. وههنا سياق الكلام في التفسير، والله سبحانه ولي التسهيل والتيسير، وعليه التكلان في كل الامور، وهو حسبنا وإليه المصير.
[ 47 ]
سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع مكية عن ابن عباس وقتادة، ومدنية عن مجاهد. وقيل: انزلت مرتين مرة بمكة، ومرة بالمدينة. أسماؤها: (فاتحة الكتاب) سميت بذلك لافتتاح المصاحف بكتابتها، ولوجوب قراءتها في الصلاة، فهي فاتحة لما يتلوها من سور القرآن في الكتاب والقراءة (الحمد): سميت بذلك لأن فيها ذكر الحمد (ام الكتاب): سميت بذلك لأنها متقدمة على سائر سور القرآن، والعرب تسمي كل جامع أمر أو متقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه، أما، فيقولون: أم الرأس: للجلدة التي تجمع الدماغ. وأم القرى: لأن الأرض دحيت من تحت مكة، فصارت لجميعها أما، وقيل: لأنها أشرف البلدان فهى متقدمة على سائرها. وقيل: سميت بذلك لأنها أصل القرآن. والأم: هي الأصل، وإنما صارت أصل القرآن، لأن الله تعالى أودعها مجموع ما في السور، لأن فيها إثبات الربوبية والعبودية، وهذا هو المقصود بالقرآن (السبع): سميت بذلك لأنها سبع آيات لا خلاف في جملتها (المثاني): سميت بذلك لأنها تثنى بقراءتها في كل صلاة فرض ونفل. وقيل: لأنها نزلت مرتين، هذه أسماؤها المشهورة. وقد ذكر في أسمائها (الوافية): لأنها لا تنتصف في الصلاة (والكافية): لأنها تكفي عما سواها، ولا يكفي ما سواها عنها، ويويد ذلك ما رواه عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها عوضا عنها و (الأساس): لما روي عن ابن عباس: إن لكل شئ أساسا، وساق الحديث إلى أن قال: وأساس القرآن الفاتحة، وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم.
[ 48 ]
و (الشفاء): لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فاتحة الكتاب شفاء من كل داء و (الصلاة): لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي، ونصفها لعبدي، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) يقول الله: حمدني عبدي. فإذا قال: (الرحمن الرحيم) يقول الله اثنى علي عبدي. فإذا قال العبد: (مالك يوم الدين) يقول الله: مجدني عبدي. فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) يقول الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم) إلى آخره، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، أورده مسلم بن الحجاج في الصحيح، فهذه عشرة أسماء. فضلها: ذكر الشيخ أبو الحسين الخبازي المقري في كتابه في القراءة: أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن محمد قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال: حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدثنا سلام بن سليمان المدائني قال: حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله: أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب، أعطي من الأجر كأنما قرأ ثلثي القرآن، وأعطي من الأجر كأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة. وروي من طريق آخر هذا الخبر بعينه، إلا أنه قال: كأنما قرأ القرآن، وروي غيره عن أبي بن كعب أنه قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتحة الكتاب. فقال: والذي نفسي بيده ! ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها، هي أم الكتاب، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بين الله وبين عبده، ولعبده ما سأل. وفي كتاب محمد بن مسعود العياشي بإسناده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر ! ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه ؟ قال: فقال له جابر: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله علمنيها. قال: فعلمه الحمد أم الكتاب. ثم قال: يا جابر ألا أخبرك عنها ؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، فأخبرني فقال: هي شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت. وعن سلمة بن محرز، عن جعفر بن محمد الصادق، قال: من لم يبرءه الحمد، لم يبرءه شئ. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى قال لي: يا محمد ! ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم، فأفرد الإمتنان علي بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن، وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش، وإن الله خص محمدا
[ 49 ]
وشرفه بها، ولم يشرك فيها أحدا من أنبيائه ما خلا سليمان، فإنه أعطاه منها بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت (إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد وآله، منقادا لأمرها، مؤمنا بظاهرها وباطنها، أعطاه الله بكل حرف منها حسنة، كل واحدة منها أفضل له من الدنيا بما فيها من أصناف أموالها وخيراتها، ومن استمع إلى قارئ يقرؤها، كان له قدر ثلث ما للقارئ، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض له، فإنه غنيمة، لا يذهبن أوانه فتبقى في قلوبكم الحسرة. الاستعاذة: اتفقوا على التلفظ بالتعوذ قبل التسمية، فيقول ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ونافع وابن عامر والكسائي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إن هو السميع العليم، وحمزة: نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. وأبو حاتم أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. اللغة: الإستعاذة: الإستجارة، فمعناه ! أستجير بالله دون غيره. والعوذ والعياذ هو اللجأ والشيطان في اللغة: هو كل متمرد من الجن والانس والدواب، ولذلك جاء في القرآن: (شياطين الإنس والجن). ووزنه فيعال من شطنت الدار أي: بعدت. وقيل: هو فعلان من شاط يشيط: إذا بطل. والأول أصح، لأنه قد جاء في الشعر شاطن بمعناه: قال أمية بن أبي الصلت: أيما شاطن عصاه عكاه * ثم يلقى في السجن، والأغلال والرجيم: فعيل بمعنى مفعول من الرجم: وهو الرمي. المعنى: أمر الله بالإستعاذة من الشيطان، إذ لا يكاد يخلو من وسوسته الإنسان، فقال: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)، ومعنى أعوذ: ألجأ إلى الله من شر الشيطان أي: البعيد من الخير، المفارق أخلاقه أخلاق جميع جنسه. وقيل: المبعد من رحمة الله (الرجيم) أي: المطرود من السماء، المرمي بالشهب الثاقبة. وقيل: المرجوم باللغة (إن الله هو السميع) السميع لجميع المسموعات (العليم) بجميع المعلومات.
[ 50 ]
بسم الله الرحمن الرحيم اتفق أصحابنا أنها آية من سورة الحمد، ومن كل سورة، وأن من تركها في الصلاة بطلت صلاته، سواء كانت الصلاة فرضا، أو نفلا، وأنه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة. ويستحب الجهر بها فيما يخافت فيه بالقراءة، وفي جميع ما ذكرناه خلاف بين فقهاء الامة، ولا خلاف في أنها بعض آية من سورة النمل، وكل من عدها آية جعل من قوله (صراط الذين) إلى آخر السورة آية. ومن لم يعدها آية، جعل صراط الذين انعمت عليهم آية. وقال: إنها افتتاح للتيمن والتبرك. وأما القراء: فإن حمزة، وخلفا، ويعقوب، واليزيدي، تركوا الفصل بين السور بالتسمية. والباقون: يفصلون بينها بالتسمية إلا بين الأنفال والتوبة. فضلها: روي عن علي بن موسى الرضا عليه السلام أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها. وروي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا قال المعلم للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم، فقال الصبي: بسم الله الرحمن الرحيم، كتب الله براءة للصبي، وبراءة لأبويه، وبراءة للمعلم. وعن ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر، فليقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها تسعة عشر حرفا، ليجعل الله كل حرف منها جنة من واحد منهم. وروي عن الصادق صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله، فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها، وهي بسم الله الرحمن الرحيم !. اللغة: الاسم: مشتق من السمو، وهو الرفعة، أصله سمو بالواو، لأن جمعه أسماء مثل قنو وأقناء، وحنو وأحناء. وتصغيره سمي قال الراجز: " باسم الذي في كل سورة سمه " وسمه أيضا، ذكره أبو زيد، وغيره. وقيل: إنه مشتق من الوسم والسمة، والأول اصح لأن المحذوف الفاء نحو صلة ووصل، وعدة ووعد، لا تدخله همزة الوصل، ولانه كان يجب أن يقال في تصغيره وسيم، كما يقال وعيدة ووصيلة في تصغير عدة وصلة، والأمر بخلافه (الله) اسم لا يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى. وذكر سيبويه في أصله قولين أحدهما: إنه إلاه على وزن فعال، فحذفت الفاء التي هي الهمزة، وجعلت الألف واللام عوضا لازما عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف
[ 51 ]
في القسم، والنداء، في نحو قوله أفالله لتفعلن ويا ألله اغفر لي ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل (1) كما لم تثبت في غير هذا الاسم. والقول الآخر: إن أصله لاه، ووزنه قعل، فالحق به الألف واللام، يدل عليه قول الأعشى: كحلفة من أبي رباح * يسمعها لاهه الكبار وإنما أدخلت عليه الألف واللام للتفخيم والتعظيم فقط. ومن زعم أنها للتعريف، فقد أخطأ لأن أسماء الله تعالى معارف، والألف من لاه منقلبة عن ياء، فأصله إليه كقولهم في معناه لهي أبوك. قال سيبويه: نقلت العين إلى موضع اللام، وجعلت اللام ساكنة إذ صارت في مكان العين، كما كانت العين ساكنة، وتركوا آخر الاسم الذي هو (لهي) مفتوحا، كما تركوا آخران (2) مفتوحا، وإنما فعلوا ذلك حيث غيروه لكثرته في كلامهم، فغيروا إعرابه كما غيروا بناءه. وهذه دلالة قاطعة لظهور الياء في (لهي): والألف على هذا القول منقلبة كما ترى، وفي القول الأول زائدة، لأنها ألف فعال. وتقول العرب أيضا: لاه أبوك، تريد لله أبوك. قال ذو الاصبع العدواني: لاه ابن عمك، لا أفضلت في حسب * عني، ولا أنت دياني فتخزوني أي: تسوسني. قال سيبويه: حذفوا لام الاضافة واللام الاخرى، ولم ينكر بقاء عمل اللام بعد حذفها، فقد حكى سيبويه من قولهم: الله لأخرجن، يريدون: والله، ومثل ذلك كثير يطول الكلام بذكره. فأما الكلام في اشتقاقه: فمنهم من قال: إنه اسم موضع غير مشتق، إذ ليس يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا، لأنه لو وجب ذلك لتسلسل، هذا قول الخليل. ومنهم من قال: إنه مشتق. ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه: فمنها (3): إنه مشتق من الألوهية التي هي العبادة والتأله التعبد، قال رؤبة: لله در الغانيات آلمده، سبحن واسترجعن من تألهي أي: تعبدي. وقرأ ابن عباس: ويذرك وإلاهتك أي: عبادتك. ويقال: آله الله فلان إلاهة كما يقال عبده عبادة، فعلى هذا يكون معناه الذي يحق له العبادة، (1) [ الموصولة ]. (2) وفي جملة من نسخنا " ابن " بدل " أن " (3) [ قولهم ]. (*)
[ 52 ]
ولذلك لا يسمى به غيره. ويوصف فيما لم يزل بأنه آله (ومنها): إنه مشتق من الوله: وهو التحير، يقال: آله يأله إذا تحير - عن أبي عمرو - فمعناه: إنه الذي تتحير العقول في كنه عظمته (ومنها): إنه مشتق من قولهم ألهت إلى فلان أي: فزعت إليه، لأن الخلق يألهون إليه أي: يفزعون إليه في حوائجهم. فقيل للمألوه: آله، كما يقال للمؤتم به: إمام. (ومنها): إنه مشتق من ألهت إليه أي: سكنت إليه، عن المبرد، ومعناه: إن الخلق يسكنون إلى ذكره. (ومنها): إنه من لاه أي: احتجب، فمعناه: إنه المحتجب بالكيفية عن الأوهام، الظاهر بالدلائل والأعلام، (الرحمن الرحيم) اسمان وضعا للمبالغة، واشتقا من الرحمة، وهي النعمة، إلا أن فعلان أشد مبالغة من فعيل. وحكي عن أبي عبيدة أنه قال: الرحمن: ذو الرحمة، والرحيم: هو الراحم، وكرر لضرب من التأكيد. واما ما روي عن ابن عباس أنهما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، فالرحمن الرقيق، والرحيم العطاف على عباده بالرزق والنعم، فمحمول على أنه يعود عليهم بالفضل بعد الفضل، والنعمة بعد النعمة، فعتر عن ذلك بالرقة، لأنه لا يوصف بالرقة، وما حكي عن تغلب أن لفظة الرحمن ليست بعربية، وإنما هي ببعض اللغات مستدلا بقوله تعالى (قالوا وما الرحمن) إنكارا منهم لهذا الاسم، فليس بصحيح لأن هذه اللفظة مشهورة عند العرب موجودة في أشعارها، قال الشنفرى: ألا ضربت تلك الفتاة هجينها * ألا قضب الرحمن ربي يمينها وقال سلامة بن جندل: " وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق ". الاعراب: (بسم الله) الباء حرف جر أصله الإلصاق، والحروف الجارة موضوعة لمعنى المفعولية، ألا ترى أنها توصل الأفعال إلى الأسماء، وتوقعها عليها، فإذا قلت: مررت بزيد، أوقعت الباء المرور على زيد، فالجالب للباء فعل محذوف نحو: إبدأوا بسم الله، أو قولوا: بسم الله، فمحله نصب لأنه مفعول به، وإنما حذف الفعل الناصب، لأن دلالة الحال أغنت عن ذكره. وقيل: إن محل الباء رفع على تقدير مبتدأ محذوف، وتقديره: ابتدائي بسم الله، فالباء على هذا متعلقة بالخبر المحذوف الذي قامت مقامه أي: ابتدائي ثابت بسم الله، أو ثبت. ثم حذف هذا الخبر فأفضى الضمير إلى موضع الباء، وهذا بمنزلة قولك: زيد في الدار، ولا يجوز أن يتعلق الباء بابتدائي
[ 53 ]
المضمر، لأنه مصدر، وإذا تعلقت به صارت من صلته، وبقي المبتدأ بلا خبر. وإذا سأل عن تحريك الباء مع أن أصل الحروف البناء، وأصل البناء السكون، فجوابه: إنه حرك للزوم الإبتداء به، ولا يمكن الإبتداء بالساكن، وإنما حرك بالكسر ليكون حركته من جنس ما يحدثه، وإذا لزم كاف التشبيه في كزيد، فجوابه: إن الكاف لا يلزم الحرفية، وقد تكون اسما في نحو قوله: " يضحكن عن كالبرد المنهم "، فخولف بينه وبين الحروف التي لا تفارق الحرفية، وهذا قول أبي عمرو الجرمي وأصحابه. فأما أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي، فقال: إنهم لو فتحوا أو ضموا لجاز، لأن الغرض التوصل إلى الإبتداء، فبأي حركة توصل إليه جاز، وبعض العرب يفتح هذه الباء، وهي لغة ضعيفة، وإنما حذفت الهمزة من بسم الله في اللفظ، لأنها همزة الوصل تسقط في الدرج، وحذفت هاهنا في الخط أيضا لكثرة الإستعمال، ولوقوعها في موضع معلوم لا يخاف فيه اللبس، ولا تحذف في نحو قوله (اقرأ باسم ربك) لقلة الاستعمال، وإنما تغلظ لام الله إذا تقدمته الضمة، أو الفتحة تفخيما لذكره، وإجلالا لقدره، وليكون فرقا بينه وبين ذكر اللات. (الله) مجرور بالإضافة، و (الرحمن الرحيم) مجروران لأنهما صفتان لله. المعنى: (بسم الله) قيل: المراد به تضمين الإستعانة فتقديره: استعينوا بأن تسموا الله بأسمائه الحسنى، وتصفوه بصفاته العليا، وقيل: المراد استعينوا بالله. ويلتفت إليه قول أبي عبيدة: إن الاسم صلة، والمراد هو الله كقول لبيد: إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما، * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر أي ثم السلام عليكما. والإسم قد يوضع موضع المسمى لما كان المعلق على الاسم ذكرا أو خطابا معلقا على المسمى، تقول: رأيت زيدا، فتعلق الرؤية على الاسم وفي الحقيقة تعلقها بالمسمى، فإن الاسم لا يرى فحسن إقامة الاسم مقام المسمى. وقيل: المراد به ابتدئ بتسمية الله فوضع الاسم موضع المصدر كما يقال أكرمته كرامة أي: إكراما، وأهنته هوانا أي: إهانة، ومنه قول الشاعر (1): (1) قائله: القطامي واسمه عمير بن يشيم. (*)
[ 54 ]
أكفرا بعد رد الموت عني، وبعد عطائك المائة الرتاعا أي: بعد إعطائك، وقال الآخر: فإن كان هذا البخل منك سجية * لقد كنت في طولي رجائك أشعبا أراد في إطالتي رجائك فعلى هذا يكون تقدير الكلام ابتداء قراءتي بتسمية الله، أو أقرأ مبتدئا بتسمية الله. وهذا القول أولى بالصواب، لأنا إنما أمرنا بأن نفتتح أمورنا بتسمية الله، لا بالخبر عن كبريائه وعظمته، كما أمرنا بالتسمية على الأكل والشرب والذبائح، ألا ترى أن الذابح لو قال: بالله، ولم يقل باسم الله، لكان مخالفا لما امر به. ومعنى الله والاله: إنه الذي تحق له العبادة، وإنما تحق له العبادة لأنه قادر على خلق الأجسام وإحيائها، والإنعام عليها بما يستحق به العبادة، وهو تعالى إله للحيوان والجماد، لأنه قادر على أن ينعم على كل منهما بما معه يستحق العبادة. فأما من قال: معنى الإله المستحق للعبادة، يلزمه أن لا يكون إلها في الأزل، لأنه لم يفعل الإنعام الذي يستحق به العبادة وهذا خطأ وإنما قدم (الرحمن) على (الرحيم)، لأن الرحمن بمنزلة إسم العلم من حيث لا يوصف به إلا الله، فوجب لذلك تقديمه بخلاف الرحيم، لأنه يطلق عليه وعلى غيره. وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة. وعن بعض التابعين قال: الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين خاصة. ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، هو إنشاؤه إياهم، وخلقهم أحياء قادرين، ورزقه إياهم. ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين، هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق وفي الآخرة من الجنة والاكرام، وغفران الذنوب والآثام، والى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم إسم عام بصفة خاصة. وعن عكرمة قال: الرحمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة. وهذا المعنى قد اقتبسه من قول الرسول: إن لله عز وجل مائة رحمة، وإنه أنزل منها واحدة إلى الأرض، فقسمها بين خلقه بها يتعاطفون، ويتراحمون، وأخر تسعا وتسعين لنفسه، يرحم بها عباده يوم القيامة. وروي أن الله قابض هذه إلى تلك، فيكملها مائة، يرحم بها عباده يوم القيامة. (الحمد لله رب العالمين (2)).
[ 55 ]
القراءة: أجمع القراء على ضم الدال من الحمد، وكسر اللام من (لله). وروي قي الشواذ بكسر الدال واللام، وبفتح الدال وكسر اللام، وبضم الدال واللام. وأجمعوا على كسر الباء من (رب). وروي عن زيد بن علي نصب الباء، ويحمل على أنه بين جوازه لا أنه قراءة. اللغة: الحمد والمدح والشكر متقاربة المعنى، والفرق بين الحمد والشكر: إن الحمد نقيض الذم، كما أن المدح نقيض الهجاء. والشكر نقيض الكفران. والحمد قد يكون من غير نعمة، والشكر يختص بالنعمة، إلا أن الحمد يوضع موضع الشكر، ويقال: الحمد لله شكرا، فينصب شكرا على المصدر، ولو لم يكن الحمد في معنى الشكر لما نصبه، فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر، فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، ويكون بالقلب وهو الأصل، ويكون أيضا باللسان. وإنما يجب باللسان لنفي تهمة الجحود والكفران. وأما المدح فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إليه (وأما الرب) فله معان (منها): السيد المطاع، كقول لبيد: وأهلكن قدما (1) رب كندة، وابنه، * ورب معد، بين خبت وعرعر أي سيد كندة (ومنها): المالك نحو قول النبي لرجل (2): أرب غنم أم رب إبل ؟ فقال: من كل ما آتاني الله فأكثر وأطيب. (ومنها): الصاحب، نحو قول أبي ذؤيب: قد ناله رب الكلاب بكفه بيض رهاب ريشهن مقزع أي: صاحب الكلاب (ومنها): المربب (ومنها): المصلح واشتقاقه من التربية يقال: ربيته ورببته بمعنى، وفلان يرب صنيعته (3): إذا كان ينممها (4)، ولا يطلق هذا الإسم إلا على الله، ويقيد في غيره، فيقال: رب الدار، ورب الضيعة و (العالمون): جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه، كالنفر والجيش وغيرهما. واشتقاقه من العلامة لأنه يدل على صانعه. وقيل: إنه من العلم، لأنه (1) وفي نسخة " قوما " وفي اخرى " يوما " بدل " قدما ". (2) [ انت ]. (3) وفي بعض النسخ " ضيعته " مكان " صنيعته ". (4) وفي بعض النسخ " يتمها " عوض " ينممها ". (*)
[ 56 ]
اسم يقع على ما يعلم، وهو في عرف اللغة عبارة عن جماعة من العقلاء، لأنهم يقولون: جاءني عالم من الناس، ولا يقولون: جاءني عالم من البقر. وفي المتعارف بين الناس: هو عبارة عن جميع المخلوقات، وتدل عليه الآية (قال وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما). وقيل: إنه اسم لكل صنف من الأصناف، وأهل كل قرن من كل صنف يسمى عالما، ولذلك جمع فقيل عالمون لعالم كل زمان، وهذا قول أكثر المفسرين كابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغيرهم. وقيل: العالم نوع ما يعقل وهم الملائكة والجن والإنس. وقيل: الجن والإنس لقوله تعالى: (ليكون للعالمين نذيرا) وقيل: هم الإنس لقوله تعالى: (أتأتون الذكران من العالمين). الاعراب: (الحمد) رفع بالإبتداء، والإبتداء عامل معنوي غير ملفوظ به، وهو خلو الإسم عن العوامل اللفظية، ليسند إليه خبر، وخبره في الأصل جملة هي فعل مسند إلى ضمير المبتدأ، وتقديره: الحمد حق، أو استقر لله، إلا أنه قد استغنى عن ذكرها لدلالة قوله لله عليها، فانتقل الضمير منها إليه، حيث سد مسدها، وتسمى هذه جملة ظرفية، هذا قول الأخفش، وأبي علي الفارسي. وأصل اللام للتحقيق والملك، وأما من نصب الدال فعلى المصدر تقديره: أحمد الحمد لله، أو أجعل الحمد لله، إلا أن الرفع بالحمد أقوى وأمدح، لأن معناه الحمد وجب لله أو استقر لله، وهذا يقتضي العموم لجميع الخلق. وإذا نصب الحمد فكان تقديره أحمد الحمد، كان مدحا من المتكلم فقط، فلذلك اختبر الرفع. ومن كسر الدال واللام أتبع حركة الدال حركة اللام. ومن ضمهما أتبع حركة اللام حركة الدال، وهذا أيسر من الأول، لأنه أتبع حركة المبني حركة الإعراب. والأول أتبع حركة المعرب حركة البناء، واتبع الثاني الأول، وهو الأصل في الإتباع. والذي كسر أتبع الأول الثاني، وهذا ليس بأصل، وأكثر النحويين ينكرون ذلك، لأن حركة الإعراب غير لازمة، فلا يجوز لأجلها الإتباع، ولأن الاتباع في الكلمة الواحدة ضعيف، نحو الحلم، فكيف في الكلمتين. وقال أبو الفتح بن جني في كسر الدال وضم اللام هنا دلالة على شدة ارتباط المبتدأ بالخبر، لأنه اتبع فيهما ما في أحد الجزءين ما في الجزء الآخر، وجعل بمنزلة الكلمة الواحدة، نحو قولك أخوك وأبوك، وأصل هذه اللام الفتح، لأن الحرف الواحد لاحظ له في الإعراب،
[ 57 ]
ولكنه يقع مبتدأ في الكلام ولا يبتدأ بساكن، فاختير له الفتح، لأنه أخف الحركات، تقول: رأيت زيدا وعمرا. قالوا: ومن عمرا - مفتوحة - وكذلك الفاء من فعمرا إلا أنهم كسروها، لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين لام الملك ولام التوكيد إذا قلت إن المال لهذا أي: في ملكه، وإن المال لهذا أي: هو هو، وإذا أدخلوا هذه اللام على مضمر ردوها إلى أصلها، وهو الفتح، قالوا: لك وله، لأن اللبس قد ارتفع، وذلك لأن ضمير الجر مخالف لضمير الرفع، إذا قلت: إن هذا لك، وإن هذا لأنت، إلا أنهم كسروها مع ضمير المتكلم نحو لي، لأن هذه الياء لا يكون ما قبلها إلا مكسورا نحو: غلامي وفرسي، وهذا كله قول سيبويه، وجميع النحويين المحققين. وليس من الحروف المبتدأ بها مما هو على حرف واحد حرف مكسور، إلا الباء وحدها، وقد مضى القول فيه. وأما لام الجزم في ليفعل، فإنما كسرت ليفرق بينها وبين لام التوكيد، نحو ليفعل فاعلم. و (رب العالمين): مجرور على الصفة، والعامل في الصفة عند أبي الحسن الأخفش كونه صفة، فذلك الذي يرفعه وينصبه ويجره، وهو عامل معنوي، كما أن المبتدأ إنما رفعه الابتداء، وهو معنى عمل فيه. واستدل على أن الصفة لا يعمل فيه ما يعمل في الموصوف بأنك تجد في الصفات ما يخالف الموصوف في إعرابه. نحو: أيا زيد العاقل، لأن المنادى مبني، والعاقل الذي هو صفته معرب. ودليل ثان: وهو أن في هذه التوابع ما يعرب بإعراب ما يتبعه، ولا يصح أن يعمل فيه ما يعمل في موصوفه، وذلك نحو: أجمع وجمع وجمعاء. ولما صح وجوب هذا فيها، دل على أن الذي يعمل في الموصوف غير عامل في الصفة لاجتماعهما في أنهما تابعان. وقال غيره من النحويين: العامل في الموصوف هو العامل في الصفة، ومن نصب (رب العالمين) فإنما ينصبه على المدح والثناء، كأنه لما قال الحمد لله، استدل بهذا اللفظ على أنه ذاكر لله، فكأنه قال اذكر رب العالمين. فعلى هذا لو قرئ في غير القرآن رب العالمين مرفوعا على المدح أيضا لكان جائزا، على معنى هو رب العالمين. قال الشاعر (1): لا يبعدن قومي الذين هم * سم العداة، وآفة الجزر (1) قائله: خرنق بنت هفان القيسية. (*)
[ 58 ]
النازلين بكل معترك، * والطيبون معاقد الأزر وقد روي النازلون والنازلين، والطيبون والطيبين. والوجه في ذلك ما ذكرناه و (العالمين) مجرور بالإضافة. والياء فيه علامة الجر، وحرف الإعراب، وعلامة الجمع. والنون هنا عوض عن الحركة في الواحد، وإنما فتحت فرقا بينها وبين نون التثنية، تقول: هذان عالمان، فتكسر نون الإثنين لالتقاء الساكنين. وقيل: إنما فتحت نون الجمع، وحقها الكسر، لثقل الكسرة بعد الواو كما فتحت (الفاء) من سوف، و (النون) من أين، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو والياء. المعنى: معنى الآية أن الأوصاف الجميلة، والثناء الحسن، كلها لله الذي تحق له العبادة، لكونه قادرا على أصول النعم، وفاعلا لها، ولكونه منشئا للخلق، ومربيا لهم، ومصلحا لشأنهم، وفي الآية دلالة على وجوب الشكر لله على نعمه، وفيها تعليم للعباد كيف يحمدونه. (الرحمن الرحيم (3)). قد مضى تفسيرها. وإنما أعاد ذكر الرحمن والرحيم للمبالغة. وقال علي بن عيسى الرماني: في الأول ذكر العبودية، فوصل ذلك بشكر النعم التي بها يستحق العبادة، وهاهنا ذكر الحمد، فوصله بذكر ما به يستحق الحمد من النعم، فليس فيه تكرار. (مالك يوم الدين (4)). الحجة: اختلفوا في أن أي القراءتين أمدح: فمن قرأ (مالك) قال: إن هذه الصفة أمدح لأنه لا يكون مالكا للشئ إلا وهو يملكه، وقد يكون ملكا للشئ ولا يملكه، كما يقال: ملك العرب، وملك الروم، وإن كان لا يملكهم. وقد يدخل في المالك ما لا يصح دخوله في الملك، يقال: فلان مالك الدراهم، ولا يقال ملك الدراهم. فالوصف بالمالك أعم من الوصف بالملك. والله مالك كل شئ، وقد وصف نفسه بأنه مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، فوصفه بالمالك أبلغ في الثناء والمدح من وصفه بالملك. ومن قرأ (الملك) قال: إن هذه الصفة أمدح، لأنه لا يكون إلا مع التعظيم
[ 59 ]
والاحتواء على الجمع الكثير، واختاره أبو بكر محمد بن السري السراج، وقال: إن الملك الذي يملك الكثير من الأشياء، ويشارك غيره من الناس في ملكه بالحكم عليه، وكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، وإنما قال تعالى (مالك الملك) لأنه تعالى يملك ملوك الدنيا، وما ملكوا، فمعناه أنه يملك ملك الدنيا فيؤتي الملك فيها من يشاء. فأما يوم الدين فليس إلا ملكه، وهو ملك الملوك يملكهم كلهم. وقد يستعمل هذا في الناس يقال: فلان ملك الملوك، وأمير الامراء، ويراد بذلك أن من دونه ملوكا وأمراء، ولا يقال ملك الملك، ولا أمير الإمارة، لأن أميرا وملكا صفة غير جارية على فعل، فلا معنى لإضافتها إلى المصدر. فأما إضافة ملك إلى الزمان، فكما يقال: ملك عام كذا، وملوك الدهر الأول، وملك زمانه، وسيد زمانه، فهو في المدح أبلغ. والآية إنما نزلت في الثناء والمدح لله، الا ترى إلى قوله (رب العالمين) والربوبية والملك متشابهان. وقال أبو علي الفارسي: يشهد لمن قرأ (مالك) من التنزيل قوله تعالى: (والأمر يومئذ لله) لأن قولك الأمر له، وهو مالك الأمر، بمعنى. ألا ترى أن لام الجر معناها الملك والاستحقاق، وكذلك قوله تعالى: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) يقوي ذلك، ويشهد لقراءة من قرأ (ملك) قوله تعالى (لمن الملك اليوم) لأن اسم الفاعل من الملك الملك، فإذا قال الملك له ذات اليوم، كان بمنزلة قوله هو ملك ذلك اليوم. وهذا مع قوله (فتعالى الله الملك الحق)، و (الملك القدوس)، و (ملك الناس). اللغة: (الملك): القادر الواسع المقدرة، الذي له السياسة والتدبير (والمالك): القادر على التصرف في ماله، وله أن يتصرف فيه على وجه ليس لأحد منعه منه، ويوصف العاجز بأنه مالك من جهة الحكم، يقال: ملك بين الملك بضم الميم، ومالك بين الملك. والملك بكسر الميم وفتحها، وضم الميم لغة شاذة. ويقال: طالت مملكتهم الناس، ومملكتهم بكسر اللام وفتحها. ولي في هذا الوادي ملك، وملك، وملك، ذكرها أبو علي الفارسي، وقال: الملك للشئ اختصاص من المالك به، وخروجه من أن يكون مباحا لغيره. ومعنى الإباحة في الشئ، كالإتساع فيه، وخلاف الحصر والقصر على الشئ، ألا تراهم قالوا: باح السر، وباحت الدار. وقال أبو بكر
[ 60 ]
محمد بن السري السراج: الملك والملك يرجعان إلى أصل واحد، وهو الربط والشد، كما قالوا: ملكت العجين أي: شددته، قال الشاعر (1): ملكت بها كفي، فأنهرت فتقها، * يرى قائم من دونها ما وراءها يقول: شددت بهذه الطعنة كفي. ومنه الأملاك ومعناه: رباط الرجل بالمرأة و (الدين) معناه في الآية الجزاء. قال الشاعر: " واعلم بأنك ما تدين تدان) وهو قول سعيد بن جبير، وقتادة، وقيل: الدين الحساب، وهو المروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام، وابن عباس. والدين: الطاعة، قال عمرو بن كلثوم: وأيام لنا غر طوال * عصينا الملك فيها أن ندينا والدين: العادة. قال الشاعر (2): تقول إذا درأت لها وضيني: * أهذا دينه أبدا، وديني والدين: القهر والإستعلاء. قال الأعشى: هو دان الرباب إذ كرهوا الد * ين دراكا بغزوة، واحتيال (3) ثم دانت بعد الرباب، وكانت كعذاب عقوبة الأقوال ويدل على أن المراد به الجزاء والحساب قوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس ما كسبت واليوم تجزون ما كنتم تعملون). الاعراب: (مالك): مجرور على الوصف لله تعالى، وما جاء من النصب فعلى ما ذكرناه من نصب رب العالمين. ويجوز أن ينصب رب العالمين، ومالك يوم الدين، على النداء، كانك قلت: لك الحمد يا رب العالمين، ويا مالك يوم الدين. ومن قرأ ملك يوم الدين بإسكان اللام: فأصله ملك، فخفف كما يقال: فخذ وفخذ ومن قرأ ملك يوم الدين: جعله فعلا ماضيا، ويوم مجرور بإضافة ملك، أو مالك إليه، وكذلك الدين مجرور بإضافة يوم إليه، وهذه الإضافة من باب يا سارق الليلة أهل الدار، اتسع في الظرف، (1) قائله: قيس بن الحطيم الأوسي. (2) قائله: هو المثقب العبدي، والوضين هو بطنان منسوج بعضه على بعض يشد به الرحل على البعير. (3) وفي جملة من النسخ (صيال) بدل (احتيال). (*)
[ 61 ]
فنصب نصب المفعول به، ثم أضيف إليه على هذا الحد، كما قال الشاعر. أنشده سيبويه: ويوم شهدناه سليما وعامرا، * قليل سوى الطعن النهال نوافله فكأنه قال: هو ملك ذلك اليوم، ولا يؤتي أحدا الملك فيه كما آتاه في الدنيا، فلا ملك يومئذ غيره. ومن قرأ مالك يوم الدين: فإنه قد حذف المفعول به من الكلام للدلالة عليه، وتقديره: مالك يوم الدين الأحكام والقضاء، لا يملك ذلك، ولا يليه سواه أي لا يكون أحد واليا سواه إنما خص يوم الدين بذلك لتفرده تعالى بذلك في ذلك اليوم.، وجميع الخلق يضطرون إلى الاقرار والتسليم. وأما الدنيا فليست كذلك، فقد يحكم فيها ملوك ورؤساء، وليست هذه الإضافة مثل قوله تعالى: (وعنده علم الساعة)، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة، وليست مفعولا بها على السعة، لأن الظرف إذا جعل مفعولا على السعة فمعناه معنى الظرف، ولو كانت الساعة ظرفا لكان المعنى يعلم في الساعة، وذلك لا يجوز لأنه تعالى يعلم في كل وقت والمعنى أنه يعلم الساعة أي: يعرفها. المعنى: إنه سبحانه لما بين ملكه في الدنيا بقوله رب العالمين، بين أيضا ملكه في الآخرة بقوله (مالك يوم الدين) وأراد باليوم الوقت. وقيل: أراد به امتداد الضياء إلى أن يفرغ من القضاء، ويستقر أهل كل دار فيها. وقال أبو علي الجبائي: أراد به يوم الجزاء على الدين. وقال محمد بن كعب: أراد يوم لا ينفعع إلا الدين، وإنما خص يوم القيامة بذكر الملك فيه تعظيما لشأنه، وتفخيما لأمره، كما قال: رب العرش. وهذه الاية دالة على إثبات المعاد، وعلى الترغيب والترهيب، لأن المكلف إذا تصور ذلك لا بد أن يرجو، ويخاف. (إياك نعبد وإياك نستعين (5)). اللغة: العبادة في اللغة هي الذلة يقال: طريق معبد أي: مذلل بكثرة الوطء. قال طرفة: تباري عتاقا ناجيات، وأتبعت * وظيفا وظيفا فوق مور معبد وبعير معبد: إذا كان مطليا بالقطران. وسمي العبد عبدا لذلته، وانقياده
[ 62 ]
لمولاه، والاستعانة طلب المعونة. يقال: استعنته، واستعنت به. الاعراب: قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج: موضع (إياك) نصب بوقوع الفعل عليه، وموضع الكاف في إياك خفض بإضافة إيا إليها. وإيا اسم للضمير المنصوب إلا أنه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات، نحو قولك: إياك ضربت، وإياه ضربت، وإياي حدثت. ولو قلت: إيا زيد حدثت، كان قبيحا، لأنه خص به المضمر. وقد روى الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين، فاياه وايا الشواب، وهذا كلام الزجاج. ورد عليه الشيخ أبو علي الفارسي فقال: إن إيا ليس بظاهر بل هو مضمر يدل على ذلك تغير ذاته وامتناع ثباته في حال الرفع والجر، وليس كذلك الإسم الظاهر ألا ترى أنه يعتقب عليه الحركات في آخره، ويحكم له بها في موضعه من غير تغير نفسه، فمخالفته للمظهر فيما وصفناه يدل على أنه مضمر ليس بمظهر. قال: وحكى السراج عن المبرد، عن أبي الحسن الأخفش أنه مفرد مضمر، يتغير آخره كما تتغير أواخر المضمرات، لاختلاف أعداد المضمرين. والكاف في (إياك) كالتي في ذلك، وهي دالة على الخطاب فقط، مجردة عن كونها علامة للمضمر، فلا محل لها من الإعراب. وأقول: وهكذا الحكم في إياي وإيانا وإياه وإياها، في أنها حروف تلحق اتا. فالياء في إياي دليل على التكلم. والهاء في إياه تدل على الغيبة، لا على نفس الغائب. ويجري التأكيد على إيا منصوبا، تقول: إياك نفسك رأيت، وإياه نفسه ضربت، وإياهم كلهم عنيت، فاعرفه. ولا يجيز أبو الحسن إياك وايا زيد، ويستقل روايتهم عن العرب إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، ويحمله على الشذوذ، لأن الغرض في الإضافة التخصيص، والمضمر على نهاية التخصيص، فلا وجه إذا لإضافته. والأصل في (نستعين): نستعون، لأنه من المعونة والعون، لكن الواو قلبت ياء لثقل الكسرة عليها، فنقلت كسرتها إلى العين قبلها، فتصير الياء ساكنة، لأن هذا من الإعلال الذي يتبع بعضه بعضا، نحو: أعان يعين، وقام يقوم، وفي شرحه كلام. وربما يأتي مشروحا فيما بعد إن شاء الله. وقوله (نعبد) و (نستعين): مرفوع لوقوعه موقعا يصلح للاسم، ألا ترى أنك لو قلت أنا عابدك وأنا مستعينك، لقام مقامه، وهذا المعنى عمل فيه الرفع. وأما الإعراب في الفعل المضارع فلمضارعته الإسم، لأن الأصل في الفعل البناء، وإنما
[ 63 ]
يعرب منه ما شابه الأسماء، وهو ما لحقت أوله زيادة من هذه الزيادات الأربع التي هي: الهمزة، والنون، والتاء، والياء. المعنى: قوله تعالى (اياك نعبد واياك نستعين): أدل على الاختصاص من أن نقول نعبدك ونستعينك، لأن معناه نعبدك، ولا نعبد سواك، ونستعينك، ولا نستعين غيرك، كما إذا قال الرجل: إياك أعني، فمعناه: لا أعني غيرك. ويكون أبلغ من أن يقول أعنيك. والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه، لأنها الخضوع باعلى مراتب الخضوع مع التعظيم باعلى مراتب التعظيم، ولا يستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق الحياة والقدرة والشهوة، ولا يقدر عليه غير الله تعالى، فلذلك اختص سبحانه بأن يعبد. ولا يستحق بعضنا على بعض العبادة كما يستحق بعضنا على بعض الشكر، وتحسن الطاعة لغير الله تعالى، ولا تحسن العبادة لغيره. وقول من قال: إن العبادة هي الطاعة للمعبود، يفسد بأن الطاعة موافقة الأمر، وقد يكون موافقا لأمره، ولا يكون عابدا له. ألا ترى أن الإبن يوافق أمر الأب، ولا يكون عابدا له، وكذلك العبد يطيع مولاه، ولا يكون عابدا له بطاعته إياه، والكفار يعبدون الأصنام، ولا يكونون مطيعين لهم، إذ لا يتصور من جهتهم الأمر. ومعنى قوله (إياك نستعين): إياك نستوفق ونطلب المعونة على عبادتك، وعلى أمورنا كلها. والتوفيق: هو أن يجمع بين جميع الأسباب التي يحتاج إليها في حصول الفعل، ولهذا لا يقال فيمن أعان غيره: وفقه، لأنه لا يقدر أن يجمع بين جميع الأسباب التى يحتاج إليها في حصول الفعل. وأما تكرار قوله (إياك) فلأنه لو اقتصر على واحد، ربما توهم متوهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما، ولا يمكنه أن يفصل بينهما، وهو إذا تفكر في عظمة الله تعالى كان عبادة، وإن لم يستعن به. وقيل: انه جمع بينهما للتأكيد، كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو، ولو اقتصر على واحد فقيل: بين زيد وعمرو، كان جائزا. قال عدي بن زيد: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به * بين النهار، وبين الليل، قد فصلا وقال أعشى همدان: بين الأشج، وبين قيس باذخ * بخ بخ لوالده، وللمولود
[ 64 ]
وهذا القول فيه نظر، لأن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن محمولا على فعل ثان. وإياك الثاني في الآية محمول على نستعين، ومفعول له، فكيف يكون تأكيدا. وقيل أيضا إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة. فإن قيل: إن عبادة الله تعالى لا تتأتى بغير إعانة منه، فكان يجب أن يقدم الإستعانة على العبادة. فالجواب: إنه قدم العبادة على الإستعانة لا على الإعانة، وقد تأتي بغير استعانة. وأيضا فإن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر، لم يختلف التقديم والتأخير، كما يقال: قضيت حقي فأحسنت إلي، وأحسنت إلي فقضيت حقي. وقيل: إن السؤال للمعونة إنما يقع على عبادة مستأنفة، لا على عبادة واقعة منهم، وإنما حسن طلب المعونة، وإن كان لا بد منها مع التكليف على وجه الانقطاع إليه تعالى كقوله (رب احكم بالحق) ولأنه ربما لا يكون اللطف في إدامة التكليف، ولا في فعل المعونة به إلا بعد تقديم الدعاء من العبد. وقد أخطأ من استدل بهذه الآية على أن القدرة مع الفعل، من حيث إن القدرة لو كانت متقدمة، لما كان لطلب المعونة وجه، لأن للرغبة إلى الله تعالى في طلب المعونة وجهين أحدهما: أن يسأل الله تعالى من ألطافه، وما يقوي دواعيه، ويسهل الفعل عليه ما ليس بحاصل، ومتى لطف له بأن يعلمه أن له في فعله الثواب العظيم، زاد ذلك في نشاطه ورغبته. والثاني: أن يطلب بقاء كونه قادرا على طاعته المستقبلة بأن تجدد له القدرة حالا بعد حال، عند من لا يقول ببقائها، وأن لا يفعل ما يضادها وينفيها عند من قال ببقائها. وأما العدول عن الخبر إلى الخطاب في قوله (إياك نعبد) إلى آخر السورة، فعلى عادة العرب المشهورة وأشعارهم من ذلك مملوءة. قال لبيد: باتت تشكى إلي النفس مجهشة، * وقد حملتك سبعا بعد سبعينا وقال أبو كثير الهذلي: يا لهف نفسي كان جدة خالد، * وبياض وجهك للتراب الأعفر فرجع من الاخبار عن النفس إلى مخاطبتها في البيت الأول، ومن الإخبار عن خالد إلى خطابه في البيت الثاني. وقال الكسائي: تقديره قولوا إياك نعبد، أو قل يا محمد هذا كما قال الله تعالى (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا) وقال: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام) أي: يقولون سلام.
[ 65 ]
(اهدنا الصراط المستقيم (6)). القراءة: قرأ حمزة باشمام الصاد الزاي إلا العجلي. وبرواية خلاد، وابن سعدان: يشم ههنا في الموضعين فقط. وقرأ الكسائي من طريق أبي حمدون باشمام السين، ويعقوب من طريق رويس بالسين. والباقون بالصاد. الحجة: الأصل في الصراط السين لأنه مشتق من السرط. ومسترط الطعام: ممره. ومنه قولهم سر طراط، والأصل سريط. فمن قرأ بالسين راعى الأصل. ومن قرأ بالصاد فلما بين الصاد والطاء من المؤاخاة بالاستعلاء والإطباق، ولكراهة أن يتسفل بالسين، ثم يتصعد بالطاء في السراط. وإذا كانوا قد أبدلوا من السين الصاد مع القاف في صقب وصويق، ليجعلوها في استعلاء القاف مع بعد القاف من السين، وقرب الطاء منها، فأن يبدلوا منها الصاد مع الطاء أجدر، من حيث كان الصاد إلى الطاء أقرب. ألا ترى أنهما جميعا من حروف طرف اللسان، وأصول الثنايا، وان الطاء تدغم في الصاد. ومن قرأ باشمام الزاي فللمؤاخاة بين السين والطاء بحرف مجهور من مخرج السين، وهو الزاي من غير إبطال الأصل. اللغة: الهداية في اللغة: الإرشاد والدلالة على الشئ، يقال لمن يتقدم القوم ويدلهم على الطريق: هاد خريت أي: دال مرشد. قال طرفة: للفتى عقل يعيش به * حيث تهدي ساقه قدمه والهداية: التوفيق. قال: فلا تعجلن هداك المليك * فإن لكل مقام مقالا أي: وفقك. والصراط: الطريق الواضح المتسع، وسمي بذلك لأنه يسرط المارة أي: يبتلعها. والمستقيم: المستوي الذي لا اعوجاج فيه. قال جرير: أمير المؤمنين على صراط * إذا اعوج الموارد مستقيم الاعراب: (اهدنا) مبني على الوقف، وفاعله الضمير المستكن فيه لله تعالى. والهمزة مكسورة لأن ثالث المضارع منه مكسور، وموضع النون والألف من (اهدنا) نصب لأنه مفعول به. و (الصراط): منصوب لأنه مفعول ثان.
[ 66 ]
المعنى: قيل في معنى اهدنا وجوه أحدها: إن معناه ثبتنا على الدين الحق، لأن الله تعالى قد هدى الخلق كلهم، إلا أن الإنسان قد يزل، وترد عليه الخواطر الفاسدة، فيحسن أن يسأل الله تعالى أن يثبته على دينه، ويديمه عليه، ويعطيه زيادات الهدى التي هي إحدى أسباب الثبات على الدين، كما قال الله تعالى (والذين اهتدوا زادهم هدى) وهذا كما يقول القائل لغيره، وهو يأكل: كل أي: دم على الأكل وثانيها: إن الهداية هي الثواب لقوله تعالى: (يهديهم ربهم بإيمانهم) فصار معناه اهدنا إلى طريق الجنة ثوابا لنا، ويؤيده قوله (الحمد لله الذي هدانا لهذا) وثالثها: إن المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر، كما دللتنا عليه في الماضي. ويجوز الدعاء بالشئ الذي يكون حاصلا كقوله تعالى: (قل رب احكم بالحق) وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (ولا تخزني يوم يبعثون) وذلك أن الدعاء عبادة، وفيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى. فإن قيل: ما معنى المسألة في ذلك، وقد فعله الله ؟ فجوابه: إنه يجوز أن يكون لنا في الدعاء به مصلحة في ديننا، وهذا كما تعبدنا بأن نكرر التسبيح، والتحميد، والإقرار لربنا عز اسمه بالتوحيد، وإن كنا معتقدين لجميع ذلك. ويجوز أن يكون الله تعالى يعلم أن أشياء كثيرة تكون أصلح لنا إذا سألناه، وإذا لم نسأله لا تكون مصلحة، فيكون ذلك وجها في حسن المسألة. ويجوز أن يكون المراد استمرار التكليف، والتعريض للثواب، لأن إدامته ليس بواجب، بل هو تفضل محض، فجاز أن يرغب إليه فيه بالدعاء. وقيل في معنى الصراط المستقيم وجوه: أحدها: إنه كتاب الله، وهو المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن علي عليه السلام، وابن مسعود وثانيها: إنه الإسلام، وهو المروي، عن جابر، وابن عباس وثالثها: إنه دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره، عن محمد بن الحنفية والرابع: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة القائمون مقامه، وهو المروي في أخبارنا. والأولى حمل الآية على العموم حتى يدخل جميع ذلك فيه، لأن الصراط المستقيم هو الدين الذي أمر الله به، من التوحيد والعدل وولاية من أوجب الله طاعته. (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)).
[ 67 ]
القراءة: قرأ حمزة: عليهم بضم الهاء، وإسكان الميم. وكذلك لديهم وإليهم. وقرأ يعقوب: بضم كل هاء قبلها ياء ساكنة في الثثنية والجمع، المذكر والمؤنت، نحو: عليهما وفيهما وعليهم وفيهم وعليهن وفيهن وقرأ الباقون: عليهم وأخواتها بالكسر. وقرئ في الشواذ: عليهموا قراءة ابن أبي إسحاق، وعيسى الثقفي. وعليهمي قراءة الحسن البصري، وعمر بن قايد. وعليهم مكسورة الهاء مضمومة الميم بغير واو. وعليهم مضمومة الهاء والميم من غير بلوغ واو، مرويتان عن الأعرج. فهذه سبع قراءات. ثم اختلف القراء في الميم: فأهل الحجاز وصلوا الميم بواو انضمت الهاء قبلها، أو انكسرت، قالوا: عليهموا، وعلى قلوبهموا، وعلى سمعهموا، ومنهموا، ولهموا، إلا أن نافعا اختلف عنه فيه، والباقون بسكون (1) الميم. فأما إذا لقي الميم حرف ساكن، فإن القراء اختلفوا. فأهل الحجاز، وعاصم، وابن عامر، يضمون على كسر الهاء، ويضمون الميم نحو (عليهم الذلة) و (من دونهم امرأتين). وأبو عمرو يكسر الهاء والميم. وحمزة والكسائي يضمان الهاء والميم معا. وكل هذا الإختلاف في الهاء التي قبلها كسرة، أو ياء ساكنة. فإذا جاوزت هذين الأمرين، لم يكن في الهاء إلا الضم. وقرأ (صراط من أنعمت عليهم) عمر بن الخطاب، وعمرو بن عبد الله الزبيري، وروي ذلك عن أهل البيت عليهم السلام. وقرئ أيضا في الشواذ: (غير المغضوب عليهم) بالنصب. وقرأ: (غير الضالين) عمر بن الخطاب، وروي ذلك عن علي عليه السلام. الحجة: من قرأ (عليهم) بضم الهاء فإنه رده إلى الأصل، لأنه إذا انفرد من حروف يتصل بها قيل: هم فعلوا بضم الهاء. قال السراج: وهي القراءة القديمة ولغة قريش وأهل الحجاز، ومن حولهم من فصحاء اليمن. وإنما خص حمزة هذه الحروف الثلاثة بالضم لأن الياء قبلها كانت ألفا، مثل على القوم، ولدى القوم، وإلى القوم. ولا يجوز كسر الهاء إذا كان قبلها ألف. ومن قرأ (عليهموا) فإنه أتبع الهاء ما أشبهها وهو الياء، وترك ما لا يشبه الياء والألف على الأصل وهو الميم. ومن قرأ (عليهم) فكسر الهاء وأسكن الميم، فلأنه أمن اللبس إذا كانت الألف في التثنية قد دلت على الإثنين، ولا ميم في الواحد. فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو، وأسكنوا الميم طلبا للتخفيف، (1) وفي بعض النسخ " يسكنون " بدل " بسكون ". (*)
[ 68 ]
إذا كان ذلك لا يشكل. وإنما كسر الهاء مع أن الأصل الضم للياء التي قبلها. ومن قرأ (عليهموا) فلأنه الأصل، لأن وسيلة هذه الواو في الجمع وسيلة الألف في التثنية، أعني: إن ثبات الواو كثبات الألف. ومن قرأ (عليهمي) فإنه كسر الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة وكسر الميم، كراهة للخروج من كسرة الهاء إلى ضمة الميم، ثم انقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. ومن كسر الهاء وضم الميم وحذف الواو فإنه احتمل الضمة بعد الكسرة، لأنها غير لازمة إذا كانت ألف التثنية تفتحها، لكنه حذف الواو تفاديا من ثقلها مع ثقل الضمة. ومن قرأ (عليهم) فإنه حذف الواو استخفافا، واحتمل الضمة قبلها دليلا عليها. وأما من ضم الميم إذا لقيها ساكن، وكسر الهاء: فإنما يحتج بأن يقول لما احتجت إلى الحركة، رددت الحرف إلى أصله، فضممت وتركت الهاء على كسرها، لأنه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردها إلى الأصل، ولأن الهاء إنما تبعت الياء لأنها شبهت بها، ولم يتبعها الميم لبعدها منه. واحتج من كسر الميم والهاء، بأن قال: أتبعت الكسر الكسر لثقل الضم بعد الكسر، قال سيبويه: الهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة، لأنها خفيفة، وهي من حروف الزيادة، كما أن الياء من حروف الزيادة، وهي من موضع الألف، وهي أشبه الحروف بالياء. وكما أمالوا الألف في مواضع استخفافا، كذلك كسروا هذه الهاء، وقلبوا الواو ياء، لأنه لا تثبت واو ساكنة، وقبلها كسرة، كقولك: مررت بهي، ومررت بدار هي قبل. الاعراب: (صراط الذين): صفة لقوله: (الصراط المستقيم). ويجوز أن يكون بدلا عنه. والفصل بين الصفة والبدل أن البدل في تقدير تكرير العامل بدلالة تكرير حرف الجر في قوله تعالى: (قال الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم)، وليس كذلك الصفة. فكما أعيدت اللام الجارة في الإسم، فكذلك العامل الرافع، أو الناصب في تقدير التكرير، فكأنه قال اهدنا صراط الذين، وليس يخرج البدل، وإن كان كذلك عن أن يكون فيه تبيين للأول، كما أن الصفة كذلك. ولهذا لم يجز سيبويه المسكين بي (1)، كان الأمر ولا بك المسكين. كما أجاز ذلك في الغائب نحو: مررت به المسكين. والذين: موصول، وأنعمت عليهم: صلة. وقد تم بها اسما (1) والصحيح (بي المسكين) بتقديم الجار. (*)
[ 69 ]
مفردا يكون في موضع جر بإضافة (صراط) إليه. ولا يقال في موضع الرفع اللذون، لأنه اسم غير متمكن. وقد حكي اللذون شاذا كما حكي الشياطون في حال الرفع. وأما (غير المغضوب عليهم) ففي الجر فيه ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون بدلا من الهاء والميم في عليهم، كقول الشاعر: على حالة لو أن قي القوم حاتما * على جوده لضن بالماء حاتم فجر حاتم على البدل من الهاء في جوده وثانيها: أن يكون بدلا من الذين. وثالثها: أن يكون صفة للذين، وإن كان أصل، غير أن يكون صفة للنكرة. تقول: مررت برجل غيرك، كأنك قلت مررت برجل آخر، أو برجل ليس بك. قال الزجاج: وإنما جاز ذلك لأن الذين ههنا ليس بمقصود قصدهم، فهو بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه. وقال علي بن عيسى الرماني: إنما جاز أن يكون نعتا للذين لأن (الذين) بصلتها ليست بالمعرفة الموقتة كالأعلام نحو: زيد وعمرو، وإنما هي كالنكرات إذا عرفت نحو الرجل والفرس. فلما كانت (الذين) كذلك، كانت صفتها كذلك أيضا. كما يقال: لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل. ولو كانت بمنزلة الاعلام لما جاز كما لم يجز مررت بزيد غير الظريف بالجر على الصفة. وقال أبو بكر السراج: والذي عندي أن غير في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة، لأن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت غير ومثل مع إضافتهما إلى المعارف، من أجل معناهما، وذلك أنك إذا قلت: رأيت غيرك، فكل شئ ترى سوى المخاطب فهو غيره، وكذلك إذا قلت: رأيت مثلك، فما هو مثله لا يحصى. فأما إذا كان شيئا معرفة له ضد واحد، وأردت إثباته، ونفي ضده، فعلم ذلك السامع، فوصفته بغير، وأضفت غير إلى ضده، فهو معرفة، وذلك نحو قولك: عليك بالحركة غير السكون. فغير السكون معرفة، وهي الحركة، فكأنك كررت الحركة تأكيدا فكذلك قوله تعالى: (الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) فغير المغضوب هم الذين أنعم الله عليهم. فمتى كانت (غير) بهذه الصفة فهي معرفة. وكذلك إذا عرف إنسان بأنه مثلك في ضرب من الضروب، فقيل فيه: قد جاء مثلك، كان معرفة إذا أردت المعروف بشبهك قال: ومن جعل (غير) بدلا، استغنى عن هذا الاحتجاج، لأن النكرة قد تبدل من المعرفة. وفي نصب (غير) ثلاثة أوجه أيضا أحدها: أن يكون نصبا على الحال من
[ 70 ]
المضمر في (عليهم)، والعامل في الحال (أنعمت) فكأنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. وثانيها: أن يكون نصبا على الاستثناء المنقطع، لأن المغضوب عليهم من غير جنس المنعم عليهم وثالثها: أن يكون نصبا على أعني، كأنه قال: أعني غير المغضوب عليهم، ولم يجز أن يقال غير المغضوبين عليهم، لأن الضمير قد جمع في (عليهم) فاستغنى عن أن يجمع المغضوب. وهذا حكم كل ما تعدى بحرف جر، تقول: رأيت القوم غير المذهوب بهم، استغنيت بالضمير المجرور في بهم عن جمع المذهوب. وأما (لا) من قوله (ولا الضالين): فذهب البصريون إلى أنها زائدة لتوكيد النفي، وذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى غير. ووجه قول البصريين انك إذا قلت: ما قام زيد وعمرو، احتمل أن تريد ما قاما معا، ولكن قام كل واحد منهما بانفراده. فإذا قلت: ما قام زيد ولا عمرو، زال الإحتمال. و (غير) متضمن معنى النفي. ولهذا أجاز النحويون أنت زيدا غير ضارب، لأنه بمنزلة قولك: إنك أنت زيدا لا ضارب ولا يجوزون أنت زيدا مثل ضارب، لأن زيدا من صلة ضارب، ولا يتقدم عليه. وقال علي بن عيسى الرماني: من نصب على الإستثناء، جعل (لا) صلة كما أنشد أبو عبيدة: " في بئر لا حور سرى وما شعر " أي في بئر هلكة، وتقديره غير المغضوب عليهم والضالين. كما قال: (ما منعك أن لا تسجد) بمعنى أن تسجد. المعنى واللغة: معنى الآية بيان الصراط المستقيم أي: صراط من أنعمت عليهم بطاعتك، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله (من يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) وأصل النعمة: المبالغة والزيادة، يقال: دققت الدواء فأنعمت دقه أي: بالغت في دقه. وهذه النعمة، وإن لم تكن مذكورة في اللفظ، فالكلام يدل عليها، لأنه لما قال (اهدنا الصراط المستقيم) وقد بينا المراد بذلك، بين أن هذا صراط من أنعم عليهم به، ولم يحتج إلى إعادة اللفظ كما قال النابغة: كأنك من جمال بني أقيش * يقعقع خلف رجليه بشن أي: كأنك من جمالهم جمل يقعقع خلف رجليه. وأراد ب‍ (المغضوب عليهم) اليهود عند جميع المفسرين، الخاص والعام. ويدل عليه قوله تعالى: (من
[ 71 ]
لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) وهؤلاء هم اليهود بدلالة قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). وأراد ب‍ (الضالين): النصارى بدلالة قوله تعالى: (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل). وقال الحسن البصري: إن الله تعالى لم يبرئ اليهود من الضلالة بإضافة الغضب إلى اليهود، بل كل واحدة من الطائفتين مغضوب عليهم، وهم ضالون، إلا أن الله تعالى يخص كل فريق بسمة يعرف بها، ويميز بينه وبين غيره بها، وإن كانوا مشتركين في صفات كثيرة. وقيل: المراد ب‍ (المغضوب عليهم)، و (الضالين) جميع الكفار، وإنما ذكروا بالصفتين لاختلاف (1) الفائدتين. واختار الإمام عبد القاهر الجرجاني قولا آخر قال: إن حق اللفظ فيه أن يكون خرج مخرج الجنس، كما تقول: نعوذ بالله أن يكون حالنا حال المغضوب عليهم، فإنك لا تقصد به قوما بأعيانهم، ولكنك تريد ما تريده بقولك إذا قلت: اللهم اجعلني ممن أنعمت عليهم، ولا تجعلني ممن غضبت عليهم، فلا تريد أن ههنا قوما بأعيانهم قد اختصوا بهذه الصفة التي هي كونهم منعما عليهم، وليس يخفى على من عرف الكلام أن العقلاء يقولون: اجعلني ممن تديم له النعمة، وهم يريدون أن يقولوا أدم علي النعمة. ولا يشك عاقل إذا نظر لقول عنترة: ولقد نزلت، فلا تظني غيره * مني بمنزلة المحب المكرم إنه لم يرد أن يشبهها بإنسان هو محب مكرم عنده، أو عند غيره، ولكنه أراد أن يقول إنك محبة مكرمة عندي. وأما الغضب من الله تعالى: فهو إرادته إنزال العقاب المستحق بهم، ولعنهم، وبراءته منهم. وأصل الغضب: الشدة، ومنه الغضبة: وهي الصخرة الصلبة الشديدة، المركبة في الجبل. والغضوب: الحية الخبيثة، والناقة العبوس. وأصل الضلال: الهلاك، ومنه قوله: (أإذا ضللنا في الأرض) أي: هلكنا، ومنه قوله: (وأضل أعمالهم) أي: أهلكها. والضلال في الدين: الذهاب عن الحق، وإنما لم يقل الذين أنعمت عليهم غير الذين غضبت عليهم، مراعاة للأدب في الخطاب، واختيارا لحسن اللفظ المستطاب. وفي تفسير العياشي، رحمه الله، روى محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) قال: فاتحة الكتاب (1) [ المخالفة له ]. (*)
[ 72 ]
يثني فيها القول، قال: وقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى من علي بفاتحة الكتاب من كنز الجنة فيها (بسم الله الرحمن الرحيم) الآية التي يقول الله فيها: (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) و (الحمد لله رب العالمين) دعوى أهل الجنة حين شكروا لله حسن الثواب و (مالك يوم الدين). قال جبرائيل عليه السلام: ما قالها مسلم إلا صدقه الله تعالى، وأهل سمائه، (إياك نعبد): إخلاص للعبادة، (وإياك نستعين): أفضل ما طلب به العباد حوائجهم. (اهدنا الصراط المستقيم): صراط الأنبياء، وهم الذين أنعم الله عليهم. (غير المغضوب عليهم): اليهود. (ولا الضالين): النصارى. وروى محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه كان يقرأ ملك (1) يوم الدين. ويقرأ: اهدنا صراط (2) المستقيم، وفي رواية أخرى يعني أمير المؤمنين عليه السلام. وروى جميل عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إذا كنت خلف إمام ففرغ من قراءة الفاتحة، فقل أنت من خلفه: الحمد لله رب العالمين. وروى فضيل بن يسار عنه عليه السلام قال: إذا قرأت الفاتحة ففرغت من قراءتها، فقل: الحمد لله رب العالمين. النظم: وأما نظم هذه السورة فأقول فيه: إن العاقل المميز إذا عرف نعم الله سبحانه بالمشاهدة، وكان له من نفسه بذلك أعدل شاهد، وأصدق رائد، ابتدأ بآية التسمية استفتاحا باسم المنعم، واعترافا بإلهيته، واسترواحا إلى ذكر فضله ورحمته. ولما اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له والحمد فقال: (الحمد لله). ولما رأى نعم الله تعالى على غيره واضحة، كما شاهد آثارها على نفسه لائحة، عرف أنه رب الخلائق أجمعين، ققال: (رب العالمين). ولما رأى شمول فضله للمربوبين، وعموم رزقه للمرزوقين، قال: (الرحمن). ولما رأى تقصيرهم في واجب شكره، وتعذيرهم في الانزجار عند زجره، واجتناب نهيه، وامتثال أمره، وأنه تعالى يتجاوز عنهم بالغفران، ولا يؤاخذهم عاجلا بالعصيان، ولا يسلبهم نعمه بالكفران، قال: (الرحيم). ولما رأى ما بين العباد (1) كذا في نسخنا المخطوطة والمطبوعة، لكن في نسخة صيدا: (مالك) بدل " ملك ". (2) كذا في نسخة مخطوطة، وهو الظاهر لكن في نسخة صيدا كغيرها: " الصراط " بالألف واللام. (*)
[ 73 ]
من التباغي والتظالم، والتكالم والتلاكم، وأن ليس بعضهم من شر بعض بسالم، على أن وراءهم يوما ينتصف فيه للمظلوم من الظالم، فقال: (مالك يوم الدين). وإذا عرف هذه الجملة فقد علم أن له خالقا رازقا رحيما، يحيي ويميت، ويبدئ ويعيد، وهو الحي لا يشبهه شئ، والإله الذي لا يستحق العبادة سواه. ولما صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك له بالعيان، المشاهد بالبرهان، تحول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب، فقال: (إياك نعبد). وهذا كما أن الإنسان يصف الملك بصفاته، فإذا رآه، عدل عن الوصف إلى الخطاب. ولما رأى اعتراض الأهواء والشبهات، وتعاور الآراء المختلفات، فقال: (وإياك نستعين). ولما عرف هذه الجملة، وتبين له أنه بلغ من معرفة الحق المدى، واستقام على منهج الهدى، ولم يأمن العثرة لارتفاع العصمة، سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه والثبات، والعصمة من الزلات، فقال: (اهدنا الصراط المستقيم). وهذا لفظ جامع يشتمل على مسألة معرفة الأحكام، والتوفيق لإقامة شرائع الإسلام، والاقتداء بمن أوجب الله طاعته من أئمة الأنام، واجتناب المحارم والآثام. وإذا علم ذلك، علم أن لله سبحانه عبادا خصهم بنعمته، واصطفاهم على بريته، وجعلهم حججا على خليقته، فسأله أن يلحقه بهم، ويسلك به سبيلهم، وأن يعصمه عن مثل أحوال الزالين المزلين، والضالين المضلين، ممن عاند الحق، وعمي عن طريق الرشد، وخالف سبيل القصد، فغضب الله عليه ولعنه، وأعد له الخزي المقيم، والعذاب الأليم، أو شك في واضح الدليل، فضل عن سواء السبيل، فقال: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين). (1) [ وانت في الصلاة ]. (*)
[ 74 ]
سورة البقرة وآياتها ست وثمانون ومائتان مدنية كلها إلا آية واحدة منها وهي قوله (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) الآية فإنها نزلت في حجة الوداع بمنى، عدد آيها مائتان وست وثمانون آية في العدد الكوفي، وهو العدد المروي عن أمير المومنين علي عليه السلام. وسبع في العدد البصري، وخمس حجازي، وأربع شامي، خلافها إحدى عشرة آية عد الكوفي (ألم) آية. وعد البصري (الا خائفين) آية و (قولا معروفا) بصري. (عذاب أليم) شامي. (مصلحون غيرهم يا أولي الألباب) عراقي والمدني الأخير من خلاف الثاني غير المدني الأخير (يسألونك ماذا ينفقون). مكي. والمدني الأول (تتفكرون) كوفي وشامي. والمدني الأخير (الحي القيوم) مكي بصري. والمدني الأخير (من الظلمات إلى النور) المدني الأول. وروي عن أهل مكة: (ولا يضار كاتب ولا شهيد). فضلها: أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قرأها فصلوات الله عليه ورحمته، وأعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة، لا تسكن روعته. وقال لي: يا ابي مر المسلمين أن يتعلموا سورة البقرة، فإن تعلمها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة. قلت: يا رسول الله ! ما البطلة ؟ قال: السحرة. وروى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لكل شئ سناما، وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخل بيته شيطان ثلاثة أيام، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث بعثا، ثم تتبعهم يستقرئهم، فجاء انسان منهم فقال: ماذا معك من القرآن حتى أتى على أحدثهم سنا، فقال له: ماذا معك من القرآن ؟ قال: كذا، وكذا، وسورة البقرة. فقال: اخرجوا وهذا عليكم أمير. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أحدثنا سنا ! قال: معه سورة البقرة. وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي سور القرآن أفضل ؟ قال: البقرة. قيل: أي
[ 75 ]
آي البقرة أفضل ؟ قال: آية الكرسي. فقال الصادق عليه السلام: من قرأ البقرة، وآل عمران، جاء يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل الغمامتين، أو مثل الغيابتين (1). [ تفسيرها ] بسم الله الرحمن الرحيم (الم (1)). (كوفي) اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور، فذهب بعضهم إلى أنها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى بعلمها، ولا يعلم تأويلها إلا هو، هذا هو المروي عن أئمتنا عليه السلام. وروت العامة عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وعن الشعبي قال: لله في كل كتاب سر، وسره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور. وفسرها الآخرون على وجوه: أحدها: إنها أسماء السور ومفاتحها، عن الحسن، وزيد بن أسلم وثانيها: إن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى، فقوله تعالى: (الم) معناه: أنا الله أعلم. (والمر) معناه: أنا الله أعلم وأرى. (والمص) معناه: أنا الله أعلم وأفصل. والكاف في (كهيعص) من كاف. والهاء من هاد. والياء من حكيم. والعين من عليم. والصاد من صادق، عن ابن عباس. وعنه أيضا: إن (الم) الألف منه تدل على اسم الله. واللام تدل على اسم جبرائيل. والميم تدل على اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره مسندا إلى علي بن موسى الرضا عليه السلام، قال: سئل جعفر بن محمد الصادق عن قوله (الم) فقال: في الألف ست صفات من صفات الله تعالى (الابتداء): فإن الله ابتدأ جميع الخلق والألف ابتداء الحروف. و (الإستواء): فهو عادل غير جائر، والألف مستو في ذاته. و (الانفراد): فالله فرد، والألف فرد. و (اتصال الخلق بالله) والله لا يتصل بالخلق، وكلهم محتاجون إلى الله، والله غني عنهم، وكذلك الألف لا يتصل بالحروف، والحروف متصلة به، وهو (1) الغيابة من كل شئ: ما سترك منه. (*)
[ 76 ]
منقطع من غيره، والله عز وجل باين بجميع صفاته من خلقه ومعناه من الالفة، فكما أن الله عز وجل سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف، وهو سبب إلفتها وثالثها: إنها أسماء الله تعالى منقطعة، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، تقول: الر، وحم، ون: فيكون الرحمن، وكذلك سائرها، إلا أنا لا نقدر على وصلها، والجمع بينها، عن سعيد بن جبير. ورابعها: إنها أسماء القرآن، عن قتادة وخامسها: إنها أقسام أقسم الله تعالى بها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس، وعكرمة. قال الأخفش: وإنما أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، وأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم كلها، بها يتعارفون. ويذكرون الله عز اسمه، ويوحدونه، فكأنه هو أقسم بهذه الحروف أن القرآن كتابه وكلامه وسادسها: إن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى، وليس فيها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه، وليس فيها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين، عن أبي العالية. وقد ورد أيضا مثل ذلك في أخبارنا وسابعها: إن المراد بها مدة بقاء هذه الامة، عن مقاتل بن سليمان، قال مقاتل: حسبنا هذه الحروف التي في أوائل السور بإسقاط المكرر، فبلغت سبع مائة وأربعا وأربعين سنة، وهي بقية مدة هذه الامة. قال علي بن فضال المجاشعي النحوي: وحسبت هذه الحروف التي ذكرها مقاتل، فبلغت ثلاثة آلاف وخمسا وستين، فحذفت المكررات فبقي ستمائة وثلاث وتسعون والله أعلم بما فيها، وأقول: قد حسبتها أنا أيضا، فوجدتها كذلك. ويروى أن اليهود لما سمعوا (الم) قالوا: مدة ملك محمد صلى الله عليه وآله وسلم قصيرة، إنما تبلغ إحدى وسبعين سنة. فلما نزلت الر، المر، والمص، وكهيعص اتسع عليهم الأمر. هذه أقوال أهل التفسير وثامنها: إن المراد بها حروف المعجم، استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور، عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية والعشرين حرفا، كما يستغنى بذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة، وكما يقال اب في أبجد وفي أ ب ت ث، ولم يذكروا باقي الحروف. قال الراجز: لما رأيت أنها في حطي * أخذت منها بقرون شمط وإنما أراد الخبر عن المرأة بأنها في أبجد فأقام قوله حطي مقامه لدلالة الكلام عليه. وتاسعها: إنها تسكيت للكفار، لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن، وأن يلغوا فيه، كما ورد به التنزيل من قوله (لا تسمعوا لهذا
[ 77 ]
القرآن والغوا فيه) الاية. فربما صفروا، وربما صفقوا، وربما لغطوا ليغلطوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا، استمعوا إليه، وتفكروا واشتغلوا عن تغليطه، فيقع القرآن في مسامعهم، ويكون ذلك سببا موصلا لهم إلى درك منافعهم وعاشرها: إن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم، فإذا لم تقدروا عليه، فاعلموا أنه من عند الله، لأن العادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم. وإنما كررت في مواضع استظهارا في الحجة، وهو المحكي عن قطرب، واختاره أبو مسلم محمد بن بحر الإصفهاني. اللغة: أجود هذه الأقوال القول الأول المحكي عن الحسن، لأن أسماء الأعلام منقولة إلى التسمية عن أصولها للتفرقة بين المسميات، فتكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية، ولهذا في أسماء العرب نظير قالوا (1) أوس بن حارثة بن لام الطائي. ولا خلاف بين النحويين أنه يجوز أن يسمى بحروف المعجم، كما يجوز أن يسمى بالجمل نحو تأبط شرا وبرق نحره. وكل كلمة لم تكن على معنى الأصل، فهي منقولة إلى التسمية للفرق نحو جعفر إذا لم يرد به معنى النهر لم يكن إلا منقولا إلى العلمية، وكذلك أشباهه. ولو سميت بألم لحكيت جميع ذلك. وأما قول ابن عباس إنه اختصار من أسماء يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمامها، فنحوه قول الشاعر (2): نادوهم أن ألجموا ألاتا * قالوا جميعا كلهم ألافا يريد ألا تركبون قالوا ألا فاركبوا، وقول الآخر: قلنا لها: قفي. قالت: قاف * لا تحسبي أنا نسينا الايجاف يريد: قالت أنا واقفة. الاعراب: أما موضع (الم) من الإعراب فمختلف على حسب اختلاف هذه المذاهب، أما على مذهب الحسن فموضعها رفع على اضمار مبتدأ (1) في بعض النسخ: قال. وفي (مختصر مجمع البيان) ما نصه: " وسمي في العرب لام الطائي " والمناسب كذلك هنا أن تكون: قالوا. (2) وهو أبو النجم العجلي. (*)
[ 78 ]
محذوف، كأنه قال هذه الم. وأجاز الرماني أن يكون (الم) مبتدأ، و (ذلك الكتاب) خبره، وتقديره حروف المعجم ذلك الكتاب. وهذا فيه بعد، لأن حكم المبتدأ أن يكون هو الخبر في المعنى. ولم يكن الكتاب هو حروف المعجم. ويجوز أن يكون (ألم) في موضع نصب على إضمار فعل تقديره اتل الم. وأما على مذهب من جعلها قسما فموضعها نصب بإضمار فعل لأن حرف القسم إذا حذف يصل الفعل إلى المقسم به فينصبه، فإن معنى قولك بالله: أقسم بالله، ثم حذفت أقسم فبقي بالله فلو حذفت الباء، لقلت الله لأفعلن. وأما على مذهب من جعل هذه الحروف اختصارا من كلام، أو حروفا مقطعة، فلا موضع لها من الإعراب، لأنها بمنزلة قولك زيد قائم في أن موضعه لاحظ له في الاعراب، وإنما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع الفرد، كقولك: زيد أبوه قائم، وإن زيدا أبوه قائم، لأنه بمنزلة قولك: زيد قائم، وإن زيدا قائم. وهذه الحروف موقوفة على الحكاية، كما يفعل بحروف التهجي، لأنها مبنية على السكت، كما أن العدد مبني على السكت، يدل على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك لام ميم، وتقول في العدد واحد إثنان، ثلاثة، أربعة، فتقطع ألف اثنين، وألف اثنين ألف وصل، وتذكر الهاء في ثلاثة وأربعة. ولولا أنك تقدر السكت لقلت ثلاثة بالتاء، ويدل عليه قول الشاعر (1): أقبلت من عند زياد كالخرف * تخط رجلاي بخط مختلف تكتبان في الطريق لام ألف كأنه قال لام ألف، ولكنه ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها. وإذا أخبرت عن حروف الهجاء، أو أسماء الأعداد أعربتها، لأنك أدخلتها بالاخبار عنها في جملة الأسماء المتمكنة، وأخرجتها بذلك من حيز الأصوات، كما قال الشاعر: (كما بينت كاف تلوح وميمها) وقال آخر: إذا اجتمعوا على ألف، وباء، * وواو، هاج بينهم جدال وتقول: هذا كاف حسن، وهذه كاف حسنة. من ذكره فعلى معنى الحرف. ومن أنثه فعلى معنى الكلمة. (1) وهو الراعي. (*)
[ 79 ]
(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (3)) القراءة: قرأ ابن كثير: (فيهي هدى) بوصل الهاء بياء في اللفظ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة، فإن كان قبلها ساكن غير الياء، وصلها بالواو. ووافقه حفص في قوله (فيهي مهانا) وقتيبة في قوله: فملاقيه وسأصليه (1). والباقون: لا يشبعون. وإذا تحرك ما قبل الهاء فهم مجمعون على إشباعه. الحجة: إعلم أنه يجوز في العربية في فيه أربعة أوجه: فيهو وفيهي وفيه وفيه والأصل فيهو كما قيل: لهو مال. فمن كسر الهاء من فيه ونحوه مع أن الأصل الضم فلأجل الياء، أو الكسرة قبل الهاء، والهاء تشبه الألف لكونها من حروف الحلق، ولما فيها من الخفاء. فكما نحوا بالألف نحو الياء بالإمالة لأجل الكسرة أو الياء، كذلك كسروا الهاء للكسرة أو الياء ليتجانس الصوتان. ومن ترك الاشباع فلكراهة اجتماع المشابهة، فإن الهاء حرف خفي. فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين، كان كأن الساكنين التقيا لخفاء الهاء، فإنهم لم يعتدوا بها حاجزا في نحو فيهي وخذ وهو كما لم يعتد بها في نحو رد من أتبع الضم الضم إذا وصل الفعل بضمير المؤنث فقال: ردها بالفتح لا غير، ولم يتبع الضم الضم، وجعل الدال كأنها لازقة بالألف. وأما من أشبع وأتبعها الياء قال: الهاء وإن كانت خفية فليس يخرجها ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها، فإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين، كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها. اللغة: ذلك: لفظة يشار بها إلى ما بعد. وهذا: إلى ما قرب. والإسم من ذلك: ذا. والكاف: زيدت للخطاب، ولاحظ لها من الإعراب. واللام: تزاد للتأكيد، وكسرت لالتقاء الساكنين. وتسقط معها هاء. تقول:، ذاك، وذلك، وهذاك، ولا تقول هذا لك. والكتاب: مصدر وهو بمعنى المكتوب (2)، كالحساب، قال الشاعر (3): (1) وفي بعض النسخ: (فلا هيهي وسأصلبهي) بإثبات الياء في الكتابة. (2) [ بمعنى المحسوب ]. (3) هو أبو حية النميري. (*)
[ 80 ]
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة * أتتك من الحجاج يتلى كتابها أي: مكتوبها، وأصله الجمع من قولهم كتبت القربة: إذا خرزتها. والكتبة: الخرزة. وكتبت البغلة: إذا جمعت بين شفريها بحلقة. ومنه قيل للجند: كتيبة، لانضمام بعضهم إلى بعض. والريب: الشك. وقيل: هو أسوأ الشك، وهو مصدر رابني الشئ من فلان يريبني: إذا كنت مستيقنا منه بالريبة. فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت أرابني من فلان أمر إرابة. وأراب الرجل: إذا صار صاحب ريبة، كما قيل ألام أي: استحق أن يلام. والهدى: الدلالة مصدر هديته. وفعل قليل في المصادر. قال أبو علي: يجوز أن يكون فعل مصدر اختص به المعتل، وإن لم يكن في المصادر، كما كان كينونة ونحوه لا يكون في الصحيح، والفعل منه يتعدى إلى مفعولين يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر إلى، أو اللام، كقوله (واهدنا إلى سواء الصراط) و (الحمد لله الذي هدانا لهذا). وقد يحذف منه حرف الجر، فيصل الفعل إلى المفعول نحو (اهدنا الصراط المستقيم) أي: دلنا عليه، واسلك بنا فيه. وكأنه استنجاز لما وعدوا به في قوله: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) أي: سبل دار السلام. والأصل في المتقين: الموتقين، مفتعلين من الوقاية، فقلبت الواو تاء، وأدغمتها في التاء التي بعدها، وحذفت الكسرة من الياء استثقالا لها، ثم حذفتها لالتقاء الساكنين، فبقي متقين، والتقوى: أصله وقوى، قلبت الواو تاء، كالتراث أصله وراث. وأصل الاتقاء: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بالترس أي: جعله حاجزا بينه وبينه، قال الشاعر (1): فألقت قناعا دونها الشمس، واتقت * بأحسن موصولين كف ومعصم ومنه الوقاية لأنها تمنع رؤية الشعر. الاعراب: (ذلك) في موضع رفع من وجوه أحدها: أن تجعله خبرا عن (الم) كما مضى القول فيه وثانيها: أن يكون مبتدأ، والكتاب خبره وثالثها: أن يكون مبتدأ، والكتاب عطف بيان أو صفة له أو بدل منه و (لا ريب فيه) جملة في موضع الخبر ورابعها: أن يكون مبتدأ، وخبره (هدى) ويكون (لا ريب) في موضع الحال، والعامل في الحال معنى الإشارة. وخامسها: أن (1) هو: رؤبة العجاج. (*)
[ 81 ]
يكون (لا ريب فيه)، و (هدى) جميعا، خبرا بعد خبر، كقولك هذا حلو حامض أي: جمع الطعمين، ومنه قول الشاعر (1): من يك ذابت فهذابتي * مقيظ، مصيف، مشتي وسادسها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا ذلك الكتاب. وإن حملت على هذا الوجه، أو على أنه مبتدأ، و (لا ريب فيه) الخبر، أو على أنه خبر (ألم)، أو على أن (الكتاب) خبر عنه، كان قوله (هدى) في موضع نصب على الحال أي: هاديا للمتقين. والعامل فيه معنى الإشارة والاستقرار الذي يتعلق به فيه. وقوله: (لا ريب) قال سيبويه: (لا) تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين. وقال غيره من حذاق النحويين: جعل (لا) مع النكرة الشائعة مركبا فهو أوكد من تضمين الاسم معنى الحرف، لأنه جعل جزءا من الاسم بدلالة أنك تضيف إليه مجموعا، وتدخل عليه حرف الجر، فتقول: جئتك بلا مال ولا زاد، فلما صار كذلك بني على الفتح. وهما جميعا في موضع الرفع على الابتداء. فموضع خبره موضع خبر المبتدأ. وعلى هذا فيجوز أن تجعل فيه خبر. ويجوز أن تجعله صفة. فإن جعلته صفة أضمرت الخبر، وإن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ. وعلى قول أبي الحسن الأخفش: موضعه، رفع، والموضع للظرف نفسه، لا لما كان يتعلق به، لأن الحكم له من دون ما كان يكون الظرف منتصبا به في الأصل، ألا ترى أن الضمير قد صار في الظرف. وأما قوله (هدى): فيجوز أن يكون في موضع رفع من ثلاثة أوجه غير الوجه الذي ذكرناه قبل، وهو أن يكون خبرا عن ذلك، أحدها: أن يكون مبتدأ، وفيه الخبر على أن تضمر للا ريب خبرا، كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى. والوقف على هذا الوجه يكون على قوله: لا ريب. ويبتدئ فيه هدى للمتقين. وإن شئت جعلت فيه هذه الظاهرة خبرا عن لا ريب، وأضمرت لهدى خبرا كانك قلت لا ريب فيه فيه هدى. والوقف على هذا الوجه على قوله (لا ريب فيه) ويبتدئ (هدى للمتقين). والوجه الثاني: أن يكون خبرا عن (ألم) على قول من جعله إسما للسورة. والوجه الثالث: أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، تقديره: هو هدى. المعنى: المراد بالكتاب القرآن. وقال الأخفش: ذلك بمعنى هذا، لأن (1) هو علي بن حمزة الأسدي المشتهر بالكسائي. (*)
[ 82 ]
الكتاب كان حاضرا، وأنشد لخفاف بن ندبة: أقول له، والرمح يأطر متنه: * تأمل خفافا إنني أنا ذلكا أي: إنا هذا وهذا البيت يمكن اجراؤه على ظاهره أي: إنني أنا ذلك الرجل الذي سمعت شجاعته. وإذا جرى للشئ ذكر يجوز أن يقول السامع: هذا كما قلت، وذلك كما قلت. وتقول: أنفقت ثلاثة وثلاثة، فهذا ستة، أو فذلك ستة. وإنما تقول هذا لقربه بالاخبار عنه، وتقول ذلك لكونه ماضيا. وقيل: إن الله وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، ولا يخلق على كثرة الرد، فلما أنزل القرآن قال: هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك، عن الفراء، وأبي علي الجبائي. وقيل معناه: هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك به في الكتب السالفة، عن المبرد. ومن قال: إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، فقوله فاسد، لأنه وصف الكتاب بأنه لا ريب فيه، وأنه هدى، ووصف ما في أيدي اليهود والنصارى بأنه محرف بقوله (يحرفون الكلم عن مواضعه). ومعنى قوله (لا ريب فيه) أي: إنه بيان وهدى وحق ومعجز، فمن ههنا استحق الوصف بأنه لا شك فيه لا (1) على جهة الاخبار بنفي شك الشاكين. وقيل: إنه على الحذف، كأنه قال لا سبب شك فيه، لأن الأسباب التي توجب الشك في الكلام هي التلبيس والتعقيد والتناقض، والدعاوي العارية من البرهان، وهذه كلها منفية عن كتاب الله تعالى. وقيل: إن معناه النهي، وإن كان لفظه الخبر أي: لا ترتابوا أو لا تشكوا فيه، كقوله تعالى (لا رفث ولا فسوق). وأما تخصيص المتقين بأن القرآن هدى لهم، وإن كان هدى لجميع الناس، فلأنهم هم الذين انتفعوا به، واهتدوا بهداه، كما قال (إنما أنت منذر من يخشاها) وإن كان صلى الله عليه وآله وسلم منذرا لكل مكلف، لأنه إنما انتفع بانذاره من يخشى نار جهنم. على أنه ليس في الإخبار بانه هدى للمتقين، ما يدل على أنه ليس بهدى لغيرهم، وبين في آية أخرى أنه هدى للناس. [ فصل في التقوى والمتقي ] روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: جماع التقوى في قوله تعالى: (إن الله يأمر (1) ولا جهة للاخبار، كذا في بعض النسخ ولعله أنسب. (*)
[ 83 ]
بالعدل والإحسان) الآية. وقيل: المتقي الذي اتقى ما حرم عليه، وفعل ما أوجب عليه. وقيل: هو الذي يتقي بصالح أعماله عذاب الله. وسأل عمر بن الخطاب كعب الأحبار عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك ؟ فقال: نعم. قال: فما عملت فيه ؟ قال: حذرت وتشمرت. فقال كعب: ذلك التقوى. ونظمه بعض الناس، فقال: خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى * واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إنما سمي المتقون لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس. وقال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم كالمجرم في الحرم. وقال بعضهم: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك. (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3)). القراءة: قرأ أبو جعفر، وعاصم في رواية الأعشى، عن أبي بكر بترك كل همزة ساكنة مثل يؤمنون ويأكلون ويؤتون وبئس ونحوها، ويتركان كثيرا من المتحركة مثل يؤده، ولا يؤاخذكم، ويؤيد بنصره، ومذهب أبي جعفر فيه تفصيل يطول ذكره. وأما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم، مثل: ننسئها وتسؤكم ويهئ لكم ومن يشأ وينبئهم واقرأ كتابك ونحوها. فإنه لا يترك الهمزة فيها، وروي عنه الهمزة أيضا في الساكنة. وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاء من الفعل. نحو: يؤمنون، ولا يؤاخذكم. واختلفت قراءة الكسائي وحمزة، ولكل واحد منهم مذهب فيه يطول ذكره. فالهمز على الأصل، وتركه للتخفيف. اللغة والاعراب: (الذين) جمع الذي. واللائي واللاتي: جمع التي، وتثنيتهما اللذان واللتان في حال الرفع، واللذين واللتين في حال الجر والنصب. وهي من الأسماء التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من وما وأي، وصلاتها لا تكون إلا جملا خبرية يصح فيها الصدق والكذب. ولا بد أن يكون فيها ضمير يعود إلى الموصول، فإذا استوفت الموصولات صلاتها، كانت في تأويل اسم مفرد، مثل زيد وعمرو، ويحتاج إلى جزء آخر تصير به جملة. فقوله
[ 84 ]
الذين: موصول، ويؤمنون صلته، ويحتمل أن يكون محله نصبا وجرا ورفعا. فالنصب على المدح تقديره أعني الذين يؤمنون. وأما الجر فعلى أنه صفة للمتقين. وأما الرفع فعلى المدح أيضا، كأنه لما قيل هدى للمتقين، قيل: من هم ؟ قيل: هم الذين يؤمنون بالغيب، فيكون خبر مبتدأ محذوف. ويؤمنون: معناه يصدقون والواو في موضع الرفع بكونه ضمير الفاعلين. والنون علامة الرفع. والأصل في يفعل: يؤفعل، ولكن الهمزة حذفت، لأنك إذا أنبأت عن نفسك، قلت أنا أفعل. فكانت تجتمع همزتان، فاستثقلتا، فحذفت الهمزة الثانية، فقيل: أفعل. ثم حذفت من الصيغ الاخر نفعل وتفعل ويفعل، كما أن باب يعد حذفت منه الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، إذ الأصل يوعد. ثم حذفت في تعد وأعد ونعد، ليجري الباب على سنن واحد. قال الأزهري: اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق، قال الله تعالى: (وما أنت بمؤمن لنا) أي: ما أنت بمصدق لنا. قال أبو زيد: وقالوا ما أمنت أن أجد صحابة أي: ما وثقت. فالإيمان: هو الثقة والتصديق، قال الله تعالى: (الذين آمنوا بآياتنا) أي: صدقوا ووثقوا بها. وقال الشاعر أنشده ابن الأنباري: ومن قبل آمنا، وقد كان قومنا * يصلون للأوثان قبل محمدا ومعناه آمنا محمدا أي: صدقناه. ويجوز أن يكون آمن من قياس فعلته فأفعل، تقول أمنته فأمن، مثل كببته فأكب. والأمن: خلاف الخوف. والأمانة: خلاف الخيانة. والأمون: الناقة القوية، كأنها يؤمن عثارها وكلالها. ويجوز أن يكون آمن بمعنى صار ذا أمن على نفسه بإظهار التصديق نحو: أجرب وأعاه وأصح وأسلم: صار ذا سلم أي: خرج عن أن يكون جربا. هذا في أصل اللغة. أما في الشريعة فالإيمان هو التصديق بكل ما يلزم التصديق به من الله تعالى وأنبيائه، وملائكته، وكتبه، والبعث والنشور، والجنة والنار. وأما قولنا في وصف القديم تعالى المؤمن: فإنه يحتمل تأويلين أحدهما: أن يكون من آمنت المتعدي إلى مفعول، فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين، فصار من أمن زيد العذاب، وآمنته العذاب، فمعناه: المؤمن عذابه من لا يستحقه من أوليائه. ومن هذا وصفه سبحانه بالعدل كقوله (قائما بالقسط)، وهذا الوجه مروي في أخبارنا. والآخر: أن يكون
[ 85 ]
معناه المصدق أي: يصدق الموحدين على توحيدهم إياه، يدل عليه قوله (شهد الله أنه لا إله إلا هو) لأن الشاهد مصدق لما يشهد به، كما أنه مصدق من يشهد له، فإذا شهد بالتوحيد فقد صدق الموحدين. وأما الغيب فهو كلما غاب عنك ولم تشهده. وقوله (بالغيب) كأنه إجمال لما فصل في قوله: (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) أي: يؤمنون بما كفر به الكفار من وحدانية الله، وإنزال كتبه، وإرسال رسله، فكل هذا غيب. فعلى هذا يكون الجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول به. وفيه وجه آخر، وهو أن يكون أراد يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا كالمنافقين. ومثله قوله: (وخشي الرحمن بالغيب). فعلى هذا يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي: يؤمنون غائبين عن مراءاة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد، ولكن يخلصونه لله، ويقيمون الصلاة يؤدونها بحدودها وفرائضها، يقال أقام القوم سوقهم: إذا لم يعطلوها من البيع والشراء، وقال الشاعر: أقامت غزالة سوق الضراب * لأهل العراقين حولا قميطا وقال أبو مسلم: يقيمون الصلاة أي: يديمون أداء فرائضها، يقال للشئ الراتب: قايم، ويقال: فلان يقيم أرزاق الجند، والصلاة في اللغة: الدعاء، قال الاعشى: وأقبلها (1) الريح في ظلها * وصلى على دنها، وارتسم أي: دعا لها. ومنه الحديث: " إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصل " أي: فليدع له بالبركة والخير. وقيل: أصله رفع الصلا في الركوع، وهو عظم في العجز. وقوله: (ومما رزقناهم ينفقون): ما هذه حرف موصول. و (رزقناهم): صلته. وهما جميعا بمعنى المصدر، تقديره: ومن رزقنا إياهم ينفقون، أو اسم موصول ورزقناهم صلته، والعائد من الصلة إلى الموصول محذوف، والتقدير: ومن الذي رزقناهموه ينفقون، فيكون ما رزقناهم في موضع جر بمن، والجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول ينفقون. والرزق: هو العطاء الجاري، وهو نقيض الحرمان. والانفاق: إخراج المال، يقال: أنفق ماله أي: (1) في (لسان العرب) و (تفسير الطبري): (وقابلها) ولعله الأصح. (*)
[ 86 ]
أخرجه عن ملكه. ونفقت الدابة: إذا خرج روحها. والنافقاء: جحر اليربوع، لأنه يخرج منها. ومنه النفاق، لأن المنافق يخرج إلى المؤمن بالإيمان، وإلى الكافر بالكفر. المعنى: لما وصف القرآن بأنه هدى للمتقين، بين صفة المتقين، فقال: (الذين يؤمنون بالغيب) أي: يصدقون بجميع ما أوجبه الله تعالى، أو ندب إليه، أو أباحه. وقيل: يصدقون بالقيامة والجنة والنار، عن الحسن. وقيل: بما جاء من عند الله، عن ابن عباس. وقيل: بما غاب عن العباد علمه، عن ابن مسعود، وجماعة من الصحابة. وهذا أولى لعمومه، ويدخل فيه ما رواه أصحابنا من زمان غيبة المهدي عليه السلام، ووقت خروجه. وقيل: الغيب هو القرآن، عن زر بن حبيش. وقال الرماني: الغيب خفاء الشئ عن الحس قرب أو بعد، إلا أنه كثرت صفة غائب على البعيد الذي لا يظهر للحس. وقال البلخي: الغيب كل ما أدرك بالدلائل والآيات، مما يلزم معرفته. وقالت المعتزلة بأجمعها: الإيمان هو فعل الطاعة. ثم اختلفوا، فمنهم من اعتبر الفرائض والنوافل، ومنهم من اعتبر الفرائض حسب واعتبروا اجتناب الكبائر كلها. وقد روى الخاص والعام، عن علي بن موسى الرضا عليه السلام: إن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، والعمل بالاركان. وقد روي ذلك على لفظ آخر عنه أيضا: الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع الرسول. وأقول: إن أصل الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله، وبجميع ما جاءت به رسله. وكل عارف بشئ فهو مصدق به، يدل عليه هذه الآية، فإنه تعالى لما ذكر الإيمان، علقه بالغيب، ليعلم أنه تصديق للمخبر به من الغيب على معرفة وثقة. ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات البدنية والمالية، وعطفهما عليه، فقال (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) والشئ لا يعطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره، ويدل عليه أيضا أنه تعالى حيث ذكر الإيمان، أضافه إلى القلب، فقال: (وقلبه مطمئن بالإيمان)، وقال: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الإيمان سر، وأشار إلى صدره، والإسلام علانية. وقد يسمى الإقرار إيمانا كما يسمى تصديقا، إلا أنه متى صدر عن شك أو جهل، كان إيمانا لفظيا لا حقيقيا. وقد تسمى أعمال الجوارح أيضا إيمانا استعارة وتلويحا، كما تسمى تصديقا كذلك، فيقال: فلان تصدق أفعاله مقاله، ولا خير في قول لا يصدقه الفعل. والفعل ليس بتصديق حقيقي باتفاق أهل اللغة، وإنما
[ 87 ]
استعير له هذا الاسم على الوجه الذي ذكرناه، فقد آل الأمر تسليم صحة الخبر وقبوله إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب، والتصديق به على نحو ما تقتضيه اللغة، ولا يطلق لفظه إلا على ذلك إلا أنه يستعمل في الإقرار باللسان، والعمل بالأركان مجازا واتساعا، وبالله التوفيق. وقد ذكرنا في قوله (ويقيمون الصلاة) وجهين اقتضاهما اللغة. وقيل أيضا: إنه مشتق من القيام في الصلاة، ولذلك قيل: قد قامت الصلاة، وإنما ذكر القيام، لأنه أول أركان الصلاة وأمدها، وإن كان المراد به هو وغيره. والصلاة في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة على وجوه مخصوصة، وهذا يدل على أن الإسم ينقل من اللغة إلى الشرع. وقيل: إن هذا ليس بنقل، بل هو تخصيص، لأنه يطلق على الذكر والدعاء في مواضع مخصوصة. وقوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) يريد: ومما أعطيناهم وملكناهم يخرجون على وجه الطاعة. وحكي عن ابن عباس أنه الزكاة المفروضة، وعن ابن مسعود أنه نفقة الرجل على أهله، لأن الآية نزلت قبل وجوب الزكاة. وعن الضحاك هو التطوع بالنفقة. وروى محمد بن مسلم، عن الصادق عليه السلام، إن معناه: ومما علمناهم يبثون. والأولى حمل الآية على عمومها. وحقيقة الرزق هو ما صح أن ينتفع به المنتفع، وليس لأحد منعه منه. وهذه الآية تدل على أن الحرام لا يكون رزقا، لأنه تعالى مدحهم بالإنفاق مما رزقهم، والمنفق من الحرام لا يستحق المدح على الإنفاق بالإتفاق، فلا يكون رزقا. النزول: قال بعضهم: هذه الآية تناولت مؤمني العرب خاصة، بدلالة قوله فيما بعد (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) الآية، فهذا في مؤمني أهل الكتاب، إذ لم يكن للعرب كتاب قبل القرآن، وهذا غير صحيح، لأنه لا يمتنع أن تكون الآية الأولى عامة في جميع المؤمنين، وإن كانت الثانية خاصة في قوم منهم. ويجوز أن يكون المراد بالآيات قوما واحدا وصفوا بجميع ذلك، بأن جمع بين أوصافهم بواو العطف، كقول الشاعر: إلى الملك القرم، وآبن الهمام، وليث الكتيبة في المزدحم (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون (4)).
[ 88 ]
القراءة: أهل الحجاز غير ورش، وأهل البصرة لا يمدون حرفا لحرف، وهو أن تكون المدة من كلمة، والهمزة من اخرى، نحو (بما انزل إليك) ونحوه. وأما أهل الكوفة وابن عامر وورش عن نافع، فإنهم يمدون ذلك، وورش أطولهم مدا، ثم حمزة ثم عاصم برواية الأعشى. والباقون يمدون مدا وسطا من غير إفراط. فالمد للتحقيق، وحذفه للتخفيف. وأما السكتة بين المدة والهمزة فعن حمزة، ووافقه عاصم، والكسائي على اختلاف عنهما. وكان يقف حمزة قبل الهمزة أيضا فيسكت على اللام شيئا من قوله (بالآخرة)، ثم يبتدئ بالهمزة. وكذلك يقطع على الياء من شئ كأنه يقف، ثم يهمز. والباقون بغير سكتة. الاعراب: إليك ولديك وعليك: الأصل فيها إلاك وعلاك ولداك، إلا أن الألف غيرت مع المضمر، فأبدلت ياء، ليفصل بين الألف في آخر الإسم المتمكن، وبينها في آخر غير المتمكن الذي الإضافة لازمة له. ألا ترى أن إلى وعلى ولدى لا تنفرد من الإضافة، فشبهت بها كلا إذا أضيفت إلى الضمير، لأنها لا تنفرد، ولا تكون كلاما إلا بالإضافة. وما: موصول. وأنزل: صلته. وفيه ضمير يعود إلى (ما) والموصول مع صلته في موضع جر بالباء، والجار والمجرور في موضع نصب بانه مفعول يؤمنون. ويؤمنون: صلة للذين. والذين يؤمنون: في موضع جر بالعطف. والعطف فيه على وجهين أحدهما: أن يكون عطف أحد الموصوفين على الآخر. والآخر: أن يكون جمع الأوصاف لموصوف واحد. المعنى: ثم بين تعالى تمام صفة المتقين، فقال (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) يعني القرآن (وما أنزل من قبلك) يعني الكتب المتقدمة. وقوله: (وبالآخرة) أي: بالدار الآخرة لأن الآخرة صفة فلا بد لها من موصوف. وقيل: أراد به الكرة الآخرة، وإنما وصفت بالآخرة لتأخرها عن الدنيا، كما سميت الدنيا دنيا لدنوها من الخلق. وقيل: لدناءتها. (هم يوقنون) يعلمون. وسمي العلم يقينا لحصول القطع عليه، وسكون النفس إليه، فكل يقين علم، وليس كل علم يقينا. وذلك أن اليقين كأنه علم يحصل بعد الإستدلال والنظر، لغموض المعلوم المنظور فيه، أو لإشكال ذلك على الناظر. ولهذا لا يقال في صفة الله تعالى موقن، لأن الأشياء كلها في الجلاء
[ 89 ]
عنده على السواء، وإنما خصهم بالإيقان بالآخرة، وإن كان الإيمان بالغيب قد شملها، لما كان من كفر المشركين بها، وجحدهم إياها، في نحو ما حكي عنهم في قوله: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم. (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)). اللغة: أولئك: اسم مبهم، يصلح لكل حاضر، تعرفه الإشارة، وهو جمع ذلك في المعنى. وأولاء: جمع ذا في المعنى. ومن قصر قال: أولا والاك وأولالك. وإذا مد لم يجز زيادة اللام، لئلا يجتمع ثقل الزيادة، وثقل الهمزة، قال الشاعر: ألا لك قوم لم يكونوا أشابة، * وهل يعظ الضليل إلا أولالكا والمفلحون: المنجحون الفائزون. والفلاح: النجاح. قال الشاعر: إعقلي إن كنت لما تعقلي * فلقد أفلح من كان عقل أي: ظفر بحاجته. والفلاح أيضا: البقاء. قال لبيد: نحل بلادا كلها حل قبلنا، * ونرجو الفلاح بعد عاد، وتبعا وأصل الفلح: القطع، ومنه قيل الفلاح للأكار (الحراث) لأنه يشق الأرض. وفي المثل: " الحديد بالحديد يفلح " فالمفلح على هذا: كأنه قطع له بالخير. الاعراب: موضع (أولئك) رفع بالإبتداء. والخبر (على هدى من ربهم) وهو اسم مبني. والكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب، وكسرت الهمزة فيه لالتقاء الساكنين، وكذلك قوله (وأولئك هم المفلحون) إلا أن قوله (هم) فيه وجهان أحدهما: إنه فصل يدخل بين المبتدأ والخبر، وما كان في الأصل مبتدأ وخبرا للتأكيد، ولا موضع له من الإعراب. والكوفيون يسمونه عمادا، وإنما يدخل ليؤذن أن الإسم بعده خبر، وليس بصفة، وإنما يدخل أيضا إذا كان الخبر معرفة، أو ما أشبه المعرفة، نحو قوله تعالى: (تجدوه عند الله هو خيرا) والوجه الآخر: أن يكون (هم) مبتدأ ثانيا، و (المفلحون) خبره. والجملة في موضع رفع بكونها خبر (أولئك).
[ 90 ]
المعنى: لما وصف المتقين بهذه الصفات، بين ما لهم عنده تعالى فقال: (أولئك) إشارة إلى الموصوفين بجميع الصفات المتقدمة، وهم جملة المؤمنين (على هدى من ربهم) أي: من دين ربهم. وقيل: على دلالة وبيان من ربهم، وإنما قال من ربهم، لأن كل خير وهدى فمن الله تعالى، إما لأنه فعله، وإما لأنه عرض له بالدلالة عليه، والدعاء إليه، والإثابة على فعله. وعلى هذا يجوز أن يقال الإيمان هداية منه تعالى، وإن كان من فعل العبد، ثم كرر تفخيما فقال: (وأولئك هم المفلحون) أي: الظافرون بالبغية والباقون في الجنة. النزول: قال مجاهد: أربع آيات من أول السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدها نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين. (إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)). القراءة: قوله تعالى: (أنذرتهم) فيه ثلاث قراءات: قرأ عاصم وحمزة والكسائي، إذا حقق بهمزتين. وقرأ أهل الحجاز وأبو عمر بالهمزة والمد وتليين الهمزة الثانية. والباقون يجعلونها بين بين. وكذلك قراءة الكسائي إذا خففت. وأبو عمرو أطول مدا من ابن كثير. واختلف في المد عن نافع. وقرأ ابن عامر بألف بين همزتين. ويجوز في العربية ثلاثة أوجه غيرها (أأنذرتهم): بتحقيق الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية بجعلها بين بين (وأنذرتهم): بهمزة واحدة و (عليهم انذرتهم) على إلقاء حركة الهمزة على الميم، نحو (قد افلح) فيما روي عن نافع. الحجة: أما وجه الهمزتين فهو أنه الأصل، لأن الأولى همزة الإستفهام، والثانية همزة أفعل. وأما إدخال الألف بين الهمزتين: فمن قرأه أراد أن يفصل بين الهمزتين استثقالا لاجتماع المثلين، كما فصل بين النونين في نحو اضربنان استثقالا لاجتماع النونات ومنه قول ذي الرمة: فياظبية الوعساء بين جلاجل * وبين النقاء أنت أم أم سالم
[ 91 ]
وأما من فصل بين الهمزتين، ولين الثانية: فوجهه التخفيف من جهتين: الفصل والتليين، لأنك إذا لينتها فقد أمتها، وصار اللفظ كأنه لا استفهام فيه. ففي المد توكيد الدلالة على الإستفهام، كما في تحقيق الهمزة. وأما من حقق الأولى، ولين الثانية، من غير فصل بالألف، فهو القياس، لأنه جعل التليين عوضا عن الفصل. وأما من اكتفى بهمزة واحدة، فإنه طرح همزة الإستفهام، وهو ضعيف، وقد جاء في الشعر. قال عمر بن أبي ربيعة: لعمرك ما أدري، وإن كنت داريا * بسبع رمين الجمر، أم بثمان وأما من ألقى حركة الهمزة على الميم، فإنه على تليين الأولى، وتحقيق الثانية. والعرب إذا لينوا الهمزة المتحركة وقبلها ساكن، ألقوا حركتها على ما قبلها، قالوا: من بوك، ومن مك، وكم بلك ؟ اللغة: الكفر: خلاف الشكر، كما أن الحد خلاف الذم. فالكفر: ستر النعمة وإخفاؤها. والشكر: نشرها وإظهارها وكل ما ستر شيئا فقد كفره. قال لبيد " في ليلة كفر النجوم غمامها " أي: سترها. وسواء مصدر أقيم مقام الفاعل كقولك زور وصوم ومعناه مستو. والإستواء: الإعتدال. والسواء: العدل. قال زهير: أروني خطة لا خسف فيها * يسوي بيننا فيها السواء وقالوا: سي بمعنى سواء، كما قالوا قي وقواء: وسيان أي: مثلان. والإنذار: إعلام معه تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا. ويوصف القديم تعالى بأنه منذر، لأن الإعلام يجوز وصفه به، والتخويف أيضا كذلك، لقوله: (ذلك يخوف الله به عباده). فإذا جاز وصفه بالمعنيين، جاز وصفه بما يشتمل عليهما وأنذرت يتعدى إلى مفعولين، كقوله (إنا أنذرناكم عذابا قريبا). وقد ورد إلى المفعول الثاني بالباء في قوله (قل إنما أنذركم بالوحي). وقيل: الإنذار: هو التحذير من مخوف يتسع زمانه للإحتراز منه، فإن لم يتسع فهو إشعار. الاعراب: (إن) حرف توكيد، وهي تنصب الاسم، وترفع الخبر. وإنما نصبت ورفعت لأنها تشبه الفعل لكونها على وزنه ولأنها توكيد، والتوكيد من معاني الفعل، وتشبهه في اتصال ضمير المتكلم، نحو إنني، وهي مبنية
[ 92 ]
على الفتح كالفعل الماضي، وإنما ألزمت تقديم المنصوب على المرفوع ليعلم أنها إنما عملت على جهة التشبيه، فجعلت كفعل قدم مفعوله على فاعله. و (الذين كفروا): في موضع نصب، لكونه اسم إن. و (كفروا): صلة الذين. وأما خبرها ففيه وجهان أحدهما: أن يكون الجملة التي هي (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) فعلى هذا يكون (سواء) يرتفع بالابتداء. وما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر، والجملة في موضع رفع بأنها خبر إن. ويكون قوله (لا يؤمنون) حالا من الضمير المنصوب على حد معه صقر صائدا به وبالغ الكعبة. ويستقيم أن يكون أيضا استئنافا. والوجه الثاني: أن يكون (لا يؤمنون) خبر إن، ويكون قوله (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) اعتراضا بين الخبر والإسم، فلا يكون له موضع من الإعراب، كما حكم على موضعه بالرفع بالوجه الأول. فأما إذا قدرت هذا الكلام على ما عليه المعنى، فقلت سواء عليهم الإنذار وتركه، كان (سواء) خبر المبتدأ، لأنه يكون تقديره الإنذار وتركه مستويان عليهم. وإنما قلنا إنه مرتفع بالإبتداء على ما عليه التلاوة، لأنه لا يجوز أن يكون خبرا، فإنه ليس في ظاهر الكلام مخبر عنه. وإذا لم يكن مخبر عنه، بطل أن يكون خبرا. فإذا فسد ذلك، ثبت أنه مبتدأ. وأيضا فإنه قبل الإستفهام، وما قبل الإستفهام لا يكون داخلا في حيز الإستفهام، فلا يجوز إذا أن يكون الخبر عما في الإستفهام متقدما على الإستفهام، ونظير ما في الآية، من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ، ولا له فيه ذكر، ما أنشده أبو زيد: فإن حراما لا أرى الدهر باكيا * على شجوة إلا بكيت على عمرو وقوله: (ءأنذرتهم أم لم تنذرهم) لفظه الإستفهام ومعناه الخبر. وهذه الهمزة تسمى ألف التسوية. والتسوية آلتها همزة الإستفهام، وأم، تقول: أزيد عندك أم عمرو ؟ تريد أيهما عندك. ولا يجوز في مكانها أو لأن أو لا يكون معادلة الهمزة، وتفسير المعادلة: أن تكون أم مع الهمزة بمنزلة أي فإذا قلت: أزيد عندك أو عمرو، كان معناه أحد هذين عندك. ويدل على ذلك أن الجواب مع زيد أم عمرو يقع بالتعيين، ومع أزيد أو عمرو يقع بنعم أو لا، وإنما جرى عليه لفظ الإستفهام، وإن كان خبرا، لأن فيه التسوية التي في الإستفهام. ألا ترى أنك إذا قلت: سواء علي أقمت أم قعدت، فقد سويت الأمرين عليك، كما أنك إذا استفهمت فقلت: أقام
[ 93 ]
زيد أم قعد، فقد استوى الأمران عندك في الإستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه. فلما عمتهما التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الإستفهام، لمشاركته له في الإبهام. فكل استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما. وقال النحويون: إن نظير (سواء) في هذا قولك: ما أبالي أقبلت أم أدبرت، لأنه وقع موقع أي، فكأنك قلت: ما أبالي أي هذين كان منك. وما أدري أحسنت أم أسأت، وليت شعري أقام أم قعد. وقال حسان: ما أبالي أنب بالحزن تيس، * أم لحاني بظهر غيب لئيم ومثله في أنه في صورة الإستفهام، وهو خبر، قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا، * وأندى العالمين بطون راح ولو كان استفهاما لم يكن مدحا، وقول الآخر: سواء عليه أي حين أتيته * أساعة نحس تتقى، أم بأسعد النزول: قيل: نزلت في أبي جهل، وخمسة من أهل بيته قتلوا يوم بدر، عن الربيع بن انس، واختاره البلخي. وقيل: نزلت في قوم بأعيانهم من أحبار اليهود ممن كفر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عنادا وكتم أمره حسدا، عن ابن عباس. وقيل: نزلت في أهل الختم والطبع الذين علم الله أنهم لا يؤمنون، عن أبي علي الجبائي. وقيل: نزلت في مشركي العرب، عن الأصم. وقيل: هي عامة في جميع الكفار. أخبر تعالى بان جميعهم لا يؤمنون، ويكون كقول القائل: لا يقدم جميع إخوتك اليوم، فلا ينكر أن يقدم بعضهم. واختار الشيخ أبو جعفر، قدس الله روحه، أن يكون على الإختصاص، وتجويز كل واحد من الأقوال الأخر، وهذا أظهر وأسبق إلى الفهم. المعنى: لما بين تعالى حال المؤمنين، وصله بذكر الكافرين. والكفر في الشرع: عبارة عن جحد ما أوجب الله تعالى معرفته من توحيده، وعدله، ومعرفة نبيه، وما جاء به من أركان الشرع، فمن جحد شيئا من ذلك كان كافرا. وهذه الآية تدل على أن في المكلفين من لا لطف له، لأنه لو كان لفعل ولآمنوا. فلما أخبر أنهم لا يؤمنون، علم أنهم لا لطف لهم. وتدل على صدق
[ 94 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه أخبر بأنهم (1) لا يؤمنون، فكان كما أخبر. وتدل أيضا على أنه يجوز أن يخاطب الله تعالى بالعام، والمراد به الخاص في قول من قال الآية عامة، لأنا نعلم أن في الكفار من آمن، وانتفع بالإنذار. سؤال: إن قال قائل: إذا علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون، وكانوا قادرين على الإيمان عندكم، فما أنكرتم أن يكونوا قادرين على إبطال علم الله بأنهم لا يؤمنون ؟ الجواب: إنه لا يجب ذلك، كما أنه لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان أن يكونوا مأمورين بإبطال علم الله، كما لا يجب إذا كان الله تعالى قادرا على أن يقيم القيامة الساعة، أن يكون قادرا على إبطال علمه بانه لا يقيمها الساعة. والصحيح أن نقول: إن العلم يتناول الشئ على ما هو به، ولا يجعله على ما هو به، فلا يمتنع أن يعلم حصول شئ بعينه، وإن كان غيره مقدورا. (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)). القراءة: القراءة الظاهرة (غشاوة) بكسر الغين ورفع الهاء. وروي عن عاصم في الشواذ (غشاوة) بالنصب. وعن الحسن: بضم الغين. وعن بعضهم: بفتح الغين. وعن بعضهم (غشوة) بغير ألف. وقرأ أبو عمرو، والكسائي: (على أبصارهم) بالإمالة. والباقون بالتفخيم. وللقراء في الإمالة مذاهب يطول شرحها. الحجة: حجة من رفع غشاوة أنه لم يحمله على (ختم) كما في الآية الأخرى. وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة. فإذا لم يحملها عليه، قطعها عنه، فكانت مرفوعة إما بالظرف، وإما بالإبتداء. وكذلك قوله (ولهم عذاب عظيم) فإن عند سيبويه ترتفع (غشاوة) و (عذاب) بأنه مبتدأ، فكأنه قال غشاوة على أبصارهم، وعذاب لهم. وعند الأخفش يرتفع بالظرف، لأن الظرف يضمر فيه فعل، وستعرف فائدة اختلافهما في هذه المسألة بعد إن شاء الله تعالى. ومن نصب (غشاوة) فإما أن يحملها على (ختم) كأنه قال: (1) وفي النسخ الموجودة عندنا (أن هؤلاء) مكان (بأنهم). (*)
[ 95 ]
وختم على أبصارهم بغشاوة. فلما حذف حرف الجر، وصل الفعل إليها فنصبها، وهذا لا يحسن، لأنه فصل بين حرف العطف والمعطوف به، وذلك إنما يجوز في الشعر. وإما أن يحملها على فعل مضمر، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غشاوة، نحو قول الشاعر " علفتها تبنا وماء باردا " أي: وسقيتها. وقول الآخر: يا ليت بعلك قد غزا (1) * متقلدا سيفا، ورمحا أي: وحاملا رمحا. وهذا أيضا لا يوجد في حال الإختيار، فقد صح أن الرفع أولى. وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. والغشاوة فيها ثلاث لغات: فتح الغين، وضمها، وكسرها، وكذلك الغشوة فيها ثلاث لغات. اللغة: الختم: نظير الطبع، يقال: طبع عليه بمعنى ختم عليه. ويقال: طبعه أيضا بغير حرف، ولا يمتنع في ختم ذلك، قال: كأن قرادى زوره طبعتهما * بطين من الجولان كتاب أعجم وقوله ختامه مسك أي: آخره، ومنه ختم الكتاب، لأنه آخر حال الفراغ منه. وقوله (على سمعهم) يريد على أسماعهم. والسمع: مصدر، تقول: يعجبني ضربكم أي: ضروبكم فيوحد لأنه مصدر. ويجوز أن يريد على مواضع سمعهم، فحذفت مواضع، ودل السمع عليها، كما يقال أصحابك عدل أي: ذوو عدل. ويجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم، دل على معنى أسماعهم. قال الشاعر: بها جيف الحسرى، فأما عظامها * فبيض، وأما جلدها فصليب وقال الآخر: " في حلقكم عظم وقد شجينا " أي: في حلوقكم. والغشاوة: الغطاء وكل ما اشتمل على الشئ بنى على فعالة، نحو العمامة، والقلادة، والعصابة. وكذلك أسماء الصناعات كالخياطة والقصارة والصياغة، لأن معنى الصناعة: الاشتمال على كل ما فيها. وكذلك كل من استولى على شئ فاسم ما استولى عليه الفعالة: كالإمارة، والخلافة، وغير ذلك. وسمي القلب قلبا: لتقلبه بالخواطر، قال الشاعر (2): (1) وفي جملة من النسخ: " غدا " بالدال المهملة بدل الزاي. (2) الشاعر: عدي بن الرقاع العاملي. (*)
[ 96 ]
ما سمي القلب إلا من تقلبه، * والرأي يعزب، والإنسان أطوار والفؤاد: محل القلب. والصدر: محل الفؤاد. وقد يعبر عن القلب بمحله كقوله: (لنثبت به فؤادك) وقال: (ألم نشرح لك صدرك) يعني به القلب في الموضعين. والعذاب: استمرار الألم، يقال: عذبته تعذيبا وعذابا. ويقال عذب الماء: إذا استمر في الحلق. وحمار عاذب وعذوب: إذا استمر به العطش فلم يأكل من شدة العطش، وفرس عذوب مثل ذلك. وأعذبته عن الشئ: بمعنى فطمته. والعظيم: الكبير، يقال: هو عظيم الجثة، وعظيم الشأن، سمي سبحانه عظيما، وعظمته: كبرياؤه. المعنى: قيل في معنى الختم وجوه أحدها: إن المراد بالختم العلامة، وإذا انتهى الكافر من كفره إلى حالة يعلم الله تعالى أنه لا يؤمن، فإنه يعلم على قلبه علامة. وقيل: هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة، فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها، فيذمونه ويدعون عليه كما أنه تعالى يكتب في قلب المؤمن الإيمان، ويعلم عليه علامة تعلم الملائكة بها أنه مؤمن فيمدحونه، ويستغفرون له. وكما طبع على قلب الكافر، وختم عليه فوسمه بسمة تعرف بها الملائكة كفره، فكذلك وسم قلوب المؤمنين بسمات تعرفهم الملائكة بها. وقد تأول على مثل هذا مناولة الكتاب باليمين والشمال في أنها علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة، والمناول بالشمال من أهل النار. وقوله تعالى (بل طبع الله عليها بكفرهم) يحتمل أمرين: أحدهما: إنه طبع عليها جزاء للكفر، وعقوبة عليه. والآخر: إنه طبع عليها بعلامة كفرهم كما تقول طبع عليه بالطين، وختم عليه بالشمع. وثانيها: إن المراد بالختم على القلوب أن الله شهد عليها، وحكم بانها لا تقبل الحق، كما يقال أراك تختم على كل ما يقوله فلان أي: تشهد به وتصدقه، وقد ختمت عليك بأنك لا تفلح أي شهدت، وذلك استعارة وثالثها: إن المراد بذلك أنه تعالى ذمهم بأنها كالمختوم عليها في أنه لا يدخلها الإيمان، ولا يخرج عنها الكفر، كقوله (صم بكم عمي) وكقول الشاعر: " أصم عما ساءه سميع "، وقول الآخر: لقد أسمعت لو ناديت حيا، * ولكن لا حياة لمن تنادي والمعنى: إن الكفر تمكن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها، وصاروا بمنزلة
[ 97 ]
من لا يفهم ولا يبصر ولا يسمع، عن الأصم وأبي مسلم الإصفهاني ورابعها: إن الله وصف من ذمه بهذا الكلام، بأن قلبه ضاق عن النظر والإستدلال، فلم ينشرح له، فهو خلاف من ذكره في قوله: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) ومثل قوله (أم على قلوب أقفالها) وقوله: (وقالوا قلوبنا غلف وقلوبنا في أكنة). ويقوي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع. فقال: (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا)، وقال: (وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) ويبين ذلك قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم) فعدل الختم على القلوب بأخذه السمع والبصر، فدل هذا على أن الختم على القلب، هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه، كما لا ينتفع بالسمع والبصر مع أخذهما، وإنما يكون ضيقه بأن لا يتسع لما يحتاج إليه فيه من النظر والإستدلال الفاصل بين الحق والباطل. وهذا كما يوصف الجبان بأنه لا قلب له إذا بولغ في وصفه بالجبن، لأن الشجاعة محلها القلب، فإذا لم يكن القلب الذي هو محل الشجاعة، لو كانت، فأن لا تكون الشجاعة أولى. قال طرفة: فالهبيت لا فؤاد له * والثبيت قلبه قيمه وكما وصف الجبان بأنه لا فؤاد له، وأنه يراعة، وأنه مجوف، كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه، وإقامة الحجة عليه، بأنه مختوم على قلبه، ومطبوع عليه، وضيق صدره وقلبه في كنان وفي غلاف، وهذا من كلام الشيخ أبي علي الفارسي، وإنما قال: ختم الله وطبع الله، لأن ذلك كان لعصيانهم الله تعالى، فجاز ذلك اللفظ كما يقال: أهلكته فلانة: إذا أعجب بها، وهي لا تفعل به شيئا، لأنه هلك في اتباعها. سؤال: إن قيل لم خص هذه الأعضاء بالذكر ؟ فالجواب: قيل إنها طرق العلم، فالقلب محل العلم، وطريقه إما السماع أو الرؤية. (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8)). اللغة: الناس والبشر والأنس نظائر: وهي الجماعة من الحيوان المتميزة
[ 98 ]
بالصورة الإنسانية، وأصله أناس من الإنس، ووزنه فعال، فأسقطت الهمزة منها لكثرة الإستعمال إذا دخلها الألف واللام للتعريف، ثم أدغمت لام التعريف في النون كما قيل لكنا، والأصل لكن أنا. وقيل: الناس مأخوذة من النوس: وهو الحركة، وتصغيره نويس، ووزنه فعل. وقيل: أخذ من الظهور، فسمي ناسا وإنسانا، لظهوره، وإدراك البصر إياه، يقال: آنست ببصري شيئا. وقال الله سبحانه (إني آنست نارا) والإنسان واحد، والناس جمعه. لا من لفظه. وقيل: أخذ من النسيان لقوله تعالى: (فنسي ولم نجد له عزما). وأصل الإنسان انسيان، ولذلك قيل في تحقيره وتصغيره انيسيان، فرد إلى الأصل. و (اليوم الآخر): يوم القيامة، وإنما سمي آخرا، لأنه يوم لا يوم بعده سواه، إذ ليس بعده ليلة. وقيل: لأنه متأخر عن أيام الدنيا، وإنما فتح نون من عند التقاء الساكنين استثقالا لتوالي الكسرتين، لو قلت من الناس، فأما عن الناس فلا يجوز فيه إلا الكسر، لأن أول عن مفتوح ومن يقول النون تدغم في الياء، فمنهم من يدغم بغنة، ومنهم من يدغم بغير غنة. الاعراب: (من يقول): موصول وصلة، وهو مرفوع بالإبتداء، أو بالظرف على ما تقدم بيانه. وقوله: (آمنا بالله وباليوم الآخر) حديث يتعلق بقوله (يقول) وما: حرف شبه بليس من حيث يدخل على المبتدأ والخبر، كما يدخل ليس عليهما. وفيه نفي الحال، كما في ليس فأجري مجراه في العمل في قول أهل الحجاز على ما جاء به التنزيل. و (هم) مرفوع لأنه اسم (ما) والباء في قوله (بمؤمنين): مزيدة، دخلت توكيدا للنفي، وهو حرف جار. ومؤمنين: مجرور به. و (بمؤمنين): في موضع نصب بكونه خبر (ما) ولفظة (من) تقع على الواحد والإثنين والجمع، والمذكر والمؤنث، ولذلك عاد الذكر إليه مجموعا على المعنى، ومنه قول الفرزدق: تعال فإن عاهدتني لا تخونني * نكن مثل من يا ذئب يصطحبان فثني الضمير العائد إلى من على المعنى. النزول: نزلت في المنافقين، وهم عبد الله بن أبي بن سلول، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وأصحابهم، وأكثرهم من اليهود. المعنى: بين الله تعالى حالهم فأخبر سبحانه أنهم يقولون صدقنا بالله،
[ 99 ]
وما أنزل على رسوله من ذكر البعث، فيظهرون كلمة الإيمان، وكان قصدهم أن يطلعوا على أسرار المسلمين فينقلوها إلى الكفار، أو تقريب الرسول إياهم، كما كان يقرب المؤمنين. ثم نفى عنهم الإيمان، فقال: (وما هم بمؤمنين) وفي هذا تكذيبهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث، فبين أن ما قالوه بلسانهم مخالف لما في قلوبهم، وهذا يدل على فساد قول من يقول: الإيمان مجرد القول. (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (9)). القراءة: قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: (وما يخادعون إلا أنفسهم). والباقون: (وما يخدعون). الحجة: حجة من قرأ (يخدعون) أن فعل هنا أليق بالموضع في فاعل الذي هو في أكثر الأمر يكون لفاعلين، ويدل عليه قوله في الآية الاخرى (يخادعون الله وهو خادعهم). وحجة من قرأ (يخادعون): هو أن ينزل ما يخطر بباله من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك ويعاوضه إياه، فيكون الفعل كأنه من اثنين، فيلزم أن يقول فاعل كقول الكميت وذكر حمارا أراد الورود: يذكر من أنى، ومن أين شربه * يؤامر نفسيه كذي الهجمة الإبل فجعل ما يكون منه من وروده الماء، أو تركه الورود، والتمثيل بينهما بمنزلة نفسين. اللغة: أصل الخدع: الاخفاء والإبهام بخلاف الحق والتزوير يقال: خدعت الرجل أخدعه خدعا بالكسر وخديعة. وقالوا: إنك لأخدع من ضب حرشته. وخادعت فلانا فخدعته. والنفس في الكلام على ثلاثة أوجه: النفس بمعنى الروح، والنفس بمعنى التأكيد، تقول: جاءني زيد نفسه. والنفس بمعنى الذات وهو الأصل. ويقال النفس غير الروح، ويقال هما اسمان بمعنى واحد. ويشعرون: يعلمون. وأصل الشعر الإحساس بالشئ من جهة تدق، ومن هذا اشتقاق الشعر، لأن الشاعر يفطن لما يدق من المعنى، والوزن، ولا يوصف الله تعالى بأنه يشعر لما فيه من معنى التلطف والتخيل.
[ 100 ]
الاعراب: (يخادعون): فعل وفاعل، والنون علامة الرفع. والجملة في موضع نصب بكونها حالا، وذو الحال الضمير الذي في قوله (آمنا) العائد إلى من و (الله) نصب ب‍ (يخادعون) (والذين آمنوا): عطف، وما: نفي. وإلا: إيجاب. وأنفسهم: نصب بأنه مفعول يخادعون الثانية. وما: نفي. ويشعرون: فعل وفاعل. وكل موضع يأتي فيه (الا) بعد نفي فهو إيجاب، ونقض للنفي. المعنى: معنى قوله (يخادعون الله) أي: يعملون عمل المخادع لأن الله تعالى لا يصح أن يخادعه من يعرفه، ويعلم أنه لا يخفى عليه خافية، وهذا كما تقول لمن يزين لنفسه ما يشوبه بالرياء في معاملته: ما أجهله يخادع الله، وهو أعلم به من نفسه أي: يعمل عمل المخادع. وهذا يكون من العارف، وغير العارف. وقيل: المعنى يخادعون رسول الله لأن طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذا كقوله تعالى: (وإن يريدوا أن يخدعوك) والمفاعلة قد تقع من واحد كقولهم عافاه الله، وعاقبت اللص، وطارقت النعل، فكذلك يخادعون، إنما هو من واحد فمعنى يخادعون: يظهرون غير ما في نفوسهم. وقوله (والذين آمنوا) أي: ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم قالوا آمنا، وهم غير مؤمنين، أو بمجالستهم ومخالطتهم إياهم، حتى يفشوا إليهم أسرارهم، فينقلوها إلى أعدائهم. والتقية أيضا تسمى خداعا، فكأنهم لما أظهروا الإسلام، وأبطنوا الكفر، صارت تقيتهم خداعا من حيث إنهم نجوا بها من إجراء حكم الكفر عليهم. ومعنى قوله (وما يخدعون إلا أنفسهم): إنهم وإن كانوا يخادعون المؤمنين في الظاهر، فهم يخادعون أنفسهم، لأنهم يظهرون لها بذلك أنهم يعطونها ما تمنت، وهم يوردونها به العذاب الشديد، فوبال خداعهم راجع إلى أنفسهم. (وما يشعرون) أي: ما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب، فهم في الحقيقة إنما خدعوا أنفسهم، كما لو قاتل انسان غيره فقتل نفسه، جاز أن يقال إنه قاتل فلانا ولم يقتل إلا نفسه وقوله (وما يشعرون): يدل على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه تعالى أخبر عنهم بالنفاق، وبأنهم لا يعلمون ذلك. (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا
[ 101 ]
يكذبون (10)). القراءة: قرأ ابن عامر، وحمزة: (فزادهم الله) بإمالة الزاي، وكذلك شاء وجاء. وقرأ أهل الكوفة: (يكذبون) بفتح الياء مخففا. والباقون: (يكذبون). الحجة: حجة من أمال الألف من زاد أنه يريد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء، كما أبدلوا من الضمة كسرة في عين وبيض جمع أعين وأبيض (1)، لتصح الياء، ولا تقلب إلى الواو. وحجة من قرأ (يكذبون) أن يقول إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة وما بعدها، لأن قولهم (آمنا بالله) كذب منهم، فلهم عذاب أليم بكذبهم. وما وصلته بمعنى المصدر. وفي قولهم فيما بعد (إذا خلوا إلى شياطينهم إنا معكم) دلالة أيضا على كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم. وإذا كان أشبه بما قبله، وما بعده، كان أولى. وحجة من قرأ (يكذبون) بالتشديد قوله: (ولقد كذبت رسل)، وقوله: (وإن كذبوك فقل لي عملي)، وقوله: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) ونحو ذلك. والتكذيب أكثر من الكذب، لأن كل من كذب صادقا فقد كذب، وليس كل من كذب مكذبا. فكأنه قال: ولهم عذاب أليم بتكذيبهم. وأدخل كان ليدل على أن ذلك كان فيما مضى. اللغة: المرض: العلة في البدن، ونقيضه الصحة. قال سيبويه: أمرضته: جعلته مريضا. ومرضته: قمت عليه ووليته. وزاد فعل يتعدى إلى مفعولين. قال الله تعالى (وزدناهم هدى) (وزاده بسطة) ومصدره الزيادة والزيد. قال: " كذلك زيد المرء بعد انتقاصه " والأليم: الموجع فعيل بمعنى مفعل كالسميع بمعنى السميع، والنذير بمعنى المنذر، والبديع بمعنى المبدع. قال ذو الرمة: " يصك وجوهها وهج أليم " والكذب: ضد الصدق، وهو الإخبار عن الشئ لا على ما هو به. والكذب: ضرب من القول وهو نطق. فإذا جاز في القول أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو قوله (2) " قد (1) على صيغة أفعل التعجب. (2) قائله: أبو النجم العجلي. والانساع: جمع النسع بكسر النون، وهو سير أو حبل عريض طويل تشد به الرحال. (*)
[ 102 ]
قالت الأنساع للبطن الحقي "، جاز أيضا في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله (1): وذبيانية وصت بنيها * بأن كذب القراطف، والقروف فيكون في ذلك انتفاء لها، كما أنه إذا أخبر عن الشئ بخلاف ما هو به، كان فيه انتفاء للصدق أي: كذب القراطف، فأوجدوها بالغارة. المعنى: (في قلوبهم مرض) المراد بالمرض في الآية الشك والنفاق بلا خلاف، وإنما سمي الشك في الدين مرضا، لأن المرض: هو الخروج عن حد الإعتذال، فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويا، وكذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشك يكون صحيحا. وقل: أصل المرض الفتور، فهو في القلب فتوره عن الحق، كما أنه في البدن فتور الأعضاء. وتقدير الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الله ورسوله مرض أي: شك. حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقوله (فزادهم الله مرضا) قيل فيه وجوه أحدها: إن معناه ازدادوا شكا عندما زاد الله من البيان بالآيات والحجج، إلا أنه لما حصل ذلك عند فعله، نسب إليه كقوله تعالى في قصة نوح عليه السلام: (لم يزدهم دعائي إلا فرارا) لما ازدادوا فرارا عند دعاء نوح عليه السلام نسب إليه، وكذلك قوله (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) الآيات لم تزدهم رجسا، وإنما ازدادوا رجسا عندها وثانيها: ما قاله أبو علي الجبائي: إنه أراد في قلوبهم غم بنزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المدينة، وبتمكنه فيها، وظهور المسلمين وقوتهم، فزادهم الله غما بما زاده من التمكن والقوة، وأمده به من التأييد والنصرة وثالثها: ما قاله السدي: إن معناه زادتهم عداوة الله مرضا، وهذا في حذف المضاف مثل قوله تعالى (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) أي من ترك ذكر الله ورابعها: إن المراد في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم ومخازيهم، فزادهم الله مرضا بأن زاد في إظهار مقابحهم ومساويهم، والإخبار عن خبث سرائرهم، وسوء ضمائرهم. وسمي الغم مرضا: لأنه يضيق الصدر كما يضيقه المرض وخامسها: ما قاله أبو مسلم الإصفهاني: إن ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقوله تعالى (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم) فكأنه دعاء عليهم، بأن يخليهم الله وما اختاروه، ولا يعطيهم من زيادة التوفيق والإلطاف ما (1) القائل: معقر بن حمار البارقي. (*)
[ 103 ]
يعطي المؤمنين، فيكون خذلانا لهم، وهو في الحقيقة إخبار عن خذلان الله إياهم، وإن خرج في اللفظ مخرج الدعاء عليهم. ثم قال (ولهم عذاب أليم): وهو عذاب النار (بما كانوا يكذبون) أي: بتكذيبهم الله ورسوله فيما جاء به من الدين، أو بكذبهم في قولهم (آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين). (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12)). القراءة: قرأ الكسائي: قيل وغيض وسئ وسيئت وحيل وسيق وجئ، بضم أوائل ذلك كله. وروي عن يعقوب مثل ذلك، ووافقهما نافع في سئ وسيئت، وابن عامر فيهما وفي حيل وسيق. والباقون يكسرون كلها. الحجة: في هذه كلها (1) ثلاث لغات: الكسر، وإشمام الضم، وقول بالواو. فأما قيل بالكسر: فعلى نقل حركة العين إلى الفاء، لأن أصله قول، ثم قلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها، وهو قياس مطرد في كل ما اعتلت عينه. وأما الإشمام: فلأجل الدلالة على الأصل مع التخفيف. اللغة: الإفساد: إحداث الفساد، وهو كل ما تغير عن استقامة الحال. والصلاح: نقيض الفساد. والأرض: مستقر الحيوان، ويقال لقوائم الفرس أرض لأنه يستقر عليها. قال (2): إذا ما استحمت أرضه من سمائه * جرى وهو مودوع، وواعد مصدق الاعراب: (إذا): لفظة وضعت للوقت بشرط أن يكون ظرفا زمانيا، وفيها معنى الشرط. وإنما يعمل فيها جوابها. ففي هذه الآية إذا: في محل نصب، لأنه ظرف. قالوا: لأنه الجواب. ولا يجوز أن يعمل فيه (قيل لهم) لأن إذا في التقدير مضاف إلى قيل، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، وكذلك قوله: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا). وإذا: مبني وإنما بني لتضمنه معنى في، ولزومه إياه. وقد يكون (إذا) ظرفا مكانيا في نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوف أي: ففي المكان الناس وقوف. ويجوز أن ينصب (1) [ الكلمات ]. (2) قائله: خفاف بن ندبة السلمي. (*)
[ 104 ]
وقوفا على الحال، لأن ظرف المكان يجوز أن يكون خبرا عن الجثة. وقيل: مبني على الفتح. وكذلك كل فعل ماض فمبني على الفتح. و (لا): حرف نهي، وهي تعمل الجزم في الفعل: و (تفسدوا): مجزوم بلا، وعلامة الجزم فيه سقوط النون. والواو: ضمير الفاعلين. وما في قوله (إنما): كافة كفت إن عن العمل، فعاد ما بعدها إلى ما كان عليه في الأصل من كونه مبتدأ وخبرا، وهو قوله (نحن مصلحون): فنحن: مبتدأ، ومصلحون: خبره. وموضع الجملة نصب ب‍ (قالوا)، كما تقول: قلت حقا أو باطلا. و (نحن): مبنية لمشابهتها للحروف، وبنيت على الضم، لأنها من ضمائر الرفع، والضمة علامة الرفع لأنها ضمير الجمع، والضمة بعض الواو، والواو علامة الجمع في نحو ضاربون ويضربون. وقوله (تفسدوا في الأرض): جملة في موضع رفع على تقدير قيل لهم شئ، فهي اسم ما لم يسم (1). وقوله (ألا): كلمة تنبيه وافتتاح للكلام، تدخل على كل كلام مكتف بنفسه نحو قوله (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله) وأصله (لا) دخل عليه ألف الإستفهام. والألف إذا دخل على الجحد أخرجه إلى معنى التقرير والتحقيق، كقوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)، لأنه لا يجوز للمجيب إلا الإقرار ببلى. وهم: في (إنهم) في موضع نصب بإن. و (هم) الآخر: يجوز أن يكون فصلا على ما فسرناه قبل، ويجوز أن يكون مبتدأ. و (المفسدون) خبره، والجملة خبر إن. وضم الميم من (هم) لالتقاء الساكنين ردوه إلى الأصل. النزول: الآية نزلت في المنافقين الذين نزلت فيهم الآيات المتقدمة. وروي عن سلمان، رضي الله عنه، أن أهل هذه الصفة لم يأتوا بعد. والأول يقتضيه نظم الكلام. ويجوز أن يراد بها من صورتهم صورة هؤلاء، فيكون قول سلمان محمولا على أنه أراد بعد انقراض المنافقين الذين تناولتهم الآية. المعنى: المراد: (وإذا قيل) للمنافقين (لا تفسدوا في الأرض) بعمل المعاصي، وصد الناس عن الإيمان، على ما روي عن ابن عباس، أو بممالأة (2) الكفار، فإن فيه توهين الإسلام على ما قاله أبو علي، أو بتغيير (1) [ فاعله ]. (2) الممالأة: المساعدة. (*)
[ 105 ]
الملة، وتحريف الكتاب على ما قاله الضحاك. (قالوا إنما نحن مصلحون): وهو يحتمل أمرين أحدهما: إن الذي يسمونه فسادا هو عندنا صلاح، لأنا إنما نفعل ذلك كي نسلم من الفريقين. والآخر: إنهم جحدوا ذلك، وقالوا. إنا لا نعمل بالمعاصي، ولا نمالئ الكفار، ولا نحرف الكتاب، وكان ذلك نفاقا منهم، كما قالوا (آمنا بالله) ولم يؤمنوا. ثم قال (ألا إنهم) أي: إعلموا أن هؤلاء المنافقين الذين يعدون الفساد صلاحا (هم المفسدون) وهذا تكذيب من الله تعالى لهم. (ولكن لا يشعرون) أي: لا يعلمون أن ما يفعلونه فساد، وليس بصلاح، ولو علموا ذلك لرجي صلاحهم. وقيل: لا يعلمون ما يستحقونه من العقاب. وهذه الآية تدل على بطلان مذهب أصحاب المعارف، لقوله (لا يعلمون) وإنما جاز تكليفهم، وإن لم يشعروا أنهم على ضلال، لأن لهم طريقا إلى العلم بذلك. (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13)). القراءة: السفهاء: أهل الكوفة وابن عامر حققوا الهمزتين. وأهل الحجاز، وأبو عمرو همزوا الأولى، ولينوا الثانية، وكذا كل همزتين مختلفتين من كلمتين. وقد ذكرنا الوجه فيها حيث ذكرنا اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة وهو قوله: (أنذرتهم). اللغة: السفهاء: جمع سفيه. والسفيه: الضعيف الرأي الجاهل، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار، ولذلك سمى الله الصبيان والنساء سفهاء بقوله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما). وقال قطرب: السفيه العجول الظلوم، القائل خلاف الحق. وقال مؤرج: السفيه الكذاب البهات، المتعمد بخلاف ما يعلم. وقيل: السفه خفة الحلم، وكثرة الجهل، يقال: ثوب سفيه: إذا كان رقيقا باليا. وسفهته الرياح أي: طيرته. وقد جاء في الأخبار: إن شارب الخمر سفيه. والألف واللام في الناس، وفي السفهاء، للعهد، لا للجنس، والمراد بهم المؤمنون من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما سموا الناس لأن الغلبة كانت لهم.
[ 106 ]
الاعراب: قوله (كما آمن): الكاف في موضع نصب بكونه صفة لمصدر محذوف. وما مع صلته بمعنى المصدر أي: آمنوا إيمانا مثل إيمان الناس، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه. والهمزة في (أنؤمن) للإنكار، وأصلها الإستفهام. ومثله: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه). وإذا: ظرف لقوله (قالوا أنؤمن) وقد مض الكلام فيه. المعنى: المراد بالآية: وإذا قيل للمنافقين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما أنزل عليه، كما صدقه أصحابه. وقيل: كما صدق عبد الله بن سلام، ومن آمن معه من اليهود، قالوا أنصدق كما صدق الجهال. ثم كذبهم الله تعالى، وحكم عليهم بأنهم هم الجهال في الحقيقة، لأن الجاهل إنما يسمى سفيها، لأنه يضيع من حيث يرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق، يعصي ربه من حيث يظن أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يظن أنه يؤمن به. (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون (14)). القراءة: بعض القراء ترك الهمزة من (مستهزؤون). وقوله (خلوا إلى) قراءة أهل الحجاز خلولى، حذفوا الهمزة وألقوا حركتها على الواو قبلها، وكذلك أمثاله. والباقون أسكنوا الواو وحققوا الهمزة. الحجة: قال سيبويه: الهمزة المضمومة المكسور ما قبلها، تجعلها إذا خففتها بين بين، وكذلك الهمزة المكسورة إذا كان ما قبلها مضموما، نحو: مرتع إبلك، تجعلها بين بين. وذهب الأخفش إلى أن تقلب الهمزة ياء في مستهزيون قلبا صحيحا، من أجل الكسرة التي قبلها، ولا تجعلها بين بين، ولا تقلبها واوا مع تحركها بالضمة، لخروجه إلى ما لا نظير له. ألا ترى أنه واو مضمومة قبلها كسرة، وذلك مرفوض عندهم. اللغة: اللقاء: نقيض الحجاب. قال الخليل: كل شئ استقبل شيئا أو صادفه فقد لقيه. وأصل اللقاء: الإجتماع مع الشئ على طريق المقاربة، والإجتماع قد يكون لا على طريق المجاورة كاجتماع العرضين في محل. والخلاء: نقيض الملاء. ويقال: خلوت إليه، وخلوت معه. ويقال: خلوت
[ 107 ]
به على ضربين أحدهما: بمعنى خلوت معه، والآخر: بمعنى سخرت منه. وقد ذكرنا معنى الشيطان في مفتتح سورة الفاتحة. ويستهزئون أي: يهزءون، ومثله يستسخرون أي: يسخرون. وقر واستقر وعلا قرنه، واستعلى قرنه، ورجل هزاءة يهزأ بالناس وهزءة يهزأ به الناس، وهذا قياس. الاعراب: (إنا): أصله إننا، لكن النون حذفت لكثرة النونات، والمحذوفة النون الثانية من إن، لأنها التي تحذف في نحو: (وإن كل لما جميع) وقد جاء على الأصل في قوله (إنني معكما ومعكم) انتصب انتصاب الظروف نحو: إنا خلفكم أي: إنا مستقرون معكم. والقراءة بفتح العين، ويجوز للشاعر (1) إسكان العين قال: وريشي منكم، وهواي معكم، * وإن كانت زيارتكم لماما المعنى: (وإذا لقوا الذين آمنوا) يعني إن المنافقين إذا رأوا المؤمنين (قالوا آمنا) أي: صدقنا نحن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما صدقتم أنتم. (وإذا خلوا إلى شياطينهم) قيل: رؤساؤهم من الكفار، عن ابن عباس. وقيل: هم اليهود الذين أمروهم بالتكذيب. وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: إنهم كهانهم (قالوا إنا معكم) أي: على دينكم (إنما نحن مستهزئون) أي: نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونسخر بهم في قولنا آمنا. (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15)). اللغة: المد: أصله الزيادة في الشئ. والمد: الجذب، لأنه سبب الزيادة في الطول. والمادة: كل شئ يكون مددا لغيره. وقال بعضهم: كل زيادة حدثت في الشئ من نفسه: فهو مددت بغير ألف، كما تقول مد النهر، ومده نهر آخر. وكل زيادة أحدثت في الشئ من غيره فهو: أمددت بالألف، كما يقال: أمد الجرح، لأن المدة من غير الجرح، وأمددت الجيش. والطغيان: من قولك طغى الماء يطغى: إذا تجاوز الحد. والطاغية: الجبار العنيد. والعمه: التحير، يقال: عمه يعمه فهو عمه وعامه. قال رؤبة: (1) قائله: جرير: يمدح هشام بن عبد الملك. (*)
[ 108 ]
ومهمه أطرافه في مهمه * أعمى الهدى بالحائرين العمه الاعراب: (يعمهون) جملة في موضع الحال. المعنى: قيل في معنى الآية وتأويلها وجوه أحدها: أن يكون معنى (الله يستهزئ بهم) يجازيهم على استهزائهم. والعرب تسمي الجزاء على الفعل باسمه. وفي التنزيل (وجزاء سيئة سيئة مثلها)، (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به). وقال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا وإنما جاز ذلك لأن حكم الجزاء أن يكون على المساواة وثانيها: أن يكون معنى استهزاء الله تعالى بهم: تخطئته إياهم، وتجهيله لهم في إقامتهم على الكفر، وإصرارهم على الضلال. والعرب تقيم الشئ مقام ما يقاربه في معناه. قال الشاعر (1): إن دهرا يلف شملي بجمل * لزمان يهم بالإحسان وقال آخر: كم أناس في نعيم عمروا * في ذرى ملك تعالى فبسق سكت الدهر زمانا عنهم، * ثم أبكاهم دما حين نطق والدهر لا يوصف بالسكوت والنطق والهم، وإنما ذكر ذلك على الاستعارة والتشبيه. وثالثها: أن يكون معنى الاستهزاء المضاف إليه تعالى، أن يستدرجهم ويهلكهم من حيث لا يعلمون. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في معنى الإستدراج: إنهم كلما أحدثوا خطيئة، جدد الله لهم نعمة. وإنما سمي هذا الفعل استهزاء لأن ذلك في الظاهر نعمة، والمراد به استدراجهم إلى الهلاك والعقاب الذي استحقوه بما تقدم من كفرهم ورابعها: إن معنى استهزائه بهم: إنه جعل لهم بما أظهروه من موافقة أهل الإيمان ظاهر أحكامهم من الموارثة والمناكحة والمدافنة وغير ذلك من الأحكام، وإن كان قد أعد لهم في الآخرة أليم العقاب بما أبطنوه من النفاق، فهو سبحانه كالمستهزئ بهم من حيث جعل لهم أحكام المؤمنين ظاهرا، ثم (1) وهو حسان بن ثابت الأنصاري. جمل بالضم: إسم محبوبته. (*)
[ 109 ]
ميزهم منهم في الآخرة وخامسها: ما روي عن ابن عباس أنه قال: يفتح لهم وهم في النار باب من الجنة، فيقبلون من النار إليه مسرعين، حتى إذا انتهوا إليه سد عليهم، وفتح لهم باب آخر في موضع آخر، فيقبلون من النار إليه مسرعين، حتى إذا انتهوا إليه، سد عليهم، فيضحك المؤمنون منهم، فلذلك قال الله عز وجل: (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) وهذه الوجوه الذي ذكرناها يمكن أن تذكر في قوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله ويخادعون الله وهو خادعهم) وأما قوله و (يمدهم في طغيانهم يعمهون) ففيه وجهان: أحدهما: أن يريد أن يملي لهم ليؤمنوا، وهم مع ذلك متمسكون بطغيانهم، وعمههم، والآخر: إنه يريد أن يتركهم من فوائده ومنحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم، ويمنعها الكافرين عقابا لهم، كشرح الصدر وتنوير القلب، فهم في طغيانهم أي: كفرهم وضلالهم، يعمهون أي: يتحيرون، لأنهم قد أعرضوا عن الحق فتحيروا وترددوا. (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)). قرأ جميع القراء: (اشتروا الضلالة) بضم الواو. وفي الشواذ، عن يحيى بن يعمر أنه كسرها تشبيها بواو (لو) في قوله (لو استطعنا). وروي عن يحيى بن وثاب أنه ضم واو (لو) تشبيها بواو الجمع. الحجة: الواو في (اشتروا) ساكنة، فإذا سقطت همزة الوصل التقت مع الساكن المبدل من لام المعرفة، فالتقى ساكنان، فحرك الأول منهما لالتقائهما، وصار الضم أولى بها ليفصل بالضم بينها وبين واو " لو " و " أو ". يدل على ذلك اتفاقهم على التحريك بالضم في نحو قوله: لتبلون، ولترون الجحيم)، (ومصطفو الله) للدلالة على الجمع. ويدل على تقرير ذلك في هذه الواو، أنهم شبهوا بها الواو التي في أو ولو فحركوها بالضم تشبيها بها. فكما شبهوا الواو التي في أو بالتي تدل على الجمع، كذلك شبهوا هذه بها، فأجازوا فيها الكسر. ألا ترى أنهم أجازوا الضم في (لو استطعنا) تشبيها بالتي للجمع. ومثل هذا أجازتهم الجر في الضارب الرجل، تشبيها بالحسن الوجه،
[ 110 ]
وإجازتهم النصب في الحسن الوجه، تشبيها بالضارب الرجل. اللغة: حقيقة الإشتراء: الإستبدال. والعرب تقول لمن تمسك بشئ، وترك غيره: قد اشتراه، وليس ثم شراء ولا بيع. قال الشاعر (1): أخذت بالجمة رأسا إزعرا، * وبالثنايا الواضحات الدردرا وبالطويل العمر عمرا جيدرا * كما اشترى المسلم إذ تنصرا والربح: الزيادة على رأس المال، ومنه " ومن نجا برأسه فقد ربح ". والتجارة: التعرض للربح في البيع وقوله (فما ربحت تجارتهم) أي: فما ربحوا في تجارتهم. والعرب تقول: ربح بيعك وخسر بيعك وخاب بيعك (2) على معنى ربحت في بيعك. وإنما أضافوا الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فيها. الاعراب: (أولئك): موضعه رفع بالابتداء، وخبره (الذين اشتروا الضلالة بالهدى). و (ما): حرف نفي، وكان صورته صورة الفعل، ويستعمل على نحوين أحدهما: أن لا يدل على حدث بل يدل على زمان مجرد، مثل كان زيد قائما. فإذا استعمل على هذا، فلا بد له من خبر، لأن الجملة غير مكتفية بنفسها، فيزاد خبر حديثا عن الإسم، ويكون اسمه وخبره في الأصل مبتدأ وخبرا، فيجب لذلك أن يكون خبره هو الإسم، أو فيه ذكر منه، كما أن في الآية الواو في موضع الرفع، لأنه اسم كان. و (مهتدين): منصوب بأنه خبره، والياء فيه علامة النصب والجمع. وحرف الإعراب والنون عوض من الحركة. والتنوين في الواحد. وكان في الأصل مهتديين سكنت الياء الاولى التي هي لام الفعل، استثقالا للحركة عليها، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وفتحت النون فرقا بينها وبين نون التثنية. والآخر: من نحوي كان ما هو فعل حقيقي يدل على زمان وحدث، كقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة) أي: تحدث، فإذا استعمل هكذا فهي جملة مستقلة لا تحتاج إلى خبر. المعنى: أشار إلى من تقدم ذكرهم من المنافقين فقال: (أولئك الذين (1) هو أبو النجم العجلي. (2) وفي نسختين (خاب سعيك) مكان " خاب بيعك " وهو الظاهر. (*)
[ 111 ]
اشتروا الضلالة بالهدى) قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، ومعناه: استبدلوا الكفر بالإيمان. ومتى قيل: كيف قال ذلك وإنما كانوا منافقين، ولم يتقدم نفاقهم إيمانا ؟ فنقول: للعلماء فيه وجوه أحدها: إن المراد باشتروا استحبوا واختاروا، لأن كل مشتر مختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه، عن قتادة وثانيها: إنهم ولدوا على الفطرة، كما جاء في الخبر. فتركوا ذلك إلى الكفر، فكأنهم استبدلوه به وثالثها: إنهم استبدلوا بالإيمان الذي كانوا عليه قبل البعثة كفرا، لأنهم كانوا يبشرون بمحمد، ويؤمنون به صلى الله عليه وآله وسلم، فلما بعث كفروا به، فكأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان، عن الكلبي، ومقاتل. وقوله: (فما ربحت تجارتهم) أي: خسروا في استبدالهم الكفر بالإيمان، والعذاب بالثواب، وقوله: (وما كانوا مهتدين) أي: مصيبين في تجارتهم كأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: أراد سبحانه أن ينفي عنهم الربح والهداية، فإن التاجر قد يخسر ولا يربح، ويكون على هدى. فإن قيل: كيف قال فما ربحت تجارتهم في موضع ذهبت فيه رؤوس أموالهم ؟ فالجواب: إنه ذكر الضلالة والهدى، فكأنه قال طلبوا الربح فلم يربحوا وهلكوا. والمعنى فيه: إنه ذهبت رؤوس أموالهم. ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على التقابل، وهو أن الذين اشتروا الضلالة بالهدى لم يربحوا، كما أن الذين اشتروا الهدى بالضلالة ربحوا. (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)). اللغة: المثل والمثل، والشبه والشبه، نظائر. وحقيقة المثل ما جعل كالعلم على معنى سائر يشبه فيه الثاني بالأول، ومثاله قول كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا، وما مواعيده إلا الأباطيل فمواعيد عرقوب: علم في كل ما لا يصح من المواعيد. ومنه التمثال لأنه يشبه الصورة. والذي قد يوضع موضع الجمع كقوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به) ثم قال (أولئك هم المتقون) قال الشاعر (1): (1) هو أشهب بن زميلة لنهشلي. (*)
[ 112 ]
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد واستوقد: بمعنى أوقد، مثل استجاب بمعنى أجاب. وقيل: استوقد أي طلب الوقود. والوقود بفتح الواو: الحطب. والنار: جوهر مضئ حار محرق، وأصله من النور، يقال: نار وأنار واستنار بمعنى. والمنارات: العلامات. وأضاء يكون لازما ومتعديا، يقال أضاء الشئ بنفسه وأضاء غيره، والذي في الآية متعد. والترك للشئ، والكف عنه، والإمساك، نظائر. والظلمات: جمع ظلمة، وأصلها انتقاص الحق من قوله: (ولا تظلم منه شيئا) أي: لم تنقص، ومنه " ومن أشبه أباه فما ظلم " أي: ما انتقص حق الشبه. والإبصار: إدراك الشئ بحاسة البصر، يقال: أبصر بعينه والإبصار بالقلب مشبه به. الاعراب: (مثلهم): مبتدأ. و (كمثل الذي): خبره. والكاف زائدة، تقديره: مثلهم مثل الذي استوقد نارا. ونحوه قوله: (ليس كمثله) أي: ليس مثله شئ. و (استوقد نارا) وما اتصل به من صلة الذي. والعائد إلى الذي المضمر الذي في (استوقد) ولما: يدل على وقوع الشئ لوقوع غيره، وهو بمعنى الظرف. والعامل فيه جوابه، وتقديره فلما أضاءت ما حوله طفئت أي: طفئت حين أضاءت. و (ما) في قوله (ما حوله): اسم موصول منصوب بوقوع الإضاءة عليه. و (حوله): نصب على الظرف، وهو صلة (ما). يقال: هم حوله، وحوليه، وحواله، وحواليه. وقوله (ذهب الله بنورهم) أي: أذهب الله نورهم. والفعل الذي لا يتعدى، يتعدى إلى المفعول بحرف الجر، وبهمزة النقل. والباء في قوله (بنورهم): يتعلق ب‍ (ذهب). و (في ظلمات) يتعلق ب‍ " تركهم ". وقوله (لا يبصرون): في موضع نصب على الحال، والعامل فيه (تركهم) أي: تركهم غير مبصرين. المعنى: (مثلهم) أي: مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر " كمثل الذي استوقد نارا " أي: أوقد نارا، أو كمثل الذي طلب الضياء بإيقاد النار في ليلة مظلمة، فاستضاء بها واستدفأ، ورأى ما حوله فاتقى ما يحذر ويخاف، وأمن، فبينا هو كذلك إذ اطفئت ناره، فبقي مظلما خائفا متحيرا، كذلك المنافقون: لما أظهروا كلمة الإيمان، واستناروا بنورها،
[ 113 ]
واعتزوا بعزها، فناكحوا المسلمين ووارثوهم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، وبقوا في العذاب، وذلك معنى قوله (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) وهذا هو المروي، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي. وكان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ: فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره، ليشاكل جواب لما معنى هذه القضية، ولكن لما كان إطفاء هذه النار مثلا لإذهاب نورهم، أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء، وحذف جواب لما إيجازا واختصارا، لدلالة الكلام عليه، كما قال أبو ذؤيب: دعاني إليها القلب إني لأمره (1) * مطيع، فما أدري أرشد طلابها وتقديره: أرشد أم غي طلابها، فحذف للإيجاز. ومعنى إذهاب الله نورهم هو أن الله تعالى يسلبهم ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة، وذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم (انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا). وقيل: في معنى إذهاب نور المنافقين وجه آخر: وهو إطلاع الله المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله من كفرهم. وقال سعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، وعطا: الآية نزلت في اليهود، وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيمانهم به، واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به، وذلك أن قريظة والنضير وبني فينقاع، قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوة من بني إسرائيل، وأفضت إلى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بالنبوة وأن أمته خير الأمم، وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد الله بن هيبان، قبل أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كل سنة، فيحضهم على طاعة الله عز وجل، وإقامة التوراة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول: إذا خرج فلا تفرقوا عليه وانصروه، وقد كنت أطمع أن أدركه. ثم مات قبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقبلوا منه. ثم لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كفروا به، فضرب الله لهم هذا المثل. سؤال: كيف الله شبه المنافقين أو اليهود، وهم جماعة، بالذي استوقد نارا وهو واحد ؟ الجواب: على وجوه أحدها: إن " الذي " في معنى الجمع، كما قيل في (1) وفي جملة من النسخ. " عصاني إليها القلب إني لأمرها " (*).
[ 114 ]
الأية الأخرى " والذي جاء بالصدق وصدق به " وثانيها: أن يقال النون محذوفة من الذي كما جاء في قول الأخطل: أبني كليب إن عمي اللذا * قتلا الملوك، وفككا آلأغلالا وثالثها: أن يكون الكلام على حذف، كأنه قال: مثلهم كمثل أتباع الذي استوقد نارا، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه كما قال الجعدي: وكيف تواصل من أصبحت * خلالته كأبي مرحب يريد كخلالة أبي مرحب ورابعها: أن يقال: أراد بالمستوقد الجنس لما في (الذي) من الإبهام، إذ ليس يراد به تعريف واحد بعينه. وعلى هذا يكون جواب (لما أضاءت ما حوله) محذوفا، كأنه قال طفئت. والضمير في قوله (ذهب الله بنورهم) يعود إلى المنافقين. وخامسها: أن يقال هذا تشبيه الحال بالحال فتقديره حال هؤلاء المنافقين في جهلهم، كحال المستوقد نارا. وتشبيه الحال بالحال جائز، كما يقال بلادة هؤلاء كبلادة الحمار. ولو قلت هؤلاء كالحمار لم يجز. ومعنى قوله (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) معناه: لم يفعل الله لهم النور، إذ الترك: هو الكف عن الفعل بالفعل. وهذا إنما يصح فيمن حله فعله، والله سبحانه منزه عن أن يحله فعله، فمعناه: إنه لم يفعل لهم النور حتى صاروا في ظلمة أشد مما كان قبل الإيقاد. وقوله " لا يبصرون " أي: لا يبصرون الطريق. (صم بكم عمى فهم لا يرجعون (18)). اللغة: الأصم: هو الذي ولد كذلك، وكذلك الأبكم: هو الذي ولد أخرس. وأصل الصم: السد. والصمم: سد الأذن بما لا يقع منه سمع. وقناة صماء: صلبة مكتنزة الجوف لسد جوفها بامتلائها. وحجر اصم: صلب. وفتنة صماء: شديدة. والصمام: ما يسد به رأس القارورة. وأصل البكم: الإعتقال في اللسان. وهو آفة تمنع من الكلام. وأصل العمى: ذهاب الإدراك بالعين. والعمى في القلب مثل العمى في العين: آفة تمنع من الفهم. ويقال: ما أعماه، من عمى القلب. ولا يقال ذلك في العين، وإنما يقال: ما أشد عماه. وما جرى مجراه. والعماية: الغواية. والعماء: السحاب الكثيف المطبق. والرجوع: قد يكون عن الشئ، أو إلى الشئ.
[ 115 ]
فالرجوع عن الشئ: هو الإنصراف عنه بعد الذهاب إليه. والرجوع إلى الشئ: هو الإنصراف إليه بعد الذهاب عنه. الاعراب: (صم بكم عمي): رفع على خبر مبتدأ محذوف أي: هؤلاء الذين قصتهم هذه صم بكم عمي. المعنى: قال قتادة (صم) لا يسمعون الحق (بكم) لا ينطقون به " عمي " لا يبصرونه " فهم لا يرجعون " عن ضلالتهم، ولا يتوبون. وإنما شبههم الله بالصم، لأنهم لم يحسنوا الإصغاء إلى أدلة الله تعالى، فكأنهم صم. وإذا لم يقروا بالله وبرسوله فكأنهم بكم. وإذا لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض فكأنهم عمي. لما لم تصل إليهم منفعة هذه الأعضاء فكأنهم ليس لهم هذه الأعضاء. وهذا يدل على أن معنى الختم والطبع ليس على وجه الحيلولة بينهم وبين الإيمان، لأنه جعل الفهم بالكفر، واستثقالهم للحق، بمنزلة الصمم والبكم والعمي، مع صحة حواسهم. وكذلك قوله: طبع الله على قلوبهم واضلهم واصمهم واعمى أبصارهم وأزاغ الله قلوبهم، فإن جميع ذلك إخبار عما أحدثوه عند امتحان الله إياهم، وأمره لهم بالطاعة والإيمان، لا إنه فعل بهم ما منعهم به عن الإيمان، وهذا كما قيل في المثل: " حبك الشئ يعمي ويصم " قال مسكين الدارمي: أعمى إذا ما جارتي خرجت * حتى يواري جارتي الخدر وتصم عما كان بينهما * أذني، وما في سمعها وقر وفي التنزيل: (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) وقوله (فهم لا يرجعون) يحتمل أمرين أحدهما: إنه على الذم والاستبطاء، عن ابن عباس. والثاني: إنهم لا يرجعون إلى الإسلام، عن ابن مسعود. (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19)). القراءة: ظلمات: أجمع القراء على ضم اللام منه على الاتباع، وروي في الشواذ، عن الحسن، وأبي السماك: بسكون اللام، وعن بعضهم: بفتح
[ 116 ]
اللام. وأبو عمرو: يميل الكاف من الكافرين في موضع (1) الخفض والنصب، وروي ذلك عن الكسائي. والباقون: لا يميلون. الحجة: الوجه في ذلك أنهم كرهوا اجتماع الضمتين، فتارة عدلوا إلى الفتح، فقالوا: ظلمات. وتارة عدلوا إلى السكون، فقالوا: ظلمات. وكلا الأمرين حسن في اللغة. وإنما أمالوا الكاف من الكافرين للزوم كسرة الراء بعد الفاء المكسورة. والراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين المكسورين. وكلما كثرت الكسرات، غلبت الإمالة وحسنتها. وللقراء في الإمالة مذاهب واختلافات يطول استقصاؤها. وأبو علي الفارسي رحمه الله قد بلغ الغاية، وجاوز النهاية في احتجاجاتهم، وذكر من التحقيق فيها، والتدقيق، ما ينبو عنه فهم كثير من علماء الزمان. فالتعمق في إيراد أبوابها وحججها، والغوص إلى لججها، لا يليق بتفسير القرآن، وكذلك ما يتعلق بفن القراءة من علوم الهمزة والإدغام والمد، فإن لذلك كتبا مؤلفة يرجع إليها ويعول عليها. فالرأي أن نلم بأطرافها، ونقتصر على بعض أوصافها، فيما يأتي من الكتاب إن شاء الله تعالى. اللغة: الصيب: المطر أصلة صيوب فيعل من الصواب، لكن اجتمعت الواو والياء وأولاهما ساكنة، فصارتا ياء مشددة، ومثله سيد وجيد. والسماء: المعروف وكل ما علاك وأظلك فهو سماء. وسماء البيت: سقفه. وأصابهم سماء أي: مطر. وأصله سماو من سموت، فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة. وجعل: يكون على وجوه أحدها: أن يتعدى إلى مفعولين، نحو: جعلت الطين خزفا أي: صيرت وثانيها: أن يأتي بمعنى صنع يتعدى إلى مفعول واحد نحو قوله (وجعل الظلمات والنور) وثالثها: أن يأتي بمعنى التسمية كقوله تعالى: (وجعلوا لله أندادا) أي: سموا له ورابعها: أن يأتي بمعنى أفعال المقاربة، نحو: جعل زيد يفعل كذا. والصواعق: جمع صاعقة. وهي الوقع الشديد من السحاب يسقط معه نار تحرق. والصاعقة: صيحة العذاب. والحذر: طلب السلامة مما يخاف. الاعراب: (أو): ههنا للإباحة. إذا قيل لك: جالس الفقهاء أو (1) [ في الموضعين ] (*).
[ 117 ]
المحدثين، فكلا الفريقين أهل أن يجالس، فإن جالست أحدهما فأنت مطيع، وإن جالست الآخر فأنت مطيع، وإن جالستهما فأنت مطيع. فكذلك ههنا إن مثلت المنافقين بالمستوقد كنت مصيبا، وإن مثلتهم بأصحاب الصيب فأنت مصيب، وإن مثلتهم بكلا الفريقين فأنت مصيب. وتقديره أو كأصحاب صيب، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، لأن هذا عطف على قوله (كمثل الذي استوقد نارا) والصيب: ليس بعاقل، فلا يعطف على العاقل. و " يجعلون ": في موضع الحال من أصحاب الصيب. وقوله " فيه ظلمات ": جملة في موضع الجر بأنها صفة صيب. والضمير المتصل بفي عائد إلى صيب، أو إلى السماء. و " حذر الموت ": منصوب بانه مفعول له لأن المعنى يفعلون ذلك لحذر الموت. قال الزجاج: وإنما نصبه الفعل لأنه في تأويل مصدره، لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم يدل على حذرهم الموت. قال الشيخ أبو علي: المفعول له لا يكون إلا مصدرا، لأنه يدل على أنه فعل لأجل ذلك الحدث، والحدث مصدر لكنه ليس مصدرا عن هذا الفعل، بل عن فعل آخر. المعنى: مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم وشدة تحيرهم " كصيب " أي: كأصحاب مطر " من السماء " أي: منزل من السماء (فيه) أي: في هذا المطر أو في السماء، لأن المراد بالسماء: السحاب، فهو مذكر " ظلمات " لأن السحاب يغشي الشمس بالنهار، والنجوم بالليل، فيظلم الجو " ورعد " قيل: إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب. وقيل: الرعد هو ملك موكل بالسحاب يسبح، روي ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وهو المروي عن ائمتنا عليهم السلام، وقيل: هو ريح تختنق تحت السماء، رواه أبو الجلد، عن ابن عباس. وقيل: هو صوت اصطكاك اجرام السحاب. ومن قال إنه ملك قدر فيه صوت، كأنه قال فيه ظلمات، وصوت رعد، لأنه روي أنه يزعق الراعي بغنمه. وقوله: " وبرق " قيل: إنه مخاريق الملائكة من حديد، تضرب به السحاب، فتنقدح عنه النار، عن علي عليه السلام. وقيل: إنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب، عن ابن عباس. وقيل: هو مصع ملك عن مجاهد، والمصاع: المجالدة بالسيوف وغيرها. قال الأعشى: إذا هن نازلن أقرانهن * كان المصاع بما في الجؤن
[ 118 ]
وقيل: إنه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام. وفي تأويل الآية، وتشبيه المثل، أقوال أحدها: إنه شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر، وما فيه من البرق بما فيه من البيان، وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا، والدعاء إلى الجهاد عاجلا، عن ابن عباس وثانيها: إنه مثل للدنيا. شبه ما فيها من الشدة والرخاء بالصيب الذي يجمع نفعا وضررا، وإن المنافق يدفع عاجل الضرر، ولا يطلب آجل النفع وثالثها: إنه مثل للإسلام لأن فيه الحياة كما في الغيث الحياة، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر، وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد، وخوف القتل وبما يخافونه من وعيد الآخرة، لشكهم في دينهم، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم، وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. ويقوي ذلك ما روي عن الحسن أنه قال: مثل إسلام المنافق كصيب هذا وصفه. ورابعها: ما روي عن ابن مسعود، وجماعة من الصحابة: إن رجلين من المنافقين، من أهل المدينة، هربا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، وكلما أضاء لهما الصواعق، جعلا أصابعهما في آذانهما، مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، فأقاما فجعلا يقولان: يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا، فنضع أيدينا في يديه، فأصبحا فأتياه فأسلما، وحسن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة، وأنهم إذا حضروا النبي، جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل فيهم شئ، كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وكلما أضاء لهم مشوا فيه: يعني إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة، أو فتحا، مشوا فيه، وقالوا: دين محمد صحيح. وإذا أظلم عليهم قاموا: يعني إذا هلكت أموالهم، وأصابهم البلاء، قالوا: هذا من أجل دين محمد، فارتدوا. كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما، وقوله (والله محيط بالكافرين) يحتمل وجوها: أحدها: إنه عالم بهم، فيعلم سرائرهم، ويطلع نبيه على ضمائرهم، عن الأصم. وثانيها: إنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته. قال الشاعر:
[ 119 ]
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا * بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم أي: قدرنا عليهم وثالثها: ما روي عن مجاهد: إنه جامعهم يوم القيامة، يقال أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شئ، ومنه: (أحاط بكل شئ علما) أي: لم يشذ عن علمه شئ ورابعها: إنه مهلكهم، يقال: أحيط بفلان فهو محاط به: إذ دنا هلاكه. قال سبحانه " وأحيط بثمره " أي: أصابه ما أهلكه. وقوله: (إلا أن يحاط بكم) معناه: أن تهلكوا جميعا. (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير (20)) اللغة: الخطف: أخذ في استلاب، يقال: خطف يخطف، وخطف يخطف، لغتان، والثاني أفصح، وعليه القراءة، ومنه الخطاف. ويقال للذي يخرج به الدلو من البئر خطاف لاختطافه قال النابغة: خطاطيف حجن في حبال متينة * تمد بها أيد إليك نوازع وقاموا أي: وقفوا. والمشيئة: الإرادة. والشئ: ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. قال سيبويه: هو أول الأسماء وأعمها وأبهمها، لأنه يقع على المعدوم والموجود. وقيل: إنه لا يقع إلا على الموجود. والصحيح الأول، وهو مذهب المحققين من المتكلمين، ويؤيده قوله تعالى في هذه الآية: (إن الله على كل شئ قدير) فإن كل شئ سواه محدث، وكل محدث فله حالتان: حالة عدم، وحالة وجود. وإذا وجد خرج عن أن يكون مقدورا للقادر، لأن من المعلوم ضرورة أن الموجود لا يصح أن يوجد، فعلمنا أنه إنما يقدر عليه في حال عدمه، ليخرجه من العدم إلى الوجود، وعلى هذه المسألة يدور أكثر مسائل التوحيد. الاعراب: كاد من أفعال المقاربة، ولا يتم بالفاعل، ويحتاج إلى خبر، وخبره الفعل المضارع فقوله " يكاد " فعل، و " البرق " مرفوع بأنه اسم " يكاد "، وفاعله. و " يخطف أبصارهم ": في موضع نصب بأنه خبر " يكاد ". و (كلما): أصله كل، وضم إليه ما الجزاء، وهو منصوب بالظرف، والعامل فيه (أضاء) ومعناه: متى ما أضاء لهم مشوا فيه.
[ 120 ]
و " أضاء ": في موضع جزم بالشرط. و " مشوا ": في موضع الجزاء. و (إذا أظلم): قد تقدم اعراب مثله " ولو " حرف معناه: امتناع الشئ لامتناع غيره، وإذا وقع الفعل بعده وهو منفي كان مثبتا في المعنى. وإذا وقع مثبتا كان منفيا في المعنى فقوله (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) قد انتفى فيه ذهاب السمع والابصار بسب انتفاء المشيئة. المعنى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) المراد يكاد ما في القرآن من الحجج النيرة، يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر في امور دينهم، كما أن البرق يكاد يخطف أبصار أولئك، (كلما أضاء لهم مشوا فيه) لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق، كذلك المنافقون كلما دعوا إلى خير وغنيمة، أسرعوا، وإذا وردت شدة على المسلمين تحيروا لكفرهم، ووفقوا كما وقف أولئك في الظمات متحيرين. وقيل: إذا آمنوا صار الإيمان لهم نورا، فإذا ماتوا عادوا إلى ظلمة العقاب. وقيل: هم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا: هذا الذي بشر به موسى، فلما نكبوا بالحد وقفوا وشكوا. وقوله: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) إنما خص السمع والبصر بالذكر، لما جرى من ذكرهما في الآيتين، فقال: ولو شاء الله أذهبهما من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم وهذا وعيد لهم بالعقاب كما قال في الآية الأولى: (والله محيط بالكافرين) وقوله: (بسمعهم) مصدر يدل على الجمع أو واحد موضوع للجمع، كقول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم تعيشوا، فإن زمانكم زمن خميص أي: بطونكم. والمعنى: ولو شاء الله لأظهر على كفرهم فأهلكهم، ودمر عليهم، لأنه على كل شئ قدير، وهو مبالغة القادر. وقيل: إن قوله سبحانه (إن الله على كل شئ قدير) عام فهو قادر على الأشياء كلها على ثلاثة أوجه: على المعدومات: بأن يوجدها، وعلى الموجودات: بأن يفنيها، وعلى مقدور غيره: بأن يقدر عليه ويمنع منه. وقيل: هو خاص في مقدوراته دون مقدور غيره، فإن مقدورا واحدا بين قادرين لا يمكن أن يكون، لأنه يؤدي إلى أن يكون الشئ الواحد موجودا معدوما. ولفظة كل قد يستعمل على غير عموم، نحو قوله تعالى (تدمر كل شئ بأمر ربها).
[ 121 ]
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21)). اللغة: الخلق: الفعل على تقدير. وخلق السموات: فعلها على تقدير ما تدعو إليه الحكمة، من غير زيادة ونقصان. والخلق: الطبع. والخليقة: الطبيعة. والخلاق: النصيب. الاعراب: يا حرف النداء. وأي: اسم مبهم يقع على أجناس كثيرة، لأنه إنما يتم بأن يوصف، وصفته تكون باسم الجنس لأنه (1) لما كان لا يتم إلا بصفة، وهي لفظة دالة على ما دل أي عليه، مخصصة له، وكان التخصيص في الإشارة يقع بالجنس، ثم بالوصف، وصف باسماء الأجناس كالناس في قوله (يا أيها الناس). فأي: منادى مفرد معرفة مبني، لأنه وقع موقع حرف الخطاب، وهو الكاف. وإنما بني على الحركة مع أن الأصل في البناء السكون، ليعلم أنه ليس بعريق (2) في البناء، والبناء عارض فيه، وإنما حرك بالضم لأنه كان في أصله التنوين، فلما سقط التنوين في البناء أشبه قبل وبعد الذي قطع عنه الغاية، فارتفع. وقد ذكر فيه وجوه أخر توجد في مظانها. و (الناس): مرفوع لأنه صفة لأي، فتبعه على حركة لفظه. ولا يجوز هنا النصب، وإن كانت الأسماء المناديات المفردة المعرفة يجوز في صفاتها النصب والرفع، لأن هنا الصفة هو المنادى في الحقيقة، وأي وصلة إليه، ويدل على ذلك لزوم ها وهو حرف التنبيه، قبل الناس وثباتها، وامتناعهم من حذفها، فصار ذلك كالإيذان باستئناف نداء، والعلم لأن لا يجوز الإقتصار على المنادى قبله، كما جاز في سائر المناديات. وأجاز المازني في يا أيها الرجل النصب، وذلك فاسد لما ذكرناه، ولأنه لا مجاز لذلك في كلام العرب، ولم يرو عنها غير الرفع. (والذين من قبلكم): في موضع نصب، لأنه عطف على الكاف والميم في قوله " خلقكم " وهو مفعول به. و " من قبلكم ": صلة " الذين ". و " لعل ": حرف ناصب من أخوات إن. وقد ذكرنا القول في مشابهته الفعل، وعمله النصب والرفع فيما تقدم، وكذلك حكم " لعل " وشبه بالفعل أظهر لأن معناه الترجي. وكم: في موضع. نصب بكونه (1) وفي بعض نسخنا: " لكنه " بدل " لأنه ". (2) العريق: ذو العرق والأصل. (*)
[ 122 ]
اسم " لعل ". و " تتقون ": جملة في موضع الرفع بأنه خبره. المعنى: هذا الخطاب متوجه إلى جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، إلا من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين. وروي عن ابن عباس والحسن أن ما في القرآن من " يا أيها الناس " فإنه نزل بمكة، وما فيه من " يا أيها الذين آمنوا " فإنه نزل بالمدينة " اعبدوا ربكم " أي: تقربوا إليه بفعل العبادة، وعن ابن عباس أنه قال: معناه وحدوه. وقوله " الذي خلقكم ": أي أوجدكم بعد أن لم تكونوا موجودين، وأوجد من تقدم زمانكم من الخلائق والبشر. بين سبحانه نعمه عليهم، وعلى آبائهم، لأن نعمه عليهم لا تتم إلا بنعمه على آبائهم. و " لعلكم تتقون " أي: خلقكم لتتقوه وتعبدوه كقوله (1) تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقيل: معناه اعبدوه لتتقوا. وقيل: معناه لعلكم تتقون الحرمات بينكم، وتكفون عما حرم الله. وهذا كما يقول القائل: إقبل قولي لعلك ترشد، فليس أنه من ذلك على شك، وإنما يريد اقبله ترشد، وإنما أدخل الكلام " لعل " ترقيقا للموعظة، وتقريبا لها من قلب الموعوظ. ويقول القائل لأجيره: إعمل لعلك تأخذ الأجرة، وليس يريد بذلك الشك، وإنما يريد لتأخذ أجرتك. ومثله قول الشاعر: وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا * نكف، ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب، كانت عهودكم * كلمح سراب في الملا متألق أراد: قلتم لنا كفوا لنكف، لأنه لو كان شاكا لما قال " وثقتم كل موثق ". وقال سيبويه: إنما وردت لفظة " لعل " على أنه ترج للمخاطبين، كما قال (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) وأراد بذلك الإبهام على موسى وهارون، فكأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما والله عز وجل من وراء ذلك، وعالم بما يؤول إليه أمر فرعون. وقيل: فائدة إيراد لفظة " لعل " هي أن لا يحل العبد أبدا محل الامن المدل بعمله (2)، بل يزداد حالا بعد حال، حرصا على العمل، وحذرا من تركه. وأكثر ما جاءت لفظة (لعل) وغيرها من معاني الشك، فيما يتعلق بالآخرة في دار الدنيا، فإذا ذكرت الآخرة مفردة، جاء اليقين. وقيل: معناه لعلكم توقون النار في ظنكم (1) وفي نسختين (لقوله) باللام بدل الكاف. (2) وفي النسخ التي عندنا: " بعلمه " بتقديم اللام على الميم. (*)
[ 123 ]
ورجائكم. وأجرى " لعل " على عباده دون نفسه، وهذا قريب مما قاله سيبويه. (الذى جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)). القراءة: أدغم جماعة من القراء قوله: " جعل لكم " فقالوا: جعلكم. والباقون: يظهرون. الحجة: فمن أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد، وكثرة الحركات. ومن أظهر وعليه أكثر القراء فلأنهما منفصلان من كلمتين. وفي الإدغام، واختلاف القراء فيه، والإحتجاجات لهم، كلام كثير خارج عن الغرض بعلوم تفسير القرآن. فمن أراد ذلك فليطلبه من الكتب المؤلفة فيه. اللغة: الجعل، والخلق، والإحداث، نظائر. والأرض: هي المعروفة. والأرض: قوائم الدابة، ومنه قول الشاعر: وإحمر كالديباج، أما سماؤه * فريا، وأما أرضه فمحول والأرض: الرعدة. وفي كلام ابن عباس: " أزلزلت الأرض أم بي أرض ! " والفراش والبساط والمهاد نظائر. وسمي السماء سماء لعلوها على الأرض، وكل شئ كان فوق شئ، فهو لما تحته سماء. وسما فلان لفلان: إذا قصد نحوه عاليا عليه. قال الفرزدق: سمونا لنجران اليمان، وأهله، * ونجران أرض لم تدبث مقاوله قال الزجاج: كل ما علا الأرض فهو بناء. والماء: أصله موه، وجمعه أمواه، وتصغيره مويه. وأنزل من السماء أي: من ناحية السماء، قال الشاعر: (أمنك البرق أرقبه فهاجا) أي: من ناحيتك. والند: المثل، والعدل. قال حسان بن ثابت: أتهجوه، ولست له بند، * فشركما لخيركما الفداء وقال جرير: أتيما تجعلون إلي ندا، * وما تيم لذي حسب نديد وقيل: الند الضد.
[ 124 ]
المعنى: معنى هذه الآية يتعلق بما قبلها، لأنه تعالى أمرهم بعبادته، والإعتراف بنعمته، ثم عدد لهم صنوف نعمه ليستدلوا بذلك على وجوب عبادته، فإن العبادة إنما تجب لأجل النعم المخصوصة. فقال سبحانه: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) أي: بساطا يمكنكم أن تستقروا عليها، وتفترشوها، وتتصرفوا فها، وذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون. (والسماء بناء) أي: سقفا مرفوعا مبنيا (وانزل من) نحو (السماء) أي: من السحاب (ماء فأخرج به) أي: بالماء (من الثمرات رزقا لكم) أي: عطاء لكم، وملكا لكم، وغذاء لكم. وهذا تنبيه على أنه هو الذي خلقهم، والذي رزقهم، دون من جعلوه ندا له من الأوثان. ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم به بقوله (فلا تجعلوا لله أندادا). وقوله (وأنتم تعلمون) يحتمل وجوها أحدها: أن يريد أنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها، لم تنعم عليكم بهذه النعم التي عددناها، ولا بأمثالها، وأنها لا تضر ولا تنفع وثانيها: أن يريد أنكم تعقلون وتميزون، ومن كان بهذه الصفة فقد استوفى شرائط التكليف، ولزمته الحجة، وضاق عذره في التخلف عن النظر، وإصابة الحق وثالثها: ما قاله مجاهد وغيره: إن المراد بذلك أهل التوراة والإنجيل دون غيرهم أي: تعلمون ذلك في الكتابين. وقال الشريف الأجل المرتضى، قدس الله روحه: استدل أبو علي الجبائي بقوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) وفي آية أخرى (بساطا) على بطلان ما يقوله المنجمون من أن الأرض كروية الشكل، قال: وهذا القدر لا يدل لأنه يكفي من النعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط، ومواضع مفروشة، ومسطوحة، وليس يجب أن يكون جميعها كذلك. ومعلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا، وإن كان مواضع التصرف فيها بهذه الصفة. والمنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرف فيها، ويستقر عليها، وإنما يذهبون إلى أن جملتها كروية الشكل. (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23)). اللغة: " إن ": دخلت ههنا لغير شك، لأن الله تعالى علم أنهم
[ 125 ]
مرتابون، ولكن هذا على عادة العرب في خطابهم، كقولهم إن كنت إنسانا فالفعل كذا، وإن كنت ابني فأطعني، وإن كان كونه إنسانا وابنا معلوما. وإنما خاطبهم الله تعالى على عادتهم في الخطاب. والريب: الشك مع تهمة. والعبد: المملوك من جنس ما يعقل، ونقيضه الحر، من التعبيد: وهو التذليل، لأن العبد يذل لمولاه. والعبودية: من أحكام الشرع، لأنه بمنزلة ذبح الحيوان، ويستحق عليها العوض، وليست بعقوبة، ولذلك يسترق المؤمن، والصبي. والسورة غير مهموزة: مأخوذة من سورة البناء. وكل منزلة رفيعة فهي سورة، ومنه قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب هذا قول أبي عبيدة، وابن الأعرابي في تفسير السورة، فكل سورة من القرآن بمنزلة درجة رفيعة، ومنزل عال رفيع يرتفع القارئ منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن. وقيل: السورة مهموزة، والمراد بها القطعة من القرآن، انفصلت عما سواها وابقيت. وسؤر كل شئ: بقيته. وأسأرت في الإناء: أبقيت فيه. قال الأعشى يصف امرأة: فبانت وقد أسارت في الفؤا * د صدعا على نأيها مستطيرا الاعراب: (ان) حرف شرط تجزم الفعل المضارع، وتدخل على الفعل الماضي فتصرفه إلى معنى الإستقبال، ولابد للشرط من جزاء، وهما جملتان ربطت إحداهما بالاخرى نحو إن تفعل أفعل. فقولك: إن تفعل، شرط وهو مجزوم بأن. وقولك أفعل جزاء، وهو مجزوم بالشرط، لا بأن وحدها ولا بالفعل. فإن كان الجزاء جملة من فعل وفاعل، كان مجزوما. وإن كان جملة من مبتدأ وخبر، فلا بد من الفاء. وكانت الجملة في موضع الجزم، فقوله (كنتم): في موضع الجزم بأن. وقوله " فأتوا بسورة " إئتوا مبني على الوقف، لأنه أمر المخاطبين. والواو فاعل. والفاء وما بعده في موضع جزم بأنه جزاء. وما قبل الفاء لا يعمل فيما بعده. و " من ": يقع على أربعة أوجه أحدها: أن يكون بمعنى ابتداء الشئ من مكان ما، كقولك خرجت من البصرة. وثانيها: بمعنى التبعيض كقولك أخذت من الطعام قفيزا. وثالثها: بمعنى التبيين كقوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) وهي في التبيين
[ 126 ]
تخصص الجملة التي قبلها، كما أنها في التبعيض تخصص الجملة التي بعدها ورابعها: أن تقع مزيدة نحو: ما جاءني من رجل. فإذا قد عرفت هذا، فقوله تعالى: (من مثله) قال بعضهم: إن " من " بمعنى التبعيض، وتقديره: فأتوا ببعض ما هو مثل له وهو سورة. وقيل: هو لتبيين الصفة. وقيل: إن " من " مزيدة لقوله في موضع آخر بسورة " مثله " أي: مثل هذا القرآن. وتعود الهاء في (مثله) إلى " ما " من قوله (مما نزلنا على عبدنا) في الأقوال الثلاثة. وقيل: إن " من " بمعنى ابتداء الغاية. والهاء من " مثله ": يعود إلى " عبدنا "، فيكون معناه بسورة من رجل مثله. والأول أقوى لما نذكره بعد. المعنى: لما احتج الله تعالى للتوحيد، عقبه من الإحتجاج للنبوة بما قطع عذرهم فقال: وإن كنتم في شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلنا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقلتم لا ندري هل هو من عند الله أم لا (فأتوا بسورة من مثله) أي: من مثل القرآن. وعلي قول من يقول الضمير في مثله عائد إلى " عبدنا ": فالمعنى فأتوا بسورة من بشر امي مثله لا يحسن الخط والكتابة، ولا يدري الكتب. والصحيح هو الأول لقوله تعالى في سورة أخرى: " فليأتوا بحديث مثله "، وقوله " فأتوا بسورة مثله ". وقوله: " لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) يعني فأتوا بسورة مثلما أتى به محمد في الإعجاز من حسن النظم وجزالة اللفظ والفصاحة التي اختصت به، والإخبار عما كان وعما يكون، دون تعلم الكتب، ودراسة الأخبار. وقوله: " وادعوا شهداءكم " قال ابن عباس: يعني أعوانكم وأنصاركم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم. وسمي أعوانهم شهداء، لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة. والشهيد يكون بمعنى المشاهد كالجليس والأكيل، ويسمى الشاهد على الشئ لغيره بما يحقق دعواه بأنه شهيد أيضا. وقوله: (من دون الله) أي من غير الله، كما يقال: ما دون الله مخلوق، يريد وادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله (إن كنتم صادقين) في أن هذا الكتاب يقوله محمد من نفسه. وقال الفراء: أراد وادعوا آلهتكم. وقال مجاهد، وابن جريج: أراد قوما يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم. وقول ابن عباس أقوى. لأن معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله، لأن الدعاء بمعنى الإستعانة كما قال الشاعر (1): (1) هو: الراعي. (*)
[ 127 ]
فلما التقت فرساننا، ورجالنا، * دعوا: يا لكعب، واعتزينا لعامر وقال آخر: وقبلك رب خصم قد تمالوا * علي فما جزعت، ولا دعوت (1) وأما قول مجاهد، فلا وجه له، لأن الشاهدين لا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين، أو كفارا. فالمؤمنون لا يكونون شهداء للكفار، والكفار لا بد أن يسارعوا إلى إبطال الحق، أو تحقيق الباطل، إذا دعوا إليه. فمن أي الفريقين يكون شهداؤهم ؟ ولكن ينبغي أن يجري ذلك مجرى قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) وقال قوم: إن هذا الوجه جائز أيضا صحته، لأن العقلاء لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن، ولا يكون مثله، كما لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على أن يعارضوا ما ليس بمعارض على الحقيقة. وهذه الآية تدل على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الله تعالى تحدى (2) بالقرآن وببعضه. ووجه الإستدلال بها أنه تعالى خاطب قوما عقلاء فصحاء قد بلغوا الغاية القصوى من الفصاحة، وتسنموا الذروة العليا من البلاغة، فأنزل إليهم كلاما من جنس كلامهم، وتحداهم بالإتيان بمثله، أو ببعضه بقوله: (فأتوا بعشر سور مثله) و (بسورة مثله) وجعل عجزهم عن ذلك حجة عليهم، ودلالة على صدق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أهل الحمية والأنفة، فبذلوا أموالهم ونفوسهم في إطفاء أمره، ولم يتكلفوا في معارضة القرآن بسورة، ولا خطبة، فعلمنا أن المعارضة كانت متعذرة عليهم، فدل ذلك على أن القرآن معجز دال على صحة نبوته. (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)). الاعراب: " إن ": حرف شرط. و " لم ": حرف يدخل على الفعل المضارع فينفيه ويجعله بمعنى الماضي، ويعمل فيه الجزم. و (تفعلوا): (1) قائله: بستان بن العجل. وفي أكثر النسخ: (هلعت) بدل (جزعت). (2) تحدى الرجل: باراه وغالبه. (*)
[ 128 ]
فعل وفاعل، وهو مجزوم بلم، وعلامة الجزم فيه سقوط النون. و (لم تفعلوا): في موضع جزم أيضا بإن. و (لن): حرف يدخل على الفعل المضارع فيخصه بالإستقبال وينفيه، ويعمل فيه النصب، وعلامة النصب في " تفعلوا " سقوط النون أيضا. وقال سيبويه في " لن ": زعم الخليل أنها لا أن ولكنهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا: ويلمه، وجعلت بمنزلة حرف واحد، كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد، وإنما هي هل ولا قال: وهذا ليس بجيد، لأنه لو كان كذلك لم يجز زيدا لن أضرب. وأقول: إن معنى هذا القول هو أنه لو كان أصل لن: لا أن، وما بعد أن يكون صلة لها، ولا يجوز تقديم معمول ما في الصلة على الموصول، فكان يجب أن لا يجوز تقديم زيدا في قولك: لن أضرب زيدا، على لن، كما لم يجز تقديمه على أن. فلا تقول: زيدا أن أضرب، وزيدا لا أن أضرب. ولا خلاف بين النحويين في جواز التقديم هناك. وقوله (ولن تفعلوا) لا موضع له من الإعراب، لأنه اعتراض وقع بين الشرط والجزاء، كما يقع بين المبتدأ والخبر في قولك زيد، فافهم ما أقول لك عالم. والإعتراض غير واقع موقع المفرد، فيكون له موضع إعراب. المعنى: " فإن لم تفعلوا " أي: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه، وأعوانكم، وتبين لكم عجزكم، وعجز جميع الخلق عنه، وعلمتم أنه من عندي، فلا تقيموا على التكذيب به. ومعنى " ولن تفعلوا " أي: ولن تأتوا بسورة مثله أبدا، لأن " لن " تنفي على التأبيد في المستقبل. وفيه دلالة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات، بأنهم لا يأتون بمثله، فوافق المخبر عنه الخبر. وقوله: " فاتقوا النار " أي: فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم، وإنما جاز أن يكون قوله " فاتقوا النار " جواب الشرط، مع لزوم اتقاء النار، كيف تصرفت الحال، لأنه لا يلزمهم الإتقاء إلا بعد التصديق بالنبوة، ولا يصح العلم بالنبوة إلا بعد قيام المعجزة، فكأنه قال: " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " فقد قامت الحجة، ووجب اتقاء النار " التي وقودها " أي: حطبها (الناس والحجارة) وهي جمع حجر. وقيل: إنها حجارة الكبريت، لأنها أحر شئ إذا أحميت، عن ابن مسعود، وابن عباس. والظاهر أن الناس والحجارة وقود النار أي: حطبها يريد بها أصنامهم
[ 129 ]
المنحوتة من الحجارة، كقوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم). وقيل: ذكر الحجارة دليل على عظم تلك النار، لأنها لا تأكل الحجارة إلا وهي في غاية الفظاعة والهول. وقيل: معناه إن أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة التي توقد بها النار بتبقية الله إياها، ويؤيد ذلك قوله (كلما نضجت جلودهم) الآية. وقيل: معناه إنهم يعذبون بالحجارة المحمية بالنار. وقوله تعالى: (أعدت للكافرين) معناه: خلقت وهيئت للكافرين، لأنهم الذين يخلدون فيها، ولأنهم أكثر أهل النار، فأضيفت إليهم. وقيل: إنما خص النار بكونها معدة للكافرين، وإن كانت معدة للفاسقين أيضا، لأنه يريد بذلك نارا مخصوصة لا يدخلها غيرهم، كما قال: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار). وهذه الآية تدل على بطلان قول من حرم النظر والحجاج العقلي، لأن الله عز اسمه احتج على الكفار بما ذكره في هذه الآية، وألزمهم به تصديق نبيه، عليه الصلاة والسلام، وقررهم بأن القرآن كلامه إذ قال: إن كان هذا القرآن كلام محمد فأتوا بسورة من مثله، لأنه لو كان كلام البشر لتهيأ لكم مع تقدمكم في البلاغة والفصاحة الإتيان بمثله، أو بسورة منه، مع قوة دواعيكم إليه، فإذا لم يتأت لكم ذلك، فاعلموا بعقولكم أنه كلام الله تعالى، وهذا هو المراد بالإحتجاج العقلي. واستدل بقوله " أعدت للكافرين " على أن النار مخلوقة الآن، لأن المعد لا يكون إلا موجودا، وكذلك الجنة بقوله (اعدت للمتقين) والفائدة في ذلك أنا وإن لم نشاهدهما، فإن الملائكة يشاهدونهما، وهم من أهل التكليف والإستدلال، فيعرفون ثواب الله للمتقين، وعقابه للكافرين. (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الانهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25)). اللغة: البشارة: هي الإخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقا لكل خبر سواه، لأن الثاني لا يسمى بشارة. وقد قيل للاخبار بما يعم أيضا: بشارة، كقوله تعالى: " وبشرهم بعذاب أليم " وذلك على سبيل التوسع، وهي مأخوذة من البشرة: وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر. وتباشير الصبح: أوله.
[ 130 ]
والجنات: جمع الجنة، وهي البستان. والمراد بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها، دون أرضها، فلذلك قال (تجري من تحتها الأنهار) لأن من المعلوم أنه أراد الخبر عن ماء أنهارها، بأنه جار تحت الأشجار، لأن الماء إذا كانت تحت الأرض، فلاحظ فيها للعيون. على أنه روي عن مسروق: إن أنهار الجنة جارية في غير أخاديد (1) رواه عنه أبو عبيدة وغيره، وأصلها من الجن: وهو الستر. ومنه الجن لتسترها عن عيون الناس. والجنون: لأنه يستر العقل. والجنة: لأنها تستر البدن. والجنين: لتستره بالرحم. قال المفضل: البستان: إذا كان فيه الكرم فهو فردوس، سواء كان فيه شجر غيره، أو لم يكن. والجنة: كل بستان فيه نخل، وإن لم يكن فيه غيره. والأزواج: جمع زوج. والزوج يقع على الرجل والمرأة، ويقال للمرأة زوجة أيضا. وزوج كل شئ: شكله. والخلود: الدوام والبقاء. الاعراب: موضع (أن): مع اسمه وخبره نصب. معناه بشر المؤمنين بأن لهم جنات. فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى " أن " فنصبه. وعلى قول الخليل: يكون " أن " في موضع جر. وإن سقطت الباء. و " جنات ": منصوب بأنه اسم (أن). و (لهم): الجار والمجرور في موضع خبره. والتاء تاء جماعة المؤنث، تكون في حال النصب، والجر، على صورة واحدة، كما أن ياء جماعة الذكور في الزيدين ونحوه، يكون في حال النصب والجر على صورة واحدة. وقوله (تجري) مع ما اتصل به، جملة منصوبة الموضع بكونها صفة لجنات. وكلما: ضم كل إلى ما الجزاء، فصارا أداة للتكرار، وهو منصوب على الظرف. والعامل فيه (رزقوا منها من ثمرة) من مزيدة أي: ثمرة. وقال علي بن عيسى: هي بمعنى التبعيض، لأنهم يرزقون بعض الثمرات في كل وقت. ويجوز أن يكون بمعنى تبيين الصفة، وهو أن يبين الرزق من أي جنس هو. و " من قبل ": تقديره أي: من قبل هذا الزمان، أو هذا الوقت، فحذف المضاف إليه منه لفظا، مع أن الإضافة مرادة معنى، فبني لأجل مشابهته الحرف. وإنما بني على الحركة ليدل على تمكنه في الأصل، وإنما خص بالضم لأن إعرابه (1) الأخاديد جمع الأخدود: وهي الحفرة المستطيلة. (*)
[ 131 ]
عند الإضافة كان بالفتح أو الجر، نحو من قبلك وقبلك، لكونه ظرفا، فبني على حركة لم تكن تدخلها في الإعراب، وهي الضمة، وموضعه نصب على الظرف. و (متشابها): نصب على الحال. و " أزواج ": رفع إما بالإبتداء، أو بالظرف. المعنى: قرن الله تعالى الوعد في هذه الآية بالوعيد، فيما قبلها، ليحصل الترغيب والترهيب، فقال: " وبشر " أي أخبر بما يسر " الذين آمنوا " أي: صدقوا " وعملوا الصالحات " فيما بينهم وبين ربهم، عن ابن عباس، ب‍ (أن لهم جنات تجري من تحتها) أي: من تحت أشجارها ومساكنها " الأنهار " والنهر لا يجري، وإنما يجري الماء فيه ويستعمل الجري فيه توسعا، لأنه موضع الجري. وقوله: " كلما رزقوا منها " أي: من الجنات، والمعنى من أشجارها، وتقديره: كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله للمؤمنين. (من ثمرة رزقا) أي: أعطوا من ثمارها عطاء، وأطعموا منها طعاما، لأن الرزق عبارة عما يصح الإنتفاع به، ولا يكون لأحد المنع منه (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) فيه وجوه أحدها: إن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها، عاد مكانها مثلها، فيشتبه عليهم فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل، هذا قول أبي عبيدة، ويحيى بن كثير وثانيها: إن معناه هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، عن ابن عباس، وابن مسعود. وقيل: هذا الذي وعدنا به في الدنيا وثالثها: معناه هذا الذي رزقناه من قبل في الجنة أي: كالذي رزقنا، وهم يعلمون أنه غيره، ولكنهم شبهوه به في طعمه ولونه وريحه وطيبه وجودته عن الحسن وواصل. قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله: وأقوى الأقوال قول ابن عباس لأنه تعالى قال: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) فعم ولم يخص، فأول ما أتوا به لا يتقدر فيه هذا القول، إلا بأن يكون إشارة إلى ما تقدم رزقه في الدنيا، ويكون التقدير هذا مثل الذي رزقناه في الدنيا، لأن ما رزقوه في الدنيا قد عدم، فأقام المضاف إليه مقام المضاف، كما أن القائل إذا قال لغيره أعددت لك طعاما، ووصفه له، يحسن أن يقول هذا طعامي في منزلي، يريد مثله ومن جنسه. وقوله " وأتوا به " أي: جيئوا به وليس معناه أعطوه. وقوله (متشابها) فيه وجوه أحدها: إنه أراد متشابها في اللون، مختلفا في الطعم، عن ابن عباس، ومجاهد
[ 132 ]
وثانيها: إن كلها متشابه في الجودة، خيار لا رذل فيه، عن الحسن، وقتادة، واختاره الأخفش، قال: وهذا كما يقول القائل، وقد جئ بأشياء فاضلة، فاشتبهت عليه في الفضل: لا أدري ما اختار منها، كلها عندي فاضل، كقول الشاعر (1): من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم * مثل النجوم التي يسري بها الساري يعني أنهم قد تساووا في الفضل وثالثها: إنه يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب، عن عكرمة ورابعها: إنه يشبه بعضه بعضا في اللذة وجميع الصفات، عن أبي مسلم وخامسها: إن التشابه من حيث الموافقة، فالخادم يوافق المسكن، والمسكن يوافق الفرش، وكذلك جميع ما يليق به. وقوله (ولهم فيها أزواج) قيل: هن الحور العين. وقيل: هن من نساء الدنيا. قال الحسن: هن عجائزكم الغمص الرمص العمش (2)، طهرن من قذرات الدنيا " مطهرة " قيل: في الأبدان والأخلاق والأعمال فلا يحضن ولا يلدن ولا يتغوطن ولا يبلن، قد طهرن من الأقذار والآثام، وهو قول جماعة المفسرين " وهم فيها " أي: في الجنة " خالدون " يعني: دائمون، يبقون بقاء الله لا انقطاع لذلك، ولا نفاد، لأن النعمة تتم بالخلود والبقاء، كما تنتقص بالزوال والفناء. والخلود: هو الدوام من وقت مبتدإ، ولهذا لا يقال لله تعالى خالد. (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (26)). القراءة: يستحيي بيائين، وروي عن ابن كثير: " يستحي " بياء واحدة. ووجه هذه القراءة أنه استثقل اجتماع اليائين، فحذف إحداهما. وهي لغة بني تميم. (1) هو العرندس أحد بني بكر بن كلاب. (2) الغمص: ما سال من الرمص، وهو وسخ أبيض يجتمع في مجرى الدمع من العين. والعمش في العين: ضعف الرؤية مع سيلان دمعها. (*)
[ 133 ]
اللغة: الإستحياء من الحياء، ونقيضه القحة (1). والضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا. يقال: ضرب في التجارة، وضرب في الأرض، وضرب في سبيل الله، وضرب بيده إلى كذا، وضرب فلان على يد فلان: إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه، وضرب الأمثال: إنما هو جعلها لتسير في البلاد، يقال: ضربت القول مثلا، وأرسلته مثلا، وما أشبه ذلك. والبعوض: القرقس، وهو صغار البق، الواحدة بعوضة. والمثل والمثل، كالشبه والشبه، قال كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا * وما مواعيده إلا الأباطيل والفسق والفسوق: الترك لأمر الله. وقال الفراء: الفسق الخروج عن الطاعة، تقول العرب: فسقت الرطبة عن قشرها: إذا خرجت، ولذلك سميت الفأرة فويسقة، لخروجها من جحرها. الاعراب: " ما " في قوله (ما بعوضة) بالنصب فيه وجوه أحدها: أن تكون ما مزيدة، ومعناها التوكيد، كما في قول (فبما رحمة من الله لنت لهم) وتقديره إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة مثلا، أو مثلا بعوضة، فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب وثانيها: أن يكون (ما) نكرة مفسرة ببعوضة، كما يكون نكرة موصوفة في قوله تعالى: (هذا ما لدي عتيد) فيكون تقديره لا يستحي أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء، بعوضة، فتكون بعوضة بدلا من شيئا وثالثها: ما يحكى عن الفراء أن معناه: ما بين بعوضة إلى ما فوقها، كما يقال مطرنا ما زبالة إلى التعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملا، وهي أحسن الناس، ما قرنا فقدما، يعنون ما بين في جميع ذلك. والإختيار عند البصريين الوجه الأول. وإنما اختير هذا الوجه لأن ضرب ههنا بمعنى جعل، فجاز أن يتعدى إلى مفعولين، ويدخل على المبتدإ والخبر. وفي التنزيل ما يدل عليه، وهو قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) فمثل الحياة: مبتدأ، وكماء: خبره. وفي موضع آخر (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء) فدخل إضرب على (1) القحة كعدة: من وقح الرجل: إذا قل حياؤه. (*)
[ 134 ]
المبتدأ والخبر، فصار بمنزلة قولك: ظننت زيدا كعمرو. ويجوز في الإعراب الرفع في بعوضة، وإن لم تجز القراءة به، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف في صلة " ما " فكأنه قال الذي هو بعوضة، كقراءة من قرأ تماما على الذي أحسن بالرفع. وهذا عند سيبويه ضعيف، وهو في الذي أقوى، لأن الذي أطول، وليس للذي مذهب غير الأسماء. والثاني: على الجواب كأنه لما قيل (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما) قيل ما هو ؟ فقيل: " بعوضة " أي: بعوضة كما تقول: مررت برجل زيد أي: هو زيد، فتكون (ما) على هذا الوجه نكرة مجردة من الصفة والصلة. وقوله (فأما الذين آمنوا) لغة العرب جميعا بالتشديد، وكثير من بني تميم يقولون: إيما فلان، فيفعل كذا. وأنشد بعضهم (1): مبتلة هيفاء أيما وشاحها * فيجري، وأيما الحجل منها فلا يجري وهي كلمة تجئ في شيئين، أو أشياء، يفصل القول بينهما، كقولك: اما زيد فمحسن، وأما عمرو فمسئ. فزيد: مبتدأ، ومحسن: خبره. وفيها معنى الشرط والجزاء، وتقديره: مهما يكن من شئ فزيد محسن. ثم أقيم " أما " مقام الشرط، فيحصل أما فزيد محسن، ثم أخر الفاء إلى الخبر، لإصلاح اللفظ، ولكراهة أن تقع الفاء التي للتعقيب في أول الكلام. فقوله (الذين آمنوا) على هذا يكون مبتدأ، ويعلمون: خبره. وكذلك " الذين كفروا " مبتدأ، ويقولون: خبره. وقوله " ماذا أراد الله بهذا مثلا " ما: استفهام، وهو اسم في موضع الرفع بالإبتداء، وذا: بمعنى الذي، وصلته ما بعده، وهو في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، تقديره: أي شئ الذي أراد الله. فعلى هذا يكون الجواب رفعا كقولك البيان لحال الذي ضرب له المثل، ويحتمل أن يكون ما وذا بمنزلة اسم واحد، تقديره أي شئ أراد الله. فيكون في موضع نصب بأنه مفعول أراد. فعلى هذا يكون الجواب نصبا كقولك البيان لحال من ضرب له المثل. ومثال الأول قوله تعالى: (ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين) ومثال الثاني: قوله (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ومثلا) منصوب على الحال. وقيل: على القطع. وقيل: على التفسير. (1) والقائل: هو الأخطل. (*)
[ 135 ]
النزول: روي عن ابن مسعود، وابن عباس أن الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين، يعني قوله " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " وقوله (أو كصيب من السماء) قال المنافقون: الته أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله تعالى هذه الآية. المعنى: " إن الله لا يستحيي " أي لا يدع. وقيل: لا يمتنع لأن أحدنا إذا استحيى من شئ تركه، وامتنع منه، ومعناه: إن الله لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها، إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها. وقيل: معناه هو أن الذي يستحيى منه ما يكون قبيحا في نفسه، ويكون لفاعله عيب في فعله، فأخبر الله تعالى أن ضرب المثل ليس بقبيح، ولا عيب، حتى يستحيي منه. وقيل: معناه إنه لا يخشى أن يضرب مثلا كما قال (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) أي: تستحيي الناس، والله أحق أن تستحييه. فالإستحياء بمعنى الخشية هنا، كما أن الخشية بمعنى الإستحياء هناك. وأصل الإستحياء: الإنقباض عن الشئ، والإمتناع منه خوفا من مواقعة القبيح. وقال علي بن عيسى: معناه إنه ليس في ضرب المثل بالحقير للحقير عيب يستحيى منه، فكأنه قال: لا يحل ضرب المثل بالبعوض محل ما يستحيى منه، فوضع قوله (إن الله لا يستحيي) موضعه وقوله: (ما بعوضة فما فوقها) أي: ما هو أعظم منها، عن قتادة وابن جريج. وقيل: فما فوقها في الصغر والقلة، لأن الغرض ههنا الصغر. وقال الربيع بن أنس: إن البعوضة تحيى ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل، إذا امتلأوا من الدنيا ريا، أخذهم الله عند ذلك. ثم تلا (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة) وروي عن الصادق عليه السلام، أنه قال: إنما ضرب الله المثل بالبعوضة، لأن البعوضة على صغر حجمها، خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره، وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه، وعجيب صنعه. وقد استشهد على استحسان ضرب المثل بالشئ الحقير في كلام العرب بقول الفرزدق: ضربت عليك العنكبوت بنسجها، وقضى عليك به الكتاب المنزل وبقوله أيضا: وهل شئ يكون أذل بيتا * من اليربوع يحتفر الترابا
[ 136 ]
وقوله " فأما الذين آمنوا " أي: صدقوا محمدا والقرآن، وقبلوا الإسلام " فيعلمون أنه الحق من ربهم " مدحهم الله تعالى بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم، وأن المثل وقع في حقه " وأما الذين كفروا " بالقرآن " فيقولون " أي: فلإعراضهم عن طريق الإستدلال، وإنكارهم الحق، قالوا " ماذا أراد الله بهذا مثلا " أي: ماذا أراد الله بهذا المثل ؟ فحذف الألف واللام. وقوله (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " فيه وجهان أحدهما: حكي عن الفراء أنه قال: إنه حكاية عمن قال ماذا أراد الله بهذا مثلا، " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا "، أي: يضل به قوم، ويهتدي به قوم. ثم قال الله تعالى " وما يضل به إلا الفاسقين " فبين تعالى أنه لا يضل إلا فاسقا ضالا، وهذا وجه حسن. والآخر: إنه كلامه تعالى ابتداء وكلاهما محتمل، وإذا كان محمولا على هذا فمعنى قوله " يضل به كثيرا " أن الكفار يكذبون به، وينكرونه، ويقولون ليس هو من عند الله، فيضلون بسببه، وإذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه وقوله " ويهدي به كثيرا " يعني الذين آمنوا به وصدقوه. وقالوا هذا في موضعه، فلما حصلت الهداية بسببه، أضيف إليه. فمعنى الإضلال على هذا تشديد الإمتحان الذي يكون عنده الضلال، وذلك بأن ضرب (1) لهم الأمثال، لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن، فضل عندها، سميت إضلالا. وإذا سهلت فاهتدى، سميت هداية. فالمعنى: إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده، فيضل بها قوم كثير، ويهتدي بها قوم كثير، ومثله قوله: (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) أي: ضلوا عندها. وهذا كما يقال للرجل إذا أدخل الفضة النار لينظر فسادها من صلاحها، فظهر فسادها، أفسدت فضتك، وهو لم يفعل فيها الفساد، وإنما يراد أن فسادها ظهر عند محنته. وقريب من ذلك قولهم: فلان أضل ناقته، ولا يريدون أنه أراد أن يضل، وإنما يريدون ضلت منه لا من غيره. وقولهم: أفسدت فلانة فلانا، وأذهبت عقله، وهي ربما لم تعرفه، ولكن لما ذهب عقله، وفسد من أجلها، أضيف الفساد إليها. وقد يكون الإضلال بمعنى التخلية على جهة العقوبة، وترك المنع بالقهر، ومنع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين، جزاء على إيمانهم. وهذا كما يقال لمن لا يصلح سيفه: أفسدت سيفك، أريد به أنك تحدث فيه الإصلاح في كل وقت بالصقل والإحداد. وقد يكون (2) الإضلال بمعنى التسمية بالضلال والحكم به، كما يقال (1) [ الله ]. (2) [ عندها ]. (*)
[ 137 ]
أضله إذا نسبه إلى الضلال، وأكفره: إذا نسبه إلى الكفر. قال الكميت: فطائفة قد أكفروني بحبكم، * وطائفة قالوا مسئ ومذنب وقد يكون الإضلال بمعنى الإهلاك، والعذاب، والتدمير، ومنه قوله تعالى (إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم) ومنه قوله تعالى: (أئذا ضللنا في الأرض) أي: هلكنا وقوله (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) أي: لن يبطل، سيهديهم، ويصلح بالهم. فعلى هذا يكون المعنى: إن الله تعالى يهلك ويعذب بالكفر به كثيرا، بأن يضلهم عن الثواب، وطريق الجنة بسببه فيهلكوا، ويهدي إلى الثواب وطريق الجنة بالإيمان به كثيرا، عن أبي علي الجبائي. ويدل على ذلك قوله (وما يضل به إلا الفاسقين) لأنه لا يخلو من أن يكون أراد به العقوبة على التكذيب كما قلناه (1)، أو يكون أراد به التحيير والتشكيك. فإن أراد الحيرة، فقد ذكر أنه لا يفعل إلا بالفاسق المتحير الشاك، فيجب أن لا تكون الحيرة المتقدمة التي بها صاروا فساقا من فعله، إلا إذا وجدت حيرة قبلها، أيضا. وهذا يوجب وجود ما لا نهاية له من حيرة قبل حيرة، لا إلى أول، أو ثبوت اضلال لا اضلال قبله. وإذا كان ذلك من فعله، فقد أضل من لم يكن فاسقا، وهو خلاف قوله (وما يضل به إلا الفاسقين). وعلى هذا الوجه فيجوز أن يكون حكم الله تعالى عليهم بالكفر، وبراءته منهم، ولعنته عليهم، إهلاكا لهم، ويكون إهلاكه، إضلالا. وكل ما في القران من الإضلال المنسوب إلى الله تعالى، فهو بمعنى ما ذكرناه من الوجوه. ولا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الإضلال الذي أضافه إلى الشيطان، وإلى فرعون والسامري، بقوله (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) وقوله: (وأضل فرعون قومه) وقوله: (وأضلهم السامري) وهو أن يكون بمعنى التلبيس، والتغليط، والتشكيك، والإيقاع في الفساد، والضلال، وغير ذلك، مما يؤدي إلى التظليم والتجوير على ما يذهب إليه المجبرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فصل في حقيقة الهداية والهدى: وإذ قد ذكرنا أقسام الإضلال، وما يجوز إضافته إلى الله تعالى منها، وما لا (1) [ قال ]. (*)
[ 138 ]
يجوز فلنذكر أقسام الهداية التي هي ضده: إعلم أن الهداية في القرآن تقع على وجوه أحدها: أن تكون بمعنى الدلالة والإرشاد، يقال: هداه الطريق، وللطريق، وإلى الطريق: إذا دله عليه، وهذا الوجه عام لجميع المكلفين، فإن الله تعالى هدى كل مكلف إلى الحق، بأن دله عليه، وأرشده إليه، لأنه كلفه الوصول إليه، فلو لم يدله عليه، لكان قد كلفه بما لا يطيق. ويدل عليه قوله تعالى: (ولقد جاءهم من ربهم الهدى)، وقوله: (إنا هديناه السبيل)، وقوله: (أنزل فيه القرآن هدى للناس)، وقوله: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)، وقوله: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)، وقوله: (وهديناه النجدين)، وما أشبه ذلك من الآيات. وثانيها: أن يكون بمعنى زيادة الألطاف التي بها يثبت على الهدى، ومنه قوله تعالى (والذين اهتدوا زادهم هدى) أي: شرح صدورهم، وثبتها وثالثها: أن يكون بمعنى الإثابة، ومنه قوله تعالى: (يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم)، وقوله: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم) والهداية التي تكون بعد قتلهم: هي إثابتهم لا محالة، لأنه ليس بعد الموت تكليف ورابعها: الحكم بالهداية، كقوله تعالى: (ومن يهد الله فهو المهتد). وهذه الوجوه الثلاثة خاصة بالمؤمنين دون غيرهم، لأنه تعالى إنما يثيب من يستحق الإثابة، وهم المؤمنون، ويزيدهم بإيمانهم، وطاعاتهم ألطافا، ويحكم لهم بالهداية لذلك أيضا وخامسها: أن تكون الهداية بمعنى جعل الإنسان مهتديا، بأن يخلق الهداية فيه، كما يجعل الشئ متحركا بخلق الحركة فيه. والله تعالى يفعل العلوم الضرورية في القلوب، فذلك هداية منه تعالى. وهذا الوجه أيضا عام لجميع العقلاء كالوجه الأول. فأما الهداية التي كلف الله تعالى العباد فعلها كالإيمان به، وبأنبيائه، وغير ذلك، فإنها من فعل العباد، ولذلك يستحقون عليها المدح والثواب، وان كان الله سبحانه قد أنعم عليهم بدلالتهم على ذلك، وإرشادهم إليه، ودعائهم إلى فعله، وتكليفهم إياه، وأمرهم به، فهو من هذا الوجه نعمة منه سبحانه عليهم، ومنة منه واصلة إليهم، وفضل منه وإحسان لديهم، فهو سبحانه مشكور على ذلك، محمود إذ فعل بتمكينه، وألطافه، وضروب تسهيلاته، ومعوناته. (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن
[ 139 ]
يوصل ويفسدون في الارض أولئك هم الخاسرون (27)). اللغة: النقض: نقيض الإبرام. والعهد: العقد. والعهد: الموثق. والعهد: الإلتقاء، وهو قريب العهد بكذا. وعهد الله: وصيته وأمره، يقال: عهد الخليفة إلى فلان بكذا أي: أمره وأوصاه به. ومنه قوله تعالى (ألم أعهد إليكم يا بني آدم). والميثاق: ما وقع التوثيق به كما أن الميقات: ما وقع التوقيت به، ويقال: فلان ثقة يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، ويقال: ثقات في الرجال والنساء. والقطع: الفصل بين الشيئين، وأصل ذلك في الأجسام، ويستعمل ذلك أيضا في الأعراض، تشبيها به. يقال: قطع الحبل، وقطع الكلام. والأمر: هو قول القائل لمن دونه: إفعل، هذه صيغته. ثم يصير أمرا بإرادة الآمر المأمور به. وصيغة الأمر تستعمل في الإباحة: نحو قوله (فاصطادوا)، وفي التهديد نحو قوله: (اعملوا ما شئتم) وفي التحدي نحو قوله: " فأتوا بسورة من مثله " وفي التكوين، كقوله: (كن فيكون). والأصل في الجميع الطلب. والوصل: نقيض الفصل، وهو الجمع بين شيئين من غير حاجز. والخسران: النقصان. والخسار: الهلاك. والخاسرون: الهالكون. وأصل الخسران: ذهاب رأس المال. الاعراب: (الذين ينقضون) في موضع النصب، لأنها صفة الفاسقين. و (أولئك): مبتدأ و (الخاسرون): خبره. و (هم) فصل. ويجوز أن يكون مبتدأ. والخاسرون خبره. والجملة خبر " أولئك ". وقوله (من بعد ميثاقه): من مزيدة. وقيل: معناه ابتداء الغاية. والهاء في (ميثاقه): عائد إلى العهد. ويجوز أن يكون عائدا إلى اسم الله تعالى. وقوله (أن يوصل) بدل من الهاء التي في (به) أي: ما أمر الله بأن يوصل، فهو في موضع جر به. المعنى: ثم وصف الله الفاسقين المذكورين في الآية فقال: هم (الذين ينقضون عهد الله * أي: يهدمونه لا يفون به. وقيل في عهد الله وجوه أحدها: إنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد، والعدل، وتصديق الرسل، وما احتج به لرسله من المعجزات الشاهدة لهم على صدقهم، ونقضهم لذلك: تركهم الإقرار بما قد بينت لهم صحته بالأدلة. وثانيها: انه وصية الله إلى خلقه
[ 140 ]
على لسان رسوله، بما أمرهم به من طاعته، ونهاهم عنه من معصيته، ونقضهم لذلك: تركهم العمل به وثالثها: إن المراد به كفار أهل الكتاب، وعهد الله الذي نقضوه. (من بعد ميثاقه) هو ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتصديق بما جاء به من عند ربه، ونقضهم لذلك: هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وكتمانهم ذلك عن الناس، بعد أن أخذ الله ميثاقهم ليبيننه للناس، ولا يكتمونه، وأنهم إن جاءهم نذير آمنوا به. فلما جاءهم النذير ازدادوا نفورا، ونبذوا العهد وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا. واختار هذا الوجه الطبري ورابعها: إنه العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، كما وردت به القصة. وهذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه، ولا يعرفونه، ولا يكون عليه دليل. وقوله تعالى (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) معناه: أمروا بصلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، فقطعوهم، عن الحسن. وقيل: أمروا بصلة الرحم والقرابة فقطعوها، عن قتادة. وقيل: أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء والكتب، ففرقوا وقطعوا ذلك. وقيل: أمروا بأن يصلوا القول بالعمل، ففرقوا بينهما، بأن قالوا ولم يعملوا. وقيل: معناه الأمر بوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه، والقطع والبراءة من أعدائه. وهذا أقوى لأنه أعم، ويدخل فيه الجميع. وقوله (ويفسدون في الأرض) قال قوم: استدعاؤهم إلى الكفر هو الفساد في الأرض. وقيل: إخافتهم السبيل، وقطعهم الطريق. وقيل: نقضهم العهد. وقيل: أراد كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها، والأولى حمله على العموم. (أولئك هم الخاسرون) أي: أهلكوا أنفسهم فهم بمنزلة من هلك رأس ماله. وروي عن ابن عباس أن كل ما نسبه الله تعالى من الخسار إلى غير المسلمين، فإنما عنى به الكفر، وما نسبه إلى المسلمين، فإنما عنى به الدنيا. (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28)). القراءة: قرأ يعقوب: ترجعون، بفتح التاء، على أن الفعل لهم. والباقون: بضم التاء وفتح الجيم، على ما لم يسم فاعله. الاعراب: كيف: في الأصل سؤال عن الحال، ويتضح ذلك في الجواب
[ 141 ]
إذا قيل: كيف رأيت زيدا، فتقول: مسرورا، أو مهموما، وما أشبه ذلك، فتجيب بأحواله، فكيف ينتظم جميع الأحوال، كما أن كم ينتظم جميع العدد، وما ينتظم جميع الجنس، وأين ينتظم جميع الأماكن، ومن ينتظم جميع العقلاء. ومعناه في الآية: التوبيخ، وتقديره أمتعلقين بحجة تكفرون، فيكون منصوب الموضع على الحال. والعامل فيه (تكفرون). وقال الزجاج: هو استفهام في معنى التعجب (1)، وهذا التعجب إنما هو للخلق، أو للمؤمنين أي: اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون، وقد ثبتت حجة الله عليهم. ومعنى وكنتم: وقد كنتم. والواو واو الحال. وإضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه، ومثله قوله تعالى (أو جاؤوكم حصرت صدورهم) أي: قد حصرت صدورهم. وهي جملة في موضع الحال، وإنما وجب إظهار قد في مثل هذا، أو تقديرها، لأن الماضي لا يكون حالا. وقد إنما يكون لتقريب العهد. ولتقريب الحال، فبدخوله يصلح أن يكون الفعل الماضي حالا. المعنى: ثم عاد الله تعالى إلى الإحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث، وجحودهم لرسله وكتبه، بما أنعم به عليهم، فقال (كيف تكفرون بالله) ومن قال هو توبيخ قال: معناه ويحكم كيف تكفرون ؟ كما يقال: كيف تكفر نعمة فلان وقد أحسن إليك ؟ ومن قال هو تعجب قال: تقديره عجبا منكم على أي حال يقع منكم الكفر بالله، مع الدلائل الظاهرة على وحدانيته، والمعجزات القاهرة على صدق من اختصه برسالته، وقيام الحجج الباهرة على وجوب طاعته، وشكر نعمته. ثم ذكر سبحانه بعض نعمه عليهم، فقال (وكنتم أمواتا فأحياكم) أي: وحالكم أنكم كنتم أمواتا وفيه وجوه أحدها: إنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، يعني نطفا، فأحياهم الله، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم بعد الموت، فهما حياتان وموتتان، عن قتادة وثانيها: إن معناه لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة، عن ابن عباس، وابن مسعود وثالثها: إن معناه كنتم أمواتا يعني خاملي الذكر، فأحياكم بالظهور، ثم يميتكم عند تقضي آجالكم، ثم يحييكم للبعث. والعرب تسمي كل امرئ خامل ميتا، وكل امرئ مشهور حيا، كما قال أبو نخيلة السعدي: (1) وفي نسخنا المخطوطة (تعجيب) على بناء التفعيل. (*)
[ 142 ]
فأحييت من ذكري، وما كان خاملا، * ولكن بعض الذكر أنبه من بعض ورابعها: إن معناه: كنتم نطفا في أصلاب آبائكم، وبطون أمهاتكم، والنطفة موات، فأخرجكم إلى دار الدنيا أحياء " ثم يميتكم ثم يحييكم " في القبر للمسألة " ثم إليه ترجعون " أي: يبعثكم يوم الحشر للحساب والمجازاة على الأعمال. وسمى الحشر رجوعا إلى الله تعالى، لأنه رجوع إلى حيث لا يكون أحد يتولى الحكم فيه غير الله، كما يقال رجع أمر القوم إلى الأمير، ولا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان، وإنما يراد به أن النظر صار له خاصة دون غيره. وإنما بدأ الله تعالى بذكر الحياة من بين سائر النعم التي أنعم بها على العبد، لأن أول نعمة أنعم الله بها عليه، خلقه إياه حيا، لينفعه، وبالحياة يتمكن الإنسان من الإنتفاع والإلتذاذ. وإنما عد الموت من النعم، وهو يقطع النعم في الظاهر، لأن الموت يقطع التكليف، فيصل المكلف بعده إلى الثواب الدائم، فهو من هذا الوجه نعمة. وقيل: إنما ذكر الموت لتمام الإحتجاج، لا لكونه نعمة. وفي هذه الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من عباده الكفر، ولا خلقه فيهم، لأنه لو أراده منهم، أو خلقه فيهم، لم يجز أن يضيفه إليهم بقوله (كيف تكفرون بالله) كما لا يجوز أن يقول لهم كيف، أو لم كنتم طوالا، أو قصارا، وما أشبه ذلك مما هو من فعله تعالى فيهم. (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم (29)). اللغة: أصل الخلق التقدير والجمع الضم، ونقيضه الفرق. وسميت الجمعة جمعة لاجتماع الناس. والإستواء: الإعتدال والإستقامة، ونقيضه الإعوجاج. والسبع للمؤنث، والسبعة للمذكر. والسبع مشتق من ذلك، لأنه مضاعف القوى كأنه ضوعف سبع مرات. والعليم في معنى العالم. قال سيبويه: إذا أرادوا المبالغة عدوا إلى فعيل، نحو: عليم، ورحيم. المعنى: قال المفسرون: لما استعظم المشركون أمر الإعادة، عرفهم الله تعالى خلق السموات والأرض، ليدلهم بذلك على قدرته على الإعادة، فقال (هو الذي خلق لكم) أي: لأجلكم (ما في الأرض جميعا) ما في
[ 143 ]
موضع نصب بأنه مفعول بها، ومعناه: إن الأرض وجميع ما فيها نعم من الله تعالى، مخلوقة لكم، إما دينية فتستدلون بها على معرفته، وإما دنياوية فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا. وقوله (ثم استوى إلى السماء) فيه وجوه أحدها: إن معناه قصد للسماء ولتسويتها، كقول القائل: كان الأمير يدبر أمر الشام، ثم استوى إلى أهل الحجاز أي: تحول تدبيره وفعله إليهم وثانيها: إنه بمعنى استولى على السماء بالقهر، كما قال " لتستووا على ظهوره " أي: تقهروه، ومنه قوله " ولما بلغ أشده واستوى " أي تمكن من أمره، وقهر هواه بعقله، فعلى هذا يكون معناه: ثم استوى إلى إلسماء في تفرده بملكها، ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه، ومنه قول الشاعر: فلما علونا، واستوينا عليهم، * تركناهم صرعى لنسر، وكاسر (1) وقال آخر (2): ثم استوى بشر على العراق * من غير سيف، ودم مهراق وثالثها: إن معناه: ثم استوى أمره، وصعد إلى السماء، لأن أوامره وقضاياه تنزل من السماء إلى الأرض، عن ابن عباس ورابعها: ما روى عن ثعلب أحمد بن يحيى أنه سئل عن معنى الإستواء في صفة الله عز وجل فقال: الإستواء الإقبال على الشئ يقال: كان فلان مقبلا على فلان [ يشتمه ] ثم استوى علي وإلي يكلمني، على معنى أقبل إلي، وعلي. فهذا معنى قوله (ثم استوى إلى السماء). وقوله: " فسواهن سبع سماوات " التسوية: جعل الشيئين أو الأشياء على استواء، يقال: سويت الشيئين فاستويا، وإنما قال: فسواهن، فجمع الضمير العائد إلى السماء، لأن السماء اسم جنس يدل على القليل والكثير، كقولهم أهلك الناس الدينار والدرهم. وقيل: السماء جمع سماوة وسماءة، ولذلك يؤنث مرة، ويذكر أخرى. فقيل: السماء منفطر به، كما يفعل ذلك بالجمع الذي بينه وبين واحده الهاء نحو: نخل ونخلة، وبقر وبقرة. وقيل: إن السماوات كانت سماء فوق سماء، فهي في التقدير واحدة، وتكون الواحدة جماعة كما يقال ثوب أخلاق وأسمال، وبرقة (1) الكاسر: العقاب. (2) القائل: البعيث. (*)
[ 144 ]
أعشار (1)، وأرض أعقال. والمعنى: إن كل ناحية منها كذلك، فجمع على هذا المعنى، جعلهن سبع سموات مستويات بلا فطور، ولا امت. قال علي بن عيسى: إن السموات غير الأفلاك، تتحرك وتدور، والسموات لا تتحرك ولا تدور، لقوله (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) وهذا قول ضعيف، لأن قوله: أن تزولا معناه: لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها، ولولا إمساكه لزالت عنها. سؤال: ظاهر قوله تعالى " ثم استوى إلى السماء " يوجب أنه خلق الأرض قبل السماء، لأن (ثم) للتعقيب والتراخي، وقوله في سورة اخرى (والأرض بعد ذلك دحاها) بخلافه، فكيف يجمع بينهما ؟ الجواب: معناه إن الله خلق الأرض قبل السماء، غير أنه لم يدحها. فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك. ودحوها: بسطها ومدها، عن الحسن، وعمرو بن عبيد. وقد يجوز أيضا أن لا يكون معنى " ثم " و (بعد) في هذه الآيات الترتيب في الأوقات، وإنما هو على جهة تعداد النعم، والتنبيه عليها، والإذكار لها، كما يقول القائل لصاحبه: أليس قد أعطيتك، ثم رفعت منزلتك، ثم بعد هذا كله فعلت بك وفعلت. وربما يكون بعض ما ذكره متقدما في اللفظ كان متأخرا، لأن المراد لم يكن الإخبار عن أوقات الفعل، وإنما المراد التذكير كما ذكره. وقوله: (وهو بكل شئ عليم) ولم يقل قدير، لأنه لما وصف نفسه بالقدرة والإستيلاء، وصل ذلك بالعلم، إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الإتقان والإحكام. وأيضا فإنه أراد أن يبين أنه عالم بما يؤول إليه حاله، وحال المنعم به عليه، فتتحقق بذلك النعمة. وفي هذه الآية دلالة على أن صانع السماء والأرض قادر وعالم، وأنه تعالى إنما يفعل الفعل لغرض، وأن له تعالى على الكفار نعما يجب شكره عليهم بها. وفيها أيضا دلالة على أن الأصل في الأشياء الإباحة، لأنه ذكر أنه خلق ما في الأرض لمنفعة العباد، ثم صار حظا لكل واحد منهم، فما يتفرد كل منهم بالتصرف فيه، يحتاج إلى دليل. (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل (1) وفي نسخنا المطبوعة والمخطوطة: " برمة " وهي بالضم: القدر من الحجارة. ومعنى برمة أعشار: القدر المكسور على عشر قطع. (*)
[ 145 ]
فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30)). اللغة: القول: موضوع في كلام العرب للحكاية، نحو قولك قال زيد: خرج عمرو. والرب: السيد. يقال: رب الدار، ورب الفرس، ولا يقال الرب بالألف واللام إلا لله تعالى، وأصله من ربيته: إذا قمت بأمره. ومنه قيل للعالم رباني، لأنه يقوم بأمر الأمة. والملائكة: جمع ملك، واختلف في اشتقاقه: فذهب أكثر العلماء إلى أنه من الألوكة: وهي الرسالة. وقال الخليل: الألوك الرسالة، وهي المالكة، والمالكة على مفعلة. وقال غيره: إنما سميت الرسالة ألوكا لأنها تولك في الفم أي: تمضغ، والفرس تألك اللجام وتعلك. قال عدي بن زيد: أبلغا النعمان عني مألكا * أنه قد طال حبسي وانتظاري ويروى ملاءكا. وقال لبيد: وغلام أرسلته أمه * بالوك فبذلنا ما سأل وقال الهذلي: ألكني إليها، وخير الرسول * أعلمهم بنواحي الخبر فالملائكة على هذا وزنها معافلة لأنها مفاعلة مقلوبة جمع ملأك في معنى مالك. قال الشاعر: فلست لإنسي، ولكن لملأك، * تنزل من جو السماء يصوب فوزن ملأك معفل مقلوب مألك مفعل، ومن العرب من يستعمله مهموزا، والجمهور منهم على إلقاء حركة الهمزة على اللام وحذفها، فيقال ملك. وذهب أبو. عبيدة إلى أن أصله من لأك إذا أرسل. فملأك على هذا القول مفعل، وملائكة مفاعلة غير مقلوبة. والميم في هذين الوجهين زائدة. وذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك، وأن وزن ملأك فعال مثل شمأل وملائكة فعائلة. فالميم على هذا القول أصلية، والهمزة زائدة. والملك، وإن كان أصله الرسالة، فقد صار صفة غالبة على صنف
[ 146 ]
من رسل الله غير البشر، كما أن السماء وإن كان أصله الإرتفاع، فقد صار غالبا على السماوات المعروفة. وقال أصحابنا، رضي الله عنهم: إن جميع الملائكة ليسوا برسل الله، بدلالة قوله تعالى (يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) فلو كانوا كلهم رسلا، لكان جميعهم مصطفين. فعلى هذا يكون الملك اسم جنس. ولا يكون من الرسالة. والجعل، والخلق، والفعل، والإحداث، نظائر، إلا أن الجعل قد يتعلق بالشئ لا على سبيل الإيجاد، بخلاف الفعل، والإحداث. تقول: جعلته متحركا. وحقيقة الجعل: تغيير الشئ عما كان عليه. وحقيقة الفعل والإحداث: الإيجاد والخليفة. والإمام: واحد في الإستعمال إلا أن بينهما فرقا. فالخليفة: استخلف في الأمر مكان من كان قبله، فهو مأخوذ من أنه خلف غيره وقام مقامه. والإمام: مأخوذ من التقدم فهو المتقدم فيما يقتضي وجوب الإقتداء به، وفرض طاعته فيما تقدم فيه. والسفك: صب الدم. والدم قد اختلف في وزنه، فقال بعضهم: دمي على وزن فعل. قال الشاعر: فلو أنا على حجر ذبحنا * جرى الدميان بالخبر اليقين وقيل: أصله دمي على وزن فعل. والشاعر لما رد الياء في التثنية لقلة الإسم، حركه ليعلم أنه متحركا قبل ذلك. والتسبيح: التنزيه لله تعالى عن السوء، وعما لا يليق به. والسبوح: المستحق للتنزيه والتعظيم. والقدوس: المستحق للتطهير. والتقديس: التطهير، ونقيضه التنجيس. والقدس: السطل الذي يتطهر منه. وقد حكى سيبويه أن منهم من يقول: سبوح قدوس بالفتح، والضم أكثر في الكلام، والفتح أقيس، لأنه ليس في الكلام فعول إلا ذروح. وسبحان: اسم المصدر. قال سيبويه: سبحان الله معناه: براءة الله من كل سوء، وتنزيه الله. قال الأعشى: أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر أي: براءة منه. قال: وهو معرفة علم خاص لا ينصرف للتعريف والزيادة. وقد اضطر الشاعر فنونه. قال أمية: سبحانه، ثم سبحانا يعود له، * وقبله (1) سبح الجودي، والجمد (1) هكذا في النسخ المخطوطة والمطبوعة وفي لسان العرب وقبلنا ولعله الأصح. (*)
[ 147 ]
وهو مشتق من السبح: الذي هو الذهاب، ولا يجوز أن يسبح غير الله، وإن كان منزها لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه، كما أن العبادة هي غاية في الشكر لا يستحقها سواه. الاعراب: قال أبو عبيدة: إذ ههنا زائدة، وأنكر الزجاج وغيره عليه هذا القول، وقالوا: إن الحرف إذا أفاد معنى صحيحا لم يجز إلغاؤه. قال الزجاج: ومعناه الوقت. ولما ذكر الله تعالى خلق الناس وغيرهم، فكأنه قال ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة. وقال علي بن عيسى: تقديره أذكر إذ قال ربك للملائكة، فموضع " إذ " نصب على اضمار فعل، والواو عاطفة جملة على جملة، و (إني جاعل في الأرض خليفة) جملة في موضع نصب بقال. وقوله (أتجعل فيها) إلى قوله (ونقدس لك) في موضع نصب بقالوا: والواو في قوله " ونحن " واو الحال، وتسمى واو القطع، وواو الإستئناف، وواو الإبتداء، وواو إذ، كذا كان يمثلها سيبويه. ومثله الواو في قوله (يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " أي: إذ طائفة. وكذا ههنا إذ نحن نسبح. والعامل في الحال ههنا " أتجعل " كأنه قال أتجعل فيها من يفسد فيها. وهذه حالنا. والباء في (بحمدك) تتعلق بنسبح. واللام من " لك " تتعلق بنقدس. وما موصولة، وصلته (لا تعلمون) والعائد: ضمير المفعول، حذف لطول الكلام أي: لا تعلمونه، وهو في موضع النصب بأعلم. المعنى: اذكر يا محمد (إذ قال ربك للملائكة) قيل: إنه خطاب لجميع الملائكة. وقيل: خطاب لمن أسكنه الأرض بعد الجان من الملائكة، عن ابن عباس " إني جاعل " أي: خالق (في الأرض خليفة) اراد بالخليفة آدم عليه السلام، فهو خليفة الله في أرضه يحكم بالحق، إلا أنه تعالى كان أعلم ملائكته أنه يكون من ذريته من يفسد فيها، عن ابن عباس، وابن مسعود. وقيل: إنما سمى الله تعالى آدم خليفة، لأنه جعل آدم وذريته خلفاء للملائكة، لأن الملائكة كانوا من سكان الأرض. وقيل: كان في الأرض الجن فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء فأهلكوا، فجعل آدم وذريته بدلهم، عن ابن عباس. وقيل: عنى بالخليفة ولد آدم يخلف بعضهم بعضا، وهم خلفوا أباهم آدم في إقامة الحق، وعمارة الأرض، عن الحسن البصري. وقيل: أراد بالأرض مكة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: دحيت الأرض
[ 148 ]
من مكة، ولذلك سميت أم القرى. وروي أن قبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب، بين زمزم والركن والمقام. والظاهر أنها الأرض المعروفة وهو الصحيح. وقوله " قالوا " يعني الملائكة لله تعالى (أتجعل فيها) أي: في الأرض (من يفسد فيها) بالكفر والمعاصي، (ويسفك الدماء) بغير حق. وذكر فيه وجوه أحدها: إن خلقا يقال لهم الجان، كانوا في الأرض، فأفسدوا فيها، فبعث الله ملائكة أجلتهم من الأرض، وكان هؤلاء الملائكة سكان الأرض من بعدهم، فقالوا يا ربنا (أتجعل فيها من يفسد فيها) كما فعل بنو الجان. قاسوا بالشاهد على الغائب، وهو قول كثير من المفسرين. وثانيها: إن الملائكة إنما قالت ذلك على سبيل الإستفهام، وعلى وجه الإستخبار والإستعلام عن وجه المصلحة والحكمة، لا على وجه الإنكار، ولا على سبيل الإخبار، فكأنهم قالوا: يا الله إن كان هذا كما ظننا فعرفنا ما وجه الحكمة فيه. وثالثها: إن الله تعالى أخبر الملائكة بأنه سيكون من ذرية هذا الخليفة من يعصي، ويسفك الدماء على ما روي، عن ابن عباس، وابن مسعود. والغرض في إعلامه إياهم أن يزيدهم يقينا على وجه علمه بالغيب، لأنه وجد بعد ذلك على ما أخبرهم به. وقيل: ليعلم آدم أنه خلق للأرض لا للجنة، فقالت الملائكة: أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا على وجه التعرف لما في هذا من التدبير والإستفادة لوجه الحكمة فيه. وهذا الوجه يقتضي أن يكون في أول الكلام حذف، ويكون التقدير: إني جاعل في الأرض خليفة، وإني عالم بأنه سيكون في ذريته من يفسد فيها، ويسفك الدماء، فحذف اختصارا. وكذلك قوله (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) في ضمنه اختصار شديد أي: فنحن على ما نظنه ويظهر لنا من الأمر أولى بالخلافة في الأرض، لأنا نطيع، وغيرنا يعصي وفي قوله (إني أعلم ما لا تعلمون) اختصار أيضا، لأنه يتضمن أني أعلم من مصالح المكلفين ما لا تعلمونه، وما يكون مخالفا لما تظنونه على ظواهر الأمور. ومثل هذه الحذوف العجيبة، والإختصارات البديعة، كثيرة في القرآن. والحذف معدود في أنواع الفصاحة، إذا كان فيما أبقي دليل على ما ألقي. ومما جاء منه في الشعر قول الشنفرى: ولا تقبروني، إن قبري محرم * عليهم، ولكن خامري أم عامر أي: لا تدفنوني، بل دعوني تأكلني التي يقال لها خامري أم عامر، يعني
[ 149 ]
الضبع. وقول أبي داود (1): إن من شيمتي لبذل تلادي * دون عرضي، فإن رضيت فكوني أي: فكوني على ما أنت عليه، وإن سخطت فبيني، فحذف. وقال عنترة: هل تبلغني دارها شدنية * لعنت بمحروم الشراب مصرم أي: دعي عليها بانقطاع لبنها، وجفاف ضرعها، فصارت كذلك. والناقة إذا كانت لا تنتج كانت أقوى على السير، وإنما أرادت الملائكة بقولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها) ولد آدم الذين ليسوا بأنبياء ولا معصومين، لا آدم نفسه، ومن يجري مجراه من الأنبياء والمعصومين. ومعنى قولهم (ونحن نسبح بحمدك) نتكلم بالحمد لك، والنطق بالحمد لله تسبيح له كقوله تعالى (والملائكة يسبحون بحمد ربهم). وإنما يكون حمد الحامد سبحانه تسبيحا لأن معنى الحمد لله: الثناء عليه، والشكر له. وهذا تنزيه له، واعتراف بأنه أهل لأن ينزه ويعظم ويثنى عليه، عن مجاهد. وقيل: معنى نسبح بحمدك نصلي لك كقوله (فلولا أنه كان من المسبحين) أي من المصلين، عن ابن عباس، وابن مسعود. وقيل: هو رفع الصوت بذكر الله عن المفضل، ومنه قول جرير: قبح الإله وجوه تغلب كلما * سبح الحجيج، وكبروا إهلالا وقوله (ونقدس لك) أي: ننزهك عما لا يليق بك من صفات النقص، ولا نضيف إليك القبائح. فاللام على هذا زائدة. نقدسك: وقيل نقدس لك أي: نصلي لأجلك. وقيل: نطهر أنفسنا من الخطايا والمعاصي. قوله (في أعلم ما لا تعلمون) قيل: أراد ما أضمره إبليس من الكبر والعجب والمعصية لما أمره الله سبحانه بالسجود لآدم، عن ابن عباس، وابن مسعود. وقيل: أراد أعلم من في ذرية آدم من الأنبياء والصالحين، عن قتادة. وقيل: أراد به ما اختص الله تعالى بعلمه من تدبير المصالح. وروي عن أبي عبد الله قال: إن الملائكة سألت الله تعالى أن يجعل الخليفة منهم، وقالوا: نحن نقدسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا. قال: فلما أجيبوا بما ذكر (1) كذا في نسخنا المخطوطة والمطبوعة، لكنه محرف أبو دؤاد. راجع (شرح شواهد مجمع البيان ج 1 ص 196). (*)
[ 150 ]
في القرآن، علموا أنهم تجاوزوا ما لهم، فلاذوا بالعرش استغفارا، فأمر الله تعالى آدم بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون، كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون. فقال الله تعالى للملائكة: إني أعرف بالمصلحة منكم وهو معنى قوله " أعلم ما لا تعلمون " وهذا يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح، لأنه لو كان يحسن منه كل شئ، لم يكن لهذا الكلام معنى، لأنه إنما يفيد في الجواب متى حمل على أنه أراد إني أعلم بالمصالح فأفعل ما هو الأصلح. النظم: واتصال هذه الآية بما قبلها: إن الله تعالى ذكر أول النعم له علينا، وهي نعمة الحياة، ثم ذكر بعده إنعامه علينا بخلق الأرض، وما فيها، وبخلق السماء، ثم أراد أن يذكر نعمته علينا بخلق أبينا آدم عليه السلام، وما أعطاه من الفضيلة، فكأنه قال أذكر لهم كيف تكفرون بالله، وقد فعل بكم كذا وكذا، وأنعم عليكم بكذا أو كذا. (وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31)). القراءة: قرأ أهل المدينة، وأهل البصرة: (هؤلاء) بمدة واحدة لا يمدونها إلا على قدر خروج الألف، ويمدون أولاء كأنهم يجعلونه كلمتين. والباقون يمدون مدتين في كل القرآن. فأما الهمزتان من كلمتين نحو (هؤلاء إن كنتم صادقين " ونحوها، فأبو جعفر ونافع برواية ورش، وابن كثير برواية القواس، ويعقوب يهمزون الأولى، ويخففون الثانية ويشيرون بالكسرة إليها، وكذلك يفعلون في كل همزتين متفقتين تلتقيان من كلمتين مكسورتين كانتا أو مضمومتين أو مفتوحتين. فالمكسورتان على البغاء إن أردن، والمضمومتان أولياء أولئك ليس في القرآن غيره. والمفتوحتان جاء أحدكم، وشاء أنشره. وأبو عمرو، والبزي: بهمزة واحدة، فيتركان إحداهما أصلا إذا كانتا متفقتين. ونافع برواية إسماعيل، وابن كثير برواية ابن فليح: بتليين الأولى وتحقيق الثانية. وإذا اختلفتا فاتفقوا على همز الاولى، وتليين الثانية، نحو: السفهاء إلا والبغضاء إلى يوم القيامة. فأما ابن عامر، وعاصم، والكسائي، فإنهم يهمزون همزتين في جميع ذلك متفقتين كانتا أو مختلفتين. أما الحذف والتليين
[ 151 ]
فللتخفيف. وأما الهمز فللحمل على الأصل. اللغة: في اشتقاق آدم قولان أحدهما: إنه مأخوذ من أديم الأرض، فإذا سميت به في هذا الوجه ثم نكرته صرفته والثاني: إنه مأخوذ من الأدمة على معنى اللون والصفة، فإذا سميت به في هذا الوجه، ثم نكرته لم تصرفه. والأدمة والسمرة والدكنة والورقة متقاربة المعنى. وآدم: أبو البشر عليه السلام قال صاحب العين: الأدمة في الناس: شربة من سواد، وهي السمرة. وفي الابل والظباء: بياض. وكل لفظة عموم على وجه الإستيعاب وحقيقته للإحاطة بالأبعاض، يقال: أبعض القوم جاءك أم كلهم. ويكون تأكيدا مثل (أجمعون) الا أنه يبدأ في الذكر بكل، كقوله تعالى (فسجد الملائكة كلهم اجمعون) لأن كلا قد يلي العوامل، واجمعون: لا يكون إلا تابعا. والعرض: من قولهم عرضت الشئ عليه، وعرضت الجند، قال الزجاج: أصله في اللغة الناحية من نواحي الشئ، فمن ذلك العرض خلاف الطول. وعرض الرجل: ما يمدح به أو يذم. ويقال: عرضه خليقته المحمودة. ويقال: عرضه حسبه. وقال علي بن عيسى: هو ناحيته التي يصونها عن المكروه والسب، والعرض ما يعرض في الجسم ويغير صفته، ويقال: عرضت المتاع على البيع عرضا أي: أظهرته حتى عرفت جهته. والإنباء، والإعلام، والإخبار واحد. والنبأ: الخبر. ويقال منه: أنبأته ونبأته و (أنبئوني بأسماء هؤلاء) أي: أخبروني بها. أما المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل نحو: أنبأت زيدا عمرا خير الناس، وكذلك نبأت فهو هذا في الأصل، إلا أنه حمل على المعنى، فعدي إلى ثلاثة مفاعيل، لأن الإنباء بمعنى الإعلام. ودخول هذا المعنى فيه، وحصول مشابهته للإعلام، لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار، وعن أن يتعدى إلى مفعولين أحدهما بالباء، أو بعن، نحو (نبئهم عن ضيف إبراهيم) والنبوة إذا أخذت من الأنباء فهي مهموزة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تنبئن باسمي لرجل قال له: يا نبئ الله مهموزا. والنبي بغير همز: الطريق الواضح يأخذ بك إلى حيث تريد. والفرق بين الإعلام والإخبار: إن الإعلام قد يكون بخلق العلم الضروري في القلب كما خلق الله من كمال العقل والعلم بالمشاهدات، وقد يكون بنصب الأدلة على الشئ. والإخبار: هو إظهار الخبر، علم به أو لم يعلم، ولا يكون مخبرا بما يحدثه من العلم في القلب كما يكون معلما بذلك.
[ 152 ]
المعنى: ثم أبان، سبحانه وتعالى: لملائكته فضل آدم عليهم، وعلى جميع خلقه، بما خصه به من العلم، فقال سبحانه وتعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) أي: علمه معاني الأسماء، إذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها، ولا وجه لإشارة الفضيلة بها. وقد نبه الله تعالى الملائكة على ما فيها من لطيف الحكمة، فأقروا عندما سئلوا عن ذكرها، والإخبار عنها أنه لا علم لهم بها، فقال الله تعالى: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) عن قتادة. وقيل: إنه سبحانه علمه جميع الأسماء، والصناعات وعمارة الأرضين، والأطعمة والأدوية واستخراج المعادن، وغرس الأشجار ومنافعها، وجميع ما يتعلق بعمارة الدين والدنيا، عن ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، وعن أكثر المتأخرين. وقيل: إنه علمه أسماء الأشياء كلها، ما خلق وما لم يخلق، بجميع اللغات التي يتكلم بها ولده بعده، عن أبي علي الجبائي، وعلي بن عيسى وغيرهما، قالوا: فأخذ عنه ولده اللغات. فلما تفرقوا تكلم كل قوم بلسان ألفوه واعتادوه. وتطاول الزمان على ما خالف ذلك، فنسوه. ويجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح عليه السلام، فلما أهلك الله الناس إلا نوحا ومن تبعه، كانوا هم العارفين بتلك اللغات. فلما كثروا وتفرقوا اختار كل قوم منهم لغة تكلموا بها، وتركوا ما سواه ونسوه. وقد روي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساط تحته، فقال: وهذا البساط مما علمه. وقيل: إنه علمه أسماء الملائكة وأسماء ذريته، عن الربيع. وقيل: إنه علمه ألقاب الأشياء ومعانيها وخواصها، وهو أن الفرس يصلح لماذا ؟ والحمار يصلح لماذا ؟ وهذا أبلغ، لأن معاني الأشياء وخواصها لا تتغير بتغير الأزمنة والأوقات. وألقاب الأشياء تتغير على طول الأزمنة. وقال بعضهم: إنه تعالى لم يعلمه اللغة العربية، فإن أول من تكلم بالعربية إسماعيل عليه السلام. وقالوا: إن الله جعل الكلام معجزة لثلاثة من الأنبياء: آدم وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. ثم اختلف في كيفية تعليم الله تعالى آدم الأسماء، فقيل: علمه بان أودع قلبه معرفة الأسماء، وفتق لسانه بها، فكان يتكلم بتلك الأسماء كلها، وكان ذلك معجزة له لكونه ناقضا للعادة. وقيل: علمه إياها بأن اضطره إلى العلم بها. وقيل: علمه لغة الملائكة، ثم علمه بتلك اللغة سائر اللغات. وقيل: إنما علمه أسماء الأشخاص
[ 153 ]
بأن أحضر تلك الأشياء، وعلمه أسماءها في كل لغة، وأنه لأي شئ يصلح، وأي نفع فيه، وأي ضرر. وقوله " ثم عرضهم على الملائكة " روي عن ابن عباس أنه قال: عرض الخلق. وعن مجاهد قال: عرض أصحاب الأسماء. وعلى هذا فيكون معناه: ثم عرض المسميات على الملائكة، وفيهم من يعقل، وفيهم من لا يعقل، فقال: عرضهم غلب العقلاء، فأجرى على الجميع كناية من يعقل، كقوله: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) أجرى عليهم كناية من يعقل. وفي قراءة أبي: " ثم عرضها " وفي قراءة ابن مسعود: " ثم عرضهن " وعلى هاتين القراءتين يصلح أن يكون عبارة عن الأسماء دون المسميات. واختلف في كيفية العرض على الملائكة فقيل: إنما عرضها على الملائكة بأن خلق معاني الأسماء التي علمها آدم حتى شاهدتها الملائكة. وقيل: صور في قلوبهم هذه الأشياء فصارت كأنهم شاهدوها. وقيل: عرض عليهم من كل جنس واحد، وأراد بذلك تعجيزهم، فإن الإنسان إذا قيل له: ما اسم شئ صفته كذا وكذا ؟ فلم يعلم، كان أبلغ عذرا ممن عرض عليه شئ بعينه، وسئل عن اسمه فلم يعرفه. وبين بذلك أن آدم عليه السلام، أصلح لكدخدائية الأرض، وعمارتها، لاهتدائه إلى ما لا تهتدي الملائكة إليه من الصناعات المختلفة، وحرث الأرض وزراعتها، وإنباط الماء (1)، واستخراج الجواهر من المعادن وقعر البحار، بلطائف الحكمة. وهذا يقوي قول من قال: إنه علمه خواص الأشياء وأراد به أنكم إذا عجزتم عن معرفة هذه الأشياء، مع مشاهدتكم لها، فأنتم عن معرفة الأمور المغيبة عنكم أعجز. (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين): إن سئل فقيل: ما الذي ادعت الملائكة حتى خوطبوا بهذا ؟ وكيف أمرهم الله سبحانه أن يخبروا بما لا يعلمون ؟ فالجواب: إن للعلماء فيه وجوها من الكلام: أحدها: إن الله تعالى لما أخبر الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، هجس (2) في نفوسها أنه إن كان الخليفة منهم بدلا من آدم وذريته، لم يكن في الأرض فساد، ولا سفك دم، كما يكون في (1) إنباط الماء: أي إستخراجه. (2) هجس الشئ في صدره: خطر بباله. (*)
[ 154 ]
ولد آدم، وإن كان الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح في التدبير، والأصوب في الحكمة، فقال الله تعالى (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) فيما ظننتم من هذا المعنى، ليدلهم على أنهم إذا لم يعلموا باطن ما شاهدوا، فهم من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد وثانيها: إنه خطر ببالهم أنه لن يخلق الله خلقا إلا وهم أعلم منه وأفضل، في سائر أنواع العلم، فقيل: " إن كنتم صادقين " في هذا الظن، فأخبروا بهذه الأسماء. وثالثها: إن المراد إن كنتم صادقين في أنكم تعلمون، لم أجعل في الأرض خليفة، أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، لأن كل واحد من الأمرين من علم الغيب، فكما لم تعلموا أحدهما لا تعلمون الآخر عن ابن عباس. ورابعها: ما قاله الأخفش، والجبائي، وعلي بن عيسى، وهو: إن المراد إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من أسمائهم، فأخبروا بها. وهذا كقول القائل لغيره أخبر بما في يدي إن كنت صادقا أي: إن كنت تعلم فأخبر به، لأنه لا يمكنه أن يصدق في مثل ذلك، إلا إذا أخبر عن علم منه. ولا يصمح أن يكلف ذلك إلا مع العلم به. ولا بد إذا استدعوا إلى الإخبار عما لا يعلمون من أن يشترط هذا الشرط. وعلى هذا فيكون لفظه الأمر، ومعناه التنبيه، أو يكون أمرا مشروطا كما يقول العالم للمتعلم: ما تقول في كذا ؟ ويعلم أنه لا يحسن الجواب، لينبهه عليه، ويحثه على طلبه، والبحث عنه. ولو قال له: أخبر بذلك إن كنت تعلم، أو إن كنت صادقا، لكان حسنا. فإذا تنبه على أنه يمكنه الجواب، أجابه حينئذ، فيكون جوابه بهذا التدريج أثبت في قلبه، وأوقع في نفسه. ولا يجوز أن يكون ذلك تكليفا، لأنه لو كان تكليفا لم يكن تبيينا لهم أن آدم يعرف أسماء هذه الأشياء بتعريف الله إياه، وتخصيصه من ذلك بما لا يعرفونه هم. فلما أراد تعريفهم ما خص به آدم من ذلك، علمنا أنه ليس بتكليف. وفي هذه الآية دلالة على شرف العلم وأهله من حيث إن الله سبحانه لما أراد تشريف آدم عليه السلام اختصه بعلم أبانه به من غيره، وفضله به على من سواه. (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32)). اللغة: الحكمة: نقيض السفه. والإحكام: الإتقان. والحكيم: المانع من الفساد، ومنه حكمة اللجام لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد. قال
[ 155 ]
جرير: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم، * إني أخاف عليكم أن أغضبا أي: امنعوهم. والحكمة: هي التي تقف بك على مر الحق الذي لا يخلطه باطل، والصدق الذي لا يشوبه كذب، ومنه قوله: حكمة بالغة، ورجل حكيم، إذا كان ذلك شأنه، وكانت معه أصول من العلم والمعرفة، ويقال: حكم يحكم في الحكم بين الناس، وحكم يحكم: إذا صار حكيما. والحكمة في الإنسان: هي العلم الذي يمنع صاحبه من الجهل. الاعراب: (سبحانك): نصب على المصدر. قال سيبويه: سبحت الله تسبيحا وسبحانا، فالمصدر تسبيح وسبحان اسم يقوم مقام المصدر. واللام من قوله (لنا): يتعلق بمحذوف، فيكون جملة ظرفية في موضع رفع بالخبر، لأن " لا علم " في موضع رفع بالإبتداء. و " ما علمتنا " موصول وصلة والضمير من " علمتنا " العائد إليه محذوف تقديره ما علمتنا، وهو في موضع رفع بدل من موضع " لا علم ". و " أنت ": يجوز أن يكون فصلا، فيكون لا موضع له من الإعراب وخبر إن العليم الحكيم. ويجوز أن يكون مبتدأ، والجملة خبر إن. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن الملائكة بالرجوع إليه، والتسليم لأمره، وقال (قالوا) أي: الملائكة " سبحانك " أي: تنزيها لك، وتعظيما عن أن بعلم الغيب أحد سواك، عن ابن عباس. وقيل: تنزيها لك عن الإعتراض عليك في حكمك. وقيل: إنهم أرادوا أن يخرجوا الجواب مخرج التعظيم، فقالوا: تنزيها لك عن فعل كل قبيح، وإن كنا لا نعلم وجه الحكمة في أفعالك. وقيل: إنه على وجه التعجب لسؤالهم عما لا يعلمونه. وقوله (لا علم لنا إلا ما علمتنا) معناه: إنا لا نعلم إلا بتعليمك، وليس هذا فيما علمتنا. ولو أنهم اقتصروا على قولهم: (لا علم لنا) لكان كافيا في الجواب، لكن أرادوا ان يضيفوا إلى ذلك، التعظيم له، والإعتراف بإنعامه عليهم بالتعليم، وأن جميع ما يعلمونه إنما يعلمونه من جهته، وإن هذا ليس من جملة ذلك، وإنما سألهم سبحانه عما علم أنهم لا يعلمونه، ليقررهم على أنهم لا يملكون إلا ما علمهم الله، وليرفع به درجة آدم عندهم، بأنه علمه ما لم يعلموه.
[ 156 ]
وقوله " إنك أنت العليم " أي: العالم بجميع المعلومات، لأنه من صفات ذاته، وهو مبالغة العالم. وقيل: إنهم أثبتوا له ما نفوه عن أنفسهم أي: أنت العالم من غير تعليم، ونحن المعلمون. وقوله (الحكيم) يحتمل أمرين أحدهما: إنه بمعنى العالم، لأن العالم بالشئ يسمى بأنه حكيم، فعلى هذا يكون من صفات الذات، مثل العالم، ويوصف بهما فيما لم يزل، لأن ذلك واجب في العالم لنفسه. والثاني: إن معناه المحكم لأفعاله، ويكون فعيلا بمعنى مفعل، وعلى هذا يكون من صفات الأفعال، ومعناه إن أفعاله كلها حكمة وصواب، وليس فيها تفاوت، ولا وجه من وجوه القبح. وعلى هذا فلا يوصف بذلك فيما لم يزل. وروي عن ابن عباس أنه قال: " العليم ": الذي كمل في علمه، " والحكيم ": الذي كمل في حكمته. وفي هذه الآية دلالة على أن العلوم كلها من جهته تعالى. وإنما كان كذلك لأن العلوم لا تخلو إما أن تكون ضرورية، فهو الذي فعلها. وإما أن تكون استدلالية فهو الذي أقام الأدلة عليها، فلا علم لأحد إلا ما علمه الله تعالى. (قال يا أدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)). القراءة: روي عن ابن عامر: أنبئهم بالهمزة وكسر الهاء. والباقون بضم الهاء. الحجة: من ضم الهاء حملها على الأصل، لأن الأصل أن تكون هاء الضمير مضمومة، وإنما تكسر الهاء إذا وليها كسرة، أو ياء نحو بهم وعليهم. ومع هذا فقد ضمه قوم حملا على الأصل. ومن كسر الهاء التي قبلها همزة مخففة فإن لذلك وجها من القياس، وهو أنه أتبع كسرة الهاء الكسرة التي قبلها، ولم يعتد بالحاجز الساكن كما حكي عنهم هذا المرء، ورأيت المرء، ومررت بالمرء، فأتبعوا مع هذا الفصل كما أتبعوا في اللغة الأخرى هذا امرؤ ورأيت امرأ ومررت بامرئ. وحكى أبو زيد عن بعض العرب: أخذت هذا منه ومنهما ومنهمي، فكسر المضمر في الإدراج والوقف، ولم أعرفه ولم أضربه. اللغة: الإبداء، والإظهار، والإعلان، بمعنى واحد. وضد الإبداء الكتمان، وضد الإظهار الإبطان، وضد الإعلان الإسرار. ويقال بدا يبدو بدوا
[ 157 ]
من الظهور، وبدأ يبدأ بدءا بالهمزة بمعنى استأنف. وقال علي بن عيسى الرماني: حد الظهور الحصول على حقيقة، يمكن أن تعلم بسهولة. والله سبحانه ظاهر بأدلته، باطن عن إحساس خلقه. وكل استدلال فإنما هو ليظهر شئ بظهور غيره. الاعراب: " آدم ": منادى مفرد معرفة، مبني على الضم، ومحله النصب لأن المنادى مدعو، والمدعو مفعول. المعنى: ثم خاطب الله تعالى آدم ف‍ " قال يا آدم أنبئهم " أي: أخبر الملائكة " باسمائهم " يعني بأسماء الذين عرضهم عليهم، وهم كناية عن المرادين بقوله أسماء هؤلاء، وقد مضى بيانه. (فلما أنبأهم) يعني أخبرهم آدم " بأسمائهم " أي: بإسم كل شئ، ومنافعه ومضاره، (قال) الله تعالى للملائكة: " ألم أقل لكم " الألف للتنبيه، وإن كان أصلها الاستفهام، كقول القائل: (أما ترى اليوم ما أطيبه) لمن يعلم ذلك. وحكى سيبويه أما ترى أي برق ههنا. ومن الناس من قال: إن هذه الألف معناها التوبيخ، ومن لم يجز على الملائكة المعصية منع من ذلك. (إني أعلم غيب السماوات والأرض) أي: أعلم ما غاب فيهما عنكم، فلم تشاهدوه كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) قيل فيه أقوال: أحدها: إنه أراد أعلم سركم وعلانيتكم، وذكر ذلك تنبيها لهم على ما يحيلهم عليه من الإستدلال، لأن الأصول الأول التي يستدل بها، إنما تذكر على وجه التنبيه، ليستخرج بها غيرها، فيستدل بعلمه الغيب على أنه خلق عباده على ما خلقهم عليه، للإستصلاح في التكليف، وما توجبه الحكمة. وثانيها: إنه أراد (أعلم ما تبدون) من قولكم (أتجعل فيها من يفسد فيها)، (وما كنتم تكتمون) من إضمار إبليس المعصية والمخالفة. قال علي بن عيسى: وهذا ليس بالوجه لأن الخطاب للملائكة، وليس إبليس منهم، ولأنه عام، فلا يخص إلا بدليل، وجوابه: إن إبليس لما دخل معهم في الأمر بالسجود، جاز أن يذكر في جملتهم. وقد رويت روايات تؤيد هذا القول، واختاره الطبري. وثالثها: إن الله تعالى لما خلق آدم، مرت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الروح، ولم تكن رأت مثله، فقالوا: لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم منه وأفضل عنده، فهذا ما أخفوه وكتموه. وأما ما أبدوه فقولهم
[ 158 ]
(أتجعل فيها من يفسد فيها) روي ذلك عن الحسن، والأول أقوى، لأنه أعم. ومما يسأل في هذه الآية أن يقال: ما وجه ذكره تعالى لهم الأسرار من علم الغيب ؟ والجواب: إنه على معنى الجواب فيما سألوا عنه من خلق من يفسد، ويسفك الدماء على وجه التعريض، دون التصريح، لأنه لو صرح بذلك لقال: خلقت من يفسد ويسفك الدماء لما أعلم في ذلك من المصلحة لعبادي، فيما كلفتهم إياه، فدل سبحانه الإحالة في الجواب على العلم بباطن الأمور وظاهرها، أنه خلقهم لأجل علمه بالمصلحة في ذلك، ودلهم بذلك على أن عليهم الرضا بأمر الله، والتسليم لقضاء الله، لأنه يعلم من الغيب ما لا يعلمونه، ويعلم من مصالحهم في دينهم ودنياهم ما لا يطلعون عليه. فإن قيل: فأي شئ في تعليم الله تعالى آدم الأسماء كلها مما يدل على علمه بالغيب ؟ فالجواب: قيل إنه تعالى علمه الأسماء كلها بما فيها من المعاني التي تدل عليها على جهة فتق لسانه بذلك، وإلهامه إياها، فهي معجزة أقامها الله تعالى للملائكة تدل على نبوته، وجلالة قدره، وارتفاع شأنه، بما اختصه الله به من العلم الذي لا يوصل إليه إلا بتعليم الله، عز وجل، ودلهم على ذلك بأن قررهم أولا فأقروا بأن لا علم لهم به، ثم أظهر لهم أن آدم يعلمه بتعليم الله إياه، فبان بذلك الإعجاز بالإطلاع على ما لا سبيل إلى علمه إلا من علام الغيوب. وفيه (1) من المعجزة أنه فتق لسانه على خلاف مجرى العادة، وأنه علمه من لطائف الحكمة ما لا تعلمه الملائكة، مع كثرة علومها، وأنها أعرف الخلق بربها، فعرفوا ما دلهم على علم الغيب بالمعجزة، مؤكدا لما يعلمونه من ذلك بالأدلة العقلية، ولذلك نبههم فقال: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) أي: قد دللتكم على ذلك قبل، وهذه دلالة بعد. وقد افتتح الله تعالى الدلالة على الإعجاز بالكلام في آدم، ثم ختم به في محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال السيد الأجل المرتضى، قدس الله روحه: وفي هذه الآية سؤال لم أجد أحدا من مفسري القرآن تعرض له، وذلك أن يقال: من أين علمت الملائكة صحة قول آدم، ومطابقة الأسماء المسميات، وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل، (1) [ فيه ]. (*)
[ 159 ]
والكلام يقتضي أنهم لما أنباهم آدم بالأسماء علموا صحتها، ولولا ذلك لم يكن لقوله تعالى: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) معنى ولا كانوا أيضا مستفيدين نبوته، وتميزه واختصاصه بما ليس لهم، لأن كل ذلك إنما يتم مع العلم والجواب أنه غير ممتنع أن يكون الله تعالى جعل لهم العلم الضروري بصحة الأسماء، ومطابقتها للمسميات، إما عن طريق أو ابتداء بلا طريق، فعلموا بذلك تمييزه واختصاصه، وليس في علمهم بصحة ما أخبر به ما يقتضي العلم بنبوته ضرورة، بل بعده درجات ومراتب لا بد من الإستدلال عليها حتى يحصل العلم بنبوته ضرورة (1). ووجه آخر وهو أنه لا يمتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة، وكل قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره، إلا أنه يكون إحاطة عالم واحد بأسماء الأجناس في جميع لغاتهم، خارقة للعادة، فلما أراد الله تعالى التنبيه على نبوة آدم، علمه جميع تلك الأسماء، فلما أخبرهم بها علم كل فريق مطابقة ما أخبر به من الأسماء للغته، وعلم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كل قبيل، وعلى هذا الجواب. فيكون معنى " أنبئوني باسماء هؤلاء " ليخبرني كل قبيل منكم بجميع الأسماء. وهذان الجوابان مبنيان على أنه لم يتقدم لهم العلم بنبوة آدم، وأن إخباره بالأسماء كان مفتتح معجزاته، لأنه لو كان نبيا قبل ذلك، وكانوا قد علموا نبوته بمعجزات تقدم ظهورها على يده، لم يحتج إلى هذين الجوابين، لأنهم يعلمون مطابقة الأسماء للمسميات بعد أن لم يعلموا بقوله الذي علموا أنه حق وصدق. (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)). القراءة: قرأ أبو جعفر وحده: " للملائكة اسجدوا " بضم التاء، حيث وقع. وكذلك (قل رب احكم) بضم الباء. الحجة: أتبع التاء ضمة الجيم. وقيل: إنه نقل ضمة الهمزة لو ابتدئ بها، والأول أقوى، لأن الهمزة تسقط في الدرج، فلا يبقى فيها حركة تنقل. (1) [ ضرورة ]. (*)
[ 160 ]
اللغة: السجود: الخضوع، والتذلل، في اللغة. وهو في الشرع: عبارة عن عمل مخصوص في الصلاة كالركوع، والقنوت، وغيرهما، وهو وضع الجبهة على الأرض. ويقال: سجد وأسجد إذا خضع. قال الأعشى: من يلق (1) هوذة يسجد غير متئب * إذا تعمم فوق الرأس، أو خضعا وقال آخر (2): فكلتاهما خرت، وأسجد رأسها * كما سجدت نصرانة لم تحنف ونساء سجد: إذا كن فاترات الأعين قال: (ولهوي إلى حور المدامع سجد). والإسجاد: الإطراق، وإدامة النظر في فتور وسكون. قال (3): أغرك مني أن دلك عندنا، * وإسجاد عينيك الصيودين رابح وأبى: معناه ترك الطاعة وامتنع. والإباء، والترك، والإمتناع، بمعنى. ونقيض أبى: أجاب. ورجل أبي: من قوم أباة، وليس الإباء بمعنى الكراهة، لأن العرب تتمدح أنها تأبى الضيم، ولا مدح في كراهية الضيم، وإنما المدح في الإمتناع منه كقوله تعالى: (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) أي: يمنع الكافرين من إطفاء نوره. والإستكبار، والتكبر، والتعظم، والتجبر، نظائر. وضده التواضع. وحقيقة الإستكبار: الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه. وقيل: حده الرفع للنفس إلى منزلة لا تستحقها. فأصل الباب: الكبر، وهو العظم. ويقال على وجهين: كبر الجثة، وكبر الشأن، والله سبحانه الكبير من كبر الشأن، وذلك يرجع إلى سعة مقدوراته ومعلوماته، فهو القادر على ما لا يتناهى من جميع أجناس المقدورات، والعالم بجميع المعلومات، وإبليس: إسم أعجمي ينصرف في المعرفة للتعريف والعجمة. قال الزجاج وغيره من النحويين: هو اسم أعجمي معرب، واستدلوا على ذلك بامتناع صرفه. وذهب قوم إلى أنه عربي مشتق من الإبلاس، ووزنه أفعيل. وأنشدوا للعجاج: يا صاح ! هل تعرف رسما مكرسا ؟ * قال: نعم أعرفه، وأبلسا (1) وفي النسخ التي عندنا (ير) بدل (يلق). (2) والقائل أبو الاسود الحماني. (3) القائل: كثير بن عبد الرحمن. (*)
[ 161 ]
وزعموا أنه لم يصرف استثقالا له من حيث إنه إسم لا نظير له في أسماء العرب، فشبهته العرب بأسماء العجم التي لا تنصرف. وزعموا أن إسحاق: من أسحقه الله تعالى إسحاقا، وأيوب: من آب يؤب. وإدريس: من الدرس في أشباه ذلك، وغلطوا في جميع ذلك، لأن هذه الألفاظ معربة، وافقت الألفاظ العربية. وكان أبو بكر السراج يمثل ذلك على جهة التبعيد بمن زعم أن الطير ولدت الحوت. وغلطوا أيضا في أنه لا نظير له في أسماء العرب، لأنهم يقولون إزميل للشفرة، وإغريض للطلع، وإحريض لصبغ أحمر، ويقال هو العصفر، وسيف إصليت: ماض كثير الماء. وثوب إضريج: مشبع الصبغ. وقالوا هو من الصفرة خاصة، ومثل هذا كثير. وسبيل إبليس سبيل إنجيل، في أنه معرب غير مشتق. الاعراب: قوله (وإذ): في موضع نصب لأنها معطوفة على (إذ) الأولى. وقوله (لآدم): آدم في موضع جر باللام لا ينصرف، لأنه على وزن افعل. فإذا قلت: مررت بآدم، وآدم آخر، فإن سيبويه والخليل يقولان: إنه لا ينصرف في النكرة، لأنك إذا نكرته فقد أعدته إلى حال كان فيها لا ينصرف. قال الأخفش: إذا سميت به فقد أخرجته من باب الصفة، فيجب إذا نكرته أن تصرفه، فتقول وآدم آخر. وقوله (اسجدوا): الأصل في همزة الوصل أن تكسر لالتقاء الساكنين، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسرة، وكذلك كل ما كان ثالثه مضموما في الفعل المستقبل نحو قوله (انظرونا) و (اقتلوا يوسف). وليس في كلام العرب فعل لكراهتهم الضمة بعد الكسرة. و (إبليس): نصب على الإستثناء المتصل من الكلام الموجب، وهو في مذهب من جعله من الملائكة، وعلى الإستثناء المنقطع على مذهب من جعله من غير الملائكة. المعنى: ثم بين سبحانه ما آتاه آدم عليه السلام من الإعظام والإجلال والإكرام، فقال: واذكر يا محمد (إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) والظاهر يقتضي أن الأمر بالسجود له كان لجميع الملائكة حتى جبرائيل وميكائيل، لقوله (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) وفي هذا تأكيد للعموم. وقال قوم: إن الأمر كان خاصا لطائفة من الملائكة، كانوا مع إبليس، طهر الله بهم الأرض من الجن. واختلف في سجود الملائكة لآدم على أي وجه كان: فالمروي عن أئمتنا عليهم السلام، أنه على وجه التكرمة
[ 162 ]
لآدم، والتعظيم لشأنه، وتقديمه عليهم، وهو قول قتادة، وجماعة من أهل العلم، واختاره علي بن عيسى الرماني. ولهذا جعل أصحابنا، رضي الله عنهم، هذه الآية دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، من حيث إنه أمرهم بالسجود لآدم، وذلك يقتضي تعظيمه وتفضيله عليهم. وإذا كان المفضول لا يجوز تقديمه على الفاضل علمنا أنه أفضل من الملائكة. وقال الجبائي، وأبو القاسم البلخي، وجماعة: إنه جعله قبلة لهم، فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم، وفيه ضرب من التعظيم. وهذا غير صحيح، لأنه لو كان على هذا الوجه، لما امتنع إبليس من ذلك، ولما استعظمته الملائكة، وقد نطق القرآن بأن امتناع إبليس عن السجود إنما هو لاعتقاده تفضيله به، وتكرمته، مثل قوله (أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن)، وقوله: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين). ولو لم يكن الأمر على هذا الوجه، لوجب أن يعلمه الله تعالى بأنه لم يأمره بالسجود على جهة تعظيمه وتفضيله عليه، وإنما أمره على الوجه الآخر الذي لا تفضيل فيه، ولم يجز إغفال ذلك، فإنه سبب معصية إبليس وضلالته. فلما لم يقع ذلك، علمنا أن الأمر بالسجود له لم يكن إلا على وجه التعظيم والتفضيل، والإكرام والتبجيل. ثم اختلف في إبليس هل كان من الملائكة أم لا ؟ فذهب قوم أنه كان منهم، وهو المروي عن ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة، واختاره الشيخ السعيد أبو جعفر الطوسي، قدس الله روحه، قال: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، والظاهر في تفاسيرنا، ثم اختلف من قال إنه (1) من الملائكة ! فمنهم من قال: إنه كان خازنا على الجنان، ومنهم من قال: كان له سلطان سماء الدنيا، وسلطان الأرض، ومنهم من قال: إنه كان يسوس ما بين السماء والأرض. وقال الشيخ المفيد، أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان، قدس الله روحه: إنه كان من الجن، ولم يكن من الملائكة، لمال: وقد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمة الهدى عليهم السلام، وهو مذهب الإمامية، وهو المروي عن الحسن البصري، وهو قول علي بن عيسى والبلخي وغيره، واحتجوا على صحة هذا القول بأشياء: أحدها: قوله تعالى: (إلا إبليس كان من الجن). ومن أطلق لفظ الجن لم (1) [ كان ]. (*)
[ 163 ]
يجز أن يعني به إلا الجنس المعروف، وكل ما في القرآن من ذكر الجن مع الإنس يدل عليه وثانيها: قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) فنفى المعصية عنهم نفيا عاما وثالثها: إن إبليس له نسل وذرية، قال الله تعالى (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو). وقال الحسن: إبليس أب الجن، كما أن آدم أب الإنس، وإبليس مخلوق من النار، والملائكة روحانيون خلقوا من الريح في قول بعضهم، ومن النور في قول الحسن، لا يتناسلون ولا يطعمون ولا يشربون. ورابعها: قوله تعالى: (جاعل الملائكة رسلا) ولا يجوز على رسل الله الكفر، ولا الفسق، ولو جاز عليهم الفسق، لجاز عليه الكذب، وقالوا: إن استثناء الله تعالى إياه منهم، لا يدل على كونه من جملتهم، وإنما استثناه منهم، لأنه كان مأمورا بالسجود معهم، فلما دخل معهم في الأمر، جاز إخراجه بالإستثناء منهم. وقيل أيضا: إن الاستثناء هنا منقطع كقوله تعالى (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن)، وأنشد سيبويه: والحرب لا يبقى لجا * حمها التخيل، والمراح إلا الفتى الصبار في الن‍ * - جدات، والفرس الوقاح وكقول النابغة: (وما بالربع من أحد إلا الأواري). ويؤيد هذا القول ما رواه الشيخ أبو جعفر ابن بابويه، رحمه الله، في (كتاب النبوة) بإسناده عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن إبليس أكان من الملائكة أو كان يلي شيئا من أمر السماء ؟ فقال: لم يكن من الملائكة، ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء، وكان من الجن، وكان مع الملائكة، وكانت الملائكة ترى أنه منها، وكان الله سبحانه يعلم أنه ليس منها، فلما أمر بالسجود لآدم، كان منه الذي كان وكذا رواه العياشي في تفسيره. وأما من قال إنه كان من الملائكة، فإنه احتج بأنه لو كان من غير الملائكة، لما كان ملوما بترك السجود، فإن الأمر إنما يتناول الملائكة دون غيرهم، وقد مضى الجواب عن هذا، ويزيده بيانا قوله تعالى: (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك) فعلمنا أنه من جملة المأمورين بالسجود، وإن لم يكن من جملتهم، وهذا كما إذا قيل أمر أهل البصرة بدخول الجامع، فدخلوا إلا رجلا من أهل الكوقة، فإنه يعلم من هذا أن غير أهل البصرة كان مأمورا بدخول الجامع، غير أن أهل البصرة خصوا بالذكر،
[ 164 ]
لكونهم الأكثر، فكذلك القول في الآية. وأجاب القوم عن الاحتجاج الأول وهو قوله تعالى (كان من الجن): بأن الجن جنس من الملائكة سموا بذلك لاجتنانهم عن العيون، قال الأعشى قيس بن ثعلبة: ولو كان شئ خالدا، أو معمرا * لكان سليمان البري من الدهر براه إلهي، واصطفاه عباده، * وملكه ما بين تونا إلى مصر وسخر من جن الملائك تسعة، * قياما لديه يعملون بلا أجر وقد قال الله تعالى: (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) لأنهم قالوا الملائكة بنات الله. وأجابوا عن الثاني، وهو قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم) الآية. بأنه صفة لخزنة النيران، لا لجميع الملائكة، فلا يوجب عصمة لغيرهم من الملائكة. وأجابوا عن الثالث: بأنه يجوز أن يكون الله تعالى ركب في إبليس شهوة النكاح تغليظا عليه في التكليف، وإن لم يكن ذلك في باقي الملائكة، ويجوز أن يكون الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض، تغيرت حاله عن حال الملائكة، قالوا: وأما قولكم إن الملائكة خلقوا من الريح، وهو مخلوق من النار، فإن الحسن قال خلقوا من النور، والنار والنور سواء، وقولكم: إن الجن يطعمون ويشربون، فقد جاء عن العرب ما يدل على أنهم لا يطعمون ولا يشربون. أنشد ابن دريد قال: أنشد أبو حاتم: ونار قد حضأت، بعيد وهن، * بدار ما أريد بها مقاما سوى ترحيل راحلة، وعين، * أكالئها مخافة أن تناما أتوا ناري، فقلت: منون أنتم، فقالوا: الجن. قلت: عموا ظلاما فقلت: إلى الطعام، فقال منهم * زعيم: نحسد الإنس الطعاما لقد فضلتم بالاكل فينا، * ولكن ذاك يعقبكم سقاما فهذا يدل على أنهم لا يأكلون ولا يشربون، لأنهم روحانيون. وقد جاء في الأخبار النهي عن التمسح بالعظم والروث، لأن ذلك طعام الجن، وطعام دوابهم. وقد قيل إنهم يتشممون ذلك، ولا يأكلونه. وأجابوا عن الرابع وهو قوله: (جاعل الملائكة رسلا) بأن هذه الآية معارضة بقوله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) لأن (من) للتبعيض، وكلا القولين مروي عن ابن عباس. وروي عنه أنه قال: إن الملائكة كانت تقاتل الجن، فسبي إبليس، وكان صغيرا، فكان مع الملائكة، فتعبد معها بالأمر بالسجود لآدم، فسجدوا وأبى إبليس، فلذلك قال الله
[ 165 ]
تعالى: (إلا إبليس كان من الجن). وروى مجاهد، وطاووس عنه أيضا أنه قال: كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية ملكا من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان سكان الأرض من الملائكة يسمون الجن، ولم يكن من الملائكة أشد اجتهادا، ولا أكثر علما منه، فلما تكبر على الله، وأبى السجود لآدم وعصاه، لعنه وجعله شيطانا وسماه إبليس. وأما قوله تعالى: (وكان من الكافرين) قيل معناه: كان كافرا في الأصل. وهذا القول يوافق مذهبنا في الموافاة. وقيل: أراد كان في علم الله تعالى من الكافرين. وقيل معناه: صار من الكافرين، كقوله تعالى: (فكان من المغرقين). واستدل بعضهم بهذه الآية على أن أفعال الجوارح من الإيمان، فقال: لو لم يكن كذلك، لوجب أن يكون إبليس مؤمنا بما معه من المعرفة بالله تعالى، وإن فسق بإبائه. وهذا ضعيف لأنا إذا علمنا كفره بالإجماع، علمنا أنه لم يكن معه إيمان أصلا، كما أنا إذا رأينا من يسجد للصنم، علمنا أنه كافر، وإن كان نفس السجود ليس بكفر. واختلفوا في صفة أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود فقيل: كان بخطاب من الله تعالى للملائكة ولإبليس. وقيل: بوحي من الله إلى من بعثه إليهم من رسله، لأن كلام الرسول كلام المرسل. وقيل: إن الله تعالى أظهر فعلا دلهم به على أنه أمرهم بالسجود. فإن قيل: لم حكم الله بكفره، مع أن من ترك السجود الآن لا يكفر ؟ قلنا: لأنه جمع إلى ترك السجود خصالا من الكفر منها أنه اعتقد أن الله تعالى أمره بالقبيح، ولم ير أمره بالسجود حكمة. ومنها أنه امتنع من السجود تكبرا وردا على الله تعالى أمره، ومن تركه الآن كذلك يكفر أيضا. ومنها أنه استخف بنبي الله وازدراه (1)، وهذا لا يصدر إلا من معتقد الكفر. وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب الجبر من وجوه منها: قوله (أبى) فدل على قدرته على السجود الذي أباه وتركه، وإلا لم يصح وصفه بالإباء. ومنها قوله (فسجدوا) فدل على أن السجود فعلهم. ومنها أنه مدح الملائكة بالسجود، وذم إبليس بترك السجود، وعندهم إنما لم يسجد لأنه لم يخلق فيه السجود، ولا القدرة الموجبة له. (1) إزدراه: استهزأ به. (*)
[ 166 ]
(وقلنا يا ادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35)). اللغة: السكون والإطمئنان والهدو نظائر. والسكن بسكون الكاف: العيال وأهل البيت. والسكن بالفتح: المنزل. والسكن الرحمة والبركة في قوله (إن صلاتك سكن لهم). والزوج بطرح الهاء، قال الأصمعي: هو أكثر كلام العرب: والأكل. والمضغ، واللقم، متقارب وضد الأكل الازم. وسأل عمر بن الخطاب الحارث بن كلدة طبيب العرب، فقال: يا حار ! ما الدواء ؟ فقال: الأزم أي: ترك الأكل. والرغد: النفع الواسع الكثير، الذي ليس فيه عناء. قال ابن دريد: الرغد السعة في العيش. والمشيئة: من قبيل الإرادة. وكذلك المحبة، والإختيار، والإيثار، وإن كان لها شروط، ذكرت في اصول الكلام. والقرب: الدنو، قرب الشئ يقرب قربا، وقرب فلان أهله يقرب قربانا: إذا غشيها. وما قربت هذا الأمر قربانا، وقربا. والشجرة: ما قام على ساق، وجمعها أشجار وشجرات وشجر. وتشاجر القوم: اختلفوا، أخذ من الشجر لاشتباك أغصانه. والظلم والجور والعدوان متقارب. وضد الظلم الإنصاف، وضد الجور العدل، وأصل الظلم: انتقاص الحق. قال الله تعالى (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) أي: لم تنقص. وقيل: أصله وضع الشئ في غير موضعه، من قولهم: من أشبه أباه فما ظلم أي: فما وضع الشبه في غير موضعه، وكلاهما مطرد. وعلى الوجهين فالظلم: إسم ذم لا يجوز إطلاقه على الأنبياء والمعصومين. الاعراب: قوله: (اسكن أنت وزوجك) (1) استقبح عطف الظاهر على الضمير المستكن والمتصل، فقال: (اسكن أنت وزوجك الجنة) فأنت تأكيد للضمير المستكن في اسكن الذي هو فاعله. وزوجك: معطوف على موضع (أنت)، فلو عطفه على الضمير المستكن لكان أشبه في الظاهر عطف الإسم على الفعل، فأتى بالضمير المنفصل، فعطفه عليه. و (رغدا): منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: أكلا رغدا أي: واسعا كثيرا. ويجوز أن (1) (لما). (*)
[ 167 ]
يكون مصدرا وضع موضع الحال من قوله كلا. قال الخليل: يقال قوم رغد، ونساء رغد، وعيش رغد ورغيد. قال امرؤ القيس: بينما المرء تراه ناعما * يأمن الأحداث في عيش رغد فعلى هذا يكون تقديره: وكلا منها متوسعين في العيش. و (حيث): مبني على الضم كما تبنى الغاية نحو من قبل، ومن بعد، لأنه منع من الإضافة إلى مفرد، كما منعت الغاية من الإضافة. وإنما يأتي بعده جملة اسمية أو فعلية في تقدير المضاف إليه. (ولا تقربا): مجزوم بالنهي. والألف: ضمير الفاعلين، وقوله (فتكونا): يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون جوابا للنهي فيكون منصوبا بإضمار أن، وأن مع الفعل في تأويل اسم مفرد، وإذا قدر إضمار أن بعد الفاء كان ذلك عطفا على مصدر الفعل المتقدم، فيكون تقديره لا يكون منكما قرب لهذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فيكون الكلام جملة واحدة لأن المعطوف يكون من جملة المعطوف عليه، وإنما سميناه جوابا لمشابهته الجزاء في أن الثاني سببه الأول، لأن معنى الكلام ان تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين. والثاني: أن يكون معطوفا على النهي، فيكون مجزوما، وتكون الفاء عاطفة جملة على جملة، فكأنه قال: فلا تكونا من الظالمين. المعنى: ثم ذكر سبحانه ما أمر به آدم عليه السلام بعد أن أنعم عليه بما أختصه من العلوم لما أوجب له به من الإعظام، وأسجد له الملائكة الكرام، فقال عز اسمه (وقلنا) وهذه نون الكبرياء والعظمة، لا نون الجمع (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) أي: اتخذ أنت وامرأتك الجنة مسكنا ومأوى لتأوي إليه، وتسكن فيه أنت وامرأتك. واختلف في هذا الأمر فقيل: إنه أمر تعبد، وقيل: هو إباحة، لأنه ليس فيه مشقة، فلا يتعلق به تكليف وقوله (وكلا) إباحة، وقوله (ولا تقربا) تعبد بالإتفاق. وروي عن ابن عباس، وابن مسعود: إنه لما أخرج ابليس من الجنة. ولعن، وبقي آدم وحده، استوحش، إذ ليس معه من يسكن إليه، فخلقت حواء ليسكن إليها. وروي أن الله تعالى ألقى على آدم النوم، وأخذ منه ضلعا، فخلق منه حواء، فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة، فسألها: من أنت ؟ قالت: امرأة. قال: لم خلقت ؟ قالت: لتسكن إلي. فقالت الملائكة: ما اسمها يا آدم ؟ قال: حواء. قالوا: ولم سميت حواء ؟ قال: لأنها خلقت من حي. فعندها قال الله تعالى (اسكن
[ 168 ]
أنت وزوجك الجنة). وقيل: إنها خلقت قبل أن يسكن آدم الجنة، ثم أدخلا معا الجنة. وفي كتاب النبوة أن الله تعالى خلق آدم من الطين، وخلق حواء من آدم، فهمة الرجال الماء والطين، وهمة النساء الرجال. قال أهل التحقيق: ليس يمتنع أن يخلق الله حواء من جملة جسد آدم، بعد أن لا يكون مما لا يتم الحي حيا إلا معه، لأن ما هذه صفته لا يجوز أن ينقل إلى غيره، أو يخلق منه حي آخر، من حيث يؤدي إلى أن لا يمكن إيصال الثواب إلى مستحقه، لأن المستحق لذلك هو الجملة بأجمعها، وإنما سميت حواء لأنها خلقت من حي على ما ذكرناه قبل وقيل: لأنها أم كل حي. واختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم: فقال أبو هاشم: هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد، لأن جنة الخلد أكلها دائم، ولا تكليف فيها. وقال أبو مسلم: هي جنة من جنان الدنيا في الأرض. وقال إن قوله (اهبطوا منها) لا يقتضي كونها في السماء، لأنه مثل قوله (اهبطوا مصرا). واستدل بعضهم على أنها لم تكن جنة الخلد بقوله تعالى حكاية عن إبليس (هل أدلك على شجرة الخلد) فلو كانت جنة الخلد، لكان آدم عالما بذلك، ولم يحتج إلى دلالة. وقال أكثر المفسرين، والحسن البصري، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وكثير من المعتزلة كالجبائي والرماني وابن الإخشيد: إنها كانت جنة الخلد، لأن الألف واللام للتعريف، وصارا كالعلم عليها. قالوا: ويجوز أن تكون وسوسة ابليس من خارج الجنة من حيث يسمعان كلامه. قالوا: وقول من يزعم أن جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح، لأن ذلك إنما يكون إذا استقر أهل الجنة فيها للثواب. فأما قبل ذلك، فإنها تفنى لقوله تعالى (كل شئ هالك إلا وجهه). وقوله (وكلا منها رغدا) أي: كلا من الجنة كثيرا واسعا لا عناء فيه (حيث شئتما) من بقاع الجنة. وقيل: منها أي: من ثمارها إلا ما استثناه (ولا تقربا هذه الشجرة) أي: لا تأكلا منها، وهو المروي عن الباقر عليه السلام، فمعناه: لا تقرباها بالأكل. ويدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنو منها، ولذلك قال: (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما). واختلف في هذا النهي فقيل: إنه نهي التحريم. وقيل: إنه نهي التنزيه دون التحريم كمن يقول لغيره لا تجلس على الطرق، وهو قريب من مذهبنا، فإن عندنا أن آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من
[ 169 ]
الشجرة، وكان بالتناول منها تاركا نفلا وفضلا ولم يكن فاعلا لقبيح، فإن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم القبائح، لا صغيرها ولا كبيرها. وقالت المعتزلة: كان ذلك صغيرة من آدم عليه السلام على اختلاف بينهم في أنه وقع منه على سبيل العمد أو السهو، أو التأويل. وإنما قلنا: إنه لا يجوز مواقعة الكبائر على الأنبياء عليهم السلام، من حيث إن القبيح يستحق فاعله به الذم والعقاب، لأن المعاصي عندنا كلها كبائر، وإنما تسمى صغيرة بإضافتها إلى ما هو أكبر عقابا منها، لأن الإحباط قد دل الدليل عندنا على بطلانه، وإذا بطل ذلك فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب، وإذا كان الذم والعقاب منفيين عن الأنبياء عليهم السلام، وجب أن ينتفي عنهم سائر الذنوب، ولأنه لو جاز عليهم شئ من ذلك لنفر عن قبول قولهم. والمراد بالتنفير أن النفس إلى قبول قول من لا تجوز عليه شيئا من المعاصي أسكن منها إلى قول من يجوز عليه ذلك، ولا يجوز عليهم كل ما يكون منفرا عنه من الخلق المشوهة، والهيئات المستنكرة. وإذا صح ما ذكرناه علمنا أن مخالفة ادم عليه السلام لظاهر النهي كان على الوجه الذي بيناه. واختلف في الشجرة التي نهي عنها آدم، فقيل: هي السنبلة، عن ابن عباس وقيل: هي الكرمة، عن ابن مسعود والسدي. وقيل: هي التينة، عن ابن جريج. وقيل: هي شجرة الكافور يروى عن علي عليه السلام. وقيل: هي شجرة العلم، علم الخير والشر، عن الكلبي. وقيل: هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة، عن ابن جذعان. وقوله (فتكونا من الظالمين) أي: تكونا بأكلها من الظالمين لأنفسكما، ويجوز أن يقال لمن بخس نفسه الثواب إنه ظالم لنفسه، كقوله تعالى حكاية عن أيوب (إني كنت من الظالمين) حيث بخس نفسه الثواب بترك المندوب إليه. واختلفوا هل كان يجوز ابتداء الخلق في الجنة: فجوز البصريون من أهل العدل ذلك، قالوا: يجوز أن ينعمهم الله في الجنة مؤبدا، تفضلا منه، لا على وجه الثواب، لأن ذلك نعمة منه تعالى، كما أن خلقهم وتعريضهم للثواب نعمة. وقال أبو القاسم البلخي: لا يجوز ذلك لأنه لو فعل ذلك لا يخلو إما أن يكونوا متعبدين بالمعرفة أو لا يكونوا كذلك، فلو كانوا متعبدين لم يكن بد من ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وكان يكون لا بد من دار اخرى يجازون فيها ويخلدون. وإن كانوا غير متعبدين كانوا
[ 170 ]
مهملين، وذلك غير جائز. وجوابه: إنه سبحانه لو ابتدأ خلقهم في الجنة، لكان يضطرهم إلى المعرفة، ويلجئهم إلى فعل الحسن وترك القبيح، ومتى راموا القبيح، منعوا منه، فلا يؤدي إلى ما قاله، وهذا كما يدخل الله الجنة الأطفال، وغير المكلفين، لا على وجه الثواب. (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36)). القراءة: قرأ حمزة: (فأزالهما) بالألف، والباقون: (فأزلهما). الحجة: من قرأ (أزالهما) قال: إن قوله (اسكن أنت وزوجك) معناه: إثبتا فثبتا، فأزالهما الشيطان، فقابل الثبات بالزوال الذي هو خلافه. وحجة من قرأ (فأزلهما) أنه يحتمل تأويلين أحدهما: كسبهما الزلة، والآخر: أزل من زل أي: عثر. ويدل على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من قوله: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين)، وقوله: (فوسوس لهما الشيطان) الآية. وقد نسب كسب الشيطان الزلة إلى الشيطان في قوله: (إنما استزلهما الشيطان) واستزل وازل بمعنى واحد، ويدل على الوجه الثاني قوله: (فأخرجهما مما كانا فيه) فكما أن خروج الإنسان عن الموضع الذي هو فيه انتقال منه إلى غيره، كذلك عثاره وزلله. اللغة: الزلة، والخطيئة، والمعصية، والسيئة، بمعنى واحد. وضد الخطيئة الإصابة، يقال: زلت قدمه زلا، وزل في مقالته زلة. والمزلة: المكان الدحض. والمزلة: الزلل في الدحض. وأزللت إلى فلان نعمة أي: أسديت. وفي الحديث: " من أزلت إليه نعمة فليشكرها ". قال كثير: وإني، وإن صدت، لمثن، وصادق عليها بما كانت إلينا أزلت والأصل في ذلك الزوال. والزلة: زوال عن الحق. وأزله الشيطان: إذا أزاله عن الحق. والهبوط، والنزول، والوقوع، نظائر: وهو التحرك من علو إلى سفل. ويقال: هبطته وأهبطته. والهبوط: كالحدور وهو الموضع الذي يهبطك من أعلى إلى
[ 171 ]
أسفل، وقد يستعمل الهبوط بمعنى الحلول في المكان، والنزول به. قال الله تعالى: (اهبطوا مصرا). ويقول القائل: هبطنا بلد كذا. يريد: حللنا. قال زهير: ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت * أيدي الركاب بهم من راكس فلقا والعدو: نقيض الولي. والعداوة المصدر، وأصله من المجاوزة. والقرار: الثبات والبقاء. وضد القرار الإنزعاج، وضد الثبات الزوال، وضد البقاء الفناء. والإستقرار: الكون أكثر من وقت واحد على حال. والمستقر: يحتمل أن يكون بمعنى الإستقرار، ويحتمل أن يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه. والمتاع والتمتع والمتعة والتلذذ متقاربة المعنى، وكل شئ تمتعت به فهو متاع. والحين، والمدة، والزمان، متقارب. والحين في غير هذا الموضع: ستة أشهر، يدل عليه قوله تعالى (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) والحين يصلح للأوقات كلها، إلا أنه في الإستعمال في الكثير منها أكثر. المعنى: ثم بين سبحانه حال آدم عليه السلام قال: (فأزلهما الشيطان) أي: حملهما على الزلة. نسب الإزلال إلى الشيطان، لما وقع بدعائه ووسوسته وإغوائه (عنها) أي: عن الجنة، وما كانا فيه من عظيم الرتبة والمنزلة. والشيطان المراد به ابليس، (فأخرجهما مما كانا فيه) من النعمة والدعة. ويحتمل أن يكون أراد اخراجهما من الجنة حتى أهبطا. ويحتمل أن يكون أراد من الطاعة إلى المعصية. وأضاف الإخراج إليه لأنه كان السبب فيه كما يقال صرفني فلان عن هذا الأمر. ولم يكن إخراجهما من الجنة وإهباطهما إلى الأرض على وجه العقوبة، لأن الدليل قد دل على أن الأنبياء عليهم السلام، لا تجوز عليهم القبائح على حال، ومن أجاز العقاب على الأنبياء، فقد أساء عليهم الثناء. وأعظم الفرية على الله، سبحانه وتعالى، وإذا صح ما قلناه، فإنما أخرج الله آدم من الجنة لأن المصلحة قد تغيرت بتناوله من الشجرة، فاقتضت الحكمة والتدبير الإلهي إهباطه إلى الأرض، وابتلاءه بالتكليف والمشقة، وسلبه ما ألبسه إياه من ثياب الجنة، لأن إنعامه عليه بذلك كان على وجه التفضل والإمتنان، فله أن يمنع ذلك تشديدا للبلوى والإمتحان، كما له أن يفقر بعد الإغناء، ويميت بعد الإحياء، ويسقم بعد الصحة، ويعقب المحنة بعد المحنة.
[ 172 ]
واختلف في كيفية وصول ابليس إلى آدم وحواء حتى وسوس إليهما وابليس كان قد أخرج من الجنة حين أبى السجود، وهما في الجنة، فقيل: إن آدم كان يخرج إلى باب الجنة، وإبليس لم يكن ممنوعا من الدنو منه، فكان يكلمه، وكان هذا قبل أن أهبط إلى الأرض، وبعد أن اخرج من الجنة، عن أبي علي الجبائي. وقيل: إنه كلمهما من الأرض بكلام عرفاه وفهماه منه. وقيل: إنه دخل في فقم الحية، وخاطبهما من فقمها. والفقم: جانب الشدق (1). وقيل: إنه راسلهما بالخطاب. وظاهر القرآن يدل على أنه شافههما بالخطاب. وقوله: " وقلنا اهبطوا " خاطب بخطاب الجمع وفيه وجوه أحدها: إنه خاطب آدم وحواء وإبليس، وهو اختيار الزجاج، وقول جماعة من المفسرين، وهذا غير منكر، وإن إبليس قد أخرج قبل ذلك، بدلالة قوله: (أخرج منها فإنك رجيم) فجمع الخبر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم قد اجتمعوا في الهبوط، وإن كانت أوقاتهم متفرقة فيه، كما يقال أخرج جميع من في الحبس، وإن أخرجوا متفرقين. والثاني: إنه أراد آدم وحواء والحية، وفي هذا الوجه بعد، لأن خطاب من لا يفهم الخطاب لا يحسن، ولأنه لم يتقدم للحية ذكر، والكناية عن غير مذكور لا تحسن إلا بحيث لا يقع لبس مثل قوله: (حتى توارت بالحجاب)، وقوله: (ما ترك على ظهرها من دابة) وقولى حاتم: أماوي ما يغني الثراء عن الفتى، * إذا حشرجت (2) يوما، وضاق بها الصدر والثالث: إنه أراد آدم وحواء وذريتهما، لأن الوالدين يدلان على الذرية، ويتعلق بهما. والرابع: أن يكون الخطاب يختص بآدم وحواء عليهما السلام، وخاطب الإثنين على الجمع على عادة العرب، وذلك لأن الإثنين أول الجمع. قال الله تعالى (إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين): أراد حكم داود وسليمان. وقد تأول قوله تعالى (فإن كان له أخوة) على معنى فإن كان له اخوان والخامس: آدم وحواء والوسوسة، عن الحسن، وهذا ضعيف وقوله (بعضكم لبعض عدو) يعني آدم وذريته، وابليس وذريته، ولم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إياه، ولكن حسده الملعون، وخالفه، فنشأت بينهما العداوة. ثم إن عداوة آدم له إيمان، وعداوة (1) الشدق بفتح الشين وكسرها: زاوية الفم من باطن الخدين. (2) ماوي: اسم زوجة حاتم على ما قيل. والحشرجة: تردد صوت النفس والغرغرة عند الموت. (*)
[ 173 ]
إبليس له كفر. وقال الحسن: يريد بني آدم، وبني ابليس، وليس ذلك بأمر، بل هو تحذير، يعني إن الله تعالى لا يأمر بالعداوة، فالأمر مختص بالهبوط والمعاداة يجري مجرى الحال، لأن الظاهر يقتضي أنه أمرهما بالهبوط في حال عداوة بعضهم بعضا. فأما على الوجه الذي يتضمن أن الخطاب يختص بآدم وحواء، فالمراد به: إن ذريتهما يعادي بعضهم بعضا. وعلق الخطاب بهما للإختصاص بين الذرية، وبين أصلها. وقوله: " ولكم في الأرض مستقر " أي: مقر ومقام وثبوت، بأن جعل الأرض قرارا لكم (ومتاع) أي: استمتاع (إلى حين) إلى وقت الموت. وقيل: إلى يوم القيامة. وقيل: إلى فناء الآجال أي: كل امرئ (1) مستقر إلى فناء أجله. وقال أبو بكر السراج: لو قال ولكم في الأرض مستقر ومتاع، لظن أنه غير منقطع، فقال: (إلى حين) أي: إلى حين انقطاعه. والفرق بين قول القائل إن هذا لكم حينا، وبين قوله إلى حين أن إلى يدل على الإنتهاء، ولا بد أن يكون له ابتداء، وليس كذلك الوجه الآخر. وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لا يريد المعصية، ولا يصد أحدا عن الطاعة، ولا يخرجه عنها، ولا يسبب المعصية لأنه نسب ذلك إلى الشيطان، جل ربنا وتقدس عما نسبه إلى إبليس والشياطين، ويدل أيضا على أن لوسوسة إبليس تأثيرا في المعاصي. (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37)). القراءة: قرأ ابن كثير: " آدم " بالنصب، و " كلمات " بالرفع. وقرأ الباقون: برفع (آدم)، ونصب (كلمات). الحجة: حجة ابن كثير في نصب (آدم) أنه في المعنى كالقراءة الأخرى. فإن الأفعال المتعدية على ثلاثة أضرب: منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولا به، والمفعول فاعلا، نحو: ضرب زيد عمرا. ومنها ما لا يجوز ذلك فيه، نحو: أكلت الخبز ونحوه. ومنها: ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى كإسناده إلى المفعول به، نحو: نلت وأصبت وتلقيت تقول نالني (1) وفي نسختين مخطوطتين (امر) بدل " امرئ " ولعله أنسب. (*)
[ 174 ]
خير ونلت خيرا، وأصابني شئ وأصبت شيئا، وتلقاني زيد وتلقيت زيدا، ومثل هذه الآية قوله تعالى (لا ينال عهدي الظالمين) وفي حرف عبد الله فيما قيل: (لا ينال عهدي الظالمون). اللغة: التلقي: نظير التلقن، يقال: تلقيت منه أي: أخذت وقبلت، وأصله من لقيت خيرا، فتعدى إلى مفعول واحد، ثم يعدى إلى مفعولين بتضعيف العين، نحو: لقيت زيدا خيرا، كقوله تعالى (ولقاهم نضرة وسرورا) ومطاوعة تلقيته بالقبول أي قبلته منه ومن ذلك قول أبي مهدية في آيات من القرآن، تلقيتها من عمي، تلقاها من أبي هريرة، تلقاها من رسول الله. وتلقيت الرجل: استقبلني. وكلمات: جمع كلمة. والكلمة: اسم جنس لوقوعها على الكثير من ذلك والقليل، قالوا: " قال امرؤ القيس في كلمته " يعنون في قصيدته. " وقال قس في كلمته " يعنون خطبته. فقد وقعت على الكثير. وقيل: لكل واحد من الكلم الثلاث كلمة فوقعت على القليل من الإسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد. وأما الكلام فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلفا من هذه الكلم. وعلى هذا جاء التنزيل قال الله تعالى (يريدون أن يبدلوا كلام الله) يعني به قوله تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا) ألا ترى إلى قوله (كذلكم قال الله من قبل). يقال كلمه تكليما وكلاما، وتكلم تكلما. والكلم: الجرح. يقال: كلمته أكلمه. وأصل الباب التأثر. والكلم: أثر دال على الجارح. والكلام: أثر دال على المعنى الذي تحته. والذي حرره المتكلمون في حد الكلام هو أنه ما انتظم من حرفين فصاعدا من هذه الحروف المعقولة، إذا وقع ممن يصح منه، أو من قبيله الإفادة. وقال بعضهم: هو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة، ليتميز من الكتابة التي ليست بمسموعة، ويتميز من أصوات كثير من الطيور، لأنها ليست بمتميزة. وينقسم الكلام إلى مهمل ومستعمل. وإنما أراد سيبويه بقوله " إن المهمل لا يكون كلاما " أنه لا يكون مفيدا، إذ الكلام عنده لا يقع إلا على المفيد، وبه قال أبو القاسم البلخي. والتوبة، والإقلاع، والإنابة، في اللغة: نظائر، وضد التوبة الإصرار. والله تعالى يوصف بالتواب، ومعناه أنه يقبل التوبة عن عباده. وأصل التوبة: الرجوع عما سلف، والندم على ما
[ 175 ]
فرط. فالله تعالى تائب على العبد بقبول توبته، والعبد تائب إلى الله تعالى بندمه على معصيته. المعنى: قوله (فتلقى آدم) أي: قبل وأخذ وتناول على سبيل الطاعة " من ربه " ورب كل شئ (كلمات) وأغنى قوله (فتلقى) عن أن يقول فرغب إلى الله بهن، أو سأله بحقهن، لأن معنى التلقي يفيد ذلك، وينبئ عما حذف من الكلام اختصارا. ولهذا قال تعالى " فتاب عليه " لأنه لا يتوب عليه إلا بأن سال بتلك الكلمات. وعلى قراءة من قرأ (فتلقى آدم من ربه كلمات) لا يكون معنى التلقي القبول، بل معناه أن الكلمات تداركته بالنجاة والرحمة. واختلف في الكلمات ما هي ؟ فقيل: هي قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا) الآية، عن الحسن، وقتادة، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وإن في ذلك اعترافا بالخطيئة، فلذلك وقعت موقع الندم، وحقيقته الإنابة. وقيل: هي قوله (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين)، (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين) (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم) عن مجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام. وقيل: بل هي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقيل وهي رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام: إن آدم رأى مكتوبا على العرش أسماء معظمة مكرمة، فسأل عنها، فقيل له: هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى، والأسماء: محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، فتوسل آدم عليه السلام، إلى ربه بهم في قبول توبته، ورفع منزلته. قوله (فتاب عليه) فيه حذف أي: تاب آدم، فتاب الله عليه أي: قبل توبته. وقيل: تاب عليه أي: وفقه للتوبة، وهداه إليها، بأن لقنه الكلمات حتى قالها. فلما قالها قبل توبته (إنه هو التواب) أي: كثير القبول للتوبة، يقبل مرة بعد مرة، وهو في صفة العباد الكثير التوبة. وقيل: إن معناه أنه يقبل التوبة، وإن عظمت الذنوب، فيسقط عقابها. قوله " الرحيم " إنما ذكره ليدل به على أنه متفضل بقبول التوبة، ومنعم به، وأن ذلك ليس على وجه الوجوب، وإنما قال (فتاب عليه) ولم يقل عليهما، لأنه
[ 176 ]
اختصر وحذف للإيجاز والتغليب، كقوله سبحانه وتعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه) ومعناه أن يرضوهما. وقوله (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) وكقول الشاعر: رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريا، ومن جول الطوي رماني (1) وقال الآخر: نحن بما عندنا، وأنت بما * عندك راض، والرأي مختلف فكذلك معنى الآية فتاب عليهما. وقال الحسن البصري: لم يخلق الله آدم إلا للأرض، ولو لم يعص لأخرجه إلى الأرض على غير تلك الحال. وقال غيره: يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى، ولغيرها إن لم يعص، وهو الأقوى. فصل مختصر: في التوبة وشروطها والاختلاف فيها إعلم أن من شروط التوبة الندم على ما مضى من القبيح، والعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، فإن هذه التوبة أجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها، واختلفوا فيما عداها. وكل معصية لله تعالى فإنه يجب التوبة منها، والطاعة لا يصح التوبة منها. وعندنا يصح التوبة إذا كانت من ترك الندب، ويكون ذلك على وجه الرجوع إلى فعله، وعلى هذا يحمل توبة الأنبياء عليهم السلام، في جميع ما نطق به القرآن. وقبول التوبة وإسقاط العقاب عندها تفضل من الله تعالى، غير واجب عليه عندنا، وعند جميع المعتزلة واجب، وقد وعد الله تعالى بذلك وإن كان تفضلا، وعلمنا أنه لا يخلف الميعاد. وأما التوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر يعلم أو يعتقد قبحه، فعند أكثر المتكلمين هي صحيحة، وعند أبي هاشم وأصحابه لا يصح. واعتمد الأولون على أن قالوا: كما يجوز أن يمتنع عن قبيح لقبحه مع أنه يفعل قبيحا آخر، وإن علم قبحه، كذلك يجوز أن يندم من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه. واختلفوا في التوبة عند ظهور أشراط الساعة، هل تصح أم لا ؟ فقال الحسن: يحجب عنها عند الآيات الست وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، ودابة الأرض، وخويصة أحدكم - (1) الجول بضم الجيم: جدار البئر. الضوى كغنى: البئر المضوية أي: المبنية بالحجر ونحوه. (*)
[ 177 ]
يعني الموت -، وأمر العامة - يعني القيامة - وقيل: لا شك أن التوبة عند بعض هذه الآيات تحجب، وعند بعضها يجوز أن لا تحجب، والله أعلم. (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38)). القراءة: قرأ يعقوب: (فلا خوف) بنصب الفاء في جميع القرآن. وقرأ الباقون: بالرفع والتنوين، وأجمعوا على إثبات الألف في (هداي)، وتحريك الياء. وروي عن الأعرج: بسكون الياء وهو غلط، إلا أن يكون نوي الوقف. وروى بعضهم: " هدي "، وهي لغة هذيل، يقلبون الألف إلى الياء للياء التي بعدها، لأن شأن ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها، فجعل قلب الألف ياء بدل كسرها، إذ الألف لا يتحرك، فهو مثل علي ولدي. وقالوا: هوي. قال أبو ذؤيب: سبقوا هوي، وأعنقوا لسبيلهم (1)، فتخرموا، ولكل جنب مضجع اللغة: الهبوط: النزول من موضع عال إلى استفال، وقد يستعمل في هبوط المنزلة، قال لبيد: كل بني حرة مصيرهم * قل، وإن أكثروا من العدد إن يغبطوا يهبطوا، وإن أمروا * يوما فهم للفناء، والفند (2) والإتيان، والمجئ، والإقبال، نظائر. ونقيضه الذهاب والإنصراف. والإتباع والإقتداء والاحتذاء نظائر. والتابع: التالي. وفي الحديث القادة والأتباع، فالقادة: السادة، والأتباع: الذين يتبعونهم. والتبيع: ولد البقرة. وثلاثة اتبعة. والجمع أتابيع. والتبع: الظل. والخوف والجزع والفزع نظائر. ونقيض الخوف: الأمن. وطريق مخوف: يخافه الناس. ومخيف: يخيف الناس. والحزن والغم والهم نظائر. ونقيضه: السرور. يقال: حزن حزنا، وحزنه حزنا، ويقال: حزنه وأحزنه، وهو محزون ومحزن. وقال قوم: لا يقولون حزنه الأمر، ويقولون: (1) هكذا في النسخ، والمحفوظ كما في (لسان العرب)، وغيره " لهواهم " وبدل مضجع مصرع. (2) الفند: الفناء وضعف الرأي من الهرم. (*)
[ 178 ]
يحزنه، فإذا صاروا إلى الماضي قالوا: أحزنه. وهذا شاذ نادر، لأنه استعمل أحزن، وأهمل يحزن، واستعمل يحزن، واهمل حزن. وأصل الباب غلظ الهم، مأخوذ من الحزن: وهو ما غلظ من الأرض. الاعراب: (إما): هو إن الجزاء دخلت عليها " ما " ليصح دخول نون التأكيد في الفعل ولو اسقطت لم يجز دخول النون، لأنها لا تدخل في الخبر الواجب إلا في القسم، أو ما أشبه القسم، كقولك: زيد ليأتينك، ولو قلت بغير لام لم يجز. وكذلك تقول: بعين ما أرينك، وبجهد ما تبلغن، وفي عضة ما ينبتن شكيرها (1). ولو قلت بعين أرينك، بغير ما، لم يجز. فدخول ما هاهنا كدخول اللام في أنها تؤكد أول الكلام، وتؤكد النون آخره. والأمر والنهي مما يشتد الحاجة إلى التوكيد فيه. والإستفهام مشبه به، إذ كان معناه أخبرني. والنون إنما تلحق للتوكيد. فلذلك كان من مواضعها. قال الله تعالى (لا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا). قال الزجاج: وإنما فتح ما قبل النون في قوله (يأتينكم) لسكون الياء، وسكون النون الأولى. قال أبو علي: ولو كان كذلك لما حرك في نحو هل تضربن ونحوه من الصحيح، لأن الساكنين لا يلتقيان في هذا النحو. وفي هذا ما يدل على أن هذه الحركة للبناء دون ما ذكره من التقاء الساكنين، وجواب الشرط في الفاء مع الشرط الثاني وجزائه، لأن الشرط وجوابه بمنزلة المبتدأ والخبر، فكما أن المبتدأ لا يتم إلا بخبره، فكذلك الشرط لا يتم إلا بجزائه. ولك أن تجعل خبر المبتدأ جملة هي مبتدأ وخبر، كقولك زيد أبوه منطلق، فكذلك إن التي للجزاء إذا كان جوابه بالفاء، ووقع بعد الفاء الكلام مستأنفا، صلح أن يكون جزاء وغير جزاء. تقول: إن تأتني فأنت مكرم، ولك أن تقول: إن تأتني فمن يكرمك أكرمه، فقوله (إما يأتينكم) شرط و " يأتينكم " في موضع الجزم بأن، وجزاؤه الفاء وما بعده من قوله (فمن تبع هداي) الآية. و (من) في موضع الرفع بالإبتداء. و (تبع) في موضع الجزم بالشرط، وجزاؤه الفاء وما بعده، وهو قوله: (فلا خوف عليهم) ولا خوف عليهم جملة اسمية " ولا هم يحزنون " جملة اسمية معطوفة على الجملة التي قبلها. والفاء مع ما بعده في موضع جزم بالجزاء، لقوله (من تبع هداي). والشرط والجزاء (1) العضة: شجر الشوك. شكير: ما ينبت حول الشجرة من أصله. (*)
[ 179 ]
مع معنى حرف الشرط الذي تضمنته " من " في موضع رفع بأنها خبر المبتدأ الذي هو (من) ثم الفاء وما بعده من قوله (فمن تبع هداي) الآية. في موضع جزم بأنه جزاء لقوله (إما يأتينكم). وهذا في المقدمات القياسية يسمى الشرطية المركبة، وذلك أن المقدم فيها إذا وجب وجب التالي المركب عليه (1). المعنى: ثم بين تعالى إهباطهم إلى الأرض، فقال (اهبطوا) أي: انزلوا. والخطاب لآدم وحواء على ما ذكرناه من الإختلاف فيه فيما تقدم. واختلف في تكرار الهبوط فقيل: الهبوط الأول من الجنة إلى السماء، وهذا الهبوط من السماء إلى الأرض عن أبي علي. وقيل: إنما كرر للتأكيد. وقيل: إنما كرر لاختلاف الحالين فقد بين بقوله: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) ان الإهباط إنما كان في حال عداوة بعضهم لبعض. وبين بقوله (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى) أن الإهباط إنما كان للإبتلاء والتكليف كما يقال إذهب سالما معافى، إذهب مصاحبا. وإن كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين (فإما يأتينكم مني هدى) أي: بيان ودلالة. وقيل: أنبياء ورسل. وعلى هذا القول الأخير يكون الخطاب في قوله (اهبطوا) لآدم وحواء وذريتهما كقوله تعالى (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) أي: أتينا بما فينا من الخلق طائعين. (فمن تبع هداي) أي: اقتدى برسلي، واحتذى أدلتي، فلا يلحقهم خوف من أهوال يوم القيامة من العقاب، ولا هم يحزنون على فوات الثواب. فأما الخوف والحزن في الدنيا: فإنه يجوز أن يلحقهم، لأن من المعلوم أن المؤمنين لا ينفكون منه. وفي هذه الآية دلالة على أن الهدى قد يثبت، ولا اهتداء، وأن الإهتداء إنما يقع بالإتباع والقبول. (والذين كفروا وكذبوا بأياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39)). اللغة: الكفر والتكذيب قد مضى معناهما فيما تقدم ذكره. والآيات: جمع آية، ومعنى الآية في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى (عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك) أي: علامة لإجابتك دعاءنا. وكل آية من كتاب الله علامة ودلالة على المضمون فيها. وقال أبو عبيدة: معنى الآية أنها علامة لانقطاع (1) الجار متعلق بالتالي. (*)
[ 180 ]
الكلام الذي قبلها، وانقطاعه من الذي بعدها. وقيل: إن الآية القصة والرسالة، قال كعب بن زهير: ألا أبلغا هذا المعرض آية * أيقظان قال القول إذ قال أم حلم أي: رسالة، فعلى هذا يكون معنى الآيات القصص أي: قصة تتلو قصة. وقال ابن السكيت: خرج القوم بآيتهم أي: بجماعتهم لم يدعوا وراءهم شيئا، وعلى هذا يكون معنى الآية من كتاب الله جماعة حروف دالة على معنى مخصوص. والأصحاب: جمع الصاحب وهو القرين. وأصل الصحبة المقارنة، فالصاحب: هو الحاصل مع آخر مدة، لأنه إذا اجتمع معه وقتا واحدا لم يكن صاحبا له، لكن يقال صحبه وقتا من الزمان، ثم فارقه. الاعراب: موضع (أولئك) يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون بدلا من الذين، أو عطف بيان. و (أصحاب النار): بيان عن (أولئك)، مجراه مجرى الوصف. والخبر (هم فيها خالدون). والثاني: أن يكون ابتداء وخبرا في موضع الخبر الأول. والثالث: أن يكون على خبرين بمنزلة خبر واحد. كقولك: هذا حلو حامض. فإن قيل: فلم دخلت الفاء في موضع آخر مثل قوله: (فاولئك لهم عذاب مهين) ولم يدخل هاهنا ؟ قلنا: لأن ما دخل فيه الفاء من خبر الذي وأخواته مشبه بالجزاء، وما لم يكن فيه فاء، فهو على أصل الخبر. وإذا قلت: ما لي فهو لك، إن أردت ما بمعنى الذي، جاز. وإن أردت به المال، لم يجز. المعنى: (والذين كفروا) أي: جحدوا " وكذبوا بآياتنا " أي: دلالاتنا وما أنزلناه على الأنبياء ف‍ " أولئك أصحاب النار " أي: الملازمون للنار (هم فيها خالدون) أي: دائمون. وفي هذه الاية دلالة على أن من مات مصرا على كفره، غير تائب منه، وكذب بآيات ربه، فهو مخلد في نار جهنم. وآيات الله: دلائله وكتبه المنزلة على رسله. والآية: مثل الحجة والدلالة، وإن كان بينهما فرق في الأصل، يقال: دلالة هذا الكلام كذا، ولا يقال آيته. ومن استدل بهذه الآية على أن عمل الجوارح قد يكون من الكفر بقوله (وكذبوا بآياتنا) فقوله يفسد بأن التكذيب نفسه، وإن لم يكن كفرا، فهو دلالة على الكفر، لأنه لا يقع إلا من كافر كالسجود للشمس، وغيره.
[ 181 ]
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياى فارهبون (40)). القراءة: القراءة المشهورة: (إسرائيل) مهموز ممدود مشبع، وهو الفصيح. وروي في الشواذ عن الحسن، والزهري: (اسرايل) بلا همز ولا مد. وعن الأعمش، وعيسى بن عمر، كذلك. وحكي عن الأخفش: " اسرائل " بكسر الهمزة من غير ياء. وحكى قطرب: (اسرال) من غير همز ولا ياء و (اسرئين) بالنون. قال أبو علي: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه، وأنشد: هل تعرف الدار لأم الخزرج * منها فظلت اليوم كالمزرج يريد المزرجن، وهو الخمر من الزرجون. قال: والنون في زرجون أصل كالسين في قربوس، فإذا جاز للعرب أن تخلط فيما هو لغتها، فكيف فيما ليس من لغتها. واختير تحريك الياء في قوله (نعمتي التي أنعمت) لأنه لقيها ألف الوصل واللام، فلم يكن بد من إسقاطها، أو تحريكها. فكان التحريك أولى، لأنه أدل على الأصل، وأشكل بما يلحق اللام في الاستئناف من فتح ألف الوصل وإسكان الياء من قوله " يا عبادي الذين أسرفوا " أي الإسقاط ههنا أجود، لأن من حق ياء الإضافة ألا تثبت في النداء، وإذا لم تثبت فلا طريق إلى تحريكها. والإختيار في قوله (فبشر عبادي الذين يستمعون القول " حذف الياء، لأنه رأس آية، ورؤوس الآي لا تثبت فيها الياء، لأنها فواصل ينوى فيها الوقف، كما يفعل ذلك في القوافي. وأجمعوا على إسقاط الياء من قوله (فارهبون) إلا ابن كثير، فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف، والوجه حذفها لكراهية الوقف على الياء، وفي كسر النون دلالة على ذهاب الياء. اللغة: الابن، والولد، والنسل، والذرية، متقاربة المعاني، إلا أن الابن: للذكر، والولد: يقع على الذكر والأنثى. والنسل والذرية: يقع على جميع ذلك، وأصله من البناء: وهو وضع الشئ على الشئ. فالابن: مبني على الأب، لأن الأب أصل والإبن فرع. والبنوة مصدر الإبن وإن كان من الياء، كالفتوة مصدر الفتى، وتثنيته فتيان. وإسرائيل: هو يعقوب بن
[ 182 ]
إسحاق بن إبراهيم. وقيل: أصله مضاف لأن أسر: معناه عبد، وايل: هو الله بالعبرانية، فصار مثل عبد الله وكذلك جبرائيل وميكائيل. والذكر: الحفظ للشئ بذكره، وضده النسيان. والذكر: جري الشئ على لسانك. والذكر: الشرف في قوله (وإنه لذكر لك ولقومك) والذكر: الكتاب الذي فيه تفصيل الدين، وكل كتاب من كتب الأنبياء ذكر. والذكر: الصلاة والدعاء. وفي الأثر: كانت الأنبياء إذا أحزنهم أمر فزعوا إلى الذكر أي: إلى الصلاة. وأصل الباب: التنبيه على الشئ. قال صاحب العين (1): تقول: وفيت بعهدك وفاء، وأوفيت لغة تهامة. قال الشاعر في الجمع بين اللغتين: أما ابن عوف فقد أوفى بذمته، * كما وفى بقلاص النحر حاديها (2) يعني به الدبران (3) وهو التالي. والعهد: الوصية. والرهبة: الخوف. وضدها الرغبة. وفي المثل: " رهبوت خير من رحموت " أي: لأن ترهب خير من أن ترحم. الاعراب: (يا): حرف النداء، وهي في موضع نصب، لأنه منادى مضاف. و (إسرائيل): في موضع جر، لأنه مضاف إليه، وفتح لأنه غير منصرف، وفيه سببان: العجمة والتعريف. وقوله (وإياي): ضمير منصوب، ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله (فارهبون)، لأنه مشغول كما لا يجوز أن يقول إن زيدا في قولك: زيدا فاضربه، منصوب باضربه، ولكنه يكون منصوبا بفعل يدل عليه ما هو مذكور في اللفظ، وتقديره وإياي ارهبوا فارهبون، ولا يظهر ذلك لأنه استغنى عنه بما يفسره، وإن صح تقديره. ولا يجوز في مثل ذلك الرفع على أن يكون الخبر (فارهبون) إلا على تقدير محذوف، كما أنشد سيبويه وقائلة خولان فانكح فتاتهم، * وأكرومة الحيين خلو كما هيا تقديره هؤلاء خولان، فانكح فتاتهم. وعلى ذلك حمل قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وتقديره: وفيما يتلى عليكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، وفيما فرض عليكم (1) أي صاحب (كتاب العين) في اللغة، وهو خليل بن أحمد الأزدي. (2) القلاص جمع القلوص: وهي الشابة من النوق. (3) الدبران: هو كوكب وقاد تسمى القلاص. وقيل له: الدبران. لأنه دبر الثريا أي: جاء خلفها. (*)
[ 183 ]
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما. المعنى: لما عم الله تعالى جميع الخلق بالحجج الواضحة على توحيده، وذكرهم ما أنعم به عليهم في أبيهم آدم عليه السلام خص بني إسرائيل بالحجج، وذكرهم ما أسدى إليهم وإلى آبائهم من النعم، فقال: (يا بني إسرائيل) يعني يا بني يعقوب، نسبهم إلى الأب الأعلى، كما قال: يا بني آدم ! والخطاب لليهود والنصارى. وقيل: هو خطاب لليهود الذين كانوا بالمدينة وما حولها، عن ابن عباس. (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم): أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم، والكتب، وإنجائهم من فرعون ومن الغرق، على أعجب الوجوه، وإنزال المن والسلوى عليهم، وكون الملك فيهم في زمن سليمان عليه السلام وغير ذلك. وعد النعمة على آبائهم نعمة عليهم، لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء، وهذا كما يقال في المفاخرة: قتلناكم يوم الفجار، وهزمناكم يوم ذي قار، وغلبناكم يوم النسار. وذكر النعمة بلفظ الواحد، والمراد بها الجنس، كقوله تعالى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) والواحد لا يمكن عده. وقيل: المراد بها النعم الواصلة إليهم مما اختصوا به دون آبائهم، واشتركوا فيه مع آبائهم، فكان نعمة على الجميع، فمن ذلك تبقية آبائهم حتى تناسلوا، فصاروا من أولادهم، ومن ذلك خلفه إياهم على وجه يمكنهم معه الإستدلال على توحيده، والوصول إلى معرفته، فيشكروا نعمه، ويستحقوا ثوابه. ومن ذلك ما يوصل إليهم حالا بعد حال من الرزق، ويدفع عنهم من المكاره والأسواء، وما يسبغ عليهم من نعم الدين والدنيا. فعلى القول الأول: تكون الآية تذكيرا بالنعم عليهم في أسلافهم، وعلى القول الثاني تكون تذكيرا بالمنعم عليهم، ومن النعم على أسلافهم ما ذكره في قوله: (وإذ قال موسى لقومه يا قومي اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) وقال ابن الأنباري: أراد اذكروا ما أنعمت به عليكم فيما استودعتكم من علم التوراة، وبينت لكم من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وألزمتكم من تصديقه واتباعه، فلما بعث ولم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة. وقوله: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) قيل فيه وجوه أحدها: إن هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيا يقال له محمد، فمن تبعه كان له
[ 184 ]
أجران اثنان: أجر باتباعه موسى وإيمانه بالتوراة، وأجر باتباعه محمدا وإيمانه بالقرآن. ومن كفر به تكاملت أوزاره، وكانت النار جزاءه. فقال: أوفوا بعهدي في محمد، أوف بعهدكم أدخلكم الجنة، عن ابن عباس، فسمى ذلك عهدا، لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق. وقيل: إنما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين، كما قال سبحانه: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وثانيها: إنه العهد الذي عاهدهم عليه، حيث قال: (خذوا ما آتيناكم بقوة) أي بجد، واذكروا. ما فيه أي: ما في الكتاب عن الحسن وثالثها: إنه ما عهد إليهم في سورة المائدة، حيث قال (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) وقال الله: (إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي) الآية. عن قتادة. ورابعها: إنه أراد جميع الأوامر والنواهي وخامسها: إنه جعل تعريفه إياهم نعمه عهدا عليهم، وميثاقا، لأنه يلزمهم القيام بما يأمرهم به من شكر هذه النعم، كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق الذي يؤخذ عليهم. والأول أقوى، لأن عليه أكثر المفسرين، وبه يشهد القرآن. وقوله " وإياي فارهبون " أي: خافوني في نقض العهد. وفي هذه الآية دلالة على وجوب شكر النعمة. وفي الحديث: " التحدث بالنعم شكر ". وفيها دلالة على عظم المعصية في جحود النعم وكفرانها، ولحوق الوعيد الشديد بكتمانها، ويدل أيضا على ثبوت أفعال العباد، إذ لو لم تكن لهم أفعال لما صح العهد، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولأدى إلى بطلان الرسل والكتب. (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41)). اللغة: قوله: أول كافر. قال الزجاج: يعني أول الكافرين، وفيه قولان: قال الأخفش: معناه: أول من كفر به، وقال غيره من البصريين معناه: أول فريق كافر به أي: بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال: وكلا القولين صواب حسن، ونظير قوله أول كافر به. قال الشاعر: وإذا هم طعموا، فألأم طاعم، * وإذا هم جاعوا، فشر جياع والثمن، والعوض، والبدل، نظائر. وبينها فروق: فالثمن هو البدل في البيع
[ 185 ]
من العين أو الورق، وإذا استعمل في غيرهما كان مشبها بهما، ومجازا. والعوض: هو البدل الذي ينتفع به كائنا ما كان. والبدل: هو الشئ الذي يجعل مكان غيره. وثوب ثمين: كثير الثمن. والثمين: الثمن. والفرق بين الثمن والقيمة: إن الثمن قد يكون وفقا، وقد يكون بخسا، وقد يكون زائدا. والقيمة: لا تكون إلا مساوية المقدار للثمن، من غير نقصان، ولا زيادة. الاعراب: (مصدقا): نصب لأنه حال من الهاء المحذوفة من (أنزلت)، كانه قال: أنزلته مصدقا، ويصلح أن ينتصب بآمنوا، كأنه قال: آمنوا بالقرآن مصدقا. و " معكم ": صلة لما، والعامل فيه الإستقرار أي: الذي استقر معكم. والهاء في (به) عائد إلى ما في قوله (بما أنزلت) إلى ما في قوله (لما معكم). ونصب (أول كافر) لأنه خبر كان. المعنى: ثم قال مخاطبا لليهود " وآمنوا " أي: صدقوا (بما أنزلت) على محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن، لأنه منزل من السماء إلى الأرض (مصدقا لما معكم) من التوراة. أمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بالنبوة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتصديقه نظير الذي في التوراة والإنجيل، فإن فيهما البشارة بمحمد، وبيان صفته. فالقرآن مصدق لهما. وقيل: معناه أنه يصدق بالتوراة، لأن فيه الدلالة على أنه حق، وأنه من عند الله. والأول أوجه لأنه يكون حجة عليهم، بأن جاء القرآن بالصفة التي تقدمت بها بشارة موسى وعيسى عليهما السلام. وقوله: " ولا تكونوا أول كافر به " أي: بالقرآن من أهل الكتاب، لأن قريشا قد كانت كفرت به بمكة قبل اليهود. وقيل: المعنى ولا تكونوا السابقين إلى الكفر به فيتبعكم الناس، أي: لا تكونوا أئمة في الكفر به، عن أبي العالية. وقيل: المعنى ولا تكونوا أول جاحدين (1) صفة النبي في كتابكم، فعلى هذا تعود الهاء في " به " إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن ابن جريج، وقيل: المعنى ولا تكونوا أول كافر بما معكم من كتابكم، لأنكم إذا جحدتم ما فيه من صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كفرتم به. قال الزجاج: وقواه بأن الخطاب وقع على علماء أهل الكتاب، فإذا كفروا كفر (1) وفي النسخ التي عندنا (أول جاحد أن صفة النبي في كتابكم). (*)
[ 186 ]
معهم الأتباع، فلذلك قيل لهم: " ولا تكونوا أول كافر به " قال: ولو كان الهاء في " به " للقرآن، فلا فائدة فيه، لأنهم كانوا يظهرون أنهم كافرون بالقرآن. وقال علي بن عيسى: يحتمل أن يكون أول كافر بالقرآن أنه حق في كتابكم، وإنما عظم أول الكفر لأنهم إذا كانوا أئمة لهم وقدوة في الضلالة، كانت ضلالتهم أعظم، نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ". وليس في نهيه عن أن يكونوا أول كافر به، دلالة على أنه يجوز أن يكونوا آخر كافر، لأن المقصود النهي عن الكفر على كل حال. وخص أولا بالذكر لما ذكرناه من عظم موقعه، كما قال الشاعر (1): من أناس ليس في أخلاقهم * عاجل الفحش، ولا سوء الجزع وليس يريد أن فيهم فحشا آجلا. وقوله: " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " روي عن أبي جعفر عليه السلام، في هذه الآية قال: كان حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وآخرون من اليهود، لهم مأكلة على اليهود في كل سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحرفوا لذلك آيات من التوراة، فيها صفته وذكره، فذلك الثمن الذي أريد في الآية. قال الفراء: إنما أدخل الباء في الآيات دون الثمن وفي سورة يوسف أدخله في الثمن في قوله (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) لأن العروض (2) كلها أنت مخير فيها، إن شئت قلت: اشتريت الثوب بكساء، وإن شئت قلت: اشتريت بالثوب كساء، أيهما جعلت ثمنا لصاحبه جاز. فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله (وشروه بثمن بخس دراهم) لأن الدراهم ثمن أبدا، والمعنى: لا تستبدلوا بآياتي أي: بما في التوراة من بيان صفة محمد ونعته، ثمنا قليلا أي: عرضا يسيرا من الدنيا. (وإياي فاتقون) فاخشوني في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ما يفوتكم من المآكل والرئاسة. وتقييده الثمن بالقلة لا يدل على أنه إذا كان كثيرا يجوز شراؤه به، لأن المقصود أن أي شئ باعوا به آيات الله كان قليلا، وإنه لا يجوز أن يكون ثمن يساويه (1) وهو سويد بن أبي كاهل. (2) العروض بالضم جمع العرض: المتاع وكل شئ سوى الدراهم والدنانير. (*)
[ 187 ]
كقوله: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) وإنما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال، وأنه لا يجوز أن يكون عليه برهان. ومثله قوله (ويقتلون النبيين بغير حق) وإنما أراد أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق. ونظائر ذلك كثيرة، ومنه قول امرئ القيس: على لاحب لا يهتدى بمناره، * إذا سافه العود الديافي جرجرا وإنما أراد أنه لا منار هناك فيهتدى به. وفي هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرشى في الدين، لأنه لا يخلو إما أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره. فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام. وهذا الخطاب يتوجه أيضا على علماء السوء من هذه الأمة، إذا ختاروا الدنيا على الدين، فتدخل فيه الشهادات، والقضايا، والفتاوى، وغير ذلك. (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42)). اللغة: اللبس، والتغطية، والتعمية، نظائر. والفرق بين التغطية والتعمية: إن التغطية تكون بالزيادة، والتعمية قد تكون بالنقصان والزيادة، وضد اللبس: الإيضاح. واللباس: ما واريت به جسدك. ولباس التقوى: الحياء. واللبس: خلط الأمور بعضها ببعض. والفعل لبس الأمر يلبس لبسا، ولبس الثوب يلبسه لبسا. والفرق بين اللبس والإخفاء: إن الإخفاء يمكن أن يدرك معه المعنى، ولا يمكن مع اللبس إدراك المعنى. والإشكال قد يدرك معه المعنى، إلا أنه بصعوبة لأجل التعقيد. وقال أمير المؤمنين عليه السلام للحرث بن حوط: يا " حار ! إنه ملبوس عليك أن الحق لا يعرف بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله ". والباطل والبطل واحد، وهو ضد الحق. والبطلان والفساد والكذب والزور والبهتان نظائر. وأبطلت الشئ: جعلته باطلا. وأبطل الرجل: جاء بباطل. الاعراب: قوله " وتكتموا الحق ": يحتمل وجهين من الإعراب: أحدهما: الجزم على النهي، كأنه قال لا تلبسوا الحق، ولا تكتموا، فيكون عطف جملة على جملة. والآخر: النصب على الظرف بإضمار أن، فيكون عطف الإسم على مصدر الفعل الذي قبله، وتقديره لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه. ودل تلبسوا على لبس، كما يقال من كذب كان شرا له، فكذب يدل
[ 188 ]
على الكذب، فكأنه قال: من كذب كان الكذب شرا. قال الشاعر في مثله: لا تنه عن خلق، وتأتي مثله، * عار عليك إذا فعلت عظيم أي: لا تجمع بين النهي عن خلق، والإتيان بمثله. المعنى: (ولا تلبسوا) أي: لا تخلطوا (الحق بالباطل) ومعنى لبسهم الحق بالباطل أنهم آمنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعض، لأنهم جحدوا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك الباطل، وأقروا بغيره مما في الكتاب. وقيل معناه: لا تحرفوا الكلم عن مواضعه، فالتحريف هو الباطل، وتركهم ما في الكتاب على ما هو به هو الحق. وقال ابن عباس: لا تخلطوا الصدق بالكذب. وقيل: الحق: التوراة التي أنزلها الله على موسى، والباطل: ما كتبوه بأيديهم. وقيل: الحق إقرارهم أن محمدا مبعوث إلى غيرهم، والباطل: إنكارهم أن يكون بعث إليهم. وقوله (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) أي: لا تكتموا صفة النبي صلى الله عليه واله وسلم في التوراة، وأنتم تعلمون أنه حق. والخطاب متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب، كما وصفهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه للتلبيس على أتباعهم. وهذا تقبيح لما يفعلونه أي: يجحدون ما يعلمون، وجحد العالم أعظم من جحد الجاهل. وقيل: معناه وأنتم تعلمون البعث والجزاء. وقيل: معناه وأنتم تعلمون ما أنزل ببني إسرائيل، وما سينزل بمن كذب على الله تعالى. وقيل: معناه وأنتم تعلمون ما نزل ببني إسرائيل من المسخ وغيره. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هؤلاء عارفين بنبوة محمد، وذلك مبني على معرفة الله، وعندكم أن من عرف الله لا يجوز أن يكفر، وهؤلاء صاروا كفارا، وماتوا على كفرهم ؟ قلنا: لا يمتنع أن يكونوا عرفوا الله على وجه لا يستحقون به الثواب، لأن الثواب إنما يستحق بأن ينظروا من الوجه الذي يستحق به الثواب، فإذا نظروا على غير ذلك الوجه، لا يستحقون الثواب. فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين بالله، والتوراة، وبصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يستحقوا الثواب، فلا يمتنع أن يكفروا. وقال بعض أصحابنا: استحقاقهم الثواب على إيمانهم مشروط بالموافاة، فإذا لم يوافوا بالإيمان، لم يستحقوا الثواب. فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين، وإن لم يكونوا مستحقين لثواب يبطل بالكفر، والمعتمد الأول. (وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة واركعوا مع الراكعين (43)).
[ 189 ]
اللغة: أصل الصلاة عند أكثر أهل اللغة: الدعاء على ما ذكرناه قبل. ومنه قول الأعشى: تقول بنتي وقد قربت مرتحلا: * يا رب جنب أبي الأوصاب، والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي * نوما، فإن لجنب المرء مضطجعا أي: دعوت. وقيل: أصلها اللزوم من قول الشاعر: لم أكن من جناتها - علم الله - * وإني لحرها اليوم صال أي: ملازم لحرها. فكأن معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به. وقيل: أصلها من الصلا: وهو عظم العجز لرفعه في الركوع والسجود، ومنه قول النابغة: فآب مصلوه بعين (1) جلية، * وغودر بالجولان حزم، ونائل أي: الذين جاؤوا في صلا السابق. وعلى القول الأول أكثر العلماء. وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى. والزكاة، والنماء، والزيادة، نظائر في اللغة. وقال صاحب العين: الزكاة زكاة المال: وهو تطهيره. وزكا الزرع وغيره يزكو زكاء ممدودا اي: نما وازداد. وهذا لا يزكو بفلان أي: لا يليق به. والزكا: الشفع. والخسا: الوتر. وأصله تثمير المال بالبركة التي يجعلها الله فيه. والركوع، والإنحناء، والإنخفاض، نظائر في اللغة. قال ابن دريد: الراكع الذي يكبو على وجهه ومنه الركوع في الصلاة. قال الشاعر (2): وأفلت حاجب فوق العوالي * على شقاء تركع في الظراب وقال صاحب العين: كل شئ ينكب لوجهه، فتمس ركبته الأرض، أو لا تمس بعد أن يطأطئ رأسه، فهو راكع. قال الشاعر: ولكني أنص العيس تدمى * أياطلها، وتركع بالحزون (3) وقال لبيد: (1) وفي نسخنا المخطوطة والمطبوعة (بغير) بدل (بعين). (2) قائله: بشر بن أبي حازم. الشقاء: تأنيث الأشق: وهو الفرس الطويل. (3) نص العين: استحثه شديدا. أياطلها أي: خواصرها. (*)
[ 190 ]
أخبر أخبار القرون التي مضت، * أدب كأني كلما قمت راكع وقيل: إنه مأخوذ من الخضوع. قال الشاعر: لا تهين الفقير علك أن * تركع يوما، والدهر قد رفعه والأول أقوى، وإنما يستعمل في الخضوع مجازا، وتوسعا. المعنى: (وأقيموا الصلاة) أي: أدوها بأركانها وحدودها وشرائطها، كما بينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم " وآتوا الزكاة " أي: أعطوا ما فرض الله عليكم في أموالكم على ما بينه الرسول لكم. وهذا حكم جميع ما ورد في القرآن مجملا، فإن بيانه يكون موكولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قال سبحانه وتعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فلذلك أمرهم بالصلاة والزكاة على طريق الإجمال. وأحال في التفصيل على بيانه. وقوله (واركعوا مع الراكعين) إنما خص الركوع بالذكر، وهو من أفعال الصلاة بعد قوله (وأقيموا الصلاة) لأحد وجوه. أحدها: إن الخطاب لليهود، ولم يكن في صلاتهم ركوع، وكان الأحسن ذكر المختص دون المشترك، لأنه أبعد من اللبس وثانيها: إنه عبر بالركوع عن الصلاة. يقود القائل: فرغت من ركوعي أي: صلاتي. وإنما قيل ذلك لأن الركوع أول ما يشاهد من الأفعال التي يستدل بها على أن الإنسان يصلي، فكأنه كرر ذكر الصلاة تأكيدا، عن أبي مسلم. ويمكن أن يكون فيه فائدة تزيد على التأكيد، وهو أن قوله (أقيموا الصلاة) إنما يفيد وجوب إقامتها ويحتمل أن يكون إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها، وأن يكون الصلاة إشارة إلى الصلاة الشرعية. وقوله " واركعوا مع الراكعين " يكون معناه: صلوا مع هؤلاء المسلمين الراكعين، فيكون متخصصا بالصلاة المتقررة في الشرع، فلا يكون تكرارا بل يكون بيانا وثالثها: إنه حث على صلاة الجماعة، لتقدم ذكر الصلاة في أول الآية. (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44)). اللغة: البر في اللغة والإحسان والصلة نظائر يقال: فلان بار وصول محسن. وضد البر العقوق، ورجل بر، وباز، وبرت يمينه: صدقت. وبر حجه وبر لغتان. وقولهم: فلان لا يعرف الهر من البر، قال الأخفش: معناه
[ 191 ]
لا يعرف من يهر عليه ممن يبره. وقال المازني: الهر السنور. والبر: الفأرة، أو دويبة تشبهها. والفرق بين البر والخير: إن البر يدل على قصد. والخير قد يقع على وجه السهو. والنسيان، والسهو، والغفلة، نظائر. وضد النسيان الذكر، وحقيقته غروب الشئ عن النفس بعد حضوره، وهو عدم علم ضروري من فعل الله تعالى. والسهو: قد يقع عما كان الإنسان عالما به، وعما لم يكن عالما به. وقد يكون النسيان بمعنى الترك نحو قوله (نسوا الله فنسيهم) أي: تركوا ذكر الله فخذلهم. والتلاوة: القراءة، تلا يتلو تلاوة أي: قرأ. وتلا يتلو تلوا أي: تبع. وأصل التلاوة منه، لإتباع بعض الحروف فيها بعضا. والفرق بين التلاوة والقراءة: إن أصل القراءة جمع الحروف، وأصل التلاوة إتباع الحروف. والعقل، والفهم، والمعرفة، واللب، نظائر. ورجل عاقل: فهم لبيب ذو معرفة، وضد العقل الحمق، يقال: عقل الشئ عقلا، وأعقله غيره. وقيل لابن عباس: أنى لك هذا العلم ؟ قال: قلب عقول ولسان سؤول. وقال صاحب كتاب العين: العقل ضد الجهل، يقال: عقل الجاهل: إذا علم، وعقل المريض بعد أن أهجر، وعقل المعتوه ونحوه. والعقال: الرباط، يقال: عقلت البعير أعقله عقلا: إذا شددت يده بالعقال. والعقل: مجموع علوم لأجلها يمتنع الحي من كثير من المقبحات، ويفعل كثيرا من الواجبات، وإنما سميت تلك العلوم عقلا، لأنها تعقل عن القبيح. وقيل: لأنها تعقل العلوم المكتسبة. ولا يوصف القديم تعالى بأنه عاقل، لأنه لا يعقله شئ عن فعل القبيح، وإنما لا يختاره لعلمه بقبحه، وبأنه غني عنه، ولأنه لا يكتسب علما بشئ فيثبت بعض علومه ببعض. وقال علي بن عيسى: العقل هو العلم الذي يزجر عن قبيح الفعل (1)، ومن كان زاجره أقوى فهو أعقل. وقيل: العقل معرفة يفصل بها بين القبيح والحسن في الجملة. وقيل: هو التمييز الذي به فارق الإنسان جميع الحيوان، وهذه العبارات قريبة معاني بعضها من بعض. والفرق بين العقل والعلم: إن العقل قد يكمل لمن فقد بعض العلوم، ولا يكمل العلم لمن فقد بعض عقله، فإن قيل: إذا كان العقل مختلفا فيه، فكيف يجوز أن يستشهد به ؟ قلنا: إن الإختلاف في ماهية العقل لا (1) [ فعل ]. (*)
[ 192 ]
يوجب الإختلاف في قضاياه، ألا ترى أن الإختلاف في ماهية العقل حتى إن بعضهم قال معرفة، وبعضهم قال قوة، لا توجب الإختلاف في أن المائة أكثر من واحد، وأن الكل أعظم من الجزء، وغير ذلك من قضايا العقول. المعنى: هذه الآية خطاب لعلماء اليهود، وكانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه، ولا يؤمنون هم. والألف للإستفهام، ومعناه التوبيخ المراد بالبر الايمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (1). وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وترك أنفسهم عن ذلك. قال أبو مسلم: كانوا يأمرون العرب بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث، فلما بعث كفروا به. وروي عن ابن عباس: إن المراد أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بالتوراة، وتركوا هم التمسك به، لأن جحدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفته، فيه ترك للتمسك به. وعن قتادة: كانوا يأمرون الناس بطاعة الله، وهم يخالفونه. وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل ؟ فقال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا، ممن كانوا يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم. وقال بعضهم: أتأمرون الناس بالصدقة وتتركونها أنتم، وإذا أتتكم الضعفاء بالصدقة لتفرقوها على المساكين، خنتم فيها. وقوله " وأنتم تتلون الكتاب ": معناه وأنتم تقرأون التوراة، وفيها صفته ونعته، عن ابن عباس. وقوله: " أفلا تعقلون " أفلا تفقهون أن ما تفعلونه قبيح في العقول. وعن أبي مسلم: إن معناه هذا ليس بفعل من يعقل. وقيل: معناه أفلا تعلمون أن الله يعذبكم ويعاقبكم على ذلك. وقيل: أفلا تعلمون أن ما في التوراة حق فتصدقوا محمدا وتتبعوه. فإن قيل: إن كان فعل البر واجبا، والأمر به واجبا، فلماذا وبخهم الله تعالى على الأمر بالبر ؟ قلنا: لم يوبخهم الله على الأمر بالبر، وإنما وبخهم على ترك فعل البر المضموم إلى الأمر بالبر، لأن ترك البر ممن يأمر به، أقبح من تركه ممن لا يأمر به، فهو كقول الشاعر: لا تنه عن خلق، وتأتي مثله، * عار عليك إذا فعلت عظيم (1) [ أي ]. (*)
[ 193 ]
ومعلوم أنه لم يرد به النهي عن الخلق المذموم، وإنما أراد النهي عن إتيان مثله. (واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45)). اللغة: الصبر: منع النفس عن محابها، وكفها عن هواها، ومنه الصبر على المصيبة لكف الصابر نفسه عن الجزع، ومنه جاء في الحديث: " وهو شهر الصبر " لشهر رمضان لأن الصائم يصبر نفسه ويكفها عما يفسد الصيام. وقتل فلان صبرا: وهو أن ينصب للقتل ويحبس عليه حتى يقتل. وكل من حبسته لقتل أو يمين يقال فيه قتل صبرا ويمين صبر وصبرته أي حلفته بالله جهد القسم. وفي الحديث: " اقتلوا القاتل واصبروا الصابر " وذلك فيمن أمسكه حتى قتله آخر، فأمر بقتل القاتل، وحبس الممسك. والخشوع، والخضوع والتذلل والإخبات نظائر. وضد الخشوع: الإستكبار. وخشع الرجل: إذا رمى ببصره إلى الأرض. واختشع: إذا طأطأ رأسه كالمتواضع. والخشوع: قريب المعنى من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والإقرار بالإستخدام. والخشوع: في الصوت، والبصر. قال سبحانه " خاشعة أبصارهم ". وخشعت الأصوات: أي: سكنت. وأصل الباء من اللين والسهولة. والخاشع، والمتواضع، والمتذلل، والمستكين بمعنى. قال الشاعر (1): لما أتى خبر الزبير، تواضعت * سور المدينة، والجبال الخشع الاعراب: قوله " وإنها لكبيرة " اللام تدخل في خبر إن، ولا تدخل في خبر أخواتها، لأنها لام التأكيد، فهي شبيهة بأن، في أنها تدخل على المبتدأ وخبره، كما تدخل إن، وتدخل بمعنى القسم، كما تدخل إن، تقول: والله لتخرجن، كما تقول: والله إنك خارج. فإذا كان بينهما هذه المجانسة، فإذا دخلت على أن في نحو: لأنها كبيرة، كرهوا أن يجمعوا بين حرفين متشاكلين متفقين في المعنى، فاخر اللام إلى الخبر، ليفصل بين اللام وبين إن، بالإسم نحو: إنها لكبيرة. فأما سائر أخوات إن فمتى تركب مع المبتدأ وخبره، خرج المبتدأ من صورة المبتدأ، ويصير قسما آخر، فلا يدخل اللام عليه. وإذا لم (1) هو: جرير. (*)
[ 194 ]
يدخل عليه كان بالحري أن لا يدخل على خبره. النزول: قال الجبائي: إنه خطاب للمسلمين دون أهل الكتاب. وقال الرماني، وغيره: هو خطاب لأهل الكتاب، ويتناول المؤمنين على، وجه التأديب. والأولى أن يكون خطابا لجميع المكلفين لفقد الدلالة على التخصص، ويؤيد قول من قال: إنه خطاب لأهل الكتاب، أن ما قبل الآية وما بعدها خطاب لهم. المعنى: من قال إنه خطاب لليهود قال: إن حب الرياسة كان يمنع علماء اليهود عن اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم خافوا زوال الرياسة، إذا اتبعوه، فأمرهم الله تعالى فقال: (واستعينوا) على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه، من طاعتي، واتباع أمري، وترك ما نهيتكم عنه، والتسليم لأمري، واتباع رسولي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على ما أنتم فيه من ضيق المعاش الذي تأخذون الأموال من عوامكم بسببه. وروي عن أئمتنا عليهم السلام، أن المراد بالصبر: الصوم، فيكون فائدة الإستعانة به أنه يذهب بالشره وهوى النفس كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: " الصوم وجاء " (1) وفائدة الإستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب فيما عند الله تعالى، ويزهد في الدنيا، وحب الرياسة، كما قال سبحانه (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)، ولأنها تتضمن التواضع لله تعالى، فيدفع حب الرياسة. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزنه أمر استعان بالصلاة والصوم. ومن قال: إنه خطاب للمسلمين، قال: المراد به استعينوا على تنجز ما وعدته لمن اتبع النبي صلى الله عليه واله وسلم، أو على مشقة التكليف بالصبر أي: بحبس النفس على الطاعات، وحبسها عن المعاصي والشهوات، وبالصلاة لما فيها من تلاوة القرآن، والتدبر لمعانيه، والإتعاظ بمواعظه، والإئتمار بأوامره، والإنزجار عن نواهيه. ووجه آخر أنه ليس في أفعال القلوب أعظم من الصبر، ولا في أفعال الجوارح أعظم من الصلاة، فأمر بالإستعانة بهما. وروي عن الصادق عليه السلام، أنه قال: " ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا، أن يتوضأ، ثم يدخل المسجد، فيركع ركعتين، يدعو الله فيها، أما (1) قال الجزري الوجاء: أن ترض أشياء الفحل رضا شديدا. يذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي، أراد إن الصوم يقطع النكاح كما يقطع الوجاء. (*)
[ 195 ]
سمعت الله تعالى يقول: (واستعينوا بالصبر والصلاة). وقوله تعالى: (وإنها لكبيرة) قيل: في الضمير في " وإنها " وجوه أحدها: إن ها عائد إلى الصلاة، لأنها الأغلب والأفضل. وهو قول أكثر المفسرين. وعلى هذا ففي عود الضمير إلى واحد، وقد تقدم ذكر اثنين قولان: أحدهما: إن المراد به الصلاة دون غيرها، وخصها بالذكر لقربها منه، ولأنها الأهم والأفضل، ولتأكيد حالها وتفخيم شأنها وعموم فرضها. والآخر: إن المراد الإثنان، وإن كان اللفظ واحدا، ويشهد لذلك قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها والله ورسوله أحق أن يرضوه)، وقول الشاعر (1): إن شرخ الشباب، والشعر الأس‍ * - ود ما لم يعاص كان جنونا ولم يقل يعاصيا. وقول الآخر: فمن يك أمسى بالمدينة رحله، * فإني وقيارا بها لغريب ويروى وقيار، وقول آخر: نحن بما عندنا، وأنت بما عن‍ * - دك، راض، والرأي مختلف وقول الآخر: أما الوسامة، أو حسن النساء، فقد * أتيت منه، أو أن العقل محتنك ونحو ذا كثير في الكلام وثانيها: إنه عائد إلى الإستعانة يعني إن الإستعانة بهما لكبيرة. وقوله " استعينوا " يدل على الإستعانة. ومثله قول الشاعر (2): إذا نهي السفيه جرى إليه، * وخالف، والسفيه إلى خلاف أي: جرى إلى السفه. ودل السفيه على السفه وثالثها: إن الضمير عائد إلى محذوف وهو الإجابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الأصم. أو مؤاخذة النفس بهما. أو تأدية ما تقدم، أو تأدية الصلاة، وضروب الصبر عن المعاصي (3)، أو هذه الخطيئة، عن أبي مسلم. وهذه الوجوه الأخيرة كلها ضعيفة، لأنها لم يجر لها ذكر. وقوله: " لكبيرة " (1) هو حسان بن ثابت. (2) القائل: هو ضابئ بن الحارث البرجمي. (3) وفي نسختين مخطوطتين " القاضي " بدل " المعاصي ". (*)
[ 196 ]
أي: لثقيلة، عن الحسن وغيره. والأصل فيه أن كل ما يكبر يثقل على الإنسان حمله، فيقال لكل ما يصعب على النفس، وإن لم يكن من جهة الحمل يكبر عليها، تشبيها بذلك. وقوله: " إلا على الخاشعين " أي: على المتواضعين لله تعالى، فإنهم قد وطنوا أنفسهم على فعلها، وعودوها إياها، فلا يثقل عليهم. وأيضا فإن المتواضع لا يبالي بزوال الرياسة، إذا حصل له الإيمان. وقال مجاهد: أراد بالخاشعين المؤمنين، فإنهم إذا علموا ما يحصل لهم من الثواب بفعلها، لم يثقل عليهم ذلك، كما أن الإنسان يتجرع مرارة الدواء، لما يرجو به من نيل الشفاء. وقال الحسن: أراد بالخاشعين الخائفين. (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون (46)). اللغة: الظن المذكور في الآية: بمعنى العلم، واليقين كما قال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المسرد وقال أبو داود: رب هم فرجته بعزيم، * وغيوب كشفتها بظنون وقال المبرد: ليس من كلام العرب أظن عند زيد مالا، بمعنى أعلم، لأن العلم المشاهد لا يناسب باب الظن. وقد أفصح عن ذلك أوس بن حجر في قوله: الألمعي الذي يظن بك الظن * كأن قد رأى، وقد سمعا وقال آخر (1): فإلا يأتكم خبر يقين، فإن الظن ينقص، أو يزيد وقال بعض المحققين: أصل الظن ما يجول في النفس من الخاطر الذي يغلب على القلب كأنه حديث النفس بالشئ، ويؤول جميع ما في القرآن من الظن بمعنى العلم على هذا. والظن والشك والتجويز نظائر، إلا أن الظن فيه قوة على أحد الأمرين دون الآخر، وحده ما قوي عند الظان، كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه (1) قيل إن القائل تأبط شرا. (*)
[ 197 ]
أن يكون على خلافه. فبالتجويز ينفصل من العلم، وبالقوة ينفصل من الشك والتقليد. وغير ذلك، وهو من جنس الإعتقاد، عند أبي هاشم. وجنس برأسه سوى الإعتقاد، عند أبي علي، والقاضي. وإليه ذهب المرتضى، قدس الله روحه. وضد الظن اليقين. والظنين: المتهم، ومصدره الظنة. والظنون: الرجل السئ الظن بكل أحد. والظنون: البئر التي يظن أن بها ماء، ولا يكون. ومظنة الرجل: حيث يألفه ويكون فيه، وأصل الملاقاة الملاصقة من قولك التقى الخطان إذا تلاصقا، ثم كثر حتى قيل: التقى الفارسان إذا تحاذيا ولم يتلاصقا. ويقال رجع الرجل، ورجعته أنا، لازم ومتعد، وأصل الرجوع: العود إلى الحال الأولى. الاعراب: " الذين يظنون ": في موضع الجر صفة للخاشعين. و (أنهم) بفتح الألف لا يجوز غيره، لأن الظن فعل واقع على معنى أنه متعد يتعلق بالغير، فما يليه يكون مفعولا له. و " أن ": المفتوحة الهمزة يكون مع الإسم والخبر في تأويل اسم مفرد. وهاهنا قد سد مسد مفعولي يظن، ويكون المفعول الثاني مستغنى عنه مختزلا من الكلام غير مضمر، كما أن الفاعل في أقائم الزيدان، سد مسد الخبر لطول الكلام والإستغناء به عنه. وهذا القول هو المختار عند أبي علي. وفيه قول آخر وهو: " أن " مع الإسم والخبر في موضع المفعول الأول والمفعول الثاني مضمر محذوف لعلم المخاطب به، فكأنه قال: الذين يظنون ملاقاة ربهم واقعة، وحذفت النون من " ملاقوا " ربهم تخفيفا عند البصريين، والمعنى على إثباتها، فإن المضاف إليه هنا، وإن كان مجرورا في اللفظ، فهو منصوب في المعنى، فهي إضافة لفظية غير حقيقية، ومثله قوله: (إنا مرسلوا الناقة)، و (كل نفس ذائقة الموت) وقال الشاعر: هل أنت باعث دينار لحاجتنا، * أو عبد رب أخا عون بن مخراق ولو أردت معنى الماضي لتعرف الإسم بالإضافة، لم يجز فيه إظهار النون البتة، وقوله: " وأنهم إليه راجعون " في موضع النصب عطفا على الأول. المعنى: لما تقدم ذكر الخاشعين، بين صفتهم فقال: " الذين يظنون " أي: يوقنون " أنهم ملاقوا " ما وعدهم " ربهم " عن الحسن ومجاهد وغيرهما، ونظيره قوله: " إني ظننت أني ملاق حسابيه " وقيل: إنه بمعنى الظن غير اليقين، والمعنى: إنهم يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم، لشدة
[ 198 ]
إشفاقهم من الإقامة على معصية الله. قال الرماني: وفيه بعد لكثرة الحذف. وقيل: الذين يظنون انقضاء آجالهم، وسرعة موتهم، فيكونون أبدا على حذر ووجل، ولا يركنون إلى الدنيا، كما يقال لمن مات: لقي الله. ويدل على أن المراد بقوله " ملاقوا ربهم " ملاقون جزاء ربهم قوله تعالى في صفة المنافقين: (فاعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه). ولا خلاف في أن المنافق لا يجوز أن يرى ربه. وكذلك قوله: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). وجاء في الحديث: (من حلف على مال امرئ مسلم كاذبا، لقي الله وهو عليه غضبان). وليس اللقاء من الرؤية في شئ، يقال: لقاك الله محابك، ولا يراد به أن يرى أشخاصا، وإنما يراد به لقاء ما يسره. وقوله: (وأنهم إليه راجعون) يسأل هنا فيقال: ما معنى الرجوع في الآية وهم ما كانوا قط في الآخرة، فيعودوا إليها ؟ وجوابه من وجوه: أحدها: إنهم راجعون بالإعادة في الآخرة، عن أبي العالية وثانيها: إنهم يرجعون بالموت كما كانوا في الحال المتقدمة، لأنهم كانوا أمواتا فأحيوا، ثم يموتون فيرجعون أمواتا كما كانوا. وثالثها: إنهم يرجعون إلى موضع لا يملك أحد لهم ضرا، ولا نفعا غيره تعالى، كما كانوا في بدء الخلق، لأنهم في أيام حياتهم قد يملك غيرهم الحكم عليهم، والتدبير لنفعهم وضرهم، يبين ذلك قوله: " مالك يوم الدين " وتحقيق معنى الآية أنهم يقرون بالنشأة الثانية، فجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر، رجوعا إليه. (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47)). المعنى: قد مضى تفسير أول الآية فيما تقدم وقوله: (وأني فضلتكم على العالمين) قال ابن عباس: أراد به عالمي أهل زمانهم، لأن امتنا أفضل الأمم بالإجماع، كما أن نبينا، عليه أفضل الصلاة والسلام، أفضل الأنبياء، وبدليل قوله (كنتم خير أمة أخرجت للناس). وقيل: المراد به تفضيلهم في أشياء مخصوصة، وهي: إنزال المن والسلوى، وما أرسل الله فيهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب، إلى غير ذلك من النعم العظيمة، من تغريق فرعون، والآيات الكثيرة التي يخف معها الإستدلال، ويسهل بها الميثاق (1)، (1) وفي نسخة مخطوطة " المشاق " بدل " الميثاق " ولعله أنسب. (*)
[ 199 ]
وتفضيل الله إياهم في أشياء مخصوصة لا يوجب أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق، كما يقال: حاتم أفضل الناس في السخاء ونظير هذه الآية قوله (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) إلى قوله. (وأنتم تنظرون). فإن قيل: فما الفائدة في تكرار قوله: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) ؟ قلنا: لأنه لما كانت نعم الله هي الأصل فيما يجب شكره، احتيج إلى تأكيدها، كما يقول القائل اذهب اذهب، عجل عجل. وقيل أيضا: إن التذكير الأول ورد مجملا، والثاني ورد مفصلا. وقيل: إنه في الأول ذكرهم نعمه على أنفسهم، وفي الثاني ذكرهم نعمه على آبائهم. (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48)). القراءة: قرأ أهل مكة والبصرة: (لا تقبل) بالتاء. والباقون: بالياء. الحجة: فمن قرأ بالتاء: ألحق علامة التأنيث لتؤذن بأن الإسم الذي أسند إليه الفعل وهو الشفاعة مؤنث. ومن قرأ بالياء: فلأن التأنيث في الإسم ليس بحقيقي، فحمل على المعنى، فذكر لأن الشفاعة والتشفع بمنزلة، كما أن الوعظ والموعظة والصيحة والصوت كذلك. وقد قال تعالى: (فمن جاءه موعظة) و (أخذ الذين ظلموا الصيحة). ويقوي التذكير أيضا أنه فصل بين الفعل والفاعل بقوله (منها). والتذكير يحسن مع الفصل كما يقال في التأنيث الحقيقي: حضر القاضي اليوم امرأة. اللغة: الجزاء، والمكافأة، والمقابلة: نظائر، يقال: جزى يجزي جزاء، وجازاه مجازاة، وفلان ذو جزاء أي: ذو غناء. فكان قوله: (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) أي: لا تقابل مكروهها بشئ يدرأه عنها. ومنه الحديث أنه صلى الله عليه واله وسلم قال لأبي بردة في الجذعة التي أمره أن يضحي بها: ولا تجزي عن أحد بعدك. وقال: البقرة تجزي عن سبعة أي: تقضي وتكفي. قال أبو عبيدة: هو مأخوذ من قولك جزا عني هذا الأمر. فأما قولهم أجزأني الشئ أي: كفاني فمهموز. وقبول الشئ هو تلقيه، والأخذ به، خلاف الإعراض عنه، ومن ثم قيل
[ 200 ]
لتجاه الشئ قبالته. وقالوا: أقبلت المكواة (1) الداء أي: جعلتها قبالته قال: " وأقبلت أفواه العروق المكاويا " والقبول والإنقياد والطاعة والإجابة نظائر، ونقيضه الإمتناع والشفاعة: مأخوذة من الشفع، فكأنه سؤال من الشفيع يشفع سؤال المشفوع له. والشفاعة، والوسيلة، والقربة، والوصلة: نظائر، والشفعة في الدار وغيرها: معروفة، وإنما سميت شفعة لأن صاحبها يشفع ماله بها، ويضمها إلى ملكه. والعدل، والحق، والإنصاف: نظائر. ونقيض العدل: الجور. والعدل: المرضي من الناس، الذكر والأنثى والجمع والواحد فيه سواء. والعدل: الفدية في الآية. والفرق بين العدل والعدل: إن العدل: هو مثل الشئ من جنسه. والعدل: هو بدل الشئ، وقد يكون من غير جنسه. قال سبحانه: " أو عدل ذلك صياما ". والنصرة، والمعونة، والتقوية: نظائر. وفي الحديث: " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما " أي: امنعه من الظلم إن كان ظالما، وامنع عنه الظلم إن كان مظلوما. وأنصار الرجل: أعوانه. ونصرت السماء: إذا أمطرت. الاعراب: (يوما): إنتصابه انتصاب المفعول، لا انتصاب الظروف، لأن معناه اتقوا هذا اليوم واحذروه، وليس معناه اتقوا في هذا اليوم، لأن ذلك اليوم لا يؤمر فيه بالإتقاء، وإنما يؤمر في غيره من أجله. وموضع (لا تجزي): نصب لأنه صفة (يوم)، والعائد إلى الموصوف فيه اختلاف: ذهب سيبويه إلى أن فيه محذوف من الكلام، أي: لا يجزي فيه. وقال آخرون: لا يجوز إضمار فيه، لأنك لا تقول هذا رجل قصدت أو رغبت، وأنت تريد إليه أو فيه، فهو محمول على المفعول على السعة، كأنه قيل واتقوا يوما لا تجزيه، ثم حذف الهاء، كما يقال رأيت رجلا أحب أي: أحبه، وهو قول السراج. قال أبو علي: حذف الهاء من الصفة كما يحذف من الصلة، لما بينهما من المشابهة، فإن الصفة تخصص الموصوف، كما أن الصلة تخصص الموصول، ولا يعمل في الموصوف، ولا يتسلط عليه، كما لا يعمل الصلة في الموصول. ومرتبتها أن تكون بعد الموصوف، كما أن مرتبة الصلة أن تكون بعد الموصول. وقد يلزم الصفة في أماكن، كما يلزم الصلة، وذلك إذا لم يعرف الموصوف إلا بها، ولا تعمل الصلة فيما قبل الموصول، كما لا تعمل الصفة (1) المكواة: حديدة يكوى بها. (*)
[ 201 ]
فيما قبل الموصوف. فإذا كان كذلك حسن الحذف من الصفة، كما يحسن من الصلة في نحو قوله: (أهذا الذي بعث الله رسولا) وقال الأخفش: (شيئا) في موضع المصدر، كأنه قال لا تجزي جزاء، ولا تغني غناء. وقال الرماني: الأقرب أن يكون (شيئا) في موضع حقا، كأنه قال لا يؤدي عنها حقا وجب عليها. وقوله (ولا يقبل منها شفاعة): موضع هذه الجملة نصب بالعطف على الجملة التي هي وصف قبلها. ومن ذهب إلى أنه حذف الجار، وأوصل الفعل إلى المفعول، ثم حذف الراجع من الصفة، كان مذهبه في لا يقبل أيضا مثله. فمما حذف منه الراجع إلى الصفة قول الشاعر (1): " وما شئ حميت بمستباح ". والضمير في (منها) عائد إلى نفس على اللفظ، وفي قوله (ولا هم ينصرون) على المعنى، لأنه ليس المراد به المفرد، فلذلك جمع. المعنى: لما بين سبحانه نعمه العظام عليهم، أنذرهم في كفرانها بيوم القيامة، فقال: (واتقوا) أي احذروا، واخشوا (يوما لا تجزي) أي: لا تغني، أو لا تقضي فيه (نفس عن نفس شيئا)، ولا تدفع عنها مكروها. وقيل: لا يؤدي أحد عن أحد حقا، وجب عليه لله، أو لغيره، وإنما نكر النفس ليبين أن كل نفس، فهذا حكمها. وهذا مثل قوله سبحانه (واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا). وقوله: (ولا يقبل منها شفاعة) قال المفسرون: حكم هذه الآية مختص باليهود، لأنهم قالوا: نحن أولاد الأنبياء، وآباونا يشفعون لنا. فأيأسهم الله عن ذلك، فخرج الكلام مخرج العموم، والمراد به الخصوص. ويدل على ذلك أن الأمة اجتمعت على أن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شفاعة مقبولة، وإن اختلفوا في كيفيتها. فعندنا هي مختصة بدفع المضار، وإسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين. وقالت المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين والتائبين دون العاصين، وهي ثابتة عندنا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولأصحابه المنتجبين، والأئمة من أهل بيته الطاهرين، ولصالحي المؤمنين، وينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين. ويؤيده الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول، وهو قوله: ادخرت شفاعتي لأهل (1) هو جرير بن الخطفي يمدح يزيد بن عبد الملك بن مروان. (*)
[ 202 ]
الكبائر من أمتي. وما جاء في روايات أصحابنا، رضي الله عنهم، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إني أشفع يوم القيامة فأشفع، ويشفع علي فيشفع، ويشفع أهل بيتي فيشفعون. وإن أدنى المومنين شفاعة، ليشفع في أربعين من اخوانه كل قد استوجب النار ". وقوله تعالى مخبرا عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة: (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) وقوله: (ولا يؤخذ منها عدل) أي: فدية وإنما سمي الفداء عدلا، لأنه يعادل المفدى ويماثله، وهو قول ابن عباس، ومعناه: لا يؤخذ من أحد فداء يكفر عن ذنوبه. وقيل: لا يؤخذ منه بدل بذنوبه. وأما ما جاء في الحديث: " لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا " فاختلف في معناه، قال الحسن: الصرف العمل، والعدل الفدية. وقال الأصمعي: الصرف التطوع، والعدل الفريضة. وقال أبو عبيدة: الصرف الحيلة، والعدل الفدية. وقال الكلبي: الصرف الفدية، والعدل رجل مكانه. وقوله: (ولا هم ينصرون) أي: لا يعاونون حتى ينجوا من العذاب. وقيل: ليس لهم ناصر ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم. (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49)). القراءة: في الشواذ قرأ ابن محيصن (1): (يذبحون أبناءكم). الحجة: قال ابن جني: وجه ذلك أن فعلت بالتخفيف، قد يكون فيه معنى التكثير، وذلك لدلالة الفعل على مصدره. المصدر اسم الجنس، وحسبك بالجنس سعة وعموما، وأنشد أبو الحسن: أنت الفداء لقبلة هدمتها * ونقرتها بيديك كل منقر فكأنه قال: ونقرتها، لأن قوله كل منقر عليه جاء ولما في الفعل من معنى المصدر الدال على الجنس، لم يجز تثنيته ولا جمعه، لاستحالة كل واحد من التثنية والجمع في الجنس. (1) محيصن بمهملتين مصغرا: إسمه عمر بن عبد الرحمن بن محيصن وهو قارئ أهل مكة مات سنة 123 (راجع تهذيب التهذيب ج 7 ص 474). (*)
[ 203 ]
اللغة: الإنجاء والتنجية والتخليص واحد. والنجاة والخلاص والسلامة والتخلص واحد. ويقال للمكان المرتفع: نجوة، لأن الصائر إليه. ينجو من كثير من المضار. وفرق بعضهم بين الإنجاء والتنجية فقال: الإنجاء يستعمل في الخلاص قبل وقوعه في الهلكة. والتنجية: يستعمل في الخلاص بعد وقوعه في الهلكة. والآل والأهل واحد. وقيل: أصل آل أهل، لأن تصغيره اهيل. وحكى الكسائي أويل، فزعموا أنها أبدلت كما قالوا هيهات وأيهات. وقيل: لا بل هو أصل بنفسه. والفرق بين الآل والأهل: إن الأهل أعم منه، يقال: أهل البصرة، ولا يقال آل البصرة. ويقال: آل الرجل قومه، وكل من يؤول إليه بنسب أو قرابة مأخوذ من الأول، وهو الرجوع. وأهله: كل من يضمه بيته. وقيل: آل الرجل قرابته وأهل بيته. وآل البعير: الواحة. وآل الخيمة: عمده. وآل الجبل: أطرافه ونواحيه. وقال ابن دريد: آل كل شئ: شخصه. وآل الرجل: أهله وقرابته. قال الشاعر (1): ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه * علي وعباس وآل أبي بكر وقال أبو عبيدة: سمعت أعرابيا فصيحا يقول: أهل مكة آل الله. فقلنا: ما تعني بذلك ؟ قال: أليسوا مسلمين ؟ المسلمون آل الله. وإنما يقال آل فلان للرئيس المتبع وفي شبه مكة لأنها أم القرى. ومثل فرعون في الضلال واتباع قومه له، فإذا جاوزت هذا، فإن آل الرجل أهل بيته خاصة. فقلنا له: أفتقول لقبيلته آل فلان ؟ قال: لا، إلا أهل بيته خاصة. وفرعون اسم لملك العمالقة، كما يقال لملك الروم: قيصر، ولملك الفرس: كسرى، ولملك الترك: خاقان، ولملك اليمن: تبع، فهو على هذا بمعنى الصفة. وقيل: إن اسم فرعون مصعب بن الريان. وقال محمد بن إسحاق: هو الوليد بن مصعب. يسومونكم: يكلفونكم من قولهم: سامه خطة خسف (2): إذا كلفه إياه. وقيل: يولونكم سوء العذاب. وسامه خسفا: إذا أولاه ذلا، قال الشاعر: (إن سيم خسفا وجهه تربدا). وقيل: يحشمونكم (3). وقيل: يعذبونكم. وأصل الباب السوم (1) هو ابن أراكة الثقفي. (2) الخطة: الأمر والحال. الخسف: النقصان والهوان. (3) حشمه: أغضبه. أخجله. آذاه. (*)
[ 204 ]
الذي هو: إرسال الإبل في الرعي. وسوء العذاب، وأليم العذاب، وشديد العذاب: نظائر. قال صاحب العين: السوء إسم العذاب الجامع للآفات والداء. يقال: سؤت فلانا أسوؤه مساءة، ومسائية، واستاء فلان من السوء: مثل اهتم من الهم. والسوأة: الفعلة القبيحة. والسوأة: الفرج. والسوأة أيضا: كل عمل شين. وتقول في النكرة: رجل سوء، كما يقال: رجل صدق. فإذا عرفت قلت: الرجل السوء، فلا تضيفه، ولا تقول: الرجل الصدق. وقوله: (بيضاء من غير سوء) أي: من غير برص. والذبح والنحر والشق نظائر. والذبح: فري الأوداج. والتذبيح. التكثير منه، وأصله الشق. يقال، ذبحت المسك: إذا فتقت عنه، قال: كأن بين فكها، والفك، * فارة مسك ذبحت في سك والذبح: الشئ المذبوح. والذباح والذبحة بفتح الباء وتسكينها: داء يصيب الإنسان في حلقه. ويستحيون أي: يستبقون، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم " أي: استبقوا شبابهم. والنساء، والنسوة، والنسوان: لا واحد لها من لفظها. والبلاء، والنعمة، والإحسان: نظائر في اللغة. والبلاء: يستعمل في الخير والشر. قال سبحانه: (ونبلوكم بالشر والخير) والإبلاء في الانعام، قال: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) وقال زهير: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم، * وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو فالبلاء يكون بالإنعام، كما يكون بالإنتقام. وأصل البلاء: الإمتحان والاختبار، قال الأحنف: البلاء ثم الثناء. الاعراب: العامل في (إذ) من قوله: (وإذ نجيناكم) قوله (اذكروا) من قوله: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي) فهو عطف على ما تقدم. وقوله: (يسومونكم): يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من آل فرعون، والعامل فيه (نجيناكم). ويجوز أن يكون للاستئناف. والأبناء: جمع ابن، وأصل ابن بنو بفتح الفاء والعين. ويدل على أن الفاء كانت مفتوحة قولهم في جمعه أبناء على وزن أفعال. وأفعال بابه أن يكون لفعل نحو: جبل وأجبال، كما كان فعل بتسكين العين بابه أفعل، نحو: فرخ وأفرخ. والمحذوف من
[ 205 ]
الإبن الواو على ما قلناه، لأنها أثقل، فهي بالحذف أولى، وإليه ذهب الأخفش، وأبو علي الفسوي. المعنى: ثم فصل سبحانه في هذه الآية النعم التي أجملها فيما قبل، فقال: واذكروا (إذ نجيناكم) أي: خلصناكم من قوم (فرعون) وأهل دينه (يسومونكم) يلزمونكم (سوء العذاب). وقيل: يذيقونكم ويكلفونكم ويعذبونكم، والكل متقارب. واختلفوا في العذاب الذي نجاهم الله تعالى منه، فقال بعضهم ما ذكر في الآية من قوله: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) وهذا تفسيره. وقيل: أراد به ما كانوا يكلفونهم من الأعمال الشاقة، فمنها أنهم جعلوهم أصنافا: فصنف يخدمونهم، وصنف يحرثون لهم، ومن لا يصلح منهم للعمل ضربوا عليهم الجزية. وكانوا يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم مع ذلك، ويدل عليه قوله تعالى في سورة إبراهيم (يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم) فعطفه على ذلك يدل على أنه غيره. وقوله: (يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) معناه يقتلون أبناءكم، ويستحيون بناتكم، يستبقونهن، ويدعونهن أحياء، ليستعبدن، وينكحن على وجه الإسترقاق. وهذا أشد من الذبح. وإنما لم يقل بناتكم، لأنه سماهن بالإسم الذي يؤول حالهم إليه. وقيل: إنما قال (نساءكم) على التغليب، فإنهم كانوا يستبقون الصغار والكبار، يقال: أقبل الرجال، وإن كان فيهم صبيان. ويجوز أيضا أن يقع اسم النساء على الصغار والكبار، كالأبناء. وقوله: (وفي ذلكم) أي: وفي سومكم العذاب، وذبح الأبناء (بلاء من ربكم عظيم) أي: لما خلى بينكم وبينه حتى فعل بكم هذه الأفاعيل. وقيل: في نجاتكم من فرعون وقومه نعمة عظيمة من الله عليكم. القصة: والسبب في قتل الأبناء أن فرعون رأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس، حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقتها، وأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل. فهاله ذلك، ودعا السحرة والكهنة والقافة، فسألهم عن رؤياه، فقالوا: إنه يولد في بني إسرائيل غلام، يكون على يده هلاكك، وزوال ملكك، وتبديل دينك. فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، وجمع القوابل من أهل مملكته، فقال لهن: لا يسقط على
[ 206 ]
أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتل، ولا جارية إلا تركت ! ووكل بهن، فكن يفعلن ذلك. وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل، فدخل رؤوس القبط على فرعون، فقالوا له: إن الموت قد وقع في بني إسرائيل، فتذبح صغارهم، ويموت كبارهم، فيوشك أن يقع العمل علينا ! فأمر فرعون أن يذبحوا سنة، ويتركوا سنة، فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها: فترك وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها. (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون (50)). القراءة: في الشواذ قرأ الزهري: (وإذ فرقنا بكم) مشددة. قال ابن جني: (فرقنا) أشد تفريقا من (فرقنا) فمعنى فرقنا بكم البحر: جعلناه فرقا. ومعنى فرقنا بكم البحر: شققنا بكم البحر. اللغة: الفرق: هو الفصل بين شيئين إذا كانت بينهما فرجة. والفرق: الطائفة من كل شئ. ومن الماء إذا انفرق بعضه عن بعض، فكل طائفة من ذلك فرق. ومنه (كل فرق كالطود العظيم) والفرق: الخوف. وفي الحديث: (ما أسكر الفرق فالجرعة منه حرام) وهو مكيال يعرف بالمدينة. والبحر: يسمى بحرا لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه. يقال: استبحر في العلم، وتبحر فيه، وتبقر: إذا اتسع وتمكن. والباحر: الأحمق الذي إذا كلم بقي كالمبهوت. والعرب تسمي الماء الملح والعذب بحرا إذا كثر، ومنه قوله (مرج البحرين يلتقيان) يعني الملح والعذب وأصل الباب الإتساع. وأما اللج: فهو الذي لا يرى حافتيه من في وسطه، لكثرة مائه، وعظمه. ودجلة بالإضافة إلى الساقية بحر. وبالاضافة إلى جدة ونحوها ليست ببحر. والغرق: الرسوب في الماء. والنجاة: ضد الغرق، كما أنها ضد الهلاك. وأغرق في الأمر: إذا جاوز الحد فيه، وأصله من نزع السهم حتى يخرج عن كبد القوس. واغر ورقت عينه: شرقت بدمعها. والنظر: النظر بالعين، يقال: نظرت إلى كذا، ونظرت في الكتاب، وفي الأمر. وقول القائل: أنظر إلى الله، ثم إليك، معناه: أتوقع فضل الله، ثم فضلك. ونظرته وانتظرته بمعنى واحد. والنظر: التفكر، وأصل الباب كله الإقبال نحو الشئ بوجه من الوجوه. فالنطر بالعين: الإقبال نحو المبصر، والنظر بالقلب: الإقبال بالفكر
[ 207 ]
به نحو المفكر فيه، والنطر بالرحمة: هو الإقبال بالرحمة. وحقيقة النظر: هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته. المعنى: ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال: واذكروا (إذ فرقنا بكم البحر) أي: فرقنا بين الماءين حتى مررتم فيه، فكنتم فرقا بينهما، تمرون في طريق يبس. وقيل معناه: فرقنا البحر بدخولكم إياه، فوقع بين كل فريقين من البحر طائفة منكم، يسلكون طريقا يابسا، فوقع الفرق بينكم. وقيل: فرقنا بكم أي: بسببكم البحر، لتمروا فيه. (فأنجيناكم) يعني من البحر والغرق. وقوله: (وأغرقنا آل فرعون) ولم يذكر غرق فرعون، لأنه قد ذكره في مواضع كقوله: (فأغرقناه ومن معه) فاختصر لدلالة الكلام عليه، لأن الغرض مبني على إهلاك فرعون وقومه، ونظيره قول القائل: (دخل جيش الأمير البادية) ويكون الظاهر أن الأمير معهم. ويجوز أن يريد بآل فرعون نفسه، كقوله: (مما ترك آل موسى وآل هارون)، يعني موسى وهارون. وقوله: (وانتم تنظرون) معناه: وأنتم تشاهدون أنهم يغرقون. وهذا أبلغ في الشماتة، وإظهار المعجزة. وقيل معناه: وأنتم بمنظر ومشهد منهم، حتى لو نظرتم إليهم لأمكنكم ذلك، لأنهم كانوا في شغل من أن يروهم كما يقال: دور بني فلان تنظر إلى دور آل فلان أي: هي بإزائها، وبحيث لو كان مكانها ما ينظر، لأمكنه أن ينظر إليه، وهو قول الزجاج، وقريب مما قاله الفراء. والأول أصح لأنهم لم يكن لهم شغل شاغل عن الرؤية، فإنهم كانوا قد جاوزوا البحر، وتظاهرت أقوال المفسرين على أن أصحاب موسى عليه السلام رأوا إنفراق البحر، والتطام أمواجه بآل فرعون، حتى غرقوا، فلا وجه للعدول عن الظاهر. القصة: وجملة قصة فرعون مع بني إسرائيل في البحر ما ذكره ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر، فسرى موسى ببني إسرائيل ليلا، فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان، سوى الإناث. وكان موسى في ستمائة ألف وعشرين ألفا. فلما عاينهم فرعون قال: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حاذرون. فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برهج (1) دواب (1) الرهج: ما أثير من الغبار. (*)
[ 208 ]
فرعون فقالوا: يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه ! فقال موسى عليه السلام: عسى ربكم أن يهلك عدوكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون. فقال له يوشع بن نون: بم أمرت ؟ قال: أمرت أن أضرب بعصاي البحر. قال: إضرب. وكان الله تعالى أوحى إلى البحر أن أطع موسى إذا ضربك. قال: فبات البحر له أفكل أي: رعدة لا يدري في أي جوانبه يضربه، فضرب بعصاه البحر، فانفلق وظهر اثنا عشر طريقا. فكان لكل سبط منهم طريق، يأخذون فيه. فقالوا: إنا لا نسلك طريقا نديا. فأرسل الله ريح الصبا، حتى جففت الطريق، كما قال: (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا) فجروا فيه. فلما أخذوا في الطريق، قال بعضهم لبعض: ما لنا لا نرى أصحابنا ؟ فقالوا لموسى: أين أصحابنا ؟ فقال: في طريق مثل طريقكم. فقالوا: لا نرضى حتى نراهم. فقال (1) عليه السلام: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. فأوحى الله تعالى إليه أن مل بعصاك هكذا وهكذا، يمينا وشمالا. فأشار بعصاه يمينا وشمالا، فظهر كالكوى (2) ينطر منها بعضهم إلى بعض. فلما انتهى فرعون إلى ساحل البحر، وكان على فرس حصان أدهم، فهاب دخول الماء، تمثل له جبريل على فرس انثى وديق (3)، وتقحم البحر. فلما رآها الحصان تقحم خلفها، ثم تقحم قوم فرعون. فلما خرج آخر من كان مع موسى من البحر، ودخل آخر من كان مع فرعون البحر، أطبق الله عليهم الماء، فغرقوا جميعا، ونجا موسى ومن معه. ومما يسأل عن هذا أن يقال: كيف لم يعط الله تعالى كل نبي مثل ما أعطى موسى من الايات الباهرات، لتكون الحجة أظهر، والشبهة أبعد ؟ والجواب: إن الله ينصب الأعلام الباهرة، والمعجزات القاهرة، لاستصلاح الخلق على حسب ما يرى لهم من الصلاح. وقد كان في قوم موسى من بلادة النفس، وكلالة الحدس، ما لم يمكنه معه الإستدلال بالآيات الحقيقية. ألا ترى أنهم لما عبروا البحر، وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا بعدما شاهدوه من هذه الآيات: اجعل لنا إلها كما (1) [ موسى ]. (2) جمع الكوة: وهو الخرق في الحائط. (3) ودقت ذات الفحل فهي وديق. (*)
[ 209 ]
لهم آلهة. قال: إنكم قوم تجهلون. وكان في العرب وأمة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من جودة القريحة وحدة الفطنة وذكاء الذهن وقوة الفهم، ما كان يمكنهم معه الإستدلال بما يحتاج فيه إلى التأمل، والتدبر، والإستضاءة بنور العقل في التفكر. فجاءت آياتهم متشاكلة لطباعهم المتوقدة، ومجانسة لما ركب في أذهانهم من الدقة والحدة. على أن في جميعها من الحجة الظاهرة والبينة الزاهرة، ما ينفي خارج الشك عن (1) قلب الناظر المستبين، ويفضي به إلى فضاء العلم اليقين، ويوضح له مناهج الصدق، ويولجه موالج الحق، وما يستوي الأعمى والبصير، ولا ينبئك مثل خبير. (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51)). القراءة: قرأ أهل البصرة، وأبو جعفر هاهنا: (وعدنا) بغير ألف. وفي الأعراف، وطه. وقرأ الباقون: (واعدنا) بالألف. وقرأ ابن كثير، وحفص، والبرجمي، ورويس: (اتخذتم واخذتم) وما جاء منه بإظهار الذال. ووافقهم الأعشى فيما كان على افتعلت. والباقون يدغمون. الحجة: حجة من قرأ بإثبات الألف أنه قال: لا يخلو أن يكون قد كان موسى وعد أو لم يكن، فإن كان منه وعد، فلا إشكال في وجوب القراءة بواعدنا، وإن لم يكن منه وعد، فإن ما كان منه من قبول الوعد، والتحري لإنجازه، والوفاء به، يقوم مقام الوعد. والقراءة بواعدنا دلالة من الله على وعده، وقبول موسى، ولأنه إذا حسن في مثل قوله بما أخلفوا الله ما وعدوه الاخبار بالوعد منهم لله تعالى، كان هنا الاختيار واعدنا. ومن قرأ (وعدنا) بغير ألف، وهو أشد مطابقة للمعنى، إذ كان القبول ليس بوعد في الحقيقة إذ الوعد إنما هو إخبار الموعود بما يفعل به من خير. وعلى هذا فيكون قوله (بما أخلفوا الله ما وعدوه) مجازا حقيقته بما أخبروا أنهم فاعلوه (2). وقال بعضهم: إن المواعدة في الحقيقة، لا تكون إلا بين البشر، والله تعالى هو المتفرد بالوعد والوعيد، كما قال: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات) (وإذ (1) [ من ]. (2) أي حقيقة بإخبارهم أنهم فاعلوه. (*)
[ 210 ]
يعدكم الله (1) احدى الطائفتين أنها لكم) والقراءتان جميعا قويتان. وحجة من أدغم الذال في التاء من (اتخذتم) أن مخرج الذال قريب من مخرج التاء. وحجة من لم يدغم أن مخرجيهما متغايران. اللغة: الوعد، والموعد، والوعيد، والعدة، والموعدة، مصادر وعدته أعده. ووعدت يتعدى إلى مفعولين يجوز فيه الإقتصار على أحدهما كأعطيت. قال: (وواعدناكم جانب الطور الأيمن) فجانب مفعول ثان. والعدة والوعد قد يكونان اسمين أيضا. والوعد في الخير، والوعيد في الشر: ويجمع العدة على العدات، ولا يجمع الوعد. والموعد: قد يكون موضعا ووقتا ومصدرا. والميعاد: لا يكون إلا وقتا أو موضعا. وقد يقال: وعدته في الشر كقوله تعالى: (النار وعدها الله الذين كفروا) وأوعدته: لا يكون إلا في الشر والمكاره. ويقال: أوعدته بالشر، ولا يقال أوعدته الشر. وحقيقة الوعد: هو الخبر عن خير يناله المخبر في المستقبل، أو شر. وموسى اسم مركب من اسمين بالقبطية فمو: هو الماء، وسى: الشجر. وسمي بذلك لأن التابوت الذي كان فيه موسى وجد عند الماء والشجر، وجده جواري آسية امرأة فرعون، وقد خرجن ليغتسلن بالمكان الذي وجد فيه، عن السدي، وهو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن إسحاق بن يسار. وإنما قال: (أربعين ليلة)، ولم يقل أربعين يوما، لتضمن الليالي الأيام على قول المبرد عنى بذلك أنك إذا ذكرت الليالي دخل فيها الأيام، وإذا ذكرت الأيام لا يدخل فيها الليالي. والصحيح: إن العرب كانت تراعي في حسابها الشهور والأيام والاهلة، فأول الشهر الليالي، فلذلك أرخت بالليالي، وغلبتها على الأيام، واكتفت بذكر الليالي عن الأيام، فقالت: لعشر خلون، ولخمس بقين، جريا على الليالي. والليلة: الوقت من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني. واليوم: من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. وليلة ليلاء: إذا اشتدت ظلمتها. ولييلة: تصغير ليلة، أخرجوا الياء الأخيرة مخرجها في الليالي. وقال بعضهم: أصل ليلة ليلاة، فقصر. وأتخذ افتعل، وفعلت فيه تخذت قال: (1) [ وعد الله الذين آمنوا منكم ]. (*)
[ 211 ]
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها * نسيفا كأفحوص القطاة المطرق قال أبو علي: وليس اتخذت من أخذت، لأن الهمزة لا تبدل من التاء، ولا تبدل منها التاء. والعجل: البقرة الصغيرة، يقال: عجل وعجول، وهو من العجلة، لأن قصر المدة كالعجل في الشئ. وقال بعضهم: إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا فاتخذوه إلها قبل أن يأتيهم موسى. الاعراب: قوله (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) لا يخلو تعلق الأربعين بالوعد من أن يكون على أنه ظرف، أو مفعول ثان. فلا يجوز أن يكون ظرفا، لأن الوعد ليس فيها كلها، فيكون جواب كم، ولا في بعضها فيكون جوابا لمتى. وإنما الموعدة تقضي الأربعين، فإذا لم يكن ظرفا كان انتصابه بوقوعه موقع المفعول الثاني، والتقدير: وعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أو تتمة أربعين ليلة، فحذف المضاف كما تقول اليوم خمسة عشر من الشهر أي: تمام خمسة عشر. فأما انتصاب أربعين في قوله (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) فالميقات هو الأربعون. وإنما هو ميقات وموعد، فيكون كقولك تم القوم عشرين رجلا. والمعنى تم القوم معدودين هذا العدد، وتم الميقات معدودا هذا العدد. وقد جاء الميقات في موضع الميعاد، كما جاء الوقت موضع الوعد، في قوله (إلى يوم الوقت المعلوم) وفي موضع آخر: (واليوم الموعود) ويبين ذلك قوله (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) وفي الآية (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) وليلة: تنتصب على التبيين والتمييز للعدد، والأصل في بيان العدد أن يبين بذكر المعدود، وإنما انتصب بالإسم التام الذي هو أربعون، وهو مشبه بالكلام التام الذي ينتصب بعده ما يكون فضلة عنه. ومعنى تمام الإسم هاهنا هو تركيب هذا (1) النون الذي تتممه معه فأشبه الجملة المركبة من فعل وفاعل من جهة أنه متمم بشئ آخر، وبينهما شبه آخر، وهو أن في الجملة التي من فعل وفاعل معنى يقتضي المفعول، وهو ذكر الفعل. وفي العدد إبهام يقتضي التفسير والبيان ليفيد أي نوع من الأنواع هو، فينصب (1) هذا هو الظاهر لكن في النسخ التي عندنا (هذه) مكان " هذا " أي تركيب هذا النون الذي تتمم ذلك الإسم معه. (*)
[ 212 ]
على هذا المعنى. ولذلك قال سيبويه: إن في هذا الضرب، وهو تمام الإسم معنى يحجز بين الاسم الأول، وما يجئ بعد التمام. فالنون في (أربعين) هو بمنزلة الفاعل الذي يحجز من أن يسند الفعل إلى المفعول، فيسند إلى الفاعل، وينتصب المفعول لذلك. والنون يتم الاسم الأول، فينتصب الإسم الذي بعده. وأما قوله (اتخذتم) فإن اتخذت على ضربين: أحدهما يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله: (واتخذوا من دون الله آلهة) وقوله: (أم اتخذ مما يخلق بنات) والآخر: يتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى (اتخذوا إيمانهم جنة) (فاتخذتموهم سخريا) (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء). فقوله: (ثم اتخذتم العجل من بعده) تقديره واتخذتم العجل إلها، فحذف المفعول الثاني، لأن من صاغ عجلا، أو عمله، لا يستحق الوعيد والغضب من الله تعالى. المعنى: واذكروا (إذ واعدنا موسى) أن نؤتيه الألواح فيها التوراة، والبيان، والشفاء، على رأس (أربعين ليلة) أو عند انقضاء أربعين ليلة، أو عند تمام أربعين ليلة. وإنما قلنا إن قوله اذكروا مضمر فيه، لأن الله تعالى قال قبل هذا: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) فإذ: هاهنا معطوفة على الآيات المتقدمة، وهذه الأربعون ليلة هي التي ذكرها الله في سورة الأعراف، فقال: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) وهي: ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. قال المفسرون: لما عاد بنو اسرائيل إلى مصر بعد إنجائهم من البحر، وهلاك فرعون وقومه، وعدهم الله إنزال التوراة والشرائع، فخلف موسى أصحابه، واستخلف هارون عليهم. فمكث على الطور أربعين ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح. وقوله: (ثم اتخذتم العجل) أي: اتخذتموه إلها لأن بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين، لأن فعل ذلك ليس بمحظور، وإنما هو مكروه. وأما الخبر الذي روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم لعن المصورين، فالمراد به من شبه الله بخلقه، أو اعتقد فيه أنه صورة. وقوله: (من بعده) أي: من بعد غيبة موسى، وخروجه. وقيل: من بعد وعد الله إياكم بالتوراة. وقيل: من بعد غرق فرعون، وما رأيتم من الآيات، والكل محتمل. (وأنتم ظالمون) أي: مضرون بأنفسكم بما استحققتم من العقاب على اتخاذكم العجل إلها.
[ 213 ]
القصة: روي عن ابن عباس قال: كان السامري رجلا من أهل باجرمى. قيل: كان إسمنسيا. وقال ابن عباس: اسمه موسى بن ظفر. وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وقد كان أظهر الإسلام في بني إسرائيل. فلما قصد موسى إلى ربه، وخلف هارون في بني إسرائيل، قال هارون لقومه: قد حملتم أوزارا من زينة القوم، يعني آل فرعون، فتطهروا منها، فإنها نجس، يعني أنهم استعاروا من القبط حليا، واستبدوا بها. فقال هارون: طهروا أنفسكم منها فإنها نجسة، وأوقد لهم نارا، فقال: اقذفوا ما كان معكم فيها. فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلي، فيقذفون به فيها. قال: وكان السامري رأى أثر فرس جبرائيل عليه السلام، فأخذ ترابا من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار فقال لهارون: يا نبي الله ! أألقي ما في يدي ؟ قال: نعم، وهو لا يدري ما في يده، ويظن أنه مما يجئ به غيره من الحلي والأمتعة. فقذف فيها وقال: كن عجلا جسدا له خوار. فكان البلاء والفتنة، فقال: هذا إلهكم وإله موسى. فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا مثله شيئا قط. قال ابن عباس: فكان البلاء والفتنة، ولم يزد على هذا. وقال الحسن: صار العجل لحما ودما. وقال غيره: لا يجوز ذلك لأنه من معجزات الأنبياء. ومن وافق الحسن قال: إن القبضة من أثر الملك كان الله قد أجرى العادة بأنها إذا طرحت على أي صورة كانت حييت، فليس ذلك بمعجزة، إذ سبيل السامري فيه سبيل غيره. ومن لم يجز انقلابه حيا، تأول الخوار على أن السامري صاغ عجلا، وجعل فيه خروقا يدخلها الريح، فيخرج منها صوت كالخوار، ودعاهم إلى عبادته فأجابوه وعبدوه، عن أبي علي الجبائي. ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون (52)). اللغة: العفو، والصفح، والتجاوز نظائر. قال ابن الأنباري: (عفا الله عنك) معناه: محا الله عنك، مأخوذ من قولهم: عفت الريح الأثر: إذا درسته ومحته. فعفو الله: محوه الذنوب عن العبد. وقال الرماني: أصل العفو الترك، ومنه قوله: (فمن عفي له من أخيه شئ) أي: ترك. فالعفو: ترك العقوبة. والعفو: أحل المال وأطيبه. والعفو: المعروف. والعفاة والمعتفون: طلاب المعروف. والعافية من الطير والدواب: طلاب الرزق.
[ 214 ]
ومنه الحديث: من غرس شجرة مثمرة فما أكلت العافية منها إلا كتب له صدقة. والعافية: دفاع الله عن العبد. والعفاء: التراب. قال زهير: (على آثار من ذهب العفاء). والشكر: الإعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم. قال الرماني: الشكر هو الإظهار للنعمة. المعنى: (ثم عفونا عنكم) أي: وضعنا عنكم العقاب الذي استحققتموه بقبول توبتكم من عبادة العجل (من بعد ذلك) أي: من بعد اتخاذكم إياه إلها. وقيل: معناه تركنا معاجلتكم بالعقاب من بعد اتخاذكم العجل إلها (لعلكم تشكرون) لكي تشكروا الله على عفوه عنكم، وسائر نعمه عليكم. وقيل: معناه التعريض أي: عرفناكم للشكر. وفي هذه الآية دلالة على وجوب شكر النعمة، وعلى أن العفو عن الذنب بعد التوبة، نعمة من الله على عباده ليشكروه. ومعنى قولنا في الله: إنه غفور شكور، إنه يجازي العبد على طاعاته من غير أن ينقصه شيئا من حقه، فجعل المجازاة على الطاعة شكرا في مجاز اللغة، ولا يستحق الإنسان الشكر على نفسه، لأنه لا يكون منعما على نفسه. فالنعمة تقتضي منعما غير المنعم عليه، كما أن القرض يقتضي مستقرضا غير المقرض. وقد يصح أن يحسن الإنسان إلى نفسه، كما يصح أن يسئ إليها، لأن الإحسان من الحسن. فإذا فعل بها فعلا حسنا ينتفع به، كان محسنا إليها بذلك الفعل، وإذا فعل بها فعلا قبيحا تستضر به، كان مسيئا إليها. ولا يستحق الكافر الشكر على الوجه الذي يستحقه المؤمن، لأن المومن من يستحق الشكر على وجه الإجلال وإلإعظام، والكافر لا يستحقه كذلك، وإنما يجب له مكافأة نعمته كما يجب قضاء دينه على وجه الخروج منه إليه، من غير تعظيم له. والفرق بين الشكر والمكافأة: إن المكافأة من التكافي، وهو التساوي، وليس كذلك الشكر. ففي المكافأة للنعمة دلالة على أنه قد استوفى حقها، وقد يكون الشكر مقصرا عنها، وإن كان ليس على المنعم عليه أكثر منه، إلا أنه كلما ازداد من الشكر حسن الإزدياد، وإن لم يكن واجبا، لأن الواجب لا يكون إلا متناهيا، وذلك كالشكر لنعمة الله تعالى لو استكثر به غاية الإستكثار لم يكن لينتهي إلى حد لا يجوز له الإزدياد، لعظم نعمة الله سبحانه، وصغر شكر العبد.
[ 215 ]
(وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (53)). اللغة: الفرقان: مصدر فرقت بين الشيئين أفرق فرقا وفرقانا، ويسمى كل فارق فرقانا كما سمي كتاب الله فرقانا لفصله بين الحق والباطل. وسمى الله تعالى يوم بدر الفرقان، لأنه فرق في ذلك اليوم بين الحق والباطل وقال (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) أي: يفرق بينكم وبين ذنوبكم. المعنى: (و) اذكروا (إذ ءاتينا) أي: أعطينا (موسى الكتاب) وهو التوراة (والفرقان) اختلفوا فيه على وجوه أحدها: وهو قول ابن عباس: إن المراد به التوراة أيضا، وإنما عطفه عليه لاختلاف اللفظين كقول عنترة: (أقوى وأقفر بعد أم الهيثم) وقال عدي بن زيد: وقددت الاديم لراهشيه، وألفى قولها كذبا، ومينا والمين: الكذب وثانيها: إن الكتاب عبارة عن التوراة. والفرقان: انفراق البحر الذي أتاه موسى عليه السلام. وثالثها: إن المراد بالفرقان بين الحلال والحرام، والفرق بين موسى وأصحابه المؤمنين، وبين فرعون وأصحابه الكافرين بأشياء كثيرة، منها: إنه نجى هولاء وأغرق هؤلاء ورابعها: إن المراد بالفرقان القران، ويكون تقديره: وآتينا موسى التوراة، وآتينا محمدا الفرقان، فحذف ما حذف لدلالة ما أبقاه عليه، كما حذف الشاعر في قوله: تراه كان الله يجدع أنفه، * وعينيه، إن مولاه كان له وفر يريد: ويفقأ عينيه، لأن الجدع لا يكون للعينين، واكتفى بيجدع عن يفقأ. وقال آخر: يا ليت بعلك قد غدا * متقلدا سيفا، ورمحا أراد وحاملا رمحا، وهو قول الفراء، وقطرب، وثعلب. وضعف قوم هذا الوجه لأن فيه حمل القرآن على المجاز من غير ضرورة، مع أنه تعالى أخبر أنه أتى موسى الفرقان في قوله: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان). وقوله: (لعلكم تهتدون) أي: لكي تهتدوا بما في التوراة من البشارة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان صفته. (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم
[ 216 ]
العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54)). القراءة: قرأ أبو عمرو: وبارئكم، ويأمركم، وينصركم، باختلاس الحركة. وروي عنه السكون أيضا. والباقون: بغير اختلاس، ولا تخفيف. الحجة: قال أبو علي: حروف المعجم على ضربين: ساكن ومتحرك، والساكن علي ضربين أحدهما ما أصله السكون في الاستعمال والآخر ما أصله الحركة. فما أصله الحركة يسكن على ضربين أحدهما أن تكون حركة بناء والآخر أن تكون حركة إعراب وحركة البناء تسكن على ضربين أحدهما أن يكون الحرف المسكن من كلمة مفردة نحو فخذ وسبع وابل وضرب وعلم. فمن خفف قال: فخذ وسبع وإبل وضرب وعلم. والآخر أن يكون من كلمتين فيسكن على تشبيه المنفصل بالمتصل نحو قراءة من قرأ ويخش الله ويتقه ومنه قول العجاج: (فبات منتصبا وما تكردسا). ألا ترى أن تقه من يتقه مثل كتف، ومنه قول الشاعر: (قالت سليمى اشتر لنا سويقا). ولا خلاف في تجويز إسكان حركة البناء في نحو ما ذكرناه من قول العرب والنحويين. وأما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها فمن الناس من يقول إن إسكانها لا يجوز من حيث كان علما للإعراب. وأما سيبويه فيجوز ذلك (1) لا يفصل بين القبيلتين. وروى قول امرئ القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله، ولا واغل وقول الآخر: (وقد بدا هنك من الميزر) ومن هذا النحو قول جرير: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم، * ونهر تيري، ولا تعرفكم العرب فشبه ما يدخل على المعرب بما يدخل على المبني، كما شبهوا حركات البناء بحركات الإعراب فمن ثم أدغم نحو: رد وفر وعض. كما أدغموا نحو: يرد ويفر ويعض. واعلم أن الحركات التي تكون للبناء والإعراب قد يستعملون في الضمة والكسرة منها الإختلاس والتخفيف، كما يستعملون الإشباع والتمطيط. فأما الفتحة فليس فيها الإشباع فقط، ولم يخفف نحو جبل كما خفف مثل سبع وكتف. وعلى
[ 217 ]
هذا المذهب حمل سيبويه قول أبي عمرو: (إلى بارئكم) فذهب إلى أنه إختلس الحركة، ولم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك، فمن روى عن أبي عمرو الاسكان في هذا النحو، فلعله سمعه يختلس، فحسبها إسكانا لضعف الصوت به، والخفاء. وعلى هذا قوله: (ولا يأمركم)، وغيره. اللغة: البارئ: هو الخالق الصانع. وبرأ الله الخلق يبرؤهم برءا أي: خلقهم. قال أمية بن أبي الصلت: الخالق البارئ المصور في ال‍ * - أرحام ماء حتى يصير دما والفرق بين البارئ والخالق: إن البارئ هو المبدئ المحدث. والخالق: هو المقدر الناقل من حال إلى حال. وبرئ من المرض يبرأ برءا فهو بارئ، والبراءة من العيب والمكروه لا يقال منه الابرئ بالكسر، وفاعله برئ. ورجل براء بمعناه. وامرأة براء، ونسوة براء. وأما قوله: أنا براء، فهو جمع برئ. وأصل الباب: انفصال الشئ من الشئ، ومنه برأ الله الخلق أي: فطرهم كأنهم انفصلوا من العدم إلى الوجود. والبرية: فعيلة بمعنى مفعول، ولا تهمز كما لا يهمز ملك، وإن كان أصله الهمزة. وقيل: البرية مشتقة من البري: وهو التراب، فلذلك لم يهمز. وقيل: مأخوذة من بريت العود فلذلك لم يهمز. والقتل والذبح والموت نظائر، والفرق بينها: إن القتل نقض بنية الحياة، والذبح فري الأوداج، والموت عند من أثبته عرض يضاد الحياة. والقتل: العدو، وجمعه أقتال. والقتال: النفس. وناقة ذات قتال: إذا كانت وثيقة. وقتلت الشئ علما: إذا أيقنته وتحققته. وفي المثل: (قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عالمها) (1) وتقتلت الجارية للفتى حتى عشقها كأنها خضعت له قال: تقتلت لي حتى إذا ما قتلتني * تنسكت ما هذا بفعل النواسك الاعراب: (يا قوم) القراءة بكسر الميم، وهو الإختيار، لأنه منادى مضاف. والنداء باب حذف، فحذف الياء لأنه حرف واحد، وهو في آخر الإسم، كما أن التنوين في آخره، وبقيت الكسرة تدل عليه. ولما كان ياء (1) قوله: (قتلت أرض جاهلها) يضرب لمن يباشر أمرا لا علم له به. قوله: (قتل أرضا عالمها). يراد بالمثل أن الرجل العالم بالأرض عند سلوكها يذلل الأرض ويغلبها بعلمه يضرب في مدح العلم. (*)
[ 218 ]
الإضافة قد تحذف في غير النداء، لزم حذفه في النداء. ويجوز في الكلام أربعة وجوه: يا قوم كما قرئ، ولا يجوز غيره في القرآن، لأن القراءة سنة متبعة. ويجوز يا قومي إنكم بإثبات الياء وإسكانه. ويجوز: يا قومي بإثبات الياء وتحريكه، فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة. ويجوز: يا قوم على أنه منادى مفرد. وأما قوله (يا ليت قومي) فإن الياء ثبتت فيه، لأنه لم يلحقه ما يوجب حذفه، كما لحق في النداء. المعنى: (و) اذكروا (إذ قال موسى لقومه) الذين عبدوا العجل عند رجوعه إليهم: (يا قوم انكم ظلمتم انفسكم) أي: أضررتم بأنفسكم، ووضعتم العبادة غير موضعها (باتخاذكم العجل) معبودا وظلمهم إياها فعلهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه مما يستحق به العقاب، وكذلك كل من فعل فعلا يستحق به العقاب، فهو ظالم لنفسه (فتوبوا إلى بارئكم) أي: ارجعوا إلى خالقكم ومنشئكم بالطاعة والتوحيد، وجعل توبتهم الندم مع العزم، وقتل النفس جميعا. وهنا إضمار باختصار كأنه لما قال لهم فتوبوا إلى بارئكم، قالوا: كيف ؟ قال: (فاقتلوا أنفسكم) أي: ليقتل بعضكم بعضا بقتل البرئ المجرم، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وغيرهم. وهذا كقوله سبحانه (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) أي ليسلم بعضكم على بعض وقيل: معناه استسلموا للقتل، فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لأنفسهم على وجه التوسع، عن ابن إسحاق، واختاره الجبائي. واختلفوا في المأمور بالقتل: فروي أن موسى أمرهم أن يقوموا صفين، فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم، وجاء هارون بإثني عشر ألفا ممن لم يعبدوا العجل، ومعهم الشفار المرهفة (1)، وكانوا يقتلونهم. فلما قتلوا سبعين ألفا تاب الله على الباقين، وجعل قتل الماضين شهادة لهم. وقيل: إن السبعين الذين كانوا مع موسى في الطور، هم الذين قتلوا ممن عبد العجل سبعين ألفا. وقيل: إنهم قاموا صفين فجعل يطعن بعضهم بعضا حتى قتلوا سبعين ألفا. وقيل: غشيتهم ظلمة شديدة، فجعل بعضهم يقتل بعضا، ثم انجلت الظلمة فأجلوا عن سبعين ألف قتيل. وروي أن موسى وهارون وقفا يدعوان الله ويتضرعان إليه، وهم يقتل بعضهم (1) أرهف السيف: رقق حده. (*)
[ 219 ]
بعضا حتى نزل الوحي برفع القتل، وقبلت توبة من بقي. وذكر ابن جريج أن السبب في أمرهم بقتل أنفسهم أن الله تعالى علم أن ناسا منهم ممن لم يعبد العجل، لم ينكروا عليهم ذلك، مخافة القتل، مع علمهم بأن العجل باطل، فلذلك ابتلاهم الله بأن يقتل بعضهم بعضا. وإنما امتحنهم الله تعالى بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام. وقال الرماني: لا بد أن يكون في الأمر بالقتل لطف لهم، ولغيرهم، كما يكون في استسلام القاتل لطف له ولغيره. فإن قيل: كيف يكون في قتلهم نفوسهم لطف لهم، ولا تكليف عليهم بعد القتل، واللطف لا يكون لطفا فيما مضى، ولا فيما يقارنه ؟ فالجواب: إن القوم إذا كلفوا أن يقتل بعضهم بعضا، فكل واحد منهم يقصد قتل غيره، ويجوز أن يبقى بعده (1) فيكون القتل لطفا له فيما بعد، ولو كان بمقدار زمان يفعل فيه واجبا، أو يمتنع عن قبيح. وهذا (2) كما تقول في عباداتنا بقتال المشركين، وإن الله تعبدنا بأن نقاتل حتى نقتل أو نقتل، ومدحنا على ذلك. وكذلك روى أهل السير أن الذين عبدوا العجل تعبدوا بأن يصبروا على القتل، حتى يقتل بعضهم بعضا، فكان القتل شهادة لمن قتل، وتوبة لمن بقي. وإنما تكون شبهة لو أمروا بأن يقتلوا نفوسهم بأيديهم، ولو صح ذلك لم يمتنع أن يكونوا امروا بأن يفعلوا بنفوسهم الجراح التي تفضي إلى الموت، وإن لم يزل معها العقل فينافي التكليف. وأما على القول الآخر إنهم أمروا بالإستسلام للقتل والصبر عليه، فلا مسألة، لأنهم ما أمروا بقتل نفوسهم، فعلى هذا يكون قتلهم حسنا، لأنه لو كان قبيحا لما أمروا بالإستسلام له، ولذلك نقول: لا يجوز أن يتعبد نبي، ولا إمام، بأن يستسلم للقتل مع قدرته على الدفع عن نفسه، فلا يدفعه، لأن في ذلك استسلاما للقبيح مع القدرة على دفعه، وذلك لا يجوز، وإنما كان يقع قتل الأنبياء والأئمة عليهم السلام، على وجه الظلم، وارتفاع التمكن من المنع، غير أنه لا يمتنع من أن يتعبد بالصبر على الدفاع، وتحمل المشقة في ذلك، وان قتله غيره ظلما. والقتل، وإن كان قبيحا بحكم العقل، فهو مما يجوز تغيره بأن يصير حسنا، لأنه جار مجرى سائر الآلام، وليس يجري ذلك مجرى الجهل والكذب، في أنه لا يصير حسنا قط. (1) [ واحد ]. (2) [ وهو ]. (*)
[ 220 ]
ووجه الحسن في القتل أنه لطف على ما قلناه، وأيضا فكما يجوز من الله تعالى أن يميت الحي، فكذلك يجوز أن يأمرنا بإماتته، ويعوضه على الآلام التي تدخل عليه، ويكون فيه لطف على ما ذكرناه. وقوله: (ذلكم خير لكم عند بارئكم) إشارة إلى التوبة مع القتل لأنفسهم على ما أمرهم الته به بدلالة قوله: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) فقوله (توبوا) دال على التوبة فكأنها مذكورة وقوله (فاقتلوا) دال على القتل، فكأنه قال: إن التوبة وقتل النفس في مرضاة الله كما أمركم به، وإن كان فيه مشقة عظيمة خير لكم عند خالقكم من إيثار الحياة الدنيا، لأن الحياة الدنيا لا تبقى، بل تفنى، وتحصلون بعد الحياة على عذاب شديد. وإذا قتلتم أنفسكم كما أمركم الله به، زالت مشقة القتل عن قريب، وبقيتم في نعيم دائم لا يزول ولا يبيد. وكرر ذكر (بارئكم) تعظيما لما أتوا به مع كونه خالقا لهم. وقوله (فتاب عليكم) هاهنا إضمار تقديره ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم، أو فقتلتم أنفسكم فتاب عليكم، أي: قبل توبتكم (إنه هو التواب) أي: قابل التوبة عن عباده مرة بعد مرة. وقيل: معناه قابل التوبة عن الذنوب العظام (الرحيم) يرحمكم إذا تبتم، ويدخلكم الجنة. وفي هذه الآية دلالة على أنه يجوز أن يشترط في التوبة سوى الندم ما لا يصح التوبة إلا به، كما أمروا بالقتل. (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55)). اللغة: لن نؤمن لك أي: لن نصدقك. يقال: آمن به وآمن له بدلالة قوله تعالى (قال فرعون آمنتم به) وفي موضع آخر: (آمنتم له). والرؤية: الإدراك بالبصر، ثم يستعمل بمعنى العلم، يقال رأى ببصره رؤية، ورأى من الرأي رأيا، ورأيت رؤيا حسنة. والرواء: المنظر في البهاء والجمال. والمرآة: التي ينظر فيها، وجمعها المرائي. وتراءيت بالمرآة: إذا نظرت فيها. وجاء في الحديث: (لا يتراءى أحدكم بالماءا أي: لا ينظر فيه. وتراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا. وتراءى فلان لفلان: إذا تصدى له ليراه، ويحذفون الهمزة من رأيت في كل كلمة تكون راؤها ساكنة، تقول رأيت أرى.
[ 221 ]
والأصل أرأى، وأريته فلانا أريه فأنا مرى وهو مرى والأصل أرأيته أرإيه، وأثبتوها في موضعين: مرئى وأرأت الناقة والشاة: إذا عرف في لون ضرعها أنها قد أقربت. والرأي: حسن الشارة والهيئة، قال جرير: وكل قوم لهم رأي، ومختبر، * وليس في تغلب رأي، ولا خبر والجهر والعلامة والمعاينة نظائر، يقال: جهر بكلامه وبقراءته جهرا: إذا أعلن. ورجل جهير: ذو رواء. وكلام جهير، وصوت جهير أي: عال. والفعل منه جهر جهارة. وجهرني الرجل: أي راعني جماله. وضد الجهر السر، وأصل الباب الظهور، وحقيقة الجهر: ظهور الشئ معاينة. والفرق بين الجهر والمعاينة: إن المعاينة ترجع إلى حال المدرك. والجهرة ترجع إلى حال المدرك. وقد تكون الرؤية غير جهرة كالرؤية في النوم، والرؤية بالقلب. فإذا قال جهرة لم يكن إلا رؤية العين على التحقيق دون التخييل. والصاعقة على ثلاثة أوجه أحدها نار تسقط من السماء كقوله (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) والثاني: الموت في قوله (فصعق من في السماوات) وقوله (فأخذتكم الصاعقة) والثالث العذاب في قوله (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود). الاعراب: (حتى نرى) حتى بمعنى إلى، وهي الجارة للإسم. وانتصب (نرى) بعدها بإضمار أن كما ينتصب الفعل بعد اللام بإضمار أن، وأن مع الفعل في تأويل المصدر، وفي موضع جر بحتى. ثم إن الجار والمجرور في موضع نصب بأنه مفعول (لن نؤمن). وجهرة مصدر وضع موضع الحال. المعنى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك) أي: لن نصدقك في قولك إنك نبي مبعوث (حتى نرى الله جهرة) أي: علانية، فيخبرنا بأنك نبي مبعوث. وقيل: معناه إنا لا نصدقك فيما تخبر به من صفات الله تعالى، وما يجوز عليه، وما لا يجوز عليه، حتى نرى الله جهرة أي: علانية وعيانا، فيخبرنا بذلك. وقيل: إنه لما جاءهم بالألواح وفيها التوراة، قالوا: لن نؤمن بأن هذا من عند الله حتى نراه عيانا. وقال بعضهم: إن قوله (جهرة) صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به، وأعلنوه، وتقديره وإذا قلتم جهرة لن نؤمن لك حتى نرى الله، والاول أقوى. (فأخذتكم الصاعقة) أي: الموت (وأنتم
[ 222 ]
تنظرون) إلى أسباب الموت. وقيل: إلى النار. وإنما قرع الله سبحانه اليهود بسؤال أسلافهم الرؤية من حيث إنهم سلكوا طريقتهم في المخالفة للنبي الذي لزمهم اتباعه، والتصديق بجميع ما أتى به، فجروا على عادة أسلافهم الذين كانوا يسألون تارة نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله، ومرة يعبدون العجل من دون الله، وطورا يقولون: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. واستدل أبو القاسم البلخي بهذه الآية على أن الرؤية لا تجوز على الله تعالى، قال: لأنها إنكار تضمن أمرين: ردهم على نبيهم، وتجويزهم الرؤية على ربهم. ويؤيد ذلك قوله تعالى فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا أرنا الله جهرة. فدل ذلك على أن المراد إنكار الأمرين. وتدل هذه الآية أيضا على أن قول موسى: (رب أرني أنظر إليك) كان سؤالا لقومه، لأنه لا خلاف بين أهل التوراة أن موسى عليه السلام، لم يسأل الرؤية إلا دفعة واحدة، وهي التي سألها لقومه. (ثم بعثكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56)). اللغة: البعث: إثارة الشئ من محله، ومنه يقال: بعث فلان راحلته إذا أثارها من مبركها للسير، وبعثت فلانا لحاجتي: إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجيه إليها. ومنه يقال ليوم القيامة: يوم البعث، لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب. وبعثته من نومه فانبعث أي: نبهته فانتبه. والبعث: الجند يبعثون إلى وجه، أو في أمر. وأصل البعث: الإرسال. المعنى: (ثم بعثناكم) أي: ثم أحييناكم (من بعد موتكم) لاستكمال آجالكم، عن الحسن، وقتادة. وقيل: إنهم سألوا بعد ألإفاقة أن يبعثوا أنبياء، فبعثهم الله أنبياء، عن السدي. فيكون معناه: بعثناكم أنبياء. وأجمع المفسرون إلا شرذمة يسيرة، أن الله لم يكن أمات موسى كما أمات قومه، ولكن غشي عليه بدلالة قوله: (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك) والإفاقة إنما تكون من الغشيان. وقوله: (لعلكم تشكرون) أي: لكي تشكروا الله على نعمه التي منها رده الحياة اليكم. وفي هذا إثبات لمعجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واحتجاج على مشركي العرب الذين كانوا غير مؤمنين بالبعث، لأنه كان يذكر لهم من أخبار الذين بعثهم الله
[ 223 ]
في الدنيا، فكان يوافقه على ذلك من يخالفه من اليهود والنصارى، ويجب أن يكون هؤلاء القوم وإن أماتهم الله، ثم أحياهم، غير مضطرين إلى معرفة الله عند موتهم، كما يضطر الواحد منا اليوم إلى معرفته عند الموت، بدليل أن الله أعادهم إلى التكليف. والمعرفة في دار التكليف لا تكون ضرورية، بل تكون مكتسبة، ولكن موتهم إنما كان في حكم النوم، فاذهب الله عنهم الروح من غير مشاهدة منهم لأحوال الآخرة. وليس في الإحياء بعد الإماتة ما يوجب الإضطرار إلى المعرفة، لأن العلم بأن الإحياء بعد الإماتة لا يقدر عليه غير الله، طريقه الدليل، وليس الإحياء بعد الإماتة إلا قريبا من الإنتباه بعد النوم، والإفاقة بعد الاغماء، في أن ذلك لا يوجب علم الإضطرار. واستدل قوم من أصحابنا بهذه الآية على جواز الرجعة، وقول من قال: إن الرجعة لا تجوز إلا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون معجزا له، ودلالة على نبوته، باطل، لأن عندنا بل عند أكثر الأمة، يجوز إظهار المعجزات على أيدي الأئمة والاولياء، والأدلة على ذلك مذكورة في كتب الاصول. وقال أبو القاسم البلخي: لا تجوز الرجعة مع الإعلام بها، لأن فيها إغراء بالمعاني من جهة الإتكال على التوبة في الكرة الثانية ! وجوابه: إن من يقول بالرجعة لا يذهب إلى أن الناس كلهم يرجعون، فيصير إغراء بأن يقع الاتكال على التوبة فيها، بل لا أحد من المكلفين إلا ويجوز أن لا يرجع، وذلك يكفي في باب الزجر. (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)). اللغة: الظلة والغمامة والسترة نظائر، يقال: ظللت تظليلا. والظل: ضد الضح، ونقيضه وظل الشجرة: سترها. ولا أزال الله عنا ظل فلان أي: ستره. ويقال لسواد الليل: ظل، لأنه يستر الأشياء. قال الله تعالى (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) والغمام: السحاب، والقطعة منها غمامة، وإنما سمي غماما لأنه يغم السماء أي: يسترها. وكل ما يستر شيئا فقد غمه. وقيل: هو ما ابيض من السحاب. والغمة: الغطاء على القلب من الغم. وفلان في غمة من أمره: إذا لم يهتد له. والمن: الإحسان إلى من لا
[ 224 ]
يستثيبه، والإسم المنة، والله تعالى هو المنان علينا، والرحيم بنا. والمن: قطع الخير، ومنه قوله (أجر غير ممنون) أي: غير مقطوع. والمنة: قوة القلب، وفلان ضعيف المنة. واصل الباب: الاحسان. فالمن الذي كان يسقط على بني إسرائيل، هو مما من الله به عليهم أي: أحسن به إليهم. والسلوى: طائر كالسمانى. قال الأخفش: هو للواحد والجمع كقولهم دفلى. وقال الخليل: واحده سلواة قال: (كما انتفض السلواة من بلل القطر (1). قال الزجاج: غلط خالد بن زهير في قوله: وقاسمها بالله جهدا لأنتم * ألذ من السلوى إذا ما نشورها فظن أن السلوى العسل، وإنما هو طائر. قال أبو علي الفارسي: وقرئ على الزجاج في مصنف أبي عبيد أنه العسل، قال: والذي عندي فيه أن السلوى كأنه ما يسلي عن غيره لفضيلة فيه من فرط طيبه، أو قلة معاناة وعلاج في اقتنائه. فالعسل لا يمتنع أن يسمى سلوى لجمعه الأمرين كما سمي الطائر الذي كان يسقط مع المن به. ويقال: سلا فلان عن فلان يسلو سلوا: إذا تسلى عنه. وفلان في سلوة من العيش: إذا كان في رغد يسليه الهم. والسلوان: ماء من شربه ذهب همه فيما زعموا، قال: (لو أشرب السلوان ما سليت) (2). الاعراب: موضع (كلوا) نصب بمحذوف، كأنه قال: وقلنا لهم كلوا. وموضع (السلوى) نصب لأنه معطوف على المن وقوله (وما ظلمونا) إنما يتصل بما قبله أيضا بتقدير محذوف، كأنه قال فخالفوا ما أمروا به، وكفروا هذه النعمة، وما ظلمونا. المعنى: (وظللنا عليكم الغمام) أي: جعلنا لكم الغمام ظلة وسترة تقيكم حر الشمس في التيه، عن جماعة المفسرين. (وأنزلنا عليكم المن) فيه وجوه أحدها: إنه المن الذي يعرفه الناس، يسقط على الشجر، عن ابن عباس. وثانيها: إنه شئ كالصمغ كان يقع على الأشجار، وطعمه كالشهد والعسل، عن مجاهد. وثالثها: إنه الخبز المرقق عن وهب. ورابعها: إنه (1) قائله أبو صخر الهذلي وصدره: " وإني لتعروني لذكراك نفضة). (2) قائله رؤبة وعجزه: " ما بي غنى عنك وإن غنيت). (*)
[ 225 ]
جميع النعم التي أتتهم مما من الله به عليهم، مما لا تعب فيه، ولا نصب. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ". (والسلوى) قيل: هو السماني. وقيل: هو طائر أبيض يشبه السماني، عن ابن عباس. وقوله: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) معناه: قلنا لهم كلوا من الشئ اللذيذ. وقيل: المباح الحلال. وقبل: المباح الذي يستلذ أكله الذي رزقناكم أي: أعطيناكم، وجعلناه رزقا لكم. وقوله: (وما ظلمونا) أي: فكفروا هذه النعمة، وما نقصونا بكفرانهم أنعمنا. (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). أي: يسمون. وقيل: معناه وما ضرونا، ولكن كانوا أنفسهم يضرون. وهذا يدل على أن الله تعالى لا ينفعه طاعة من أطاعه، ولا يضره معصية من عصاه، وإنما تعود منفعة الطاعة إلى المطيع، ومضرة المعصية إلى العاصي. القصة: وكان سبب إنزال المن والسلوى عليهم أنه لما ابتلاهم الله بالتيه (إذ قالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) حين أمرهم بالمسير إلى بيت المقدس وحرب العمالقة بقوله (ادخلوا الأرض المقدسة) فوقعوا في التيه، فصاروا كلما ساروا تاهوا في قدر خمسة فراسخ، أو ستة. فكلما أصبحوا ساروا غادين فأمسوا، فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه، كذلك، حتى تمت المدة، وبقوا فيها أربعين سنة. وفي التيه توفي موسى وهارون، ثم خرج يوشع بن نون. وقيل: كان الله تعالى يرد الجانب الذي انتهوا إليه من الأرض إلى الجانب الذي ساروا منه، فكانوا يضلون عن الطريق، لأنهم كانو خلقا عظيما، فلا يجوز أن يضلوا كلهم عن الطريق في هذه المدة المديدة، في هذا المقدار من الأرض. ولما حصلوا في التيه، ندموا على ما فعلوا، فألطف الله لهم بالغمام لما شكوا حر الشمس، وأنزل عليهم المن والسلوى، فكان يسقط عليهم المن من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فكانوا يأخذون منها ما يكفيهم ليومهم. وقال الصادق عليه السلام: كان ينزل المن على بني إسرائيل من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه، فلذلك يكره النوم في هذا الوقت إلى بعد طلوع الشمس. قال ابن جرير: وكان الرجل منهم إذا أخذ من المن والسلوى زيادة على طعام
[ 226 ]
يوم واحد، فسد إلا يوم الجمعة، فإنهم إذا أخذوا طعام يومين لم يفسد، وكانوا يأخذون منها ما يكفيهم ليوم الجمعة والسبت، لأنه كان لا يأتيهم يوم السبت. وكانوا يخبزونه مثل القرصة، ويوجد له طعم كالشهد المعجون بالسمن. وكان الله تعالى يبعث لهم السحاب بالنهار، فيدفع عنهم حر الشمس. وكان ينزل عليهم في الليل من السماء عمود من نور يضئ لهم مكان السراج، وإذا ولد فيهم مولود يكون عليه ثوب يطول بطوله كالجلد. (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين (58)). القراءة: قرأ أبو جعفر، ونافع: (يغفر) (1) بالياء مضمومة. والباقون: (نغفر لكم) بالنون، وهو الإختيار لانه أشبه بما تقدم من قوله (وظللنا) (وأنزلنا) ولأن أكثر القراء عليه وأجمع القراء على إظهار الراء عند اللام إلا ما روي عن أبي عمرو. وفي رواية اليزيدي الإستجادة من ادغام الراء في اللام. واتفق القراء على خطاياكم هنا، وإن اختلفوا في الأعراف ونوح، فقرأ بعضهم هناك (خطيئاتهم) وذلك لأن اللتين في الاعراف ونوح، كتبتا في المصحف بغير الف، وهاهنا كتبت بالألف. اللغة: الدخول، والولوج، والإقتحام، نظائر. والفرق بين الدخول والإقتحام: إن الإقتحام دخول على صعوبة. وفي الأمر دخل أي: فساد. ودخل أمره: إذا فسد. وفلان دخيل في بني فلان: إذا كان من غيرهم. وأطلعته على دخلة أمري: إذا بثثته مكتومك. وفلان مدخول: إذا كان في عقله، أو في حسبه دخل. والقرية، والبلدة، والمدينة، نظائر. قال أبو العباس: وأصله الجمع. وقريت الماء في الحوض أقريه قريا، وقريت الضيف أقريه قرى. والمقراة: الجفنة التي يعد فيها الطعام للأضياف، قال: (عظام المقاري جارهم لا يفزع). وقال الخليل: القرية والقرية لغتان، والكسر لغة يمانية. والقرى: الظهر من كل شئ، وجمعه الإقراء. والسجود: شدة الإنحناء، ومنه السجد من النساء، وهن الفاترات الأعين، قال الشاعر: (1) وقرأ ابن عامر (تغفر) بالتاء مضمومة. (*)
[ 227 ]
(ولهوي إلى حور المدامع سجد). وقال الآخر (1): (ترى الأكم فيها سجدا للحوافر. وحطة: مصدر مثل ردة وجدة من رددت وجددت، قال الخليل: الحط وضع الأحمال عن الدواب، والحط والوضع والخفض نظائر. والحط: الحدر من العلو، قال امرؤ القيس: كجلمود صخر حطه السيل من عل (2) وجارية محطوطة المتنين: ممدودة حسنة. والغفران والعفو والصفح نظائر، يقال غفر الله له غفرانا أي: ستر الله على ذنوبه. والغفر: التغطية. وثوب ذو غفر: إذا كان له زتبر يستر نسجه. ويقال المغفر لتغطيته العنق. والغفيرة والمغفرة بمعنى. والغفارة: خرقة تلف على سية القوس. والمغفور والمغفار: صمغ العرفط. وأغفر الشجر: إذا ظهر ذلك فيه، ومنه الحديث: إنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل على عائشة، فقالت: يا رسول الله ! أكلت مغافير ! يعني هذا الصمغ. ومنهم من يقول مغاثير كما قيل جدث وجدف. ويقال جاؤوا الجماء الغفير، وجاؤوا جما غفيرا. وجماء الغفير: أي مجتمعين جمعا يغطي الأرض. والغفر: ولد الأروية، لأنه يأوي الجبال، ويتستر عن الناس. ويقال: إصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ أي: أستر له. وأصل الباب الستر. وحد المغفرة ستر الخطيئة برفع العقوبة. والخطيئة والزلة والمعصية نظائر، يقال: خطأ الشئ خطأ: إذا لم يرده. وأصابه واخطأه إخطاء: إذا أراده فلم يصبه. والأول خاطئ، والثاني مخطئ. والخطيئات: جمع خطيئة، مثل صحيفات جمع صحيفة، وسفينات جمع سفينة. والخطايا أيضا: جمع خطيئة. والمحسن: الفاعل للأحسان، أو الفاعل للحسن، يقال: أحسن إلى غيره، وأحسن في فعله. والفرق بينهما: إن أحسن إليه لا يقال إلا في النفع، فلا يقال أحسن الله إلى أهل النار بتعذيبهم. ويقال أحسن في تعذيبهم بالنار بمعنى أحسن في فعله وتدبيره. ويقال: امرأة حسناء، ولا يقال: رجل أحسن. وحد الحسن من طريق الحكمة: هو الفعل الذي يدعو إليه العقل، وضده القبيح: وهو الفعل الذي يزجر عنه العقل. وحد الإحسان هو النفع الحسن. وحد الإساءة: هو الضرر القبيح، وهذا إنما يصح على مذهب من يقول إن الإنسان يكون محسنا إلى نفسه، ومسيئا إليها. ومن لم يذهب إليه يزيد فيه الواصل إلى الغير مع قصده إلى ذلك. والاولى في حد الحسن أن (1) قائله: زيد الخيل وصدره " بجيش تضل البلق في حجراته ". (2) البيت من معلقته وصدره: " مكر مفر مقبل مدبر معا ". (*)
[ 228 ]
يقال: هو الفعل الذي إذا فعله العالم به على وجه لم يستحق الذم. الاعراب: (حيث) ظرف مكان مبني على الضم. وذكرنا (1) في بنائه فيما قبل، والجملة بعده في تقدير المضاف إليه. ومما يسأل فيه أن يقال: كيف بني على الضم، وهو مضاف إلى الجملة على التشبيه بما حذف منه الإضافة، وهو قبل وبعد ؟ وجوابه: إن حيث مع إضافته إلى الجملة، لا يمتنع أن يكون شبه قبل ونحوه، قائما فيه، لأنه قد منع الإضافة إلى المفرد، وإن كان قد أضيف إلى الجملة. وحق الإضافة أن تقع إلى المفرد، وإذا كان كذلك، فكأن المضاف إليه محذوف منه كقبل وبعد هذا على قول من بناه على الضم. ومن بناه على غير الضم فقال حيث فلا يدخل عليه هذا السؤال، ولا يجوز في القرآن إلا الضم. واما (حطة) فإنما ارتفع على الحكاية. وقال الزجاج: تقديره مسألتنا حطة أي: حط ذنوبنا عنا. وقيل: تقديره دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا. ولو جاز قراءته بالنصب لكان وجهه في العربية حط عنا ذنوبنا حطة، كما يقال سمعا وطاعة أي: أسمع سمعا، وأطيع طاعة. ومعاذ الله أي: نعوذ بالله معاذا، وقوله (نغفر لكم) مجزوم لأنه جواب الأمر، وإنما انجزم بالشرط، فإن المعنى إن تقولوا نغفر لكم، فحذف الشرط لدلالة الجزاء عليه، ووقوع الأمر في الكلام وطوله به، وحسن حذفه معه، لأنه صار كالمعاقب له من حيث اجتمعا في أنهما غير موجبين وغير خبرين. وهذا كما يحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه، وقد يحذف الجزاء أيضا لدلالة الشرط عليه، في نحو قولهم: أنت ظالم إن فعلت، كما يحذف خبر المبتدأ لدلالة المبتدأ عليه. قال سيبويه: كان أصل خطايا خطائي مثل خطائع فأبدل من الياء همزة، فصار خطائي مثل خطاعع، فتجتمع همزتان، فقلبت الثانية ياء فصار خطائي مثل خطاعي، ثم قلبت الياء والكسرة إلى الألف والفتحة، فقيل: خطاءا مثل خطاعا، كما فعل بمداري فقيل مدارى، ثم استثقل همزة بين ألفين لأن الهمزة مجانسة للألفات، فكان كأنما اجتمعت ثلاث ألفات فأبدلت الهمزة ياء، فقيل: خطايا. وقال الخليل: أصل خطايا فعايل، فقلبت إلى فعالى، ثم قلب بعد على ما تبينت في المذهب الأول وإنما أعل هذا الإعلال لأن الهمزة التي بعد الألف عارضة غير أصلية، وتقول في جمع مرآة مرائي، فلا تعل لأن الهمزة عين الفعل. (1) [ الوجه ]. (*)
[ 229 ]
المعنى: أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية هاهنا بيت المقدس، ويؤيده قوله في موضع آخر: (ادخلوا الأرض المقدسة). وقال ابن زيد: إنها أريحا قرية قرب بيت المقدس، وكان فيها بقايا من قوم عاد، وهم العمالقة، ورأسهم عوج بن عنق، يقول: اذكروا (إذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم) أي: أين شئتم (رغدا) أي: موسعا عليكم، مستمتعين بما شئتم من طعام القرية، بعد المن والسلوى. وقد قيل: إن هذه إباحة لهم منه لغنائمها، وتملك أموالها إتماما للنعمة عليهم. (وادخلوا الباب) يعني الباب الذي أمروا بدخوله. وقيل: هو باب حطة من بيت المقدس، وهو الباب الثامن، عن مجاهد. وقيل: باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرئيل. وقال قوم: هو باب القرية التي أمروا بدخولها. قال أبو علي الجبائي: والآية على قول من يزعم أنه باب القبة، أدل منها على قول من يزعم أنه باب القرية، لأنهم لم يدخلوا القرية في حياة موسى، وآخر الآية يدل على أنهم كانوا يدخلون هذا الباب على غير ما أمروا به في أيام موسى، لأنه قال: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) وإلعطف بالفاء التي هي للتعقيب من غير تراخ، يدل على أن هذا التبديل منهم كان في أثر الأمر، فدل ذلك على أنه كان في حياة موسى. وقوله: (سجدا) قيل: معناه ركعا، وهو شدة الإنحناء عن ابن عباس. وقال غيره: إن معناه أدخلوا خاضعين متواضعين، يدل عليه قول الأعشى: يراوح من صلوات المليك * طورا سجودا، وطورا جوارا وقيل: معناه ادخلوا الباب، فإذا دخلتموه فاسجدوا لله سبحانه شكرا، عن وهب. وقوله: (حطة) قال الحسن، وقتادة، وأكثر أهل العلم: معناه حط عنا ذنوبنا، وهو أمر بالإستغفار. وقال ابن عباس: أمروا أن يقولوا هذا الأمر حق. وقال عكرمة: أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب، وكل واحد من هذه الأقوال مما يحط الذنوب، فيصح أن يترجم عنه بحطة. وروي عن الباقر عليه السلام أنه قال: نحن باب حطتكم. وقوله: (نغفر لكم خطايكم) أي: نصفح ونعفو عن ذنوبكم. (وسنزيد المحسنين) أي: وسنزيدهم على ما يستحقونه من الثواب تفضلا كقوله تعالى: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله). وقيل: إن المراد به أن يزيدهم الإحسان، على ما سلف من الاحسان، بإنزال المن والسلوى، وتظليل الغمام، وغير ذلك.
[ 230 ]
(فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59)). اللغة: التبديل: تغيير الشئ إلى غير حاله. والرجز بكسر الراء: العذاب في لغة أهل الحجاز، وهو غير الرجس، لأن الرجس: النتن. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في الطاعون: اإنه رجز عذب به بعض الأمم قبلكم ". وقال أبو عبيدة: الرجس والرجز لغتان مثل البزاق والبساق، والزرع والسرع. والرجز بضم الراء: عبادة الأوثان. وفسق يفسق والضم أشهر، وعليه القراءة، ومعنى الفسق في اللغة: الخروج من العقيدة، وكل من خرج عن شئ فقد فسق، إلا أنه في الشرع مخصوص بالخروج عن أمر الله تعالى، أو طاعته. الاعراب: (غير الذي) انتصب غير بأنه صفة لقول، وأصل غير أن يكون صفة تجري مجرى مثل، وإذا أضيفا إلى المعارف لم يتعرفا لما فيهما من الإبهام، لأن مثل الشئ يكون على وجوه كثيرة، وكذلك غير الشئ يكون أشياء كثيرة غير مختلفة. المعنى: ثم بين سبحانه أنهم قد عصوا فيما أمروا به، فقال: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) أي: فخالف الذين عصوا، والذين فعلوا ما لم يكن لهم أن يفعلوه، وغيروا ما أمروا به، فقالوا غير ذلك. واختلف في ذلك الغير، فقيل: إنهم قالوا بالسريانية هاطا سماقاتا. وقال بعضهم: حطا سماقاتا، ومعناه: حنطة حمراء فيها شعيرة. وكان قصدهم في ذلك الإستهزاء، ومخالفة الأمر. وقيل: إنهم قالوا حنطة، تجاهلا واستهزاء، وكانوا قد أمروا أن يدخلوا الباب سجدا، وطؤطئ لهم الباب ليدخلوه كذلك، فدخلوه زاحفين على أستاههم، فخالفوا في الدخول أيضا. وقوله: (فأنزلنا على الذين ظلموا) أي: فعلوا ما لم يكن لهم فعله من تبديلهم ما أمر الله به بالقول والفعل. (رجزا) أي: عذابا (من السماء)، عن ابن عباس، وقتادة، والحسن. (بما كانوا يفسقون) أي: بكونهم فاسقين، أو بفسقهم كقوله (ذلك بما عصوا) أي: بعصيانهم. وقال ابن زيد: أهلكوا بالطاعون، فمات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفأ من كبرائهم وشيوخهم، وبقي الأبناء،
[ 231 ]
فأنتقل عنهم العلم والعبادة. كأنه يشير إلى أنهم عوقبوا بإخراج الأفاضل من بينهم. (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الارض مفسدين (60)). اللغة: الإستسقاء: طلب السقيا. ويقال: سقيته وأسقيته بمعنى. وقيل: سقيته من سقي الشفة، وأسقيته دللته على الماء. ويقال: عصا وعصوان وثلاث أعص، وجمعه عصي. والإنفجار: الانشقاق، والإنبجاس أضيق منه، فيكون أولا انبجاسا، ثم يصير انفجارا. والعين: من الأسماء المشتركة، فالعين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان، لخروج الماء منها، كخروج الدمع من تيك (ا). وبلد قليل العين أي: قليل الناس، وما بالدار عين متحركة الياء. والعين: مطر أيام لا يقلع. والعين: الذهب. والعين: الميزان. والعين: الشمس. والعين: المتجسس للأخبار، وقد تقدم ذكر أناس، وأنه لا واحد له من لفظه. ولا تعثوا أي: ولا تفسدوا ولا تطغوا. والعثي: شدة الفساد، يقال عثا يعثو عثوا، وعثى يعثي عثى، وعاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا. قال رؤبة: (وعاث فينا مستحل عايث). الاعراب: (إذ): متعلق بكلام محذوف، فكأنه قال: واذكروا إذ استسقى، ويجوز أن يكون معطوفا على ما تقدم ذكره في الآيات المتقدمة. وقوله: (اثنتا عشرة عينا) الشين ساكنة عند جميع القراء، وكان يجوز كسرها في اللغة، والكسر لغة ربيعة وتميم، والإسكان لغة أهل الحجاز. قال ابن جني: إن ألفاظ العدد قد كثر فيها الإنحرافات، وذلك أن لغة أهل الحجاز في غير العدد في نظير عشرة عشرة، فيقولون نبقة وفخذ، يكسرون الثاني، وبنو تميم يسكنون فيقولون نبقة وفخذ. فلما ركب الإسمان استحال الوزن، فقال بنو تميم: إحدى عشرة، واثنتا عشرة، بكسر الشين. وقال أهل الحجاز: عشرة بسكونها. و (عينا): منصوب على التمييز، والإسم الثاني من اثنتا عشرة قام (1) تيك: إشارة إلى العين من الحيوان. (*)
[ 232 ]
مقام النون في عشرون، بدلالة سقوط النون من اثنتان، وأن عشرة تعاقبها، وكذلك التقدير في جميع ذلك، وهو الثلاثة والثلاث من ثلاثة عشر، وثلاث عشرة إلى تسعة عشر، وتسع عشرة أن يكون فيها نون، فقام عشرة مقامها، فلذلك لم يدخلها التنوين، وإذا لم يدخلها تنوين، لم تبن. و (مفسدين): منصوب على الحال. المعنى: ثم عد سبحانه وتعالى على بني إسرائيل نعمة أخرى، إضافة إلى نعمه العلى الاولى، فقال: (وإذ استسقى موسى لقومه) أي: سأل موسى (1) قومه ماء، والسين سين الطلب، وترك ذكر المسؤول ذلك، إذ كان فيما ذكر من الكلام دلالة على معنى ما ترك، وكذلك قوله: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) فانفجرت لأن معناه: فضربه فانفجرت، فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، لأن فيما أبقاه من الكلام دلالة على ما ألقاه، وهذا كما يقال: أمرت فلانا بالتجارة فاكتسب مالا أي: فاتجر واكتسب مالا.. وقوم موسى هم بنو إسرائيل، وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه، فشكوا إليه الظمأ، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك، وهي عصاه المعروفة وكانت من آس الجنة، دفعها إليه شعيب، وكان آدم حملها من الجنة معه إلى الأرض. وكان طولها عشرة أذرع على طول موسى، ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا، وبها ضرب البحر فانفلق، وهي التي صارت ثعبانا. وأما الحجر فاختلف فيه، فقيل: كان يقرع لهم حجرا من عرض الحجارة، فينفجر عيونا لكل سبط عينا، وكانوا اثني عشر سبطا، ثم يسيركل عين في جدول إلى السبط الذي أمر بسقيهم، عن وهب بن منبه. وقيل: كان حجرا بعينه خفيفا، إذا رحلوا حمل في مخلاة، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجر منه الماء، عن ابن عباس، وهذا أولى لدلالة الألف واللام للعهد عليه. وقيل: كانت حجرة فيها اثنتا عشرة حفرة، وكان الحجر من الكذان (2)، وكان يخرج من كل حفرة عين ماء عذب فرات، فيأخذونه، فإذا فرغوا أراد موسى حمله، ضربه بعصاه فيذهب الماء. وكان يسقي كل يوم ستمائة ألف، عن أبي مسروق (3). وروي أنه كان حجرا (1) [ أن يسقى ]. (2) الكذان: حجارة رخوة كأنها مدر. (3) وفي نسختين مخطوطتين (أبي روق " بدن " أبي مسروق " وهو الظاهر. (*)
[ 233 ]
مربعا. وروي أنه كان مثل شكل الرأس. وكان موسى إذا ضربه بعصاه إنفجرت منه في كل ناحية ثلاث عيون، لكل سبط عين. وكانوا لا يرتحلون مرحلة إلا وجدوا ذلك الحجر (1) بالمكان الذي كان به منهم في المنزل الأول. وقوله: (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) لا ينافي قوله في سورة الأعراف: فانبجست، لأن الإنبجاس هو الانفجار، إلا أنه أقل. وقيل: إنه لا يمتنع أن يكون أول ما يضرب عليه العصا كان ينبجس، ثم يكثر حتى يصير انفجارا. وقيل: كان ينبجس عند الحاجة، وينفجر عند الحاجة. وقيل: كان ينبجس عند الحمل، وينفجر عند الوضع. وقوله: (قد علم كل أناس مشربهم) أي: قد علم كل سبط وفريق منهم، موضع شربهم. وقوله: (كلوا واشربوا) أي: وقلنا لهم كلوا واشربوا. وهذا كلام مبتدأ. وقوله: (من رزق الله) أي: كلوا من النعم التي من الله بها عليكم من المن والسلوى، وغير ذلك، واشربوا من الماء، فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة، ولا مؤنة، ولا تبعة، فإن الرزق ما للمرزوق أن ينتفع به، وليس لأحد منعه منه. وقوله: (ولا تعثوا) أي: لا تسعوا في الأرض فسادا. وإنما قال لا تعثوا (في الأرض مفسدين) وإن كان العثي لا يكون إلا فسادا، لأنه يجوز أن يكون فعل ظاهره الفساد، وباطنه المصلحة، فبين أن فعلهم هو العيث الذي هو الفساد ظاهرا وباطنا. ومتى سئل فقيل: كيف يجتمع ذاك الماء الكثير في ذلك الحجر الصغير ؟ وهل يمكن ذلك ؟ فالجواب: إن ذلك من آيات الله الباهرة، والأعاجيب الظاهرة، الدالة على أنها من فعل الله تعالى، المنشئ للآشياء، القادر على ما يشاء، الذي تذل له الصعاب، ويتسبب له الأسباب. فلا بدع من كمال قدرته، وجلال عزته، أن يبدع خلق المياه الكثيرة ابتداء معجزة لموسى، ونعمة عليه، وعلى قومه ومن استبعد ذلك من الملاحدة الذين ما قدروا الله حق قدره، ولم يعرفوه حقيقة معرفته، فالكلام عليهم إنما يكون في وجود الصانع، وإثبات صفاته، واتساع مقدوراته، ولا معنى للتشاغل بالكلام معهم في الفرع، مع خلافهم في الأصل. (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فأدع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون (1) [ منهم ]. (*)
[ 234 ]
الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)). القراءة: قرأ أهل المدينة: (النبيئين) بالهمزة. والباقون بغير همز. الحجة: قال أبو علي: الحجة لمن همز النبئ، أن يقول: هو أصل الكلمة. ألا ترى أن ناسا من أهل الحجاز حققوا الهمزة في الكلام، ولم يبدلوه، فلم يكن كماضي يدع ونحوه مما رفض استعماله. فأما ما روي في الحديث من أن بعضهم قال: يا نبئ الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لست نبئ الله، ولكني نبي الله. فأظن أن من أهل النقل من ضعف إسناد هذا الحديث، ويقوي ضعفه أن من مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال (1): يا خاتم النباء إنك مرسل * بالحق خير هدى الإله هداكا لم يؤثر عنه إنكار عليه فيما علمنا، ولو كان في واحده نكير، لكان الجمع كالواحد. وحجة من أبدل ولم يحقق مجئ الجمع في التنزيل على أنبياء الذي هو في أكثر الأمر للمعتل اللام، نحو: صفي وأصفياء، وغني وأغنياء، فدل على أن الواحد قد ألزم فيه البدل. فإذا ألزم فيه البدل ضعف فيه التحقيق. ولا يجوز أن يكون اشتقاق النبي من النبوة التي هي الإرتفاع، أو من النباوة، لأن سيبويه حكى أن جميع العرب يقولون تنبأ مسيلمة بالهمزة، فدل على أن أصله الهمز. وقال الزجاج: يجوز أن يكون نبي من أنبأت، فترك همزته لكثرة الإستعمال. ويجوز أن يكون من نبا ينبو: إذا ارتفع، فيكون فعيلا من الرفعة. اللغة: الطعام: ما يتغذى به. والطعم بضم الطاء: الأكل. والطعم: عرض يدرك بحاسة الذوق. والطعام: من قبيل الأجسام، والواحد أول عدد الحساب، وحده ما لا يتجزى. والله تعالى واحد: لتفرده بصفاته الحسنى. والدعاء: أصله النداء، عن ابن السراج، وكل من يدعو ربه فهو يناديه. (1) قائل هذا البيت هو العباس بن مرداس. (*)
[ 235 ]
وحقيقة الدعاء: قول القائل لمن فوقه: إفعل. والفرق بينه وبين الأمر يظهر بالرتبة. والانبات: إخراج النبات، وأصله من الظهور، فكأنه ظهر إذا نبت. والبقل ما ينبته الربيع، يقال: بقلت الأرض، وأبقلت، لغتان فصيحتان: إذا أنبتت البقل. فالبقل: كل نبات ليس له ساق. وفي القثاء لغتان ضم القاف وكسرها، والكسر أجود، وهي لغة القرآن. وقد روي عن عيسى الثقفي في الشواذ بالضم. والفوم هو الحنطة، عن ابن عباس وقتادة والسدي، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح: قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا * ورد المدينة عن زراعة فوم وقال الفراء، والأزهري: هو الحنطة والخبز. تقول العرب: فوموا لنا أي: اختبزوا. وقال قوم: هو الحبوب التي تخبز. وقال الكسائي: هو الثوم، أبدل من الثاء فاء، كما قالوا جدث وجدف. قال الفراء: وهذا أشبه بما ذكره بعده من البصل. قال الزجاج: وهذا بعيد لأنه لا يعرف الثوم بمعنى الفوم، لأن القوم لا يجوز أن يطلبوا الثوم، ولا يطلبون الخبز الذي هو الأصل. وهذا ضعيف لأنه قد روي في الشواذ عن ابن مسعود، وابن عباس: (وثومها) بالثاء. والعدس: حب معروف، وقوله أدنى أي: أقرب وأدون، كما تقول هذا شئ مقارب أو دون. ويجوز أن يكون أدنى من الدناءة: وهي الخسة، يقال دنأ دناءة فهو دني، وهو أدنى منه، فتركت همزتها وهو اختيار الفراء. وحكى الأزهري عن ابن زيد: الدني، بلا همز: الخسيس. والدنئ بالهمزة: الماجن. وأما اشتقاق مصر: فقال بعضهم هو من القطع لانقطاعه بالعمارة عما سواه، ومنهم من قال: هو مشتق من الفصل بينه وبين غيره. وقال عدي بن زيد: وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به * بين النهار، وبين الليل قد فصلا وضربت عليهم الذلة أي: فرضت ووضعت عليهم الذلة وألزموها من قولهم: ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة، وضرب الأمير على عبيده الخراج. وقيل: ضربت عليهم الذلة أي: حلوا بمنزلة الذل والمسكنة، مأخوذ من ضرب القباب. قال الفرزدق: ضربت عليك العنكبوت بنسجها، * وقضى عليك به الكتاب المنزل وأما الذلة: فمشتقة من قولهم ذل فلان يذل ذلا وذلة. والمسكنة: مصدر
[ 236 ]
المسكين، يقال: ما فيهم أسكن من فلان، وما كان مسكينا، ولقد تمسكن تمسكنا. ومنهم من يقول: تسكن تسكنا. والمسكنة هاهنا: مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها. وقوله: وباؤوا بغضب أي: انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باء إلا موصولا إما بخير، وإما بشر، وأكثر ما يستعمل في الشر. ويقال: باء بذنبه يبوء به. قال المبرد: وأصله المنزلة أي: نزلوا منزلة غضب الله. وروي أن رجلا جاء برجل إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فقال: هذا قاتل أخي، وهو بواء به أي: مقتول به. ومنه قول ليلى الأخيلية: فإن تكن القتلى بواء فإنكم * فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر قال الزجاج: أصل ذلك التسوية، ومنه ما روي عن عبادة بن الصامت قال: جعل الله تعالى الأنفال إلى نبيه، فقسمها بينهم على بواء أي: على سواء بينهم في القسم، ومنه قول الشاعر (1): فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له * بواء، ولكن لا تكايل بالدم وقال قوم: هو الإعتراف، ومعناه أنهم اعترفوا بما يوجب غضب الله، ومنه قول الشاعر: إني أبوء بعثرتي، وخطيئتي، * ربي، وهل إلا إليك المهرب والغضب: إرادة إيصال الضرر إلى من غضب عليه، فإذا أضيف إلى الله تعالى، فالمراد به أنه يريد إنزال العقوبة بالمغضوب عليه، نعوذ بالله من غضبه والنبي: اشتقاقه من النبأ الذي هو الخبر، لأنه المخبر عن الله سبحانه. فإن قلت: لم لا يكون من النباوة، ومما أنشده أبو عثمان قال: أنشدني كيسان: محض الضريبة في البيت الذي وضعت * فيه النباوة حلوا غير ممذوق (2) فالقول فيه: إنه لا يجوز أن يكون منها، لأن سيبويه زعم أنهم يقولون في تحقير النبوة كان مسيلمة نبيئة سوء، وكلهم يقول: تنبأ مسيلمة. فلو كان يحتمل الأمرين لما اجتمعوا على ذلك. قال أبو علي: ومما يقوي أنه من النبأ الذي هو الخبر أن النباوة الرفعة، وكأنه قال في البيت الذي وضعت فيه الرفعة، وليس كل رفعة (1) قائلته: امرأة من طي. (2) الضريبة: الطبيعة والسجية. وفي (شرح شواهد المجمع) الضريبة بالمهملة، وجلوا بالجيم. (*)
[ 237 ]
نبوة، وقد يكون في البيت رفعة ليست بنبوة، والمخبر عن الله تعالى المبلغ عنه نبي ورسول. فهذا الإسم أخص به وأشد مطابقة للمعنى المقصود إذا أخذ من النبأ. والإعتداء: تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره، وكل مجاوز حد شئ إلى غيره، فقد تعداه إلى ما تجاوز إليه. الاعراب: قوله: (يخرج لنا) مجزوم، لأنه جواب أمر محذوف، لأن تقديره أدع لنا ربك، وقل له أخرج لنا يخرج لنا. وقد ذكرنا فيما قبل، أن الأصل فيه أنه مجزوم بالشرط، وحذف الشرط لأن الكلام يدل عليه. وقيل: إن تقديره أن يكون (يخرج) مجزوما بإضمار اللام أي: ليخرج لنا نحو قوله: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) أي: ليقيموا، فحذف اللام وأنشد أبو زيد: فيضحي صريعا ما يقوم لحاجة، * ولا يسمع الداعي، ويسمعك من دعا وأنشد غيره: فقل: أدعي وأدع، فإن أندى * لصوت أن ينادي داعيان أي: ولأدع. وقال آخر (1): محمد تفد نفسك كل نفس * إذا ما خفت من أمر تبالا أي: لتفد. قال المبرد: حدثني المازني قال: جلست في حلقة الفراء، فسمعته يقول لأصحابه: لا يجوز حذف لام الأمر إلا في الشعر، ثم أنشد: منح كان لا يزعم أني شاعر * فيدن مني ينهه الزواجر فقلت له: لم جاز في الشعر، ولم يجز في الكلام ؟ قال: لأن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف. قال فقلت: فما اضطره هاهنا وهو يمكنه أن يقول فليدن مني ؟ قال: فسأل عني فقيل المازني. فأوسع لي. وقوله: (مما تنبت الأرض) من هنا للتبعيض، لأن المراد يخرج لنا بعض ما تنبته الأرض. وقال بعضهم: إن (من) هنا زائدة نحو قولهم: ما جاءني من أحد. والصحيح الأول، لأن (من) لا تزاد في الإيجاب، وإنما تزاد في النفي، ولأن من المعلوم أنهم لم يريدوا جميع ما تنبته (1) القائل: أبو طالب بن عبد المطلب. (*)
[ 238 ]
الأرض. ونون جميع القراء (مصرا) لأنه أراد مصرا من الأمصار بغير تعيين، لأنهم كانوا في تيه. ويجوز أن يكون المراد مصر بعينها البلدة المعروفة، وصرفه لأنه مذكر. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ بغير ألف، ويجوز أن يكون المراد مصر هذه بعينها، كما قال: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) وإنما لم يصرفه، لأنه اسم المدينة، فهو مذكر سمي به مؤنث، ويمكن أن يكون إنما نونه من نونه اتباعا للمصحف، لأنه مكتوب في المصحف بألف. وقوله: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون) قال الزجاج معناه، والله أعلم: الغضب حل بهم بكفرهم. وأقول في بيانه: إن ذلك إشارة إلى الغضب في قوله (وباؤوا بغضب) فهو في موضع الرفع بالإبتداء، وأن مع صلته من الاسم والخبر في موضع جر بالباء، والجار يتعلق بخبر المبتدأ، وهي جملة من الفعل والفاعل، حذفت لدلالة ما يتصل بها عليها. وكذلك قوله (ذلك بما عصوا) فإن ما مع صلته في تأويل المصدر. المعنى: لما عدد سبحانه فيما قبل، ما أسداه إليهم من النعم والإحسان، ذكر ما قابلوا به تلك النعم من الكفران، وسوء الإختيار لنفوسهم بالعصيان، فقال: (وإذ قلتم) أي: قال أسلافكم من بني إسرائيل: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد) أي: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد، وإنما قال (على طعام واحد) وإن كان طعامهم المن والسلوى، وهما شيئان، لأنه أراد به أن طعامهم في كل يوم واحد أي: يأكلون في اليوم ما كانوا يأكلونه في الأمس، كما يقال إن طعام فلان في كل يوم واحد، وإن كان يأكل ألوانا إذا حبس نفسه على ألوان من الطعام لا يعدوها إلى غيرها. وقيل: إنه كان ينزل عليهم المن وحده، فملوه فقالوا ذلك، فأنزل عليهم السلوى من بعد ذلك. وقوله: (فادع لنا ربك) أي: فاسأل ربك وادعه لأجلنا. (يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) أي: مما تنبته الأرض من البقل، والقثاء، ومما سماه الله مع ذلك. وكان سبب مسألتهم ذلك ما رواه قتادة قال: كان القوم في البرية فد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فسألوا موسى فقال الله: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) وتقديره فدعا موسى
[ 239 ]
فاستجبنا له، فقلنا لهم اهبطوا مصرا. وقيل: إنهم قالوا لا نصبر على الغنى بأن يكون جميعنا أغنياء، فلا يقدر بعضنا على الإستعانة ببعض، فلذلك قالوا يخرج لنا مما تنبت الأرض، ليحتاجوا فيه إلى أعوان، فيكون الفقير عونا للغني. وقوله (قال أتستبدلون الذي هو ادنى بالذي هو خير) معناه: قال لهم موسى. وقيل: بل قال الله لهم: أتتركون ما اختار الله لكم، وتؤثرون ما هو أدون وأردى على ذلك. وقيل: إنه أراد أتستبدلون ما تتبذلون في زراعته وصناعته بما أعطاه الله إياكم عفوا من المن والسلوى. وقيل: المراد تختارون الذي هو أقرب أي أقل قيمة، على الذي هو أكثر قيمة وألذ. واختلف في سؤالهم هذا: هل كان معصية ؟ فقيل: لم يكن معصية، لأن الأول كان مباحا، فسألوا مباحا آخر. وقيل: بل كان معصية، لأنهم لم يرضوا بما اختاره الله لهم، ولذلك ذمهم على ذلك، وهو أوجه. وقوله: (اهبطوا مصرا) اختلف فيه، فقال الحسن والربيع: أراد مصر فرعون الذي خرجوا منه. وقال أبو مسلم: أراد بيت المقدس، وروي ذلك عن ابن زيد. وقال قتادة والسدي ومجاهد: أراد مصرا من الأمصار، يعني أن ما تسألونه إنما يكون في الأمصار، ولا يكون في المفاوز أي: إذا نزلتم مدينة ذات طول وعرض (فإن لكم) فيها (ما سألتم) من نبات الأرض. وقد تم الكلام هاهنا. ثم استأنف حكم الذين اعتدوا في السبت، ومن قتل الأنبياء، فقال: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) أي: الزموا الذلة إلزاما لا يبرح عنهم، كما يضرب المسمار على الشئ فيلزمه. وقيل: المراد بالذلة الجزية، لقوله (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) عن الحسن، وقتادة. وقيل هو الكستيج (1) وزي اليهود عن عطا. وقوله: (والمسكنة) يعني زي الفقر. فترى المثري منهم يتباءس مخافة أن يضاعف عليه الجزية. وقال قوم: هذه الآية تدل على فضل الغنى، لأنه ذمهم على الفقر، وليس ذلك بالوجه، لأن المراد به فقر القلب، لأنه قد يكون في اليهود مياسير، ولا يوجد يهودي غني النفس. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الغنى غنى النفس) وقال ابن زيد: أبدل الله اليهود بالعز ذلا، وبالنعمة بؤسا وبالرضا عنهم غضبا، جزاء لهم بما كفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه ورسله اعتداء وظلما. (وباءوا بغضب من الله) أي: رجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد وجب عليهم من الله (1) الكستيج بالضم: خيط غليظ يشده الذمي فوق ثيابه دون الزنار، وهو معرب (كستي). (*)
[ 240 ]
الغضب، وحل بهم منه السخط. وقال قوم: الغضب هو ما حل بهم في الدنيا من البلاء والنقمة بدلا من الرخاء والنعمة. وقال آخرون: هو ما ينالهم في الآخرة من العقاب على معاصيهم. ثم أشار إلى ما تقدم ذكره فقال: (ذلك) أي: ذلك الغضب، وضرب الذلة والمسكنة، حل بهم لأجل (أنهم كانوا يكفرون بآيات الله) أي: يجحدون حجج الله وبيناته. وقيل: أرإد بآيات الله الإنجيل والقرآن، ولذلك قال فباءوا بغضب على غضب. الأول: لكفرهم بعيسى والانجيل، والثاني: لكفرهم بمحمد والقرآن. وقيل: آيات الله صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق) أي: بغير جرم كزكريا ويحيى وغيرهما. وقوله (بغير الحق) لا يدل على أنه قد يصح أن يقتل النبيون بحق، لأن هذا خرج مخرج الصفة لقتلهم، وأنه لا يكون إلا ظلما بغير حق كقوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) ومعناه أن ذلك لا يمكن أن يكون عليه برهان. وكقول الشاعر: (على لاحب لا يهتدى بمناره) ومعناه: ليس هناك منار يهتدى به، وفي أمثاله كثرة. وقوله: (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) ذلك إشارة إلى ما تقدم أيضا بعصيانهم في قتل الأنبياء، وعدوهم السبت. وقيل: بنقضهم العهد واعتدائهم في قتل الأنبياء، والمراد إني فعلت بهم ما فعلت من ذلك بعصيانهم أمري، وتجاوزهم حدي إلى ما نهيتهم عنه. سؤال: إن قيل: كيف يجوز التخلية بين الكفار، وقتل الأنبياء ؟ فالجواب: إنما جاز ذلك لتناول أنبياء الله سبحانه من رفع المنازل والدرجات، ما لا ينالونه بغير القتل، وليس ذلك بخذلان لهم، كما أن التخلية بين المؤمنين والأولياء والمطيعين، وبين قاتليهم، ليست بخذلان لهم. وقال الحسن: إن الله تعالى لم يأمر نبيا بالقتال فقتل فيه، وإنما قتل من الأنبياء من قتل في غير قتال. وإلصحيح أن النبي إن كان لم يؤد الشرع الذي أمر بتأديته، لم يجز أن يمكن الله سبحانه من قتله، لأنه لو مكن من ذلك لأدى إلى أن يكون المكلفون غير مزاحي العلة في التكليف، وفيما لهم من الألطاف والمصالح. فأما إذا أدى الشرع، فحينئذ يجوز أن يخلي الله بينه وبين قاتليه، ولم يجب عليه المنع من قتله. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة حتى كثر فيهم أولاد السبايا، واختلفوا بعد عيسى بمائتي سنة ".
[ 241 ]
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)). القراءة: قرأ نافع بترك الهمزة من (الصابئين والصابئون) في كل القرآن. والباقون يهمزون. الحجة: ترك الهمزة يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون من صبا يصبو: إذا مال إلى الشئ. والآخر قلب الهمزة. قال أبو علي: ولا يسهل أن يأخذه من صبا يصبو، لأنه قد يصبو الإنسان إلى الدين، فلا يكون منه تدين به مع صبوه إليه. فإذا بعد هذا، وكان الصابئون منتقلين من دينهم الذي أخذ عليهم إلى سواه، لم يستقم أن يكون إلا من صبأت الذي معناه انتقال من دينهم إلى دين لم يشرع لهم، فيكون على قلب الهمز، وقلب الهمز على هذا الحد لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر. فدل على أن القائل لذلك غير فصيح، وأنه مخلط في لغته، فالإختيار الهمز، ولأنه قراءة الأكثر، وإلى التفسير أقرب. اللغة: هادوا أي: صاروا يهودا ودانوا باليهودية. وهاد يهود هودا أي: تاب واختلف في اشتقاق اسم اليهود، فقيل: هو من الهود أي: التوبة، ومنه قوله (إنا هدنا إليك)، عن ابن جريج. وسموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل، وقال زهير: سوى مربع لم يأت فيه مخافة، * ولا رهقا من عابد متهود أي: تائب. وقيل: إنما سموا يهودا لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب، فعربت الذال دالا. وقيل: إنما سموا يهودا لأنهم هادوا أي: مالوا عن الإسلام، وعن دين موسى. وقيل: سموا بذلك لأنهم يتهودون أي: يتحركون عند قراءة التوراة، ويقولون إن السماوات والأرض تحركت حين آتى الله موسى عليه السلام التوراة. واليهود: اسم جمع، واحدهم يهودي كالزنجي والزنج، والرومي والروم والنصارى: جمع نصران، كقولهم سكران وسكارى، وندمان وندامى، هذا قول سيبويه قال الشاعر:
[ 242 ]
تراه إذا كان العشي محنفا * يضحى لديه، وهو نصران شامس وهو الممتلئ نصرا، كما أن الغضبان هو الممتلئ غضبا. وقيل في مؤنثه: نصرانة، كما قال: (كما سجدت نصرانة لم تحنف). وقيل: إن واحد النصارى نصرى، مثل مهرى ومهارى. واختلفوا في اشتقاق هذا الاسم، فقال ابن عباس: هو من ناصرة قرية كان يسكنها عيسى عليه السلام، فنسبوا إليها. وقيل: سموا بذلك لتناصرهم أي: نصرة بعضهم بعضا. وقيل: إنما سموا بذلك لقوله: (من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله). والصابئون: جمع صابئ، وهو من انتقل (1) إلى دين آخر، وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، سمي في اللغة صابئا، قال أبو علي: قال أبو زيد صبا الرجل في دينه يصبا صبوءا: إذا كان صابئا، وصبأ ناب الصبي يصبأ صبأ: إذا طلع. وصبأت عليهم، تصبا صبا وصبوءا: إذا طلعت عليهم، وطرأت مثله. فكأنه معنى الصابئ: التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم: تارك لأرضه، ومنتقل إلى سواها. والدين الذي فارقوه: هو تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم أو تعظيمها. قال قتادة: وهم قوم معروفون، ولهم مذهب يتفردون به، ومن دينهم عبادة النجوم، وهم يقرون بالصانع وبالمعاد وببعض الأنبياء. وقال مجاهد، والحسن: الصابئون بين اليهود والمجوس، لا دين لهم. وقال السدي: هم طائفة من أهل الكتاب، يقرأون الزبور. وقال الخليل: هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، حيال منتصف النهار، يزعمون أنهم على دين نوح. وقال ابن زيد: هم أهل دين من الأديان، كانوا بالجزيرة، جزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله، ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأصحابه: هؤلاء الصابئون، يشبهونهم بهم. وقال آخرون: هم طائفة من أهل الكتاب. والفقهاء باجمعهم يجيزون أخذ الجزية منهم، وعندنا لا يجوز ذلك، لأنهم ليسوا بأهل كتاب. الاعراب: خبر إن جملة قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر) الآية. لأن معناه من آمن منهم بالله واليوم الآخر، فترك ذكر منهم، لدلالة الكلام عليه. (1) [ من دين ]. (*)
[ 243 ]
وقوله: (فلهم أجرهم عند ربهم) إلى آخر الآية: في موضع الجزاء. وإنما رفع (ولا خوف) لتكرير (لا) كقول الشاعر: وما صرمتك حتى قلت معلنة: * لا ناقة لي في هذا، ولا جمل (1) وهذا كأنه جواب لمن قال أناقة لك في هذا أم جمل ؟ فأما النكرة المفردة ففيه الفتح لا غير نحو: لا رجل في الدار، وهو جواب: هل من رجل في الدار ؟ وإنما قال (من آمن) فوحد ثم قال: (فلهم أجرهم)، فجمع، لأن من موحد اللفظ مجموع المعنى على ما تقدم بيانه. المعنى: (إن الذين آمنوا) اختلف في هؤلاء المؤمنين من هم، فقال قوم: هم الذين آمنوا بعيسى، ثم لم يتهودوا، ولم يتنصروا، ولم يصبأوا، وانتطروا خروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هم طلاب الدين منهم: حبيب النجار، وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء الشني وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وبحير الراهب، ووفد النجاشي، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه. فمنهم من أدركه وتابعه، ومنهم من لم يدركه. وقيل: هم مؤمنو الامم الماضية. وقيل: هم المؤمنون من هذه الامة. وقال السدي: هو سلمان الفارسي، وأصحابه النصارى، الذين كان قد تنصر على أيديهم قبل مبعث رسول الله وكانوا قد أخبروه بأنه سيبعث، وأنهم يؤمنون به إن أدركوه. واختلفوا في قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر) فقال قوم: هو خبر عن الذين هادوا والنصارى والصابئين، والضمير يرجع إليهم، لأن الذين آمنوا قد كانوا مؤمنين، فلا معنى أن يشرط فيهم استئناف الإيمان، فكأنه قال: إن الذين آمنوا، ومن آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم. وقال آخرون: من آمن منهم الضمير راجع إلى الكل، ويكون رجوعه إلى الذين آمنوا بمعنى الثبات منهم على إيمانهم، والإستقامة، وترك التبديل، وإلى الذين هادوا، والنصارى، والصابئين، بمعنى استئناف الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما جاء به. وقال بعضهم أراد من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الايمان بالله، وبالكتب المتقدمة، لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر، ونظيره قوله: (وإلذين آمنوا وعملوا (1) قائله: الراعي عبيد بن حصين. وفي النسخ المخطوطة والمطبوعة: (هجرتك) بدل (صرمتك). (*)
[ 244 ]
الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد) وروي عن ابن عباس أنه قال إنها منسوخة بقوله (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه). وهذا بعيد، لأن النسخ لا يجوز أن يدخل الخبر إلذي هو متضمن للوعد، وإنما يجوز دخوله في الأحكام الشرعية التي يجوز تغيرها وتبدلها بتغير المصلحة. فالأولى أن يحمل على أنه لم يصح، هذا القول عن ابن عباس. وقال قوم: إن حكمها ثابت والمراد بها: إن الذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، من المنافقين واليهود والنصارى والصابئين، إذا آمنوا بعد النفاق، وأسلموا بعد العناد، كان لهم أجرهم عند ربهم، كس آمن في أول استدعائه إلى الإيمان من غير نفاق، ولا عناد، لأن قوما من المسلمين قالوا: إن من أسلم بعد نفاقه وعناده، كان ثوابه أنقص، وأجره أقل. فأخبر الله بهذه الآية أنهم سواء في الأجر والثواب. وقوله (بالله) أي: بتوحيد الله، وصفاته، وعدله. (واليوم الآخر) يعني: يوم القيامة والبعث والنشور، والجنة، والنار. (وعمل صالحا) أي: عمل ما أمره الله به من الطاعات، وإنما لم يذكر ترك المعاصي، لأن تركها من الأعمال الصالحة. (فلهم أجرهم) أي: جزاؤهم وثوابهم (عند ربهم) أي: معد لهم عنده. وقوله: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) مضى تفسيره قبل. وقيل معناه: لا خوف عليهم فيما قدموا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا. وقيل: لا خوف عليهم في العقبى، ولا يحزنون على الدنيا. وفي هذه الآية دلالة على أن الإيمان هو التصديق، والإعتقاد بالقلب، لأنه تعالى قال: (من آمن بالله)، ثم عطف عليه بقوله (وعمل صالحا). ومن حمل ذلك على التأكيد، أو الفضل، فقد ترك الظاهر وكل شئ يذكرونه مما عطف على الأول بعد دخوله فيه مثل قوله (فيهما فاكهة ونخل ورمان)، (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) فإن جميع ذلك على سبيل المجاز والإتساع، ولو خلينا والظاهر لقلنا: إنه ليس بداخل في الأول. (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63)). اللغة: الميثاق: هو مفعال من الوثيقة إما بيمين، وإما بعهد، أو غير ذلك من الوثائق. والطور: الجبل في اللغة، قال العجاج: دانى جناحيه من الطور فمر * تقضي البازي إذ البازي كسر
[ 245 ]
وقيل: إنه اسم جبل بعينه، ناجى الله عليه موسى عليه السلام، عن ابن عباس. والقوة: القدرة، وهي عرض يصير به الحي قادرا، وكل جسم قادر بقدرة لا يصح منه فعل الجسم. والأخذ: ضد الإعطاء، وأصل خذ أوخذ، وكذا كل أصله أؤكل، وإنما لزم الحذف فيها تخفيفا لكثرة الإستعمال، وكذلك مر وقد جاء فيه أؤمر على الأصل. الاعراب: (خذوا ما آتيناكم): محله نصب على تقدير وقلنا لكم خذوا كما تقول أوجبت عليه قم أي: أوجبت عليه فقلت قم. قال الفراء: أخذ الميثاق قول، ولا حاجة بالكلام إلى إضمار القول فيه، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام الذي هو بمعنى القول أن يكون معه (أن) كقوله: (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك) قال: ويجوز حذف (أن) وموضع (ما) هاهنا نصب. المعنى: ثم عاد إلى خطاب بني إسرائيل، فقال: (و) اذكروا (إذ أخذنا ميثاقكم) أي: عهدكم. والعهد: هو الذي فطر الله الخلق عليه من التوحيد والعدل، ونصب لهم من الحجج الواضحة، والبراهين الساطعة، الدالة على ذلك، وعلى صدق الأنبياء والرسل. وقيل: إنه أراد به الميثاق الذي أخذه الله على الرسل في قوله (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) الآية. وقيل: هو أخذ التوراة عن موسى. (ورفعنا فوقكم الطور) قال أبو زيد: هذا حين رجع موسى من الطور، فأتى بالألواح، فقال لقومه: جئتكم بالألواح، وفيها التوراة والحلال والحرام، فاعملوا بها. قالوا: ومن يقبل قولك ؟ فأرسل الله عز وجل الملائكة حتى نتقوا الجبل فوق رؤوسهم. فقال موسى عليه السلام: إن قبلتم ما آتيتكم به، وإلا أرسلوا الجبل عليكم ! فأخذوا التوراة وسجدوا لله تعالى ملاحظين إلى الجبل، فمن ثم يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم. قيل: وهذا هو معنى أخذ الميثاق، وكان في حال رفع الجبل فوقهم، لأن في هذه الحال قيل لهم: (خذوا ما آتينكم) يعني التوراة. (بقوة) أي: بجد ويقين لا شك فيه، وهو قول ابن عباس، وقتادة، والسدي، وقريب منه ما روى العياشي أنه سئل الصادق عليه السلام، عن قول الله عز
[ 246 ]
وجل: (خذوا ما آتيناكم بقوة) أبقوة بالأبدان أم بقوة بالقلوب ؟ فقال: بهما جميعا. وقيل: أخذه بقوة: هو العمل بما فيه بعزيمة وجد. وقيل: بقدرة، وأنتم قادرون على أخذه، عن أبي علي والأصم. (واذكروا ما فيه) يعود الضمير من (فيه) إلى (ما) من قوله: (ما آتيناكم) وهو التوراة، يعني: احفظوا ما في التوراة من الحلال والحرام، ولا تنسوه. وقيل: معناه اذكروا ما في تركه من العقوبة، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: معناه اعملوا بما فيه، ولا تتركوه. وقيل: المعنى في ذلك أن ما آتيناكم فيه من وعد ووعيد، وترغيب وترهيب، تدبروه، واعتبروا به واقبلوه. (لعلكم تتقون) أي: كي تتقوني إذا فعلتم ذلك، وتخافوا عقابي، وتنتهوا إلى طاعتي، وتنزعوا (1) عما أنتم عليه من المعصية. (ثم توليتم بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (64)). اللغة: توليتم: أعرضتم، وهو مطاوع قولهم ولاه فلان دبره إذا استدبر عنه، وجعله خلف ظهره، ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة آمر، ومعرض بوجهه عنه، فيقال: تولى فلان عن طاعة فلان، وتولى عن صداقته، ومنه قوله (فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا) أي: خالفوا ما وعدوا الله من قولهم: (لنصدقن ولنكونن من الصالحين). والخاسر: هو الذي ذهب رأس ماله، ورأس مال الإنسان نفسه، وما سواها مما يحصل له من المنافع، فهو كله ربح. المعنى: معنى الآية ثم نبذتم العهد الذي أخذناه عليكم بعد إعطائكم المواثيق وراء ظهوركم، وأعرضتم عنه. (فلولا فضل الله عليكم) أي: فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه إذ رفع فوقكم الطور، وأنعم عليكم بالإسلام، ورحمته التي رحمكم بها، فتجاوز منكم خطيئتكم بمراجعتكم طاعة ربكم. (لكنتم من الخاسرين). وقال أبو العالية: فضل الله الإيمان ورحمته القرآن، فيكون معناه: لولا إقداري لكم على (1) وفي نسختين من نسخنا: (تورعوا) بدل (تنزعوا). (*)
[ 247 ]
الإيمان، وإزاحة علتكم فيه، حتى فعلتم الإيمان، لكنتم من الخاسرين. وإنما جعل الإيمان فضلا وتوبته التي بها نجوا، ولم يكونوا بها خاسرين، فضلا منه، من حيث كان هو الداعي إليه والمقدر عليه، والمرغب فيه. ويحتمل أن يكون المعنى: فلولا فضل الله عليكم بإمهاله إياكم بعد توليكم عن طاعته، حتى تاب عليكم برجوع بعضكم عن ذلك، وتوبته، لكنتم من الخاسرين. ويحتمل أن يريد: فلولا فضلي عليكم في رفع الجبل فوقكم للتوفيق واللطف الذي تبتم عنده حتى زال العذاب عنكم، وسقوط الجبل، لكنتم من الخاسرين. (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65)). اللغة: علمتم أي: عرفتم. هنا تقول علمت أخاك ولم أكن أعلمه أي: عرفته، ولم أكن أعرفه، كقوله تعالى: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) أي: لا تعرفونهم، الله يعرفهم و (الذين اعتدوا): في موضع نصب، لأنه مفعول به. والفرق بينه وبين ما يتعدى إلى مفعولين أن المعرفة تنصرف إلى ذات المسمى، والعلم ينصرف إلى أحواله. فإذا قلت، علمت زيدا، فالمراد عرفت شخصه وإذا قلت: علمت زيدا كريما أو لئيما، فالعلم يتعلق بأحواله من فضل ونقص. واعتدوا أي: ظلموا وجاوزوا ما حد لهم. والسبت: من أيام الأسبوع. قال الزجاج: السبت قطعة من الدهر، فسمي بذلك اليوم وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه يوم سبت فيه خلق كل شئ أي: قطع وفرغ. قوله: (منكم) في موضع نصب حالا من (الذين اعتدوا) أي: المعتدين كائنين منكم. قوله: (في السبت) متعلق ب‍ (اعتدوا) وأصل السبت مصدر، يقال: يسبت سبتا: إذا قطع، ثم سمي اليوم سبتا. وقد يقال: يوم السبت، فيخرج مصدرا على أصله. وقد قالوا: اليوم السبت، فجعلوا اليوم خبرا عن السبت، كما يقال: اليوم القتال. فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف تقديره: في يوم السبت. وقال قوم: إنما سمي بذلك، لأن اليهود يسبتون فيه أي: يقطعون فيه الأعمال. وقال آخرون:
[ 248 ]
سمي بذلك لما لهم فيه من الراحة، لأن أصل السبت هو السكون والراحة، ومنه قوله: (وجعلنا نومكم سباتا). ويقال للنائم: مسبوت، لاستراحته وسكون جسده. والقردة: جمع قرد، والانثى قردة. والخاسئ: المبعد المطرود، يقإل: خسأت الكلب أخسأه خسأ، وخسئ الكلب يخسأ خسأ، تقول: خسأته وخسئ وانخسأ. قال الراجز: (كالكلب إن قلت له: إخسأ إنخسأ) أي: إن طردته انطرد. المعنى: خاطب اليهود فقال: (ولقد علمتم) أي: عرفتم. (الذين اعتدوا منكم في السبت) أي: الذين جاوزوا ما أمروا به من ترك الصيد يوم السبت، وكان الحيتان تجتمع في يوم السبت لأمنها، فحبسوها في السبت، وأخذوها في الأحد، فاعتدوا في السبت أي: ظلموا وتجاوزوا ما حد لهم، لأن صيدها هو حبسها. وروي عن الحسن أنهم اصطادوا يوم السبت مستحلين بعدما نهوا عنه. (فقلنا لهم كونوا قردة) وهذا إخبار عن سرعة فعله، ومسخه إياهم، لا أن هناك أمرا. ومعناه: وجعلناهم قردة، كقوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين)، ولم يكن هناك قول، وإنما أخبر عن تسهل الفعل عليه، وتكوينه بلا مشقة. قال ابن عباس: فمسخهم الله تعالى عقوبة لهم، وكانوا يتعاوون، وبقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا، ولم يشربوا، ولم يتناسلوا، ثم أهلكهم الله تعالى، وجاءت ريح فهبت بهم، وألقتهم في الماء، وما مسخ الله أمة إلا أهلكها. وهذه القردة والخنازير ليست من نسل أولئك، ولكن مسخ اولئك على صورة هؤلاء، يدل عليه إجماع المسلمين على أنه ليس في القردة والخنازير من هو من أولاد آدم. ولو كانت من أولاد الممسوخين لكانت من بني آدم. وقال مجاهد: لم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله كما قال: (كمثل الحمار يحمل أسفارا) وحكي عنه أيضا أنه مسخت قلوبهم، فجعلت كقلوب القردة، لا تقبل وعظا، ولا تتقي زجرا. وهذان القولان يخالفان الظاهر الذي أكثر المفسرين عليه من غير ضرورة تدعو إليه. وقوله: (خاسئين) أي: مبعدين عن الخير. وقيل: أذلاء صاغرين مطرودين، عن مجاهد. وفي هذه الآيات احتجاجات من الله تعالى على اليهود بنعمه المترادفة على آبأئهم، وإخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن عناد أسلافهم مرة بعد أخرى،
[ 249 ]
وكفرانهم وعصيانهم ثانية بعد أولى مع ظهور الآيات اللائحة، والمعجزات الواضحة، تعزية له صلى الله عليه وآله وسلم، وتثبيتا لفؤاده، وتسليته إياه عما يقاسيه من مخالفة اليهود وكيدهم (1)، وبراءة من جحودهم وكفرهم وعنادهم، وليكون وقوفه على ما وقف عليه من أخبار سلفهم، تنبيها لهم، وحجة عليهم، في إخلادهم إلى الهوى، وإلحادهم، وتحذيرا لهم من أن يحل بهم ما حل بآبائهم، وأجدادهم. (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66)). اللغة: النكال: الإرهاب للغير، وأصله المنع، لأنه مأخوذ من النكل: وهو القيد، وهو أيضا اللجام. وسميت العقوبة نكالا: لأنها تمنع عن ارتكاب مثله ما ارتكبه من نزلت به. ونكل فلان بفلان تنكيلا ونكالا. والموعظة: الوعظ، وأصله التخويف، يقال: وعظت فلانا موعظة وعظة. المعنى: (فجعلناها) الضمير يعود إلى الامة التي مسخت، وهم أهل إيلة قرية على شاطئ البحر، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، أو إلى المسخة، عن الزجاج، أو إلى العقوبة أي: جعلنا تلك العقوبة، عن ابن عباس، أو إلى القرية التي اعتدى أهلها فيها. (نكالا) أي: عقوبة. وقيل: اشتهار أو فضيحة. وقيل: تذكرة وعبرة. وقوله: (لما بين يديها وما خلفها) ذكر فيه وجوه: أحدها: ما روي عن ابن عباس، رواه الضحاك عنه، لما بين يديها: للأمم التي تراها، وما خلفها: ما يكون بعدها. وهو يقارب المأثور المروي عن الباقر، والصادق عليهما السلام، أنهما قالا: لما بين يديها أي: لما معها ينظر إليها من القرى، وما خلفها: نحن ولنا فيها موعظة. فعلى هذا يكون (ما) بمعنى من أي: نكالا للخلق الذين كانوا معهم، ولجميع من يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، لئلا يفعلوا مثل فعلهم. وثانيها: أن يكون معناه: جعلناها عقوبة للذنوب التي تقدمت على الإصطياد والذنوب التي تأخرت عنه. وهذا يقتضي أن يكون الله تعالى لم يعاجلهم بالعقوبة عقيب الإصطياد، عن ابن عباس أيضا، فيكون اللام بمعنى السبب أي: بسبب ذلك وثالثها: أن يكون المراد: لما بين يديها من القرى، وما خلفها من القرى، عن عكرمة، عن ابن عباس. ورابعها: أن يكون المراد لما بين يديها: ما مضى من (1) وفي النسخ التي عندنا: " كيادهم " بدل " كيدهم ". (*)
[ 250 ]
خطاياهم، وبما خلفها: خطاياهم التي أهلكوا بها. (وموعظة للمتقين) معناه: إنه إنما يتعظ بها المتقون، فكأنها موعظة لهم دون غيرهم. وهذا كقوله سبحانه: (هدى للمتقين). وفي هذه الآية دلالة على أن من فعل مثل أفعال هولاء ممن تقدمهم، أو تأخر عنهم، يستحق من العقاب مثل ما حل بهم من التشويه وتغيير الخلقة، إذ كان نكالا لهم جميعا، وتحذيرا وتنبيها للمتقين، لكي لا يواقعوا من المعاصي ما واقع أولئك، فيستحقوا ما استحقوه، نعوذ بالله من سخطه !. (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الارض ولا تسقى الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71)). القراءة: قرأ حمزة، وإسماعيل عن نافع، وعباس (1) عن أبي عمرو: هزءا وكفؤا بالتخفيف والهمز في كل القرآن. وقرأ حفص عن عاصم بضم الزاي والفاء غير مهموز. وقرأ يعقوب: (هزوا) بضم الزاي (كفوا) بسكون الفاء. والباقون بالتثقيل والهمز. الحجة: قال أبو الحسن: زعم عيسى أن كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، فمن العرب من يثقله، ومنهم من يخففه، نحو: العسر واليسر والحلم ومما يقوي هذه الحكاية أن ما كان على فعل من الجموع، مثل كتب (1) [ عن مجاهد ]. (*)
[ 251 ]
ورسل، قد استمر فيه الوجهان حتى جاء ذلك في المعتل العين الواوي، نحو: سول الإسحل. قال: (وفي الأكف اللامعات سور). وحكى أبو زيد: قول قوم. وأما فعل في جمع أفعل نحو أحمر وحمر، فكأنهم ألزموه الإسكان للفصل بين الجمعين، وقد جاء فيه التحريك في الشعر. فإذا كان الأمر على هذا، وجب أن يكون ذلك مستمرا في نحو الكف ء والهزء، فإذا خفف الهمزة، وثقل العين، لزم أن تقلب الهمزة واوا، فيقول: هزوا، ولم يكن له (كفوا) أحد. وإن خفف، فأسكن العين، قال (هزوا) فأبقى الواو التي انقلبت عن الهمزة، لانضمام ما قبلها، وإن لم تكن ضمة العين في اللفظ، لأنها مرادة في المعنى، كما قالوا: لقضو (1) الرجل، فأبقوا الواو، ولم يردوا اللام التي هي ياء من قضيت، لأن الضمة مرادة في المعنى. وكذلك قالوا: رضي زيد، فيمن قال: علم زيد، فلم يردوا الواو التي هي لام، لزوال الكسرة، لأنها مقدرة مرادة، وإن كانت محذوفة من اللفظ. وكذلك تقول هزوا وكفوا فتثبت الواو، وإن كنت حذفت الضمة الموجبة لاجتلابها. وإذا كان الأمر على هذا فقراءة من قرأ بالضم، وتحقيق الهمز في الجواز والحسن، كقرأءة من قرأ بالإسكان، وقلب الهمزة واوا، لأنه تخفيف قياسي. وقد روى أبو زيد عن أبي عمرو أنه خير بين التخفيف والتثقيل. اللغة: البقرة: اسم للمؤنث من هذا الجنس، وأسم الذكر منه الثور. وهذا (2) يخالف صيغة المذكر منه صيغة الأنثى كالجمال والناقة، والرجل والمرأة، والجدي والعناق. وأصل البقر: الشق، يقال: بقرت بطنه أي: شققته. وسمي البقر بقرا لأن من شأنه شق الأرض بالكراب. والهزء: اللعب والسخرية، يقال: هزأت به هزءا ومهزأة. وأعوذ بالله: ألجأ إلى الله عوذا وعياذا، وحقيقة العياذ: استدفاع ما يخاف من شره بما يطمع ذلك منه. والجهل: نقيب العلم. قيل: هو نقيض الحلم، والصحيح أنه اعتقاد الشئ على خلاف ما هو به، كما أن العلم اعتقاد الشئ على ما هو به. والتبيين: التعريف، وأصله من البين: وهو الفراق فكل من بين شيئا فقد (1) أصله قضو - بضم الضاد - وإنما نقل إلى فعل - مضموم العين للتعجب أو المدح. (2) [ مما ]. (*)
[ 252 ]
ميزه عما يلتبس به حتى يعرفه غيره. قال سيبويه: أبان الشئ وأبنته، وبين وبينته، واستبان واستبنته، والمعنى واحد. والفارض: الكبيرة المسنة، يقال: فرضت البقرة تفرض فروضا: إذا اسنت. قال الشاعر: لعمري قد أعطيت جارك فارضا * تساق إليه، ما تقوم على رجل وقيل: إن الفارض التي ولدت بطونا كثيرة، فيتسع لذلك جوفها، لأن معنى الفارض في اللغة: الواسع الضخم، وهو قول بعض المتأخرين، واستشهد بقول الراجز: يا رب ذي ضغن علي فارض، * له قروء كقروء الحائض ويقال: لحيته فارضة أي: عظيمة. والبكر: الصغيرة التي لم تحمل. والبكر من بني آدم، ومن البهائم: ما لم يفتحله الفحل. والبكر من كل شئ: أوله. والبكر: التي ولدت واحدا. وبكرها: أول أولادها، قال: يابكر بكرين، وياخلب الكبد ! * أصبحت مني كذراع من عضد وضربة بكر أي: قاطعة لا تنثني. وحدث ابن عائشة، عن أبيه، عن جده، قال: " كانت ضربات علي بن أبي طالب عليه السلام، أبكارا، كان إذا اعتلى قد، وإذا اعترض قط " ذكره ابن فارس في مجمل اللغة. والبكر بفتح الباء: الفتي من الإبل. والعوان: دون المسنة، وفوق الصغيرة، وهي النصف التي ولدت بطنا، أو بطنين. قال الفراء: يقال من العوان عونت المرأة تعوينا: إذا بلغت ثلاثين سنة، ومنه قيل للحرب عوان: إذا لم يكن أول حرب بين القوم وكانوا قد قاتلوا قبله. و (بين) اسم يستعمل على ضربين مصدر وظرف. قال أبو علي: وهما عندي وجميع بابهما يرجعان إلى أصل واحد، وهو الإفتراق والإنكشاف، وسيأتيك بيانه في الإعراب إن شاء الله. واللون: عرض يتعاقب على الجوهر تعاقب المتضاد، وهو عبارة عما إذا وجد حصلت به الجواهر على هيئة مخصوصة، لولاه لما حصلت على تلك الهيئة، ولا يدخل تحت مقدور العباد. فاقع لونها أي: شديدة الصفرة، يقال: أصفر فاقع، وأحمر ناصع، وأخضر ناضر، وأحمر قانئ، وأبيض يقق ولهق ولهاق، وأسود حالك وحلوك وحلكوك وغربيب ودجوجي، فهذه كلها صفات مبالغة في الألوان.
[ 253 ]
وقيل: إنه أراد بصفراء هاهنا: سوداء شديدة السواد، كما يقال صفراء أي: سوداء، وقال الشاعر: تلك خيلي منه، وتلك ركابي * هن صفر أولادها كالزبيب والأول أصح، فإن الإبل (1) إن وصفت به، فلا يوصف البقر به، وأيضا فإن السواد لا يوصف بالفقوع، وإنما يوصف بالحلوكة وغيرها على ما ذكرناه. والبقر: جمع بقرة، وكذلك الباقر جمع، كالجامل: جمع جمل، قال الأعشى: وما ذنبه إن عافت الماء باقر، * وما إن تعاف الماء إلا ليضربا وقال آخر: (لهم جامل لا يهدأ الليل سامره) أي: جمال، ونحو هذا عندهم اسم مفرد مصوغ للكثرة كاسم الجنس، ومثله العبيد والكليب والضئين في جمع عبد وكلب وضأن. وقوله (لا ذلول): يقال للدابة: قد ذللها الركوب والعمل، دابة ذلول بين الذل بكسر الذال. ويقال في مثله من بني آدم رجل ذليل بين الذل بضم الذال. والذلة بكسرها، والمذلة. والإثارة: إظهار الشئ بالكشف. وأثار الأرض أي: كربها وقلبها. والحرث: كل أرض ذللته للزرع. قال الخليل: الحرث قذف البذر في الأرض للازدراع. والزرع: الإنبات والانماء. قال عز اسمه: (أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) مسلمة: مبرأة من العيوب مفعلة من السلامة. الشية: اللون في المشي يخالف عامة لونه. والوشي: خلط اللون باللون (ولاشية فيها) أي: لا وضح فيها يخالف لون جلدها، يقال: وشيت الثوب أشيه شية ووشيا، ومنه قيل لمن يسعى بالرجل إلى السلطان: وإش، لكذبه عليه عنده، وتحسينه كذبه بالاباطيل. ويقال منه: وشيت به وشاية، قال كعب بن زهير: تسعى الوشاة بجنبيها، وقولهم: إنك يابن أبي سلمى لمقتول يعني: إنهم يتقولون بالأباطيل: ويقولون: إنه إن لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قتله. والذبح: فري الأوداج، وذلك في البقر والغنم والنحر في الابل، ولا يجوز فيها عندنا غير ذلك، وفيه خلاف بين الفقهاء. وقيل للصادق عليه السلام: إن أهل مكة يذبحون البقرة في اللبة (2) فما ترى في أكل لحومها ؟ فسكت هنيهة، ثم قال: (قال الله تعالى (فذبحوها وما كادوا يفعلون) لا تأكل إلا ما ذبح من مذبحه). (1) [ ناقة ]. (2) اللبة: المنحر. (*)
[ 254 ]
الاعراب: حذفت الفاء من قوله (قالوا أتتخذنا هزوا) لاستغناء ما قبله من الكلام عنه وحسن الوقف على قوله: (إن تذبحوا بقرة) كما حسن إسقاطها من قوله: (قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا) ولم يقل فقالوا، ولو قيل بالفاء لكان حسنا، ولو قلت قمت ففعلت لم يجز إسقاط الفاء، لأنها عطف لا استفهام يحسن السكوت عليه. وقوله: (هزوا) لا يخلو من أحد أمرين: أحدهما: أن يكون المضاف محذوفا، لأن الهزء حدث والمفعول الثاني من تتخذ يكون الأول نحو قوله (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) والثاني: أن يكون الهزؤ بمعنى المهزوء به مثل الصيد في قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر) ونحوه، وكما يقال: رجل رضي أي: مرضي، أقام المصدر مقام المفعول. وأما قوله تعالى (لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) فلا يحتاج فيه إلى تقدير (1) محذوف، لأن الدين ليس بعين. وقوله: (أعوذ بالله) أصله أعوذ، فنقلت الضمة من الواو إلى الساكن قبلها من غير استثقال لذلك، غير أنه لما أعلت عين الماضي لتحركها، وانفتاح ما قبلها، أعلت عين المضارع أيضا ليجري الباب على سنن واحد، وكذلك القول في أعاذ يعيذ، واستعاذ يستعيذ، والأصل أعوذ يعوذ، واستعوذ يستعوذ. وقوله (لا فارض ولا بكر) قال الأخفش: ارتفع ولم ينتصب كما ينتصب المنفي، لأنه صفة لبقرة. وقوله: (عوان) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هي عوان. وقال الزجاج: ارتفع (فارض) بأضمار هي أي: هي لا فارض ولا بكر. قال: وإنما جاز " بين ذلك " وبين لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر، لأن ذلك ينوب عن الجمل، تقول ظننت زيدا قائما، فيقول القائل قد ظننت ذاك، وظننت ذلك. قال أبو علي: لا يخلو ذلك فيما ذكره من قولهم ظننت ذلك من أن يكون إشارة إلى المصدر، كما ذهب إليه سيبويه، أو يكون إشارة إلى أحد مفعولي ظننت، وأن تكون نائبة عن الجملة، كما قاله أبو إسحاق. ولا يجوز أن يكون إشارة إلى أحد المفعولين، لأنه لو كان كذلك للزم أن يذكر الآخر كما لو أنك ذكرت اسم المشار إليه، للزم فيه ذلك، وكما أنك إذا ذكرت المبتدأ، لزمك ذكر الخبر، أو يعلم من الحال ما يقوم مقام ذكرك له. ولا يجوز أن تكون نائبة عن الجملة هنا، ولا إشارة (1) [ مضاف ]. (*)
[ 255 ]
إليها، كما لم ينب عن الجملة في غير هذا الموضع من المواضع التي تقع فيها الجملة نحو صلة الذي، ووصف النكرات، فثبت أن ذاك في قولهم ظننت ذاك إشارة إلى المصدر الذي هو الظن، ولا يجوز أن يقع اسم مفرد موقع جملة، ولو كان سائغا أن ينوب ذلك عن الجمل، لما جاز وقوعه هنا، لأن هذا الموضع ليس من مواضع الجمل، ألا ترى أن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما دل عليه قوله (لا فارض ولا بكر) وهو البكارة والفروض، فإنما يدل قوله ذلك عليهما، فلو كان واقعا موقع جملة، ما دل عليهما لأن الجملة يسند فيها الحدث إلى المحدث عنه، وليس واحد من الفروض والبكارة يسند إلى الآخر، ألا ترى أن المعنى بين هذين الوصفين، وهذا واضح. واعلم أن الإسم الذي يضاف إليه (بين) لا يخلو من أن يكون دالا على واحد، أو على أكثر من الواحد. فإذا كان دالا على الواحد غير دال على أكثر منه، عطف عليه اسم آخر، لما ذكرنا من أن أصله الإفتراق. فكما يمتنع أن يقول افتراق واجتماع زيد حتى تضيف إليه ما يزيد به على الإفراد، لذلك لا تقول بين زيد حتى تضيف إليه آخر (1) بالواو دون غيرها من الحروف العاطفة. وإذا كان الإسم دالا على الكثرة، وإن كان مفردا، جاز أن يضاف (بين) إليه. وأما قوله (عوان بين ذلك): فإنما أضيف فيه (بين) إلى (ذلك) من حيث جاز إضافته إلى القوم وما أشبه ذلك من الأسماء التي تدل على الكثرة، وإنما جاز أن يكون قولنا ذلك يراد به مرة الإنفراد، ومرة الجمع والكثرة، لمشابهته الموصولة كالذي وما. ألا ترى أن البابين يشتبهان في دلالة كل واحد منهما على غير شئ بعينه ؟ فجاز أن يراد به الواحد مرة، وأكثر من الواحد مرة. ويدل على ما ذكرناه من قصدهم بذلك الجمع، وما زاد على الواحد، أن روبة لما قال له أبو عبيدة في قوله: فيه خطوط من سواد، وبلق، * كأنه في الجلد توليع البهق إن أردت الخطوط وجب أن تقول كأنها، وإن أردت السواد والبلق وجب أن تقول كأنهما. قال: أردت كأن ذلك، فعلم به أنهم يقصدون ذلك غير المفرد. ويدل عليه أيضا قول القائل: إن للخير، وللشر، مدى * وكلا ذلك وجه، وقبل ألا ترى أن كلا لا تضاف إلى المفرد ؟ فلولا أن المراد بذلك غير الإفراد لما (1) [ زيد ]. (*)
[ 256 ]
أضيف كلا إليه، فكذلك القول في (عوان بين ذلك) والمراد بذلك الزيادة على الواحد. ألا ترى أنه إشارة إلى ما تقدم من قوله مما دل على الفروض والبكارة، وموضع (ما) من قوله (ما هي وما لونها) رفع لأنه خبر المبتدأ، لأن تأويله الاستفهام أي: أي شئ هو ؟ وأي لون لونها ؟ قال: إنه يقول إنها ما بعد القول من باب أن مكسورة أبدا، كأنك لم تذكر القول في صدر كلامك، وإنما وقعت قلت في كلام العرب على أن يحكى بها ما كان كلاما يقوم بنفسه قبل دخولها، فيؤدي مع ذكرها ذلك اللفظ تقول: قلت زيد منطلق، كأنك حكيت زيد منطلق، وكذلك إن زيدا منطلق، إذا حكيته، تقول: قلت ان زيدا منطلق. وقوم من العرب وهم بنو سليم يجعلون باب قلت كباب ظننت، فيقولون قلت زيدا منطلقا. وقوله: (فاقع لونها) ارتفع لونها بأنه فاعل (فاقع) وهو صفة لبقرة، مثل صفراء، وكذلك (تسر الناظرين) جملة مرفوعة الموضع بكونها صفة لبقرة. ويقال: فقع لونه فقوعا، وفقع يفقع: إذا خلصت صفرته. وقوله: (إن البقر تشابه علينا) كل جمع يكون واحده بالهاء، نحو البقر والنخل والسحاب، فإنه يونث ويذكر. قال الله تعالى: (كأنهم أعجاز نخل خاوية)، وفي موضع آخر (نخل منقعر). والتذكير الغالب. وقوله: (تثير الأرض) في موضع رفع بكونه صفة لذلول، وهو داخل في معنى النفي أي: بقرة ليست بذلول مثيرة للأرض، ولا ساقية للحرث. و (مسلمة): صفة لبقرة أيضا. و (لاشية فيها): جملة في موضع رفع أيضا بأنها صفة لبقرة. و (شية) مصدر من وشيت وأصلها وشي، فلما اسقطت الواو منها عوضت الهاء في آخرها. قالوا: وشيته شية، كما قالوا: وزنته زنة، ووصلته صلة. فوزنها علة. (قالوا الآن) وفيه وجوه: أجودها إسكان اللام من (الآن) وحذف الواو من اللفظ، ويجوز قال لأن على إلغاء الهمزة وفتح اللام من (الآن) وترك إلواو محذوفة لالتقاء الساكنين، ولا يعتد بفتح اللام. ويجوز قالوا لأن باظهار الواو لحركة اللام، لأنهم إنما حذفوا الواو لسكونها، فلما تحركت ردوها. والأجود في العربية حذفها ولا ينبغي أن يقرأ إلا بما وردت به رواية صحيحة فإن القراءة سنة متبعة. قال أبو علي: إنما بني (الآن) لتضمنه معنى الحرف، وهو تضمن معنى التعريف، لأن التعريف حكمه أن يكون بحرف، وليس تعرفه بما فيه من الألف واللام، لأنه لو كان كذلك، للزم أن يكون قبل دخول اللام عليه نكرة، كرجل، والرجل، وكذلك الذي، فإن فيه الألف واللام، وليس تعرف الاسم بهما، إنما
[ 257 ]
تعرفه بغيرهما، وهو كونه موصولا مخصوصا. ولو كان تعرفه باللام، لوجب أن يكون سائر الموصولات المتعرفة بالصلات، نحو من وما غير متعرفة. ويقوي زيادة اللام ما رواه المبرد عن المازني، قال: سألت الأصمعي عن قول الشاعر: ولقد جنيتك أكمؤا، وساقلا، * ولقد نهيتك عن بنات الأوبر لم أدخل اللام ؟ قال: أدخله زيادة للضرورة، كقول الآخر: (بإعدام العمرو عن أسيرها) وأنشد ابن الأعرابي: ياليت أم العمرو كانت صاحبي * مكان من أنشا على الركائب فكما أن اللام في الذي، وفي هذه الحكاية، زائدة، كذلك في الآن زائدة. وقوله: (وما كادوا يفعلون): كاد يدل على مقاربة مباشرة، ويفعلون: في موضع نصب بأنه خبر كاد. والفصيح لا يدخل عليه أن، لأن (ان) حرف يركب مع الفعل، فيقوم مقام المصدر، وإنما يسند إلى أن أفعال غير ثابتة ولا مستقرة، مثل الطمع والرجا نحو: عسى أن تفعل. ودليل على ذلك أن (ان) لا تدخل على فعل الحال، بل على ما يتوقع في المستأنف. فلهذا كانت (ان) لازمة لعسى، ولا يلزم (كاد) لأن كاد قريب من الحال. وقد استعمل كاد مع (أن) في الشعر، أنشد الأصمعي: كادت النفس أن تفيض عليه * إذ ثوى حشو ريطة، وبرود القصة: كان السبب في أمر الله تعالى بذبح البقرة، فيما رواه العياشي مرفوعا إلى الرضا عليه السلام أن رجلا من بني إسرائيل، قتل قرابة له، ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاء يطلب بدمه، فقالوا لموسى: سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله ؟ قال ائتوني ببقرة (قالوا أتتخذنا هزوا) الأية. ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم. قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ قال: إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر، عوان بين ذلك أي: لا صغيرة ولا كبيرة إلى قوله (قالوا الآن جئت بالحق) فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل، فقال: لا أبيعها إلا بمل ء مسكها ذهبا. فجاؤوا إلى موسى فقالوا له قال: فاشتروها. قال: وقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه: إن هذه البقرة ما شأنها ؟ فقال: " إن فتى من بني إسرائيل كان بارا
[ 258 ]
بأبيه، وإنه اشترى سلعة، فجاء إلى أبيه فوجده نائما، والإقليد تحت رأسه، فكره أن يوقظه، فترك ذلك، واستيقظ أبوه فأخبره فقال له: أحسنت ! خذ هذه البقرة فهي لك عوض لما فاتك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انظروا إلى البر ما بلغ لأهله ". وقال ابن عباس: كان القتيل شيخا مثريا، قتله بنو أخيه، وألقوه على باب بعض الاسباط، ثم ادعوا عليهم القتل. فأحتكموا إلى موسى عليه السلام، فسأل من عنده في ذلك علم، فقالوا: أنت نبي الله، وأنت أعلم منا. فأوحى الله تعالى إليه أن يأمرهم بذبح بقرة. فأمرهم موسى عليه السلام أن يذبحوا بقرة، ويضرب القتيل ببعضها، فيحيي الله القتيل، فيبين من قتله. وقيل: قتله ابن عمه استبطاء لموته، فقتله ليرثه. وقيل: إنما قتله ليتزوج بنته، وقد خطبها، فلم ينعم له، وخطبها غيره من خيار بني اسرائيل، فأنعم له، فحسده ابن عمه الذي لم ينعم له، فقعد له فقتله، ثم حمله إلى موسى. فقال: يا نبي الله هذا ابن عمي قد قتل ! فقال موسى: من قتله ؟ قال: لا أدري. وكان القتل في بني إسرائيل عظيما، فعظم ذلك على موسى عليه السلام، وهذا هو المروي عن الصادق عليه السلام. المعنى: هذه الآيات معطوفة على ما تقدمها من الآيات الواردة في البيان لنعم الله تعالى على بني إسرائيل، ومقابلتهم لها بالكفران والعصيان، فقال: (و) اذكروا أيضا بن نكثكم ميثاقي الذي أخذته عليكم بالطاعة (إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم ان تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا) قال قوم موسى له: أتسخر بنا حيث سألناك عن القتيل،. فتأمرنا بذبح بقرة ؟ وإنما قالوا ذلك لتباعد ما بين الأمرين في الظاهر، مع جهلهم بوجه الحكمة فيما أمرهم به، لأن موسى عليه السلام، أمرهم بالذبح، ولم يبين لهم أن الذبح لأي معنى. فقالوا: أي اتصال لذبح البقرة بما ترافعنا فيه إليك فهذا استهزاء بنا ؟ (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) أي: معاذ الله أن أكون من المستهزئين. وإنما قال (من الجاهلين) ليدل على أن الإستهزاء لا يصدر إلا عن جاهل، فإن من استهزأ بغيره، لا يخلو إما أن يستهزئ بخلقته، أو بفعل من أفعاله. فأما الخلقة فلا معنى للإستهزاء بها. وأما الفعل فإذا كان قبيحا، فالواجب أن ينبه فاعله على قبحه، لينزجر عنه. فأما أن يستهزئ به فلا. فالإستهزاء على هذا يكون كبيرة لا يقع إلا عن جاهل به، أو محتاج إليه. فإذا قيل: لم أمروا بذبح البقرة دون غيرها ؟ فقد قيل فيه: لأنها من جنس ما
[ 259 ]
عبدوه من العجل، ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، فيزول ما كان في نفوسهم من عبادته. وإنما أحيا الله القتيل بقتل حي، ليكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها. فلما علموا أن ذبح البقرة فرض من الله تعالى، سألوا عنها فبدأوا بسنها ف‍ (قالوا ادع لنا ربك) أي: سل من أجلنا ربك (يبين لنا ما هي) ولم يظهر في السؤال أن المسؤول عنه سن البقرة، وإنما ظهر ذلك في الجواب (قال) موسى عليه السلام: (إنه يقول) أي: إن الله عز اسمه يقول (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) أي: ليست بكبيرة هرمة ولا صغيرة. (عوان بين ذلك) أي: هي وسط بين الصغيرة والكبيرة، وهي أقوى ما يكون، وأحسن من البقر والدواب، عن ابن عباس. وقيل: وسط، ولدت بطنا أو بطنين، عن مجاهد. (فافعلوا ما تؤمرون) أي: اذبحوا ما أمرتم بذبحه. فلما بين سبحانه سن البقرة، سألوا عن لونها (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) أي: سل ربك يبين لنا ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها. (قال) موسى (إنه) سبحانه وتعالى (يقول إنها بقرة صفراء) حتى قرنها وظلفها أصفران، عن الحسن، وسعيد بن جبير. (فاقع لونها) أي: شديدة صفرة لونها. وقيل: خالص الصفرة. وقيل: حسن الصفرة. وقوله: (تسر الناظرين) أي: تعجب الناظرين وتفرحهم بحسنها عن قتادة، وغيره. وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: من لبس نعلا صفراء، لم يزل مسرورا حتى يبليها كما قال الته تعالى (صفراء فاقع لونها تسر الناظرين). ولما بين سبحانه سن البقرة ولونها، سألوا عن صفتها ف‍ (قالوا) يا موسى (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) أي: من العوامل، أم من السوائم (إن البقر تشابه علينا) أي: اشتبه علينا صفة البقرة التي أمرنا الله بذبحها (وإنا إن شاء الله لمهتدون) إلى صفة البقرة بتعريف الله إيانا، وبما يشاؤه لنا من اللطف والزيادة في البيان. وروى ابن جريج، وقتادة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم، شدد الله عليهم. وأيم الله ! لو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد. (قال): يعني موسى عليه السلام (إنه) يعني الله تعالى (يقول إنها بقرة) أي: البقرة التي أمرتم بذبحها (لا ذلول تثير الأرض) أي: لم يذللها العمل بإثارة الأرض بأظلافها (ولا تسقي الحرث) أي: لا يستقى عليها الماء،
[ 260 ]
فتستقي الزرع (مسلمة) أي بريئة من العيوب عن قتادة وعطاء. وقيل: مسلمة من الشية، ليس لها لون يخالف لونها، عن مجاهد. وقيل: سليمة من آثار العمل، لأن ما كان من العوامل لا يخلو من آثار العمل في قوائمه وبدنه. وقال الحسن: إنها كانت وحشية (لا شية فيها) قال أهل اللغة: لا وضح فيها يخالف لون جلدها. وقيل: لا لون فيها سوى لونها، عن قتادة، ومجاهد. (قالوا الآن جئت بالحق) أي: ظهر لنا الحق الآن، وهي بقرة فلان. وهذا يدل على أنهم جوزوا أنه قبل ذلك لم يجئ بالحق على التفصيل، وإنما أتى به على وجه الجملة. وقال قتادة: الآن بينت (1) الحق. وهذا يدل على أنه كان فيهم من يشك في أن موسى عليه السلام ما بين الحق (فذبحوها) يعني ذبحوا البقرة على ما أمروا به (وما كادوا يفعلون) أي: قرب أن لا يفعلوا ذلك مخافة اشتهار فضيحة القاتل. وقيل: كادوا لا يفعلون ذلك، لغلاء ثمنها. فقد حكي عن ابن عباس أنهم اشتروها بمل ء جلدها ذهبا من مال المقتول. وعن السدي: بوزنها عشر مرات ذهبا. قال عكرمة: وما ثمنها إلا ثلاثة دنانير. ونذكر هاهنا فصلا موجزا ينجذب إلى الكلام في أصول الفقه: إختلف العلماء في هذه الآيات: فمنهم من ذهب إلى أن التكليف فيها متغاير، وأنهم لما قيل لهم اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلا ذبح أي بقرة شاؤوا من غير تعيين بصفة. ولو أنهم ذبحوا أي بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر، فلما لم يفعلوا كان المصلحة أن يشدد عليهم التكليف. ولما راجعوا المرة الثانية، تغيرت مصلحتهم إلى تكليف ثالث. ثم اختلف هولاء من وجه آخر: فمنهم من قال في التكليف الأخير: إنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدمت. فعلى هذا القول يكون التكليف الثاني والثالث ضم تكليف إلى تكليف، زيادة في التشديد عليهم، لما فيه من المصلحة. ومنهم من قال: إنه يجب أن يكون بالصفة الأخيرة فقط دون ما تقدم. وعلى هذا القول يكون التكليف الثاني نسخا للأول، والتكليف الثالث نسخا للثاني. وقد يجوز نسخ الشئ قبل الفعل، لأن المصلحة تجوز أن يتغير بعد فوات وقته. وإنما لا يجوز نسخ الثئ قبل وقت الفعل، لأن ذلك يؤدي إلى البداء. وذهب آخرون إلى أن التكليف (1) وفي النسخ التي عندنا " ثبت " بدل " بينت ". (*)
[ 261 ]
واحد، وأن الأوصاف المتأخرة هي للبقرة المتقدمة، وإنما تأخر البيان وهو مذهب المرتضى، قدس الله روحه. واستدل بهذه الآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. قال: إنه تعالى لما كلفهم ذبح بقرة، قالوا لموسى عليه السلام: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) فلا يخلو قولهم (ما هي) من أن يكون كناية عن البقرة المتقدم ذكرها، أو عن التي أمروا بها ثانيا. والظاهر من قولهم (ما هي) يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها، لأنه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى، فيستفهموا عنها. وإذا صح ذلك فليس يخلو قوله (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) من أن يكون الهاء فيه كناية عن البقرة الاولى، أو عن غيرها. وليس يجوز أن يكون كناية عن بقرة ثانية، لأن الظاهر يقتضي أن تكون الكناية متعلقة بما تضمنه سؤالهم، ولأنه لو لم يكن الأمر على ذلك، لم يكن جوابا لهم. وقول القائل في جواب من سأله: ما كذا وكذا ؟ إنه بالصفة الفلانية صريح في أن الهاء كناية عما وقع السؤال عنه. هذا مع قولهم (إن البقر تشابه علينا) فإنهم لم يقولوا ذلك إلا وقد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين، ولو كان الأمر على ما ذهب إليه القوم، فلم لم يقل لهم وأي تشابه عليكم وإنما أمرتم في الابتداء بذبح بقرة أي بقرة كانت وفي الثاني بما يختص بالسن المخصوص، وفي الثالث بما يختص باللون المخصوص من أي البقر كان. وأما قوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) فالظاهر أن ذمهم مصروف إلى تقصيرهم، أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التام، وهو غير مقتض ذمهم على ترك المبادرة في الأول إلى ذبح بقرة، فلا دلالة في الآية على ذلك. (وإذ قتلتم نفسا فأدرأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)). اللغة: ادارأتم: اختلفتم، وأصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال بعد أن سكنت، ثم جعلوا قبلها همزة الوصل، ليمكن النطق بالساكن. وأصل الدرء: الدفع، ومنه الحديث: (ادرأوا الحدود بالشبهات). ومنه قوله: (ويدرأ عنها العذاب) وقال رؤبة: أدركتها قدام كل مدره * بالدفع عني درء كل عنجه (1) (1) المدره: رئيس القوم وزعيمهم. والعنجه: الجافي من الرجال. (*)
[ 262 ]
وقيل الدارأ: العوج، ومنه قول الشاعر (1): فنكب عنهم درء الأعادي، * وداووا بالجنون من الجنون المعنى: ثم بين الله سبحانه المقصود من الأمر بالذبح، فبدأ بذكر القتل، وقال: (وإذ قتلتم نفسا) ذكر فيه وجهان أحدهما: إنه متقدم في المعنى على الآيات المتقدمة في اللفظ، فعلى هذا يكون تأويله: وإذ قتلتم نفسا (فادارأتم فيها) فسألتم موسى، فقال لكم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فقدم المؤخر، وأخر المقدم. ونحو ذا كثير في القرآن والشعر. قال سبحانه (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما) تقديره: أنزل على عبده الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا. وقال الشاعر: إن الفرزدق صخرة ملمومة * طالت فليس ينالها الأوعالا أي: طالت الأوعال. والوجه الآخر: إن الآية قد تعلقت بما هو متأخر في الحقيقة وهو قوله: (فقلنا اضربوه ببعضها) الآية. فكأنه قال: فذبحوها وما كادوا يفعلون، ولأنكم قتلتم نفسا فادارأتم فيها، أمرناكم أن تضربوه ببعضها، لينكشف أمره. والمراد: واذكروا إذ قتلتم نفسا، وهذا خطاب لمن كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد به أسلافهم على عادة العرب في خطاب الأبناء والأحفاد بخطاب الأسلاف والأجداد، وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها، فقالت: فعلت بنو تميم كذا، وإن كان الفاعل واحدا. ويحتمل أن يكون خطابا لمن كان في زمن موسى عليه السلام وتقديره: وقلنا لهم وإذ قتلتم نفسا. وقيل: إن اسم المقتول عاميل فادارأتم فيها الهاء من (فيها) يعود إلى النفس، أي: كل واحد دفع قتل النفس عن نفسه. وقيل: إنها تعود إلى القتلة أي: اختلفتم في القتلة، لأن قوله (قتلتم) يدل على المصدر، وعودها إلى النفس أولى وأشبه بالظاهر (والله مخرج ما كنتم تكتمون) أي: مظهر ما كنتم تسرون من القتل. وقيل: معناه إنه مخرج من غامض أخباركم، ومطلع من معايبكم ومعايب أسلافكم على ما تكتمونه أنتم. وهو خطاب لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (فقلنا اضربوه ببعضها) أي: قلنا لهم اضربوا القتيل ببعض البقرة، واختلفوا (1) وهو أبو الغول. (*)
[ 263 ]
في البعض المضروب به القتيل، فقيل: ضرب بفخذ البقرة فقام حيا، وقال: قتلني فلان، ثم عاد ميتا، عن مجاهد وقتادة وعكرمة. وقيل: ضرب بذنبها، عن سعيد بن جبير. وقيل: بلسانها، عن الضحاك. وقيل: ضرب بعظم من عظامها، عن أبي العالية. وقيل: بالبضعة التي بين الكتفين، عن السدي. وقيل: ضرب ببعض آرابها (1)، عن أبي زيد. وهذه الأقاويل كلها محتملة الطاهر. والمعلوم أن الله، سبحانه وتعالى، أمر أن يضرب القتيل ببعض البقرة ليحيا القتيل إذا فعلوا ذلك، فيقول: فلان قتلني، ليزول الخلف والتدارؤ بين القوم. والصانع عز اسمه، وإن كان قادرا على إحيائه من دون ذلك، فإنما أمرهم بذلك، لأنهم سألوا موسى أن يبين لهم حال القتيل، وهم كانوا يعدون القربان من أعظم القربات، وكانوا جعلوا له بيتا على حدة لا يدخله إلا خيارهم، فأمرهم الله بتقديم هذه القربة تعليما منه لكل من اعتاص عليه أمر من الامور أن يقدم نوعا من القرب، قبل أن يسأل الله تعالى كشف ذلك عنه، ليكون أقرب إلى الإجابة. وإنما أمرهم بضرب القتيل ببعضها بعد أن جعل اختيار وقت الإحياء لهم، ليعلموا أن الله سبحانه وتعالى قادر على إحياء الأموات في كل وقت من الأوقات، والتقدير في الآية: فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه فحيي كما قال سبحانه (اضرب بعصاك البحر فانفلق) تقديره فضرب فانفلق. وقوله: (كذلك يحيي الله الموتى) يحتمل أن يكون حكاية عن قول موسى عليه السلام لقومه أي: اعلموا بما عاينتموه أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى للجزاء، ويحتمل أن يكون خطابا من الله تعالى لمشركي قريش. والإشارة وقعت إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة، لأنه روي أنه قام حيا وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني فلان ابن عمي، ثم قبض. (ويريكم آياته) يعني المعجزات الباهرة الخارقة للعادة من إحياء ذلك الميت وغيره. وقيل: أراد الأعلام الظاهرة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (لعلكم تعقلون) أي: لكي تستعملوا عقولكم، فإن من لم يستعمل عقله، ولم يبصر رشده، فهو كمن لا عقل له. وقيل: لكي تعقلوا ما يجب عليكم من أمور دينكم. واحتج الله تعالى بهذه الآيات على مشركي العرب فيما استبعدوه من البعث، وقيام الأموات، بقولهم: (أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا). فأخبرهم سبحانه بأن الذي أنكروه واستبعدوه لا يتعذر (2) في اتساع قدرته. ونبههم (1) الآراب جمع الإرب: العضو. (2) [ عليه ]. (*)
[ 264 ]
على ذلك بذكر المقتول وإحيائه بعد خروجه من الحياة، وأبطنوا خبر قتله، وكيفيته، وقيامه بعد القتل حيا، مخاطبا باسم قتلته، مؤذنا لهم أن إحياء جميع الأموات بعد أن صاروا عظاما باليات، لا يصعب عليه ولا يتعذر، بل يهون عنده ويتيسر. وفيها دلالة على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث أخبرهم بغوامض أخبارهم التي لا يجوز أن يعلمها إلا من قرأ كتب الأولين، أو أوحي إليه من عند رب العالمين. وقد صدقه مخالفوه من اليهود فيما أخبر به من هذه الأقاصيص، وقد علموا أنه أمي لم يقرأ كتابا، ولم يرتابوا في ذلك، وهذه آية صادعة، وحجة ساطعة في تثبيت نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)). القراءة: قرأ ابن كثير وحده هاهنا: (عما يعملون) بالياء. والباقون بالتاء. واختلفوا في قوله تعالى: (وما الله بغافل عما تعملون). (وما ربك بغافل عما تعملون) قرأهما أبو جعفر وحده بالتاء في كل القرآن، إلا في الأنعام. وقرأ ابن عامر بالياء في كل القرآن. وقرأ حمزة والكسائي الأول بالتاء، والثاني بالياء في كل القرآن. واختلف عن ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو. الحجة: قال أبو علي: القول في ذلك إن ما كان قبله خطاب جعل بالتاء، ليكون الخطاب معطوفا على خطاب كقوله (ثم قست قلوبكم). ثم قال: (عما تعملون) بالتاء. ولو كان بالياء على لفظ الغيبة أي: وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء أيها المسلمون، لكان حسنا وإن كان الذى قبله غيبة حسن أن يجعل على لفظ الغيبة. ويجوز فيه الخطاب أيضا ووجه ذلك أن يجمع بين الغيبة والخطاب، فيغلب الخطاب على الغيبة، كتغليب المذكر على المؤنث. ألا ترى أنهم قدموا الخطاب على الغيبة في باب الضمير، وهو موضمع ترد فيه الأشياء إلى أصولها نحو تك في نحو قوله " فلا تك ما أسأل ولا اغاما " فلما قدموا المخاطب على الغائب فقالوا: أعطاكه، ولم يقولوا أعطاهوك، علم أنه
[ 265 ]
أقدم في الرتبة. فإذا كان الأمر على هذا، فالخطاب في هذا النحو يعني به الغيب والمخاطبون، فيغلب الخطاب على الغيبة. ويجوز فيه وجه آخر وهو: أن يراد به: وقل لهم أيها النبي ما الله بغافل عما تعملون، والله أعلم. اللغة: القسوة: ذهاب اللين والرحمة من القلب، يقال: قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة. والقسوة: الصلابة في كل شئ، ونقيضه الرقة. والشدة والقوة: في الجسم. والشدة: صعوبة الأمر. والشد: العقد. والنهر: المجرى الواسع من مجاري الماء. والجدول والسري دون ذلك، يقال نهر ونهر والفتح أفصح. قال سبحانه: (في جنات ونهر) وجمعه نهر وأنهار. والتفجر: التفعل من فجر الماء، وذلك إذا أنزل خارجا من منبعه، وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه، فقد انفجر، ماء كان أو دما أو غير ذلك. قال عمر بن لجأ: ولما أن قرنت إلى جرير * أبى ذو بطنه إلا انفجارا أي: خروجا وسيلانا. وأصل يشقق: يتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهو أن ينقطع من غير أن يبين. والغفلة: السهو عن الشئ، وهو ذهاب المعنى عن النفس بعد حضوره ويقال: تغافلت على عمد أي: عملت عمل الساهي. المعنى والاعراب: لما قدم سبحانه ذكر المعجزات القاهرة، والأعلام الظاهرة، بين ما فعلوا بعدها من العصيان والطغيان، فقال عز اسمه: (ثم قست قلوبكم) أي: غلظت ويبست، وعتت وقست (من بعد ذلك) أي: من بعد آيات الله كلها التي أظهرها على يد موسى عليه السلام. وقيل: إنه أراد بني أخي المقتول حين أنكروا قتله بعد أن سمعوه منه عند إحياء الله تعالى إياه، أنه قتله فلان، عن ابن عباس. فيكون ذلك إشارة إلى الإحياء أي: من بعد إحياء الميت لكم ببعض من أعضاء البقرة، بعد أن تدارأتم فيه، فأخبركم بقاتله، والسبب الذي من أجله قتله. وكان يجب ممن شاهد هذه الآية العجيبة، والمعجزة الخارقة للعادة، أن يخضع ويلين قلبه. ويحتمل أن يكون ذلك إشارة أيضا إلى الآيات الأخرى التي تقدمت، كمسخ القردة والخنازير، ورفع الجبل فوقهم، وانبجاس الماء من الحجر، وانفراق البحر، وغير ذلك. وإنما جاز أن يقول ذلك، وإن كانوا جماعة، ولم يقل
[ 266 ]
ذلكم لأن الجماعة في معنى الجمع، والفريق. فلفظ الخطاب مفرد في معنى الجمع، ولو قال ذلكم لجاز.. وقوله: (فهي كالحجارة) شبه قلوبهم بالحجارة في الصلابة واليبس، والغلظ والشدة. وقد ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب وإن أبعد الناس من الله القاسي القلب ". (أو أشد قسوة) أي: أو هي أشد قسوة. ويجوز أن يكون عطفا على موضع الكاف، وكأنه قال: فهي مثل الحجارة، أو أشد قسوة أي: أشد صلابة، لامتناعهم عن الإقرار اللازم بقيام حجته، والعمل بالواجب من طاعته، بعد مشاهدة الآيات. وقيل: في تأويل (أو) ها هنا وجوه أحدها: ما ذكره الزجاج أن معناها الإباحة كقولهم: جالس الحسن، أو ابن سيرين. فإن جالست أحدهما أو جمعت بينهما، فأنت مصيب. فيكون معنى الآية على هذا: إن قلوبهم قاسية، فإن شبهت قسوتها بالحجر أصبت، وإن شبهتها بما هو أشد أصبت، وإن شبهتها بهما جميعا أصبت، كما مر نحو هذا في قوله سبحانه: (أو كصيب من السماء). وثانيها: أن يكون (أو) دخلت للتفصيل والتمييز، فيكون معنى الآية: إن قلوبهم قاسية فبعضها كالحجارة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة. وقد يحتمل قوله تعالى: (أو كصيب من السماء) هذا الوجه أيضا. وثالثها: أن يكون (أو) دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب وإن كان تعالى عالما بذلك غير شاك فيه، فأخبر أن قسوة قلوب هولاء كالحجارة، أو أشد قسوة. والمعنى إنها كأحد هذين، لا يخرج عنهما، كما يقال: أكلت بسرة أو تمرة، وهو يعلم ما أكله على التفصيل، إلا أنه أبهم على المخاطب، وكما قال لبيد: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما، * وهل أنا إلا من ربيعة، أو مضر أراد: وهل أنا إلا من أحد هذين الجنسين، فسبيلي أن أفنى كما فنيا. وإنما حسن ذلك لأن غرضه الذي نحاه، هو أن يخبر بكونه ممن يموت ويفنى، ولم يخل بقصده الذي أجرى إليه إجمال ما أجمل من كلامه. فكذلك هنا الغرض الإخبار عن شدة قسوة قلوبهم، وإنها مما لا يصغي إلى وعظ، ولا يعرج على خير، فسواء كانت كالحجارة، أو أشد منها، في أنه لا يحتاج إلى ذكر تفصيله ورابعها: أن يكون (أو)
[ 267 ]
بمعنى بل كما قال الله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) ومعناه: بل يزيدون. وروي عن ابن عباس أنه قال: " كانوا مائة ألف وبضعا وأربعين ألف "، وأنشد الفراء: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى، * وصورتها، أو أنت في العين أملح كما تكون أم المنقطعة في الإستفهام بمعنى بل، يقول القائل: أضربت عبد الله أم أنت متعنت أي: بل أنت، وقال الشاعر: فوالله ما أدري، أسلمى تغولت، * أم النوم، أم كل إلي حبيب معناه: بل كل. وقد طعن على هذا الجواب، فقيل: كيف يجوز أن يخاطبنا الله عز اسمه بلفظة بل وهي تقتضي الإستدراك والنقض للكلام الماضي، والإضراب عنه ؟ وهذا غير سديد لأن الإستدراك إن أريد به الاستفادة أو التذكر لما لم يكن معلوما، فلا يصح، وإن أريد به الأخذ في الكلام الماضي، واستئناف زيادة عليه فهو صحيح. فالقائل إذا قال: أعطيته ألفا بل ألفين، لم ينقض الأول، وكيف ينقضه والأول داخل في الثاني، وإنما زاد عليه، وإنما يكون ناقضا للثاني لو قال لقيت رجلا بل حمارا، لأن الأول لا يدخل في الثاني على وجه. وقوله تعالى: (أو أشد قسوة) غير ناقض للأول، لأنها لا تزيد على الحجارة، إلا بأن يساويها. وإنما تزيد عليها بعد المساواة. وخامسها: أن يكون بمعنى الواو كقوله تعالى: (أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم) معناه: وبيوت آبائكم، قال جرير: أثعلبة الفوارس، أو رياحا، عدلت بهم طهية، والخشابا أراد ورياحا. وقال أيضا: نال الخلافة، أو كانت له قدرا، * كما أتى ربه موسى على قدر وقال توبة بن الحمير: وقد زعمت ليلى بأني فاجر * لنفسي تقاها، أو عليها فجورها فإن قيل: كيف يكون (أو) في الآية بمعني الواو، والواو للجمع، والشئ إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها ؟ اجيب عنه بأنه لير يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة في حالة، وأشد من الحجارة في حالة أخرى، فيصح المعنى، ولا
[ 268 ]
يتنافى. وفائدة هذا الجواب ان قلوب هؤلاء مع قساوتها، ربما لانت بعض اللين، وكادت تصغي إلى إلحق، فتكون في هذا الحال كالحجارة التي ربما لانت، وتكون في حال أخرى في نهاية البعد عن الخير، فتكون أشد من الحجارة. وجواب آخر وهو: إن قلوبهم لا تكون أشد من الحجارة إلا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة، لأن قولنا: فلان أعلم من فلان، إخبار بأنه زائد عليه في العلم الذي اشتركا فيه، فلا بد من الإشتراك، ثم الزيادة. فلا تنافي هاهنا. ثم فضل (1) سبحانه الحجارة على القلب القاسي فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) معناه: إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية، فيتفجر منه أنهار الماء. واستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء. وقيل: المراد منه الحجر الذي كان ينفجر منه إثنتا عشرة عينا. وقيل: هو عام. (وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) يعني ومن إلحجارة ما يخرج منه الماء، فيكون عينا نابعة، لا أنهارا جارية، حتى يكون مخالفا للأول. وقال الحسين بن علي المغربي: الحجارة الأولى حجارة الجبال منها تتفجر الأنهار. والثانية حجر موسى عليه السلام، الذي كان يضربه فيخرج منه العيون، فلا يكون تكرارا. وقوله: (وإن منها لما يهبط من خشية الله) الضمير في (منها) يرجع إلى الحجارة، أي: ومن الحجارة ما يهبط من خشية الله، وعليه أكثر أهل التفسير. وقيل: يرجع إلى القلوب أي: ومن القلوب ما يهبط من خشية الله أي: تخشع، وهي قلوب من آمن من أهل الكتاب، فيكونون مستثنين من القاسية قلوبهم، عن أبي مسلم. ومن قال: إن الضمير يرجع إلى الحجارة فإنهم اختلفوا في تأويله على وجوه أحدها: ما روي عن مجاهد، وابن جريج أن كل حجر تردى من رأس جبل، فهو من خشية الله، فمعناه: إن الحجارة قد تصير إلى الحال التي ذكرها من خشية الله، وقلوب اليهود لا تخشى ولا تخشع ولا تلين، لأنهم عارفون بصدق محمد، ثم لا يؤمنون به، فقلوبهم أقسى من الحجارة وثانيها: ما قاله الزجاج: إن الله تعالى أعطى بعض الجبال المعرفة، فعقل طاعة الله نحو الجبل الذي تجلى الله، عز وجل، له، حين كلم موسى، فصار دكا (2). وكما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية، وإني لأعرفه الآن ". وهذا الوجه ضعيف، لأن الجبل (1) [ الله ]. (2) [ دكا ]. (*)
[ 269 ]
إذا كان جمادا فمحال أن يكون فيه معرفة الله، وإن كان بنيته بنية الحي، فإنه لا يكون جبلا. واما الخبر فإن صح، فإن معناه أنه سبحانه أحياه، فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أعاده حجرا، ويكون معجزا له عليه السلام. وثالثها: إنه يدعو المتفكر فيه إلى خشية الله، أو يوجب الخشية له، بدلالته على صانعه، لما يرى فيه من الدلالات والعجائب. وأضاف الخشية إليه، لأن التفكر فيه هو الداعي إلى الخشية، كما قال جرير بن عطية: وأعور من نبهان أما نهاره * فأعمى، وأما ليله فبصير فجعل الصفة لليل والنهار، وهو يريد صاحبه النبهاني الذي يهجوه بذلك من أجل أنه كان فيهما على ما وصفه به. ورابعها: إنه إنما ذكر ذلك على سبيل ضرب المثل، أي: كأنه يخشى الله سبحانه في المثل، لانقياده لأمره، ووجد منه ما لو وجد من حي عاقل، لكان دليلا على خشية كقوله سبحانه: (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض) أي: كأنه يريد، لأنه ظهر فيه من الميل ما لو ظهر من حي لدل على إرادته الإنقضاض، ومثله قوله (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) وكما قال زيد الخيل: بجمع تضل البلق في حجراته، * ترى الأكم فيها سجدا للحوافر فجعل ما ظهر في الأكم من آثار الحوافر، وقلة مدافعتها لها، كما يدافع الحجر الصلد، سجودا لها. ولو كانت الاكم في صلابة الحديد حتى تمتنع على الحوافر، لم يقل إنها تسجد للحوافر. قال جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة، والجبال الخشع أي: كأنها كذلك. وقال جرير أيضا: والشمس طالعة ليست بكاسفة * تبكي عليك نجوم الليل، والقمرا وكما قال (1) سبحانه: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) أي: لو كانت الجبال مما يخشع لشئ ما، لرأيته خاشعا. ويؤيد هذا الوجه قوله سبحانه: (وتلك الأمثال نضربها للناس). وخامسها: إن هبط يجوز أن يكون متعديا قال الشاعر: (1) [ الله ]. (*)
[ 270 ]
ما راعني إلا جناح هابطا * على البيوت قوطه العلابطا فأعمله بالقوط كما ترى، ويكون على هبطت الشئ فهبط، فمعناه: يهبط غيره من خشية الله أي: إذا رآه الانسان خشع لطاعة خالقه، إلا أنه حذف المفعول تخفيفا، ولدلالة الكلام عليه، ونسب الفعل إلى الحجر، لأن طاعة رائيه لخالقه سببها النظر إليه أي: منها ما يهبط الناظر إليه أي: يخضعه، ويخشعه. وقوله (وما الله بغافل عما تعملون) أيها المكذبون بآياته، الجاحدون نبوة نبيه محمد صلى الله عليه واله وسلم، وقد ذكرناه قبل. (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75)). اللغة: الطمع: تعليق النفس بما تظنه من النفع، ونظيره الأمل والرجاء. ونقيضه اليأس. والفريق: جمع كالطائفة لا واحد له من لفظه، وهو فعيل من التفرق كما سميت الجماعة بالحزب من التحزب. قال الأعشى بن ثعلبة: أجدوا، فلما خفت أن يتفرقوا * فريقين منهم مصعد، ومصوب والتحريف في الكلام: تغيير الكلمة عن معناها. الاعراب: (أفتطمعون): ألف استخبار تجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار إذا لم يكن معها نفي. فإذا جاءت مع النفي فإنكار النفي تثبيت، وبكون بمعنى الاستدعاء إلى الإقرار نحو أليس الله بكاف عبده، فجوابه: بلى. كقوله: (ألم يأتكم نذير قالوا بلى) وجواب (أفتطمعون) لا على ما ذكرناه. المعنى: هذا خطاب لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: (أفتطمعون) أيها المؤمنون (أن يؤمنوا لكم) من طريق النظر والاعتبار والانقياد للحق بالإختيار، (وقد كان فريق منهم) أي: ممن هو في مثل حالهم من أسلافهم (يسمعون كلام الله)، ويعلمون أنه حق، ويعاندون فيحرفونه ويتأولونه على غير تأويله. وقيل: إنهم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحلال حراما، والحرام حلالا، اتباعا لأهوائهم، وإعانة لمن يرشوهم، عن مجاهد والسدي. وقيل: إنهم السبعون رجلا
[ 271 ]
الذين اختارهم موسى من قومه، فسصوا كلام الله، فلم يمتثلوا أمره، وحرفو ! القول في اخبارهم لقومهم حين رجعوا إليهم، عن ابن عباس، والربيع. فيكون على هذا كلام الله معناه: كلام الله لموسى وقت المناجاة. وقيل: المراد بكلام الله: صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة. وقوله (ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) قيل فيه وجهان: أحدهما: أن يكون معناه: إنهم غيروه من بعد ما فهموه، فأنكروه عنادا (وهم يعلمون) أنهم يحرفونه أي: يغيرونه والثاني: إن معناه من بعد ما تحققوه، وهم يعلمون ما عليهم في تحريفه من العقاب. والأول أليق بمذهبنا في الموافاة. وإنما أراد الله سبحانه بالآية، أن هؤلاء اليهود الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إن لم يؤمنوا به، وكذبوه، وجحدوا نبوته، فلهم بآبائهم وأسلافهم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام (1) أسوة، إذا جروا على طريقتهم في الجحد والعناد، وهؤلاء الذين عاندوا وحرفوا، كانوا معدودين، يجوز على مثلهم التواطؤ والإتفاق في كتمان الحق، وإن كان يمتنع ذلك على الجمع الكثير، والجم الغفير، لأمر يرجع إلى اختلاف الدواعي، ويبطل قول من قال: إنهم كانوا كلهم عارفين معاندين، لأن الله سبحانه، إنما نسب فريقا منهم إلى المعاندة، وإن كانوا بأجمعهم كافرين. وفي هذه الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع، وهو عام في إظهار البدع في الفتاوى، والقضايا، وجميع أمور الدين. (وإذ لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76)). اللغة: الحديث، والخبر، والنبأ نظائر مشتق من الحدوث، وكأنه إخبار عن حوادث الزمان. والفتح في الأصل: فتح المغلق، وقد يستعمل في مواضع كثيرة، فمنها الحكم يقال: اللهم افتح بيني وبين فلان أي: احكم (2). يقولون متى هذا الفتح أي: متى هذا القضاء. ويوم الفتح: يوم القضاء. وقال الشاعر: (1) وفي نسخنا المخطوطة والمطبوعة: " كذبوا موسى " بدل: " كانوا في زمان موسى ". (2) [ ومنه و ]. (*)
[ 272 ]
ألا أبلغ بني عصم رسولا * فإني عن فتاحتكم غني ويقال للقاضي الفتاح، ومنها التعليم. يقال: افتح علي هذا أي: علمني ما عندك فيه. ومنها النصرة: يقال استفتحه أي: اطلب منه النصر. ومنه قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح). ويستعمل في فتح البلدان، يقال: فتح المسلمون أرض كذا. والمحاجة، والمجادلة، والمناظرة، نظائر. فالمحاجة: أن يحتج كل واحد من الخصمين على صاحبه. والحجة: الوجه الذي به يكون الظفر عند الحجاج. ويقال: حاججته فحججته. وفي الحديث: " فحج آدم موسى " أي: غلبه في الحجة، وأصله من القصد. ومنه الحج: وهو القصد إلى بيت الله الحرام، على وجه مخصوص. فالحجة: هي النكتة المقصودة في تصحيح الأمور. النزول: روي عن أبى جعفر الباقر عليه السلام، أنه قال: " كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين، إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك، وقالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد، فيحاجوكم به عند ربكم. فنزلت هذه الآية ". وقال مجاهد: نزلت في بني قريظة، لما قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا اخوة القردة والخنازير ! قالوا: من أخبر محمدا بهذا، ما خرج إلا منكم ! وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا، ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به أسلافهم، فقال بعضهبم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به، فيقولون: نحن أكرم على الله منكم ! ! المعنى: ثم ذكر الله سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة، فقال: (و) هم الذين (إذا لقوا الذين آمنوا) أي: رأوهم (قالوا آمنا) أي: صدقنا بمحمد أنه نبي صادق نجده في كتابنا بنعته وصفته، وبما صدقتم به، وأقررنا بذلك. أخبر الله تعالى عنهم أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين، وتحلوا بحليتهم، واستنوا بسنتهم. (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) أي: إذا خلا بعض هؤلاء اليهود، الذين وصفهم الله، إلى بعض منهم، فصاروا في خلاء: وهو الموضع الذي ليس فيه غيرهم (قالوا) يعني: قال بعضهم لبعض (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) قال الكلبي: بما قضى الله عليكم في كتابكم أن محمدا حق، وقوله صدق. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن معناه قالوا:
[ 273 ]
لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم أي: لا تقروا بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وأنه النبي الذي كنا ننتظره، ونجده في كتابنا، إجحدوه، ولا تقروا لهم به. وقال الكسائي: أتحدثونهم بما بينه الله لكم في كتابكم من العلم ببعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة به. وبعض الأقوال فيه ذكرناه في النزول. وأقوى التأويلات قول من قال: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي: حكم الله به عليكم، وقضاه فيكم، ومن حكمه عليكم، ما أخذ به ميثاقكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصفته الموصوفة لكم في التوراة، ومن قضائه فيكم أنه جعل منكم القردة والخنازير. وقوله: (ليحاجوكم به عند ربكم) أي: ليكون لهم الحجة عليكم عند الله في الدنيا والآخرة في إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كنتم مقرين به، ومخبرين بصحة أمره من كتابكم، فهذا يبين (1) حجتهم عليكم عند الله. وقيل: معناه ليجادلوكم ويقولوا لكم قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم، ثم لا تتبعونه. وقوله: (عند ربكم) قال ابن الأنباري: معناه في حكم ربكم، كما يقال: هذا حلال عند الشافعي أي: في حكمه، وهذا يحل عند الله أي: في حكمه. وقوله: (أفلا تعقلون) أي: أفلا تفقهون أيها القوم أن إخباركم محمدا وأصحابه بما تخبرونهم به من وجوه نعت محمد في كتبكم، حجة عليكم عند ربكم، يحتجون بها عليكم. وقيل: معناه أفلا تعقلون أيها المؤمنون، أنهم لا يؤمنون، فلا تطمعوا في ذلك، عن الحسن. وقيل: إنه خطاب لليهود أي: فلا تعقلون أيها اليهود إذ تقبلون من رؤسائكم مثل هذا ؟ وهذا تحذير لهم عن الرجوع إلى قول رؤسائهم. (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77)). المعنى: (أو لا يعلمون) يعني اليهود، أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم، فكيف يستجيزون ان يسروا إلى اخوانهم النهي عن التحدث بما هو الحق، وهم مقرون بذلك غير جاحدين بأن الله يعلم سرهم وجهرهم، كالكفار والمنافقين، فهم من هذه الجهة ألوم، والمذمة لهم ألزم، عن أكثر المفسرين. وقيل: معناه أو لا يعلمون (أن الله يعلم ما يسرون) من كفرهم وتكذيبهم محمدا، إذا خلا بعضهم إلى بعض، (وما يعلنون) من قولهم: آمنا، إذا لقوا أصحاب (1) وفي النسخ التي عندنا " فبهذا تبين " مكان " فهذا يبين ". (*)
[ 274 ]
محمد، ليرضوهم بذلك، عن قتادة وأبي العالية. (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78)). القراءة: قرأ أبو جعفر وشيبة والحسن: (أماني) مخففة. والباقون بالتشديد. وكذلك في قوله: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب). الحجة: قال ابن جني: الأصل فيه التثقيل. أماني: جمع أمنية. والتخفيف في هذا النحو كثير. والمحذوف منه الياء الاولى التي هي نظيرة ياء المد مع غير الإدغام نحو ياء قراطيس، وحوامين، وأراجيح: جمع حومانة، وأرجوحة. ألا تراها قد حذفت في نحو قوله: (والبكرات الفسج العطامسا). وقوله (1): (وغير سفع مثل يحامم) يريد: عطاميس ويحاميم. على أن حذف الياء مع الإدغام أسهل من حذفه، ولا إدغام معه، وذلك أن هذه الياء لما أدغمت خفيت، وكادت تستهلك، فإذا أنت حذفتها، فكأنك إنما حذفت شيئا هو في حال وجوده في حكم المحذوف. اللغة: الأمي: الذي لا يحسن الكتابة، وإنما سمي أميا لأحد وجوه أحدها: إن الأمة الخلقة، فسمي أميا لأنه باق على خلقته. ومنه قول الأعشى: وإن معاوية الأكرمين * حسان الوجوه، طوال الأمم وثانيها: إنه مأخوذ من الامة التي هي الجماعة أي: هو على أصل ما عليه الامة في أنه لا يكتب، لأنه يستفيد الكتابة بعد أن لم يكن يكتب وثالثها: إنه مأخوذ من الام أي: هو على ما ولدته أمه في أنه لا يكتب. وقيل: إنما نسب إلى أمه لأن الكتابة إنما تكون في الرجال دون النساء. والأمنية ذكر فيها وجوه أحدها: إن معناها التلاوة يقال: تمنى كتاب الله أي: قرأ وتلا، وقال كعب بن مالك: تمنى كتاب الله أول ليلة، * وآخره لاقى حمام المقادر (1) قائله: غيلان بن حريث. الفسج: بثديد السين جمع فاسج: النافة الحبلى، والعطموس: تامة الخلقة. (*)
[ 275 ]
وقال آخر: تمنى كتاب الله بالليل خاليا * تمني داود الزبور على رسل وثانيها: إن المراد بالأماني: الأحاديث المختلفة، عن الفراء. والعرب تقول: أنت إنما تتمنى هذا القول أي: تختلقه. وقال بعضهم: ما تمنيت مذ أسلمت أي: ما كذبت وثالثها: إن المراد بالاماني: إنهم يتمنون على الله ما ليس لهم مثل قولهم: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)، وقولهم: (نحن أبناء الله وأحباؤه). وقال الزجاج: إذا قال القائل ما لا يعلمه، فكأنه إنما يتمناه. وهذا مستعمل في كلام الناس، تقول للذي يقول ما لا حقيقة له، وهو يحبه: هذا أمنيتي، وهذه أمنيته. والظن: هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر لأمارة صحيحة، وليس هو من قبيل الاعتقادات على الصحيح من المذهب، وفي الناس من قال: هو اعتقاد. الاعراب: قال الزجاج: يرتفع (أميون) بالإبتداء، و (منهم) الخبر. وفي قول الأخفش: يرتفع (أميون) بفعلهم كأن المعنى، واستقر منهم. قال أبو علي: ليس يرتفع (أميون) عند الأخفش بفعلهم، وإنما يرتفع بالظرف الذي هو (منهم). ومذهب سيبويه أنه يرتفع (1) بالإبتداء، ففي (منهم) عنده ضمير لقوله (أميون). وموضع (منهم) على مذهبه رفع لوقوعه موقع خبر الإبتداء. فأما على مذهب الأخفش فلا ضمير لقوله (أميون) في (منهم)، ولا موضع له عنده، كما لا موضع لذهب في قولك ذهب زيد. وإنما رفع الأخفش الاسم بالظرف، لأنه نظر إلى هذه الظروف، فوجدها تجري مجرى الفعل في مواضع، وفي أنها تحتمل الضمير كما يحتمله الفعل. وما قام مقامه من أسماء الفاعلين، وما أشبه به، ويؤكد ما فيها كما يؤكد ما في الفعل، وما قام مقامه في نحو: مررت بقوم لك أجمعون. وينصب عنها الحال، كما ينصب بالفعل، ويوصل بهما الأسماء الموصولة كما يوصل بالفعل والفاعل، فيصير فيها ضمير الموصول كما يصير ضميره في الفعل، ويوصف به النكرة، كما يوصف بالفعل والفاعل. فلما رآها في هذه المواضع تقوم مقام الفعل، أجراها أيضا مبتدأ مجرى (1) [ أميون ]. (*)
[ 276 ]
الفعل، فرفع بها الاسم كما رفع بالفعل إذ قامت هذه الظروف مقام الفعل في هذه المواضع، فقال في عندك زيد، وفي الدار عمرو، ومنهم أميون، ونحو ذلك أنه يرتفع بالظرف إذ كان الظرف قد أقيم مقام الفعل في غير هذه المواضع. والدليل على أن الإسم هاهنا مرتفع بالظرف دون الفعل الذي هو استقر ونحوه أنه لو كان مرتفعا بالفعل، لجاز قائما في الدار زيد، كما يجوز قائما استقر زيد، فامتناع تقديم الحال هنا يدل على أنه لا عمل للفعل هنا. وقوله (إلا أماني) نصب على الإستثناء المنقطع، كقوله (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) وكقول الشاعر (1): ليس بيني، وبين قيس، عتاب * غير طعن الكلى، وضرب الرقاب وقول النابغة: حلفت يمينا غير ذي مثنوية، * ولا علم إلا حسن ظن بصاحب وإن في قوله (إن هم) بمعنى ما أي: ما هم إلا ظانون، فهم: مبتدأ، ويظنون: خبره. المعنى: (ومنهم) يعني ومن هؤلاء اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآيات، وقطع الطمع عن إيمانهم (أميون) أي: غير عالمين بمعاني الكتاب، يعلمونها حفظا وتلاوة، لا رعاية ودراية، وفهما لما فيه، عن ابن عباس، وقتادة. وقال أبو عبيدة: الاميون هم الأمم الذين لم ينزل عليهم كتاب. والنبي الأمي: الذي لا يكتب، وأنشد لتبع: له أمة سميت في الزبو * ر أمية هي خير الامم وقوله: (لا يعلمون الكتاب) أي: لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزل الله، عز وجل، ولا يدرون ما أودعه الله إياه من الحدود والأحكام والفرائض، فهم كهيئة البهائم مقلدة لا يعرفون ما يقولون. والكتاب المعني به: التوراة. أدخل عليه لام التعريف. " إلا " بمعنى لكن. " أماني " أي: قولا يقولونه بأفواههم كذبا، عن ابن عباس. وقيل: أحاديث يحدثهم بها علماؤهم، عن الكلبي. وقيل: تلاوة يتلونها، ولا يدرونها، عن الكسائي والفراء. وقيل: أماني يتمنون على الله الرحمة، ويخطر الشيطان ببالهم أن لهم عند الله خيرا، ويتمنون ذهاب الإسلام بموت (1) وهو عمرو بن أيهم التغلبي. (*)
[ 277 ]
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعود الرياسة إليهم. وقيل: أماني يتخرصون الكذب، ويقولون الباطل. والتمني في هذا الموضع: هو تخلق الكذب وتخرصه. ويقوي ذلك قوله: (وإن هم إلا يظنون) فبين أنهم يختلقون ما يختلقون من الكذب، ظنا لا يقينا. ولو كان المعنى أنهم يتلونه لما كانوا ظانين. وكذلك لو كانوا يتمنونه، لأن الذي يتلوه إذا تدبره علمه، ولا يقال للمتمني في حال وجود تمنيه: إنه يظن تمنيه، ولا أنه شاك فيما هو عالم به. واليهود الذين عاصروا النبي، لم يشكوا في أن التوراة من عند الله. وقوله: (وإن هم إلا يظنون) معناه: إنهم يشكون. وفي هذه الآية دلالة على أن التقليد في معاني الكتاب، وفيما طريقه العلم، غير جائز وأن الإقتصار على الظن في أبواب الديانات لا يجوز، وأن الحجة بالكتاب قائمة على جميع الخلق، وان لم يكونوا عالمين إذا تمكنوا من العلم به، وأن من الواجب أن يكون التعويل على معرفة معاني الكتاب، لا على مجرد تلاوته. (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)). اللغة: الويل في اللغة: كلمة يستعملها كل واقع في هلكة، وأصله العذاب والهلاك. ومثله الويح والويس. وقال الأصمعي: هو القبيح، ومنه (ولكم الويل مما تصفون). وقال المفضل: معناه الحزن. وقال قوم: هو الهوان والخزي، ومنه قول الشاعر (1): يا زبرقان أخا بني خلف * ما أنت، ويل أبيك، والفخر وأصل الكسب: العمل الذي يجلب به نفع، أو يدفع به ضرر، وكل عامل عملا لمباشرة منه له، ومعاناة، فهو كاسب له. قال لبيد: لمعفر قهد تنازع شلوه * غبس كواسب ما يمن طعامها (2) (1) وهو المخبل السعدي. (2) المعفر: الملقى على التراب. والقهد: الأبيض الكدر والشلو: العضو. الغبس: جمع أغبس. والغبسة: لون كلون الرماد. ويمن أي: يقطع. (*)
[ 278 ]
وقيل: الكسب عبارة عن كل عمل بجارحة، يجتلب به نفع، أو يدفع به مضرة، ومنه يقال للجوارح من الطير: كواسب. الاعراب: (ويل): رفع بالإبتداء، وخبره (للذين) قال الزجاج: ولو كان في غير القرآن لجاز. فويلا للذين على معنى جعل الله ويلا للذين. والرفع على معنى ثبوت الويل للذين. وقال غيره: إذا أضفت ويل وويح وويس، نصبت من غير تنوين، فقلت: ويح زيد، وويل زيد. وأما التعس والبعد، وما أشبههما، فلا يحسن فيها الإضافة بغير لام، فلذلك لم ترفع. وإنما يقال في نحوها: تعسا له، وبعدا له، وتبا له. وقد نصب أيضا ويل وويح، مع اللام، فقالوا: ويلا لزيد، وويحا له، قال الشاعر: كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها، * فويلا لتيم من سرابيلها الخضر المعنى: ثم عاد سبحانه إلى ذكر علماء اليهود، فقال: (فويل للذين يكتبون الكتاب) (فويل): قال ابن عباس: الويل في الآية: العذاب. وقيل: جبل في النار. وروى الخدري عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره. والاصل فيه ما ذكرناه من أنه كلمة التحسر والتفجع والتلهف والتوجع، يقولها كل مكروب هالك. وفي التنزيل: (يا ويلتنا ما لهذا الكتاب). وقوله: (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) معناه: يتولون كتابته، ثم يضيفونه إلى الله سبحانه، كقوله سبحانه: (مما عملت أيدينا) أي نحن تولينا ذلك لم نكله إلى أحد من عبادنا، ومثله: (خلقت بيدي). ويقال: رأيته بعيني، وسمعته بأذني، ولقيته بنفسي، والمعنى في جميع ذلك، التأكيد. وأيضا فقد يضيف الانسان الكتاب إلى نفسه، وقد أمر غيره بالكتابة عنه، فيقول: أنا كتبت إلى فلان، وهذا كتابي إلى فلان. وكقوله سبحانه: (يذبح أبناءهم)، وإنما أمر به فأعلمنا الله سبحانه أنهم يكتبونه بأيديهم، ويقولون: هو من عند الله، وقد علموا يقينا أنه ليس من عنده. وقيل: معناه انهم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم كالرجل. إذا اخترع مذهبا أو قولا لم يسبق إليه، يقال له: هذا مذهبك، وهذا قولك، وإن كان جميع ما يؤخذ عنه من الأقوال قوله. والمراد: إن هذا من تلقاء نفسك، وإنك لم تسبق إليه.
[ 279 ]
وقيل: كتابتهم بايديهم أنهم عمدوا إلى التوراة وحرفوا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليوقعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود، وهو المروي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وعن جماعة من أهل التفسير. وقيل: كانت صفته في التوراة أسمر، ربعة، فجعلوه آدم طويلا. وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن أحبار اليهود، وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكتوبة في التوراة: أكحل، أعين، ربعة، حسن الوجه، فمحوه من التوراة حسدا وبغيا، فأتاههم نفر من قريش، فقالوا: أتجدون في التوراة نبيا منا ؟ قالوا: نعم، نجده طويلا ازرق، سبط الشعر، ذكره الواحدي بإسناده في الوسيط. وقيل: المراد بالآية كاتب كان يكتب للنبي، فيغير ما يملي عليه، ثم ارتد ومات فلفظته الأرض. والأول أوجه، لأنه أليق بنسق الكلام. وقوله: (ليشتروا به ثمنا قليلا) يريد: ليأخذوا به ما كانوا يأخذونه في عوامهم من الأموال. وإنما ذكر لفظ الإشتراء توسعا، والمراد أنهم تركوا الحق، وأظهروا الباطل، ليأخذوا على ذلك شيئا، كمن يشتري السلعة بما يعطيه، والفائدة في قوله (ثمنا قليلا) أن كل ثمن له لا يكون إلا قليلا، وللعرب في ذلك طريقه معروفة يعرفها من تصفح كلامهم. وقيل: إنما وصفه بالقلة لأنه عرض الدنيا، وهو قليل المدة، كقوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل)، عن أبي العالية. وقيل: إنما قال (قليل) لأنه حرام. وقوله (فويل لهم مما كتبت أيديهم) أي: عذاب لهم، وخزي لهم، وقبح لهم، مما فعلوا من تحريف الكتاب، (وويل لهم مما يكسبون) من المعاصي. وقيل: مما يجمعون من المال الحرام، والرشى التي يأخذونها من العوام. (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80)). اللغة: المس: نظير اللمس. والفرق بينهما: إن مع اللمس إحساسا وأصله اللصوق وحده الجمع بين الشيئين على نهاية القرب. والإخلاف: نقض ما تقدم من العهد بالفعل. الاعراب: (أياما): انتصب على الظرف. وأصل أتخذتم: أأتخذتم، دخلت همزة الإستفهام على همزة الوصل، فسقطت همزة الوصل. ومن القراء من أدغم الذال في التاء من (أتخذتم)، وفيهم من لم يدغم. و (أم):
[ 280 ]
هاهنا يحتمل أن تكون متصلة على المعادلة لهمزة الإستفهام، كأنه قال: على أي الحالتين أنتم أتقولون على الله ما تعلمون، أم تقولون عليه ما لا تعلمون. ويحتمل أن تكون منقطعة على تقدير تمام الكلام قبله، فيكون بمعنى بل، والهمزة كأنه استأنف فقال: بل أتقولون. النزول: قال ابن عباس، ومجاهد: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، واليهود تزعم أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب بكل ألف سنة يوما واحدا، ثم ينقطع العذاب. فانزل الله هذه الآية. وقال أبو العالية، وعكرمة، وقتادة: هي أربعون يوما، لأنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل. المعنى: (وقالوا) أي: قالت اليهود (لن تمسنا النار) أي: لن تصيبنا (إلا أياما معدودة) معناه: أياما قلائل، كقوله: (دراهم معدودة). وقيل: معدودة محصاة. والمعدودة إذا أطلقت كان معناها القليلة. قال الله سبحانه: (قل) يا محمد لهم (أتخذتم عند الله عهدا) أي: موثقا أنه لا يعذبكم إلا هذه المدة، وعرفتم ذلك بوحيه وتنزيله. فإن كان ذلك فالله سبحانه لا ينقض عهده وميثاقه (أم تقولون على الله) الباطل جهلا منكم به، وجرأة عليه. (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81)). القراءة: قرأ أهل المدينة: (خطيئاته) على الجمع. والباقون: على التوحيد. الحجة: قال أبو علي: يجوز أن يكون (من) للجزاء الجازم، ويجوز أن يكون للجزاء غير الجازم، فتكون السيئة وإن كانت مفردة يراد بها الكثرة، وكذلك تكون خطيئة مفردة، وإنما حسن أن يفرد لأنه مضاف إلى ضمير مفرد، وإن كان يراد به الكثرة، كما قال تعالى (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه) فأفرد الوجه والأجر، وإن كان في المعنى جمعا في الموضعين، فكذلك المضاف إليه الخطيئة لما لم يكن جمعا، لم يجمع كما جمعت في قوله: (نغفر لكم خطاياكم)، و (ليغفر لنا خطايانا) لأن ذلك مضاف إلى جمع.
[ 281 ]
ومن قال (خطيئاته): فجمع، حمله على المعنى. والمعنى الجمع والكثرة، ويدل عليه قوله: (فأولئك أصحاب النار) فأولئك خبر المبتدأ الذي هو (من) في قول من جعله جزاء غير مجزوم، كقوله: (وما بكم من نعمة فمن الله) أو مبتدأ في قول من جعله جزاء مجزوما. وفي كلا الوجهين يراد به (من) في قوله (بلى من كسب سيئة) ومما يدل على أن (من) يراد به الكثرة، فيجوز لذلك أن يجمع خطيئة، لأنها مضافة إلى جمع في المعنى، قوله بعد هذه: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون). ألا ترى أن (الذين) جمع، وهو معادل به، فكذلك المعادل به يكون جمعا مثل ما عودل. الاعراب: (بلى): جواب لقولهم (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة). والفرق بين بلى ونعم: إن بلى جواب النفي، ونعم جواب الإيجاب. قال الفراء: إنما امتنعوا من استعمال نعم في جواب الجحد، لأنه إذا قال لغيره: ما لك علي شئ، فقال له: نعم، فقد صدقه، وكأنه قال نعم ليس لي عليك شئ. وإذا قال: بلى، فإنما هو رد لكلامه أي: لي عليك شئ. وقوله (هم فيها خالدون): عطف هذه الجملة على الاولى بغير حرف العطف، لأن في الجملة الثانية ذكرا ممن في الأولى، والضمير يربط الكلام الثاني بالأول، كما أن حرف العطف يربطه به مثل قوله: (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) وقال في موضع آخر: (وكانوا يصرون) بالواو وقال: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم)، فحذفت الواو من قوله رابعهم وسادسهم، استغناء عنها بما في الجملة من ذكر ما في الأول، لأن الحرف يدل على الإتصال، وما في الجملة من ذكر ما تقدمها اتصال أيضا، فاستغنى به عنه. المعنى: رد الله تعالى على اليهود قولهم: (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) فقال: (بلى) أي: ليس الأمر كما قالوا، ولكن (من كسب سيئة) اختلف في السيئة، فقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم: السيئة هاهنا: الشرك. وقال الحسن: هي الكبيرة الموجبة للنار. وقال السدي: هي الذنوب التي أوعد الله عليها النار. والقول الأول يوافق مذهبنا، لأن ما عدا الشرك لا يستحق به الخلود في النار عندنا.
[ 282 ]
وقوله (أحاطت به خطيئته) يحتمل أمرين أحدهما: إنها أحدقت به من كل جانب، كقوله تعالى (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) والثاني: إن المعنى أهلكته من قوله: (إلا أن يحاط بكم) وقوله: (وظنوا أنهم أحيط بهم). وقوله: (وأحيط بثمره). وهذا كله بمعنى البوار والهلكة. فالمراد: إنها سدت عليهم طريق النجاة. وروي عن ابن عباس والضحاك وأبي العالية أن المراد بالخطيئة الشرك. وعن الحسن أنها الكبيرة. وعن عكرمة، ومقاتل أنها الإصرار على الذنب. وإنما قال: (من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته)، ولم يقل وأحاطت به سيئته، خالف بين اللفظين، ليكون أبلغ وأفصح. (فأولئك أصحاب النار) أي: يصحبون النار، ويلازمونها (هم فيها خالدون) أي: دائمون أبدا، عن ابن عباس وغيره. والذي يليق بمذهبنا من تفسير هذه الآية قول ابن عباس لأن أهل الايمان لا يدخلون في حكم هذه الآية، وقوله: (وأحاطت به خطيئته) يقوي ذلك، لأن المعنى: إن خطاياه قد اشتملت عليه، وأحدقت به، حتى لا يجد عنها مخلصا ولا مخرجا. ولو كان معه شئ من الطاعات، لم تكن السيئة محيطة به من كل وجه. وقد دل الدليل على بطلان التحابط. ولأن قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) فيه وعد لأهل التصديق والطاعة بالثواب الدائم، فكيف يجتمع الثواب الدائم مع العقاب الدائم ؟ ويدل أيضا على أن المراد بالسيئة في الآية الشرك، فيبطل الإحتجاج بالآية على دخول العمل في الإيمان، على ما ذكره أهل التفسير: إن سيئة واحدة لا تحبط جميع الأعمال، عند أكثر الخصوم، فلا يمكن إذا إجراء الآية على العموم، فيجب أن يحمل على أكبر السيئات، وأعظم الخطيئات، وهو الشرك ليمكن الجمع بين الآيتين. (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82) وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا
[ 283 ]
الصلوة وآتوا الزكوة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)). القراءة: قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: (لا يعبدون) بالياء. والباقون بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي: (وقولوا للناس حسنا) بفتح الحاء والسين. والباقون: (حسنا) بضم الحاء وإسكان السين. الحجة: حجة من قرأ (لا تعبدون) بالتاء على الخطاب، قوله: (إذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم) إلى آخر الآية. ويقويه قوله (وقولوا) وقوله (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون). فإذا كان هذا خطابا وهو عطف على ما تقدم، وجب أن يكون المعطوف عليه في حكمه. وحجة من قرأ بالياء قوله: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) فحمله على لفظ الغيبة. وأما قوله (حسنا) فمن قرأه بضم الحاء، ففيه ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون الحسن بمعنى الحسن، كالنجل والنجل، والرشد والرشد. وجاز ذلك في الصفة كما جاز في الإسم. قالوا: العرب والعرب، وهو صفة بدلالة قولهم: مررت بقوم عرب أجمعين. فعلى هذا يكون الحسن صفة كالحلو والمر وثانيها: أن يكون الحسن مصدرا كالشكر والكفر، وحذف المضاف معه أي: قولوا قولا ذا حسن. وثالثها: أن يكون منصوبا على أنه مصدر الفعل الذي دل عليه الكلام، أي: ليحسن قولكم حسنا. ومن قرأه حسنا: جعله صفة، وتقديره وقولوا للناس قولا حسنا، كقوله تعالى: (فأمتعه قليلا) أي: متاعا قليلا. اللغة: الأخذ: ضد الإعطاء. والقربى: مصدر قولهم قربت مني رحم فلان قرابة وقربى وقربا. واليتامى: جمع يتيم، مثل نديم وندامى. واليتيم الذي مات أبوه إلى أن يبلغ الحلم، ولا يقال لمن ماتت امه يتيم، يقال لمن يتم ييتم يتما: إذا فقد أباه، هذا في الإنسان. فأما في غير الإنسان فيتمه من قبل أمه. قال الاصمعي: إن اليتم في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قبل الام. والمسكين: هو المتخشع المتذلل من الحاجة، مأخوذ من السكون كأنه قد أسكنه الفقر.
[ 284 ]
الاعراب: قوله (لا تعبدون): لا يخلو إما أن يكون حالا، أو يكون تلقي القسم، أو يكون على لفظ الخبر، والمعنى معنى الأمر، أو يكون على تقدير أن لا تعبدوا، فتحذف أن، فيرتفع الفعل. فإن جعلته حالا، فالأولى أن يكون بالياء، ليكون في الحال ذكر من ذي الحال، وكأنه قال أخذنا ميثاقهم موحدين. وإن جعلته تلقي قسم، وعطفت عليه الأمر، وهو قوله وقولوا، كنت قد جمعت بين أمرين لا يجمع بينهما، فإن لم تحمل الأمر على القسم، وأضمرت القول كأنه قال وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله، وقلنا وأحسنوا بالوالدين إحسانا، فيكون وقلنا على هذا معطوفا على أخذنا جاز، لأن أخذ الميثاق قول، فكأنه قال: قلنا هم كذا وكذا. وإن حملته على أن اللفظ لفظ خبر، والمعنى معنى الأمر، يكون مثل قوله (تؤمنون بالله ورسوله)، ويدل على ذلك قوله (يغفر لكم). ويؤكد ذلك أنه قد عطف عليه بالأمر، وهو قوله: (وبالوالدين إحسانا) (وقولوا)، (وأقيموا الصلاة). وإن حملته على أن المعنى أخذنا ميثاقهم بأن لا تعبدوا، فلما حذف (أن) ارتفع الفعل، كما قال طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى، * وان أشهد اللذات، هل أنت مخلدي (1) فإن هذا قول إن حملته عليه، كان فيه حذف بعد حذف. وزعم سيبويه أن حذف أن من هذا النحو قليل. وقوله: (وبالوالدين إحسانا) الحرف الجار يتعلق بفعل مضمر، ولا يجوز أن يتعلق بقوله (إحسانا)، لأن ما تعلق بالمصدر لا يجوز أن يتقدم عليه. وأحسن يصل إلى المفعول بالباء، كما يصل بإلى، يدلك على ذلك قوله: (وقد أحسن بي إذ اخرجني من السجن) فتعدى بالباء كما تعدى بإلى في قوله (وأحسن كما أحسن الله إليه). وقوله: (ثم توليتم إلا قليلا منكم) قال الزجاج: نصب قليلا على الاستثناء. المعنى أستثني قليلا منكم. قال أبو علي: إن في هذا التمثيل إيهاما أن الإسم المستثنى ينتصب على معنى أستثني، أو بإلا، وليس كذلك بل ينتصب الإسم المستثنى عن الجملة التي قبل إلا بتوسط إلا، كما ينتصب الطيالسة ونحوها في قولك جاء البرد والطيالسة، وما صنعت وأباك، عن الجملة التي قبل الواو بتوسط الواو. (1) وفي بعض النسخ: (اللائمي) بدل (الزاجري). (*)
[ 285 ]
ويدل على ذلك قولهم ما جاءني إلا زيد، فلو كان لإلا، أو لما يدل عليه عمل في المستثنى، لجاز نصب هذا، كما أنك لو قلت: أستثني زيدا، لنصبته. فإن قيل: لا يجوز النصب هنا لأن الفعل يبقى فارغا بلا فاعل ؟ قيل: فهلا ذلك امتناع هذا من الجواز على أن ما بعد (إلا) متصل بما قبلها، وأنه ليس لإلا فيه عمل، ولا أثر، إلا ما يدل عليه من معنى الإسثناء ! المعنى: ثم عاد سبحانه إلى ذكر بني إسرائيل، فقال: (و) اذكروا (إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) أي: عهدهم. وقيل: الميثاق الأدلة من جهة العقل والشرع. وقيل: هو مواثيق الأنبياء على أممهم. والعهد والميثاق لا يكون إلا بالقول، فكأنه قال: أمرناهم، ووصيناهم، وأكدنا عليهم، وقلنا لهم: والله (لا تعبدون) إذا حملناه على جواب القسم، وإذا حملناه على الحال، أو على أن معناه الأمر، فكما قلناه قبل. وإذا حملناه على حذف أن، فتقديره: وإذ أخذنا، ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا (إلا الله) وحده دون ما سواه من الأنداد، وبان تحسنوا إلى (الوالدين إحسانا). والإحسان الذي عليهم الميثاق بأن يفعلوه إلى الوالدين هو ما فرض على أمتنا أيضا من فعل المعروف بهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل لهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك. وقوله (وذي القربى) أي وبذي القربى أن تصلوا قرابته ورحمه. (واليتامى) أي: وباليتامى أن تعطفوا عليهم بالرأفة والرحمة (والمساكين) أي: وبالمساكين أن تؤتوهم حقوقهم التي أوجبها الله عليهم في أموالهم. وقوله: (وقولوا للناس حسنا) فيه عدول إلى الخطاب بعد الخبر، وإنما استجازت العرب ذلك، لأن الخبر إنما كان عمن خاطبوه بعينه، لا عن غيره. وقد يخاطبون أيضا ثم يصيرون بعد الخطاب إلى الخبر، فمثال الأول قول عنترة: شطت مزار العاشقين فأصبحت * عسرا علي طلابك ابنة مخرم (1) ومثال الثاني قول كثير عزة: أسيئي بنا، أو أحسني، لا ملومة * لدينا، ولا مقلية إن تقلت (1) وفي المحكي عن (شرح الزوزني): " حلت بأرض الزائرين فأصبحت " ولعل هذا أنسب. (*)
[ 286 ]
وقيل معناه: قلنا لهم قولوا. واختلف في معنى قوله (حسنا) فقيل: هو القول الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله، وأحبه، عن ابن عباس. وقيل: هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، عن سفيان الثوري. وقال الربيع بن انس: قولوا للناس حسنا أي: معروفا. وروى جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في قوله (وقولوا للناس حسنا) قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين، الفاحش المتفحش السائل الملحف، ويحب الحليم العفيف المتعفف. ثم اختلف فيه من وجه آخر، فقيل: هو عام في المؤمن والكافر على ما روي عن الباقر عليه السلام. وقيل: هو خاص في المؤمن. واختلف من قال إنه عام، فقال ابن عباس وقتادة: إنه منسوخ بآية السيف وبقوله عليه السلام: (قاتلوهم حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يقروا بالجزية). وقد روي ذلك أيضا عن الصادق عليه السلام. وقال الأكثرون: إنها ليست بمنسوخة، لأنه يمكن قتالهم مع حسن القول في دعائهم إلى الإيمان، كما قال الله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وقال في آية اخرى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم). وقوله: (وأقيموا الصلاة) أي: أدوها بحدودها الواجبة عليكم، (وآتوا الزكاة) أي: أعطوها أهلها، كما أوجبها الله عليكم. روي عن ابن عباس أن الزكاة التي فرضها الله على بني إسرائيل، كانت قربانا تهبط إليه نار من السماء فتحمله، فكان ذلك تقبله. ومتى لم تفعل النار به ذلك، كان غير متقبل. وروي عنه أيضا أن المعني به طاعة الله، والاخلاص. وقوله: (ثم توليتم) أي: أعرضتم (إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) أخبر الله سبحانه عن اليهود أنهم نكثوا عهده، ونقضوا ميثاقه، وخالفوا أمره، وتولوا عنه معرضين إلا من عصمه الله منهم، فوفى الله بعهده وميثاقه، ووصف هؤلاء بأنهم قليل، بالإضافة إلى أولئك. واختلف فيه فقيل: إنه خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من يهود بني إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة وتبديلهم أمر الله، وركوبهم معاصيه. وقيل: إنه خطاب لأسلافهم المذكورين في أول الآية، وإنما جمع بين التولي والإعراض، وإن كان معناهما واحدا، تأكيدا.
[ 287 ]
وقيل: معنى تولوا فعلوا الإعراض. وهم معرضون أي: مستمرون على ذلك. وفي هذه الآية دلالة على ترتيب الحقوق: فبدأ الله سبحانه بذكر حقه، وقدمه على كل حق، لأنه الخالق المنعم بأصول النعم. ثم ثنى بحق الوالدين، وخصهما بالمزية لكونهما سببا للوجود، وإنعامهما بالتربية. ثم ذكر ذوي القربى، لأنهم أقرب إلى المكلف من غيرهم. ثم ذكر حق اليتامى لضعفهم، والفقراء لفقرهم. (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84)). اللغة: السفك: الصب. سفكت الدم أسفكه سفكا. وواحد الدماء: دم، وأصله دمي في قول أكثر النحويين. ودليل من قال إن أصله دمي قول الشاعر (1): فلو أنا على حجر ذبحنا، * جرى الدميان بالخبر اليقين وقال قوم: أصله دمي إلا أنه لما حذف ورد إليه ما حذف منه، حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا والنفس: مأخوذة من النفاسة وهي الجلالة. فنفس الإنسان: انفس ما فيه والدار: هي المنزل الذي في أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال. وقال الخليل: كل موضع حله قوم، فهو دار لهم، وإن لم يكن فيه أبنية. والإقرار: الإعترإف. والشهادة: أخذ من المشاهدة وهو الإخبار عن الشئ بما يقوم مقام المشاهدة في المعرفة. الاعراب: تقدير الإعراب في هذه الآية مثل الذي قلناه في الآية الاولى على السواء. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الاخبار عن اليهود بنقض المواثيق والعهود، بقوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) أي: ميثاق أسلافكم الذين كانوا في زمن موسى والأنبياء الماضين، صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين. وإنما أضاف الميثاق إليهم لما كانوا أخلافا لهم على ما سبق الكلام فيه. وقوله: (لا تسفكون دماءكم) معناه: لا يقتل بعضكم بعضا، لأن في (1) مر قبل فراجع. (*)
[ 288 ]
قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه، إذا كانت ملتهما واحدة، ودينهما واحدا، وأهل الدين الواحد بمنزلة الرجل الواحد في ولاية بعضهم بعضا. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). هذا قول قتادة، وأبي العالية. وقيل: معناه لا يقتل الرجل منكم غيره فيقاد به قصاصا، فيكون بذلك قاتلا لنفسه، لأنه كالسبب فيه. وقوله: (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) معناه: لا يخرج بعضكم بعضا من دياركم بأن تغلبوا على الدار. وقيل: معناه لا تفعلوا ما تستحقون به الإخراج من دياركم، كما فعله بنو النضير. وقوله: (ثم أقررتم وأنتم تشهدون) أي: أقررتم بذلك، وأنتم شاهدون على من تقدمكم بأخذنا منهم الميثاق، وبما بذلوه من أنفسهم من القبول والالتزام. وقيل: معنى إقرارهم هو الرضاء به، والصبر عليه، كما قال الشاعر (1): ألست كليبيا إذا سيم خطة * أقر كإقرار الحليلة للبعل واختلف في المخاطب بقوله (وأنتم تشهدون) فقيل: اليهود الذين بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أيام هجرته إليهم وبخهم الله تعالى على تضييعهم أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها، وقال لهم: ثم (أقررتم) يعني: أقر أولكم وسلفكم وأنتم تشهدون على إقرارهم بأخذي الميثاق عليهم، بأن لا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم، وتصدقون بذلك، عن ابن عباس. وقيل: إنه خبر من الله عز وجل عن أوائلهم، ولكنه أخرج الخبر بذلك مخرج المخاطبة لهم على النحو الذي تقدم في الآيات، (وأنتم تشهدون) أي: وأنتم شهود، عن أبي العالية. ويحتمل قوله (وأنتم تشهدون) أمرين: أحدهما: إن معناه وأنتم تشهدون على أنفسكم بالإقرار. والثاني: إن معناه وأنتم تحضرون سفك دمائكم، وإخراج أنفسكم من دياركم. وقال بعض المفسرين: نزلت الآية في بني قريظة والنضير. وقيل: نزلت في أسلاف اليهود. (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من (1) وهو بعيث يهجو بني كليب، ونسبه بعضهم إلى الفرزدق. (*)
[ 289 ]
ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)). القراءة: قرأ أهل الكوفة: (تظاهرون) بتخفيف الظاء هاهنا، وفي التحريم، والباقون بالتشديد فيهما. وقرأ أبو جعفر، ونافع، وعاصم، والكسائي، ويعقوب: (أسارى تفادوهم) بالألف فيهما. وقرأ حمزة وحده (اسرى تفدوهم) بغير ألف فيهما. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو: (أسارى) بألف (تفدوهم) بغير ألف. وكان أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، يميلون الراء من (أسارى). ونافع يقرأ بين بين. والباقون يفتحون. الحجة: من قرأ (تظاهرون) بالتخفيف فالأصل فيه تتظاهرون، فحذف التاء الثانية لاجتماع التاءين. ومن قرأ (تظاهرون) بالتشديد فالاصل فيه أيضا تتظاهرون، فأدغم التاء في الظاء، لقرب المخرجين، وكل واحد من الفريقين كره اجتماع الامثال، ففريق خفف بألإدغام، وفريق بالحذف. فالتاء التي اعتلت بالإدغام هي التاء التي اعتلت بالحذف. ووجه قول من قرأ (أسرى) أنه جمع أسير فعيل بمعنى مفعول، نحو قتيل بمعنى مقتول وقتلى، وجريح وجرحى، وهو أقيس من أسارى. ووجه قول من قال (اسارى) أنه شبهه بكسالى، وذلك أن الاسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرفه للأسر، كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته السيئة، شبه به، فأجرى عليه هذا الجمع، كما قيل هرضى وموتى وهلكى، لما كانوا مبتلين بهذه الأشياء المصابين بها، فأشبه في المعنى فعيلا بمعنى مفعول، فأجرى عليه في الجمع اللفظ الذي لفعيل بمعنى مفعول، وكما شبه أسارى بكسالى، شبه كسلى بأسرى. ومن قرأ (تفادوهم) فلأن لكل واحد من الفريقين فعلا، فمن الآسر دفع الأسير، ومن المأسور منهم دفع فدائه، فوجه تفادوهم على هذا ظاهر. ومن قرأ (تفدوهم) فالمعنى فيه مثل المعنى في تفادوهم. وهذا الفعل يتعدى إلى مفعولين
[ 290 ]
إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بالجار، كقوله: (وفديناه بذبح عظيم) وقول الشاعر: يودون لو يفدونني بنفوسهم * ومثنى الاواقي، والقيان النواهد وقال الأعشى في فادي: عند ذي تاج إذا قيل له: * فاد بالمال، تراخى، ومرح المفعول الأول محذوف، والتقدير فاد الأسرى بالمال، وفي الآية المفعول الثاني الذي يصل إليه الفعل بالحرف محذوف. اللغة: تظاهرون: تعاونون. والظهير: المعين. وقوله (والملائكة بعد ذلك ظهير) التقدير فيه الجمع، واللفظ على الإفراد. ومثله قول رؤبة: (دعها فما النحوي من صديقها) أي: من أصدقائها. وظاهر بين درعين: لبس إحداهما فوق الأخرى. والإثم: الفعل القبيح الذي يستحق به اللوم. ونظيره: الوزر. وقال قوم: معنى الإثم هو ما تنفر منه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنواس بن سمعان، حين سأله عن البر والاثم، فقال: (البر ما اطمأنت إليه نفسك، والإثم ما حك في صدرك). والعدوان: الإفراط في الظلم، يقال: عدا فلان في ظلمه عدوا وعدوا وعدوانا وعداء. وقيل: العدوان مجاوزة الحد. والأسر: الأخذ بالقهر، وأصله الشد والحبس. وأسره: إذا شده. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسارى الذين هم في الوثاق، والأسرى الذين هم في اليد، وإن لم يكونوا في الوثاق. والخزي: السوء والذل، يقال: خزي الرجل خزيا. ويقال: في الحياء خزي خزاية. الاعراب: قوله: (ثم أنتم هؤلاء) فيه ثلاثة أقوال أحدها أن (أنتم) مبتدأ، و (هؤلاء) منادى مفرد تقديره: يا هؤلاء. و (تقتلون) خبر المبتدأ وثانيها أن (هولاء) تأكيد لأنتم وثالثها أنه بمعنى الذين، وتقتلون صلة له أي: أنتم الذين تقتلون أنفسكم. فعلى هذا يكون تقتلون لا موضع له من الإعراب، ومثله في الصلة. وقوله: (وما تلك بيمينك يا موسى) أي: وما التي بيمينك ؟ وأنشد النحويون في ذلك: عدس ما لعباد عليك إمارة، * نجوت وهذا تحملين طليق
[ 291 ]
وقوله: (تظاهرون عليهم) في موضع نصب على الحال من (تخرجون). وقوله: (وهو محرم عليكم إخراجهم) هو على ضربين أحدهما: أن يكون إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره في قوله (وتخرجون فريقا منكم). ثم بين ذلك بقوله (إخراجهم) تأكيدا لتراخي الكلام. والآخر: أن يكون هو ضمير القصة والحديث، فكأنه قال: والحديث محرم عليكم إخراجهم، كما قال الله: (قل هو الله أحد) أي الأمر الذي هو الحق الله أحد. المعنى: (ثم أنتم هؤلاء) يا معشر يهود بني إسرائيل، بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم، أن لا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم، وبعد شهادتكم على أنفسكم بذلك أنه واجب عليكم، ولازم لكم الوفاء به (تقتلون أنفسكم) أي: يقتل بعضكم بعضا، كقوله سبحانه: (فإن دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) أي: ليسلم بعضكم على بعض. وقيل: معناه تتعرضون للقتل (وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم) أي: متعاونين عليهم في إخراجكم إياهم، (بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم) أي: وأنتم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتم أسيرا في أيدي غيركم من أعدائكم، تفدونهم، وقتلكم إياهم، وإخراجكموهم من ديارهم، حرام عليكم، كما أن تركهم أسرى في أيدي عدوهم، حرام عليكم، فكيف تستجيزون قتلهم، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم، وهما جميعا في حكم اللازم لكم فيهم، سواء، لأن الذي حرمت عليكم من قتلهم، وإخراجهم من دورهم، نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم. (أفتؤمنون ببعض الكتاب) الذي فرضت عليكم فيه فرائضي، وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي، فتصدقون به، فتفادون أسراكم من أيدي عدوهم، (وتكفرون ببعض): وتكفرون ببعضه فتجحدونه، فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم وقومكم، وتخرجونهم من ديارهم، وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم لعهدي وميثاقي. واختلف فيمن عنى بهذه الآية. فروى عكرمة، عن ابن عباس أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج، فافترقوا. فكانت النضير مع الخزرج، وكانت قريظة مع الأوس. فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها. فإذا وضعت الحرب أوزارها
[ 292 ]
فدوا أسراها تصديقا لما في التوراة. والاوس والخزرج أهل شرك، يعبدون الاوثان، لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا قيامة ولا كتابا، فأنبأ الله تعالى اليهود بما فعلوه. وقال أبو العالية: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم بعضا، أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا بالفداء ففدوا وكفروا بالإخراج من الديار، فاخرجوهم. وقيل: ليس الذين أخرجوهم الذين فودوا، ولكنهم قوم آخرون على ملتهم، فأنبهم (1) الله تعالى على ذلك. وقال أبو مسلم الإصبهاني: ليس المراد بقوله: (أفتؤمنون) الآية. أنهم يخرجون، وهو محرم، ويفدون وهو واجب. وإنما يرجع ذلك إلى بيان صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغيره. وقوله: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا) اختلف في الخزي الذي خزاهم الله إياه بما سلف منهم من المعصية، فقيل: هو حكم الله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أخذ القاتل بمن قتل، والقود به قصاصا، والإنتقام من الظالم للمظلوم. وقيل: بل هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على ذمتهم على وجه الذل والصغار. وقيل: الخزي الذي خزوا في الدنيا: هو إخراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير من ديارهم لأول الحشر، وقتل بني قريظة وسبي ذراريهم، وكان ذلك خزيا لهم في الدنيا. ثم أعلم الله سبحانه أن ذلك غير مكفر عنهم ذنوبهم، وأنهم صائرون بعده إلى عذاب عظيم، فقال: (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) أي: إلى أشد العذاب الذي أعده الله لأعدائه، وهو العذاب الذي لا روح فيه مع اليأس من التخلص. (وما الله بنافل عما تعملون) أي: وما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة، بل هو حافظ لها، ومجاز عليها. ومن قرأه بالتاء رده إلى المواجهين بالخطاب في قوله (أفتومنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض). ومما يسأل في هذه الآية: إن ظاهرها يقتضي صحة اجتماع الإيمان والكفر، وذلك مناف للصحيح من المذهب ؟ والقول فيه: إن المعنى أنهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب، والإنكار للبعض دون بعض، وهذا يدل على أنهم لا ينفعهم الإيمان (1) انبه: عنفه ولامه. (*)
[ 293 ]
بالبعض مع الكفر بالبعض الآخر. وفي هذه الآية تسلية لنبينا عليه السلام في ترك قبول اليهود قوله، وانحيازهم عن الإيمان به، فكأنه يقول: كيف يقبلون قولك، ويسلمون لأمرك، ويؤمنون بك، وهم لا يعملون بكتابهم مع إقرارهم به، وبأنه من عند الله تعالى ؟ ! (أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)). اللغة: الخفة: نقيض الثقل. والتخفيف، والتسهيل، والتهوين، نظائر. واختلف في الخفة والثقل، فقيل: إنه يرجع إلى تناقض الجواهر وتزايدها. وقيل: إن الإعتماد اللازم سفلا، يسمى ثقلا، والإعتماد اللازم المختص بجهة العلو، يسمى خفة. المعنى: أشار إلى الذين أخبر عنهم بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، فقال: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا) أي: ابتاعوا رياسة الدنيا (بالآخرة) أي: رضوا بها عوضا من نعيم الآخرة التي أعدها الله تعالى للمؤمنين. جعل سبحانه تركهم حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله، ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا. ثم أخبر أنهم لاحظ لهم في نعيم الآخرة بقوله: (فلا يخفف عنهم العذاب) أي: لا ينقص من عذابهم، ولا يهون عنهم. (ولا هم ينصرون) أي: لا ينصرهم أحد في الآخرة، فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله تعالى. (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)). القراءة: قرأ ابن كثير: (القدس) بسكون الدال في جميع القرآن. والباقون بضم القاف والدال. وروي في الشواذ عن أبي عمرو: (وآيدناه) على زنة أفعلناه، والقراءة (أيدناه) بالتشديد. الحجة: التخفيف والتثقيل في (القدس)، وكذلك فيما كان مثله نحو:
[ 294 ]
الحلم والحلم، والعنق والعنق، وأيدناه، إنما كانت القراءة المشهورة فيه فعلناه، لما يعرض من تصحيح العين، مخافة توالي إعلالين في (آيدناه) على أفعلناه. ومعنى هذا أنه لو اعلت عينه كما يجب إعلال عين أفعلت من الأجوف كأقمت وأبعت، لتتابع فيه إعلالان، لأن أصل آيدت: أأيدت، كما أن أصل آمن: ءأمن، فانقلبت الهمزة الثانية ألفا لاجتماع همزتين في كلمة واحدة، والاولى منهما مفتوحة، والثانية ساكنة، وكان يجب أيضا أن تلقى حركة العين على الفاء، وتحذف العين كما ألقيت حركة الواو من أقومت على القاف قبلها، فصار أقمت، وكان يجب على هذا أن تقلب الفاء هنا واوا، لأنها قد تحركت وانفتح ما قبلها. ولا بد من قلبها لوقوع الهمزة الاولى قبلها، كما قلبت في تكسير آدم أوادم، فكان يجب أن تقول أودته كأقمته، فتحذف العين كما ترى، وتقلب الفاء التي هي في الأصل همزة واوا، فيعتل الفاء والعين جميعا. وإذا كان يؤدي القياس إلى هذا رفض وكثر فيه فعلت، ليؤمن الإعلالان، وجاء أيدت قليلا شاذا على الأصل. وإذا كانوا قد أخرجوا عين أفعلت، وهي حرف علة على الصحة، في نحو قوله (1): صددت فأطولت الصدود، وقلما * وضال على طول الصدود يدوم وأعوز القوم، وأغيمت السماء. ولو اعلت لم يخف فيه توالي إعلالين، كان خروج أيدت على الصحة، لئلا يجتمع إعلالان أولى وأحرى. اللغة: قفينا أي: أردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض، وأصله من القفا. يقال: قفوت فلانا: إذا صرت خلف قفاه، كما يقال دبرته. قال امرؤ القيس: وقفى على آثارهن بحاصب، * وغيبة شؤبوب من الشد ملهب (2) والرسل: جمع رسول، كالصبر والشكر في جمع صبور وشكور. وأيدناه: قويناه من الأيد والآد، وهما القوة، ومثلهما في البناء على فعل وفعل: الذيم والذام، والعيب والعاب. قال العجاج: (من أن تبدلت بآدي آدا) أي: بقوة شبابي قوة الشيب. والقدس: الطهر. والتقديس: التطهير. وقولنا في صفة الله تعالى القدوس أي: الطاهر المنزه عن أن يكون له ولد، أو يكون في فعله وحكمه ما ليس (1) القائل: المرار. (2) وهو يصف فرسا. (*)
[ 295 ]
بعدل. وبيت المقدس: لا يخلو المقدس فيه إما أن يكون مصدرا، أو مكانا، فإن كان مكانا فالمعنى بيت المكان الذي فعل فيه الطهارة، وأضيف إلى الطهارة لأنه منسك، كما جاء: (أن طهر بيتي للطائفين) وتطهيره: إخلاؤه من الصنم، وإبعاده منه. فعلى هذا يكون معناه بيت مكان الطهارة. وإن كان مصدرا، كان كقوله: (إلي مرجعكم) ونحوه من المصادر التي جاءت على هذا المثال. والهوى مقصورا والشهوة نظيران هوى يهوى هوى. المعنى: ثم ذكر سبحانه إنعامه عليهم بإرسال رسله إليهم، وما قابلوه به من تكذيبهم فقال: (ولقد آتينا موسى الكتاب) أي: أعطيناه التوراة، وأنزلنا إليه (وقفينا من بعده) أي: أتبعنا من بعد موسى (بالرسل) رسولا بعد رسول، يتبع الآخر الأول في الدعاء إلى وحدانية الله تعالى، والقيام بشرائعه على منهاج واحد، لأن كل من بعثه الله تعالى نبيا بعد موسى إلى زمن عيسى، عليهما السلام، فإنما بعثه بإقامة التوراة، والعمل بما فيها، والدعاء إلى ذلك. (وآتينا عيسى بن مريم البينات) أي: أعطيناه المعجزات والدلالات على نبوته من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته. وقال بعضهم: أراد بالبينات الإنجيل، وما فيه من الأحكام والآيات الفاصلة بين الحلال والحرام. (وأيدناه بروح القدس) أي: قويناه وأعناه بجبريل عليه السلام، عن قتادة، والسدي، والضحاك، والربيع. واختلف في سبب تسمية جبرائيل عليه السلام روحا على وجوه أحدها: إنه يحيي بما يأتي به من البينات الأديان، كما تحيا بالأرواح الأبدان وثانيها أنه سمي بذلك لأن الغالب عليه الروحانية، وكذلك سائر الملائكة. وإنما خص بهذا الإسم تشريفا له. وثالثها: إنه سمي به وإضيف إلى القدس، لأنه كان بتكوين الله تعالى إياه روحا من عنده، من غير ولادة والد ولده. وقال ابن زيد: المراد بروح القدس الإنجيل، كما سمى الله تعالى القرآن روحا، فقال: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) فكذلك سمي الإنجيل روحا. وروى الضحاك، عن أبن عباس أن الروح الإسم الذي كان عيسى عليه السلام يحيي به الموتى. وقال الربيع: هو الروح الذي نفخ فيه، فأضافه إلى نفسه تشريفا، كما قال: بيت الله، وناقة الله. وأقوى الأقوال والوجوه قول من قال: هو جبرائيل عليه السلام.
[ 296 ]
وإذا قيل: لم خص عيسى عليه السلام، من بين الأنبياء، بأنه مؤيد بجبرائيل، وكل نبي مؤيد به ؟ فالقول فيه: إنه إنما خص بذلك لثبوت اختصاصه به من صغره إلى كبره، فكان يسير معه حيث سار. ولما هم اليهود بقتله لم يفارقه حتى صعد به إلى السماء. وكان تمثل لمريم عند حملها به، وبشرها به، ونفخ فيها. واختلف في معنى القدس، فقيل: هو الطهر. وقيل: هو البركة، عن السدي. وحكى قطرب أنهم يقولون قدس عليه الأنبياء أي: بركوا. وعلى هذا فإنه كدعاء إبراهيم عليه السلام للحرم: (رب اجعل هذا بلدا آمنا)، وكقول زكريا: (واجعله رب رضيا). وقيل: القدس هو الله تعالى، عن الحسن، والربيع، وابن زيد، وقالوا: القدوس والقدس واحد. وقوله: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم) خطاب لليهود، فكأنه قال: يا معشر يهود بني إسرائيل ! أكلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه أنفسكم، تعظمتم وتجبرتم وأنفتم من قبول قوله (ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) أي: فكذبتم منهم بعضا ممن لم تقدروا على قتله مثل عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقتلتم بعضا مثل يحيي وزكريا وغيرهما. وظاهر الخطاب وإن خرج مخرج التقرير فهو بمعنى الخبر، وإنما أضاف هذا الفعل إليهم، وإن لم يباشروه بنفوسهم، لأنهم رضوا بفعل أسلافهم، فأضيف الفعل إليهم، وإن فعله أسلافهم. (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)). القراءة: القراءة المشهورة: (غلف) بسكون اللام. وروي في الشواذ عن أبي عمرو: (غلف) بضم اللام. الحجة: من قرأ بالتسكين فهو جمع الأغلف مثل أحمر وحمر، ويقال في ضرورة الشعر نحو قول طرفة: أيها الفتيان في مجلسنا ! * جردوا منها ورادا وشقر فحركت لضرورة الشعر. فمن قرأ غلف مثقلا فهو جمع غلاف نحو: مثال ومثل، وحمار وحمر، فيكون معناه: إن قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم. ويجوز أن لكون التسكين عن التثقيل مثل رسل ورسل. اللغة: اللعن: هو الإقصاء والإبعاد. يقال: لعن فلان فهو ملعون، ثم
[ 297 ]
يصرف مفعول منه إلى فعيل، فقيل: لعين. قال الشماخ: وماء قد وردت لوصل أروى * عليه الطير كالورق اللجين ذعرت به القطا، ونفيت عنه، * مقام الذئب كالرجل اللعين الاعراب: (قليلا): منصوب بأنه صفة لمصدر محذوف، وإنما حذف لأن الصفة تقوم مقامه، وتدل عليه أي: فإيمانا قليلا ما يؤمنون. وقيل: إنه منصوب على الحال أي: يؤمنون وهم قليل. وقيل: وتقديره بقليل ما يؤمنون حذف الجار، فوصل الفعل إليه فنصبه وما ها هنا مزيدة للتوكيد، ولا معنى لها، كما في قوله (فبما رحمة من الله) وتقدير الكلام فقليلا يؤمنون، وكما في قول الشاعر: لو بأبانين جاء يخطبها * خضب ما أنف خاطب بدم وقيل: إن معنى (ما) ها هنا هو أن يدل على غاية التنكير في الإسم، وفرط الإبهام فيه كما يقال: أمر ما، وشئ ما، إذا أريد المبالغة في الإبهام. المعنى: (وقالوا قلوبنا غلف) رجع الكلام إلى الحكاية عن اليهود، وعن سوء مقالهم وفعالهم. فالمعنى على القراءة أنهم ادعوا ان قلوبهم ممنوعة من القبول فقالوا: أي فائدة في إنذارك لنا، ونحن لا نفهم ما تقول، إذ ما تقوله ليس مما يفهم، كقوله تعالى: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر). وقال أبو علي الفارسي: ما يدرك به المعلومات من الحواس وغيرها من الأعضاء، إذا ذكر بأنه لا يعلم، وصف بأن عليه مانعا من ذلك، ودونه حائلا، فمن ذلك قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) لما كان القفل حاجزا وحائلا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يكن مقفلا، جعل مثالا للقلوب بأنها لا تعي ولا تفقه، وكذلك قوله: (لقالوا إنما سكرت أبصارنا والذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري)، وقوله: (بل هم منها عمون) كان شدة عناده تحملهم على الشك في المشاهدات، ودفع المعلومات. وأما المعنى على القراءة الثانية من تحريك العين في (غلف) فهو على أن المراد أن قلوبنا أوعية للعلم، ونحن علماء. ولو كان ما تقوله شيئا يفهم أو له طائل لفهمناه، أو يكون المراد ليس في قلوبنا ما تذكره، فلو كان علما لكان فيها.
[ 298 ]
وقوله: (بل لعنهم الله بكفرهم) رد الله سبحانه عليهم قولهم أي: ليس ذلك كما زعموا، لكن الله سبحانه قد أقصاهم وأبعدهم من رحمته، وطردهم عنها بجحودهم به وبرسله. وقيل: معنى (لعنهم) طبع على قلوبهم على سبيل المجازاة لهم بكفرهم. وقوله: (فقليلا ما يؤمنون) معناه: إن هؤلاء الذين وصفهم قليلو الإيمان بما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان معهم بعض الإيمان من التصديق بالله وبصفاته، وغير ذلك مما كان فرضا عليهم، وذلك قليل بالإضافة إلى ما جحدوه من التصديق بنبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به. والذي يليق بمذهبنا أن يكون المراد به لا إيمان لهم أصلا، وإنما وصفهم بالقليل، كما يقال: قل ما رأيت هذا قط أي: ما رأيت هذا قط. وإن جعلت قليلا نصبا على الحال أي: يؤمنون قليلا، فمعناه لا يؤمن به (1) إلا نفر قليل، كعبد الله بن سلام وأصحابه. وفي هذه الآية رد على المجبرة لأن هؤلاء اليهود قالوا مثل ما يقولونه من أن على قلوبهم ما يمنع من الإيمان، ويحول بينها وبينه، فكذبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم وذمهم، ولو كانوا صادقين (2) لما استحقوا اللعن والطرد، ولكان الله سبحانه قد كلفهم ما لا يطيقونه. (ولما جاءهم كتب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89)). الاعراب: (مصدق): رفع لأنه صفة لكتاب، ولو نصب على الحال لكان جائزا، لكنه لم يقرأ به في المشهور. وقيل: ضم على الغاية، وقد ذكرنا الوجه فيه فيما تقدم من قوله: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) (3). وأما جواب لما في قوله (ولما جاءهم كتاب من عند الله) فعند الزجاج والأخفش محذوف، لأن معناه معروف يدل عليه قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) كما حذف جواب (لو) من نحو قوله: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) وتقديره: ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن، سيرت به الجبال، لسيرت بهذا القرآن. وقيل: إن قوله (كفروا) جواب (1) [ منهم ]. (2) [ في ذلك ]. (3) يعني ص 131 فراجع.
[ 299 ]
لقوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله)، ولقوله: (فلما جاءهم ما عرفوا) وإنما كرر (لما) لطول الكلام، عن المبرد. النزول: قال ابن عباس: كانت اليهود يستفتحون أي: يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب، ولم يكن من بني إسرائيل، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر اليهود ! إتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل الشرك، وتصفونه، وتذكرون أنه مبعوث فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشئ نعرفه، وما بالذي كنا نذكر لكم. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى العياشي بإسناده رفعه إلى أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كانت اليهود تجد في كتبها أن مهاجر محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين عير وأحد، فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا: حداد وأحد سواء، فتفرقوا عنده. فنزل بعضهم بتيماء، وبعضهم بفدك وبعضهم بخيبر. فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس، فتكاروا منه، وقال لهم: أمر بكم ما بين عير وأحد. فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنا بهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عير وهذا أحد. فنزلوا عن ظهر إبله، وقالوا له: قد أصبنا بغيتنا، فلا حاجة بنا إلى إبلك، فاذهب حيث شئت. وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر: إنا قد أصبنا الموضع، فهلموا إلينا. فكتبوا إليهم: إنا قد استقرت بنا الدار، واتخذنا بها الأموال، وما أقربنا منكم، فإذا كان ذلك فما أسرعنا إليكم، واتخذوا بأرض المدينة أموالا. فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع (1) فغزاهم، فتحصنوا منه، فحاصرهم ثم أمنهم، فنزلوا عليه. فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم، ولا أراني إلا مقيما فيكم. فقالوا له: ليس ذلك لك، إنها مهاجر نبي، وليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك. فقال لهم: فإني مخلف فيكم من أسرتي، من إذا كان ذلك ساعده ونصره، فخلف حيين تراهم الأوس والخزرج. فلما كثروا بها، كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم: أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا. (1) كذا في النسخ، ولكن الصواب (تبعا) لأنه مفعول (بلغ). (*)
[ 300 ]
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم آمنت الأنصار، وكفرت به اليهود، وهو قوله تعالى: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) إلى آخر الآية. المعنى: (ولما جاءهم) أي: جاء اليهود من بني إسرائيل الذين وصفهم الله. (كتاب من عند الله) يعني به القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (مصدق لما معهم) أي: للذي معهم الكتب التي أنزلها الله تعالى قبل القرآن، من التوراة والانجيل وغيرهما وفيه وجهان أحدهما: إن معناه أنه مصدق لما تقدم به الإخبار في التوراة والانجيل، فهو مصدق لذلك من حيث كان مخبره على ما تقدم الخبر به. والآخر: إنه مصدق لهما أي: بأنهما من عند الله تعالى، وأنهما حق. (وكانوا) يعني اليهود (من قبل) أي: من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول القرآن (يستفتحون) فيه وجوه أحدها: إن معناه يستنصرون أي: يقولون في الحروب: اللهم افتح علينا، وانصرنا بحق النبي الأمي. اللهم انصرنا بحق النبي المبعوث إلينا. فهم يسألون عن الفتح الذي هو النصر وثانيها: إنهم كانوا يقولون لمن ينابذهم: هذا نبي قد أطل زمانه (1) ينصرنا عليكم. وثالثها: إن معنى يستفتحون: يستعلمون من علمائهم صفة نبي يبعث من العرب، فكانوا يصفونه لهم فلما بعث أنكروه. ورابعها: إن معنى يستفتحون يستحكمون ربهم على كفار العرب، كما قال: ألا أبلغ بني عصم رسولا: * فإني عن فتاحتكم غني أي: عن محاكمتكم به. وقوله: (على الذين كفروا) أي: مشركي العرب (فلما جاءهم ما عرفوا) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، أي: عرفوا صفته ومبعثه (كفروا به) حسدا وبغيا، وطلبا للرئاسة (فلعنة الله) أي: غضبه وعقابه (على الكافرين). وقد فسرنا معنى اللعنة والكفر فيما مضى. (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90)). (1) أطل الزمان: قرب. (*)
[ 301 ]
القراءة: قرأ أبو عمرو: (أن ينزل) خفيفة كل القرآن، إلا في الانعام: (أن ينزل آية) فإنه شددها. وقرأ ابن كثير بالتخفيف كل القرآن إلا في سبحان (1)، (وننزل من القران) وحتى (تنزل) فإنه شددها. وقرأ حمزة والكسائي كل القرآن بالتشديد، إلا في الم وحم عسق (ينزل الغيث)، فإنهما قرأها بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد كل القرآن، واتفقوا في الحجر (وما ننزله) أنه مشدد. الحجة: نزل فعل غير متعد، ويعدى بالأضراب الثلاثة، وهي النقل بالهمزة، وتضعيف العين، وحرف الجر. فأنزل ونزل لغتان، ومما عدي بالحرف قوله تعالى: (نزل به الروح الأمين) فيمن رفع الروح. وقد كثر مجئ التنزيل في القرآن، فهذا يقوي نزل، ولم يعلم فيه الإنزال، وكثر فيه مجئ أنزل. اللغة: بئس، ونعم: فعلان ماضيان أصلهما على وزن فعل، وفيها أربع لغات نعم وبئس مثل حمد ونعم وبئس بسكون العين، ونعم وبئس بكسر الفاء والعين، ونعم وبئس واشتروا: افتعلوا من الشراء، وأكثر الكلام شريت بمعنى بعت، واشتريت بمعنى ابتعت. قال يزيد الحميري: وشريت بردا، ليتني * من بعد برد كنت هامه (2) وربما استعمل اشتريت بمعنى بعت، وشريت بمعنى ابتعت، والاكثر ما تقدم. والبغي: أصله الفساد. مأخوذ من قولهم: بغى الجرح إذا فسد. وقيل: أصله الطلب، لأن الباغي يطلب التطاول الذي ليس له ذلك. وسميت الزانية بغيا: لأنها تطلب. والإهانة: الإذلال. الاعراب: قال الزجاج: بئس إذا وقعت على ما جعلت معها ما بمنزلة اسم منكور وإنما كان ذلك في نعم وبئس، لأنهما لا يعملان في اسم علم، إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس، أو اسم فيه ألف ولام، يدل على جنس. وإنما كانت كذلك، لأن نعم مستوفية لجميع المدح وبئس مستوفية لجميع الذم. فإذا قلت: نعم الرجل زيد، فقد قلت استحق زيد المدح الذي (1) أي في سورة الإسراء. (2) برد: اسم غلامه. (*)
[ 302 ]
يكون في سائر جنسه، وكذا إذا قلت: بئس الرجل زيد، دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه، فلم يجز إذ كان يستوفي مدح الأجناس أن يعمل من غير لفظ جنس. فإذا كان معها اسم جنس بغير ألف ولام، فهو نصب أبدا وإذا كانت فيه ألف ولام فهو رفع أبدا، نحو: نعم الرجل زيد، ونعم رجلا زيد. وإنما نصبت رجلا للتمييز. وفي نعم اسم مضمر على شريطة التفسير. ولذلك كانت ما في نعم بغير صلة، لأن الصلة توضح وتخصص، والقصد في نعم أن يليها اسم منكور، أو اسم جنس، فقوله: (بئسما اشتروا به أنفسهم) تقديره بئس شيئا اشتروا به أنفسهم. قال أبو علي: قوله: (ولذلك كانت ما في نعم بغير صلة) يدل على أن (ما) إذا كانت موصولة، لم يجز عنده أن تكون فاعلة نعم وبئس، وذلك عندنا لا يمتنع وجهة جوازه ان ما اسم مبهم يقع على الكثرة، ولا يخصص واحدا بعينه كما أن أسماء الأجناس تكون للكثرة، وذلك في نحو قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله). فالقصد به هنا الكثرة، وإن كان في اللفظ مفردا بدلالة قوله (ويقولون هؤلاء). وتكون معرفة ونكرة كما أن، أسماء الأجناس تكون معرفة ونكرة. وقد أجاز أبو العباس المبرد في الذي أن تلي نعم وبئس إذا كان عاما غير مخصوص، كما في قوله: (والذي جاء بالصدق). وإذا جاز في الذي كان في ما أجوز، فقوله (بئسما اشتروا به أنفسهم) يجوز عندي أن تكون ما موصولة وموضعها رفع بكونها فاعلة لبئس. ويجوز أن تكون منكورة، فتكون (اشتروا) صفة غير صلة، ويدل على صحة ما رأيته قول الشاعر: وكيف أرهب أمرا، أو أراع له، * وقد زكأت إلى بشر بن مروان فنعم مزكأ من ضاقت مذاهبه، * ويعم من هو في سر، وإعلان ألا ترى أنه جعل مزكأ فاعل نعم لما كان مضافا إلى من، وهي تكون عامة غير معينة. وأما قوله: (أن يكفروا بما أنزل الله) فموضعه رفع، وهو المخصوص بالذم. فإن شئت رفعته على أنه مبتدأ مؤخر، وإن شئت على أنه خبر مبتدأ محذوف أي:: هذا الشئ المذموم كفرهم بما أنزل الله. وقوله (بغيا): نصب بأنه مفعول له كقول حاتم: وأغفر عوراء الكريم ادخاره، * وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
[ 303 ]
المعنى أغفر عوراءه لادخاره، وأعرض عن الشتم للتكرم. وموضع أن الثانية نصب على حذف حرف الجر، يعني بغيا لأن ينزل الله أي: من أجل أن ينزل الله. المعنى: ثم ذم الله سبحانه اليهود بإيثارهم الدنيا على الدين، فقال: (بئسما اشتروا به أنفسهم) أي: بئس شيئا باعوا به أنفسهم، أو بئس الشئ باعوا به أنفسهم (أن يكفروا) أي: كفرهم (بما أنزل الله) يعني القرآن، ودين الاسلام المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا سئل: كيف باعت اليهود أنفسها بالكفر ؟ فالجواب: إن البيع والشراء إزالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه، ثم يستعمل ذلك في كل معتاض من عمله عوضا، خيرا كان أو شرا. فاليهود لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهلكوا، خاطبهم الله بما كانوا يعرفونه، فقال: بئس الشئ رضوا به عوضا من ثواب الله، وما أعده لهم لو كانوا آمنوا بالله، وما أنزل الله على نبيه النار وما أعد لهم بكفرهم. ونظير ذلك الآيات في سورة النساء من قوله: (ألم تر الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) - إلى قوله - (وآتيناهم ملكا عظيما). وقوله: (بغيا) أي: حسدا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان من ولد إسماعيل، وكانت الرسل قبل من بني إسرائيل. وقيل: طلبا لشئ ليس لهم. ثم فسر ذلك بقوله: (أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) وهو الوحي والنبوة. وقوله: (فباءوا بغضب على غضب) معناه: رحبت اليهود من بني إسرائيل بعد ما كانوا عليه من الإنتصار (1) بمحمد، والإستفتاح به، والاخبار بأنه نبي مبعوث، مرتدين ناكصين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا، بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم. وقال مؤرج: معنى باءوا بغضب: استوجبوا اللعنة بلغة جرهم. ولا يقال باء مفردة حتى يقال إما بخير وإما بشر. وقال أبو عبيدة: فباؤا بغضب احتملوه، وأقروا به. وأصل البوء: التقرير والاستقرار. وقوله: (على غضب) فيه أقوال أحدها: إن الغضب الأول: حين غيروا التوراة قبل مبعث النبي، والغضب الثاني: حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن عطاء، وغيره. وثانيها: إن الغضب الأول: حين عبدوا العجل، والثاني: حين كفروا بمحمد، عن السدي. وثالثها: إن الأول: حين (1) وفي نسخنا (الإستنصار) بدل (الإنتصار) وهو الظاهر. (*)
[ 304 ]
كفروا بعيسى عليه السلام، والثاني: حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن الحسن، وعكرمة، وقتادة. ورابعها: إن ذلك على التوكيد والمبالغة إذ كان الغضب لازما لهم، فيتكرر عليهم، عن أبي مسلم، والأصم. (وللكافرين عذاب مهين) معناه: للجاحدين بنبوة محمد عذاب مهين من الله إما في الدنيا، وإما في الآخرة. والمهين: هو الذي يذل صاحبه ويخزيه ويلبسه الهوان. وقيل: المهين الذي لا ينتقل منه إلى إعزاز وإكرام. وقد يكون غير مهين إذا كان تمحيصا وتكفيرا ينتقل بعده إلى إعزاز وتعظيم. فعلى هذا من ينتقل من عذاب النار إلى الجنة لا يكون عذابه مهينا. (وإذا قيل لهم ءامنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما رواءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91)). اللغة: ما وراءه أي: ما بعده. قال الشاعر: تمني الأماني ليس شئ وراءها * كموعد عرقوب (1) أخاه بيثرب قال الفراء: معنى وراءه سوى، كما يقال للرجل تكلم بالكلام الحسن ما وراء هذا الكلام شئ يراد ليس عند المتكلم به شئ سوى ذلك الكلام. الاعراب: قوله (مصدقا): نصب على الحال، وهذه حال مؤكدة. قال الزجاج: زعم سيبويه والخليل، وجميع النحويين الموثوق بعلمهم، أن قولك هو زيد قائما، خطا لأن قولك هو زيد، كناية عن اسم متقدم، فليس في الحال فائدة، لأن الحال يوجب هاهنا أنه إذا كان قائما فهو زيد، وإذا ترك القيام فليس بزيد، فهذا خطأ. فأما قولك: هو زيد معروفا، وهو الحق مصدقا، ففي الحال هنا فائدة، كأنك قلت اثبته له معروفا، وكأنه بمنزلة قولك هو زيد حقا. فمعروف حال لأنه إنما يكون زيدا، بأنه يعرف بزيد. وكذلك القرآن هو الحق (1) عرقوب: رجل من قدماء يهود يثرب، معروف بخلف الوعد. وأما ما في قول الأعشى: (مواعيد عرقوب أخاه بيثرب) فقال الحموي: إنهم أجمعوا على روايته بالتاء المثناة. راجع (معجم البلدان: ط. بيروت ج 5 ص 429).
[ 305 ]
إذا كان مصدقا لكتب الرسل عليهم السلام. وقوله: (فلم تقتلون) وإن كان بلفظ الإستقبال، فالمراد به الماضي. وإنما جاز ذلك لقوله (من قبل) وإن بمعنى الشرط، ويدل على جوابه ما تقدم، وتقديره إن كنتم مؤمنين فلم قتلتم أنبياء الله. وقيل: إن بمعنى ما النافية أي: ما كنتم مؤمنين. المعنى: (وإذا قيل لهم) يعني اليهود الذين تقدم ذكرهم (آمنوا) أي: صدقوا (بما أنزل الله) من القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والشرائع التي جاء بها. (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) يعنون التوراة (ويكفرون بما وراءه) أي: يجحدون بما بعده يريد الإنجيل والقرآن، أو بما سوى التوراة من الكتب المنزلة، كقوله سبحانه: (وأحل لكم ما وراء ذلكم). وقال ابن الانباري: تم الكلام عند قوله (بما أنزل علينا) ثم ابتدأ الله بالإخبار عنهم فقال (ويكفرون بما وراءه) أي: بما سواه. (وهو الحق) يعني القرآن (. مصدقا لما معهم) يعني التوراة لأن تصديق محمد، وما أنزل معه من القرآن، مكتوب عندهم في التوراة. وقال الزجاج: وفي هذا دلالة على أنهم قد كفروا بما معهم، إذ كفروا بما يصدق ما معهم. ثم رد الله تعالى عليهم قولهم (نؤمن بما أنزل علينا) فقال: (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) أي: قل يا محمد لهم فلم قتلتم أنبياء الله، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، وأمركم فيه باتباعهم، وفرض عليكم طاعتهم وتصديقهم (إن كنتم مؤمنين) بما أنزل عليكم. وقال الزجاج: إن بمعنى ما هاهنا، كأنه قال: ما كنتم مؤمنين. وهذا وجه بعيد، وإنما قال: (تقتلون) بمعنى قتلتم، لأن لفظ المستقبل يطلق على الماضي، إذا كان ذلك من الصفات اللازمة، كما يقال: أنت تسرق وتقتل، إذا صار ذلك عادة له، ولا يراد بذلك ذمه ولا توبيخه على ذلك الفعل في المستقبل. وإنما يراد به توبيخه على ما مضى، وإنما أضاف إليهم فعل آبائهم وأسلافهم لأحد أمرين: أحدهما: إن الخطاب لمن شهد من أهل ملة واحدة ومن غاب منهم واحد. فإذا قتل أسلافهم الأنبياء، وهم مقيمون على مذهبهم وطريقتهم، فقد شركوهم في ذلك. والاخر: إنهم رضوا بأفعالهم، والراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وهذا المعنى قريب من الأول. وفي هذه الآية دلالة على أن الايمان بكتاب من كتب الله، لا يصح إذا لم يحصل الإيمان بما سواه من كتب الله المنزلة التي هي مثله في اقتران المعجزة به.
[ 306 ]
(ولقد جاءكم موسى بالبينت ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92)). المعنى: ثم حكى سبحانه عنهم ما يدل على قلة بصيرتهم في الدين، وضعفهم في اليقين، فقال: (ولقد جاءكم موسى بالبينات) الدالة على صدقه، والمعجزات المؤيدة لنبوته، كاليد البيضاء وانبجاس الماء من الحجر وفلق البحر وقلب العصا حية والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وسماها بينات لظهورها، وتبينها للناظرين إليها أنها معجزة يتعذر الإتيان بها على كل بشر. وقوله: (ثم اتخذتم العجل) يعني اتخذتم العجل إلها، وعبدتموه (من بعده) أي من بعد موسى لما فارقكم، ومضى إلى ميقات ربه. ويجوز ان يكون الهاء كناية عن المجئ، فيكون التقدير: ثم اتخذتم العجل من بعد مجئ البينات. (وانتم ظالمون) لأنفسكم بكفركم وعبادتكم العجل، لأن العبادة لا تكون لغير الله. (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتينكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمنكم إن كنتم مؤمنين (93)). اللغة: اسمعوا معناه: اقبلوا، ومنه قوله (سمع الله لمن حمده) أي: قبل الله حمد من حمده. وقوله وأشربوا: أصله من الشرب، يقال: شرب وأشرب غيره: إذا حمله على الشرب. وأشرب الزرع أي: سقي. وأشرب قلبه حب كذا. قال زهير: فصحوت عنها بعد حب داخل، * والحب يشربه فؤادك داء الاعراب: قوله (العجل) أي: حب العجل، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ومثله قول الشاعر: حسبت بغام راحلتي عناقا، * وما هي ويب غيرك بالعناق
[ 307 ]
أي: حسبت بغام راحلتي بغام (1) عناق، وقال طرفة: ألا إنني سقيت أسود حالكا * ألا بجلي (2) من الشراب الابجل يريد سقيت سم أسود. قال آخر: وشر المنايا ميت وسط أهله * كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره أي: منية ميت. وقوله: (بئسما يأمركم به إيمانكم) فقد تقدم ذكر إعرإبه وان يجوز أن يكون بمعنى ما، أي: ما كنتم مؤمنين. وجاز أن يكون تقديره إن كنتم مؤمنين فبئسما يأمركم به إيمانكم هذا. المعنى: قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة) قد فسرناه فيما مضى، والفائدة في تكرير هذا وأمثاله التأكيد، وإيجاب الحجة عليهم على عادة العرب في مخاطباتها. وقيل: إنه سبحانه لما عد فضائح اليهود، أعاد ذكر رفع الجبل. وقيل: إنه تعالى إنما ذكر الأول للاعتبار بأخبار من مضى، والثاني للإحتجاج عليهم. وقوله: (واسمعوا) أي: أقلبوا ما سمعتم، واعملوا به، وأطيعوا الله. وقيل: معناه إسمعوا ما يتلى عليكم أي: استمعوا لتسمعوا. وهذا اللفظ يحتمل الإستماع والقبول، ولا تنافي بينهما فيحتمل عليهما، فكأنه قيل: استمعوا لتسمعوا، ثم اقبلوا وأطيعوا. ويدل عليه أنه قال في الجواب عنهم: (قالوا سمعنا وعصينا) وفيه قولان أحدهما: إنهم قالوا هذا القول في الحقيقة استهزاء ومعناه: سمعنا قولك وعصينا أمرك. والثاني: إن حالهم كحال من قال ذلك إذ فعلوا ما دل عليه كما قال الشاعر: (قالت جناحاه لرجليه الحقي)، وإن كان الجناح لا يقول ذلك، وإنما رجع سبحانه عن لفظ الخطاب إلى الخبر عن الغائب، على عادة العرب المألوفة. واختلف في هذا الضمير إلى من يعود، فقيل: إلى اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم قالوا ذلك ثم رجع إلى حديث أوائلهم فقال: (وأشربوا). وقيل: إلى اليهود الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام، إذ ردوا عليه قوله وقابلوه بالعصيان. وقوله: (واشربوا في قلوبهم) فمعناه: دخل قلوبهم (حب العجل) (1) بغام: صوت الإبل ونحوها. (2) بجل: اسم فعل بمعنى حسب. (*)
[ 308 ]
وإنما عبر عن حب العجل بالتسرب دون الاكل، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى بواطنها، والطعام يجاوز الأعضاء، ولا يتغلغل فيها، قال الشاعر: تغلغل حيث لم يبلغ شراب، * ولا حزن، ولم يبلغ سرور وليس المعنى في قوله (وأشربوا) أن غيرهم فعل ذلك بهم، بل هم الفاعلون لذلك كما يقول القائل: أنسيت ذلك، من النسيان، وليس يريد ان غيره فعل ذلك به. ويقال: أوتي فلان علما جما، وإن كان هو المكتسب له. وقوله: (بكفرهم) ليس معناه انهم أشربوا حب العجل جزاء على كفرهم، لأن محبة العجل كفر قبيح، والله سبحانه لا يفعل الكفر في العبد، لا ابتداء ولا جزاء، بل معناه: إنهم كفروا بالله تعالى بما أشربوه من محبة العجل. وقيل: إنما أشرب حب العجل قلوبهم من زينه عندهم، ودعاهم إليه كالسامري، وشياطين الجن والانس. فقوله: (بكفرهم) معناه: لاعتقادهم التشبيه، وجهلهم بالله تعالى، وتجويزهم العبادة لغيره، اشربوا في قلوبهم حب العجل، لأنهم صاروا إلى ذلك لهذه المعاني التي هي كفر. وقول من قال: فعل الله ذلك بهم عقوبة ومجازاة، غلط فاحش، لأن حب العجل ليس من العقوبة في شئ ولا ضرر فيه. وقوله: (قل بئسما يأمركم به إيمانكم) معناه: قل يا محمد لهؤلاء اليهود: بئس الشئ الذي يأمركم به إيمانكم، إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله، والتكذيب بكتبه وجحد ما جاء من عنده. ومعنى إيمانهم تصديقهم بالذي زعموا أنهم مصدقون به من كتاب الله بقولهم: (نؤمن بما أنزل علينا). وقوله: (إن كنتم مؤمنين) أي: مصدقين كما زعمتم بالتوراة. وفي هذا نفي عن التوراة أن يكون يأمر بشئ يكرهه الله من أفعالهم، وإعلام بأن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، ويحملهم عليه آراؤهم. (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94)). اللغة: الخالصة: الصافية. يقال: خلص لي هذا الأمر أي: صار لي وحدي، وصفا لي يخلص خلوصا وخالصة مصدر كالعافية. واصل الخلوص: أن يصفو الشئ من كل شائبة. ودون: يستعمل على ثلاثة أوجه: أن يكون الشئ دون الشئ في المكان، وفي الشرف، وفي الإختصاص، وهو المراد في الآية. والتمني: من جنس الأقوال عند أكثر المتكلمين، وهو أن يقول
[ 309 ]
القائل لما كان: ليته لم يكن، ولما لم يكن ليته كان. وقال أبو هاشم: هو معنى في القلب. ولا خلاف في أنه ليس من قبيل الشهوة. الاعراب: (خالصة): نصب على الحال. المعنى: ثم عاد سبحانه إلى الإحتجاج على اليهود بما فضح به أخبارهم وعلماءهم، ودعاهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فقال: (قل) يا محمد لهم (إن كانت) الجنة (خالصة) لكم (دون الناس) كلهم، أو دون محمد وأصحابه، كما ادعيتم بقولكم: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، وكنتم صادقين في قولكم (نحن أبناء الله وأحباؤه)، وان الله لا يعذبنا (فتمنوا الموت) لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة قطعا، كان الموت أحب إليه من حياة الدنيا التي فيها أنواع المشاق والهموم، والآلام والغموم. ومن كان على يقين أنه إذا مات تخلص منها، وفاز بالنعيم المقيم، فإنه يؤثر الموت على الحياة. ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يطوف بين الصفين بصفين في غلالة (1)، لما قال له الحسن ابنه ما هذا زي الحرب: " يا بني ! إن أباك لا يبالي وقع على الموت، أو وقع الموت عليه ". وقول عمار بن ياسر بصفين أيضا: الان ألاقي الأحبة محمدا وحزبه. وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيرا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي) فإنما نهى عن تمني الموت، لأنه يدل على الجزع والمأمور به الصبر، وتفويض الأمور إليه تعالى، ولأنا لا نأمن وقوع التقصير فيما أمرنا به، ونرجو في البقاء التلافي. (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظلمين (95)). الاعراب: (أبدا): نصب على الظرف أي: طول عمرهم، يقول القائل: لا أكلمك أبدا، يريد ما عشت. وما بمعنى الذي أي: بالذي قدمت أيديهم. ويجوز أن يكون ما بمعنى المصدر فيكون المراد بتقدمة أيديهم. المعنى: أخبر الله سبحانه عن هؤلاء الذي قيل لهم: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) بأنهم لا يتمنون ذلك أبدا بما قدموه من المعاصي والقبائح، (1) الغلالة: شعار يلبس تحت الثوب. أو تحت الدرع. (*)
[ 310 ]
وتكذيب الكتاب والرسول، عن الحسن، وأبي مسلم. وقيل: بما كتموا من صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن ابن جريج. وأضاف ذلك إلى اليد، وإن كانوا إنما فعلوا ذلك باللسان، لأن العرب تقول: هذا ما كسبت يداك، وإن كان ذلك حصل باللسان. والوجه فيه ان الغالب أن تحصل الجناية باليد، فيضاف بذلك إليها ما يحصل بغيرها. وقوله: (والله عليم بالظالمين) خصص الظالمين بذلك، وإن كان عليما بهم وبغيرهم، بأن الغرض بذلك الزجر والتهديد، كما يقول الانسان لغيره: إني عارف بصير بعملك. وقيل: معناه إن الله عليم بالأسباب التي منعتهم عن تمني الموت، وبما أضمروه وأسروه من كتمان الحق عنادا، مع علم كثير منهم أنهم مبطلون. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار، فقال الله سبحانه إنهم لن يتمنوه أبدا تحقيقا لكذبهم ". وفي ذلك أعظم دلالة على صدق نبينا وصحة نبوته، لأنه أخبر بالشئ قبل كونه، فكان كما أخبر. وأيضا فإنهم كفوا عن التمني للموت، لعلمهم بأنه حق، وأنهم لو تمنوا الموت لماتوا. وروى الكلبي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول لهم: " إن كنتم صادقين في مقالتكم، فقولوا اللهم أمتنا، فوالذي نفسي بيده، لا يقولها رجل إلا غص بريقه (1) فمات مكانه ". وهذه القصة شبيهة بقصة المباهلة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دعا النصارى إلى المباهلة، امتنعوا لقلة ثقتهم بما هم عليه، وخوفهم من صدق النبي صلى الله عليه واله وسلم في قوله: (لو باهلوني لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا " فلما لم يتمن اليهود الموت افتضحوا، كما أن النصارى لما أحجموا عن المباهلة افتضحوا، وظهر الحق. فإن قيل: من أين علمتم أنهم لم يتمنوا الموت بقلوبهم ؟ فالجواب: إن من قال التمني هو القول، فالسؤال ساقط عنه. ومن قال هو معنى في القلب، قال: لو تمنوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم، حرصا منهم على تكذيبه في إخباره، ولأن تحديهم بتمني الموت إنما وقع بما يظهر على اللسان، وكان يسهل عليهم أن يقولوا ليت الموت نزل بنا. فلما عدلوا عن ذلك، ظهر صدقه صلى الله عليه وآله وسلم ووضحت حجته. (1) غص بريقه: اعترض في حلقه. (*)
[ 311 ]
(ولتجدنهم أحرص الناس على حيوة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون (96)). اللغة: وجده، وصادفه، وألفاه، نظائر. يقال: وجدت الشئ وجدانا: إذا أصبته. ويقال: وجدت بمعنى علمت. والحرص: شدة الطلب. ورجل حريص، وقوم حراص. والمودة: المحبة، يقال: وددت الرجل أوده ودا وودا وودادا وودادة ومودة. والتعمير: طول العمر. والعمر والعمر لغتان، وأصله من العمارة: الذي هو ضد الخراب. فالعمر: المدة التي يعمر فيها البدن بالحياة. والألف: من التأليف، سمي بذلك العدد ضم مائة عشر مرات. والزحزحة: التنحية، يقال: زحزحته فتزحزح. وقال الشاعر (1): وقالوا تزحزح لا بنا فضل حاجة * إليك، ولا منا لوهيك راقع والبصير: بمعنى المبصر، كما أن السميع: بمعنى المسمع، ولكنه صرف إلى فعيل، ومثله بديع السماوات: بمعنى المبدع. والعذاب الأليم: بمعنى المؤلم، هذا في اللغة. وعند المتكلمين: المبصر هو المدرك للمبصرات، والبصير هو الحي الذي لا آفة به، فهو ممن يجب أن يبصر المبصرات إذا وجدت، وليس أحدهما هو الآخر، وكذلك القول في السميع والسامع. الاعراب: (لتجدنهم): اللام لام القسم، والنون للتأكيد، وتقديره: والله لتجدنهم. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله (لتفعلن) إذا جاءت مبتدأ، فقال: هي على نية القسم. وهذه اللام إذا دخلت على المستقبل لزمته في الأمر الأكثر بالنون، وإذا كان وجدت بمعنى وجدان الضالة يعدى إلى مفعول واحد، كفقدت الذي هو ضده، فينتصب (أحرص) على الحال. وإذا كان بمعنى علمت، تعدى إلى مفعولين ثانيهما عبارة عن الأول، فيكون (أحرص) هو المفعول الثاني، وهو الأصح. وقوله: (ومن الذين أشركوا): قال الفراء: يريد وأحرص من الذين أشركوا (1) هو: الحطيئة. (*)
[ 312 ]
أيضا كما يقال: هو أسخى الناس، ومن حاتم ومن هرم، لأن تأويل قولك أسخى الناس، إنما هو أسخى الناس. وقال الزجاج: تقديره ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا. وقيل: إنما دخلت من في قوله (ومن الذين أشركوا)، ولم يدخل في قوله (أحرص الناس)، لأنهم بعض الناس، والاضافة في باب أفعل لا يكون إلا كذلك. تقول: الياقوت أفضل الحجارة، ولا تقول: الياقوت أفضل الزجاج، بل تقول: أفضل من الزجاج، فلذلك قال: (ومن الذين أشركوا)، لأن اليهود ليسوا هم بعض المجوس، وهم بعض الناس. وقوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) فيه وجوه أحدها: إن هو كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره، و (أن يعمر) في موضع رفع بأنه فاعل تقديره وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره، كما يقال: مررت برجل معجب قيامه. وثانيها: إنه كناية عما جرى ذكره من طول العمر. وقوله (أن يعمر) بيان لقوله هو، وتقديره: وما تعميره بمزحزحه من العذاب، وكأنه قيل: وما هو الذي ليس بمزحزحه، فقيل: هو التعمير. وثالثها: إنه عماد و (أن يعمر) في موضع الرفع بأنه مبتدأ، وبمزحزحه خبره. ومنع الزجاج هذا القول الأخير قال: لا يجيز البصريون ما هو قائما زيد، وما هو بقائم زيد، بمعنى الأمر والشأن. وقال غيره: إذا كانت ما غير عاملة في الباء، جاز كقولهم: ما بهذا بأس. المعنى: ثم أخبر سبحانه عن أحوال اليهود، فقال: (ولتجدنهم) أي: ولتعلمن يا محمد هولاء اليهود. وقيل: يعني به علماء اليهود (أحرص الناس على حيوة) أي: أحرصهم على البقاء في الدنيا، أشد من حرص سائر الناس. (ومن الذين أشركوا) أي: ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا، وهم المجوس، ومن لا يؤمن بالبعث. وقال أبو علي الجبائي: إن الكلام تم عند قوله (على حيوة). وقوله: (ومن الذين أشركوا) تقديره ومن اليهود الذين أشركوا من يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، فحذف من. وقال علي بن عيسى: هذا غير صحيح، لأن حذف من لا يجوز في مثل هذا الموضع. وقال أبو مسلم الاصفهاني: إن في هذا الكلام تقديما وتأخيرا، وتقديره ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا، أحرص الناس على حياة. وأقول: إذا جاز ها هنا أن يحذف الموصوف الذي هو طائفة، وتقام الصفة
[ 313 ]
مقامه، وهو قوله (من الذين أشركوا) فليجز على ما ذهب إليه الجبائي، أن يكون تقديره: ومن الذين أشركوا طائفة يود أحدهم، فيحذف الموصوف، ويقام صفته الذي هو (يود أحدكم لو يعمر ألف سنة) مقامه، فيصح على هذا تقدير الحذف، ويستوي القولان من حيث الصورة والصفة، ويختلفان من حيث المعنى، ويكون من هنا هي الموصوفة لا الموصولة كما قدره الجبائي. وقوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ذكر الألف لأنها نهاية ما كانت المجوس يدعو به بعضهم لبعض، وتحيى به الملوك، يقولون: عش ألف نوروز وألف مهرجان. قال ابن عباس: هو قول أحدهم لمن عطس: (هزار سال بزي). يقال: فهولاء الذين يزعمون (1) أن لهم الجنة لا يتمنون الموت، وهم أحرص ممن لا يؤمن بالبعث. وكذلك يجب أن يكون هؤلاء، لعلمهم بما أعد الله لهم في الآخرة من الجحيم، والعذاب الأليم، على كفرهم وعنادهم، مما لا يقر به أهل الشرك. فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، وعلى الحياة أحرص لهذه العلة. وقوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) أي: وما أحدهم بمنجيه من عذاب الله، ولا بمبعده منه تعميره، وهو أن يطول له البقاء، لأنه لا بد للعمر من الفناء. هذا هو أحسن الوجوه التي تقدم ذكرها. (والله بصير بما يعملون) أي: عليم بأعمالهم، لا يخفى عليه شئ منها، بل هو محيط بجميعها، حافظ لها، حتى يذيقهم بها العذاب. وفي هذه الآية دلالة على أن الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا ونحوه مذموم، وإنما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة، وتلافي الفائت بالتوبة والإنابة، ودرك السعادة بالإخلاص في العبادة، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (بقية عمر المؤمن لا قيمة له يدرك بها ما فات، ويحيي بها ما أمات). (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا (1) وفي نسخنا المخطوطة: (يدعون) بدل (يزعمون). (*)
[ 314 ]
لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكل فإن الله عدو للكافرين (98)). القراءة: قرأ ابن كثير: (جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، إلا يحيى: (جبرئيل) بفتح الجيم والراء مهموزا على زنة جبرعيل. وروى يحيى كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمز، فصار مثل جبرعل. والباقون بكسر الجيم والراء وبعدها ياء من غير همزة. وقرأ أهل المدينة: (ميكائل) بهمزة مكسورة بعد الألف على زنة ميكاعل. وقرأ أهل البصرة: (ميكال) بغير همز ولا ياء. والباقون بإثبات ياء ساكنة بعد الهمزة على زنة ميكاعيل. الحجة: قال أبو علي: روينا عن أبي الحسن أنه قال في جبريل ست لغات: جبرائيل، وجبرائل، وجبرئل، وجبرال، وجبرئيل، وجبريل. فمن قال جبريل، كان على لفظ قنديل وبرطيل. ومن قال جبرئيل، كان على وزن عندليب. ومن قال جبرئل كان على وزن جحمرش. ومن قال ميكال على وزن قنطار. وميكائيل وجبرائيل خارج عن كلام العرب. وهذه الأسماء معربة فإذا أتى بها على ما في أبنية العرب مثله، كان أذهب في باب التعريب. وقد جاء في أشعارهم ما هو على لفظ التعريب، وما هو خارج عن ذلك. قال: عبدوا الصليب، وكذبوا بمحمد، * وبجبرئيل، وكذبوا ميكالا وقال حسان: وجبريل رسول الله منا، * وروح القدس ليس له كفاء اللغة: جبرئيل وميكائيل: اسمان أعجميان عربا. وقيل: جبر في اللغة السريانية هو العبد، وإيل: هو الله. وميك: هو عبيد. فمعنى جبريل: عبد الله. ومعنى ميكائيل: عبيد الله. وقال أبو علي الفارسي: هذا لا يستقيم من وجهين أحدهما: إن إيل لا يعرف من أسماء الله تعالى في اللغة العربية. والآخر: إنه لو كان كذلك، لكان آخر الاسم مجرورا أبدا، كقولهم: عبد الله. والبشرى والبشارة: الخبر السار، أول ما يرد فيظهر ذلك في بشرة الوجه.
[ 315 ]
الاعراب: جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدوا لجبرائيل فليمت غيظا، فإنه نزل الوحي على قلبك بإذن الله. والهاء في قوله (فإنه) تعود إلى جبريل. والهاء في (نزله) تعود إلى القرآن. وإن لم يجر له ذكر، كما أن الهاء في قوله تعالى: (ما ترك على ظهرها من دابة) تعود إلى الأرض. ويجوز أن يكون على معنى جبرئيل، وتقديره فإن الله نزل جبريل على قلبك، لا أنه نزل بنفسه، والأول أصح. ونصب (مصدقا) على الحال من الهاء في (نزله). وهو ضمير القرآن، أو جبريل عليه السلام. النزول: قال ابن عباس: كان سبب نزول هذه الآية ما روي أن ابن صوريا، وجماعة من يهود أهل فدك، لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، سألوه فقالوا: يا محمد ! كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان ؟ فقال: تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة ؟ فقال: أما العظام والعصب والعروق، فمن الرجل، وأما اللحم والدم والظفر والشعر، فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمد، فما بال الولد يشبه أعمامه، ليس فيه من شبه أخواله شئ، أو يشبه أخواله، وليس فيه من شبه أعمامه شئ ؟ فقال: أيهما علا ماؤه، كان الشبه له. قالوا: صدقت يا محمد. قالوا: فأخبرنا عن ربك ما هو ؟ فأنزل الله سبحانه (قل هو الله أحد) إلى آخر السورة. فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك، واتبعتك: أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك ؟ قال فقال: جبريل. قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك. المعنى: فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا لليهود، وردا عليهم، فقال: (قل) لهم يا محمد (من كان عدوا لجبريل) إذا كان هو المنزل للكتاب عليك (فإنه نزله على قلبك بإذن الله) لا من تلقاء نفسه، وإنما أضافه إلى قلبه، لأنه إذا أنزل عليه كان يحفظه ويفهمه بقلبه. ومعنى قوله (بإذن اللله) بأمر الله. وقيل: أراد بعلمه، أو بإعلام الله إياه ما ينزل على قلبك. وقوله: (مصدقا لما بين يديه) معناه: موافقا لما بين يديه من الكتب، ومصدقا له بأنه حق، وبأنه من عند الله، لا مكذبا لها. (وهدى وبشرى للمؤمنين) معناه: إن كان فيما أنزله الأمر بالحرب والشدة
[ 316 ]
على الكافرين، فإنه هدى وبشرى للمؤمنين. وإنما خص الهدى بالمؤمنين من حيث كانوا هم المهتدين به، العاملين (1) بما فيه، وإن كان هدى لغيرهم أيضا. وقيل: أراد بالهدى الرحمة والثواب، فلذلك خصه بالمؤمنين، ومعنى البشرى أن فيه البشارة لهم بالنعيم الدائم. وإن جعلت مصدقا، وهدى، وبشرى، حالا لجبريل، فالمعنى أنه يصدق بكتب الله الاولى، ويأتي بالهدى والبشرى. وإنما قال سبحانه (على قلبك)، ولم يقل على قلبي، على العرف المألوف، كما تقول لمن تخاطبه: لا تقل للقوم إن الخبر عندك، ويجوز أن تقول لا تقل لهم إن الخبر عندي، وكما تقول قال القوم جبريل عدونا. ويجوز أن تقول قالوا جبريل عدوهم. وأما قوله تعالى: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله) فمعناه: من كان معاديا لله، أي: يفعل فعل المعادي من المخالفة والعصيان، فإن حقيقة العداوة طلب الاضرار به، وهذا يستحيل على الله تعالى. وقيل: المراد به معاداة أوليائه كقوله (إن الذين يؤذون الله). وقوله (وملائكته) أي: ومعاديا لملائكته ورسله (وجبريل وميكال). وإنما أعاد ذكرهما لفضلهما ومنزلتهما، كقوله تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان). وقيل: إنما أعاد ذكرهما لأن اليهود قالت: جبريل عدونا، وميكائيل ولينا. فخصهما الله بالذكر، لأن النزاع جرى فيهما فكان ذكرهما أهم، ولئلا تزعم اليهود أنهما مخصوصان من جملة الملائكة، وليسا بداخلين في جملتهم، فنص الله تعالى عليهما ليبطل ما يتأولونه من التخصيص. ثم قال: (فإن الله عدو للكافرين) ولم يقل فإنه. وكرر اسم الله لئلا يظن أن الكناية راجعة إلى جبرائيل. أو ميكائيل، ولم يقل لهم، لأنه قد يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان. وقد طعن بعض الملحدة في هذا، فقال: كيف يجوز أن يقول عاقل أنا عدو جبريل ؟ وليس هذا القول من اليهود بمستنكر ولا عجب، مع ما أخبر الله تعالى عن قولهم، بعد مشاهدتهم فلق البحر، والآيات الخارقة للعادة: (إجعل لنا إلها كما لهم آلهة)، وقولهم: (أرنا الله جهرة)، وعبادتهم العجل، وغير ذلك من جهالاتهم. (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون (99)). (1) وفي جملة من النسخ: " العالمين " بدل " العاملين ". (*)
[ 317 ]
اللغة: الآية: العلامة التي فيها عبرة. وقيل: العلامة التي فيها الحجة. والبينة: الدلالة الفاصلة الواضحة بين القضية الصادقة والكاذبة، مأخوذة من إبانة أحد الشيئين من الآخر ليزول التباسه به. الاعراب: (قد): تدخل في الكلام لأحد أمرين: أحدهما: لقوم يتوقعون الخبر، والآخر: لتقريب الماضي من الحال، تقول: خرجت وقد ركب الأمير. وهي هنا مع لام القسم على تقدير قوم يتوقعون الخبر، لأن الكلام إذا خرج ذلك المخرج، كان أوكد وأبلغ. النزول: قال ابن عباس: إن ابن صوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا محمد ! ما جئتنا بشئ نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها فأنزل الله هذه الآية. المعنى: يقول: (ولقد أنزلنا إليك) يا محمد (آيات) يعني سائر المعجزات التي أعطيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البلخي. وقيل: هي القرآن وما فيها من الدلالات، عن أبي مسلم، وأبي علي. وقيل: هي علم التوراة والانجيل والإخبار عما غمض مما في كتب الله السالفة، عن الأصم، كقوله تعالى: (يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب). (بينات) أي: واضحات تفصل بين الحق والباطل. (وما يكفر بها إلا الفاسقون) ومعناه: الكافرون، وإنما سمي الكفر فسقا، لأن الفسق خروج من شئ إلى شئ، واليهود خرجوا من دينهم وهو دين موسى بتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإنما لم يقل الكافرون، وإن كان الكفر أعظم من الفسق، لأحد أمرين أحدهما: إن المراد أنهم خرجوا عن أمر الله إلى ما يعظم من معاصيه. والثاني: إن المراد به أنهم الفاسقون المتمردون في كفرهم، لأن الفسق لا يكون إلا أعظم الكبائر، فإن كان في الكفر فهو أعظم الكفر، وإن كان فيما دون الكفر، فهو أعظم المعاصي. (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100)). اللغة: النبذ: طرحك الشئ عن يدك أمامك أو خلفك. والمنابذة: انتباذ الفريقين للحرب، ونابذناهم الحرب. والمنبذون: هم الأولاد الذين
[ 318 ]
يطرحون. والمنابذة في البيع منهي عنها، وهو كالرمي كأنه إذا رمى به، وجب البيع له: وسمي النبيذ نبيذا: لأن التمر كان يلقى في الجرة وغيرها. وقيل: معنى نبذه تركه. وقيل: ألقاه. قال أبو الأسود الدؤلي: نظرت إلى عنوانه، فنبذته، * كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا الاعراب: الواو في قوله (أو كلما) عند سيبويه وأكثر النحويين: واو العطف، إلا أن ألف الإستفهام دخلت عليها، لأن لها صدر الكلام، وهي أم حروف الإستفهام بدلالة أن هذه الواو تدخل على هل تقول: وهل زيد عالم، لأن الألف أقوى منها. وقال بعضهم: يحتمل أن تكون زائدة كزيادة الفاء في قولك أفالله ليفعلن، والأول أصح، لأنه لا يحكم على الحرف بالزيادة مع وجود معنى من غير ضرورة. ونصب (كلما) على الظرف، والعامل فيه (نبذه) ولا يجوز أن يعمل فيه (عاهدوا) لأنه متمم لما إما صلة، وإما صفة. المعنى: أخبر الله سبحانه عن اليهود أيضا، فقال: (أو كلما عاهدوا) الله (عهدا) أراد به العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبي الأمي، عن ابن عباس. وكلما: لفظ يقتضي تكرر النقض منهم. وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين اليهود، فنقضوها كفعل قريظة والنضير عاهدوا أن لا يعينوا عليه أحدا، فنقضوا ذلك، وأعانوا عليه قريشا يوم الخندق. (نبذه فريق منهم) أي: نقضه جماعة منهم (بل أكثرهم) أي: أكثر المعاهدين (لا يؤمنون). ولا تعود الهاء والميم إلى فريق إذ كانوا كلهم غير مؤمنين. فأما المعاهدون فمنهم من آمن كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما. فأما وجه دخول (بل) على قوله (بل أكثرهم) فإنه لأمرين أحدهما: إنه لما نبذه فريق منهم، دل على أن ذلك الفريق كفر بالنقض، فقال: بل أكثرهم كفار بالنقض الذي فعلوه، وإن كان بعضهم نقضه جهلا، وبعضهم نقضه عنادا. والثاني: إنه أراد كفر فريق منهم بالنقض، وكفر أكثرهم بالجحد للحق، وهو أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يلزم من اتباعه، والتصديق به.
[ 319 ]
(ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق ما معهم نبذ فريق من الذين أوتو الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101)). الاعراب: (لما): في موضع نصب بأنه ظرف، ويقع به الشئ بوقوع غيره. والعامل فيه نبذ. و (مصدق): رفع لأنه صفة لرسول، لأنهما نكرتان، ولو نصب لكان جائزا، لأن (رسول) قد وصف بقوله (من عند الله) فلذلك يحسن نصبه على الحال، إلا أنه لا يجوز في القراءة إلا الرفع، لأن القراءة سنة متبعة. وموضع (ما) جر باللام. و (مع) صلة لها. والناصب لمع معنى الإستقرار، والمعنى لما استقر معهم. المعنى: (ولما جاءهم) أي: ولما جاء اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (رسول من عند الله) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، عن أكثر المفسرين. وقيل: أراد بالرسول الرسالة كما قال كثير: فقد كذب الواشون، ما بحت عندهم * بليلى، وما أرسلتهم لرسول قال علي بن عيسى: وهذا ضعيف لأنه خلاف الظاهر، قليل في إلاستعمال. وقوله: (مصدق لما معهم) يحتمل أمرين أحدهما: إنه مصدق لكتبهم من التوراة والإنجيل، لأنه جاء على الصفة التي تقدمت بها البشارة والثاني: إنه مصدق للتوراة بأنها حق من عند الله، لأن الاخبار ها هنا إنما هو عن اليهود دون النصارى، والأول أحسن، لأن فيه حجة عليهم. وقوله: (نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب) أي: ترك وألقى طائفة منهم. وإنما قال (من الذين اوتوا الكتاب)، ولم يقل منهم، وقد تقدم ذكرهم، لأنه يريد به علماء اليهود، فأعاد ذكرهم لاختلاف المعنى. وقيل: إنه لم يكن عنهم للبيان لما طال الكلام. وقوله: (كتاب الله) يحتمل أن يريد به التوراة، ويحتمل أن يريد به القرآن. وقوله: (وراء ظهورهم) كناية عن تركهم العمل به. قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرأونه، ولكن نبذوا العمل به. وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ، هذا إذا حمل الكتاب على التوراة. وقال أبو مسلم: لما جاءهم الرسول بهذا الكتاب،
[ 320 ]
فلم يقبلوه، صاروا نابذين للكتاب الأول أيضا الذي فيه البشارة به. وقال السدي: نبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت، يعني أنهم تركوا ما تدل عليه التوراة من صفة النبي صلى الله عليه واله وسلم. وقال قتادة، وجماعة من أهل العلم: إن ذلك الفريق كانوا معاندين، وإنما ذكر فريقا منهم، لأن الجمع العظيم والجم الغفير والعدد الكثير لا يجوز عليهم كتمان ما علموه مع اختلاف الهمم، وتشتت الآراء، وتباعد الأهواء، لأنه خلاف المألوف من العادات، إلا إذا كانوا عددا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكتمان. وقوله: (كأنهم لا يعلمون) أي: لا يعلمون أنه صدق وحق، والمراد أنهم علموا وكتموا بغيا وعنادا. وقيل: المراد كأنهم لا يعلمون ما عليهم في ذلك من العقاب. وقيل: المراد كأنهم لا يعلمون ما في كتابهم أي: حلوا محل الجاهل بالكتاب. (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)). القراءة: قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: (ولكن الشياطين كفروا)، (ولكن الله قتلهم)، (ولكن الله رمى) بتخفيف النون من (لكن) ورفع الإسم بعدها. والباقون بالتشديد. وروي في الشواذ: (على الملكين) بكسر اللام، عن ابن عباس، وإلحسن. الحجة: قال أبو علي: إعلم أن لكن لا نعلم شيئا على مثاله في الأسماء، ولا في الأفعال، وهي مثل إن في أنها مثقلة، ثم تخفف، إلا أن إن وأن إذا خففتا، فقد ينصب بهما كما كان ينصب بهما مثقلتين، وإن كان غير
[ 321 ]
الإعمال أكثر. ولم نعلم أن أحدا حكى النصب في لكن إذا خففت، فيشبه إن والنصب لم يجئ في هذا الحرف مخففا، ليكون ذلك دلالة على أن الأصل في هذه الحروف أن لا تعمل إذا خففت، لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف. ولكن وإن لم يشابه الفعل، فإن فيه ما يشبه الفعل إذا فصلته (1) كقولهم: أراك منتفخا أريد أن تفخ مثل كتف (2)، فقدر منفصلا، ثم خفف. كذلك يقدر في لكن الإنفصال فيشبه ليت وإن. اللغة: اتبعه: اقتدى به. وتتلو معناه: تتبع، لأن التالي تابع. وقيل: معناه تقرأ من تلوت كتاب الله أي: قرأته. قال الله تعالى: (هنالك تتلو (3) كل نفس ما أسلفت) أي: تتبع. وقال حسان بن ثابت: نبي يرى ما لا يرى الناس حوله، ويتلو كتاب الله في كل مشهد والسحر، والكهانة، والحيلة، نظائر، يقال: سحره يسحره سحرا. وقال صاحب العين: السحر عمل يقرب إلى الشياطين، ومن السحر الاخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما ترى، وليس الأمر كما ترى، والجمع الاخذ. فالسحر: عمل خفي لخفاء سببه، يصور الشئ بخلاف صورته، ويقلبه عن جنسه في الظاهر، ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى). والسحر: الغذاء، قال امرؤ القيس: أرانا موضعين لحتم غيب، * ونسحر بالطعام، وبالشراب والسحر أيضا: الرئة، يقال للجبان: انتفخ سحره. والفتنة والإمتحان والإختبار نظائر، يقال: فتنته فتنة وأفتنه، قال أعشى همدان فجاء باللغتين: لقد فتنتني، وهي بالأمس أفتنت * سعيدا، فأمسى قد قلا كل مسلم وفتنت الذهب في النار: إذا اختبرته فيها لتعلم أخالص هو أم مشوب. فقيل لكل ما أحميته في النار: فتنة. وفتنت الخبزة في النار: أنضجتها، ومنه قوله: (يوم هم على النار يفتنون) أي: يشوون. وتعلم: قد تكون بمعنى اعلم، كما قيل: علمت وأعلمت بمعنى، وكذلك فهمت وأفهمت، قال كعب بن زهير: (1) أي: فصلت منه اللام. (2) وفي الكتف لغتان أخراوان أيضا: سكون العين مع فتح الأول أو كسره. (3) بالتاء على قراءة أهل الكوفة. (*)
[ 322 ]
تعلم رسول الله أنك مدركي، * وأن وعيدا منك كالاخذ باليد وقيل: ان بينهما فرقا: فمعنى تعلم تسبب إلى ما به تعلم من النظر في الأدلة، وليس في إعلم ما لا يسبق المحدث محدث. وتقول في الأول: تعلم النحو والفقه. والمرء: تأنيثه المرأة ويقال مرة بلا ألف. والضرر، والالم، والأذى، نظائر. والضرر: نقيض النفع، يقال: ضره يضره ضرا، وأضر به إضرارا، واضطره إليه اضطرارا. قال صاحب العين: والضر لغتان. فإذا ضممت إليه النفع، فتحت الضاد. والضرير: الذاهب البصر من الناس، يقال: رجل ضرير بين الضرارة. وفي الحديث: " لا ضرر ولا ضرار ". وضريرا الوادي: جانباه. وكل شئ دنا منك حتى يزحمك فقد أضر بك. وأصل الباب الإنتقاص. والاذن في اللغة على ثلاثة أقسام أحدها: بمعنى العلم كقوله: (فأذنوا بحرب من الله) أي: فاعلموا. وقال الحطيئة: ألا يا هند إن جددت وصلا، * وإلا فأذنيني بانصرام والثاني: بمعنى الإباحة والإطلاق، كقوله تعالى (فانكحوهن بإذن أهلهن). والثالث: بمعنى الأمر كقوله: (نزله على قلبك بإذن الله). والنفع والمنفعة واللذة نظائر. وحد النفع هو كل ما يكون به الحيوان ملتذا، إما لأنه لذة، أو يؤدي إلى لذة. وحد الضرر: كل ما يكون به الحيوان ألما إما لأنه ألم، أو يؤدي إلى ألم. والخلاق: النصيب من الخير، قال أمية بن أبي الصلت: يدعون بالويل فيها، لا خلاق لهم، * إلا سرابيل من قطر، وأغلال الاعراب: قوله (ما تتلو) فيه وجهان أحدهما: أن تكون (تتلو) بمعنى تلت، وإنما جاز ذلك لما علم من اتصال الكلام بعهد سليمان فيمن قال إن المراد على عهد ملك سليمان، أو في زمن ملك سليمان، أو بملك سليمان، فيمن لم يقدر حذف المضاف، فدل ذلك على أن مثال المضارع أريد به الماضي. قال سيبويه: قد تقع يفعل في موضع فعل، كقول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني، * فمضيت ثقة قلت: لا يعنيني والوجه الآخر: أن يكون يفعل على بابه لا يريد به فعل، ولكنه حكاية حاول وإن كان ماضيا، كقوله: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم)، فيسومونكم:
[ 323 ]
حكاية للحال في الوقت الذي كانت فيه، وإن كان آل فرعون منقرضين في وقت هذا الخطاب، ومن هذا ما أنشده ابن الاعرابي: جارية في رمضان الماضي * تقطع الحديث بالإيماض (1) وقوله (وما أنزل): ذكر في (ما) ثلاثة أقوال أحدها: إنه بمعنى الذي و (أنزل) صلته، وموضعه نصب بكونه معطوفا على السحر. وقيل: إنه معطوف على قوله (ما تتلو الشياطين). وثانيها: إنه بمعنى أيضا، وموضعه جر ويكون معطوفا بالواو على ملك سليمان. وثالثها: إنه بمعنى الجحد والنفي، وتقديره: وما كفر سليمان، ولم ينزل الله السحر على الملكين. و (بابل): اسم بلد لا ينصرف للتعريف والتأنيث. وقوله (فيتعلمون): لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الفعل معطوفا بالفاء على فعل قبله، أو يكون خبر مبتدأ محذوف. والفعل الذي قبله لا يخلو: إما أن يكون كفروا من قوله (ولكن الشياطين كفروا) فيجوز أن يكون (فيتعلمون) معطوفا عليه، لأن (كفروا) في موضع رفع بكونه خبر لكن، فعطف عليه بالمرفوع، وهو قول سيبويه. فأما (يعلمون) فيجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من كفروا أي: كفروا في حال تعليمهم، ويجوز أن يكون بدلا من كفروا، لأن تعليم الشياطين كفر في المعنى. وإذا كان كذلك جاز البدل فيه إذا كان إياه في المعنى، كما كان مضاعفة العذاب لما كان لقي الآثام في قوله (ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب)، جاز إبداله منه. وإما أن يكون الفعل الذي عطف عليه يتعلمون قوله يعلمون، وهو قول الفراء. وأنكر الزجاج هذا القول قال: لأن قوله (منهما) دليل على التعلم من الملكين خاصة. قال أبو علي: فهذا يدخل على قول سيبويه أيضا، كما يدخل على قول الفراء، لأنهما جميعا قالا بعطفه على فعل الشياطين. قال: وهذا الإعتراض ساقط من جهتين إحداهما: إن التعلم، وإن كان من الملكين خاصة، فلا يمتنع أن يكون قوله (فيتعلمون) عطف على (كفروا)، وعلى (يعلمون)، وإن كان متعلقا بهما، وكان الضمير في منهما راجعا إلى الملكين. فإن قلت: كيف يجوز هذا ؟ وهل يسوغ أن يقدر هذا التقدير، ويلزمك أن يكون النظم: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما، فتضمر (1) أومض إيماضا الرجل: أشار إشارة خفية، رمزا أو غمضا. (*)
[ 324 ]
الملكين قبل ذكرهما. والإضمار قبل الذكر غير جائز. وإن لزمك في هذا القول الإضمار قبل الذكر، وكان ذلك غير جائز، لزم أن لا تجيز العطف على واحد من الفعلين اللذين هما كفروا ويعلمون، بل تعطفه على فعل مذكور بعد ذكر الملكين، كما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج، فإنه عطف على ما يوجبه معنى الكلام عند قوله (فلا تكفر) أي: فيأبون فيتعلمون، أو على يعلمان من قوله (ما يعلمان من أحد) لأنهما فعلان مذكوران بعد الملكين ؟ فالجواب: أما النظم فإنه على ما ذكرته وهو صحيح، وأما الإضمار قبل الذكر، فإن (منهما) في قوله (فيتعلمون منهما) إذا كان ضميرا عائدا إلى الملكين، فإن اضمارهما بعد تقدم ذكرهما، وذلك سائغ، ونظيره قوله تعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) لما تقدم ذكره أضمر اسمه، ولو قال ابتلى ربه إبراهيم لم يجز، لكونه إضمار قبل الذكر، وهذا بين جدا. فالإعتراض بذلك على سيبويه والفراء ساقط. وأما الجهة الأخرى التي يسقط منها ذلك، فهي أنه قد قيل في قوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) ثلاثة أقوال يأتي شرحها في المعنى: قولان منها تعلم السحر فيهما من الملكين، وقول منها تعلمه من الشياطين. فيكون نظم الكلام على هذا: ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا، يعلمون الناس السحر، فيتعلمون منهما. (وما أنزل على الملكين ببابل) أي: لم ينزل. وما (يعلمان من أحد) أي: وما يعلم هاروت وماروت من أحد، فمنهما على هذا القول لا يرجع إلى الملكين، إنما يرجع إلى هاروت وماروت اللذين هما الشياطين في المعنى. فأما حمل الكلام على التثنية والشياطين جمع، فسائغ يجوز أن يحمل على المعنى فيجمع، وعلى لفظ هاروت وماروت فيثنى، ونظيره قوله (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)، ثم قالوا (فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى). ويجوز أن يكون (يتعلمون) معطوفا على يعلمان من قوله (وما يعلمان من أحد) فيكون الضمير الذي في (يتعلمون) لأحد، إلا أنه جمعه لما حمل على المعنى، كقوله تعالى (فما منكم من أحد عنه حاجزين). فأما جواز عطفه على ما ذكره الزجاج من قوله وقيل إن يتعلمون عطف على ما يوجبه معنى الكلام، لأن المعنى إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيأبون فيتعلمون، وهذا قول حسن فهو قول الفراء.
[ 325 ]
قال أبو علي: وهو عندي جائز، لأنه من المضمر الذي فهم للدلالة عليه. وأما كونه خبرا للمبتدأ المحذوف فعلى أن تقديره فهم يتعلمون منهما، وذلك غير ممتنع. وقد قيل في قوله (منهما): إن الضمير عائد إلى السحر، والكفر، قاله أبو مسلم، قال: لأنه تقدم الدليل عليها في قوله كفروا، وهذا كقوله سبحانه: (سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى) أي: يتجنب الذكرى. وقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه). قال الزجاج: دخول اللام على (قد) على جهة القسم والتوكيد. وقال النحويون في قوله (لمن اشتراه) قولين: جعل بعضهم (من) بمعنى الشرط، وجعل الجواب (ما له في الآخرة من خلاق)، وهذا ليس بموضع شرط وجزاء، ولكن المعنى ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخر من خلاق، كما تقول: والله لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل. انتهى كلام الزجاج. واقول: فموضع (من) رفع بالإبتداء، وموضع (ما له في الآخرة من خلاق) رفع على أنه خبر المبتدأ، وهذا قول سيبويه. فاللام في قوله لمن اشتراه لام الإبتداء دون القسم، لأن هذه اللام قد تكون تأكيدا لغير القسم، واللام مع الجملة التي بعدها في موضع نصب بعلموا، كما أن الإستفهام كذلك في نحو علمت أزيد في الدار أم عمرو، وهذا هو المسمى تعليقا. قال أبو علي: قول من قال إن من جزاء بعيد، لأنه إذا كان جزاء فاللام في لمن اشتراه سبب دخوله القسم كالتي في قوله (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك)، (ولئن شئنا لنذهبن)، فيقتضي ذلك قسما والقسم الذي يقتضيه قوله (لمن اشتراه) إذا حملت (من) على أنه جزاء، لا يخلو من أن يكون علموا، لأن العلم والظن قد يقامان مقام القسم، كما في قوله: ولقد علمت لتأتين منيتي، * إن المنايا لا تطيش سهامها وقوله: (وظنوا ما لهم من محيص)، أو يكون مضمرا بين قوله علموا، وقوله: (لمن اشتراه). ويبعد أن يكون علموا قسما، وقوله لمن اشتراه جوابه هنا، لأنه في هذا الموضع محلوف عليه مقسم، والمقسم عليه لا يكون قسما، لأنه يلزم من هذا أن يدخل قسم على قسم، لأن في أول الكلام قسما، وهو المضمر الجالب للام في لقد، فهذا هو القسم الأول. والثاني هو الذي يدخل عليه هذا القسم الأول
[ 326 ]
المضمر، وهو قد علموا إذا أجبته باللام فيمن جعله ابتداء، وبالنفي فيمن جعل من جزاء. ودخول القسم على القسم يبعد عند سيبويه، ولا يسوغ، فمن أجل هذا بعد عنده أن يكون (علموا) هنا بمنزلة القسم وأن يجاب بجوابه. فقال سيبويه والخليل: لا يقوى أن تقول وحقك وحق زيد لأفعلن، والواو الثاني واو قسم لا يجوز إلا مستكرها، لأنه لا يجوز هذا في محلوف عليه، إلا أن يضم الآخر إلى الأول، ويحلف بهما على المحلوف عليه، ولهذا جعل هو والخليل الحرف في قوله (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والانثى) للعطف دون القسم فلهذا حمل اللام في (لمن أشتراه) على أنها لام ابتداء دون قسم، وليست كاللام الأخرى في أنها تقتضي قسما لا محالة في نحو قولهم: لعمرك لأفعلن كذا، فلا يلزم على تأوله دخول قسم على قسم، ويبعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بين قوله (ولقد علموا) وبين (لمن اشتراه) لأن علموا يقتضي مفعوليه، وإذا وقع قسم بينه وبين مفعوليه لم يجب، وكان لغوا، كما أنه في نحو قولك زيد والله منطلق، وإن تأتني والله أتيتك لغو لا جواب له، ولأنه لو أجيب للزم اعتماد علمت عليه، فصار القسم في موضع نصب لوقوعه موقع مفعولي علمت، وذلك يمتنع لأنك لو جعلته في موضع مفعوليه، لأخرجته عما وضع له، لأنه إذا وضع ليؤكد به غيره، فلو جعلته في موضع المفعولين لأخرجته عن أن يكون تأكيدا لغيره، ولجعلته قائما بنفسه، ولو جاز أن يكون في موضع مفعولي علمت لجاز أن يوصل به، ويوصف به النكرة، وهذا ممتنع. فمعلوم إذا أن القسم بعد علمت، لا يلزم أن يكون له جواب، فإضمار القسم بعد علموا غير جائز، لأنه ليس يجوز إلا أن يكون له جواب يدل عليه إذا حذف، كما يدل ليفعلن ونحوه، من الجواب على القسم والمحذوف، فإذا لم يجز أن يكون له جواب، لم يجز حذفه وإرادته. فقد بعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بعد علمت، فلما كان علموا مقسما عليه في هذا الموضع، فإذا جعلت من بغير معنى الذي لزمك أن يكون علمت قسما، ويكون قوله ما لهم في الآخرة من خلاق جوابه وكان دخول القسم على القسم غير سائغ عند سيبويه، وحمل اللام في لمن على أنه لام الإبتداء، ومن بمعنى الذي، لئلا يلزم ما لا يستحسنه ولا يستجيزه من دخول قسم على قسم، فمذهب سيبويه في هذا هو البين. المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أنه نبذ فريق من اليهود كتاب
[ 327 ]
الله الذي في أيديهم وراء ظهورهم فقال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) واختلف في المعنى بقوله (واتبعوا) على ثلاثة أقوال أحدها: إنهم اليهود الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن الربيع، وابن إسحاق، والسدي وثانيها: إنهم اليهود الذين كانوا في زمن سليمان، عن ابن عباس، وابن جريج وثالثها: إن المراد به الجميع لأن متبعي السحر لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وروي عن الربيع أن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم زمانا عن التوراة، لا يسألونه عن شئ من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم. فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل علينا منا، وأنهم سألوه عن السحر، وخاصموه به، فأنزل الله تعالى (واتبعوا ما تتلوا الشياطين) الآية أي: اقتدوا بما كانت تتلو الشياطين أي: تتبع وتعمل به، عن ابن عباس. وقيل: معناه تقرأ عن عطا وقتادة. وقيل: معناه تكذب، عن أبي مسلم. يقال تلا عليه إذا كذب، قال سبحانه وتعالى: (ويقولون على الله الكذب وتقولون على الله ما لا تعلمون). فإذا صدق قيل تلا عنه، وإذا أبهم جاز الأمران. واختلف في قوله (الشياطين) فقيل: هم شياطين الجن، لأنه المستفاد من إطلاق هذه اللفظة. وقيل: هم شياطين الإنس المتمردون في الضلالة كما قال جرير: أيام يدعونني الشيطان من غزلي، * وكن يهوينني إذ كنت شيطانا وقيل: هم شياطين الجن والإنس. وقوله (على ملك سليمن) قيل: معناه في ملك سليمان، كقول أبي النجم (فهي على إلأفق كعين الأحول) أي: في الأفق. ثم إن هذا يحتمل معنيين أحدهما: في عهد ملك سليمان والثاني: في نفس ملك سليمان، كما يقال فلان يطعن في ملك فلان، وفي نفس فلان. وقيل: معناه على عهد ملك سليمان. وقال أبو مسلم: معناه ما كانت تكذب الشياطين على ملك سليمان، وعلى ما أنزل على الملكين. وأما قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) بين بهذا أن ما كانت تتلوه الشياطين وتأثره وترويه، كان كفرا إذ برأ سليمان عليه السلام منه، ولم يبين سبحانه بقوله (ما تتلو الشياطين على ملك سليمان) أنها أي شئ كانت تتلو الشياطين. ثم لم يبين بقوله سبحانه (وما كفر سليمان) أن ذلك الكفر أي نوع من
[ 328 ]
أنواع الكفر، حتى قال (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) فبين سبحانه أن ذلك الكفر كان من نوع السحر، فإن اليهود أضافوا إلى سليمان السحر، وزعموا أن ملكه كان به، فبرأه الله منه، وهو قول ابن عباس وابن جبير وقتادة. واختلف في السبب الذي لأجله أضافت اليهود السحر إلى سليمان عليه السلام، فقيل: إن سليمان كان قد جمع كتب السحرة، ووضعها في خزانته. وقيل: كتمها تحت كرسيه لئلا يطلع عليها الناس، ولا يعلموا بها. فلما مات سليمان استخرجت السحرة تلك الكتب، وقالوا: إنما تم ملك سليمان بالسحر، وبه سخر الإنس والجن والطير، وزينوا السحر في أعين الناس بالنسبة إلى سليمان عليه السلام، وشاع ذلك في اليهود وقبلوه لعداوتهم لسليمان، عن السدي. وروي العياشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما هلك سليمان وضع إبليس السحر، ثم كتبه في كتاب، وأطواه، وكتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا من ملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم، من أراد كذا وكذا فليقل كذا وكذا. ثم دفنه تحت السرير، ثم إستثاره لهم، فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا. وقال المؤمنون: هو عبد الله ونبيه. فقال الله في كتابه: (واتبعوا ما تتلو الشياطين) الآية. وفي قوله (ولكن الشياطين كفروا) ثلاثة أقوال أحدها: إنهم كفروا بما استخرجوه من السحر. وثانيها: إنهم كفروا بما نسبوا إلى سليمان من السحر. وثالثها: إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر. وفي قوله: (يعلمون الناس السحر) قولان أحدهما: إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه والثاني: إنهم دلوهم على استخراجه من تحت الكرسي، فتعلموه. وقوله (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) فيه وجوه: أحدها: إن المراد أن الشياطين يعلمون الناس السحر، والذي أنزل على الملكين، وإنما أنزل على الملكين وصف السحر، وماهيته، وكيفية الإحتيال فيه، ليعرفا ذلك، ويعرفاه الناس فيجتنبوه، غير أن الشياطين لما عرفوه استعملوه، وإن كان المؤمنون إذا عرفوه اجتنبوه وانتفعوا بالإطلاع على كيفيته. وثانيها: أن يكون المراد على ما ذكرناه قبل من أن معناه واتبعوا ما كذبت به الشياطين على ملك سليمان، وعلى ما أنزل على الملكين أي: معهما وعلى ألسنتهما، كما قال سبحانه: (ما وعدتنا على رسلك) أي: معهم، وعلى ألسنتهم. وثالثها: أن يكون
[ 329 ]
ما بمعنى النفي، والمراد وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ويكون قوله (ببابل هاروت وماروت) من المؤخر الذي معناه التقديم، ويكون في هذا التأويل هاروت وماروت رجلين من جملة الناس، ويكون الملكان اللذان نفي عنهما السحر جبرئيل وميكائيل عليهما السلام، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تدعي أن الله، عز وجل، أنزل السحر على لسان جبرائيل وميكائيل على سليمان، فأكذبهم الله في ذلك. ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين، كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا، ويسوغ ذلك كما ساغ في قوله (وكنا لحكمهم شاهدين) يعني لحكم داود وسليمان ويكون على هذا قوله (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة) راجعا إلى هاروت وماروت. ومعنى قولهما (إنما نحن فتنة) (فلا تكفر) يكون على طريق الإستهزاء والتماجن (1)، لا على سبيل النصيحة والتحذير. ويجوز على هذا التأويل أيضا الذي يتضمن النفي والجحد، أن يكون هاروت وماروت اسمين للملكين، ونفي عنهما إنزال السحر، ويكون قوله (وما يعلمان) راجعا إلى قبيلتين من الجن والإنس، أو إلى شياطين الجن والإنس، فيحسن التثنية لهذا وروي هذا التأويل في حمل (ما) على النفي، عن ابن عباس، وغيره من المفسرين. وحكي عنه أيضا أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام، ويقول متى كان العلجان (2) ملكين إنما كانا ملكين ؟ وعلى هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله (وما يعلمان من أحد) إليهما. ويمكن على هذه القراءة في الآية وجه آخر، وإن لم يحمل قوله (وما أنزل على الملكين) على الجحد والنفي، وهو: أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين وتدعيه على ملك سليمان، واتبعوا ما أنزل على الملكين من السحر، ولا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى، وإن أطلق لأنه، جل وعز، لا ينزل السحر بل يكون أنزله إليهما بعض الضلال، ويكون معنى (أنزل) وإن كان من الأرض حمل إليهما لا من السماء أنه أتي به من نجود إلبلاد وأعاليها. فإن من هبط من النجد إلى الغور، يقال نزل. (1) تماجن: تمازح. (2) العلج: الرجل الضخم من كفار العجم، وبعضهم يطلقه على الكافر مطلقا. (*)
[ 330 ]
واختلف في بابل فقيل: هي بابل العراق، لأنه تبلبلت بها الألسن، عن ابن مسعود. وقيل: هي بابل دماوند، عن السدي. وقيل: هي نصيبين إلى رأس العين. وهاروت وماروت قيل: هما رجلان على ما تقدم بيانه. وقيل: هما ملكان من الملائكة أهبطهما الله إلى الأرض على صورة الإنس لئلا ينفر الناس منهما إذا كانا على صورة الملائكة. واختلف في سبب هبوطهما فقيل: إن الله أهبطهما ليأمرا بالدين، وينهيا عن السحر، ويفرقا بينه وبين المعجز، لأن السحر كان كثيرا في ذلك الوقت. ثم اختلف في ذلك فقال قوم: كانا يعلمان الناس كيفية السحر، وينهيان عن فعله، ليكون النهي بعد العلم، فإن من لا يعرف الشئ لا يمكنه اجتنابه. وقال آخرون: لم يكن لهما تعليم السحر لما في ذلك من الإغراء بفعله، وإنما أهبطا لمجرد النهي، إذ كان السحر فاشيا. وقيل أيضا في سبب هبوطهما: إن الملائكة تعجبت من معاصي بني آدم مع كثرة نعم الله عليهم فقال طائفة منهم: " يا ربنا أما تغضب مما يعمل خلقك في أرضك، ومما يفترون عليك من الكذب والزور، ويرتكبونه من المعاصي، وقد نهيتهم عنها وهم في قبضتك، وتحت قدرتك " فأحب الله سبحانه أن يعرفهم ما من به عليهم من عجيب خلقهم، وما طبعهم عليه من الطاعة، وعصمهم به من الذنوب، فقال لهم: " إندبوا منكم ملكين حتى أهبطهما إلى الأرض، وأجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب، والشهوة والحرص والأمل، مثل ما جعلت في ولد آدم، ثم أختبرهما في الطاعة لي ". قال: فندبوا لذلك هاروت وماروت، وكانا من أشد الملائكة قولا في العيب لولد آدم، واستجرار عتب الله عليهم. قال: فأوحى الله إليهما أن اهبطا إلى الأرض، فقد جعلت فيكما من طبائع المطعم والمشرب، والشهوة والحرص والأمل، مثل ما جعلت في ولد آدم، وانظرا أن لا تشركا بي شيئا، ولا تقتلا النفس التي حرم الله قتلها، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر. ثم أهبطهما إلى الأرض على صورة البشر ولباسهم، فرفع لهما بناء مشرف، فأقبلا نحوه، فإذا امرأة جميلة حسناء، أقبلت نحوهما فوقعت في قلوبهما موقعا شديدا، ثم إنهما ذكرا ما نهيا عنه من الزنا فمضيا، ثم حركتهما الشهوة فرجعا إليها فراوداها عن نفسها، فقالت: إن لي دينا أدين به، ولست أقدر في ديني على أن أجيبكما إلى ما تريدان، إلا أن تدخلا في ديني ! فقالا: وما دينك ؟ فقالت: لي إله من عبده وسجد له كان لي السبيل إلى أن أجيبه إلى كل ما سألني. قالا: وما إلهك ؟
[ 331 ]
قالت: هذا الصنم. قال: فائتمرا بينهما فغلبتهما الشهوة التي جعلت فيهما، فقالا لها: نجيبك إلى ما سألت. قالت: فدونكما فاشربا الخمر، فإنه قربان لكما عنده، وبه تصلان إلى ما تريدان. فقالا: هذه ثلاث خصال قد نهانا ربنا عنها: الشرك والزنا وشرب الخمر. فائتمرا بينهما، ثم قالا لها: ما أعظم البلية بك، قد أجبناك. قال: فشربا الخمر، وسجدا للصنم، ثم راوداها عن نفسها. فلما تهيأت لهما دخل عليهما سائل يسأل، فلما رأياه فزعا منه، فقال لهما: إنكما لمريبان قد خلوتما بهذه المرأة الحسناء، إنكما لرجلا سوء، وخرج عنهما. فقالت لهما: بادرا إلى هذا الرجل فاقتلاه قبل أن يفضحكما ويفضحني، ثم دونكما فاقضيا حاجتكما وأنتما مطمئنان آمنان. قال: فقاما إلى الرجل فأدركاه فقتلاه، ثم رجعا إليها، فلم يرياها وبدت لهما سوآتهما، ونزع عنهما رياشهما، وسقط في أيديهما. فأوحى الله تعالى إليهما: إنما أهبطتكما إلى الأرض ساعة من نهار، فعصيتماني بأربع معاص قد نهيتكما عنها، وتقدمت إليكما فيها، فلم تراقباني، ولم تستحيا مني، وقد كنتما أشد من ينقم على أهل الأرض من المعاصي، فاختارا عذاب الدنيا، أو عذاب الآخرة. قال: فاختارا عذاب الدنيا، فكانا يعلمان الناس السحر بأرض بابل. ثم لما علما الناس رفعا من الأرض إلى الهواء، فهما معذبان منكسان معلقان في الهواء إلى يوم القيامة هذا الخبر رواه العياشي مرفوعا إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام. ومن قال بعصمة الملائكة عليهم السلام، لم يجز هذا الوجه. وقوله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) يعني الملكين ما يعلمان أحدا. والعرب تستعمل لفظة علم بمعنى أعلم أي: لا يعرفان صفات السحر وكيفيته، حتى يقولا أي إلا بعد أن يقولا (إنما نحن فتنة) أي: محنة، لأن الفتنة بمعنى المحنة والإختبار والإبتلاء. وإنما كانا محنة من حيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه، ويمتنعوا من مواقعته، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه، فقالا لمن يطلعانه على ذلك: لا تكفر باستعماله، ولا تعدل عن الغرض في إلقائه إليك، فإنه إنما ألقي إليك لتجتنبه، لا لتفعله. ولا يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفرا ومعصية، كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه، وإنما يأثم بالعمل.
[ 332 ]
وقيل: إن المراد به نفي تعليمهما السحر، والتقدير: ولا يعلمان أحدا السحر، فيقولان إنما نحن فتنة. فعلى هذا يكون تعليم السحر من الشياطين، والنهي عنه من الملكين. وقوله (فلا تكفر) يعني به أحد ثلاثة أشياء أحدها: فلا تكفر بالعمل بالسحر والثاني: فلا تكفر بتعلم السحر. ويكون مما امتحن الله، عز وجل، بالملكين الناس في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر، فيكون بتعلمه كافرا، وبتركه التعلم مؤمنا، لأن السحر كان قد كثر. وهذا ممكن أن يمتحن الله به، كما امتحن بالنهر في قوله: (فمن شرب منه فليس مني). والثالث: فلا نكفر بكليهما. وقوله: (فيتعلمون منهما) أي: من هاروت وماروت. وقيل: من السحر والكفر. وقيل: أراد بدلا مما علماهم، ويكون المعنى أنهم يعدلون عما علمهم الملكان من النهي عن السحر إلى فعله واستعماله، كما يقال: ليت لنا من كذا وكذا أي: بدلا منه، وكقول الشاعر: جمعت من الخيرات وطبا، وعلبة، * وصرا لأخلاف المزممة البزل ومن كل أخلاق الكرام نميمة * وسعيا على الجار المجاور بالمحل (1) وقوله: (ما يفرقون به بين المرء وزوجه) فيه وجوه أحدها: إنهم يوجدون أحدهما على صاحبه، ويبغضونه إليه، فيؤدي ذلك إلى الفرقة، عن قتادة وثانيها: إنهم يغوون أحد الزوجين، ويحملونه على الكفر والشرك بالله تعالى، فيكون بذلك قد فارق زوجه الآخر المؤمن المقيم على دينه، فيفرق بينهما اختلاف النحلة، وتباين الملة وثالثها: إنهم يسعون بين الزوجين بالنميمة والوشاية، حتى يؤول أمرهما إلى الفرقة والمباينة. وقوله: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) أي: لا يلحقون بغيرهم ضررا إلا بعلم الله، فيكون على وجه التهديد. وقيل: معناه إلا بتخلية الله، عن الحسن، قال: من شاء الله منعه، فلا يضره السحر، ومن شاء خلى بينه وبينه (1) الوطب: سقاء اللبن. العلبة: إناء ضخم من جلد أو خشب. الصر: شد الضرع. الإخلاف جمع الخلف: حلمة ضرع الناقة. المزممة: من الزمام. البزل جمع البازل: وهو بعير انشق نابه. المحل: الكيد والسعاية. (*)
[ 333 ]
فيضره. وقوله: (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) معناه: يضرهم في الآخرة، ولا ينفعهم وإن كان ينفعهم في الدنيا، لأنهم لما قصدوا بتعلمه أن يفعلوه ويرتكبوه، لا أن يجتنبوه، صار ذلك بسوء اختيارهم ضررا عليهم. وقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) يعني اليهود الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، علموا لمن استبدل السحر بدين الله. فالهاء في (اشتراه) كناية عن السحر، عن قتادة، وجماعة من المفسرين. فما له في الآخرة من نصيب. وقوله: (ولبئس ما شروا به أنفسهم) يعني: بئس ما باعوا به حظ أنفسهم، حيث اختاروا التكسب بالسحر. وقوله: (لو كانوا يعلمون) بعد قوله: (ولقد علموا) ذكر فيه وجوه أحدها: أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا، أو يكون الذين علموا الشياطين، أو الذين خبر تعالى عنهم بأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، والذين لم يعلموا هم الذين تعلموا السحر. وثانيها: أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا إلا أنهم علموا شيئا، ولم يعلموا غيره، فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك، ورضيه لنفسه على الجملة، ولم يعلموا كنه ما يصيرون إليه من العقاب الدائم. وثالثها: أن تكون الفائدة في نفي العلم بعد إثباته، أنهم لم يعملوا بما علموا، فكأنهم لم يعلموا كما قال كعب بن زهير يصف ذئبا وغرابا تبعاه ليصيبا من زاده: إذا حضراني، قلت: لو تعلمانه، * ألم تعلما أني من الزاد مرمل (1) فنفى عنهما العلم، ثم أثبته. والمعنى في نفيه العلم عنهما، أنهما لم يعملا بما علماه، فكأنهما لم يعلماه. وفي هذه الآية دلالة على أن الأفعال تختلف باختلاف المقاصد، ولذلك كان تعلم السحر لإزالة الشبهة، والتحرز منه، واجتنابه، إيمانا، ولتصديقه واستعماله كفرا. واختلف في ماهية السحر على أقوال فقيل: إنه ضرب من التخييل، وصنعة من لطيف الصنائع، وقد أمر الله تعالى بالتعوذ منه، وجعل التحرز بكتابه وقاية منه، وأنزل فيه سورة الفلق، وهو قول الشيخ المفيد أبي عبد الله من أصحابنا. وقيل: إنه خدع ومخاريق وتمويهات، لا حقيقة لها، يخيل إلى المسحور أن لها حقيقة. وقيل: إنه يمكن الساحر أن يقلب الإنسان حمارا، ويقلبه من صورة إلى صورة، (1) أرمل الرجل: نفد زاده. (*)
[ 334 ]
وينشئ الحيوان على وجه الإختراع، وهذا لا يجوز، ومن صدق به فهو لا يعرف النبوة، ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع. ولو أن الساحر والمعزم قدرا على نفع أو ضر، وعلما الغيب، لقدرا على إزالة. الممالك، واستخراج الكنوز من معادنها، والغلبة على البلدان بقتل الملوك، من غير أن ينالهم مكروه وضرر. فلما رأيناهم أسوأ الناس حالا، وأكثرهم مكيدة واحتيالا، علمنا أنهم لا يقدرون على شئ من ذلك. فأما ما روي من الأخبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سحر، فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله، وأنه لم يفعل ما فعله، فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها. وقد قال الله، سبحانه وتعالى، حكاية عن الكفار: (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) فلو كان للسحر عمل فيه، لكان الكفار صادقين في مقالهم، حاشا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كل صفة نقص، تنفر عن قبول قوله، فإنه حجة الله على خليقته، وصفوته على بريته. (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103)). اللغة: المثوبة والثواب والأجر نظائر. ونقيض المثوبة: العقوبة، يقال: ثاب يثوب ثوبا وثوابا وأثابه إثابة ومثوبة وثوابا. والأصل في الثواب: ما رجع إليك من شئ. يقال: اعترت الرجل غشية ثم ثابت إليه نفسه، ولذلك سمي الثواب ثوابا، لأنه العائد إلى صاحبه مكافاة لما فعل. ومنه التثويب في الأذان وهو ترجيع الصوت، يقال: ثوب الداعي: إذا كرر دعاءه إلى الحرب، أو غيرها. ويقال: انهزم القوم ثم ثابوا أي: رجعوا. والثوب: مشتق من هذا أيضا، لأنه ثاب لباسا بعد أن كان قطنا، أو غزلا. والمثابة: الموضع يثوب إليه الناس. وفي الشواذ قرأ قتادة: (لمثوبة) بسكون الثاء وفتح الواو، وهي لغة كما قالوا مشورة ومشورة. وأجمع العرب على قولهم: هذا خير منه، وهذا شر منه، إلا بعض بني عامر، فإنهم يقولون: هذا أخير من ذا، وأشر من ذا. الاعراب: اللام في (لمثوبة) لام الإبتداء، وهي في موضع جواب (لو) لأنها تنبئ عن قولك لاثيبوا. والضمير في (أنهم) عائد إلى الذين يتعلمون السحر.
[ 335 ]
المعنى: ثم قال سبحانه: (ولو أنهم) يعني الذين يتعلمون السحر ويعملونه. وقيل: هم اليهود (آمنوا) أي: صدقوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن (واتقوا) السحر والكفر. وقيل: جميع المعاصي (لمثوبة من عند الله خير) أي: لأثيبوا، وثواب الله خير. (لو كانوا يعلمون) أي: لو كانوا يستعملون ما يعلمونه، وليس أنهم كانوا يجهلون ذلك، كما يقول الإنسان لصاحبه، وهو يعظه: ما أدعوك إليه خير لك لو كنت تعقل، أو تنظر في العواقب. وفي قوله (لو كانوا يعلمون) وهو خير علموا أو لم يعلموا، وجهان أحدهما: إن معناه لو كانوا يعلمون لظهر لهم بالعلم ذلك أي: لعلموا أن ثواب الله خير من السحر والآخر: إن المعنى فيه الدلالة على جهلهم، وترغيبهم في أن يعلموا ذلك، وأن يطلبوا ما هو خير لهم من السحر، وهو ثواب الله الذي ينال بطاعاته، واتباع مرضاته. وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف، لأنه نفى ذلك العلم عنهم. (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم (104)). اللغة: المراعاة: التفقد للشئ في نفسه أو أحواله. والمراعاة والمحافظة والمراقبة نظائر. ونقيض المراعاة: الإغفال. ورعى الله فلانا أي: حفظه. ورعيت له حقه وعهده فيمن خلف. وأرعيته سمعي: إذا أصغيت إليه. وراعيته بعيني: إذا لاحظته. وجمع الراعي: رعاء ورعاة ورعيان، وكل من ولي قوما فهو راعيهم وهم رعيته. والمرعي من الناس: المسوس. والراعي: السائس. واسترعاه الله خلقه أي: ولاه أمرهم ليرعاهم. والإرعاء: الإبقاء على أخيك. والإسم الرعوى والرعيا. وراعني سمعك أي: استمع. ورجل ترعية: للذي صنعته وصنعة آبائه الرعاية. وقال الشاعر: (يسوسها ترعية حاف فضل). وأصل الباب: الحفظ. ونظرت الرجل أنظر نظرة: بمعنى انتظرته، وارتقبته. المعنى: لما قدم سبحانه نهي اليهود عن السحر، عقبه بالنهي عن إطلاق هذه اللفظة، فقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) كان المسلمون يقولون: يا رسول الله ! راعنا أي: استمع منا. فحرفت اليهود هذه اللفظة، فقالوا: يا محمد ! راعنا، وهم يلحدون إلى الرعونة، يريدون به النقيصة والوقيعة. فلما عوتبوا قالوا: نقول كما يقول المسلمون، فنهى الله عن
[ 336 ]
ذلك بقوله (لا تقولوا راعنا) (وقولوا أنظرنا). وقال قتادة: إنها كلمة كانت تقولها اليهود على وجه الإستهزاء. وقال عطا: هي كلمة كانت الأنصار تقولها في الجاهلية، فنهوا عنها في الإسلام. وقال السدي: كان ذلك كلام يهودي بعينه، يقال له رفاعة بن زيد، يريد بذلك الرعونة، فنهي المسلمون عن ذلك. وقال الباقر عليه السلام: هذه الكلمة سب بالعبرانية إليه كانوا يذهبون. وقيل: كان معناه عندهم إسمع لا سمعت. وروي عن الحسن أنه كان يقرأ راعنا بالتنوين، وهو شاذ لا يؤخذ به. ومعنى أنظرنا: يحتمل وجوها أحدها: انتظرنا نفهم ونتبين ما تعلمنا والآخر: فقهنا وبين لنا يا محمد والثالث: أقبل علينا. ويجوز أن يكون معناه انظر إلينا، فحذف حرف الجر. وقوله: (واسمعوا) يحتمل أمرين أحدهما: إن معناه اقبلوا ما يأمركم به من قوله سمع الله لمن حمده، وسمع الله دعاءك أي: قبله والثاني: إن معناه استمعوا ما يأتيكم به الرسول، عن الحسن. (وللكافرين) بمحمد، والقرآن (عذاب أليم) أي: موجع قال الحسن والضحاك: كل ما في القرآن (يا أيها الذين آمنوا) فإنه نزل بالمدينة. (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105)). اللغة: المودة: المحبة. والإختصاص بالشئ: هو الإنفراد به. وضد الإختصاص الإشتراك. ويقال: خصه بالشئ يخصه خصا: إذا فضله به. والخصاص: الفرج. والخص: بيت من قصب أو شجر، وإنما سمي خصا لأنه يرى ما فيه من خصاصه، وكل خلل أو خرق يكون في السحاب، أو المنخل فهو الخصاصة. وأصل الباب: الإنفراد بالشئ، ومنه يقال للفرج: الخصائص، لانفراد كل واحد عن الآخر من غير جمع بينها. ويقال: أخصصته بالفائدة واختصصت أنا بها، كما يقال أفردته بها، وانفردت أنا بها. الاعراب: (الذين كفروا): في موضع رفع، لأنه فاعل يود. و (المشركين): في موضع جر بالعطف على أهل الكتاب، وتقديره ولا من
[ 337 ]
المشركين. وقوله (أن ينزل): في موضع نصب، لأنه مفعول (يود) ومن في قوله (من خير) زائدة مؤكدة، كقولك ما جاءني من أحد. وموضع (من خير) رفع. ومن في قوله (من ربكم) لابتداء الغاية، والتي في قوله (من أهل الكتاب) للتنويع والتبيين مثل التي في قوله (فاجتنبوا الرجس من الأوثان). المعنى: ثم أخبر سبحانه أيضا عن اليهود، فقال: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) معناه: ما يحب الكافرون من أهل الكتاب، ولا من المشركين بالله من عبدة الأوثان، أن ينزل اله عليكم شيئا من الخير الذي هو عنده. والخير الذي تمنوا أن لا ينزله الله عليهم ما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزله عليه من القرآن والشرائع، بغيا منهم وحسدا. (والله يختص برحمته من يشاء). وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام، وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام: إن المراد برحمته هنا النبوة، وبه قال الحسن، وأبو علي، والرماني، وغيرهم من المفسرين، قالوا: يختص بالنبوة من يشاء من عباده. (والله ذو الفضل العظيم) هذا خبر منه سبحانه، أن كل خير نال عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده، ابتداء منه إليهم، وتفضلا عليهم من غير استحقاق منهم لذلك. عليه، فهو عظيم الفضل، ذو المن والطول. (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير (106)). القراءة: قرأ ابن عامر: (ما ننسخ) بضم النون وكسر السين. والباقون بفتحها. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (ننسأها) بفتح النون والسين، وإثبات الهمزة. والباقون بضم النون وكسر السين، بلا همز. الحجة: أما قراءة ابن عامر (ننسخ) فلا يخلو من أن يكون أفعل لغة في فعل، نحو بدأ وأبدأ، وحل من إحرامه، وأحل، أو تكون الهمزة للنقل نحو ضرب وأضربته، ونسخ الكتاب وانسخته الكتاب، أو يكون المعنى في أنسخت الآية وجدتها منسوخة كقولهم أحمدت زيدا وأبخلته. والوجه الصحيح هو الأول، وهو أن يكون نسخ وأنسخ لغتين متفقتين في المعنى، وإن اختلفتا في
[ 338 ]
اللفظ، وقول من فتح النون أبين وأوضح. وأما (ننسأها) فهي من النسأ: وهو التأخير، يقال: نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نسأ: إذا أخرتها عنه، وانتسأت أنا أي: تأخرت، ومنه قولهم: أنسأ الله أجلك، ونسأ في أجلك. واما القراءة الاخرى فمن النسيان الذي هو بمعنى السهو، أو بمعنى الترك. اللغة: النسخ في اللغة: إبطال شئ، وإقامة آخر مقامه. يقال: نسخت الشمس الظل أي: أذهبته وحلت محله. وقال ابن دريد: كل شئ خلف شيئا، فقد انتسخه. وانتسخ الشيب الشباب، وتناسخ الورثة، أن تموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميرأث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون بعد القرون الماضية. وأصل الباب الإبدال من الشئ غيره. وقال علي بن عيسى: النسخ: الرفع لشئ قد كان يلزم العمل به إلى بدل منه، كنسخ الشمس بالظل، لأنه يصير بدلا منها في مكانها، وهذا ليس بصحيح، لأنه ينتقض بمن يلزمه الصلاة قائما، فعجز عن القيام، فإنه يسقط عنه القيام لعجزه، ولا يسمى العجز ناسخا، ولا القيام منسوخا، وينتقض أيضا بمن يستبيح الشئ بحكم العقل، وورد الشرع بحظره، فإنه لا يقال إن الشرع نسخ حكم العقل، ولا أن حكم العقل منسوخ. وأولى ما يجد به النسخ أن يقال: هو كل دليل شرعي دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص الأول غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الاول مع تراخيه عنه. والنسخ في القرآن على ضروب منها: أن يرفع حكم الآية وتلاوتها، كما روي عن أبي بكر أنه قال: كنا نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم). ومنها: أن تثبت الآية في الخط، ويرفع حكمها كقوله (وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) الآية. فهذه ثابتة اللفظ في الخط، مرتفعة الحكم. ومنها ما يرتفع اللفظ، ويثبت الحكم، كآية الرجم، فقد قيل: إنها كانت منزلة، فرفع لفظها. وقد جاءت أخبار كثيرة بأن أشياء كانت في القرآن، فنسخ تلاوتها. فمنها ما روي عن أبي موسى، أنهم كانوا يقرأون: " لو أن لابن آدم واديين من مال، لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب " ثم رفع. وعن انس أن السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا فيهم كتابا. " بلغوا عنا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا، وأرضانا) ثم إن ذلك رفع. وقال أبو عبيدة معنى ننسأها أي: نمضيها فلا ننسخها، قال طرفة:
[ 339 ]
أمون كألواح الإران نسأتها * على لاحب كأنه ظهر برجد (1) أي: أمضيتها. وقال غيره: نسأت الإبل في ظمئها أنسأها نسأ: إذا زدتها في ظمئها يوما أو يومين. وظمؤها: منعها الماء. ونسأت الماشية تنسأ نسأ: إذا سمنت، وكل سمين ناسئ. قال الزجاج: وتأويله: إن جلودها نسأت أي: تأخرت عن عظامها. وقال غيره: إنما قيل ذلك لأنها تأخرت في المرعى حتى سمنت، ويقال للعصا: المنسأة، لأنها ينسأ بها أي: يؤخر ما يساق عن مكانه، ويدفع بها الإنسان عن نفسه الأذى. ونسأت ناقتي: إذا دفعتها في السير. وأصل الباب التأخير. الاعراب: (ما ننسخ): ما إسم ناب مناب أن، وهو في موضع نصب بننسخ، وإنما لزمه التقديم، وإن كان مفعولا. ومرتبة المفعول أن يكون بعد الفاعل لنيابته عن حرف الشرط الذي له صدر الكلام. وننسخ: مجزوم بالشرط. وننس: جزم لأنه معطوف عليه. ونأت: مجزوم لأنه جزاء. ومن في قوله (من آية) للتبعيض. وقيل: هي مزيدة. ولفظ ألم هاهنا: لفظ الإستفهام ومعناه التقرير. وتعلم: مجزوم بلم، لأن حرف الإستفهام لا يغير العامل عن عمله. النظم: لما قال سبحانه في الآية الاولى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم). دل بهذه الآية على أنه سبحانه لا يخليهم من إنزال خير إليهم، بخلاف ما تمناه أعداؤهم فيهم، وأنه أبدا ينزل عليهم ما هو أصلح لهم عن علي بن عيسى. وقيل: إنه سبحانه لما عاب اليهود بأشياء ورد عليهم ما راموا به الطعن في أمر نبينا، عليه وآله السلام، وكان مما طعنوا فيه أنه يقول بنسخ كل شريعة تقدمت شريعته، فبين الله سبحانه جواز ذلك ردا عليهم، عن أبي مسلم. المعنى: (ما ننسخ من آية): قد ذكرنا حقيقة النسخ عند المحققين. وقيل: معناه ما نرفع من آية، أو حكم آية. وقيل: معناه ما نبدل من آية، عن ابن عباس. ومن قرأ: (أو ننسها) فمعناه على وجهين: فإن لفظ النسي المنقول منه أنسى على ضربين أحدهما: بمعنى النسيان الذي هو خلاف (1) الأمون: الناقة المأمونة العثار. الإران: تابوت خشب. اللاحب: الطريق. البرجد: الكساء المخطط. (*)
[ 340 ]
الذكر، نحو قوله: (واذكر ربك إذا نسيت). والآخر: بمعنى الترك نحو قوله: (نسوا الله فنسيهم) أي تركوا طاعة الله فترك رحمتهم، أو ترك تخليصهم. فالوجه الأول في الآية: مروي عن قتادة، وهو أن يكون محمولا على النسيان الذي هو مقابل الذكر. ويجوز ذلك على الامة بأن يؤمروا بترك قراءتها، فينسونها على طول الأيام، ولا يجوز ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه يؤدي إلى التنفير، كذا ذكره الشيخ أبو جعفر، رحمه الله، في تفسيره. وقد جوز جماعة من المحققين ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: إنه لا يؤدي إلى التنفير لتعلقه بالمصلحة، ويجوز أيضا أن ينسيهم الله تعالى ذلك على الحقيقة، وإن كانوا جمعا كثيرا وجما غفيرا، بأن يفعل النسيان في قلوب الجميع، وإن كان ذلك خارقا للعادة، ويكون معجزا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. واستدل من حمل الآية على النسيان الذي هو خلاف الذكر، وجوز كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مرادا به بقوله سبحانه: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) أي: إلا ما شاء الله أن تنساه قال: وإلى هذا ذهب الحسن فقال: إن نبيكم أقرئ القرآن ثم نسيه. وأنكر الزجاج هذا القول فقال: إن الله تعالى قد أنبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) لتفتري علينا غيره، بأنه لا يشاء أن يذهب بما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال أبو علي الفارسي: هذا الذي احتج به على من ذهب إلى أن ننسها من النسيان، لا يدل على فساد ما ذهبوا إليه، وذلك أن قوله (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) إنما هو على ما لا يجوز عليه النسخ والتبديل من الأخبار، وأقاصيص الامم، ونحو ذلك مما لا يجوز عليه التبديل، والذي ينساه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما يجوز إن ينسخ من الاوامر والنواهي الموقوفة على المصلحة، وفي الأوقات التي يكون ذلك فيها أصلح. ويدل على أن ننسها من النسيان الذي هو خلاف الذكر: قراءة من قرأ (أو تنسها) وهو قراءة سعد بن أبي وقاص، وقراءة من قرأ (أو ننسكها) وهو المروي عن سالم مولى أبي حذيفة، وقراءة من قرأ (أو تنسها) وهو المروي عن سعد بن مالك. فالمفعول المراد المحذوف في قراءة من قرأ (أو ننسها) مظهر في قراءة من قرأ (ننسكها) ويبينه ما روي عن الضحاك أنه قرأ (ننسها) ويؤكد ذلك أيضا ما روي من
[ 341 ]
قراءة ابن مسعود (ما ننسك من آية أو ننسخها) وبه قرأ الأعمش. وروي عن مجاهد أنه قال: قراءة أبي (ما ننسخ من آية أو ننسك) فهذا كله يثبت قراءة من جعل ننسها من النسيان، ويؤكد ما روي عن قتادة أنه قال: كانت الآية تنسخ بالآية، وينسي الله نبيه من ذلك شيئا. والوجه الثاني: وهو أن المراد بالنسيان الترك في الآية مروي عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المراد بننسها: نأمركم بتركها أي: بترك العمل بها. قال الزجاج: إنما يقال في هذا نسيت: إذا تركت، ولا يقال فيه أنسيت تركت، وإنما معنى (أو ننسها): أو نتركها أي: نأمركم بتركها. قال أبو علي: من فسر أنسيت بتركت، لا يكون مخطئا، لأنك إذا أنسيت فقد نسيت. ومن هذا قال علي بن عيسى: إنما فسره المفسرون على ما يؤول إليه المعنى، لأنه إذا أمر بتركها فقد تركها. فإن قيل: إذا كان نسخ الآية رفعها وتركها أن لا تنزل، فما معنى ذلك ؟ ولم جمع بينهما ؟ قيل: ليس معنى تركها ألا تنزل، وقد غلط الزجاج في توهمه ذلك، وإنما معناه إقرارها فلا ترفع، كما قال ابن عباس نتركها فلا نبدلها. وإضافة الترك إلى القديم سبحانه، في نحو هذا اتساع، كقوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) أي: خليناهم وذاك. وأما من قرأ (أو ننسأها) على معنى التأخير، فقيل فيه وجوه أحدها: إن معناه أو نؤخرها، فلا ننزلها وننزل بدلا منها مما يقوم مقامها في المصلحة، أو يكون أصلح للعباد منها. وثانيها: إن معناه نؤخرها إلى وقت ثان، ونأتي بدلا منها في الوقت المتقدم بما يقوم مقامها. وثالثها: أن يكون معنى التأخير أن ينزل القرآن، فيعمل به ويتلى، ثم يؤخر بعد ذلك بأن ينسخ، فيرفع تلاوته البتة، ويمحى فلا تنسأ، ولا يعمل بتأويله، مثل ما روي عن زر بن حبيش أن أبيا قال له: كم تقرؤون الأحزاب ؟ قال بضعا وسبعين آية. قال: قد قرأتها ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطول من سورة البقرة أورده أبو علي في كتاب الحجة ورابعها: أن يؤخر العمل بالتأويل، لأنه نسخ، ويترك خطه مثبتا، وتلاوته قرآن يتلى، وهو ما حكي عن مجاهد يثبت خطها، ويبدل حكمها. والوجهان الأولان عليهما الإعتماد، لأن الوجهين الأخيرين يرجع معناهما إلى معنى النسخ، فلا يحسن إذ يكون في التقدير محصوله ما ننسخ من آية أو ننسخها،
[ 342 ]
وهذا لا يصح. على أن الوجه الأول أيضا فيه ضعف، لأنه لا فائدة في تأخير ما لم يعرفه العباد، ولا علموه، ولا سمعوه. فالأقوى هو الوجه الثاني. وقوله: (نأت بخير منها أو مثلها) فيه قولان أحدهما: نأت بخير منها لكم في التسهيل والتيسير كالأمر بالقتال الذي سهل على المسلمين بقوله (الآن خفف الله عنكم) أو مثلها في السهولة كالعبادة بالتوجه إلى الكعبة بعد أن كان إلى بيت المقدس، عن ابن عباس والثاني: نأت بخير منها في الوقت الثاني أي: هي لكم في الوقت الثاني، خير لكم من الاولى في الوقت الأول، في باب المصلحة، أو مثلها في ذلك، عن الحسن. وقوله: (لم تعلم أن الله على كل شئ قدير) قيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هو خطاب لجميع المكلفين، والمراد ألم تعلم أيها السامع، أو أيها الإنسان، أن الله تعالى قادر على آيات وسور مثل القرآن، ينسخ بها ما أمر، فيقوم في النفع مقام المنسوخ. وعلى القول الأول معناه: ألم تعلم يا محمد أنه سبحانه قادر على نصرك، والانتصار لك من أعدائك. وقيل: هو عام في كل شئ. واستدل من زعم أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة المعلومة بهذه الآية، قال: أضاف الإتيان بخير منها إلى نفسه، والسنة لا تضاف إليه حقيقة، ثم قال بعد ذلك: (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) فلا بد من أن يكون أراد ما يختص سبحانه بالقدرة عليه من القرآن المعجز. والصحيح أن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة المقطوع عليها، ومعنى (خير منها) أي: أصلح لنا منها في ديننا، وأنفع لنا بأن نستحق به مزيد الثواب. فأما إضافة ذلك إليه تعالى فصحيحة، لأن السنة إنما هي بوحيه تعالى وأمره، فإضافتها إليه كإضافة كلامه. وآخر الآية إنما يدل على أنه قادر على أن ينسخ الآية بما هو أصلح وأنفع، سواء كان ذلك بقرآن أو سنة. وفي هذه الآية دلالة على أن القرآن محدث، وأنه غير الله تعالى، لأن القديم لا يصح نسخه، ولأنه أثبت له مثلا، والله سبحانه قادر عليه. وما كان داخلا تحت القدرة، فهو فعل، والفعل لا يكون إلا محدثا. (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (107)).
[ 343 ]
اللغة: الولي: هو القائم بالأمر، ومنه ولي عهد المسلمين. ودون الله: سوى الله. قال أمية بن أبي الصلت: يا نفس مالك دون الله من واق، * وما على حدثان الدهر من باق والنصير: الناصر، وهو المؤيد، والمقوي. الاعراب والمعنى: (ألم تعلم) استفهام تقرير وتثيبت، ويؤول في المعنى إلى الإيجاب فكأنه يقول قد علمت حقيقة، كما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا، وأندى العالمين، بطون راح فلهذا خاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: إن الآية وإن كانت خطابا للنبي عليه السلام، فالمراد به أمته كقوله: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) ومثله قول الكميت في مدح النبي عليه السلام: لج بتفضيلك اللسان، ولو * أكثر فيك الضجاج، واللجب وقيل: أفرطت، بل قصدت، ولو * عنفني القائلون، أو ثلبوا (1) أنت المصفى المهذب المحض * في النسبة، إن نص قومك النسب فأخرج كلامه مخرج الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأراد به أهل بيته، لأن أحدا من المسلمين لا يعنف مادح النبي عليه السلام، ولا يكثر الضجاج واللجب في إطناب القول فيه، فكأنه قال: ألم تعلم أيها الإنسان (أن الله له ملك السماوات والأرض)، لأنه خلقهما وما فيهما. وقوله: (وما لكم) قال: إن الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: أتى بضمير الجمع في الخطاب تفخيما لأمره، وتعظيما لقدره. ومن قال هي خطاب له وللمؤمنين، أو لهم خاصة، فالمعنى: ألم تعلموا ما لكم أيها الناس (من دون الله) أي: سوى الله (من ولي) يقوم بأمركم، (ولا نصير) ناصر ينصركم. (أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سوآء السبيل (108)). اللغة: السؤال: هو أن يطلب أمر ممن يعلم معنى الطلب. وسواء بالمد (1) اللجب: كثرة أصوات الأبطال. ثلبه: عابه ولامه. (*)
[ 344 ]
على ثلاثة أوجه: بمعنى قصد، وعدل، وبمعنى وسط في قوله إلى سواء الجحيم، وبمعنى غير في قولك أتيت سواك أي: غيرك (1)، ومعنى ضل ههنا: ذهب عن الإستقامة. قال الأخطل: كنت القذى في موج أكدر مزبد * قذف الآتي (2) به فضل ضلالا الاعراب: (أم) هذه منقطعة، فإن (أم) على ضربين متصلة ومنقطعة: فالمتصلة عديلة الألف، وهي مفرقة لما جمعته أي: كما أن أو مفرقة لما جمعه أحد، تقول اضرب أيهم شئت زيدا، أم عمرا، أم بكرا، كما تقول اضرب أحدهم زيدا، أو عمرا، أو بكرا. والمنقطعة: لا تكون إلا بعد كلام، لأنها بمعنى بل، وهمزة الإستفهام كقول العرب: إنها لإبل أم شاء، كأنه قال: بل أهي شاء. فقوله (أم تريدون) تقديره: بل أتريدون، ومثله قول الأخطل: كذبتك عينك، أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا (أن تسألوا): موصول وصلة في محل النصب، لأنه مفعول (تريدون) كما أن الكاف حرف جر. (ما): حرف موصول. (سئل موسى): جملة فعلية هي صلة (ما). والموصول والصلة في محل الجر بالكاف، والكاف متعلق بتسألوا، والجار والمجرور في محل النصب على المصدر. و (من قبل): في محل النصب لأنه ظرف قوله (سئل). و (من): اسم للشرط في محل الرفع بالإبتداء والفاء في قوله (فقد ضل سواء السبيل): في محل الجزم لأنه جواب الشرط. ومعنى حرف الشرط الذي تضمنه (من) مع الجملتين، في محل الرفع، لأنه خبر المبتدأ. النزول: اختلف في سبب نزول الآية، فروي عن ابن عباس أنه قال: إن رافع بن حرملة، ووهب بن زيد، قالا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك. فأنزل الله هذه الآية. وقال الحسن: عنى بذلك مشركي العرب، وقد سألوا فقالوا: (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا) إلى قوله (أو تأتي بالله والملائكة قبيلا وقالوا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا). وقال السدي: سألت العرب محمدا أن يأتيهم بالله فيروه جهرة. وقال (1) قال الأخفش: سوى إذا كان بمعنى غير، أو بمعنى العدل فيه ثلاث لغات: إن ضممت السين أو كسرت قصرت، وإذا فتحت مددت. (2) سيل أتي: يأتي من حيث لا يدرك. (*)
[ 345 ]
مجاهد: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، قال: نعم ولكن يكون لكم كالمائدة لقوم عيسى عيه السلام، فرجعوا. وقال أبو علي الجبائي: روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سأله قوم أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط، وهي شجرة كانوا يعبدونها، ويعلقون عليها الثمر وغيره من المأكولات، كما سألوا موسى عليه السلام، (إجعل لنا إلها كما لهم آلهة). المعنى: (أم تريدون) أي: بل أتريدون (أن تسألوا رسولكم) يعني النبي محمدا (كما سئل موسى) أي: كما سأل قوم موسى موسى (من قبل) من الإقتراحات والمحالات (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) أي: من استبدل الجحود بالله وبآياته بالتصديق بالله، والإقرار به وبآياته، واقترح المحالات على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسأل عما لا يعنيه بعد وضوح الحق بالبراهين، (فقد ضل سواء السبيل) أي: ذهب عن قصد الطريق. وقيل: عن طريق الإستقامة. وقيل: عن وسط الطريق، لأن وسط الطريق خير من أطرافه. النظم: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما دل الله تعالى بما تقدم على تدبيره لهم، فيما يأتي به من الآيات، وما ينسخه، واختياره لهم ما هو الأصلح في كل حال، قال: أما ترضون بذلك، وكيف تتخيرون محالات. مع اختيار الله لكم ما يعلم فيه من المصلحة. فإذا أتى بآية تقوم بها الحجة، فليس لأحد الإعتراض عليها، ولا اقتراح غيرها، لأن ذلك بعد صحة البرهان بها، يكون تعنتا. (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير (109)). اللغة: الحسد: إرادة زوال نعمة المحسود إليه، أو كراهة النعمة التي هو فيها، وإرادة أن تصير تلك النعمة بعينها له. وقد يكون تمني زوال نعمة الغير حسدا، وإن لم يطمع الحاسد في تحول تلك النعمة إليه. وأشد الحسد التعرض للإغتمام بكون الخير لأحد. وأما الغبطة فهي أن يراد مثل النعمة التي فيها الغير، وان لم يرد زوالها عنه، ولا يكره كونها له، فهذه غير مذموم،
[ 346 ]
والحسد مذموم. ويقال: حسدته على الشئ أحسده حسدا، وحسدته الشئ بمعنى واحد، ومنه قول الشاعر: (يحسد الناس الطعاما). والصفح، والعفو، والتجاوز عن الذنب بمعنى. ويقال لظاهر جلدة الإنسان: صفحته، وكذا هو من كل شئ. ومنه صافحته أي: لقت صفحة كفه صفحة كفي. وقولهم: صفحت عنه فيه قولان أحدهما: إن معناه أني لم آخذه بذنبه، وأبديت له مني صفحة جميلة. والآخر أنه لم ير مني ما يقبض صفحته. ويقال: صفحت الورقة أي: تجاوزتها إلى غيرها، ومنه تصفحت الكتاب، وقد يتصفح الكتاب من لا يحسن أن يقرأه. الاعراب: (من): في قوله (من أهل الكتاب) يتعلق بمحذوف تقديره فريق كائنون من أهل الكتاب، فيكون صفة لكثير من بعد في محل النصب على الظرف، والعامل فيه يرد (1). و (كفارا): مفعول ثان ليرد (1)، ومفعوله الأول كم من (يردونكم)، وفي انتصاب قوله (حسدا) وجهان أحدهما: إن الجملة التي قبله تدل على الفعل الذي هو مصدره، وتقديره حسدوكم حسدا، كما يقال: فلان يتمنى لك الشر حسدا، فكأنه قال: يحسدك حسدا. والآخر: أن يكون مفعولا له، فكأنه قال: يردونكم كفارا لأجل الحسد، كما تقول جئته خوفا منه. وقوله (من عند أنفسهم): يتعلق بقوله (ود كثير) لا بقوله (حسدا) لأن حسد الإنسان لا يكون من غير نفسه. قال الزجاج، وقال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله (حسدا) على التوكيد، كقوله، عز وجل: (ولا طائر يطير بجناحيه). ويحتمل وجها آخر، وهو أن يكون اليهود قد أضافوا الكفر والمعاصي إلى الله تعالى، فقال سبحانه تكذيبا لهم: إن ذلك (من عند أنفسهم). وقوله (ما تبين): ما حرف موصول، و (تبين لهم الحق): صلته، والموصول والصلة في محل الجر بإضافة (بعد) إليه (حتى يأتي الله) يأتي: منصوب بإضمار أن، وهما في محل الجر بحتى، والجار والمجرور مفعول (فاعفوا واصفحوا). (1) كذا في النسخ ولكن الظاهر (يردون) بدل (يرد) في الموضعين. (*)
[ 347 ]
النزول: نزلت الآية في حيي بن أخطب، وأخيه أبي ياسر بن أخطب، وقد دخلا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة، فلما خرجا قيل لحيي: أهو نبي ؟ قال: هو هو. فقيل: فما له عندك ؟ قال: العداوة إلى الموت، وهو الذي نقض العهد، وأثار الحرب يوم الأحزاب، عن ابن عباس. وقيل: نزلت في كعب بن الأشرف، عن الزهري. وقيل: في جماعة اليهود، عن الحسن. المعنى: ثم أخبر الله سبحانه، عن سرائر اليهود، فقال: (ود) أي: تمنى (كثير من أهل الكتاب) كحيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وأمثالهما (لو يردونكم) (1) يا معشر المؤمنين أي: يرجعونكم (من بعد إيمانكم كفارا حسدا) منهم لكم، بما أعد الله لكم من الثواب والخير. وإنما قال (كثير من أهل الكتاب) لأنه إنما آمن منهم القليل كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار. وقيل: إنما حسد اليهود المسلمين على وضع النبوة فيهم، وذهابها عنهم، وزوال الرئاسة إليهم. وقوله (من عند أنفسهم) قد بينا ما فيه في الإعراب. وقوله (من بعد ما تبين لهم الحق) أي: بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله، والإسلام دين الله، عن ابن عباس وقتادة والسدي. وقوله: (فاعفوا واصفحوا) أي: تجاوزوا عنهم. وقيل: أرسلوهم فإنهم لا يفوتون الله، ولا يعجزونه. وإنما أمرهم بالعفو والصفح، وإن كانوا مضطهدين مقهورين، من حيث إن كثيرا من المسلمين كانوا عزيزين في عشائرهم وأقوامهم، يقدرون على الإنتقام من الكفار، فأمرهم الله بالعفو، وإن كانوا قادرين على الإنتصاف. (حتى يأتي الله بأمره) أي: بأمره لكم بعقابهم، أو يعاقبهم هو على ذلك. ثم أتاهم بأمره فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون) الآية، عن أبي علي. وقيل: بأمره أي: بآية القتل والسبي لبني قريظة، والجلاء لبني النضير، عن ابن عباس. وقيل: بأمره بالقتال، عن قتادة، فإنه قال: هذه الآية منسوخة بقوله (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) الآية. وبه قال الربيع والسدي. وقيل: نسخت بقوله (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). وروي عن الباقر عليه السلام أنه قال: لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتال، ولا أذن له (1) [ معناه: أن يردونكم ]. (*)
[ 348 ]
فيه، حتى نزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) وقلده سيفا. وقوله: (إن الله على كل شئ قدير) فيه ثلاثة أقال: أحدها: إنه قدير على عقابهم، إذ هو على كل شئ قدير، عن أبي علي وثانيها: إنه قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب، مما هو الأليق بالحكمة، فيأمر بالصفح تارة، وبالعقاب اخرى، على حسب المصلحة، عن الزجاج وثالثها: إنه لما أمر بالامهال والتأخير في قوله (فاعفوا واصفحوا) قال: إن الله قادر على عقوبتهم، بأن يأمركم بقتالهم، ويعاقبهم في الآخرة بنفسه. (وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110)). الاعراب: (ما): اسم للشرط في موضع رفع بالإبتداء. و (تقدموا): شرط. (من خير): من مزيدة، والجار والمجرور مفعول (تقدموا). و (تجدوه): مجزوم لأنه جزاء، وعلامة الجزم في الشرط والجزاء سقوط النون، ومعنى حرف الشرط الذي تضمنه (ما) مع الشرط والجزاء في محل الرفع، لأنه خبر المبتدأ. وما في قوله (بما تعملون) اسم موصول، أو حرف موصول. والموصول والصلة في موضع جر بالباء، والباء متعلق ب‍ (بصير) الذي هو خبر (إن). المعنى: لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالصفح عن الكفار، والتجاوز، علم أنه يشق عليهم ذلك، مع شدة عداوة اليهود وغيرهم لهم، فأمرهم بالإستعانة على ذلك بالصلاة والزكاة، فإن في ذلك معونة لهم على الصبر، مع ما يحوزون بهما من الثواب والأجر، كما قال في موضع آخر: (واستعينوا بالصبر والصلوة). وقوله: (وما تقدموا لأنفسكم من خير) أي: من طاعة، وإحسان، وعمل صالح (تجدوه عند الله) أي: تجدوا ثوابه معدا لكم عند الله. وقيل: معناه تجدوه مكتوبا محفوظا عند الله ليجازيكم به. وفي هذه الآية دلالة على أن ثواب الخيرات والطاعات لا يضيع، ولا يبطل، ولا يحبط، لأنه إذا أحبط لا تجدونه. وقوله (إن الله بما تعملون بصير) أي: لا يخفى عليه شئ من أعمالكم، سبجازيكم على الإحسان بما تستحقونه من الثواب،
[ 349 ]
وعلى الإساءة بما تستحقونه من العقاب، فاعملوا عمل من يستيقن أنه يجازيه على ذلك، من لا يخفى عليه شئ من عمله. وفي هذا دلالة على الوعد والوعيد، والأمر والزجر، وإن كان خبرا عن غير ذلك في اللفظ. (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)). اللغة: في هود ثلاثة أقوال أحدها: إنه جمع هائد كعائذ وعوذ، وعائط وعوط، وهو جمع للمذكر والمؤنث على لفظ واحد. والهائد: التائب الراجع إلى الحق وثانيها: أن يكون مصدرا يصلح للواحد والجمع، كما يقال: رجل فطر، وقوم فطر، ورجل صوم، وقوم صوم. وثالثها: أن يكون معناه إلا من كان يهودا، فحذفت الياء الزائدة. والبرهان، والحجة، والدلالة، والبيان، بمعنى واحد: وهو ما أمكن الإستدلال به على ما هو دلالة عليه مع قصد فاعله إلى ذلك. وفرق علي بن عيسى بين الدلالة والبرهان، بأن قال: الدلالة قد تنبئ عن معنى فقط لا يشهد بمعنى آخر، وقد تنبئ عن معنى يشهد بمعنى آخر. والبرهان ليس كذلك، لأنه بيان عن معنى ينبئ عن معنى آخر، وقد نوزع في هذا الفرق. وقيل: إنه محض الدعوى. الاعراب: (قالوا): جملة فعلية. و (الجنة) ظرف مكان ليدخل. و (إلا) ها هنا: لنقض النفي. و (من) موصول، وهو مع صلته مرفوع الموضع بأنه فاعل (يدخل). و (لن يدخل) مع ما بعده معمول (قالوا). وإن حرف شرط، وجوابه محذوف، وتقديره إن كنتم صادقين، فهاتوا برهانكم. المعنى: ثم حكى سبحانه نبذا من أقوال اليهود ودعاويهم الباطلة، فقال: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وهذا على الإيجاز، وتقديره: قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، ووحد كان لأن لفظة (من) قد تكون للواحد، وقد تكون للجماعة. وإنما قلنا: إن الكلام مقدر هذا التقدير، لأن من المعلوم أن اليهود لا يشهدون للنصارى بالجنة، ولا النصارى
[ 350 ]
لليهود، فعلمنا أنه أدرج الخبر عنهما للايجار من غير إخلال بشئ من المعنى، فإن شهرة الحال تغني عن البيان الذي ذكرنا، ومثله قول حسان بن ثابت: أمن يهجو رسول الله منكم، * ويمدحه، وينصره سواء تقديره: ومن يمدحه وينصره. غير أنه لما كان اللفظ واحدا، جمع مع الأول، وصار كأنه إخبار عن جماعة واحدة، وإنما حقيقته عن بعضين متفرقين. وقوله (تلك أمانيهم) أي: تلك المقالة أماني كاذبة يتمنونها على الله، عن قتادة، والربيع. وقيل: أمانيهم أباطيلهم بلغة قريش، عن المؤرج. وقيل: معناه تلك أقاويلهم وتلاوتهم من قولهم تمنى أي: تلا. وقد يجوز في العربية أمانيهم بالتخفيف، والتثقيل أجود. (قل) يا محمد (هاتوا) أي: أحضروا وليس بأمر، بل هو تعجيز وإنكار بمعنى إذا لم يمكنكم الإتيان ببرهان يصحح مقالتكم، فاعلموا أنه باطل فاسد (برهانكم) أي: حجتكم، عن الحسن ومجاهد والسدي: (إن كنتم صادقين) في قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. وفي الآية دلالة على فساد التقليد، ألا ترى أنه لو جاز التقليد لما أمروا بأن يأتوا فيما قالوه ببرهان ؟ وفيها أيضا دلالة على جواز المحاجة في الدين. (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112)). اللغة: أسلم يستعمل في شيئين أحدهما: أسلمه إلى كذا أي: صرفه إليه. تقول: أسلمت الثوب إليه. والعاني: أسلم له: بمعنى أخلص له، ومنه قوله ورجلا سلما لرجل أي: خالصا. وقال زيد بن عمرو بن نفيل: أسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن، تحمل عذبا زلالا ويروى وأسلمت نفسي. والوجه: مستقبل كل شئ. ووجه الإنسان: محياه. ويقال: وجه الكلام تشبيها بوجه الإنسان، لأنه أول ما يبدو منه، ويعرف به. ويقال: هذا وجه الرأي أي: الذي يبدو منه ويعرف به. والوجه من كل شئ: أول ما يبدو فيظهر بظهوره ما بعده، وقد استعملت العرب لفظة وجه الشئ، وهم
[ 351 ]
يريدون نفسه، إلا أنهم ذكروه باللفظ الأشرف الأنبه، ودلوا عليه به، كما قال سبحانه: (كل شئ هالك إلا وجهه) أي: إلا هو (ويبقى وجه ربك) أي: ربك. وقال الأعشى: وأول الحكم على وجهه * ليس قضائي بالهوى الجائر أي: على ما هو به من الصواب. وقال ذو الرمة: فطاوعت همي، وانجلى وجه نازل * من الامر لم يترك خلاجا نزولها يريد: وانجلى النازل من الأمر. الاعراب: (بلى) يدخل في جواب الإستفهام مثل قوله: (ألست بربكم قالوا بلى). ويصلح أن يكون تقديره هنا أما يدخل الجنة أحد، فقيل: بلى من أسلم وجهه لله، لأن ما تقدم يقتضي هذا السؤال. ويصلح أن يكون جوابا للجحد على التكذيب، كقولك: ما قام زيد، فيقول: بلى قد قام. ويكون التقدير هنا ليس الأمر كما قال الزاعمون لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، أو نصارى، ولكن من أسلم وجهه لله، وهو محسن، فهو يدخلها. و (من أسلم): يجوز أن يكون (من) موصولا، ويجوز أن يكون للشرط، فيكون (أسلم) إما صلة له، وإما مجزوم الموضع بكونه شرطا، أو يكون (من) مبتدأ، والفاء في قوله (فله أجره) للجزاء. واللام تتعلق بمحذوف في محل الرفع، لأنه خبر لقوله (أجره). والمبتدأ مع خبره في محل الرفع، لوقوعه بعد الفاء. والفاء مع ما دخل فيه، في محل الجزم. ومعنى حرف الشرط الذي تضمنه (من) مع الشرط والجزاء في محل الرفع بأنه خبر المبتدأ، وإن كان (من) موصولا. فمن مع أسلم مبتدأ. والفاء مع الجملة بعده خبره. و (عند ربه) ظرف مكان في موضع النصب على الحال، تقديره كائنا عند ربه. والعامل فيه المحذوف الذي تعلق به اللام. وذو الحال الضمير المستكن فيه. وقوله (وهو محسن): في موضع نصب على الحال، وإنما قال (فله أجره) على التوحيد، ثم قال (ولا خوف عليهم) لأن من مفرد اللفظ مجموع المعنى، فيحمل على اللفظ مرة، وعلى المعنى أخرى.
[ 352 ]
المعنى: ثم رد الله سبحانه عليهم مقالتهم، فقال: (بلى من أسلم وجهه لله) قيل: معناه من أخلص نفسه لله، بأن سلك طريق مرضاته، عن ابن عباس. وقيل: وجه وجهه لطاعة الله. وقيل: فوض أمره إلى الله. وقيل: استسلم لأمر الله، وخضع وتواضع لله، لأن أصل الإسلام الخضوع والإنقياد، وإنما خص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود، لم يبخل بسائر جوارحه (وهو محسن) في عمله. وقيل: وهو مؤمن. وقيل: مخلص (فله أجره عند ربه) معناه: فله جزاء عمله عند الله (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) في الآخرة. وهذا ظاهر على قول من يقول إنه لا يكون على أهل الجنة خوف في الآخرة. وأما على قول من قال إن بعضهم يخاف، ثم يأمن، فمعناه أنهم لا يخافون فوت جزاء أعمالهم، لأنهم يكونون على ثقة بأن ذلك لا يفوتهم. (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113)). اللغة: القيامة: مصدر، إلا أنه صار كالعلم على وقت بعينه، وهو الوقت الذي يبعث الله، عز وجل، فيه الخلق، فيقومون من قبورهم إلى محشرهم، تقول: قام يقوم قياما وقيامة مثل عاد يعود عيادا وعيادة. الاعراب: (وهم يتلون): جملة من مبتدأ وخبر، منصوبة الموضع على الحال، والعامل (قالت) وذو الحال اليهود والنصارى. والكاف في (كذلك) يتعلق بيتلون، أو بقال الذين، وتقديره وهم يتلون الكتاب كتلاوتكم، أو قال الذين لا يعلمون، وهم المشركون، كقول اليهود والنصارى، ومثل صفة مصدر محذوف تقديره: قولا مثل قولهم. النزول: قال ابن عباس: إنه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شئ، وجحد نبوة عيسى، وكفر بالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران: ليست اليهود على شئ، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله هذه الآية.
[ 353 ]
المعنى: ثم بين سبحانه ما بين أهل الكتاب من الإختلاف مع تلاوة الكتاب، فقال (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ) في تدينهم بالنصرانية (وقالت النصارى ليست اليهود على شئ) في تدينهم باليهودية (وهم يتلون الكتاب) أي: يقرأونه، وذكر فيه وجهان أحدهما: إن فيه حل الشبهة بأنه ليس في تلاوة الكتاب معتبر في الإنكار لما لم يؤت على إنكاره ببرهان، فلا ينبغي أن يدخل الشبهة بإنكار أهل الكتاب لملة الإسلام، إذ كل فريق من أهل الكتاب، قد أنكر ما عليه الآخر. ثم بين أن سبيلهم كسبيل من لا يعلم الكتاب من مشركي العرب وغيرهم ممن لا كتاب لهم في الإنكار لدين الإسلام. والوجه الآخر: الذم لمن أنكر ذلك من أهل الكتاب على جهة العناد، إذ قد ساوى المعاند منهم للحي الجاهل به في الدفع له، فلم ينفعه علمه. وقوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) معناه: إن مشركي العرب الذين هم جهال، وليس لهم كتاب، هكذا قالوا لمحمد وأصحابه إنهم ليسوا على شئ من الدين، مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض، عن السدي، ومقاتل. وقيل: معناه إن مشركي العرب قالوا بأن جميع الأنبياء وأممهم لم يكونوا على شئ، وكانوا على خطأ (1)، فقد ساووكم يا معشر اليهود في الإنكار، وهم لا يعلمون. وقيل: إن هولاء الذين لا يعلمون أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة والإنجيل، كقوم نوح وعاد وثمود، قالوا لأنبيائهم: لستم على شئ، عن عطاء. وقيل: إن الأصح أن المراد بقوله (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) أسلاف اليهود، والمراد بقوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ) هؤلاء الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه حكي قول مبطل لمبطل، فلا يجوز أن يعطف عليه قول مبطل لمحق. وقوله: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) فيه وجوه أحدها: إن حكمه بينهم أن يكذبهم جميعا، ويدخلهم النار، عن الحسن وثانيها: إن حكمه فيهم الإنتصاف من الظالم المكذب بغير حجة ولا برهان للمظلوم المكذب، عن أبي علي وثالثها: إن حكمه أن يريهم من يدخل الجنة عيانا، ومن (1) [ أي ]. (*)
[ 354 ]
يدخل النار عيانا، وهذا هو الحكم الفصل في الآخرة بما يصير إليه كل فرقة. فأما الحكم بينهم في العقد، فقد بينه الله، جل وعز، فيما أظهر من حجج المسلمين، وفي عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، عن الزجاج. (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114)). اللغة: المنع، والصد، والحيلولة، نظائر. وضد المنع الإطلاق. يقال: منعته فامتنع. ورجل منيع أي: لا يخلص إليه، وهو في عز ومنعة تخفف وتثقل. وامرأة منيعة: لا تؤاتي على فاحشة. والسعي، والركض، والعدو، نظائر. وضد السعي الوقف. وفلان يسعى على عياله أي: يكسب لهم. وسعى للسلطان: إذا ولي أمر الصدقة، قال الشاعر (1): سعى عقالا فلم يترك لها سبدا (2) * فكيف لو قد سعى عمرو عقالين والعقال: صدقة عام. وساعى الرجل الأمة: إذا فجر بها، ولا تكون المساعاة إلا في الإماء. والخراب، والهدم، والنقض، نظائر. والخربة: سعة خرق الأذن، وكل ثقب مستدير. والخارب: اللص، قال الأصمعي يختص بسارق الإبل. والخرابة: سرقة الإبل. الاعراب: موضع (من) رفع، وهو استفهام. و (أظلم): رفع لأنه خبر الإبتداء. وموضع (أن) نصب على البدل من (مساجد)، وهو بدل الإشتمال، والتقدير: ومن أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه. ويجوز أن يكون موضع (أن) نصبا على أنه مفعول له، فيكون تقديره كراهة أن يذكر فيها اسمه. ويجوز أن يكون على حذف من وتقديره من أن يذكر. و (أن يدخلوها): في موضع رفع بأنه اسم كان. وقيل: إن (كان) ها هنا (1) هو عمرو بن العداء الكلبي. (2) وفي نسخ اخرى وفي اللسان: (لنا) بدل (لها). السيد: القليل من الشعر، يقال: ماله سبد، ولا لبد أي: لا شعر ولا صوف، يقال لمن لا شئ له. (*)
[ 355 ]
مزيدة، وتقديره ما لهم أن يدخلوها، فعلى هذا يكون موضع (أن يدخلوها) رفعا بالإبتداء، و (إلا): حرف الإستثناء، وهو هنا لنقض النفي. و (خائفين): منصوب على الحال. وقوله (خزي): مرفوع من وجهين أحدهما الإبتداء والآخر: أن يكون مرفوعا بلهم. وقوله (في الدنيا) الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، وذو الحال الضمير المستكن في لهم، وكذلك قوله (ولهم في الآخرة). النزول: اختلفوا في المعني بهذه الآية، فقال ابن عباس ومجاهد: إنهم الروم غزوا بيت المقدس، وسعوا في خرابه، حتى كانت أيام عمر، فأظهر الله المسلمين عليهم، وصاروا لا يدخلونه إلا خائفين. وقال الحسن، وقتادة: هو بخت نصر خرب بيت المقدس، وأعانه عليه النصارى. وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنهم قريش حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخول مكة، والمسجد الحرام، وبه قال البلخي، والرماني، والجبائي. وضعف هذا الوجه الطبري بأن قال: إن مشركي قريش لم يسعوا في تخريب المسجد الحرام، وقوله يفسد بأن عمارة المساجد إنما تكون بالصلاة فيها، وخرابها بالمنع من الصلاة فيها. وقد وردت الرواية بأنهم هدموا مساجد كان أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم يصلون فيها بمكة، لما هاجر النبي صلى الله عليه واله وسلم إلى المدينة قال: وهو أيضا لا يتعلق بما قبله من ذم أهل الكتاب، كما يتعلق به إذا عني به النصارى وبيت المقدس. وجوابه أنه قد جرى أيضا ذكر غير أهل الكتاب في قوله (كذلك قال الذين لا يعلمون) وهذا أقرب، لأن الكلام خرج مخرج الذم، فمرة توجه الذم إلى اليهود، ومرة إلى النصارى، ومرة إلى عبدة الأصنام، والمشركين. المعنى: (ومن أظلم) أي: وأي أحد أشد وأعظم ظلما (ممن منع مساجد الله) من (أن يذكر فيها اسمه) ويكون معناه: لا أحد أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه سبحانه، وعمل في المنع من إقامة الجماعة، والعبادة فيها. وإذا حمل قوله (مساجد الله) على بيت المقدس، أو على الكعبة، فإنما جاز جمعه على أحد وجهين: إما أن تكون مواضع السجود، فإن المسجد العظيم يقال لكل موضع منه مسجد، ويقال لجملته مسجد. وإما أن يدخل في هذه اللفظة المساجد التي بناها المسلمون للصلاة. وروي عن زيد بن علي عن آبائه، عن علي عليه السلام أنه أراد جميع الأرض، لقول
[ 356 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا، وترابها طهورا ". وقوله: (وسعى في خرابها) أي: عمل في تخريبها. والتخريب: إخراجهم أهل الإيمان منها عند الهجرة. وقيل: هو صدهم عنها، ويجوز حمله على الأمرين. وقيل: المراد المنع عن الصلاة والطاعة فيها، وهو السعي في خرابها. وقوله: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) فيه خلاف، قال ابن عباس: معناه انه لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا نهك (1) ضربا، وأبلغ عقوبة، وهو كذلك اليوم. ومن قال المراد به المسجد الحرام، قال: لما نزلت هذه الآية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مناديا فنادى: ألا لا يجحن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بهذا البيت عريان، فكانوا لا يدخلونه بعد ذلك. وقال الجبائي: بين الله سبحانه أنه ليس لهؤلاء المشركين دخول المسجد الحرام، ولا دخول غيره من المساجد. فإن دخل منهم داخل إلى بعض المساجد، كان على المسلمين إخراجه منه، إلا أن يدخل إلى بعض الحكام لخصومة بينه وبين غيره، فيكون في دخوله خائفا من الإخراج على وجه الطرد بعد انفصال خصومته، ولا يقعد فيه مطمئنا كما يقعد المسلم. قال الشيخ أبو جعفر، قدس الله روحه: وهذا يليق بمذهبنا، ويمكن الإستدلال بهذه الآية على أن الكفار لا يجوز أن يمكنوا من دخول المساجد على كل حال. فأما المسجد الحرام خاصة، فيستدل على أن المشركين يمنعون من دخوله، ولا يمكنون منه لحكومة، ولا غيرها، بأن الله تعالى قد أمر بمنعهم من دخوله بقوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) يعني المسجد الحرام. وقوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا). وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه في هذه الآية، أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم حتى لا يمكن دخول مخالف إلى مساجدهم إلا خائفا، وهذا كقوله سبحانه: (ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) فكأنه قيل: أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لإعزاز الله الدين إظهاره المسلمين. وقوله: (لهم في الدنيا خزي) قيل: فيه وجوه أحدها: أن يراد بالخزي أنهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، عن قتادة. وثانيها: إن المراد به القتل، وسبي الذراري والنساء، إن كانوا حربا، وإعطاء الجزية إن كانوا ذمة، عن الزجاج (1) نهكه: بالغ في عقوبته. (*)
[ 357 ]
وثالثها: إن المراد بخزيهم في الدنيا أنه إذا قام المهدي، وفتح قسطنطينية، فحينئذ يقتلهم، عن السدي. ورابعها: إن المراد بخزيهم طردهم عن دخول المساجد، عن أبي علي. وقوله: (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) يعني يوم القيامة يعذبهم الله في نار جهنم، بالعذاب الأعظم، إذ كانوا من كل ظالم أظلم. (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (115)). اللغة: المشرق والشرق: إسمان لمطلع الشمس والقمر. وشرقت الشمس: إذا طلعت. وأشرقت: أضاءت. ويقال: لا أفعل ذلك ما ذر شارق أي: ما طلع قرن الشمس. وأيام التشريق: أيام تشريق اللحم في الشمس. وفي الحديث: " لا تشريق إلا في مصر أو مسجد جامع " أي: لا صلاة عيد، لأن وقتها طلوع الشمس. والمغرب، والمغيب بمعنى: وهو موضع الغروب، يقال: غربت الشمس تغرب: إذا غابت. وأصل الغرب: الحد والتباعد. وغربة النوى (1): بعد المنتأى. وغرب السيف: حده، سمي بذلك لأنه يمضي، ولا يرد، فهو مأخوذ من الإبعاد. والواسع: الغني، سمي به لسعة مقدوراته. وقيل: هو الكثير الرحمة. والسعة، والفسحة، من النظائر. وضد السعة الضيق، يقال: وسع يسع سعة. وأوسع الرجل: إذا صار ذا سعة في المال. الاعراب: اللام في قوله (ولله المشرق والمغرب): لام الملك، وإنما وحد المشرق والمغرب، لأنه أخرج ذلك مخرج الجنس، فدل على الجمع، كما يقال: أهلك الناس الدينار والدرهم. وأين بني لتضمنه معنى الحرف، وإنما بني على الفتح لالتقاء الساكنين، وفيه معنى الشرط. و (تولوا): مجزوم بالشرط، وجوابه (فثم وجه الله). وعلامة الجزم في (تولوا) سقوط النون. و (أين): في موضع نصب لأنه ظرف لقوله (تولوا). وما في قوله، (أينما): هي التي تهئ الكلمة لعمل الجزم، ولذلك لم يجاز بإذ وحيث، حتى يضم إليهما ما فيقال: حيثما لكن أكن، وإذا ما تفعل أفعل. ولا يقال (1) قال الجوهري: غربة النوى: بعدها، والنوى: المكان الذي ننوي أن تأتيه في سفرك. (*)
[ 358 ]
حيث تكن أكن، وإذ تفعل أفعل. ويجوز في (أين) الجزم، وإن لم يدخل ما عليها، كقول الشاعر: أين تضرب بنا العداة تجدنا * نصرف العيس نحوها للتلاقي (1) و (ثم): موضعه نصب، لأنه ظرف مكان، وبني على الفتح لالتقاء الساكنين، وإنما بني في الأصل، لأنه معرفة، وحكم الاسم المعرف أن يكون بحرف، فبني لتضمنه معنى الحرف الذي يكون به التعريف والعهد. ألا ترى أن (ثم) لا تستعمل إلا في مكان معهود معروف لمخاطبك. النزول: اختلف في سبب نزول هذه الآية، فقيل: إن اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس، فنزلت الآية ردا عليهم، عن ابن عباس، واختاره الجبائي قال: بين سبحانه أنه ليس في جهة دون جهة، كما تقول المجسمة. وقيل: كان للمسلمين التوجه حيث شاؤوا في صلاتهم، وفيه نزلت الآية. ثم نسخ ذلك بقوله (فول وجهك شطر المسجد الحرام)، عن قتادة، قال: وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قد اختار التوجه إلى بيت المقدس، وكان له أن يتوجه حيث شاء. وقيل: نزلت في صلاة التطوع على الراحلة، تصليها حيثما توجهت إذا كنت في سفر. وأما الفرائض فقوله: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) يعني أن الفرائض لا تصليها إلا إلى القبلة، وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام، قالوا: وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إيماء على راحلته أينما توجهت به، حيث خرج إلى خيبر، وحين رجع من مكة، وجعل الكعبة خلف ظهره. وروي عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي هاهنا قبل الشمال. فصلوا وخطوا خطوطا. وقال بعضنا: القبلة هاهنا قبل الجنوب، وخطوا خطوطا. فلما أصبحوا، وطلعت الشمس، أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة. فلما قفلنا (2) من سفرنا، سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فسكت، فأنزل الله تعالى هذه الآية. المعنى: (ولله المشرق والمغرب) أراد أن المشرق والمغرب لله ملكا. (1) العيس: الإبل البيض التي يخالط بياضها شئ من الشقرة. (2) قفل: رجع من السفر خاصة. (*)
[ 359 ]
وقيل: أراد أنه خالقهما وصانعهما. وقيل: معناه يتولى إشراق الشمس من مشرقها، وإغرابها من مغربها. (فأينما تولوا فثم وجه الله) معناه: فأينما تولوا وجوهكم، فحذف المفعول للعلم به، فثم أي: فهناك وجه الله أي: قبلة الله، عن الحسن، ومجاهد، وقتادة. والوجه، والجهة، والوجهة: القبلة. ومثله الوزن والزنة. والعرب تسمي القصد الذي تتوجه إليه وجها، قال الشاعر: أستغفر الله ذنبا لست محصيه، * رب العباد إليه الوجه، والعمل معناه: إليه القصد بالعبادة. وقيل: معناه فثم الله يعلم ويرى فادعوه كيف توجهتم، كقوله تعالى: (يريدون وجهه) أي: يريدونه بالدعاء. ويقال لما قرب من المكان هنا، ولما تراخى ثم وهناك. وقوله: (كل شئ هالك إلا وجهه) أي: إلا هو (ويبقى وجه ربك) أي: ويبقى ربك، عن الكلبي. وقيل: معناه ثم رضوان الله، يعني الوجه الذي يؤدي إلى رضوانه، كما يقال: هذا وجه الصواب، عن أبي علي، والرماني. (إن الله واسع) أي: غني، عن أبي عبيدة. وتقديره: غني عن طاعتكم، وإنما يريدها لمنافعكم. وقيل: واسع الرحمة، فلذلك رخص في الشريعة، عن الزجاج. وقيل: واسع المقدور يفعل ما يشاء (عليم) أي: عالم بوجوه الحكمة، فبادروا إلى ما أمركم به. وقيل: عليم أين يضع رحمته على ما توجبه الحكمة. وقيل: عليم بنياتكم حيثما صليتم، ودعوتم. النظم: ووجه اتصال الآية بما قبلها أن التقدير لا يمنعكم تخريب من خرب المساجد عن أن تذكروه، حيث كنتم من أرضه، فلله المشرق والمغرب، والجهات كلها، عن علي بن عيسى. وقيل: لما تقدم ذكر الصلاة والمساجد، عقبه بذكر القبلة وبيانها. (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والارض كل له قانتون (116)). القراءة: قرأ ابن عامر: (قالوا) بغير واو. والباقون بالواو.
[ 360 ]
الحجة: حذف الواو هنا يجوز من وجهين أحدهما: أن يستأنف الجملة فلا يعطفها على ما تقدم والآخر: إن للجملة التي هي (قالوا اتخذ الله ولدا) ملابسة بما قبلها من قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله) الآية. فإن الذين قالوا اتخذ الله ولدا من جملة هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، فيستغنى عن الواو لالتباس الجملة بما قبلها، كما استغني عنها في نحو قوله: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، ولو كان وهم فيها خالدون، لكان حسنا. اللغة: الأصل في القنوت: الدوام، ثم يستعمل على وجوه، منها: أن يكون بمعنى الطاعة، كقوله: (كل له قانتون) أي: مطيعون. ومنها: أن يكون بمعنى الصلاة، كقوله: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين). وبمعنى طول القيام. وروى جابر بن عبد الله قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي الصلاة أفضل ؟ قال: طول القنوت، أي: طول القيام. ويكون بمعنى الدعاء، قال صاحب العين: القنوت في الصلاة دعاء بعد القراءة في آخر الوتر يدعو قائما، ومنه قوله: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) ويكون بمعنى السكوت، قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت (وقوموا لله قانتين)، فأمسكنا عن الكلام. النزول: نزلت الآية في النصارى حيث قالوا: المسيح ابن الله. وقيل: نزلت فيهم وفي مشركي العرب، حيث قالوا: الملائكة بنات الله. المعنى: لما حكى الله سبحانه قول اليهود في أمر القبلة، ورد عليهم قولهم، ذكر مقالتهم في التوحيد رادا عليهم، قال: (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه) أي: إجلالا له عن اتخاذ الولد، وتنزيها عن القبائح والسوء، والصفات التي لا تليق به. وروي عن طلحة بن عبيد الله أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن معنى قوله (سبحانه) فقال: تنزيها لله عن كل سوء، بل له ما في السموات والأرض. هذا رد عليهم قولهم (اتخذ الله ولدا) أي ليس الأمر كما زعموا (بل له ما في السموات والأرض) ملكا، والولد لا يكون ملكا للأب، لأن البنوة والملك لا يجتمعان، فكيف يكون الملائكة الذين هم في السماء، والمسيح الذي هو في الأرض، ولدا له ؟ فنبه بذلك على أن المسيح وغيره عبيد له، مخلوقون مملوكون،
[ 361 ]
فهم بمنزلة سائر الخلق. وقيل: معناه بل له ما في السماوات والأرض فعلا، والفعل لا يكون من جنس الفاعل، والولد لا يكون إلا من جنس أبيه، فإن من تبنى إنسانا، فالذي تبناه لا بد من أن يكون من جنسه. وقوله: (كل له قانتون) قال ابن عباس، ومجاهد: معناه مطيعون. وقال السدي: كل له مطيع يوم القيامة وقال الحسن: كل له قائم بالشهادة أنه عبده. وقال الجبائي: كل دائم على حال واحدة بالشهادة بما فيه من آثار الصنعة، والدلالة على الربوبية. وقال أبو مسلم: كل في ملكه وقهره، يتصرف فيه كيف يشاء، لا يمتنع عليه. (بديع السموات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (117)). القراءة: قرأ ابن عامر: (فيكون) بالنصب. والباقون بالرفع. الاعراب والحجة: قال أبو علي: يمتنع النصب في قوله (فيكون) لأن قوله (كن) وإن على لفظ الأمر، فليس بأمر، ولكن المراد به الخبر، لأن المنفي الذي ليس بكائن، لا يؤمر، ولا يخاطب، فالتقدير: نكون (1) فيكون. فاللفظ لفظ الأمر، والمراد الخبر، كقولهم في التعجب: أكرم بزيد، فإذا لم يكن قوله كن أمرا في المعنى، وإن كان على لفظه، لم يجز أن ينصب الفعل بعد الفاء، بأنه جواب، كما لم يجز النصب في الفعل الذي يدخله الفاء بعد الإيجاب، نحو: آتيك فأحدثك، إلا أن يكون في شعر نحو قوله: لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها، * ويأوي إليها المستجير فيعصما (2) ويدل أيضا على امتناع النصب فيه أن الجواب بالفاء مضارع الجزاء، فلا يجوز إذهب فيذهب، على قياس قراءة ابن عامر كن فيكون، لأن المعنى يصير إن ذهبت ذهبت، وهذا الكلام لا يفيد، وإنما يفيد إذا اختلف الفاعلان والفعلان، نحو: قم فأعطيك، لأن المعنى إن قمت أعطيتك، وإذا كان الأمر على هذا لم يكن ما روي عنه من نصبه فيكون متجها. ويمكن أن يقال فيه: إن اللفظ لما كان على لفظ الأمر، حمله على اللفظ، كما حمل أبو الحسن في نحو قوله: (قل لعبادي الذين آمنوا) (هامش) * (1) وفي بعض النسخ المخطوطة: (يكون) بالمثناة التحتانية بدل النون. (2) الهضبة: الجبل المنبسط على وجه الأرض. (*)
[ 362 ]
يقيموا الصلوة) على أنه أجري مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن جوابا له على الحقيقة، فالوجه في يكون الرفع على أن يكون معطوفا على كن، لأن المراد به نكون فيكون، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: فهو يكون. اللغة: البديع: بمعنى المبدع، كالسميع بمعنى المسمع، وبينهما فرق من حيث ان في بديع مبالغة ليست في مبدع، ويستحق الوصف به في غير حال الفعل على الحقيقة بمعنى أن من شأنه إنشاء الأشياء على غير مثال، واحتذاء. والإبتداع والإختراع والإنشاء نظائر، وكل من أحدث شيئا فقد أبدعه، والإسم البدعة. وفي الحديث: " كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار ". والقضاء، والحكم، من النظائر، وأصل القضاء: الفصل، وإحكام الشئ. قال أبو ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما * داود، أو صنع السوابغ تبع (1) أي: أحكمهما. ثم ينصرف على وجوه منها الأمر والوصية، كقوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) أي: وصى ربك، وأمر. ومنها: أن يكون بمعنى الإخبار والإعلام كقوله: (وقضينا إلى بني إسرائيل) أي: أخبرناهم. وقوله: (وقضينا إليه ذلك الأمر) أي: عهدنا إلى لوط. ومنها: أن يكون بمعنى الفراغ، نحو قوله: (فإذا قضيتم مناسككم) أي: فرغتم من أمر المناسك. وقوله: (فإذا قضيتم الصلاة). وفيما رواه علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جده الصادق عليهم السلام، قال القضاء على عشرة أوجه ذكر فيه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها والرابع: بمعنى الفعل في قوله (فاقض ما أنت قاض) أي: فافعل ما أنت فاعل. ومنه قوله: (إذا قضى أمرا) يعني إذا فعل أمرا كان في علمه أن يفعله، إنما يقول له كن فيكون. ومنه قوله: (إذا قضى الله ورسوله أمرا) يقول: ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا فعل الله ورسوله شيئا في تزويج زينب، أن يكون لهم الخيرة من أمرهم والخامس: في قوله (ليقض علينا ربك) أي: لينزل علينا الموت. وقوله (فوكزه موسى فقضى عليه) أي فأنزل به الموت. والسادس: قوله (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر) أي: وجب (1) المسرود: الدرع. وقوله: " أو صنع السوابغ " عطف على داود أي: أو قضاهما الحاذق في صنعة الدروع، وهو تبع. (*)
[ 363 ]
العذاب، فوقع بأهل النار. وكذا قوله: (وقال الشيطان لما قضي الأمر). والسابع. قوله: (وكان أمرا مقضيا) أي: مكتوبا في اللوح المحفوظ، أنه يكون. والثامن: بمعنى الإتمام في نحو قوله: (فلما قضى موسى الأجل) أي: أتم. و (أيما الأجلين قضيت) أي: أتممت. وقوله: (من قبل أن يقضي إليك وحيه) يعني من قبل أن يتم جبرائيل إليك الوحي والتاسع: بمعنى الحكم الفصل، كقوله: (وقضى بينهم بالحق وإن ربك يقضي بينهم) أي يفصل. وفي الأنعام (يقضي بالحق) أي: يفصل الأمر بيني وبينكم بالعذاب. والعاشر: بمعنى الجعل في قوله (فقضاهن سبع سموات) أي: جعلهن. المعنى: لما نزه الله سبحانه نفسه عن اتخاذ الأولاد، ودل عليه بأن له ما في السماوات والأرض، أكد ذلك بقوله: (بديع السموات والأرض) أي: منشئ السماوات والأرض على غير مثال امتثله، ولا احتذاء من صنع خالق كان قبله. (وإذا قضى أمرا) قيل: معناه إذا فعل أمرا أي: أراد إحداث أمر كقوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) أي: إذا أردت قراءة القرآن. وقيل: معناه إذا أحكم أمرا. وقيل: معناه حكم وحتم بأنه يفعل أمرا والأول أوجه. وقوله: (فإنما يقول له كن فيكون) اختلف فيه على وجوه أحدها: إنه بمنزلة التمثيل، لأن المعدوم لا يصح أن يخاطب، ولا يؤمر، وحقيقة معناه أن منزلة الفعل في تسهيله وتيسره عليه، وانتفاء التعذر منه، كمنزلة ما يقال له كن فيكون، كما يقال: قال فلان برأسه، أو بيده كذا: إذا حرك رأسه، أو أومى بيده ولم يقل شيئا على الحقيقة، وكما قال أبو النجم: قد قالت الأنساع للبطن الحق * قدما، فآضت كالفنيق المحنق (1) وقال العجاج يصف ثورا: وفيه كالأعراض للعكور * فكر ثم قال في التفكير: إن الحياة اليوم في الكرور وقاد عمرو بن قميئة السدوسي: فأصبحت مثل النسر طارت فراخه * إذا رام تطيارا يقال له: قع (1) الفنيق: الفحل المكرم لا يؤذى ولا يركب لكرامته. المحنق: الضامر. (*)
[ 364 ]
وقال آخر: وقالت له العينان: سمعا وطاعة، * وحدرتا كالدر لما يثقب والمشهور فيه قول الشاعر: آمتلأ الحوض، وقال: قطني، * مهلا رويدا قد ملات بطني وهو قول أبي علي، وأبي القاسم، وجماعة من المفسرين وثانيها: إنه علامة جعلها الله للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا، وهذا هو المحكي عن أبي الهذيل. وثالثها: ما قاله بعضهم: إن الأشياء المعدومة لما كانت معلومة عند الله تعالى، صارت كالموجود، فصح أن يخاطبها، ويقول لما شاء إيجاده منها كن. والأصح من الأقوال الأول، وهو الأشبه بكلام العرب، ويؤيده قوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) وإن حمل على القول الثاني، فالمراد أن يقول للملائكة على جهة الإعلام منه لهم، وإخباره إياهم عن الغيب: كن أي: يقول أكون فيكون فاعل كن الله، وهو في معنى الخبر وان كان اللفظ لفظ الأمر على ما تقدم بيانه. وقد يجوز على هذا أن يكون فاعل كن الشئ المعدوم المراد كونه، وتقديره يقول من أجله للملائكة يكون شئ كذا، فيكون ذلك على ما يخبر به، لا خلف له، ولا تبديل عما يخبر به. وأما القول الثالث فبعيد لأن المعدوم لا يصح خطابه، ولا أمره بالكون والوجود، ليخرج بهذا الأمر إلى الوجود، لأن ذلك امتثال للأمر، وتلق له بالقبول والطاعة، وهذا إنما يتصور من المأمور الموجود دون المعدوم، ولو صح ذلك لوجب أن يكون المأمور المعدوم فاعلا لنفسه، كما يكون المتلقي لما يؤمر به بالقبول فاعلا لما أمر به، وهذا فاسد ظاهر البطلان. وقال بعضهم: إنما يقول كن عند وجود الأشياء لا قبلها، ولا بعدها، كقوله تعالى: (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون). وإنما أراد أنه يدعوهم في حال خروجهم لا قبله ولا بعده. وهذا الوجه أيضا ضعيف، لأن من شرط حسن الأمر أن يتقدم المأمور به، وكذلك الدعاء. وفي هذه الآية دلالة على أنه سبحانه لا يجوز أن يتخذ ولدا، لأنه إذا ثبت أنه منشئ السماوات والارض، ثبت بذلك أنه سبحانه ليس بصفة الأجسام والجواهر، لأن الجسم يتعذر عليه فعل الأجسام، ومن كان بهذه الصفة لم يجز عليه اتخاذ
[ 365 ]
الولد، ولأنه سبحانه قد أنشأ عيسى من غير أب، من حيث هو مبدع الأشياء، فجل عن اتخاذ الأبناء، وتعالى علوا كبيرا. (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون (118)). اللغة: اليقين، والعلم، والمعرفة، نظائر في اللغة. ونقيضه الشك والجهل. وأيقن، وتيقن، واستيقن، بمعنى. وقال صاحب العين: اليقن اليقين قال: وما بالذي أبصرته العيون * من قطع يأس، ولا من يقن فاليقين: علم يثلج به الصدر، ولذلك يقال: وجدت برد اليقين، ولا يقال: وجدت برد العلم ! الاعراب: (لولا): بمعنى هلا، ولا تدخل إلا على الفعل، ومعناها التحضيض قال: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بني ضوطرى، لولا الكمي المقنعا (1) أي: هلا تعقرون الكمي المقنع، والكاف في (كذلك). تتعلق بقال. والجار والمجرور في موضع نصب على المصدر أي: كقولهم. المعنى: لما بين سبحانه حالهم في إنكارهم التوحيد، وادعائهم عليه اتخاذ الأولاد، عقبه بذكر خلافهم في النبوات، وسلوكهم في ذلك طريق التعنت والعناد، فقال: (وقال الذين لا يعلمون) وهم النصارى، عن مجاهد. واليهود، عن ابن عباس. ومشركو العرب، عن الحسن، وقتادة، وهو الأقرب، لأنهم الذين سألوا المحالات، ولم يقتصروا على ما ظهر واتضح من المعجزات، وقالوا: (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) (1) عقر الإبل: قطع قوائمها بالسيف. النيب جمع الناب: وهي الناقة المسنة، وبنو ضوطرى: حي، الكمي: الشجاع المقنع: الذي علته بيضة الحديد. (*)
[ 366 ]
الآيات إلى آخرها. ولأنه وصفهم بأنهم لا يعلمون، فبين أنهم ليسوا من أهل الكتاب. ومن قال المراد به النصارى،. قال: لأنه قال قبلها (وقالوا اتخذ الله ولدا) وهم الذين قالوا المسيح ابن الله. وهذا لا دلالة فيه، لأنه يجوز أن يذكر قوما، ثم يستأنف فيخبر عن قوم آخرين. على أن مشركي العرب قد أضافوا أيضا إلى الله سبحانه البنات، فدخلوا في جملة من قال (اتخذ الله ولدا) وقوله: (لولا يكلمنا الله) أي: هلا يكلمنا معاينة فيخبرنا بأنك نبي. وقيل: معناه هلا يكلمنا بكلامه، كما كلم موسى وغيره من الأنبياء. وقوله: (أو تأتينا آية) أي: تأتينا آية موافقة لدعوتنا، كما جاءت الأنبياء آيات موافقة لدعوتهم، ولم يرد أنه لم تأتهم آية، لأنه قد جاءتهم الآيات والمعجزات. وقوله: (كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم) قيل: هم اليهود حيث اقترحوا الآيات على موسى، عن مجاهد، لأنه حمل قوله (الذين لا يعلمون) على النصارى. وقيل: هم اليهود والنصارى جميعا، عن قتادة، والسدي. وقيل: سائر الكفار الذين كانوا قبل الإسلام، عن أبي مسلم. (تشابهت قلوبهم) أي: أشبه بعضها بعضا في الكفر، والقسوة، والإعتراض على الأنبياء من غير حجة، والتعنت والعناد، كقول اليهود لموسى: (أرنا الله جهرة)، وقول النصارى للمسيح: (أنزل علينا مائدة من السماء)، وقول العرب لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم: حول لنا الصفا ذهبا. ولذلك قال الله سبحانه أتواصوا به. وقوله: (فد بينا الآيات) يعني الحجج والمعجزات التي يعلم بها صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لقوم يوقنون) أي: يستدلون بها من الوجه الذي يجب الإستدلال به، فأيقنوا لذلك، فكذلك فاستدلوا أنتم حتى توقنوا كما أيقن أولئك. والمعنى فيه: إن فيما ظهر من الآيات الباهرات الدالة على صدقه كفاية لمن ترك التعنت والعناد. فإن قيل: لم يؤتوا الآيات التي اقترحوها لتكون الحجة عليهم آكد ؟ قلنا: الإعتبار في ذلك بالمصالح، ولو علم الله سبحانه أن في إظهار ما اقترحوه من الآيات مصلحة، لأظهرها، فلما لم يظهرها، علمنا أنه لم يكن في إظهارها مصلحة. (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم (119)). القراءة: قرأ نافع: (ولا تسأل) بفتح التاء والجزم على النهي، وروي
[ 367 ]
ذلك عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وابن عباس ذكر ذلك الفراء، وأبو القاسم البلخي. والباقون: على لفظ الخبر على ما لم يسم فاعله. الحجة: الرفع في تسأل يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون حالا، فيكون مثل ما عطف عليه من قوله بشيرا ونذيرا أي: وغير مسؤول، ويكون ذكر الجملة بعد المفرد الذي هو قوله (بشيرا) كما ذكر الجملة في قوله (ويكلم الناس في المهد وكهلا) بعدما تقدم من المفرد، وكذلك قوله: (ومن المقربين)، وهو هنا يجري مجرى الجملة والآخر: أن يكون منقطعا عن الأول، مستأنفا به، كأنه قيل ولست تسأل عن أصحاب الجحيم. وأما قراءة نافع (ولا تسأل) بالجزم ففيه قولان أحدهما: أن يكون على النهي عن المسألة والآخر: أن يكون النهي لفظا، والمعنى على تفخيم ما أعد لهم من العقاب، كقول القائل: لا تسأل عن حال فلان أي: قد صار إلى أكثر مما تريده. وسألت يتعدى إلى مفعولين مثل أعطيت، قال الشاعر: سألتاني الطلاق إذ رأتاني * قل مالي قد جئتماني بنكر ويجوز أن يقتصر فيه على مفعول واحد، ثم يكون على ضربين أحدهما: أن يتعدى بغير حرف كقوله (واسألوا ما أنفقتم). (فاسألوا أهل الذكر) والآخر: أن يتعدى بحرف كقوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع) وقولهم: سألت عن زيد. وإذا تعدى إلى مفعولين كان على ثلاثة أضرب أحدها: أن يكون بمنزلة أعطيت، كقوله: سألت عمرا بعد بكر حقا، فمعنى هذا استعطيته أي: سألته أن يفعل ذلك والآخر: أن يكون بمنزلة اخترت الرجال زيدا، وذلك قوله تعالى: (ولا يسئل حميم حميما) أي: لا يسأل حميم عن حميمه. والثالث: أن يتعدى إلى مفعولين، فيقع موقع المفعول الثاني منهما استفهام، وذلك كقوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم). (وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون). اللغة: الجحيم: النار بعينها إذا شب وقودها وصار كالعلم على جهنم، كقول أمية بن أبي الصلت: إذا شبت جهنم، ثم زادت، * وأعرض عن قوابسها الجحيم
[ 368 ]
وجحمت النار تجحم جحما: إذا اضطرمت. والجحمة: العين بلغة حمير قال: أياجحمتي بكي على أم واهب * قتيلة قلوب بإحدى المذانب (1) وجحمتا الأسد: عيناه. وجاحم الحرب: شدة القتل في معركتها. قال سعد بن مالك بن ضبيعة: والحرب لا يبقى لجا * حمها التخيل، والمراح إلا الفتى الصبار في * النجدات، والفرس الوقاح (2) المعنى: بين الله سبحانه في هذه الآية تأييده نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحجج، وبعثه بالحق، فقال: (إنا أرسلناك) يا محمد (بالحق) قيل: بالقرآن، عن ابن عباس. وقيل: بالاسلام عن الأصم. وقيل: على الحق أي: بعثناك على الحق، كقوله سبحانه (خلق الله السموات والأرض بالحق) أي: على أنهما حق لا باطل. وقوله (بشيرا ونذيرا) أي: بشيرا من اتبعك بالثواب، ونذيرا من خالفك بالعقاب. وقوله: (ولا تسئل عن أصحاب الجحيم) أي: لا تسأل عن أحوالهم. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قيل له: إنما أنت بشير ونذير، ولست تسأل عن أهل الجحيم، وليس عليك إجبارهم على القبول منك، ومثله قوله (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وقوله: (ليس عليك هداهم). وقيل: معناه لا تؤاخذ بذنبهم كقوله سبحانه: (عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) أي: فعليه الإبلاغ، وعليكم القبول. (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا نصير (120)). اللغة: الرضا والمودة والمحبة نظائر. وضد الرضا الغضب. والرضا أيضا: بمعنى المرضي، وهو من بنات الواو وبدلالة قولهم الرضوان. وتقول رجل رضا، ورجال ونساء رضا. والملة والنحلة والديانة نظائر. وملة رسول (1) القلوب: الذئب: الأسد. المذانب جمع المذنب: نوادي. (2) الوقاح: صلب الحافر. (*)
[ 369 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم: الأمر الذي أوضحه. وامتل الرجل: إذا أخذ في ملة الإسلام أي: قصد ما أمل منه. والإملال: إملاء الكتاب ليكتب. الاعراب: (تتبع): نصب بحتى. قال سيبويه، والخليل: إن الناصب للفعل بعد حتى (أن) إلا أنها لا تظهر بعد (حتى)، ويدل على أن (حتى) لا تنصب بنفسها، أنها تجر الإسم في نحو قوله (حتى مطلع الفجر). ولا يعرف في العربية حرف يعمل في اسم، يعمل في فعل. و (لا) حرف جار يكون ناصبا للفعل، فصار مثل اللام في قولك: ما كان زيد ليضربك، في أنها جارة، والناصب ليضربك أن المضمرة، ولا يجوز إظهارها مع هذه اللام أيضا. (هو): ضمير مرفوع بالإبتداء، أو فصل. و (الهدى): خبر المبتدأ، أو خبر إن. وقوله: (من العلم) يتعلق بمحذوف في موضع الحال. وذو الحال الموصوف المحذوف الذي قوله (الذي جاءك) صفته، وكذلك قوله (من الله) في موضع الحال. و (من ولي): في موضع رفع بالإبتداء. و (من) مزيدة. وقوله: (ما لك من الله من ولي ولا نصير) في موضع الجزاء للشرط، ولكن الجزاء إذا قدر فيه القسم، لا يجزم. فلا يكون في موضع جزم، ولا بد أن يكون فيه أحد الحروف الدالة على القسم. فحرف (ما) ها هنا تدل على القسم، فلهذا لم يجزم. المعنى: كانت اليهود والنصارى يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الهدنة، ويرونه أنه إن هادنهم، وأمهلهم اتبعوه، فآيسه الله تعالى من موافقتهم، فقال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم). وقيل أيضا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مجتهدا في طلب ما يرضيهم، ليدخلوا في الإسلام، فقيل له: دع ما يرضيهم إلى ما أمرك الله به من مجاهدتهم. وهذا يدل على أنه لا يصح إرضاء اليهود والنصارى على حال، لأنه تعالى علق رضاءهم بأن يصير عليه السلام يهوديا أو نصرانيا، وإذا استحال ذلك استحال إرضاؤهم، يعني أنه لا يرضي كل فرقة منهم إلا أن يتبع ملتهم أي: دينهم. وقيل: قبلتهم. (قل إن هدى الله هو الهدى) أي: قل يا محمد لهم إن دين الله الذي يرضاه هو الهدى أي: الدين الذي أنت عليه، عن ابن عباس. وقيل: معناه إن هدى الله، يعني القرآن، هو الذي يهدي إلى الجنة، لا طريقة اليهود والنصارى. وقيل: معناه
[ 370 ]
إن دلالة الله هي الدلالة، وهدى الله هو الحق، كما يقال: طريقة فلان هي الطريقة. وقوله: (ولمن اتبعت أهواءهم) أي: مراداتهم. وقال ابن عباس: معناه إن صليت إلى قبلتهم (بعد الذي جاءك من العلم) أي: من البيان من الله تعالى. وقيل: من الدين (مالك) يا محمد (من الله من ولي) يحفظك من عقابه (ولا نصير) أي: معين وظهير يعينك عليه، ويدفع بنصره عقابه عنك. وهذه الآية تدل على أن من علم الله تعالى منه، أنه لا يعصي، يصح وعيده، لأنه علم أن نبيه عليه السلام، لا يتبع أهواءهم، فجرى مجرى قوله (لئن أشركت ليحبطن عملك) والمقصود منه التنبيه على أن حال أمته فيه أغلظ من حاله، لأن منزلتهم دون منزلته. وقيل: الخطاب للنبي عليه السلام، والمراد أمته. (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121)). الاعراب: (الذين آتيناهم): رفع بالإبتداء: و (يتلونه): في موضع خبره. و (أولئك): ابتداء ثان. و (يؤمنون به): خبره. وإن شئت كان (أولئك يؤمنون به): في موضع خبر المبتدأ الذي هو (الذين). و (يتلونه): في موضع نصب على الحال. وإن شئت كان خبر الإبتداء يتلونه وأولئك جميعا، فيكون للابتداء خبران، كما تقول: هذا حلو حامض. و (حق تلاوته): منصوب على المصدر. النزول: قيل: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وكانوا أربعين رجلا، اثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من رهبان الشام، منهم بحيرا عن ابن عباس. وقيل: هم من آمن في اليهود، كعبد الله بن سلام، وشعبة بن عمرو، وتمام بن يهودا، وأسد وأسيد إبني كعب، وابن يامين، وابن صوريا، عن الضحاك. وقيل: هم أصحاب محمد. عن قتادة، وعكرمة. فعلى القولين الأولين يكون المراد بالكتاب: التوراة. وعلى القول الأخير المراد به: القرآن. المعنى: (الذين آتيناهم) أي: أعطيناهم (الكتاب يتلونه حق تلاوته) اختلف في معناه على وجوه أحدها: إنه يتبعونه، يعنى التوراة، حق اتباعه،
[ 371 ]
ولا يحرفونه، ثم يعملون بحلاله، ويقفون عند حرامه، ومنه قوله (والقمر إذا تلاها) أي: تبعها. وبه قال ابن مسعود، ومجاهد، وقتادة، إلا أن المراد به القرآن عندهم. وثانيها: إن المراد به: يصفونه حق صفته في كتبهم لمن يسألهم من الناس، عن الكلبي. وعلى هذا تكون الهاء راجعة إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ووثالثها: ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام: إن حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار، يسأل في الاولى، ويستعيذ من الاخرى. ورابعها: إن المراد: يقرأونه حق قراءته، يرتلون ألفاظه، ويفهمون معانيه وخامسها: إن المراد: يعملون حق العمل به، فيعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه، عن الحسن. وقوله: (أولئك يؤمنون به) أي: بالكتاب، عن أكثر المفسرين. وقيل: بالنبي عليه السلام، عن الكلبي. (ومن يكفر به) وهم اليهود. وقيل: هم جميع الكفار وهو الأولى لعمومه. (فأولئك هم الخاسرون) خسروا أنفسهم، وأعمالهم. وقيل: خسروا في الدنيا الظفر والنصر وفي الآخرة ما أعد الله للمؤمنين من نعيم الجنة. (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (122)). المعنى: هذه الآية قد تقدم ذكر مثلها في رأس نيف وأربعين آية، ومضى تفسيرها. وقيل في سبب تكريرها ثلاثة أقوال أحدها: إن نعم الله سبحانه لما كانت أصول كل نعمة، كرر التذكير بها مبالغة في استدعائهم إلى ما يلزمهم من شكرها، ليقبلوا إلى طاعة ربهم المظاهر نعمه عليهم. وثانيها: إنه سبحانه لما ذكر التوراة، وفيها الدلالة على شأن عيسى ومحمد عليهما السلام، في النبوة، والبشارة بهما، ذكرهم نعمته عليهم بذلك، وما فضلهم به، كما عدد النعم في سورة الرحمن. وكرر قوله (فبأي آلاء ربكما تكذبان). فكل تقريع (1) جاء بعد تقريع، فإنما هو موصول بتذكير نعمة غير الأولى، وثالثة غير الثانية، إلى آخر السورة، وكذلك الوعيد في سورة المرسلات بقوله (ويل يومئذ للمكذبين)، إنما هو بعد الدلالة على أعمال تعظم التكذيب بما تدعو إليه الادلة. (1) وفي نسختين مخطوطتين: تفريع بالفاء بدل القاف، في الموضعين. (*)
[ 372 ]
(واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون (123)). ومثل هذه الآية أيضا قد تقدم ذكره، ومر تفسيره. (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)). القراءة: قرأ ابن عامر: (ابراهام) هاهنا، وفي مواضع من القرآن. والباقون: (إبراهيم). وقرأ حمزة، وحفص: (عهدي) بإرسال الياء. والباقون بفتحها. الحجة: في إبراهيم خمس لغات: إبراهيم وابراهام وإبراهم فحذفت الألف استخفافا. قال الشاعر: (عذت بما عاذ به إبراهم). وإبراهم، قال أمية: (مع إبراهم التقي وموسى). وأبرهم. قال: نحن آل الله في كعبته * لم يزل ذاك على عهد أبرهم والوجه في هذه التغييرات، ما تقدم ذكره من قولهم: إن العرب إذا نطقت بالاعجمي، خلطت فيه، وتلعبت بحروفه، فتغيرها. وأما قوله (عهدي): فإنما فتح هذه الياء: إذا تحرك ما قبلها، لأن أصل هذه الياء الحركة، فإنها بإزاء الكاف للمخاطب، فكما فتحت الكاف كذلك تفتح الياء. ومن أسكنها فإنه يحتج بأن الفتحة مع الياء قد كرهت في الكلام، كما كرهت الحركتان الاخريان فيها. ألا ترى أنهم قد أسكنوها في حال السعة، إذا لزم تحريكها بالفتحة، كما أسكنوها إذا لزم تحريكها بالحركتين الاخريين، وذلك قولهم: قالي قلا، وبادي بدا، ومعدي كرب. فالياء في هذه المواضع في موضع الفتحة التي في آخر الإسمين، نحو: حضرموت. وقد أسكنت كما أسكنت في الجر، والرفع. اللغة: الإبتلاء: الإختبار. والتمام والكمال والوفاء نظائر. وضد التمام النقصان، يقال: تم تماما، وأتمه، وتممه تتميما، وتتمة. والتم: الشئ التام. ولكل حاملة تمام بفتح التاء وكسرها. وبدر تمام، وليل تمام بالكسر.
[ 373 ]
والذرية والنسل والولد نظائر. وبعض العرب يكسر منها الذال، فيقول: ذرية. وروي أنه قراءة زيد بن ثابت، وبعضهم فتحها فقال: ذرية. وفي أصل الكلمة أربعة مذاهب: من الذرء، ومن الذر، والذرو، والذري. فإن جعلته من الذرء، فوزنه فعيلة كمريق، ثم ألزمت التخفيف أو البدل كنبي في أكثر اللغة، والبرية. وإن أخذته من الذر فوزنه فعلية كقمرية، أو فعيلة نحو ذريرة. فلما كثرت الراءات أبدلت الأخيرة ياء، وأدغم الياء الاولى فيها، نحو: سرية، فيمن أخذها من السر: وهو النكاح، أو فعولة نحو ذرورة، فأبدلوا الراء الأخيرة لما ذكرنا فصار ذروية، ثم أدغم فصار ذرية. وإن أخذته من الذرو أو الذري: فوزنه فعولة أو فعيلة، وفيه كلام كثير يطول به الكتاب ذكره ابن جني في المحتسب. والنيل، واللحاق، والإدراك نظائر. والنيل والنوال: ما نلته من معروف إنسان. وأناله معروفه ونوله: أعطاه. قال طرفة: إن تنوله فقد تمنعه، * وتريه النجم يجري بالظهر وقولهم: نولك أن تفعل كذا معناه: حقك أن تفعل. الاعراب: (اللام) في قوله (للناس): تتعلق بمحذوف تقديره: إماما استقر للناس، فهو صفة لإمام، فلما قدمه انتصب على الحال. ويجوز أن تتعلق بجاعلك. وقوله (إماما) مفعول ثان لجعل. (ومن ذريتي) تتعلق بمحذوف تقديره: واجعل من ذريتي. المعنى: (و) اذكروا (إذ ابتلى إبراهيم ربه) أي: اختبر وهو مجاز، وحقيقته أنه أمر إبراهيم ربه، وكلفه، وسمي ذلك اختبارا، لأن ما يستعمل الأمر منا في مثل ذلك، يجري على جهة الإختبار والإمتحان، فأجرى على أمره اسم أمور العباد على طريق الإتساع. وأيضا فإن الله تعالى لما عامل عباده معاملة المبتلي المختبر، إذ لا يجازيهم على ما يعلمه منهم أنهم سيفعلونه قبل أن يقع ذلك الفعل منهم، كما لا يجازي المختبر للغير ما لم يقع الفعل منه سمى أمره ابتلاء. وحقيقة الإبتلاء: تشديد التكليف. وقوله (بكلمات) فيه خلاف: فروي عن الصادق أنه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل أبي العرب، فأتمها إبراهيم، وعزم عليها، وسلم لأمر الله. فلما عزم قال الله ثوابا له لما صدق، وعمل بما أمره الله (إني جاعلك للناس
[ 374 ]
إماما). ثم أنزل عليه الحنيفية، وهي الطهارة، وهي عشرة أشياء خمسة منها في الرأس، وخمسة منها في البدن. فأما التي في الرأس: فأخذ الشارب، وإعفاء اللحى، وطم الشعر، والسواك والخلال. وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن، والختان، وتقليم الأظفار، والغسل من الجنابة، والطهور بالماء، فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وهو قوله (واتبع ملة إبراهيم خنيفا) ذكره علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره. وقال قتادة، وهو إحدى الروايتين، عن ابن عباس: إنها عشر خصال كانت فرضا في شرعه سنة في شريعتنا: المضمضة، والإستنشاق، وفرق الرأس، وقص الشارب، والسواك في الرأس، والختان وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، والإستنجاء بالماء في البدن. وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس أنه أبتلاه بثلاثين خصلة من شرائع الإسلام، لم يبتل أحدا بها، فأقامها كلها إبراهيم، فأتمهن، فكتب له البراءة. فقال: (وإبراهيم الذي وفى)، وهي عشر في سورة براءة: (التائبون العابدون) إلى آخرها، وعشر في الأحزاب: (إن المسلمين والمسلمات) إلى آخرها. وعشر في سورة المؤمنين: (قد أفلح المؤمنون) إلى قوله: (أولئك هم الوارثون). وروي وعشر في سورة (سأل سائل) إلى قوله (والذين هم على صلاتهم يحافظون). فجعلها أربعين. وفي رواية ثالثة عن ابن عباس أنه أمره بمناسك الحج، وقال الحسن: ابتلاه الله بالكوكب، والقمر، والشمس، والختان، وبذبح ابنه، وبالنار، وبالهجرة، فكلهن وفى الله فيهن. وقال مجاهد: ابتلاه الله بالآيات التي بعدها، وهي قوله: (إني جاعلك للناس إماما) إلى آخر القصة. وقال أبو علي الجبائي: أراد بذلك كلما كلفه من الطاعات العقلية والشرعية، والآية محتملة لجميع هذه للأقاويل التي ذكرناها. وكان سعيد بن المسيب يقول: كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وأستحد (1)، وأول الناس رأى الشيب، فلما رآه قال: يا رب ما هذا ؟ قال هذا الوقار. قال: يا رب فزدني وقارا. وهذا أيضا قد (1) الإستحداد: الإحتلاق بالحديد. (*)
[ 375 ]
رواه السكوني، عن أبي عبد الله، ولم يذكر أول من قص شاربه واستحد، وزاد فيه: وأول من قاتل في سبيل الله إبراهيم، وأول من أخرج الخمس إبراهيم، وأول من اتخذ النعلين إبراهيم، وأول من اتخذ الرايات إبراهيم. وروى الشيخ أبو جعفر بن بابويه، رحمه الله، في كتاب النبوة، بإسناده مرفوعا إلى المفضل بن عمر، عن الصادق عليه السلام، قأل: سألته عن قول الله عز وجل: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه) (بكلمات) ما هذه الكلمات ؟ قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه فتاب عليه، وهو أنه قال: يا رب ! أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم. فقلت له: يا بن رسول الله ! فما يعني بقوله (فأتمهن) قال: أتمهن إلى القائم إثني عشر إماما، تسعة من ولد الحسين عليه السلام. قال المفضل: فقلت له: يا بن رسول الله ! فأخبرني عن كلمة الله عزوجل (وجعلها كلمة باقية في عقبه) قال: يعني بذلك الإمامة، جعلها الله في عقب الحسين إلى يوم القيامة. فقلت له: يا بن رسول الله ! فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن عليهما السلام، وهما جميعا ولدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة ؟ فقال: إن موسى وهارون نبيان مرسلان اخوان، فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى، ولم يكن لأحد أن يقول لم فعل الله ذلك، وإن الإمامة خلافة الله عز وجل ليس لأحد أن يقول لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن، لأن الله عز وجل هو الحكيم في أفعاله، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وقال الشيخ أبو جعفر بن بابويه، رحمه الله: ولقوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) وجه آخر، فإن الإبتلاء على ضربين أحدهما مستحيل على الله تعالى والآخر جائز. فالمستحيل هو أن يختبره ليعلم ما تكشف الأيام عنه، وهذا ما لا يصح، لأنه سبحانه علام الغيوب. والآخر: أن يبتليه حتى يصبر فيما يبتليه به، فيكون ما يعطيه من العطاء على سبيل الاستحقاق، ولينظر إليه الناظر، فيقتدي به، فيعلم من حكمة الله عز وجل أنه لم تكن أسباب الإمامة إلا إلى الكافي المستقل بها، الذي كشفت الأيام عنه. فأما الكلمات سوى ما ذكرناه، فمنها اليقين، وذلك قوله عز وجل: (وليكون من الموقنين) ومنها المعرفة بالتوحيد، والتنزيه عن التشبيه، حين نظر إلى الكوكب
[ 376 ]
والقمر والشمس. ومنها الشجاعة بدلالة قوله: (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم) ومقاومته، وهو واحد، ألوفا من أعداء الله تعالى. ومنها الحلم، وقد تضمنه قوله عز وجل: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب). ومنها السخاء، ويدل عليه قوله: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) ثم العزلة عن العشيرة، وقد تضمنه قوله: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله). ثم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبيان ذلك في قوله: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر) الآيات. ثم دفع السيئة بالحسنة في جواب قول أبيه: (لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) قال: (سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) ثم التوكل وبيان ذلك في قوله: (الذي خلقني فهو يهدين) الآيات. ثم المحنة في النفس حين جعل في المنجنيق، وقذف به في النار. ثم المحنة في الولد حين أمر بذبح ابنه إسماعيل. ثم المحنة في الأهل، حين خلص الله حرمته من عبادة القبطي في الخبر المشهور. ثم الصبر على سوء خلق سارة. ثم استقصاره النفس في الطاعة بقوله: (ولا تخزني يوم يبعثون) ثم الزلفة في قوله: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) الآية. ثم الجمع لشروط الطاعات في قوله: (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي) إلى قوله: (وأنا أول المسلمين). ثم استجابة الله دعوته حين قال: (رب أرني كيف تحيي الموتى) الآية. ثم اصطفاء الله سبحانه إياه في الدنيا. ثم شهادته له في العاقبة أنه من الصالحين في قوله: (ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين). ثم اقتداء من بعده من الأنبياء به في قوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين) الآية. وفي قوله: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) انتهى كلام الشيخ أبي جعفر، رحمه الله. وقوله (فأتمهن) معناه: وفى بهن في قول الحسن، وعمل بهن على التمام في قول قتادة. والضمير في (أتمهن) عائد إلى الله تعالى في قول أبي القاسم البلخي، وهو اختيار الحسين بن علي المغربي. قال البلخي: والكلمات هي الإمامة على ما قاله مجاهد. قال: لأن الكلام متصل، ولم يفصل بين قوله (إني جاعلك للناس إماما)، وبين ما تقدمه بواو العطف. وأتمهن الله بأن أوجب بها الإمامة بطاعته، واضطلاعه بما ابتلاه. وقوله: (قال إني جاعلك للناس إماما) معناه: قال الله تعالى: إني جاعلك إماما يقتدى بك في أفعالك وأقوالك لأن المستفاد من لفظ الإمام أمران أحدهما: إنه المقتدى به في أفعاله وأقواله والثاني: إنه الذي يقول بتدبير الأمة
[ 377 ]
وسياستها، والقيام بأمورها، وتأديب جناتها، وتولية ولاتها، وإقامة الحدود على مستحقيها، ومحاربة من يكيدها ويعاديها. فعلى الوجه الأول لا يكون نبي من الأنبياء إلا وهو إمام. وعلى الوجه الثاني لا يجب في كل نبي أن يكون إماما، إذ يجوز أن لا يكون مأمورا بتأديب الجناة، ومحاربة العداة، والدفاع عن حوزة الدين، ومجاهدة الكافرين. فلما ابتلى الله سبحانه إبراهيم بالكلمات فأتمهن، جعله إماما للأنام، جزاء له على ذلك، والدليل عليه أن قوله (جاعلك) عمل في قوله (إماما)، واسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي، لا يعمل عمل الفعل، ولو قلت أنا ضارب زيدا أمس لم يجز. فوجب أن يكون المراد أنه جعله إماما، إما في الحال، أو في الإستقبال، والنبوة كانت حاصلة له قبل ذلك. وقوله: (قال ومن ذريتي) أي: واجعل من ذريتي من يوشح بالإمامة، ويوشح بهذه الكرامة. وقيل: إنما قال ذلك على جهة التعرف، ليعلم هل يكون في عقبه أئمة يقتدى بهم. والأولى أن يكون ذلك على وجه السؤال من الله تعالى أن يجعلهم كذلك. وقوله: (قال لا ينال عهدي الظالمين) قال مجاهد: العهد الإمامة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، أي: لا يكون الظالم إماما للناس. فهذا يدل على أنه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالما، لأنه لو لم يرد أن يجعل أحدا منهم إماما للناس، لوجب أن يقول في الجواب لا، أو لا ينال عهدي ذريتك. وقال الحسن: معناه إن الظالمين ليس لهم عند الله عهد يعطيهم به خيرا، وإن كانوا قد يعاهدون في الدنيا، فيوفى لهم. وقد كان يجوز في العربية أن يقال: لا ينال عهدي الظالمون، لأن ما نالك فقد نلته. وقد روي ذلك في قراءة ابن مسعود. واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوما عن القبائح، لأن الله سبحانه نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه، وإما لغيره. فإن قيل: إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه، فإذا تاب لا يسمى ظالما، فيصح أن يناله ؟ فالجواب: إن الظالم، وإن تاب، فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما، فإذا نفى أن يناله، فقد حكم عليه بأنه لا ينالها. والآية
[ 378 ]
مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها، فلا ينالها الظالم، وإن تاب فيما بعد. (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125)). القراءة: قرأ نافع، وابن عامر: (واتخذوا) مفتوحة الخاء. وقرأ الباقون: (واتخذوا) مكسورة الخاء. الحجة: من قرأ بكسر الخاء فإنه على الأمر والإلزام، ويكون عطفا على قوله (يا بني إسرائيل اذكروا). ويجوز أن يكون عطفا على قوله: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) من طريق المعنى، لأن معناه ثوبوا (1) واتخذوا. ومن قرأ بالفتح عطفه على ما تقدمه من الفعل الذي أضيف إليه إذ، فكأنه قال: وإذ اتخذوا. اللغة: البيت، والمأوى، والمنزل، نظائر. والبيت: من أبيات الشعر، سمي بذلك لضمه الحروف والكلام كما يضم البيت من بيوت الناس أهله. والبيت من بيوتات العرب: وهي أحياؤها. وامرأة الرجل: بيته. قال الراجز: ما لي إذا أجذبها صأيت * أكبر قد غالني، أم بيت المثابة هاهنا: الموضع الذي يثاب إليه، من ثاب يثوب مثابة ومثابا وثؤبا: إذا رجع. قال ورقة بن نوفل في صفة الحرم: مثاب لإفناء القبائل كلها * تخب إليها اليعملات الطلائح (2) ومنه: ثاب إليه عقله أي: رجع بعد عزوبه. وأصل مثابة: مثوبة، نقلت حركة الواو إلى الثاء، ثم قلبت ألفا على ما قبلها. وقيل: إن التاء فيه للمبالغة كما قيل نسابة. وقيل: إن معناهما واحد كمقامة ومقام. قال زهير: (1) أي: ارجعوا. (2) خب الفرس في عدوه: راوح بين يديه ورجليه. اليعملة: المطبوعة على العمل. الطلائح: المهزولات من الجهد والسير. (*)
[ 379 ]
وفيهم مقامات حسان وجوهها، وأندية ينتابها القول، والفعل وجمع المقام: مقاوم. قال: وإني لقوام مقاوم لم يكن * جرير، ولا مولى جرير يقومها والطائف والجائل والدائر نظائر. ويقال: طاف يطوف طوفا: إذا دار حول الشئ. وأطاف به إطافة: إذا ألم به. وأطاف به: إذا أحاط به. والطائف: العاس (1). والطوافون: المماليك. والطائف: طائف الجن والشيطان، وهو كل شئ يغشى القلب من وسواسه، وهو طيف أيضا. والعاكف: المقيم على الشئ، اللازم له. وعكف يعكف عكفا، وعكوفا. قال النابغة: عكوف على أبياتهم يثمدونها * رمى الله في تلك الأكف الكوانع (2) والعاكف: المعتكف في المسجد. وقل ما يقولون: عكف، وإنما يقولون: اعتكف. والركع: جمع الراكع. والسجود: جمع الساجد. وكل فعل مصدره على فعول، جاز في جمع الفاعل منه أن يكون على فعول كالقعود والركوع والسجود ونحوها. المعنى: قوله (وإذ جعلنا) عطف على قوله: (وإذ ابتلى)، وذلك معطوف على قوله (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي). و (البيت) الذي جعله الله مثابة هو البيت الحرام وهو الكعبة. وروي أنه سمي البيت الحرام، لأنه حرم على المشركين أن يدخلوه، وسمي الكعبة لأنها مربعة، وصارت مربعة لأنها بحذاء البيت المعمور وهو مربع، وصار البيت المعمور مربعا لأنه بحذاء العرش وهو مربع، وصار العرش مربعا لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع: وهي سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقوله: (مثابة للناس) ذكر فيه وجوه، فقيل: إن الناس يثوبون إليه كل عام، أي: ليس هو مرة في الزمان فقط على الناس، عن الحسن. وقيل: معناه انه لا (1) عس: طاف بالليل يحرس الناس، ويكشف أهل الريبة. (2) في ديوان النابغة هكذا: قعودا لدى أبيائهم يثمدونها * رمى الله في تلك الأنوف الكوافع وفي نسخة اخرى: آبارهم. والنصب في قعودا أو عكوفا على الحالية متعين. (*)
[ 380 ]
ينصرف منه أحد وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا، فهم يعودون إليه، عن ابن عباس. وقد ورد في الخبر أن من رجع من مكة، وهو ينوي الحج من قابل، زيد في عمره، ومن خرج من مكة وهو لا ينوي العود إليها، فقد قرب أجله. وقيل: معناه يحجون إليه فيثابون عليه. وقيل: مثابة معاذا وملجأ. وقيل: مجمعا والمعنى في الكل يؤول إلى أنهم يرجعون إليه مرة بعد مرة. وقوله: (وأمنا) أراد مأمنا أي: موضع أمن، وإنما جعله الله آمنا بأن حكم أن من عاذ به، والتجأ إليه، لا يخاف على نفسه ما دام فيه، وبما جعله في نفوس العرب من تعظيمه، حتى كانوا لا يتعرضون من فيه فهو آمن على نفسه وماله، وإن كانوا يتخطفون الناس من حوله، ولعظم حرمته لا يقام في الشرع الحد على من جنى جناية فالتجأ إليه وإلى حرمه، لكن يضيق عليه في المطعم والمشرب، والبيع والشراء، حتى يخرج منه، فيقام عليه الحد، فإن أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم عليه الحد فيه، لأنه هتك حرمة الحرم، فهو آمن من هذه الوجوه. وكان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم، فلا يتعرض له، وهذا شئ كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل، فبقوا عليه إلى أيام نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: (واتخذو من مقام إبراهيم مصلى) قال ابن عباس: الحج كله مقام إبراهيم. وقال عطاء: مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار. وقال مجاهد: الحرم كله مقام إبراهيم. وقال الحسن وقتادة والسدي: هو الصلاة عند مقام إبراهيم، أمرنا بالصلاة عنده بعد الطواف، وهو المروي عن الصادق عليه السلام. وقد سئل عن الرجل يطوف بالبيت طواف الفريضة، ونسي أن يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم، فقال: يصليها ولو بعد أيام، إن الله تعالى قال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى). وهذا هو الظاهر، لأن مقام إبراهيم إذا أطلق لا يفهم منه إلا المقام المعروف الذي هو في المسجد الحرام. وفي المقام دلالة ظاهرة على نبوة إبراهيم، عليه السلام، فإن الله جعل الحجر تحت قدميه كالطين حتى دخلت قدمه فيه، وكان في ذلك معجزة له. وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة: مقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل، والحجر الأسود، استودعه الله إبراهيم عليه السلام حجرا أبيض، وكان أشد بياضا من القراطيس، فاسود من خطايا بني آدم. القصة: ابن عباس قال: لما أتى إبراهيم باسماعيل وهاجر فوضعهما
[ 381 ]
بمكة، وأتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون، وتزوج إسماعيل امرأة منهم، وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم عليه السلام، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت: ليس هنا ذهب يتصيد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد، ثم يرجع. فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة ؟ قالت: ليس عندي شئ، وما عندي أحد. فقال لها إبراهيم: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه. وذهب إبراهيم عليه السلام. فجاء إسماعيل عليه السلام فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد ؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه. قال: فما قال لك ؟ قالت: قال لي: أقرئي زوجك السلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه. فطلقها وتزوج أخرى. فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل، فأذنت له وأشترطت عليه أن لا ينزل. فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك ؟ قالت: ذهب يتصيد وهو يجئ الآن إن شاء الله، فانزل يرحمك الله. قال لها: هل عندك ضيافة ؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن واللحم، فدعا لهما بالبركة. فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر، لكان أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا،. فقالت له: إنزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل. فجاءت بالمقام، فوضعته على شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه، فبقي أثره، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر، فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدمه عليه. فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك. فلما جاء إسماعيل عليه السلام، وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد ؟ قالت: نعم، شيخ أحسن الناس وجها، وأطيبهم ريحا، فقال لي كذا وكذا، وقلت له كذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه على المقام. فقال إسماعيل لها: ذاك إبراهيم عليه السلام. وقد روى هذه القصة بعينها علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان عن الصادق عليه السلام، وإن اختلف بعض ألفاظه، وقال في آخرها: إذا جاء زوجك فقولي له جاء هاهنا شيخ، وهو يوصيك بعتبة بابك خيرا. قال: فأكب اسماعيل على المقام يبكي ويقبله. وفي رواية أخرى عنه عليه السلام، أن إبراهيم استأذن سارة أن يزور
[ 382 ]
إسماعيل، فأذنت له أن لا يلبث عنها (1)، وأن لا ينزل من حماره. فقيل له: كيف كان ذلك ؟ فقال: إن الأرض طويت له. وروى عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا أن نورهما طمس لأضاءا ما بين المشرق والمغرب. وقوله: (مصلى) فيه أقوال قيل: مدعى من صليت أي: دعوت، عن مجاهد. وقيل: قبلة عن الحسن. وقيل: موضع صلاة، فأمر أن يصلي عنده عن قتادة والسدي وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. واستدل أصحابنا به على أن صلاة الطواف فريضة مثل الطواف، لأن الله تعالى أمر بذلك. وظاهر الأمر يقتضي الوجوب، ولا صلاة واجبة عند مقام إبراهيم غير صلاة الطواف بلا خلاف. وقوله: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أي: أمرناهما وألزمناهما (أن طهرا بيتي) للطائفين أي: قلنا لهما أن طهرا بيتي، لأن (أن) هذه هي المفسرة التي تكوت عبارة عن القول إذا صاحبت من الألفاظ ما يتضمن معنى القول، كقوله سبحانه (عهدنا) هنا. وذكر في التطهير هنا وجوه أحدها: إن المراد طهراه من الفرث والدم الذي كان يطرحه المشركون عند البيت، قبل أن يصير في يد إبراهيم وإسماعيل، عن الجبائي وثانيها: إن المراد طهراه من الأصنام التي كانوا يعلقونها على باب البيت قبل إبراهيم عن مجاهد وقتادة. وثالثها: إن المراد طهراه بنيانا بكماله على الطهارة، كما قال سبحانه: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار). وإنما أضاف البيت إلى نفسه تفضيلا له على سائر البقاع، وتمييزا وتخصيصا. وقوله: (للطائفين والعاكفين) أكثر المفسرين على أن الطائفين هم الدائرون حول البيت، والعاكفين هم المجاورون للبيت. وقال سعيد بن جبير: إن الطائفين هم الطارئون على مكة من الآفاق، والعاكفين هم المقيمون فيها. وقال ابن عباس: العاكفون المصلون، والأول أصح لأنه المفهوم من إطلاق اللفظ. وقوله: (والركع السجود) قيل: هم المصلون عند البيت يركعون ويسجدون، عن قتادة. وقيل: هم جميع المسلمين لأن من شأن المسلمين الركوع والسجود، عن (1) وفي بعض النسخ: " لا يبيت " بدل " لا يلبث " أي: لا يلبث، أولا يبيت، معرضا عنها. (*)
[ 383 ]
الحسن. وقال عطاء: إذا طاف به فهو من الطائفين، وإذا جلس فهو من العاكفين، وإذا صلى فهو من الركع السجود. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن لله عز وجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة، تنزل على هذا البيت: ستون منها للطائفين وأربعون للعاكفين (1)، وعشرون للناظرين ". (وإذ قال إبراهيم رب أجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126)). القراءة: قرأ ابن عامر: (فأمتعه) بسكون الميم خفيفة من أمتعت. والباقون بالتشديد وفتح الميم من متعت. وروي في الشواذ عن ابن عباس (فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار) على الدعاء من إبراهيم عليه السلام. وعن ابن محيصن: ثم (اطره) بإدغام الضاد في الطاء. الحجة: قال أبو علي: التشديد في (أمتعه) أولى، لأن التنزيل عليه. قال سبحانه: (يمتعكم متاعا حسنا). و (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) ووجه قراءة ابن عامر: (إن أمتع) لغة، قال الراعي: خليلين من شعبين شتى تجاورا * قديما، وكانا بالتفرق أمتعا قال أبو زيد: أمتعا أراد تمتعا. فأما قراءة ابن عباس (فأمتعه): فيحتمل أمرين من ابن جني أحدهما: أن يكون الضمير في قال لإبراهيم أي: قال إبراهيم أيضا، ومن كفر فأمتعه يا رب. وحسن إعادة قال لطول الكلام، ولأنه انتقل من الدعاء لقوم، إلى الدعاء على آخرين. والآخر: أن يكون الضمير في قال لله تعالى أي: فأمتعه يا خالق، أو يا إله. يخاطب بذلك نفسه، عز وجل، فجرى ذلك على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه، كقول الأعشى: ودع هريرة إن الركب مرتحل، * وهل تطيق وداعا أيها الرجل اللغة: البلد والمصر والمدينة نظائر. وأصله من قولهم بلد للأثر في (1) وفي جملة من النسخ: (المصلين) بدل (العاكفين). (*)
[ 384 ]
الجلد وغيره، وجمعه أبلاد، ومن ذلك سميت البلاد لأنها مواضع مواطن الناس وتأثيرهم. ومن ذلك قولهم لكركرة البعير: بلدة، لأنه إذا برك تأثرت. والإضطرار: هو الفعل في الغير على وجه لا يمكنه الإنفكاك منه إذا كان من جنس مقدوره، ولهذا لا يقال فلان مضطر إلى لونه، وإن كان لا يمكنه دفعه عن نفسه، لما لم يكن اللون من جنس مقدوره. ويقال: هو مضطر إلى حركة الفالج، وحركة العروق، لما كانت الحركة من جنس مقدوره. والمصير: الحال التي يؤدي إليها أول لها. وصار وحال وآل نظائر. وصير كل أمر مصيره، وصير الباب شقه. وفي الحديث: " من نظر في صير باب فقد دمر " وصيور الأمر: آخره. الاعراب: قوله (من آمن): محله نصب، لأنه بدل من (أهله) وهو بدل البعض من الكل، كما تقول: أخذت المال ثلثه، وجعلت متاعك بعضه على بعض. وقوله: (ومن كفر) يجوز أن يكون موصولا وصلة في موضع الرفع على الابتداء. ويجوز أن يكون من أسماء الشرط في موضع رفع بالإبتداء وكفر شرطه. و (فأمتعه): الفاء وما بعده جزاء، ومعنى حرف الشرط الذي تضمنه (من) مع الشرط والجزاء في موضع خبر المبتدأ. وعلى القول الأول فالفاء وما بعده خبر المبتدأ. (وبئس المصير): فعل وفاعل في موضع الرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وبئس المصير النار، أو العذاب. وانتصب (قليلا) على أحد وجهين أحدهما: أن يكون صفة للمصدر نحو قوله (متاعا حسنا) قال سيبويه: ترى الرجل يعالج شيئا فيقول رويدا أي: علاجا رويدا، وإنما وصفه بالقلة مع أن التمتيع يدل على التكثير من حيث كان إلى نفاد ونقص وتناه، كقوله سبحانه: (قل متاع الدنيا قليل). والثاني: أن يكون وصفا للزمان أي: زمانا قليلا، ويدل عليه قوله سبحانه: (عما قليل ليصبحن نادمين) وتقديره بعد زمان قليل، كما يقال عرق عن الحمى، وأطعمه عن الجوع أي: بعد الحمى، وبعد الجوع. المعنى: (و) اذكر (إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا) أي: هذا البلد يعني مكة (بلدا آمنا) أي: ذا أمن، كما يقال: بلد آهل أي: ذو أهل. وقيل: معناه يأمنون فيه كما يقال: ليل نائم أي: ينام فيه. قال ابن عباس: يريد حراما محرما لا يصاد طيره، ولا يقطع شجره، ولا يختلى خلاؤه، وإلى
[ 385 ]
هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق عليه السلام من قوله: من دخل الحرم مستجيرا به، فهو آمن من سخط الله عز وجل، ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة: " إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار ". فهذا الخبر وأمثاله المشهورة في روايات أصحابنا، تدل على أن الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام، وإنما تأكدت حرمته بدعائه عليه السلام. وقيل: إنما صار حرما بدعائه عليه السلام، وقبل ذلك كان كسائر البلاد، واستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ". وقيل: كانت مكة حراما قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراما بعد الدعوة فالاول: بمنع الله إياها من الإصطلام والإئتفاك (1)، كما لحق ذلك غيرها من البلاد. وبما جعل ذلك (2) في النفوس من تعظيمها والهيبة لها. والثاني: بالأمر بتعظيمه على ألسنة الرسل، فأجابه الله تعالى إلى ما سأل، وإنما سأله أن يجعلها آمنة من الجدب والقحط، لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع، ولم يسأله أمنها من الإئتفاك والخسف الذي كان حاصلا لها. وقيل: إنه عليه السلام سأله الأمرين على أن يديمهما، وإن كان أحدهما مستأنفا، والآخر قد كان قبل. وقوله: (وارزق أهله من الثمرات) أي: أعط من أنواع الرزق والثمرات. (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) سأل لهم الثمرات، ليجتمع لهم الأمن والخصب، فيكونوا في رغد من العيش. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن المراد بذلك أن الثمرات تحمل إليهم من الآفاق. وروي عن الصادق عليه السلام قال: هي ثمرات القلوب أي: حببهم إلى الناس ليثوبوا إليهم. وإنما خص بذلك من آمن بالله، لأن الله تعالى قد أعلمه أنه يكون في ذريته الظالمون في جواب مسألته إياه لذريته الإمامة بقوله (لا ينال عهدي الظالمين) فخص بالدعاء في الرزق المؤمنين تأدبا بأدب الله تعالى. وقيل: إنه عليه السلام ظن أنه إذا دعا للكفار بالرزق، أنهم يكثرون بمكة ويفسدون فربما يصدون الناس عن الحج، فخص بالدعاء أهل الإيمان. (1) ائتفك البلد بأهله: انقلب. الأرض: احترقت من الجدب. (2) [ كان ]. (*)
[ 386 ]
وقوله: (قال ومن كفر فأمتعه قليلا) أي: قال الله سبحانه قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم، ومن كفر فأمتعه بالرزق الذي أرزقه إلى وقت مماته. وقيل: فأمتعه بالبقاء في الدنيا. وقيل: أمتعه بالأمن والرزق إلى خروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيقتله إن أقام على كفره، أو يجليه عن مكة، عن الحسن. (ثم أضطره إلى عذاب النار) أي: أدفعه إلى النار، وأسوقه إليها في الآخرة. (وبئس المصير) أي: المرجع والمأوى والمال. (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127)). اللغة: الرفع والإعلاء والإصعاد نظائر. ونقيض الرفع الوضع. ونقيض الإصعاد الإنزال. يقال: رفع يرفع رفعا، وارتفع الشئ نفسه. والمرفوع من عدو الفرس دون الحضر وفوق الموضوع. يقال: ارفع من دابتك. والرفع: نقيض الخفض في كل شئ. والرفعة: نقيض الذلة. والقواعد والأساس والأركان نظائر. وواحد القواعد: قاعدة، وأصله في اللغة: الثبوت والإستقرار. فمن ذلك القاعدة من الجبل وهي أصله. وقاعدة البناء أساسه الذي بني عليه. وامرأة قاعدة إذا أتت عليها سنون لم تتزوج، وإذا لم تحمل المرأة أو النخلة قيل: قد قعدت فهي قاعدة، وجمعها قواعد. وتأويله أنها قد ثبتت على ترك الحمل. وإذا قعدت عن الحيض فهي قاعدة بغيرها، لأنه لا فعل لها في قعودها عن الحيض. وقعدت المرأة إذا أتت بأولاد لئام، فهي قاعدة. وقيل في أن واحدة النساء القواعد قاعد قولان أحدهما: إنها من الصفات المختصة بالمؤنث نحو: الطالق والحائض، فلم يحتج إلى علامة التأنيث والآخر: وهو الصحيح أن ذلك على معنى النسبة أي: ذات قعود، كما يقال: نابل ودارع أي: ذو نبل، وذو درع، ولا يراد بذلك تثبيت الفعل. الاعراب: قوله (من البيت): الجار والمجرور يتعلق بيرفع، أو بمحذوف فيكون في محل النصب على الحال. وذو الحال (القواعد) وموضع الجملة من قوله: (ربنا تقبل منا) نصب بقول محذوف، كأنه قال: يقولان ربنا تقبل منا، واتصل بما قبله لأنه من تمام الحال، لأن يقولان في موضع الحال.
[ 387 ]
المعنى: ثم بين سبحانه كيف بنى إبراهيم البيت، فقال: (وإذ يرفع) وتقديره واذكر إذ يرفع (إبرهيم القواعد من البيت) أي: أصول البيت التي كانت قبل ذلك، عن ابن عباس، وعطاء قالا: قد كان آدم عليه السلام بناه، ثم عفا أثره، فجدده إبراهيم عليه السلام، وهذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام. وقال مجاهد: بل أنشأه إبراهيم عليه السلام بأمر الله عز وجل وكان الحسن يقول: أول من حج البيت إبراهيم. وفي روايات أصحابنا: إن أول من حج البيت آدم عليه السلام، وذلك يدل على أنه كان قبل إبراهيم. وروي عن الباقر أنه قال: إن الله تعالى وضع تحت العرش أربع أساطين، وسماه الضراح، وهو البيت المعمور، وقال للملائكة: طوفوا بالبيت. وفي كتاب العياشي بإسناده عن الصادق قال: إن الله أنزل الحجر الأسود من الجنة لآدم، وكان البيت درة بيضاء، فرفعه الله تعالى إلى السماء، وبقي أساسه، فهو حيال هذا البيت، وقال يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه أبدا، فأمر الله سبحانه إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: إن أول شئ نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الذي بمكة، أنزله الله ياقوته حمراء، ففسق قوم نوح في الأرض، فرفعه. وقوله (وإسماعيل) أي: يرفع إبراهيم وإسماعيل أساس الكعبة يقولان: ربنا تقبل منا. وفي حرف عبد الله بن مسعود: ويقولان ربنا تقبل منا. ومثله قوله سبحانه: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) أي: يقولون سلام عليكم. (والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم) أي: يقولون. وقال بعضهم: تقديره يقول ربنا برده إلى إبراهيم عليه السلام، قال: لأن إبراهيم وحده رفع القواعد من البيت، وكان إسماعيل صغيرا في وقت رفعها، وهو شاذ غير مقبول لشذوذه. فإن الصحيح أن إبراهيم وإسماعيل كانا يبنيان الكعبة جميعا. وقيل: كان إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجر، فوصفا بأنهما رفعا البيت، عن ابن عباس. وفي قوله: (ربنا تقبل منا) دليل على أنهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا، لأنهما التمسا الثواب عليه، والثواب إنما يطلب على الطاعة. ومعنى (تقبل منا) أثبنا على عمله، وهو مشبه بقبول الهدية، فإن الملك إذا قبل الهدية من إنسان أثابه على ذلك. وقوله: (إنك أنت السميع العليم) أي: أنت السميع لدعائنا، العليم بنا
[ 388 ]
وبما يصلحنا. وروي عن الباقر أن إسماعيل أول من شق لسانه بالعربية، وكان أبوه يقول له، وهما يبنيان البيت: يا إسماعيل ! هات ابن (1) أي: أعطني حجرا، فيقول له إسماعيل بالعربية: يا أبه ! هاك حجرا. فإبراهيم يبني وإسمإعيل يناوله الحجارة. وفي هذه الآية دلالة على أن الدعاء عند الفراغ من العبادة مرغب فيه مندوب إليه كما فعله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. قصة مهاجرة إسماعيل وهاجر: روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن النضر بن سويد عن هشام عن الصادق قال: إن إبراهيم كان نازلا في بادية الشام، فلما ولد له من هاجر إسماعيل، اغتمت سارة من ذلك غما شديدا، لأنه لم يكن له منها ولد، فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه. فشكا ذلك إبراهيم إلى الله عز وجل فأوحى الله إليه: إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج، إن تركته استمتعت به، وإن رمت أن تقيمه كسرته. وقد قال القائل في ذلك: هي الضلع العوجاء، لست تقيمها، ألا إن تقويم الضلوع انكسارها ثم أمره أن يخرج إسماعيل وأمه عنها. فقال: أي رب ! إلى أي مكان ؟ قال: إلى حرمي وأمني، وأول بقعة خلقتها من أرضي وهي مكة. وأنزل عليه جبرائيل بالبراق. فحمل هاجر وإسماعيل وإبراهيم. فكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع، إلا قال: يا جبرائيل ! إلى هاهنا، إلى هاهنا ؟ فيقول جبرائيل: لا إمض لا إمض. حتى وافى مكة، فوضعه في موضع البيت. وقد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها. فلما نزلوا في ذلك المكان، كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلت تحته. فلما سرحهم إبراهيم، ووضعهم، وأراد الإنصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: لم تدعنا في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع ؟ فقال إبراهيم: ربي الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان. ثم انصرف عنهم. فلما بلغ كدى وهو جبل بذي طوى، إلتفت إليهم إبراهيم فقال: (ربنا إني (1) في بعض النسخ: (هابي ابن) وفي العبرانية: أعطني حجرا (هانلي ابن) فليحرر. (*)
[ 389 ]
أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) إلى قوله (لعلهم يشكرون). ثم مضى وبقيت هاجر. فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في الوادي، حتى صارت في موضع المسعى، فنادت: هل في الوادي من أنيس ؟ فغاب عنها إسماعيل. فصعدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي، وظنت أنه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت. فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل، ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا، وهبطت إلى الوادي تطلب الماء. فلما غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا، فنظرت إلى إسماعيل حتى فعلت ذلك سبع مرات. فلما كان في الشوط السابع، وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل، وقد ظهر الماء من تحت رجليه، فعادت حتى جمعت حوله رملا، وإنه كان سائلا فزمته بما جعلت حوله، فلذلك سميت زمزم. وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء بمكة، عكفت الطير والوحوش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير على ذلك المكان، فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة وصبي نزول في ذلك الموضع، قد استظلوا بشجرة، قد ظهر لهم الماء، فقال لهم جرهم: من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي ؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وهذا ابنه، أمره الله أن ينزلنا هاهنا. فقالوا لها: أتأذنين أن نكون بالقرب منكم ؟ فقالت: حتى أسأل إبراهيم. قال: فزارهما إبراهيم يوم الثالث، فقالت له هاجر: يا خليل الله ! إن هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك ؟ فقال إبراهيم: نعم. فأذنت هاجر لجرهم، فنزلوا بالقرب منهم، وضربوا خيامهم، وأنست هاجر وإسماعيل بهم. فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية، ونظر إلى كثرة الناس حولهم، سر بذلك سرورا شديدا. فلما تحرك إسماعيل، وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة وشاتين، وكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها، فلما بلغ مبلغ الرجال، أمر الله تعالى إبراهيم أن يبني البيت، فقال: يا رب ! في أي بقعة ؟ قأل: في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاءت الحرم. قال: ولم تزل القبة التي أنزلها الله على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان في زمان نوح، فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة، وغرقت الدنيا، ولم تغرق مكة، فسمي البيت العتيق، لأنه أعتق من الغرق.
[ 390 ]
فلما أمر الله عز وجل إبراهيم أن يبني البيت، لم يدر في أي مكان يبنيه، فبعث الله جبرائيل، فخط له موضع البيت، وأنزل عليه القواعد من الجنة، وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم، أشد بياضا من الثلج. فلما مسته أيدي الكفار أسود قال: فبنى إبراهيم البيت، ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى، فرفعه في السماء تسعة أذرع، ثم دله على موضع الحجر، فاستخرجه إبراهيم، ووضعه في موضعه الذي هو فيه، وجعل له بابين: بابا إلى المشرق، وبابا إلى المغرب. فالباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشيح والأذخر (1)، وعلقت هاجر على بابه كساء كان معها، فكانوا يكونون تحته. فلما بناه وفرغ، حج إبراهيم وإسماعيل، ونزل عليهما جبرائيل يوم التروية، لثمان خلت من ذي الحجة، فقال: يا إبراهيم ! قم فارتو من الماء، لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسميت التروية لذلك. ثم أخرجه إلى منى، فبات بها، ففعل به ما فعل بآدم، فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت: (رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات) الآية. (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128)). القراءة: قرأ ابن كثير: (أرنا) بإسكان الراء كل القرآن، ووافقه ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم في السجدة: (ربنا أرنا الذين) وقرأ أبو عمرو بالإختلاس لكسرة الراء من غير إشباع كل القرآن. والباقون بالكسر. الحجة: الإختيار كسرة الراء، لأنها كسرة الهمزة، قد حولت إلى الراء، لأنه أصله أرإنا فنقلت الكسرة إلى الراء، وسقطت الهمزة. ولأن في إسكان الراء بعد سقوط الهمزة إجحافا بالكلمة، وإبطالا للدلالة على الهمزة. ومن سكنه فعلى وجه التشبيه بما يسكن في مثل كبد وفخذ، ونحو قول الشاعر: (لو عصر منه البان والمسك انعصر). وقال الآخر: (1) الشيح: نبات أنواعه كثيرة كله طيب الرائحة. الإذخر: الحشيش الأخضر: نبات طيب الرائحة. (*)
[ 391 ]
قالت سليمى: اشتر لنا سويقا، * واشتر، وعجل خادما لبيقا (1) وأما الإختلاس فلطلب الخفة، وبقاء الدلالة على حذف الهمزة. اللغة: الإسلام هو الإنقياد لأمر الله تعالى بالخضوع والإقرار بجميع ما أوجب الله، وهو والإيمان واحد عندنا وعند المعتزلة. وفي الناس من قال بينهما فرق، ويبطله قوله سبحانه: (إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه). والمناسك هاهنا: المتعبدات. قال الزجاج: كل متعبد منسك. والنسك في اللغة: العبادة. ورجل ناسك: عابد، وقد نسك نسكا. والنسك: الذبيحة، يقال: من فعل كذا فعليه نسك أي: دم يهريقه. والنسيكة: الذبيحة. والمنسك: الموضع الذي تذبح فيه النسائك. والمنسك أيضا: هو النسك نفسه، قال سبحانه: (ولكل أمة جعلنا منسكا). وقال ابن دريد: النسك أصله الذبائح، كانت تذبح في الجاهلية. والنسيكة: شاة كانوا يذبحونها في المحرم في الإسلام، ثم نسخ ذلك بالأضاحي. قال الأعشى: وذا النصب المنصوب لا تنسكنه، * ولا تعبد الشيطان، والله فآعبدا قال أبو علي الفسوي: المناسك جمع منسك، وهو المصدر جمع لاختلاف ضروبه. الاعراب: اللام في (لك): تتعلق بمسلمين. (ومن ذريتنا): من فيه تتعلق بمحذوف تقديره واجعل من ذريتنا. والجار والمجرور مفعول إجعل، وأمة: مفعول ثان لاجعل. وأرنا يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون منقولا من رأيت الذي هو بمعنى إدراك البصر، نقلت بهمزة فتعدت إلى مفعولين، والتقدير حذف المضاف كأنه قال: أرنا مواضع مناسكنا أي: عرفناها لنقضي نسكنا فيها، وذلك نحو مواقيت الإحرام والموقف بعرفات وموضع الطواف، فهذا من رأيت الموضع وأريته إياه والآخر: أن يكون منقولا من نحو قولهم: فلان يرى رأي الخوارج، فيكون معناه علمنا مناسكنا، ومثله قول الشاعر: أريني جوادا مات هزلا، لعلني * أرى ماترين، أو بخيلا مخلدا (1) أي: حاذقا. (*)
[ 392 ]
أراد: دليني، ولم يرد رؤية العين. المعنى: ثم ذكر تمام دعائهما عليهما السلام فقال سبحانه: (ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي: قال ربنا واجعلنا مسلمين في مستقبل عمرنا، كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا، بأن توفقنا وتفعل بنا ألالطاف التي تدعونا إلى الثبات على الإسلام، ويجري ذلك مجرى أن يؤدب أحدنا ولده، ويعرضه لذلك حتى صار أديبا، فيجوز أن يقال: جعل ولده أديبا، وعكس ذلك إذا عرضه للبلاء والفساد، جاز أن يقال: جعله ظالما فاسدا. وقيل: إن معنى مسلمين موحدين مخلصين لك، لا نعبد إلا إياك، ولا ندعو ربا سواك. وقيل: قائمين بجميع شرائع الإسلام، مطيعين لك، لأن الإسلام هو الطاعة والإنقياد والخضوع وترك الإمتناع. وقوله: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) أي: واجعل من ذريتنا أي: من أولادنا. ومن للتبعيض، وإنما خصا بعضهم، لأنه تعالى أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من لا ينال عهده الظالمين، لما يرتكبه من الظلم. وقال السدي: أراد بذلك العرب، والصحيح الأول (أمة مسلمة لك) أي: جماعة موحدة منقادة لك، يعني أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدلالة قوله: (وابعث فيهم رسولا منهم). وروي عن الصادق أن المراد بالأمة بنو هاشم خاصة. وقوله (وأرنا مناسكنا) أي: عرفنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها لنفعله عندها، ونقضي عباداتنا فيها على حد ما يقتضيه توفيقنا عليها. قال قتادة: فأراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، ومن جمع ورمي الجمار، حتى أكمل بها الدين. وقال عطاء ومجاهد: معنى مناسكنا مذابحنا، والأول أقوى. وقوله: (وتب علينا) فيه وجوه أحدها: إنهما قالا هذه الكلمة على وجه التسبيح والتعبد والإنقطاع إلى الله سبحانه، ليقتدي بهما الناس فيها، وهذا هو الصحيح وثانيها: إنهما سألا التوبة على ظلمة ذريتهما. وثالثها: إن معناه: ارجع إلينا بالمغفرة والرحمة، وليس فيه دلالة على جواز الصغيرة عليهم، أو ارتكاب القبيح منهم، لأن الدلائل القاهرة قد دلت على أن الأنبياء معصومون منزهون عن الكبائر والصغائر، وليس هنا موضع بسط الكلام في ذلك. (إنك أنت التواب) أي: القابل للتوبة من عظائم الذنوب. وقيل: الكثير القبول للتوبة مرة بعد اخرى (الرحيم) بعباده، المنعم عليهم بالنعم العظام، وتكفير
[ 393 ]
السيئات والآثام. وفي هذه الآية دلالة على أنه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة، لأنهما كانا عالمين بأنهما لا يقارفان الذنوب (1) والآثام، ولا يفارقان الدين والإسلام. (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129)). اللغة: (العزيز القدر) الذي لا يغالب. وقيل: هو القادر الذي لا يمتنع عليه شئ أراد فعله. ونقيض العز الذل. وعز يعز عزة، وعزا: إذا صار عزيزا. وعز يعز عزا: إذا قهر. ومنه قولهم: من عز بز أي: من غلب سلب. واعتز الشئ: إذا صلب، وهو من العزاز من الأرض، وهو الطين الصلب الذي لا يبلغ أن يكون حجارة. وعز الشئ: إذا قل حتى لا يكاد يوجد. واعتز فلان بفلان: إذا تشرف به. والحكيم: معناه المدبر الذي يحكم الصنع، ويحسن التدبير. فعلى هذا يكون من صفات الفعل، وبكون بمعنى العليم، فيكون من صفات الذات. الاعراب: (ابعث): جملة فعلية معطوفة على (تب) فيهم تتعلق بابعث. ويجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره رسولا كائنا فيهم، فيكون في موضع نصب على الحال. و (يتلو): منصوب الموضع بكونه صفة قوله (رسولا) أي: تاليا. و (عليهم): تتعلق بيتلو.. المعنى: الضمير في قوله (فيهم) يرجع إلى الأمة المسلمة التي سأل الله إبراهيم أن يجعلهم من ذريته، والمعني به بقوله: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) هو نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لما روي عنه أنه قال: " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى عليهما السلام " يعني قوله (مبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد) وهو قول الحسن وقتادة وجماعة من العلماء، ويدل على ذلك أنه دعا بذلك لذريته الذين يكونون بمكة وما حولها، على ما تضمنه الآية في قوله (ربنا وابعث فيهم) أي: في هذه الذرية رسولا منهم، ولم يبعث الله من هذه صورته إلا محمدا صلى الله عليه واله وسلم. وقوله: (يتلوا عليهم آياتك) أي: يقرأ عليهم آياتك التي توحي بها إليه. (1) قارف الذنب: داناه. (*)
[ 394 ]
(ويعلمهم الكتاب) أي: القرآن، وهذا لا يعد من التكرار، لأنه خص الأول بالتلاوة ليعلموا بذلك أنه معجز دال على صدقه ونبوته، وخص الثاني بالتعليم ليعرفوا ما يتضمنه من التوحيد وأدلته، وما يشتمل عليه من أحكام شريعته. وقوله: (والحكمة) قيل: هي ها هنا السنة عن قتادة. وقيل: المعرفة بالدين والفقه في التأويل عن مالك بن أنس. وقيل: العلم بالأحكام التي لا يدرك علمها إلا من قبل الرسل عن ابن زيد. وقيل: إنه صفة للكتاب. كأنه وصفه بأنه كتاب وأنه حكمة وأنه آيات. وقيل: الحكمة شئ يجعله الله في القلب ينوره الله به كما ينور البصر، فيدرك المبصر. وقيل: هي مواعظ القرآن وحرامه وحلاله عن مقاتل وكل حسن. وقوله: (ويزكيهم) أي: يجعلهم مطيعين مخلصين. والزكاء: هو الطاعة والإخلاص لله سبحانه، عن ابن عباس. وقيل: معناه يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه، عن ابن جريج. وقيل: معناه يستدعيهم إلى فعل ما يزكون به من الإيمان والصلاح، عن الجبائي. وقيل: يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت، عن الأصم. وقوله: (إنك أنت العزيز الحكيم) أي: القوي في كمال قدرتك، المنيع في جلال عظمتك، المحكم لبدائع صنعتك. وإنما ذكر هاتين الصفتين لاتصالهما بالدعاء، فكأنه قال: فزعنا إليك في دعائنا لأنك القادر على إجابتنا، العالم بما في ضمائرنا، وبما هو أصلح لنا، مما لا يبلغه كنه علمنا، وقصار بصائرنا. وفي هذه الآية دلالة على أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام دعوا لنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجميع شرائط النبوة، لأن تحت التلاوة الأداء، وتحت التعليم البيان، وتحت الحكمة السنة. ودعوا لأمته باللطف الذي لأجله تمسكوا بكتابه وشرعه، فصاروا أزكياء. وهذا لأن الدعاء صدر من إسماعيل عليه السلام، فعلم بذلك أن النبي المدعو به من ولده، لا من ولد إسحاق، ولم يكن في ولد إسماعيل نبي غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأنبياء (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130)). اللغة: الرغبة: المحبة لما فيه للنفس منفعة. ورغبت فيه: ضد رغبت
[ 395 ]
عنه. والرغبة والمحبة والإرادة نظائر. ونقيض الرغبة: الرهبة. ونقيض المحبة: البغضة. ونقيض الإرادة: الكراهة. وتقول رغبت فيه رغبة ورغبا ورغبا ورغبى: إذا ملت إليه. ورغبت عنه: إذا صددت عنه. ورجل رغيب: نهم شديد الأكل. وفرس رغيب الشحوة أي: كثير الأخذ بقوائمه من الأرض. وموضع رغيب: واسع. والرغيبة: العطاء الكثير الذي يرغب في مثله. والإصطفاء والإجتباء والإختيار نظائر. والصفاء والنقاء والخلوص نظائر. والصفو: نقيض الكدر. وصفوة كل شئ: خالصه. وصفي الإنسان: أخوه الذي يصافيه المودة. وناقة صفي: كثيرة اللبن. ونخلة صفية: كثيرة الحمل. والجمع الصفايا. واصطفينا على وزن افتعلنا من الصفوة، وإنما قلبت التاء طاء، لأنها أشبه بالصاد بالإستعلاء والإطباق، وهي من مخرج التاء، فأتي بحرف وسط بين الحرفين. الاعراب: (من يرغب): لفظة (من) للإستفهام، ومعناه الجحد، فكأنه قال: ما يرغب عن ملة إبراهيم ولا يزهد فيها إلا من سفه نفسه أي: الذي سفه نفسه. فمن الاولى على الإستفهام، والثانية بمعنى الذي. و (إلا): حرف الإستثناء. ويجوز أن يكون لنقض النفي. ومن اسم موصول، و (سفه نفسه): صلته والموصول والصلة في محل النصب على الإستثناء، أو في محل الرفع بكونه بدلا من الضمير الذي في يرغب. وفي انتصاب (نفسه) خلاف. قال الأخفش معناه: سفه نفسه. وقال يونس: أراها لغة. قال الزجاج: أراد أن فعل لغة في المبالغة، كما أن فعل كذلك. ويجوز على هذا القول سفهت زيدا بمعنى سفهت زيدا. وقال أبو عبيدة: معناه أهلك نفسه وأوبق نفسه. فهذا كله وجه واحد. والوجه الثاني: أن يكون على التفسير كقوله: (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا) وهو قول الفراء. قال: إن العرب توقع سفه على نفسه، وهي معرفة، وكذلك بطرت معيشتها. وأنكر الزجاج هذا الوجه، قال: إن معنى التمييز لا يحتمل التعريف، لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنس أو خلة تخلص من خلال، فإذا عرفته صار مقصودا قصده. وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين. والوجه الثالث: أن يكون على التمييز والإضافة، على تقدير الإنفصال، كما
[ 396 ]
تقول مررت برجل مثله أي: مثل له والوجه الرابع: أن يكون على حذف الجار في معنى سفه في نفسه، كقوله سبحانه: (ولا جناح عليكم أن تسترضعوا أولادكم) أي: لأولادكم، فحذف حرف الجر من غير ظرف. ومثله: (ولا تعزموا عقدة النكاح) أي: على عقدة النكاح، ومثله قول الشاعر: نغالي اللحم للاضياف نيا، * ونبذله إذا نضج القدور والمعنى: نغالي باللحم. قال الزجاج: وهذا مذهب صحيح. والوجه الخامس: ما اختاره الزجاج وهو أن سفه بمعنى جهل، وهو موافق في المعنى لما قاله السراج في قوله بطرت معيشتها: إن البطر مستقل للنعمة، غير راض بها. فعلى هذا يكون (نفسه) مفعولا به (وإنه في الآخرة): في تتعلق بمحذوف فهو منصوب الموضع على الحال، وذو الحال الضمير المستكن في قوله (من الصالحين). النزول: روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه، سلمة ومهاجرا إلى الإسلام، فقال: لقد علمنا أن صفة محمد في التوراة، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم، فأنزل الله هذه الآية. المعنى: لما بين سبحانه قصة إبراهيم، وأن ملته ملة محمد، عقبه بذكر الحث على اتباعها، فقال: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) أي: لا يترك دين إبراهيم وشريعته إلا من أهلك نفسه وأوبقها. وقيل: أضل نفسه عن الحسن. وقيل: جهل قدره لأن من جهل خالقه فهو جاهل بنفسه، عن الأصم. وقيل: جهل نفسه بما فيها من الآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شئ، عن أبي مسلم. وقوله: (ولقد اصطفيناه في الدنيا) أي: اخترناه بالرسالة واجتبيناه (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) أي: من الفائزين، عن الزجاج. وقيل: معناه لمع الصالحين أي: مع آبائه الأنبياء في الجنة، عن ابن عباس. وقيل: إنما خص الآخرة بالذكر، وإن كان في الدنيا كذلك،. لأن المعنى من الذين يستوجبون على الله سبحانه الكرامة وحسن الثواب. فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا، وصفه فيها بما ينبئ عن ذلك. وفي قوله سبحانه: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) دلالة على أن ملة إبراهيم هي ملة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد، مع زيادات
[ 397 ]
في ملة محمد، فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن ملة محمد، التي هي ملة إبراهيم، قد سفهوا أنفسهم. وهذا معنى قول قتادة والربيع، ويدل عليه قوله: (ملة أبيكم إبراهيم). (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131)). الاعراب: (قال): فعل فارغ، وله جار ومجرور. واللام تتعلق بقال. و (قال له ربه): مجرور الموضع بإضافة إذ إليه. واللام في (لرب العالمين): تتعلق ب‍ (أسلمت). المعنى: هذا متصل بقوله (ولقد اصطفيناه) وموضع إذ نصب باصطفيناه، وتقديره ولقد اصطفيناه حين قال له ربه أسلم. واختلف في أنه متى قيل له ذلك، فقال الحسن: كان هذا حين أفلت الشمس، ورأى إبراهيم تلك الآيات والأدلة، فاستدل بها على وحدانية الله سبحانه وقال: (يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) الآية، وأنه أسلم حينئذ. وهذا يدل على أنه كان ذلك قبل النبوة، وأنه قال له ذلك إلهاما استدعاء منه إلى الإسلام، فأسلم حينئذ لما وضح له طريق الإستدلال بما رأى من الآيات. ولا يصح أن يوحي الله إليه قبل إسلامه بأنه نبي الله، لأن النبوة حال إجلال وإعظام، ولا يكون ذلك قبل الإسلام. وقال ابن عباس: إنما قال ذلك إبراهيم عليه السلام حين خرج من السرب (1). وقيل: إنما قال ذلك بعد النبوة، ومعنى أسلم استقم على الإسلام، واثبت على التوحيد، كقوله سبحانه (فاعلم أنه لا إله إلا الله). وقيل: إن معنى أسلم أخلص دينك بالتوحيد. وقوله: (أسلمت لرب العالمين) أي: أخلصت الدين لله رب العالمين. (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)). القراءة: قرأ أهل المدينة، والشام: (وأوصى) بهمزة بين واوين وتخفيف الصاد. وقرأ الباقون: (ووصى) مشددة الصاد. (1) السرب: الحفير تحت الأرض. (*)
[ 398 ]
الحجة: حجة من قرأ (وصى) قوله تعالى: (فلا يستطيعون توصية) فتوصية مصدر وصى، مثل قطع تقطعة. ولا يكون منه تفعيل، لأنك لو قلت في مصدر حييت تفعيل، لكان يجتمع ثلاث ياءات، فرفض ذلك. وحجة من قرأ (وأوصى بها إبراهيم) قوله: (يوصيكم الله) (ومن بعد وصية توصون بها أو دين). اللغة: وصى وأوصى وأمر وعهد بمعنى. وقد قالوا: وصى البيت: إذا اتصل بعضه ببعض. فالوصية كأن الموصي بالوصية وصل جل أمره بالموصى إليه. الاعراب: (يعقوب): رفع لأنه عطف على (إبراهيم)، والتقدير ووصى إبراهيم ويعقوب وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة. وقيل: إنه على الإستئناف كأنه قال: ووصى يعقوب أن يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، والأول أظهر. والفرق بين التقديرين أن الأول لا إضمار فيه لأنه معطوف. والثاني فيه إضمار. والهاء في (بها) تعود إلى الملة. وقد تقدم ذكرها، وهو قول الزجاج. وقيل: إنها تعود إلى الكلمة التي هي (أسلمت لرب العالمين). والألف واللام في (الدين) للعهد دون الإستغراق، لأنه أراد دين الإسلام. وقوله: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) وإن كان على لفظ النهي لهم عن الموت، فالنهي على الحقيقة عن ترك الإسلام، لئلا يصادفهم الموت عليه، ومثله من كلام العرب: لا أرينك ها هنا. فالنهي في اللفظ للمتكلم، وإنما هو في الحقيقة للمخاطب، فكأنه قال: لا تتعرض لأن أراك بكونك ها هنا. وقوله: (وأنتم مسلمون) جملة في موضع الحال وتقديره: لا تموتوا إلا مسلمين. وذو الحال الواو في (تموتوا) ومعناه: ليأتكم الموت وأنتم مسلمون. المعنى: لما بين عز اسمه دعاء إبراهيم عليه السلام لذريته وحكم بالسفه على من رغب عن ملته، ذكر اهتمامه بأمر الدين، وعهده به إلى نبيه في وصيته فقال: (ووصى بها) أي بالملة، أو بالكلمة التي هي قوله (أسلمت لرب العالمين)، ويؤيد هذا قوله تعالى (وجعلها كلمة باقية في عقبه) وقيل: بكلمة لإخلاص، وهي: لا إله إلا الله. (إبراهيم بنيه) إنما خص البنين لأن إشفاقه عليهم أكثر، وهم بقبول
[ 399 ]
وصيته أجدر، وإلا فمن المعلوم أنه كان يدعو جميع الأنام إلى الإسلام، ويعقوب وهو ابن إسحاق، وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا كانا توأمين، فتقدم عيص، وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه عن ابن عباس. والمعنى: ووصى يعقوب بنيه الإثني عشر وهم الأسباط. (ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين) أي: فقالا جميعا: يا بني إن الله أختار لكم دين الإسلام (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) أي: لا تتركوا الإسلام فيصادفكم الموت على تركه، أو لا تتعرضوا للموت على ترك الإسلام بفعل الكفر. وقال الزجاج: معناه إلزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين. وفي هذه الآية دلالة على الترغيب في الوصية عند الموت، وأنه ينبغي أن يوصي الإنسان من يلي أمرهم بتقوى الله ولزوم الدين والطاعة. (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)). اللغة: الشهداء: جمع شهيد. والشاهد والحاضر من النظائر. تقول: حضرت القوم أحضرهم حضورا: إذا شهدتم. والحضيرة: الجماعة من الناس ما بين الخمسة إلى العشرة. وأحضر الفرس إحضارا: إذا عدا شديدا. وحاضرت الرجل محاضرة: إذا عدوت معه. وحاضرته: إذا جاثيته عند السلطان، أو في خصومة. وحضرة الرجل: فناؤه. وأصل الباب: الحضور خلاف الغيبة. الاعراب: (أم) ها هنا: منقطعة، وهي لا تجئ إلا وقد تقدمها كلام، لأنها التي تكون بمعنى بل، وهمزة الإستفهام كأنه قيل: بل أكنتم شهداء. ومعنى أم ها هنا الجحد أي: ما كنتم شهداء، وإنما كان اللفظ على الإستفهام، والمعنى على خلافه، لأن إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام، وأشد مظاهرة في الحجاج، إذ يخرج الكلام مخرج التقرير بالحق، فيلزم الحجة أو الإنكار له فتظهر الفضيحة. وإذ الاولى ظرف من قوله شهداء، وإذ الثانية بدل من إذ الاولى. وقيل: العامل في الثانية حضر، وكلاهما جائز.
[ 400 ]
(ما). للإستفهام، وهو منصوب الموضع، لأنه مفعول (تعبدون). و (من بعدي): الجار والمجرور في محل النصب على الظرف وقوله: (إلها واحدا) منصوب على أحد وجهين: أن يكون حالا، فكأنه قال: نعبد إلهك في حال وحدانيته، أو يكون بدلا من إلهك، وتكون الفائدة فيه ذكر التوحيد. (ونحن له مسلمون): جملة في موضع الحال، ويجوز أن يكون على الإستئناف، فلا يكون لها موضع من الإعراب. و (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق): في موضع جر على البدل من آبائك، كما تقول: مررت بالقوم: أخيك وغلامك وصاحبك. المعنى: خاطب سبحانه أهل الكتاب، فقال: (ام كنتم شهداء) أي: ما كنتم حضورا (إذ حضر يعقوب الموت)، وما كنتم حضورا (إذ قال) يعقوب (لبنيه ما تعبدون من بعدي) ومعناه أنكم لم تحضروا ذلك، فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، بأن تنسبوهم إلى اليهودية والنصرانية، فإني ما بعثتهم إلا بالحنيفية، وذلك أن اليهود قالوا: إن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية، فرد الله تعالى عليهم قولهم، وإنما قال: (ما تعبدون) ولم يقل من تعبدون، لأن الناس كانوا يعبدون الأصنام، فقال: أي الأشياء تعبدون من بعدي ؟ (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) وإنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق، لأنه كان أكبر منه، وإسماعيل كان عم يعقوب، وجعله أبا له، لأن العرب تسمي العم أبا، كما تسمي الجد أبا، وذلك لأنه يجب تعظيمهما كتعظيم الأب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ردوا علي أبي " يعني العباس عمه. (إلها واحدا ونحن له مسلمون) أي: مذعنون مقرون بالعبودية. وقيل: خاضعون منقادون مستسلمون لأمره ونهيه قولا وعقدا. وقيل: داخلون في الإسلام يدل عليه قوله (إن الدين عند الله الإسلام). (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (134)). اللغة: الأمة على وجوه الأول: الجماعة كما في الآية والثاني: القدوة والإمام في قوله (إن إبراهيم كان امة قانتا). والثالث: القامة في قول الأعشى:
[ 401 ]
وإن معاوية الأكرمين * حسان الوجوه، طوال الأمم والرابع: الإستقامة في الدين والدنيا. قال النابغة: حلفت فلم أترك لنفسي ريبة، * وهل يأثمن ذو أمة، وهو طائع أي: ذو ملة ودين والخامس: الحين في قوله: (وادكر بعد أمة) والسادس: أهل الملة الواحدة في قولهم امة موسى وامة عيسى وامة محمد صلى الله عليه وعليهما. وأصل الباب القصد من أمه يومه أما: إذا قصده. وخلت أي: مضت. وأصله الإنفراد، خلا الرجل بنفسه: إذا انفرد. وخلا المكان من أهله: إذا انفرد منهم. والفرق بين الخلو والفراغ أن الخلو إذا لم يكن مع الشئ غيره، وقد يفرغ من الشئ وهو معه، يقال: فرغ من البناء وهو معه. فإذا قيل: خلا منه، فليس معه. والكسب: العمل الذي يجلب به نفع، أو يدفع به ضرر عن النفس. وكسب لأهله: إذا اجتلب ذلك لهم بعلاج ومراس، ولذلك لا يطلق الكسب في صفة الله. الاعراب: قوله: (لها ما كسبت) يحتمل أن يكون في موضع نصب على الحال، فكأنه قيل: ملزمة ما تستحقه بعملها. ويجوز أن لا يكون لها موضع لأنها مستأنفة فلا تكون جزءا من الخبر الأول، لكن تكون متصلة به في المعنى، وإن لم تكن جزءا منه، لأنهما خبران في المعنى عن شئ واحد، فكأنه قيل: الجماعة قد خلت، والجماعة لها ما كسبت. (عما كانوا يعملون): ما اسم موصرل، و (كانوا يعملون): صلته. والموصول والصلة في موضع الجر بعن. و (عن) تتعلق (بتسألون). المعنى: (تلك أمة قد خلت) أي: جماعة قد مضت، يعني إبراهيم وأولاده (لها ما كسبت) أي: ما عملت من طاعة، أو معصية (ولكم) يا معشر اليهود والنصارى (ما كسبتم) أي: ما عملتم من طاعة، أو معصية (ولا تسئلون عما كانوا يعملون) أي: لا يقال لكم: لم عملوا كذا وكذا على جهة المطالبة لكم بما يلزمهم من أجل أعمالهم، كما لا يقال لهم: لم عملتم أنتم كذا وكذا، وإنما يطالب كل إنسان بعمله دون عمل غيره، كما قال سبحانه (ولا تزر وازرة وزر اخرى). وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: إن
[ 402 ]
الأبناء مؤاخذون بذنوب الآباء، وإن ذنوب المسلمين تحمل على الكفار، لأن الله تعالى نفى ذلك. (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135)). اللغة: الحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق. قال ابن دريد: الحنيف العادك عن دين إلى دين، وبه سميت الحنيفية، لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية. وقيل: الحنيف الثابت على الدين المستقيم. والحنيفية: الإستقامة على دين إبراهيم. وإنما قيل للذي تقبل إحدى قدميه على الاخرى: أحنف، تفاؤلا بالسلامة، كما قيل للمهلكة: مفازة، تفاؤلا بالفوز والنجاة، وهو قول كثير من المفسرين، وأهل اللغة. وقال الزجاج: أصله من الحنف وهو ميل في صدر القدم، وسمي الأحنف: لحنف كان به. وقالت حاضنته وهي ترقصه: (والله لولا حنف برجله ما كان في صبيانكم كمثله). وفي الحديث: (أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة "، وهي ملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا حرج فيها ولا ضيق. الاعراب: جزم (تهتدوا) على الجواب للأمر، ومعنى الشرط قائم في الكلمة أي: إن تكونوا على هذه الملة، تهتدوا، فإنما انجزم (تهتدوا) على الحقيقة بالجزاء. وقوله: (ملة إبراهيم) في انتصابه وجوه أحدها: إن تقديره بل اتبعوا ملة إبراهيم، لأن قولهم (كونوا هودا أو نصارى) تتضمن معنى اتبعوا اليهودية، أو النصرانية، وتقديره: قالوا اتبعوا اليهودية أو النصرانية، قل بل اتبعوا ملة إبراهيم. فهذا عطف على المعنى. والثاني: أن يكون على الحذف كأنه قيل: بل نتبع ملة إبراهيم، فالأول عطف، والثاني حذف والثالث: أن ينتصب على تقدير: بل نكون أهل ملة إبراهيم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: (واسأل القرية) فهذا عطف على اللفظ، وهو قول الكوفيين. و (حنيفا): نصب على الحال، أي: في حال حنيفيته. النزول: عن ابن عباس: إن عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وجماعة من اليهود، ونصارى أهل نجران، خاصموا أهل
[ 403 ]
الإسلام. كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب. وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا أفضل الكتب. وكل فريق منهما قالوا للمؤمنين: كونوا على ديننا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: إن ابن صوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية. المعنى: (وقالوا) الضمير يرجع إلى اليهود والنصارى أي: قالت اليهود (كونوا هودا)، وقالت النصارى: كونوا (نصارى) كل فريق منهم دعا إلى ما هو عليه. ومعنى (تهتدوا) أي: تصيبوا طريق الحق، كأنهم قالوا: تهتدوا إلى الحق أي إذا فعلتم ذلك كنتم قد اهتديتم، وصرتم على سنن الإستقامة (قل) يا محمد (بل ملة إبراهيم) أي: بل نتبع دين إبراهيم. وعلى الوجه الآخر بل اتبعوا دين إبراهيم. وقد عرفت الوجوه الثلاثة في الإعراب فلا معنى لاعادتها. (حنيفا): مستقيما. وقيل: مائلا إلى دين الإسلام. وفي الحنيفية أربعة أقوال أحدها: إنها حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وثانيها: إنها اتباع الحق عن مجاهد. وثالثها: إنها اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس بعده من الحج والختان وغير ذلك من شرائع الإسلام. والرابع: إنها الإخلاص لله وحده في الإقرار بالربوبية، والإذعان للعبودية. وكل هذه الأقوال ترجع إلى ما قلناه من معنى الإستقامة والميل إلى ما أتى به إبراهيم عليه السلام من الملة. (وما كان من المشركين) أي: وما كان إبراهيم من المشركين، نفى الشرك عن ملته، وأثبته في اليهود والنصارى، حيث قالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. وفي قوله سبحانه (بل ملة إبراهيم): حجة على وجوب اتباع ملة إبراهيم عليه السلام لسلامتها من التناقض، ولوجود التناقض في اليهودية والنصرانية، فلذلك صارت ملة إبراهيم أحرى بالإتباع من غيرها. فمن التناقض في اليهودية منعهم من جواز النسخ مع ما في التوراة من الدلالة على جوازه، وامتناعهم من العمل بما تقدمت به البشارة في التوراة من اتباع النبي الأمي، مع إظهارهم التمسك بها، وامتناعهم من الإذعان لما دلت عليه الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة، من نبوة عيسى ومحمد صلى الله
[ 404 ]
عليهما، مع إقرارهم بنوبة عيسى بدلالة المعجزات عليها، إلى غير ذلك من أنواع التناقض. ومن التناقض في قول النصارى قولهم الأب والابن وروح القدس إله واحد، مع زعمهم أن الأب ليس هو الإبن، وأن الأب إله، والإبن إله، وروح القدس إله، وامتناعهم من أن يقولوا ثلاثة آلهة، إلى غير ذلك من تناقضاتهم المذكورة في الكتب. (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)). اللغة: الاسباط: واحدهم سبط، وهم أولاد إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهم إثنا عشر سبطا من إثني عشر إبنا. وقالوا: الحسن والحسين سبطا رسول الله أي: ولداه. والأسباط في بني إسرائيل بمنزلة القبائل في ولد اسماعيل. قال الزجاج: السبط الجماعة يرجعون إلى أب واحد. والسبط في اللغة: الشجر. فالسبط: الذين هم من شجرة واحدة. وقال ثعلب: يقال سبط عليه العطاء أو الضرب: إذا تابع عليه حتى يصل بعضه ببعض. وأنشد التوزي في قطيع بقر: (كأنه سبط من الأسباط) شبهه بالجماعة من الناس يتتابعون في أمر. ومن ثم قيل لولد يعقوب أسباط. والفرق بين التفريق والفرق أن التفريق جعل الشئ مفارقا لغيره. والفرق: نقيض الجمع. والجمع: جعل الشئ مع غيره. والفرق: جعل الشئ لا مع غيره. والفرق بالحجة: هو البيان الذي يشهد أن الحكم لأحد الشيئين دون الآخر. الاعراب: (ما أوتي): تقديره ما أوتيه، حذف الهاء العائد إلى الموصول. ومن في قوله (من ربهم): تتعلق بأوتي، أو بمحذوف، فيكون مع المحذوف في موضع نصب على الحال، وذو الحال الضمير المستكن في أوتي، والعامل اوتي أو يكون العامل فيه أنزل. وذو الحال ما أوتي. (لا نفرق): جملة منفية منصوبة الموضع على الحال. والعامل فيه (آمنا). ومنهم تتعلق بمحذوف مجرور الموضع بكونه صفة لأحد، ومعنى أحد منهم
[ 405 ]
أي: بين اثنين أو جماعة، وتقديره: ولا نفرق بين أحد، وأحد منهم. المعنى: (قولوا آمنا بالله): خطاب للمسلمين. وقيل: خطاب للنبي والمؤمنين، أمرهم الله تعالى بإظهار ما تدينوا به على الشرع، فبدأ بالإيمان بالله لأنه أول الواجبات، ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرائع. (وما أنزل إلينا) يعني القرآن، نؤمن بأنه حق وصدق، وواجب اتباعه في الحال، وان تقدمته كتب. (وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) قال قتادة: هم يوسف وإخوته بنو يعقوب، ولد كل واحد منهم امة من الناس، فسموا الأسباط، وبه قال السدي والربيع ومحمد بن إسحاق. وذكروا أسماء الإثني عشر: يوسف وبنيامين وزابالون ويهوذا وشمعون ولاوي ودان وقهاب (1) ويشجر ونفتالي وجاد. وأشرفهم ولد يعقوب لا خلاف بين المفسرين فيه. وقال كثير من المفسرين: إنهم كانوا أنبياء، والذي يقتضيه مذهبنا أنهم لم يكونوا أنبياء بأجمعهم، لأن ما وقع منهم من المعصية فيما فعلوه بيوسف عليه السلام، لا خفاء به، والنبي عندنا معصوم من القبائح، صغيرها وكبيرها، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أنهم كانوا أنبياء. وقوله: (وما أنزل إليهم) لا يدل على أنهم كانوا أنبياء، لأن الإنزال يجوز أن يكون كان على بعضهم ممن كان نبيا، ولم يقع منه ما ذكرناه من الأفعال القبيحة. ويحتمل أن يكون مثل قوله: (وما أنزل إلينا) وأن المنزل على النبي خاصة، لكن المسلمين لما كانوا مأمورين بما فيه، اضيف الإنزال إليهم. وقد روى العياشي في تفسيره عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر الباقر قال: قلت له: أكان ولد يعقوب انبياء ؟ قأل: لا، ولكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلا سعداء، تابوا وتذكروا ما صنعوا. وقوله: (وما أوتي موسى وعيسى) أي: أعطيا، وخصهما بالذكر لأنه احتجاج على اليهود والنصارى، والمراد بما أوتي موسى التوراة، وبما أوتي عيسى الإنجيل. (وما أوتي النبيون) أي: ما أعطيه النبيون (من ربهم لا نفرق بين أحد منهم) أي: (1) كذا في النسخ. وفي الطبري: (قهات) بالتاء المثناة. (*)
[ 406 ]
بأن نؤمن ببعض، ونكفر ببعض كما فعله اليهود والنصارى، فكفرت اليهود بعيسى ومحمد، وكفرت النصارى بسليمان ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (ونحن له مسلمون) أي: نحن لما تقدم ذكره. وقيل: لله خاضعون بالطاعة، مذعنون بالعبودية. وقيل: منقادون لأمره ونهيه. وقد مضي هذا مستوفى فيما قبل. وفائدة الآية: الأمر بالإيمان بالله، والإقرار بالنبيين، وما انزل إليهم من الكتب والشرائع، والرد على من فرق بينهم، فيما جمعهم الله عليه من النبوة، وإن كانت شرائعهم غير لازمة لنا، فإن الإيمان بهم لا يقتضي لزوم شرائعهم. وروي عن الضحاك أنه قال: علموا أولادكم وأهاليكم وخدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله في كتابه، حتى يؤمنوا بهم، ويصدقوا بما جاؤوا به، فإن الله تعالى يقول (قولوا آمنا بالله) الآية. (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137)). اللغة: الشقاق: المنازعة والمحاربة، ويحتمل أن يكون أصله مأخوذا من الشق، لأنه صار في شق غير شق صاحبه للعداوة والمباينة، ويحتمل أن يكون مأخوذا من المشقة، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه. والكفاية: بلوغ الغاية، يقال: يكفي ويجزي ويغني بمعنى واحد. وكفى يكفي كفاية: إذا قام بالأمر. وكفاك هذا الأمر أي: حسبك. ورأيت رجلا كافيك من رجل أي: كفاك به رجلا. الاعراب: الباء في قوله (بمثل ما آمنتم به) يحتمل ثلاثة أشياء أحدها: أن تكون زائدة، والتقدير فإن آمنوا مثل ما آمنتم به أي: مثل إيمانكم به، كما يقال: كفى بالله أي: كفى الله. قال الشاعر: (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا). والثاني: أن يكون المعنى بمثل هذا، ولا تكون زائدة كأنه قال: (فإن آمنوا على مثل إيمانكم) كما تقول: كتبت على مثل ما كتبت، وبمثل ما كتبت، كأنك تجعل المثل آلة توصل بها إلى العمل. وهذا أجود من الأول. والثالث: أن تلغى مثل كما ألغيت الكاف في قوله: (فجعلهم كعصف مأكول) وهذا أضعف الوجوه، لأنه إذا أمكن حمل كلام الله على فائدة، فلا
[ 407 ]
يجوز حمله على الزيادة، وزيادة الإسم أضعف من زيادة الحرف، نحو ما ولا وما أشبه ذلك. وقوله: (فقد اهتدوا) في محل الجزم أو في محل الرفع، لأنه جواب شرط مبني. وكذلك قوله: (فإنما هم في شقاق) وإنما حرف لإثبات الشئ ونفي غيره. و (هم): مبتدأ. و (في شقاق): في موضع خبره. النزول: لما نزل قوله تعالى (قولوا آمنا بالله) الآية. قرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اليهود والنصارى، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى أنكروا وكفروا، وقالت النصارى: إن عيسى ليس كسائر الأنبياء لأنه ابن الله، فنزلت الآية. المعنى: (فإن آمنوا) أخبر الله سبحانه أن هؤلاء الكفار متى آمنوا على حد ما آمن المؤمنون به (فقد اهتدوا) إلى طريق الجنة. وقيل: سلكوا طريق الإستقامة والهداية. وقيل: كان ابن عباس يقول: اقرأوا بما آمنتم به، فليس لله مثل. وهذا محمول على أنه فسر الكلام، لا أنه أنكر القراءة الظاهرة مع صحة المعنى. وقوله: (وإن تولوا) أي: أعرضوا عن الإيمان وجحدوه، ولم يعترفوا به (فإنما هم في شقاق) أي: في خلاف قد فارقوا الحق، وتمسكوا بالباطل، فصاروا مخالفين لله سبحانه، عن ابن عباس. وقريب منه ما روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: يعني في كفر. وقيل: في ضلال عن أبي عبيدة. وقيل: في منازعة ومحاربة عن أبي زيد. وقيل: في عداوة عن الحسن (فسيكفيكهم الله) وعد الله سبحانه رسوله بالنصرة، وكفاية من يعاديه من اليهود والنصارى الذين شاقوه. وفي هذا دلالة بينة على نبوته وصدقه صلى الله عليه وآله وسلم. المعنى أن الله سبحانه يكفيك يا محمد أمرهم (وهو السميع) لأقوالهم (العليم) بأعمالهم في إبطال أمرك، ولن يصلوا إليك. (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138)). اللغة: (صبغة الله) مأخوذة من الصبغ، لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد لهم مولود غمسوه في ماء لهم يسمونه المعمودية، يجعلون ذلك تطهيرا له، فقيل: صبغة الله تطهير الله لا تطهيركم بتلك الصبغة، وهو قول الفراء. وقيل: إن اليهود تصبغ أبناءها يهودا، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى أي: يلقنون أولادهم اليهودية والنصرانية عن قتادة. إلى هذا يؤول ما روي عن
[ 408 ]
عمر بن الخطاب أخذ العهد على بني تغلب أن لا يصبغوا أولادهم أي لا يلقنونهم النصرانية، لكن يدعونهم حتى يبلغوا، فيختاروا لأنفسهم ما شاؤوا من الأديان في صبغة الله وقيل: سمي الدين صبغة، لأنه هيئة تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة وغير ذلك من الآثار الجميلة التي هي كالصبغة عن الجبائي. قال أمية: في صبغة الله كان إذ نسي ال‍ * - عهد، وخلى الضوإب إذ عرفا ويقال صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء وضمها وكسرها صبغا بفتح الصاد وكسرها. الاعراب: نصب (صبغة الله) على أنه بدل من قوله (ملة إبراهيم) وتفسير له عن الأخفش. وقيل: إنه نصب على الإغراء، تقديره: اتبعوا صبغة الله، والزموا صبغة الله. و (من): استفهام وهو مبتدأ. و (أحسن): خبره. و (صبغة): نصب على التمييز. المعنى: (صبغة الله) أي: اتبعوا دين الله، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. ويقرب منه ما روي عن الصادق عليه السلام قال: يعني به الاسلام. وقيل: شريعة الله التي هي الختان الذي هو تطهير، عن الفراء والبلخي. وقيل: فطرة الله التي فطر الناس عليها، عن أبي العالية وغيره. (ومن أحسن من الله صبغة) أي: لا أحد أحسن من الله صبغة أي: بينا لفظه لفظ الإستفهام، ومعناه الجحد، عن الحسن وغيره. (ونحن له عابدون) أي: من نحن له عابدون، يجب أن تتبع صبغته، لا ما صبغنا عليه الآباء والأجداد. وقيل: ونحن له عابدون في اتباعنا ملة إبراهيم صبغة الله. (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139)). اللغة: الحجاج والجدال والخصام نظائر. والأعمال والأحداث والأفعال نظائر. والإخلاص والإفراد والإختصاص نظائر. وضد الخالص: المشوب. الاعراب: (وهو ربنا وربكم) المبتدأ. وخبره في موضع نصب على الحال. والعامل فيه (تحاجون). وذو الحال الواو. (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) مبتدءان وخبران. والجملتان في موضع نصب على الحال بالعطف
[ 409 ]
على (هو ربنا وربكم)، (ونحن له مخلصون): كذلك. المعنى: أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية، أن يقول لهؤلاء اليهود وغيرهم: (أتحاجوننا في الله) ومعناه في دين الله أي: أتخاصموننا وتجادلوننا فيه، وهو سبحانه خالقنا، والمنعم علينا، وخالقكم والمنعم عليكم. واختلف في محاجتهم كيف كان، فقيل: كانت محاجتهم للنبي عليه السلام، أنهم يزعمون أنهم أولى بالحق لتقدم النبوة فيهم والكتاب. وقيل: بل كانت محاجتهم أنهم قالوا: نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان. وقيل: كانت محاجتهم أنهم قالوا: يا محمد ! إن الأنبياء كانوا منا، ولم يكن من العرب نبي، فلو كنت نبيا لكنت منا. وقال الحسن كانت محاجتهم أن قالوا (نحن أولى بالله منكم)، وقالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤه)، وقالوا (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) وكان غرضهم بذلك أن الدين يلتمس من جهتهم وأن النبوة أولى أن تكون فيهم. فبين سبحانه أنه أعلم بتدبير خلقه بقوله: (وهو ربنا وربكم) أي: خالقنا وخالقكم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، ومن الذي يقوم بأعبائها (1) ويتحملها على وجه يكون أصلح للخلق، وأولى بتدبيرهم. وقوله: (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي: لنا ديننا ولكم دينكم. وقيل: معناه ما علينا مضرة من أعمالكم، وما لكم منفعة من أعمالنا. فضرر أعمالكم عليكم، ونفع أعمالنا لنا. وقيل: إنه إنكار لقولهم إن العرب تعبد الأوثان، وبيان لأن لا حجة فيه، إذ كل مأخوذ بما كسبت يداه، ولا يؤخذ أحد بجرم غيره. وقوله: (ونحن له مخلصون) أي: موحدون. والمراد بذلك أن المخلص أولى بالحق من المشرك. وقيل: معناه الرد عليهم ما احتجوا به من عبادة العرب للأوثان، فكأنه قال: لا عيب علينا في ذلك، إذا كنا موحدين، كما لا عيب عليكم بفعل من عبد العجل من أسلافكم، إذا اعتقدتم الإنكار عليهم في ذلك. فصل في ذكر الإخلاص: روي عن حذيفة بن اليمان قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإخلاص ما هو ؟ قال: " سألت جبريل عليه السلام عن ذلك، قال: سألت رب العزة عن ذلك فقال هو سر (1) الأعباء جمع العب ء: الثقل والحمل. (*)
[ 410 ]
من سري، استودعته قلب من أحببته من عبادي ". وروي عن أبي ادريس الخولاني، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن لكل حق حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شئ من عمل الله ". وقال سعيد بن جبير: الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله ولا يشرك به في دينه، ولا يرائي بعمله أحدا. وقيل: الإخلاص أن تستوي أعمال العبد في الظاهر والباطن. وقيل: هو ما استتر من الخلائق، واستصفى من العلائق. وقيل: هو ان يكتم حسناته كما يكتم سيئاته. (أم تقولون إن إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل ءأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعلمون (140)). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر وابن عامر: (أم تقولون) بالتاء. والباقون بالياء. الحجة: الأول: على الخطاب، فتكون (أم) متصلة بما قبلها من الإستفهام، كأنه قال: أتحاجوننا في الله، أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم ؟ والتقدير بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا بالتوحيد، فنحن موحدون أم باتباع دين الأنبياء، فنحن لهم متبعون ؟ والثاني: وهو القراءة بالياء على العدول من الحجاج الأول إلى حجاج آخر، فكأنه قال: بل تقولون إن الأنبياء من قبل أن تنزل التوراة والإنجيل، كانوا هودا أو نصارى، وتكون أم هذه هي المنقطعة، فيكون قد أعرض عن خطابهم استجهالا لهم بما كان منهم، كما يقبل العالم على من بحضرته بعد ارتكاب مخاطبه جهالة شنيعة، فيقول: قد قامت عليه الحجة، أم يقول بإبطال النظر المؤدي إلى المعرفة. اللغة: الأعلم والأعرف والأدرى بمعنى واحد. والأظلم والأجور والأعتى نظائر. وأفعل هذه تستعمل بمعنى الزيادة، وإنما يصح معناه فيما يقع فيه التزايد كقولهم أفضل وأطول. وقد قال المحققون: الصفات على ثلاثة أضرب صفة ذات، وصفة تحصل بالفاعل، وصفة تحصل بالمعنى. فالأول: مثل كون الذات جوهرا أو سوادا وهذا لا يصح فيه التزايد والثاني: كالوجود، ولا يصح فيه أيضا التزايد والثالث: على ضربين أحدهما يصح فيه التزايد، وهو
[ 411 ]
كل ما يوجبه معنى له مثل كالألوان والأكوان ونحوها والآخر: لا يصح فيه التزايد، وهو كل ما يوجبه معنى. وكتم وأخفى وأسر واحد. والغفلة والسهو والنسيان نظائر: وهو ذهاب المعنى عن النفس. والصحيح أن السهو ليس بمعنى، وإنما هو فقد علوم مخصوصة، فإن استمر به السهو مع صحة سمي جنونا، فإذا قارنه ضرب من الضعف، سمي إغماء، وإذا قارنه ضرب من الإسترخاء سمي نوما، فإن قارنه نوع من الطرب سمي سكرا، وإذا حصل السهو بعد علم سمي نسيانا. الاعراب: (أم الله): الله مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره أم الله أعلم. و (عنده): ظرف مكان لكتم، أو يكون صفة لشهادة تقديره شهادة كائنة عنده. و (من الله): صفة لشهادة أيضا، وهي صفة بعد صفة. المعنى: قد ذكرنا الفرق في المعنى بين قوله: (أم تقولون) على المخاطبة وقوله أم يقولون بالياء على أن يكون المعنى لليهود والنصارى، وهم غيب. وفي هذا احتجاج عليهم في قولهم: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) من وجوه أحدها: ما أخبر به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مع ظهور المعجز الدال على صدقه والثاني: ما في التوراة والإنجيل من أن هولاء الأنبياء كانوا على الحنيفية والثالث: إن عندهم إنما يقع اسم اليهودية على من تمسك بشريعة التوراة، واسم النصرانية على من تمسك بشريعة الإنجيل، والكتابان أنزلا بعدهم كما قال سبحانه: (وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده). والرابع: إنهم ادعوا ذلك من غير برهان، فوبخهم الله سبحانه بهذه الوجوه. وقوله: (قل أأنتم أعلم أم الله) صورته صورة الإستفهام، والمراد به التوبيخ، ومثله قوله (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها) ومعناه. قل يا محمد لهم: أأنتم أعلم أم الله. وقد أخبر سبحانه أنهم كانوا على الحنيفية، وزعمتم أنهم كانوا هودا أو نصارى، فيلزمكم أن تدعوا أنكم أعلم من الله، وهذا غاية الخزي. فإن قيل: لم قال أأنتم أعلم أم الله، وقد كانوا يعلمونه فكتموه، وإنما ظاهر هذا الخطاب لمن لا يعلم ؟ فالجواب: إن من قال إنهم كانوا على ظن وتوهم، فوجه الكلام على قوله واضح. ومن قال: إنهم كانوا يعلمون ذلك، وإنما كانوا يجحدونه، فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترض على ما يعلم أن الله أخبر به، فما ينفعه
[ 412 ]
ذلك مع إقراره بأن الله أعلم منه، وأنه لا يخفى عليه شئ، لأن ما دل على أنه أعلم هو الدال على أنه لا يخفى عليه شئ، وهو أنه عالم لذاته، يعلم جميع المعلومات. وقوله: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) فيه أقوال أحدها: إن (من) في قوله (من الله) لابتداء الغاية، وهو متصل بالشهادة لا بالكتمان. ومعناه وما أحد أظلم ممن يكون عنده شهادة من الله فيكتمها، والمراد بهذه الشهادة أن الله تعالى بين في كتابهم صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة به، عن الحسن وقتادة. وقيل: المراد بها أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كانوا حنفاء مسلمين، فكتموا هذه الشهادة، وادعوا أنهم كانوا على دينهم عن مجاهد. فهذه شهادة من الله عندهم كتموها والثاني: إن من متصل بالكتمان أي: من أظلم ممن كتم ما في التوراة من الله أي: من عبادة الله، أو كتم شهادة أن يؤديها إلى الله والثالث: إن المراد من أظلم في كتمان الشهادة من الله لو كتمها، وذلك نحو قولهم: من أظلم ممن يجور على الفقير الضعيف من السلطان الغني القوي. والمعنى أنه يلزمكم أنه لا أحد أظلم من الله إذا كتم شهادة عنده ليوقع عباده في الضلال، وهو الغني عن ذلك، المتعالي أي: لو كانوا هودا أو نصارى، لأخبر بذلك. وهذا المعنى قول البلخي، وأبي مسلم. وقوله: (وما الله بغافل عما تعملون) أوعدهم سبحانه بما يجمع كل وعيد أي: ليس الله بساه عن كتمان الشهادة التي لزمكم القيام بها لله. وقيل: هو على عمومه أي: لا يخفى على الله شئ من المعلومات، فكونوا على حذر من الجزاء على أعمالكم بما تستحقونه من العقاب. (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (141)). قد مضى تفسير هذه الآية. وقيل في وجه تكراره: إنه عنى بالأول: إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء عليهم السلام، وبالثاني: أسلاف اليهود. وقيل: إنه إذا اختلفت الأوقات والمواطن لم يكن التكرير معيبا. ووجه اتصال الآية بما قبلها أنه يقول: إذا سلم لكم ما ادعيتم من أن الأنبياء كانوا على دين اليهودية أو النصرانية، فليس لكم فيه حجة، لأنه لا يمتنع اختلاف الشرائع بالمصالح، فلله سبحانه أن ينسخ من الشرائع ما شاء، ويقر منها ما شاء على حسب ما تقتضيه الحكمة. وقيل: إن ذلك ورد مورد
[ 413 ]
الوعظ لهم والزجر، حتى لا يتكلموا على فضل الآباء والأجداد، فإن ذلك لا ينفعهم إذا خالفوا أمر الله. (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم (142)). اللغة: السفيه والجاهل والغبي نظائر. وقد ذكرنا معنى السفه والسفيه فيما مضى. وولاه عنه أي صرفه وفتله. واشتقاقه من الولي وهو القرب، وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل. فالثاني يلي الأول، والثالث يلي الثاني، ثم هكذا أبدا. وولى عنه: خلاف ولى إليه، مثل قولك: عدل عنه، وعدل إليه، وانصرف عنه، وانصرف إليه. فإذا كان الذي يليه متوجها إليه، فهو متول إليه. وإذا كان متوجها إلى خلاف جهته، فهو متول عنه. والقبلة: مثل الجلسة للحال التي يقابل الشئ غيره عليها، كما أن الجلسة للحال التي يجلس عليها. وكان يقال فيما حكي: هو لي قبلة، وأنا له قبلة. ثم صار علما على الجهة التي تستقبل في الصلاة. الاعراب: (من الناس): في محل النصب حال من (السفهاء). و (ما): استفهام، وهو مبتدأ. و (ولاهم): خبره. و (عن قبلتهم): مفعول ولى. المعنى: ثم ذكر سبحانه الذين عابوا المسلمين بالإنصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة، فقال: (سيقول السفهاء من الناس) أي: سوف يقول الجهال، وهم الكفار الذين هم بعض الناس (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) أي: أي شئ حولهم وصرفهم، يعني المسلمين، عن بيت المقدس الذي كانوا يتوجهون إليها (1) في صلاتهم. اختلف في الذين قالوا ذلك، فقال ابن عباس وغيره: هم اليهود. وقال الحسن: هم مشركو العرب، وإن رسول الله لما حول إلى الكعبة من بيت المقدس، قالوا: يا محمد ! رغبت عن قبلة آبائك ثم رجعت إليها، فلترجعن إلى دينهم. وقال (1) كذا في النسخ. والأنسب إليه لرجوع الضمير إلى بيت المقدس. (*)
[ 414 ]
السدي: هم المنافقون، قالوا ذلك استهزاء بالإسلام. واختلف في سبب مقالتهم ذلك، فقيل: إنهم قالوا ذلك على وجه الإنكار للنسخ، عن ابن عباس. وقيل: إنهم قالوا يا محمد ! ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ؟ ارجع إلى قبلتنا نتبعك، ونؤمن بك. أرادوا بذلك فتنته، عن ابن عباس أيضا. وقيل: إنما قاله مشركو العرب ليوهموا أن الحق ما هم عليه. وأما الوجه في الصرف عن القبلة الأولى ففيه قولان أحدهما: إنه لما علم الله تعالى في ذلك من تغير المصلحة والآخر: إنه لما بينه سبحانه بقوله (لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) لأنهم كانوا بمكة، أمروا أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا يتوجهون إلى الكعبة. فلما انتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، كانت اليهود يتوجهون إلى بيت المقدس، فأمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا من أولئك. (قل لله المشرق والمغرب) هو أمر من الله سبحانه لنبيه أن يقول لهؤلاء الذين عابوا انتقالهم من بيت المقدس إلى الكعبة: المشرق والمغرب ملك لله سبحانه، يتصرف فيهما كيف شاء على ما تقتضيه حكمته. وفي هذا إبطال لقول من زعم أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه إليها، لأنها مواطن الأنبياء، وقد شرفها الله وعظمها، فلا وجه للتولية عنها، فرد الله سبحانه عليهم بأن المواطن كلها لله، يشرف منها ما يشاء في كل زمان على ما يعلمه من مصالح العباد. وعن ابن عباس: كانت الصلاة إلى بيت المقدس بعد مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة سبعة عشر شهرا. وعن البراء بن عازب. قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، ثم صرفنا نحو الكعبة. أورده مسلم في الصحيح. وعن انس بن مالك: إنما كان ذلك تسعة أشهر، أو عشرة أشهر. وعن معاذ بن جبل: ثلاثة عشر شهرا. ورواه علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق عليه السلام قال: تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة، صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر قال: ثم وجهه الله إلى الكعبة وذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون له: أنت تابع لنا، تصلي إلى قبلتنا ! فاغتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك غما شديدا، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله تعالى في ذلك أمرا. فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر،
[ 415 ]
كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين، فنزل عليه جبرائيل عليه السلام فأخذ بعضديه، وحوله إلى الكعبة، وأنزل عليه: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) وكان صلى ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ قال الزجاج: إنما أمر بالصلاة إلى بيت المقدس، لأن مكة بيت الله الحرام، كانت العرب آلفة لحجه، فأحب الله أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه، ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. وقوله: (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) أي: يدله ويرشده إلى الدين. وإنما سماه الصراط، لأنه طريق الجنة المؤدي إليها، كما يؤدي الطريق إلى المقصد. وقيل (1): طريق الجنة. (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143)). القراءة: قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم: (لرؤوف) على وزن رعوف. وقرأ أبو جعفر: (لرووف) مثقل غير مهموز. والباقون: (لرؤف) على وزن رعف. الحجة: وجه من قرأ (رؤوف) أن بناء فعول أكثر في كلامهم من فعل، ألا ترى أن باب ضروب وصبور أكثر من باب يقظ وحذر. وقد جاء على هذه الزنة من صفات الله تعالى نحو: غفور وشكور وودود. ولا نعلم فعلا فيها. وقال كعب بن مالك الأنصاري: نطيع نبينا، ونطيع ربا، * هو الرحمن كان بنا رؤوفا ومن قرأ (رؤوفا) قال: إن ذلك الغالب على أهل الحجاز. قال الوليد بن عقبة لمعاوية: (1) [ إلى ]. (*)
[ 416 ]
وشر الطالبين فلا تكنه * لقاتل عمه الرؤف الرحيم وقال جرير: ترى للمسلمين عليك حقا * كفعل الوالد الرؤف الرحيم اللغة: الوسط: العدل. وقيل: الخيار. ومعناهما واحد، لأن العدل خير، والخير عدل. وقيل: أخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه. وقيل: بل أخذ من التوسط بين المقصر والغالي فالحق معه. قال مؤرج: أي وسطا بين الناس وبين أنبيائهم. قال زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم * إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم قال صاحب العين: الوسط من كل شئ أعدله وأفضله. وقيل: الواسط والوسط كما قيل اليابس واليبس. وقيل في صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من أوسط قومه أي: من خيارهم. والعقب: مؤخر القدم، وعقب الإنسان نسله. قال ثعلب: (نرد على أعقابنا) أي: نعقب بالشر بعد الخير، وكذلك رجع على عقبيه. والعقبة: الكرة بعد الركوب والمشي. والتعقيب: الرجوع إلى أمر تريده، ومنه ولم يعقب، وعقب الليل النهار يعقبه. والإضاعة: مصدر أضاع يضيع. وضاع الشئ ضياعا، وضيع الشئ تضييعا. وقال صاحب العين: ضيعة الرجل: حرفته، ويقال: ما ضيعتك أي: حرفتك. ومنه كل رجل وضيعته، وترك عياله بضيعة، ومضيعة. والضيعة والضياع معروف، وأصل الضياع: الهلاك. قال أبو زيد: رأفت بالرجل أرأف به رأفة ورافة، ورؤفت به أرؤف به بمعنى. الاعراب: في الآية ثلاث لامات مختلفات: فاللام في قوله (لتكونوا) لام كي، وتكونوا: في موضع نصب بإضمار أن وتقديره لأن تكونوا، وان تكونوا في موضع جر باللام، لأنها اللام الجارة في الأصل. وفي قوله: (وإن كانت لكبيرة) لام توكيد، وهي لام الإبتداء فصلت بينها وبين إن لئلا يجتمع حرفان متفقان في المعنى، وهي تلزم إن المخففة من الثقيلة. لئلا تلتبس بإن النافية التي هي بمعنى ما في مثل قوله: (إن الكافرون إلا في غرور). وقال الكوفيون: إن في مثل هذا الموضع بمعنى (ما) واللام بمعنى (إلا) تقديره: وما كانت إلا كبيرة. وأنكر البصريون ذلك، لأنه لو كان كذلك لجاز أن
[ 417 ]
يقال: جاء القوم لزيدا، بمعنى إلا زيدا. وأما (1) في قوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) فلام تأكيد نفي، وأصلها لام الإضافة أيضا، وينتصب الفعل بعدها بإضمار أن أيضا، إلا أنه لا يجوز إظهار أن بعدها، لأن التقدير: ما كان الله مضيعا إيمانكم. فلما حمل معناه على التأويل، حمل لفظه أيضا على التأويل، من غير تصريح بإظهار أن. ويجوز إظهار أن بعد لام كي، كما ذكرناه. والكاف في قوله (وكذلك): كاف التشبيه، وهو في موضع النصب بالمصدر، وذلك إشارة إلى الهداية من قوله (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) والتقدير: أنعمنا عليكم بالعدالة،. كما أنعمنا عليكم بالهداية. والعامل في الكاف جعلنا كأنه قيل: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فقد أنعمنا عليكم بذلك، وجعلناكم أمة وسطا، فأنعمنا مثل ذلك الإنعام. إلا أن جعلنا يدل على أنعمنا. و (هدى الله): صلة الذين. والضمير العائد إلى الموصول محذوف، فتقديره على الذين هداهم الله. والجار والمجرور في محل نصب على الإستثناء تقديره: وإن كانت لكبيرة على الكل، إلا على الذين هدى الله. المعنى: ثم بين سبحانه فضل هذه الامة على سائر الامم، فقال سبحانه: (وكذلك جعلنكم أمة وسطا) وقد ذكرنا وجه تعلق الكاف المضاف إلى ذلك بما تقدم. أخبر عز اسمه أنه جعل أمة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدلا وواسطة بين الرسول والناس. ومتى قيل: إذا كان في الأمة من ليس هذه صفته، فكيف وصف جماعتهم بذلك ؟ فالجواب: إن المراد به من كان بتلك الصفة، ولأن كل عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم. وروى بريد بن معاوية العجلي عن الباقر عليه السلام: نحن الامة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه. وفي رواية أخرى قال: إلينا يرجع الغالي، وبنا يلحق المقصر. وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي عليه السلام: إن الله تعالى إيانا عنى بقوله (لتكونوا شهداء على الناس) فرسول الله شاهد علينا، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه، ونحن الذين قال الله تعالى: (كذلك جعلناكم أمة وسطا). (1) [ اللام ]. (*)
[ 418 ]
وقوله: (لتكونوا شهداء على الناس) فيه ثلاثة أقوال أحدها: إن المعنى لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا وفي الآخرة، كما قال: (وجئ بالنبيين والشهداء)، وقال: (ويوم يقوم الأشهاد). وقال ابن زيد: الاشهاد أربعة: الملائكة والانبياء وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجوارح كما قال: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) الآية والثاني: إن المعنى لتكونوا حجة على الناس، فتبينوا لهم الحق والدين، ويكون الرسول عليكم شهيدا، مؤديا للدين إليكم، وسمي الشاهد شاهدا لأنه يبين ولذلك يقال للشهادة بينة. والثالث: إنهم يشهدون للآنبياء على أممهم المكذبين لهم، بأنهم قد بلغوا، وجاز ذلك لإعلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهم بذلك. وقوله: (ويكون الرسول عليكم شهيدا) أي: شاهدا عليكم بما يكون من أعمالكم. وقيل: حجة عليكم. وقيل: شهيدا لكم بأنكم قد صدقتم يوم القيامة فيما تشهدون به، وتكون على بمعنى اللام، كقوله: (وما ذبح على النصب) أي: للنصب. وقوله: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) قيل: معنى (كنت عليها): صرت عليها، وأنت عليها يعني الكعبة. كقوله (كنتم خير أمة) أي: أنتم خير أمة. وقيل: هو الاصح يعني بيت المقدس الذي كانوا يصلون إليها (1) أي: ما صرفناك عن القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، أو ما جعلنا القبلة التي كنت عليها فصرفناك عنها (إلا لنعلم) وحذف لدلالة الكلام عليه. وفي قوله (إلا لنعلم) أقوال أولها: إن معناه ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين، كما يقول الملك: فتحنا بلد كذا، أو فعلنا كذا أي: فتح أولياؤنا. والثاني: إن معناه ليحصل المعلوم موجودا، وتقديره ليعلم أنه موجود، فلا يصح وصفه بأنه عالم بوجود المعلوم قبل وجوده. والثالث: إن معناه لنعاملكم معاملة المختبر الممتحن الذي كأنه لا يعلم، إذ العدل يوجب ذلك من حيث لو عاملهم بما يعلم أنه يكون منهم قبل وقوعه كان ظلما. والرابع: ما قاله علم الهدى المرتضى، قدس الله روحه، وهو: إن قوله (لنعلم) تقتضي حقيقة أن يعلم هو وغيره، ولا يحصل علمه مع علم غيره، إلا بعد حصول الإتباع. فأما قبل حصوله، فيكون القديم سبحانه هو المنفرد بالعلم به، فصح ظاهر الآية. (1) والظاهر (إليه) بتذكير الضمير بدل (إليها) كما تقدم. (*)
[ 419 ]
وقوله: (من يتبع الرسول) أي: يؤمن به، ويتبعه في أقواله وأفعاله. (ممن ينقلب على عقبيه) فيه قولان أحدهما: إن قوما ارتدوا عن الإسلام لما حولت القبلة جهلا منهم بما فيه من وجوه الحكمة. والآخر: إن المراد به كل مقيم على كفره، لأن جهة الإستقامة إقبال، وخلافها إدبار، ولذلك وصف الكافر بأنه أدبر واستكبر، وأنه كذب وتولى أي: عن الحق. وقوله (وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) الضمير في (كانت) يعود إلى القبلة على قول أبي العالية، أي: وقد كانت القبلة كبيرة. وقيل: الضمير يرجع إلى التحويلة ومفارقة القبلة الاولى، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وهو الاقوى، لأن القوم إنما ثقل عليهم التحول لا نفس القبلة. وقيل: الضمير يرجع إلى الصلاة، عن ابن زيد. وقوله (لكبيرة): قال الحسن: معناه ثقيلة يعني التحويلة إلى بيت المقدس، لأن العرب لم تكن قبلة أحب إليهم من الكعبة. وقيل: معناه عظيمة على من لا يعرف ما فيها من وجه الحكمة. فأما الذين هداهم الله لذلك، فلا تعظم عليهم، وهم الذين صدقوا الرسول في التحول إلى الكعبة، وإنما خص المؤمنين بأنه هداهم وإن كان قد هدى جميع الخلق، لأنه ذكرهم على طريق المدح، ولأنهم الذين انتفعوا بهدى الله، وغيرهم كأنه لم يتعد بهم. وقوله (وما كان الله ليضيع إيمانكم) قيل فيه أقوال أحدها: إنه لما حولت القبلة قال ناس: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله (وما كان الله ليضيع إيمانكم) عن ابن عباس وقتادة. وقيل: إنهم قالوا: كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ؟ وكان قد مات أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وكانا من النقباء. فقال: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس. ويمكن على هذا أن يحمل الإيمان على أصله في التصديق أي: لا يضيع تصديقكم بأمر تلك القبلة. وثانيها: إنه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة، تبعه بذكر ما لهم عنده بذلك من المثوبة، وأنه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه، لأن التذكير به يبعث على ملازمة الحق، والرضا به، عن الحسن وثالثها: إنه لما ذكر إنعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة، ذكر السبب الذي استحقوا به ذلك الإنعام، وهو إيمانهم بما حملوه أولا، فقال: وما كان الله ليضيع إيمانكم الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة، عن أبي القاسم البلخي.
[ 420 ]
وقوله: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) رؤوف بهم لا يضيع عنده عمل عامل منهم. والرأفة أشد الرحمة. دل سبحانه بالرأفة والرحمة على أنه يوفر عليهم ما استحقوه من الثواب، من غير تضييع لشئ منه. وقيل: إنه سبحانه دل بقوله رؤوف رحيم، على أنه منعم على الناس بتحويل القبلة. واستدل كثير من العلماء بهذه الآية على أن إجماع الامة حجة من حيث إنه وصفهم بأنهم عدول، فإذا عدلهم الله تعالى، لم يجز أن تكون شهادتهم مردودة والصحيح أنها لا تدل على ذلك، لأن ظاهر الآية ان يكون كل واحد من الامة بهذه الصفة، ومعلوم خلاف ذلك. ومتى حملوا الآية على بعض الأمة، لم يكونوا بأولى ممن يحملها على المعصومين والأئمة من آل الرسول عليهم السلام. وفي هذه الآية دلالة على جواز النسخ في الشريعة، بل على وقوعه، لأنه قال: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) فأخبر أنه تعالى هو الجاعل لتلك القبلة، وأنه هو الذي نقله عنها، وذلك هو النسخ. (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144)). اللغة: الرؤية: هي إدراك الشئ بالبصر، ونظيره الإبصار. ثم تستعمل بمعنى العلم. والتقلب والتحول والتصرف نظائر: وهو التحرك في الجهات، ويقال: وليتك القبلة أي: صيرتك تستقبلها بوجهك، وليس هذا المعنى في فعلت منه، لأنك تقول: وليت الدار، فلا يكون فيه دلالة على أنك واجهتها، ففعلت في هذه الكلمة ليس بمنقول من فعلت الذي هو وليت. وقد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة والمواجهة في نحو قوله: (ويولون الدبر)، وقوله: (ويولوكم الأدبار) فهذا منقول من قولهم داري تلي داره، تقول: وليت ميامنه، وولاني ميامنه، مثل فرح وفرحته. والرضا والمحبة نظيران، وإنما يظهر الفرق بضديهما. فالمحبة: ضدها البغض. والرضا:
[ 421 ]
ضده السخط. وهو يرجع إلى الإرادة. فإذا قيل: رضي عنه، فكأنه أراد تعظيمه وثوابه. وإذا قيل: رضي عمله، فكأنه أراد ذلك. والسخط: إرادة الإنتقام. وشطر المسجد الحرام: أي: نحوه وتلقاءه. قال الشاعر: وقد أظلكم من شطر ثغركم * هول له ظلم يغشاكم قطعا أي: من نحو ثغركم. وقال: إن العسير بها داء يخامرها * فشطرها نظر العينين محسور (1) أي: نحوها. قال الزجاج: يقال هؤلاء القوم مشاطرونا أي: دورهم تتصل بدورنا، كما يقال هؤلاء يناحوننا أي: نحن نحوهم، وهم نحونا. وقال صاحب العين: شطر كل شئ نصفه، وشطره نحوه وقصده. ومنه المثل: " أحلب حلبا لك شطره " أي: نصفه. وشطرت الشئ أي: جعلته. والحرام: المحرم، كما أن الكتاب بمعنى المكتوب. والحساب بمعنى المحسوب. والحق: وضع الشئ في موضعه، إذا لم يكن فيه وجه من وجوه القبح. والغفلة: هي السهو عن بعض الأشياء خاصة، وإذا كان السهو عاما فهو فوق الغفلة، لأن النائم لا يقال له غفل إلا مجازا. الاعراب: (حيث ما كنتم): موضع (كنتم) جزم بالشرط، وتقديره وحيثما تكونوا. والفاء (2) وما بعده في موضع الجزاء، ولا يجازى بحيث وإذ، حتى يكف كل واحد منهما بما، وذلك لأنهما لا يكونان إلا مضافين إلى ما بعدهما من الجملة، قبل المجازاة بهما فألزما في المجازاة (ما) لتكفهما عن الإضافة، لأن الإضافة تمنع الجزاء بهما، وذلك لأن الفعل إذا وقع في موضع اسم، ارتفع المضاف إليه في موضع اسم مجرور، وموضعه جر بالإضافة، فيمتنع جزمه بالجزاء، مع وجود شرط الرفع فيه. فلما كان كذلك، كفا بما لتهيئهما لجزم فعل الشرط بالجزاء. و (شطر): منصوب على الظرف. النزول: قال المفسرون: كانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول (1) العسير: الناقة يصعب ركوبها أول رياضتها. وفي النسخ التي عندنا: (العشير) بالشين المعجمة بدل المهملة وله معان: منها القبيلة، ومنها المرأة. حسر بصره أي: كل وأنقطع. يخامرها: يمتزج بها. (2) [ فولوا: جملة في محل الرفع، لوقوعها موقع الفعل المضارع بعد الفاء. والفاء مع ما بعده في محل الجزم، لأنه جواب الشرط ]. (*)
[ 422 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لجبريل: وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرهما. فقال له جبريل عليه السلام: إنما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربك، فادع ربك وسله. ثم ارتفع جبريل، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ربه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فقال: المعنى: (قد نرى تقلب وجهك) يا محمد (في السماء) لانتظار الوحي في أمر القبلة. وقيل في سبب تقليب النبي وجهه في السماء قولان (1) أحدهما: إنه كان وعد بتحويل القبلة عن بيت المقدس، فكان يفعل ذلك انتظارا وتوقعا للموعود، كما أن من انتظر شيئا فإنه يجعل بصره إلى الجهة التي يتوقع وروده منها والثاني: إنه كان يكره قبلة بيت المقدس، ويهوى قبلة الكعبة، وكان لا يسأل الله تعالى ذلك، لأنه لا يجوز للأنبياء أن يسألوا الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه، لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة، فلا يجابون إلى ذلك، فيكون فتنة لقومهم. واختلف في سبب إرادته تحويل القبلة إلى الكعبة، فقيل: لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وقبلة آبائه، عن ابن عباس. وقيل: لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد في ديننا، ويتبع قبلتنا، عن مجاهد. وقيل: إن اليهود قالوا: مادرى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم، عن ابن زيد. وقيل: كانت العرب يحبون الكعبة، ويعظمونها غاية التعظيم، فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم، ليكونوا أحرص على الصلاة إليها. وكان صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على استدعائهم إلى الدين. ويحتمل أن يكون إنما أحب ذلك لجميع هذه الوجوه.، إذ لا تنافي بينها. وقوله (فلنولينك قبلة ترضاها) أي: فلنصرفنك إلى قبلة تريدها وتحبها. وإنما أراد به محبة الطباع، لا أنه كان يسخط القبلة الاولى. (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي: حول نفسك نحو المسجد الحرام، لأن وجه الشئ نفسه. وقيل: إنما ذكر الوجه لأن به يظهر التوجه. وقال أبو علي الجبائي: أراد بالشطر النصف، فأمره الله تعالى بالتوجه إلى نصف المسجد الحرام، حتى يكون مقابل الكعبة. وهذا خطأ لأنه خلاف أقوال المفسرين. (1) وفي النسخ ألتي عندنا: " وجهان " بدل " قولان ". (*)
[ 423 ]
(وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) أي: أينما كنتم من الأرض، في بر أو بحر، أو سهل أو جبل، فولوا وجوهكم نحوه. فالاول: خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل المدينة والثاني: خطاب لجميع أهل الآفاق. ولو اقتصر على الاول لجاز أن يظن أن ذلك قبلتهم حسب، فبين سبحانه أنه قبلة لجميع المصلين في مشارق الأرض ومغاربها. وذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتابه عن ابن عباس أنه قال: البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب، والبيت قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل الأرض كلها. وهذا موافق لما قاله أصحابنا إن الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق. وقوله: (وإن الذين أوتوا الكتاب) أراد به علماء اليهود. وقيل: علماء اليهود والنصارى (ليعلمون انه الحق من ربهم) أي: يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم. وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم، أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا، وكان في صفاته أنه يصلي إلى القبلتين. وروي أنهم قالوا عند التحويل: ما أمرت بهذا يا محمد، وإنما هو شئ تبتدعه من تلقاء نفسك، مرة إلى هنا، ومرة إلى هنا ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وبين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون (وما الله بغافل عما يعملون) أي: ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعاندة. ودل هذا على أن المراد بالآية قوم معدودون، يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب، وعلى أن يظهروا خلاف ما يبطنون. فأما الجمع العظيم فلا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، ولا يتأتى فيهم كلهم أن يظهروا خلاف ما يعلمون. وهذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس. وقال ابن عباس: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة. وقال قتادة: نسخت هذه الآية ما قبلها. وقال جعفر بن مبشر: هذا مما نسخ من السنة بالقرآن وهذا هو الاقوى، لأنه ليس في القرآن ما يدل على التعبد بالتوجه إلى بيت المقدس. ومن قال إنها نسخت قوله (فأينما تولوا فثم وجه الله) فإن هذه الآية عندنا مخصوصة بالنوافل في حال السفر، روي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، وليست بمنسوخة. واختلف الناس في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس فقال قوم: كان عليه السلام يصلي بمكة إلى الكعبة. فلما هاجر إلى المدينة، أمره الله تعالى أن يصلي إلى بيت
[ 424 ]
المقدس، ثم أعيد إلى الكعبة. وقال قوم: كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس، إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها، ولا يصلي في غير المكان الذي يمكن هذا فيه. وقال قوم: بل كان يصلي بمكة، وبعد قدومه المدينة إلى بيت المقدس، ولم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه وبينها، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة. (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل ءاية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين (145)). الاعراب: اختلف النحويون في أن (لئن) لم أجيبت بجواب لو، فقال الأخفش: اجيبت بجواب لو لأن الماضي وليها كما يلي لو، فدخلت كل واحدة منهما على صاحبتها. قال سبحانه: (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا)، فجرى (لئن) مجرى (لو). وقال: (ولو أنهم آمنوا واتقوا)، ثم قال: (لمثوبة). فجرى مجرى لئن. وقال سيبويه وأصحابه: إن معنى لظلوا ليظلن، فمعنى لئن غير معنى لو، وكل واحدة منهما على حقيقتها، وحقيقة معنى لو أنها يمتنع بها الشئ لامتناع غيره، كقولك لو أتيتني لاكرمتك، فامتنع الإكرام لامتناع الإتيان. ومعنى إن أن يقع بها الشئ لوقوع غيره. تقول: إن تأتني اكرمك. فالإكرام يقع بوقوع الإتيان ولو لما مضى. وإن لما يستقبل، وإنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة أللام على معنى القسم. فمجئ جواب القسم أغنى عن جواب الشرط، لدلالته عليه. وكذلك قوله (إنك إذا لمن الظالمين) ليس بجواب للشرط على الحقيقة، ولكنه جواب القسم. وقد أغنى عن الجزاء بدلالته عليه، وإنما يجاب الشرط بالفعل أو بالفاء أو بإذا على ما هو مشروح في مواضعه. المعنى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب) في الكلام معنى القسم أي: والله لئن أتيت الذين أعطوا الكتاب، يعني أهل العناد من علماء اليهود والنصاري، عن الزجاج والبلخي. وقيل: المعني به جميع أهل الكتاب، عن الحسن وأبي علي (بكل آية) أي: بكل حجة ودلالة (ما تبعوا قبلتك) أي: لا يجتمعون على اتباع قبلتك على القول الثاني، وعلى القول الأول لا يؤمن
[ 425 ]
منهم أحد لأن المعاند لا تنفعه الدلالة. وإنما تنفع الجاهل الذي لا يعلم. (وما أنت بتابع قبلتهم) في معناه أربعة أقوال أحدها: إنه رفع لتجويز النسخ، وبيان أن هذه القبلة لا تنسخ وثانيها: إنه على وجه المقابلة لقوله (ما تبعوا قبلتك) كما يقال ما هم بتاركي إنكار الحق، وما أنت بتارك الإعتراف به، فيكون الذي جر الكلام الثاني هو التقابل للكلام الأول. وثالثها: إن المراد ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم، لاختلاف وجهتهم لأن النصارى تتوجه إلى جهة المشرق، الموضع الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، واليهود إلى بيت المقدس. فبين الله سبحانه أن إرضاء الفريقين محال ورابعها: إن المراد حسم أطماع أهل الكتاب من اليهود، إذ كانوا طمعوا في ذلك، وظنوا أنه يرجع إلى الصلاة إلى بيت المقدس. وقوله (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) في معناه قولان أحدهما: إنه لا تصير النصارى كلهم يهودا، أو تصير اليهود كلهم نصارى أبدا، كما لا يتبع جميعهم الإسلام. وهذا من الإخبار بالغيب قاله الحسن والسدي الآخر: إن معناه إسقاط اعتلالهم بأنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب، فيما ورثوه عن أنبياء الله، وأن بيت المقدس لم يزل كان قبلة الأنبياء، فهو أولى بأن يكون قبلة أي: فكما جاز أن يخالف بين وجهتيهم للاستصلاح، جاز أن يخالف بوجهة ثالثة في زمان آخر للاستصلاح. ويحتمل أيضا أن يجري الكلام على الظاهر، لأنه لم يثبت أن يهوديا تنصر، ولا أن نصرانيا تهود، فلا ضرورة بنا إلى العدول عن الظاهر إلى التأويل، وهذا قول القاضي. وقوله: (ولئن اتبعت أهواءهم) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه أربعة أقوال أولها: إن المراد به غيره من أمته، وإن كان الخطاب له، والمراد الدلالة على أن الوعيد يستحق باتباع أهوائهم، وأن اتباعهم ردة، عن الحسن والزجاج وثانيها: إن المراد إن اتبعت أهواءهم في المداراة لهم، حرصا أن يؤمنوا، إنك إذا لمن الظالمين لنفسك، مع أعلامنا إياك أنهم لا يؤمنون، عن الجبائي وثالثها: إن معناه الدلالة على فساد مذاهبهم، وتبكيتهم (1) بها، وأن من تبعهم كان ظالما ورابعها: إنه على سبيل الزجر عن الركون إليهم ومقاربتهم، تقوية لنفسه، ومتبعي شريعته، ليستمروا على عداوتهم، عن القاضي. (1) التبكيت: الغلبة بالحجة. (*)
[ 426 ]
(من بعد ما جاءك من العلم) أي: من الآيات والوحي الذي هو طريق العلم. وقيل. من بعد ما علمت أن الحق ما أنت عليه من القبلة والدين. (إنك إذا لمن الظالمين) وقد مضى معناه، وهو مثل قوله: (لئن أشركت ليحبطن عملك). وفي هذه الآية دلالة على فساد قول من قال: إنه لا يصح الوعيد بشرط، وإن من علم الله تعالى أنه يؤمن، لا يستحق العقاب أصلا، لأن الله تعالى علق الوعيد بشرط يوجب أنه متى حصل الشرط يحصل استحقاق العقاب. وفيها دلالة على فساد قول من زعم أن في المقدور لطفا، لو فعله الله تعالى بالكافر لآمن لا محالة، لقوله (إن أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك). فعلى قول من قال المراد به المعاند، لا ينفعه شئ من الآيات. وعلى قول من قال المراد به جميع الكفار، فلا لطف لهم أيضا يؤمنون عنده. فعلى الوجهين معا يبطل قولهم. وفيها دلالة أيضا على أن جميع الكفار لا يؤمنون. (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146)). المعنى: أخبر الله سبحانه بأنهم يعرفون النبي عليه السلام وصحة نبوته، فقال: (الذين آتيناهم) أي: أعطيناهم (الكتاب) وهم العلماء منهم (يعرفونه) أي: يعرفون محمدا، وأنه حق (كما يعرفون أبناءهم) قيل: والضمير في يعرفونه يعود إلى العلم من قوله (من العلم) يعني النبوة. وقيل: الضمير يعود إلى أمر القبلة أي: يعرفون ان أمر القبلة حق، عن ابن عباس. فإن قيل: كيف قال يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهم كانوا يعرفون أبناءهم من جهة الحكم، ويعرفون أمر النبي عليه السلام من جهة الحقيقة ؟ قيل: إنه شبه المعرفة بالمعرفة، ولم يشبه طريق المعرفة بطريق المعرفة، وكل واحدة من المعرفتين كالأخرى، وإن اختلف الطريقان. (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) إنما خص الفريق منهم، لأن من أهل الكتاب من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما. (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147)). اللغة: الإمتراء: الإستخراج. وقيل: الاستدرار، قال الأعشى:
[ 427 ]
تدر على أسوق الممترين * وكفا، إذا ما السحاب ارجحن (1) يعني الشاكين في درورها لطول سيرها. وقيل: المستخرجين ما عندها. قال صاحب العين: المري مسحك ضرع الناقة تمريها لتسكن للحلب. والريح تمري السحاب مريا. والمرية من ذلك. والمرية: الشك. ومنه الإمتراء والتماري والمماراة. والمراء: الجدال، وأصل الباب الإستدرار، يقال: " بالشكر تمترى النعم " أي: تستدر. الاعراب: (الحق): مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره ذلك الحق، أو هو الحق، ومثله مررت برجل كريم زيد أي: هو زيد. ولو نصب لجاز في العربية على تقدير إعلم الحق من ربك، أو إقرأ الحق. والنون في (لا تكونن): نون التأكيد، يؤكد بها الأمر والنهي، ولا يؤكد بها الخبر، لما كان يدل على كون المخبر به، وليس كذلك الأمر والنهي والإستخبار فألزم الخبر التأكيد بالقسم، وجوابه، واختصت هذه الأشياء بنون التأكيد، ليدل على اختلاف المعنى في المؤكد. ولما كان الخبر أصل الجمل، أكد بأبلغ التأكيد، وهو القسم. المعنى: هو (الحق من ربك) وهو ما آتاه الله من الوحي والكتاب والشرائع. (فلا تكونن من الممترين) من الشاكين في الحق الذي تقدم إخبار الله تعالى به، وفي عناد من كتم النبوة وامتناعهم من الإجتماع على ما قامت به الحجة. وقيل: من الممترين في شئ يلزمك العلم به. وهذا أولى لأنه أعم. والخطاب وإن كان متوجها إلى النبي عليه السلام فالمراد به الأمة، كقوله عز اسمه: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) وأمثاله. وقيل: الخطاب له لأنه يجوز عليه ذلك لملازمته (2) أمر الله سبحانه، ولو لم يكن هناك أمر، لم تصح الملازمة. وفي هذا دلالة على جواز ثبوت القدرة على خلاف المعلوم، خلافا لقول المجبرة. (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير (148)). (1) ناقة وكوف أي: غزيرة. (2) أي: ملازمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمر الله. (*)
[ 428 ]
القراءة: قرأ ابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم: (هو مولاها) وروي ذلك عن ابن عباس ومحمد بن علي الباقر. والباقون: (هو موليها). الحجة: من قرأ (هو موليها): فالضمير الذي هو هو لله تعالى، والتقدير الله موليها إياه. حذف المفعول الثاني لجري ذكره المظهر، وهو كل في قوله (ولكل وجهة) وهو مبتدأ، وموليها خبره، والجملة التي هي (هو موليها) في موضع رفع لكونها وصفا لوجهة من قرأ (هو مولاها) فالضمير الذي هو هو لكل. وقد جرى ذكره، وقد استوفى الإسم الجاري على الفعل المبني للمفعول مفعوليه اللذين يقتضيهما أحدهما: الضمير المرفوع من مولى، والآخر: ضمير المؤنث. ويجوز أن يكون الضمير الذي هو هو في قوله (هو موليها) عائدا إلى كل، والتقدير لكل وجهة هو موليها وجهه أي: كل أهل وجهة هم الذين ولوا وجوههم إلى تلك الجهة. اللغة: اختلف أهل العربية في (وجهة) فبعضهم يذهب إلى أنه مصدر شذ عن القياس فجاء مصححا. ومنهم من يقول: هو اسم ليس بمصدر جاء على أصله، وإنه لو كان مصدرا جاء مصححا للزم أن يجئ فعله أيضا مصححا. ألا ترى أن هذا المصدر إنما اعتل على الفعل، حيث كان عاملا عمله، وكان على حركاته وسكونه ؟ فلو صح لصح الفعل لأن هذه الأفعال المعتلة، إذا صحت في موضع، تبعها باقي ذلك. فوجهة اسم للتوجه والجهة المصدر. قالوا: وجه الحجر جهة ماله يريدون هنا المصدر. وما زائدة، وله في موضع الصفة للنكرة. والإستباق والإبتدار والإسراع نظائر. وله في هذا الأمر سبقة وسابقة وسبق أي: سبق الناس إليه. المعنى: هذا بيان لأمر القبلة أيضا. وقوله (ولكل وجهة) فيه أقوال أحدها: إن معناه لكل أهل ملة من اليهود والنصارى قبلة، عن مجاهد وأكثر المفسرين وثانيها: إن لكل نبي، وصاحب ملة، وجهة أي طريقة، وهي الإسلام، وإن اختلفت الأحكام كقوله تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) يعني شرائع الأنبياء عن الحسن وثالثها: إن لكل من المسلمين وأهل الكتاب قبلة يعني صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة، عن قتادة. ورابعها: إن لكل قوم من المسلمين وجهة من كان منهم وراء الكعبة، أو
[ 429 ]
قدامها أو عن يمينها أو عن شمالها وهو اختيار الجبائي. (هو موليها) أي: الله موليها إياهم. ومعنى توليته لهم إياها أنه أمرهم بالتوجه نحوها في صلاتهم إليها، ويدل على ذلك قوله (فلنولينك قبلة ترضاها). وقيل: معناه لكل مولي الوجهة وجهه أو نفسه إلا أنه استغني عن ذكر النفس والوجه وكل وإن كان مجموع المعنى، فهو موحد اللفظ، فجاء البناء على لفظه، فلذلك قال (هو) في الكناية عنه، وإن كان المراد به الجمع. والمعنى كل جماعة منهم يولونها وجوههم ويستقبلونها. وقوله: (فاستبقوا الخيرات) معناه: سارعوا إلى الخيرات، عن الربيع. والخيرات: هي الطاعات لله تعالى. وقيل: معناه بادروا إلى القبول من الله عز وجل فيما يأمركم به، مبادرة من يطلب السبق إليه، عن الزجاج. وقيل: معناه تنافسوا فيما رغبتم فيه من الخير، فلكل عندي ثوابه، عن ابن عباس. وقوله: (أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا) أي: حيثما متم من بلاد الله سبحانه، يأت بكم الله إلى المحشر يوم القيامة. وروي في أخبار أهل البيت عليهم السلام أن المراد به أصحاب المهدي في آخر الزمان. قال الرضا عليه السلام: وذلك والله لو قام قائمنا يجمع الله إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان. (إن الله على كل شئ قدير) أي: هو قادر على جمعكم وحشركم، وعلى كل شئ. (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149)). المعنى: (ومن حيث خرجت) من البلاد (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي: فاستقبل بوجهك تلقاء المسجد الحرام. وقيل في تكراره وجوه أحدها إنه لما كان فرضا، نسخ ما قبله، كان من مواضع التأكيد والتبيين، لينصرف الخلق إلى الحال الثانية من الحال الاولى على يقين وثانيها: إنه مقدم لما يأتي بعده، ويتصل به، فأشبه الإسم الذي تكرر، ليخبر عنه بأخبار كثيرة، كما يقال: زيد كريم، زيد عالم، زيد فاضل، وما أشبه ذلك مما يذكر، لتعلق الفائدة به. وثالثها: إنه في الأول بيان لحال الى الحضر، وفي الثاني بيان لحال السفر. وقوله: (وإنه للحق من ربك) معناه: وإن التوجه إلى الكعبة
[ 430 ]
الحق المأمور به من ربك. ويحتمل أن يراد بالحق الثابت الذي لا يزول بنسخ، كما يوصف القديم سبحانه بأنه الحق الثابت الذي لا يزول. (وما الله بغافل عما تعملون) معناه هنا التهديد، كما يقول الملك لعبيده: ليس يخفى علي ما أنتم عليه فيه. ومثله قوله (إن ربك لبالمرصاد). (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150)). الاعراب: (لئلا يكون): هو لأن لا كتبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها، وترك نافع همزها تخفيفا، وأدغمت النون في اللام. وموضع اللام من (لئلا) نصب. والعامل فيه (فولوا). وقال الزجاج: العامل فيه ما دخل الكلام من معنى عرفتكم ذلك لئلا يكون. وكذلك قوله (ولاتم نعمتي) اللام تتعلق بقوله فولوا، وتقديره لأن أتم. وقوله: (إلا الذين ظلموا) فيه أقوال أحدها إنه استثناء منقطع كقوله (ما لهم من علم إلا اتباع الظن) ويقال: ماله علي حق إلا التعدي والظلم، يعني لكنه يتعدى ويظلم. وقال النابغة: ولا عيب فيهم، غير أن سيوفهم، * بهن فلول من قراع الكتائب (1) وكأنه يقول: إن كان فيهم عيب فهذا، وليس هذا بعيب، فإذا ليس فيهم عيب. وهكذا في الآية إن كان على المؤمنين حجة، فللظالم في احتجاجه، وليس للظالم حجة، فإذا ليس عليهم حجة والثاني: أن تكون الحجة بمعنى المحاجة، فكأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجاج، إلا الذين ظلموا، فإنهم يحاجونكم بالباطل. فعلى هذا يكون الإستثناء متصلا. والثالث: ما قاله أبو عبيدة: إن (لا) ها هنا بمعنى الواو أي: ولا الذين ظلموا. وأنكر عليه الفراء والمبرد. قال الفراء: الا لا يأتي بمعنى الواو من غير أن يتقدمه استثناء، كما قال الشاعر: ما بالمدينة دار غير واحدة * دار الخليفة، إلا دار مروانا أي دار الخليفة، ودار مروان. وأنشد الأخفش: (1) الفلول جمع الفل: وهو الكسر في حد السيف. القراع: الضرب. (*)
[ 431 ]
وأرى لها دارا بأغدرة الس‍ * - يدان، لم يدرس لها رسم (1) إلا رمادا هامدا، دفعت * عنه الرياح، خوالد سحم أي: أرى لها دارا ورمادا. وقال المبرد: لا يجوز أن يكون إلا بمعنى الواو أصلا. والرابع: إن فيه إضمار على وتقديره إلا على الذين ظلموا منهم، فكأنه قال: لئلا يكون عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فإنه يكون الحجة عليهم وهم الكفار، عن قطرب، وهو اختيار الأزهري. قال علي بن عيسى: وهذان الوجهان بعيدان، والإختيار القول الاول. المعنى: قد مضى الكلام في معنى أول الآية. وقيل في تكراره وجوه أحدها: إنه لاختلاف المعنى، وإن اتفق اللفظ، لأن المراد بالأول (ومن حيث خرجت) منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس (فول وجهك شطر المسجد الحرام). والمراد بالثاني: أين ما كنت من البلاد، فتوجه نحوه من كل جهات الكعبة وسائر الاقطار وثانيها: إنه من مواضع التأكيد لما جرى من النسخ ليثبت في القلوب وثالثها: إنه لاختلاف المواطن والاوقات التي تحتاج إلى هذا المعنى فيها. وقوله (لئلا يكون للناس عليكم حجة) قيل فيه وجوه أولها: إن معناه لأن لا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة، إذا لم تصلوا نحو المسجد الحرام، بأن يقولوا: ليس هذا هو النبي المبشر به إذ ذاك نبي يصلي بالقبلتين وثانيها: إن معناه لا تعدلوا عما أمركم الله به من التوجه إلى الكعبة، فتكون لهم عليكم حجة، بأن يقولوا: لو كنتم تعلمون أنه من عند الله، لما عدلتم عنه، عن الجبائي وثالثها: ما قاله أبو روق: إن حجة اليهود أنهم كانوا قد عرفوا أن النبي المبعوث في آخر الزمان قبلته الكعبة. فلما رأوا محمدا يصلي إلى الصخرة، احتجوا بذلك، فصرفت قبلته إلى الكعبة، لئلا يكون لهم عليه حجة. (إلا الذين ظلموا منهم) يريد الا الظالمين الذين يكتمون ما عرفوا من أنه يحول إلى الكعبة. وعلى هذا يكون الإستثناء متصلا. وقد مضى ذكر ما قيل فيه من الأقوال في الإعراب. وإنما اختلف العلماء في وجه الإستثناء لأن الظالم لا يكون له حجة، (1) أغدره السيدان: موضع. الهامد: الساكن. (*)
[ 432 ]
لكنه يورد ما هو في اعتقاده حجة، وإن كانت باطلة، كما قال سبحانه حجتهم داحضة. وقيل: المراد بالذين ظلموا قريش واليهود، فأما قريش فقالوا: قد علم أننا على هدى، فرجع إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا. وأما اليهود فقالوا: لم ينصرف عن قبلتنا عن علم، وإنما فعله برأيه وزعم أنه قد أمر به. وقيل: المراد بالذين ظلموا العموم، يعني ظلموكم بالمقاتلة، وقلة الإستماع. وقوله: (فلا تخشوهم واخشوني) لما ذكرهم بالظلم والخصومة والمحاجة، طيب نفوس المؤمنين، فقال: لا تخافوهم، ولا تلتفتوا إلى ما يكون منهم، فإن عاقبة السوء عليهم، ولا حجة لأحد منهم عليكم ولا يد. وقيل: لا تخشوهم في استقبال الكعبة، واخشوا عقابي في ترك استقبالها، فإني أحفظكم من كيدهم. وقوله (ولأتم نعمتي عليكم) عطف على قوله لئلا، وتقديره لئلا يكون لأحد عليكم حجة، ولأتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام. بين سبحانه أنه حول القبلة لهذين الغرضين زوال القالة وتمام النعمة. وروي عن ابن عباس أنه قال: ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فأنصركم على أعدائكم، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم. وأما في الآخرة فجنتي ورحمتي. وروي عن علي عليه السلام قال: النعم ستة: الإسلام والقرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم والستر والعافية والغنى عما في أيدي الناس. (ولعلكم تهتدون) أي: لكي تهتدوا، ولعل من الله واجب، عن الحسن وجماعة. وقيل: لتهتدوا إلى ثوابها. وقيل: إلى التمسك بها. (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151)). اللغة: الإرسال: التوجيه بالرسالة والتحميل لها ليؤدي إلى من قصد. والتلاوة: ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام متسق، وأصله من الإتباع، ومنه تلاه أي: تبعه. والتزكية: النسبة إلى الإزدياد من الافعال الحسنة التي ليست بمشوبة. ويقال أيضا على معنى التعويض لذلك بالإستدعاء إليه واللطف فيه يقال: زكى فلان فلانا: إذا أطراه ومدحه. وزكاه: حمله على ما له فيه الزكاء والنماء والطهارة والقدس. والحكمة: هي العلم الذي يمكن به الافعال المستقيمة.
[ 433 ]
الاعراب: ما في قوله (كما أرسلنا) مصدرية، فكأنه قال كإرسالنا فيكم، ويحتمل أن تكون كافة، كما قال الشاعر: أعلاقة أم الوليد بعد ما * أفنان رأسك كالثغام المخلس (1) فإنه يجوز كما زيد محسن إليك فأحسن إلى أسبابه (2). والعامل في الكاف من قوله (كما) يجوز أن يكون الفعل الذي قبله، وهو قوله (ولأتم نعمتي عليكم) فعلى هذا لا يوقف عند قوله (ولعلكم تهتدون) ويكون الوقف عند قوله: (ما لم تكونوا تعلمون). ويجوز أن يكون الفعل الذي بعده، وهو قوله (فاذكروني أذكركم) وعلى هذا يوقف عند قوله (تهتدون). ويبتدأ بقوله (كما أرسلنا) ولا يوقف عند قوله (تعلمون). والأول: أحد قولي الزجاج، واختيار الجبائي. والثاني: قول مجاهد والحسن، وأحد قولي الزجاج. وقوله (منكم) في موضع نصب، لأنه صفة لقوله (رسولا) وكذلك قوله (يتلو) وما بعده في موضع الصفة. المعنى: قوله (كما أرسلنا فيكم) التشبيه فيه على القول الاول معناه. إن النعمة في أمر القبلة، كالنعمة بالرسالة، لأن الله تعالى لطف لعباده بها على ما يعلم من المصلحة ومحمود العاقبة. وأما على القول الثاني فمعناه: إن في بعثة الرسول منكم إليكم نعمة عليكم لأنه يحصل لكم به عز الرسالة، فكما أنعمت عليكم بهذه النعمة العظيمة، فاذكروني واشكروا لي واعبدوني أنعم عليكم بالجزاء والثواب. والخطاب للعرب على قول جميع المفسرين. وقوله: (رسولا) يعني محمد صلى الله عليه وآله وسلم (منكم) بالنسب لأنه من العرب، ووجه النعمة عليهم بكونه من العرب، ما حصل لهم به من الشرف والذكر، وإن العرب لم تكن لتتبع رسولا يبعث إليهم من غيرهم، مع نخوتهم وعزتهم في نفوسهم، فكون الرسول منهم يكون أدعى لهم إلى الإيمان به واتباعه. وقوله (يتلوا عليكم آياتنا) أراد بها القرآن (ويزكيكم) ويعرضكم لما تكونون به أزكياء من الأمر بطاعة الله، واتباع مرضاته. ويحتمل أن يكون معناه ينسبكم إلى أنكم أزكياء بشهادته لكم بذلك ليعرفكم الناس به. (ويعلمكم الكتاب والحكمة) الكتاب القرآن، والحكمة هي القرآن (1) الأفنان: جمع الفنن، وهو الغصن المستقيم. الثغام: نبت أبيض يبيض إذا يبس. ويشبه به الشيب. أخلس النبات: اختلط رطبه ويابسه. (2) كذا في النسخ، لكن في المحكي عن (التبيان): (أبنائه) بدل (أسبابه) وهو الظاهر. (*)
[ 434 ]
أيضا، جمع بين الصفتين لاختلاف فائدتهما، كما يقال الله العالم بالأمور كلها، القادر عليها. وقيل: أراد بالكتاب القرآن، وبالحكمة الوحي من السنة، وما لا يعلم إلا من جهته من الأحكام. وقوله: (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) أي: ما لا سبيل لكم إلى علمه إلا من جهة السمع، فذكرهم الله بالنعمة فيه، ويكون التعليم لما عليه دليل من جهة العقل، تابعا للنعمة فيه، ولا سيما إذا وقع موقع اللطف. (فأذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون (152)). اللغة: الذكر: حضور المعنى للنفس، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالقول، وكلاهما يحضر به المعنى للنفس. وفي أكثر الإستعمال يقال الذكر بعد النسيان، وليس ذلك بموجب ان لا يكون إلا بعد نسيان لأن كل من حضره المعنى بالقول أو العقد أو الخطور بالبال ذاكر له، وأصله التنبيه على الشئ. فمن ذكرته شيئا: فقد نبهته عليه. وإذا ذكر بنفسه: فقد تنبه عليه. والذكر: الشرف والنباهة. والفرق بين الذكر والخاطر أن الخاطر ما يمر بالقلب. والذكر قد يكون القول أيضا. وفي قوله (واشكروا لي). محذوف أي: اشكروا لي نعمتي، لأن حقيقة الشكر الإعتراف بالنعمة. وفي قوله: (ولا تكفرون) أيضا محذوف، لأن الكفر: هو ستر النعمة وجحدها، لا ستر المنعم. وقولهم: حمدت زيدا وذممته لا حذف فيه، وان كنت إنما تحمد أو تذم، من أجل الفعل، كما أنه ليس في قولك: زيد متحرك حذف، وإن كان إنما تحرك لأجل الحركة، فليس كل كلام دل على معنى غير مذكور، يكون فيه حذف. الا ترى أن قولك زيد ضارب، دل على مضرب، وليس بمحذوف، فالحمد للشئ دلالة على أنه محسن، والذم للشئ دلالة على أنه مسئ، كقولهم نعم الرجل زيد، وبئس الرجل عمرو. وقالوا: شكرتك، وشكرت لك، وإنما قيل: شكرتك لإيقاع إسم المنعم موقع النعمة، فعدى الفعل بغير واسطة. والأجود شكرت لك النعمة، لأنه الأصل في الكلام. قال الشاعر: هم جمعوا بؤس، ونعمى، عليكم * فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل ومثل ذلك: نصحتك، ونصحت لك. ذكرنا الوجه في حذف الياء في مثل (ولا تكفرون) فيما مضى (1). (1) أي في ص 181. (*)
[ 435 ]
المعنى: (فاذكروني أذكركم) قيل: معناه اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي، عن سعيد بن جبير، بيانه قوله سبحانه: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) وقيل: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي، عن ابن عباس، وبيانه قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وقيل: اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة، عن ابن كيسان بيانه: (لئن شكرتم لأزيدنكم). وقيل: اذكروني على ظهر الأرض، أذكركم في بطنها. وقد جاء في الدعاء: " اذكروني عند البلاء إذا نسيني الناسون من الورى ". وقيل: اذكروني في الدنيا، أذكركم في العقبى. وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء، أذكركم في الشدة والبلاء. وبيانه قوله سبحانه: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون). وفي الخبر: " تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة ". وقيل: اذكروني بالدعاء، أذكركم بالإجابة، بيانه قوله: (ادعوني أستجب لكم). وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الملك ينزل الصحيفة من أول النهار وأول الليل، يكتب فيها عمل ابن آدم فأملوا (1) في أولها خيرا وفي آخرها خيرا، فإن الله يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء الله، فإن الله يقول: اذكروني أذكركم " وقال الربيع في هذه الآية: إن الله عز وجل ذاكر من ذكره، وزائد من شكره، ومعذب من كفره. وقوله: (واشكروا لي) أي: اشكروا نعمتي وأظهروها واعترفوا بها. (ولا تكفرون) ولا تستروا نعمتي بالجحود يعني بالنعمة قوله: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم) الآية. (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين (153)). الاعراب: (الذين آمنوا) موضعه رفع بأنه صفة لأي، كما أن الناس كذلك في قوله (يا أيها الناس) وقد ذكرناه فيما مضى، وهو قول جميع النحويين إلا الأخفش، فإنه لا يجعله صفة لأي، ويرفعه بأنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: يا من هم الذين آمنوا، إلا أنه لا يظهر المحذوف مع أي، وإنما حمله على ذلك لزوم البيان لأي، فقال: الصفة لا تلزم، وإنما (1) وفي نسختين من نسخنا: (فاعملوا) بدل (فأملوا). (*)
[ 436 ]
تلزم الصلة. قال علي بن عيسى: والوجه عندي أن يكون صفة بمنزلة الصلة في اللزوم، وقد ذكرنا الوجه في لزومها أيضا عند قوله سبحانه: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم). وقال أبو علي: لا يجوز أن يكون أي في النداء موصولة، لأنها لو كانت موصولة لوصلت بكل واحدة من الجمل الاربع. ولم يقتصر بها على ضرب واحد منها، لأن ذلك لم يفعل بشئ من الأسماء الموصولة في موضع، ولجاز أيضا أن يقال: يا أيها رجل، لأن المبتدأ لا يجوز أن يكون مقصورا على المعرفة بالألف واللام، ولا يغير عنه. وفي امتناع جميع النحويين من إجازة ذلك، ما يدل على فساد هذا القول. وأيضا فلو كانت موصولة، للزم جواز إظهار المبتدأ المحذوف من الصلة، وكان يجوز: يا أيها هو الرجل، ويا أيتها هي المرأة، لا خلاف في أنه لا يجوز ذلك. المعنى: قد مضى تفسير قوله (استعينوا بالصبر والصلاة) فيما مضى يخاطب المؤمنين فيقول: (استعينوا بالصبر) أي: بحبس النفس عما تشتهيه من المقبحات، وحملها على ما تنفر منه من الطاعات، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر عما تحب ". وبالصلاة لما فيها من الذكر والخشوع لله، وتلاوة القرآن الذي يتضمن ذكر الوعد والوعيد والهدى والبيان وما هذه صفته، يدعو إلى الحسنات، ويزجر عن السيئات. واختلف في أن الإستعانة بهما على ماذا فقيل: على جميع الطاعات، فكأنه قال: استعينوا بهذا الضرب من الطاعة على غيره من الطاعات. وقيل: على الجهاد في سبيل الله. وقوله: (إن الله مع الصابرين) فيه وجهان أحدهما: إن معناه أنه معهم بالمعونة والنصرة، كما يقال السلطان معك، فلا تبال من لقيت والآخر: إن المراد هو معهم بالتوفيق والتسديد. أي: يسهل عليهم أداء العبادات، والإجتناب من المقبحات، ونظيره قوله سبحانه (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى). ولا يجوز أن يكون مع هنا بمعنى الإجتماع في المكان لأن ذلك من صفات الاجسام، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وفي الآية دلالة على أن في الصلاة لطفا للعبد، لأنه سبحانه أمرنا بالإستعانة بها، ويؤيده قوله سبحانه (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا
[ 437 ]
لا تشعرون (154)). اللغة: السبيل: الطريق. وسبيل الله: طريق مرضاته، وإنما قيل للجهاد سبيل الله، لأنه طريق إلى ثواب الله عز وجل. والقتل: هو نقيض بنية الحياة. والموت عند من قال إنه معنى عرض ينافي الحياة منافاة التعاقب. ومن قال: إنه ليس بمعنى، قال: هو عبارة عن بطلان الحياة وهو الأصح. فأما الحياة فلا خلاف في أنها معنى، وهي عرض يصير الجملة كالشئ الواحد حتى يصير قادرا واحدا، عالما واحدا، مريدا واحدا، ولا يقدر على فعل الحياة إلا الله سبحانه. والشعور هو ابتداء العلم بالشئ من جهة المشاعر، وهي الحواس، ولذلك لا يوصف تعالى بأنه شاعر، ولا بأنه يشعر. وإنما يوصف بأنه عالم ويعلم. وقيل: إن الشعور هو إدراك ما دق للطف الحس، مأخوذ من الشعر لدقته، ومنه الشاعر لأنه يفطن من إقامة الوزن، وحسن النظم، لما لا يفطن له غيره. الاعراب: قوله (أموات): مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره لا تقولوا هم أموات. ولا يجوز فيه النصب، كما يجوز (قلت حسنا) لأن حسنا في موضع المصدر، كأنه قال: قلت قولا حسنا. فأما قوله: ويقولون طاعة، فيجوز فيه النصب في العربية على تقدير نطيع طاعة. والفرق بين بل ولكن أن لكن نفي لأحد الشيئين وإثبات للآخر، كقولك ما قام زيد لكن عمرو. وليس كذلك بل، لأنها إضراب عن الأول وإثبات للثاني، ولذلك وقعت في الإيجاب كقولك قام زيد بل عمرو. النزول: عن ابن عباس أنها نزلت في قتلى بدر، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. وكانوا يقولون: مات فلان. فأنزل الله تعالى هذه الآية. المعنى: لما أمر الله سبحانه بالصبر والصلاة. للإزدياد في القوة بهما على الجهاد قال: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) فنهى أن يسمى من قتل في الجهاد أمواتا. (بل أحياء) أي: بل هم أحياء. وقيل فيه أقوال أحدها وهو الصحيح إنهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة، وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد، وإليه ذهب الحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن
[ 438 ]
عطاء، واختاره الجبائي والرماني وجميع المفسرين. والثاني: إن المشركين كانوا يقولون: إن أصحاب محمد يقتلون نفوسهم في الحروب بغير سبب، ثم يموتون فيذهبون، فأعلمهم الله أنه ليس الأمر على ما قالوه، وأنهم سيحيون يوم القيامة، ويثابون، عن البلخي. ولم يذكر ذلك غيره. والثالث: معناه لا تقولوا هم أموات في الدين بل هم أحياء بالطاعة والهدى، ومثله قوله سبحانه (أو من كان ميتا فأحييناه) فجعل الضلال موتا، والهداية حياة، عن الأصم. والرابع: إن المراد أنهم أحياء لما نالوا من جميل الذكر والثناء، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام، من قوله: " هلك خزان الأموال، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة " والمعتمد هو القول الأول، لأن عليه إجماع المفسرين، ولأن الخطاب للمؤمنين، وكانوا يعلمون أن الشهداء على الحق والهدى، وأنهم ينشرون ويحيون يوم القيامة، فلا يجوز أن يقال لهم ولكن لا تشعرون من حيث إنهم كانوا يشعرون ذلك ويقرون به، ولأن حمله على ذلك يبطل فائدة تخصيصهم بالذكر، ولو كانوا أيضا أحياء بما حصل لهم من جميل الثناء، لما قيل أيضا (ولكن لا تشعرون) لأنهم كانوا يشعرون ذلك. ووجه تخصيص الشهداء بكونهم أحياء، وإن كان غيرهم من المؤمنين قد يكونون أحياء في البرزخ، أنه على جهة التقديم للبشارة بذكر حالهم، ثم البيان لما يختصون به من أنهم يرزقون كما في الآية الاخرى يرزقون، فرحين بما أتاهم الله من فضله. فإن قيل: نحن نرى جثث الشهداء مطروحة على الأرض، لا تنصرف ولا يرى فيها شئ من علامات الإحياء ؟ فالجواب: إن على مذهب من يقول بالإنسان من أصحابنا أن الله تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا يتنعمون فيها، دون أجسامهم التي في القبور، فإن النعيم والعذاب، إنما يحصل عنده إلى النفس التي هي الإنسان المكلف عنده، دون الجثة. ويؤيد ذلك ما رواه الشيخ أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام مسندا إلى علي بن مهزيار، عن القاسم بن محمد، عن الحسين بن أحمد، عن يونس بن ظبيان، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام جالسا، فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين ؟ قلت: يقولون في حواصل طير خضر، في قناديل تحت العرش. فقال أبو عبد الله: سبحان الله المؤمن أكرم على الله أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر. يا يونس ! المؤمن إذا قبضه الله تعالى، صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا،
[ 439 ]
فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. وعنه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أرواح المؤمنين، فقال: في الجنة على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت فلان. فأما على مذهب من قال من أصحابنا إن الإنسان هذه الجملة المشاهدة، وإن الروح هو النفس المتردد في مخارق الحيوان، وهو أجزاء الجو، فالقول إنه يلطف أجزاء من الإنسان لا يمكن أن يكون الحي حيا بأقل منها، يوصل إليها النعيم، وإن لم تكن تلك الجملة بكمالها، لأنه لا معتبر بالاطراف، وأجزاء السمن في كون الحي حيا، فإن الحي لا يخرج بمفارقتها من كونه حيا، وربما قيل بأن الجثة يجوز أن تكون مطروحة في الصورة، ولا تكون ميتة، فتصل إليها اللذات، كما أن النائم حي، وتصل إليه اللذات، مع أنه لا يحس، ولا يشعر بشئ من ذلك، فيرى في النوم ما يجد به السرور والإلتذاذ حتى إنه يود أن يطول نومه، فلا ينتبه. وقد جاء في الحديث: إنه يفسح له مد بصره، ويقال له: نم نومة العروس. وقوله: (ولكن لا تشعرون) أي: لا تعلمون أنهم أحياء. وفي هذه الآية دلالة على صحة مذهبنا في سؤال القبر، وإثابة المؤمن فيه، وعقاب العصاة على ما تظاهرت به الأخبار. وإنما حمل البلخي الآية على حياة الحشر لإنكاره عذاب القبر. (ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين (155)). اللغة: البلاء: الإختبار، ويكون بالخير والشر. والخوف: انزعاج النفس لما يتوقع من الضرر. والجوع: ضد الشبع، وهو المخمصة. والمجاعة عام فيه جوع. وحقيقة الجوع الشهوة الغالبة إلى الطعام. والشبع: زوال الشهوة. ولا خلاف أن الشهوة معنى في القلب، لا يقدر عليه غير الله تعالى، والجوع منه. وأما الشبع فهو معنى عند أبي علي الجبائي، وهو فعله تعالى. وعند أبي هاشم ليس بمعنى. وهكذا القول في العطش والري. والنقص: نقيض الزيادة. والنقصان: يكون مصدرا واسما. ونقص الشئ ونقصته لازم ومتعد. ودخل عليه نقص في عقله ودينه، ولا يقال نقصان. والنقيصة: الوقيعة في الناس. والنقيصة: انتقاص الحق. وتنقصه: تناول
[ 440 ]
عرضه. وأصل النقص: الحط من التمام. والمال معروف. وأموال العرب: أنعامهم. ورجل مال أي: ذو مال. والثمرة: أفضل ما تحمله الشجرة. الاعراب: فتحت الواو في (لنبلونكم) كما فتحت الراء في (لننصرنكم) وهو أنه بني على الفتحة، لأنها أخف إذا استحق البناء على الحركة، كما استحق يا في النداء حكم البناء على الحركة. من الخوف والجوع الجار والمجرور صفة شئ. المعنى: لما بين سبحانه ما كلف عباده من العبادات، عقبه ببيان ما امتحنهم به من فنون المشقات، فقال: (ولنبلونكم) أي: ولنختبرنكم، ومعناه نعاملكم معاملة المختبر، ليظهر المعلوم، والخطاب لأصحاب النبي، عليه الصلاة والسلام، عن عطاء والربيع. ولو قيل إنه خطاب لجميع الخلق، لكان أيضا صحيحا (بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال) أي: بشئ من الخوف، وشئ من الجوع، وشئ من نقص الأموال، فأوجز. وإنما قال (من الخوف) على وجه التبعيض، لأنه لم يكن مؤبدا، وإنما عرفهم سبحانه ذلك ليوطنوا أنفسهم على المكاره التي تلحقهم في نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما لهم فيها من المصلحة، فأما سبب الخوف فكان قصد المشركين لهم بالعداوة، وسبب الجوع تشاغلهم بالجهاد في سبيل الله عن المعاش واحتياجهم إلى الإنفاق فيه. وقيل للقحط الذي لحقهم، والجدب الذي أصابهم. وسبب نقص الأموال الإنقطاع بالجهاد عن العمارة، ونقص الأنفس بالقتل في الحروب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل نقص الأموال بهلاك المواشي. (والأنفس) بالموت. وقوله (والثمرات) قيل: أراد ذهاب حمل الأشجار بالجوائح، وقلة النبات، وارتفاع البركات. وقيل: أراد به الأولاد، لأن الولد ثمرة القلب، وإنما قال ذلك لاشتغالهم بالقتال عن عمارة البستان، وعن مناكحة النسوان، فيقل نزل البساتين، وحمل البنات والبنين. ووجه الإبتلاء بهذه الأشياء ما تقتضيه الحكمة من الألطاف، ودقائق المصالح والأغراض، ويدخره سبحانه لهم ما يرضيهم به من جلائل الأعواض. وقيل في وجه اللطف في ذلك قولان أحدهما: إن من جاء من بعدهم إذا أصابهم مثل هذه الأمور، علموا أنه لا يصيبهم ذلك لنقصان درجة وحط مرتبة، فإنه قد أصاب ذلك من هو أعلى درجة منهم، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والآخر: إن
[ 441 ]
الكفار إذا شاهدوا المؤمنين يتحملون المشاق في نصرة الرسول، وموافقتهم له، وتنالهم هذه المكاره، فلا يتغيرون في قوة البصيرة ونقاء السريرة، علموا أنهم إنما فعلوا ذلك لعلمهم بصحة هذا الدين، وكونهم من معرفة صدقه على اليقين، فيكون ذلك داعيا لهم إلى قبول الإسلام، والدخول في جملة المسلمين. وقوله: (وبشر الصابرين) أي: أخبرهم بما لهم على الصبر في تلك المشاق والمكاره، من المثوبة الجزيلة والعاقبة الجميلة. (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157)). القراءة: أمال الكسائي في بعض الروايات النون من (إنا)، واللام من (لله). والباقون بالتفخيم. الحجة: وإنما جازت الإمالة في هذه الألف مع اسم الله، للكسرة مع كثرة الإستعمال، حتى صارت بمنزلة الكلمة الواحدة. قال الفراء: لا يجوز إمالة (إنا) مع غير إسم الله تعالى، في مثل قولك: إنا لزيد، وإنما لم يجز ذلك لأن الأصل في الحروف وما جرى مجراها، امتناع الإمالة فيها. فلا يجوز إمالة حتى، ولكن ما أشبه ذلك، لأن الحروف بمنزلة بعض الكلمة من حيث امتنع فيها التصريف الذي يكون في الأسماء والأفعال. اللغة: المصيبة: المشقة الداخلة على النفس لما يلحقها من المضرة، وهو من الإصابة، كأنها تصيبها بالنكبة. والرجوع: مصير الشئ إلى ما كان، يقال رجعت الدار إلى فلان: إذا ملكها مرة ثانية، وهو نظير العود والمصير. والإهتداء: الإصابة لطريق الحق. المعنى: ثم وصف عز اسمه الصابرين، فقال: (الذين إذا أصابتهم مصيبة) أي: نالتهم نكبة في النفس أو المال، فوطنوا أنفسهم على ذلك احتسابا للأجر. (قالوا إنا لله): هذا إقرار بالعبودية أي: نحن عبيد الله وملكه. (وإنا إليه راجعون) هذا إقرار بالبعث والنشور أي: نحن إلى حكمه نصير، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: " إن قولنا (إنا لله) إقرار على أنفسنا بالملك. وقولنا (وإنا إليه راجعون) إقرار على أنفسنا بالهلك. وإنما كانت هذه
[ 442 ]
اللفظة تعزية عن المصيبة، لما فيها من الدلالة على أن الله تعالى يجبرها إن كانت عدلا، وينصف من فاعلها إن كانت ظلما، وتقديره: إنا لله تسليما لأمره، ورضاء بتدبيره، وإنا إليه راجعون، ثقة بأنا نصير إلى عدله وانفراده بالحكم في أموره. وفي الحديث: من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه. وقال عليه السلام: " من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا، وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب ". وروى الصادق عليه السلام عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أربع من كن فيه كتبه الله من أهل الجنة: من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلا الله، ومن إذا أنعم الله عليه النعمة قال: الحمد لله. ومن إذا أصاب ذنبا قال: أستغفر الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون). وقوله: (أولئك) إشارة إلى الذين وصفهم من الصابرين (عليهم صلوات من ربهم) أي: ثناء جميل من ربهم وتزكية، وهو بمعنى الدعاء، لأن الثناء يستحق دائما، ففيه معنى اللزوم، كما أن الدعاء يدعى به مرة بعد مرة، ففيه معنى اللزوم. وقيل: بركات من ربهم، عن ابن عباس. وقيل: مغفرة من ربهم (ورحمة) أي: نعمة عاجلا وآجلا. فالرحمة: النعمة على المحتاج، وكل أحد يحتاج إلى نعمة الله في دنياه، وعقباه. (وأولئك هم المهتدون) أي: المصيبون طريق الحق في الإسترجاع. وقيل: إلى الجنة والثواب. وكان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه الآية قال: نعم العدلان، ونعمت العلاوة. (* إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (من يطوع) بالياء وتشديد الطاء والواو. وكذلك ما بعده، ووافقهم زيد ورويس، عن يعقوب في الأول. والباقون: (تطوع) على أنه فعل ماض روي في الشواذ عن علي عليه السلام وابن عباس وأنس وسعيد بن جبير وأبي بن كعب وابن مسعود (ألا يطوف بهما). الحجة: يمكن أن يكون لا على هذه القراءة زائدة، كما في قوله: (لئلا يعلم أهل الكتاب) أي: ليعلم. وكقوله (من غير لا عصف ولا اصطراف) أي: من غير عصف. ويطوع: تقديره يتطوع إلا أنه أدغم التاء في
[ 443 ]
الطاء لتقاربهما. اللغة: الصفا: في الأصل الحجر الأملس، مأخوذ من الصفو، واحده صفاة. قال امرؤ القيس: لها كفل كصفاة المسيل * أبرز عنها جحاف مضر (1) فهو مثل حصاة وحصى، ونواة ونوى. وقيل: إن الصفا واحد. قال المبرد: الصفا كل حجر لا يخلطه غيره من طين أو تراب، وإنما اشتقاقه من صفا يصفو إذا خلص. وأصله من الواو، لأنك تقول في تثنيته: صفوان، ولا يجوز إمالته. والمروة في الأصل: الحجارة الصلبة اللينة. وقيل: الحصاة الصغيرة. والمرو: لغة في المروة. وقيل: هو جمع مثل تمرة وتمر. قال أبو ذويب: حتى كأني للحوادث مروة * بصفا المشرق كل يوم تقرع (2) والمرو: نبت، وأصله الصلابة. فالنبت إنما سمي بذلك لصلابة بزره. وقد صارا إسمين لجبلين معروفين بمكة. والألف واللام فيهما للتعريف لا للجنس. والشعائر: المعالم للاعمال. وشعائر الله: معالمه التي جعلها مواطن للعبادة، وكل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما فهو مشعر لتلك العبادة. وواحد الشعائر: شعيرة. فشعائر الله: أعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر من شعرت به أي: علمت. قال الكميت: نقتلهم جيلا فجيلا نراهم * شعائر قربان بهم يتقرب والحج في اللغة: هو القصد على وجه التكرار. وفي الشريعة: عبارة عن قصد البيت بالعمل المشروع من الإحرام والطواف والسعي والوقوف بالموقفين وغير ذلك. قال الشاعر: وأشهد من عوف حلولا كثيرة * يحجون بيت الزبرقان المزعفرا يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده. والعمرة: هي الزيارة أخذ من العمارة، لأن الزائر يعمر المكان بزيارته، وهي في الشرع: زيارة البيت بالعمل المشروع. (1) قال الجوهري: سيل جحاف بالضم: إذا جرف كل شئ، وذهب به. (2) المشرق: المصلى، ومسجد الخيف. (*)
[ 444 ]
والجناح: الميل عن الحق، يقال: جنح إليه جنوحا: إذا مال، وأجنحته فاجتنح أي أملته وجناحا الطائر: يداه. ويدا الإنسان: جناحاه. وجناحا العسكر: جانباه. والطواف: الدوران حول الشئ، ومنه الطائف، وفي عرف الشرع: الدور حول البيت. والطائفة: الجماعة كالحلقة الدائرة. ويطوف: أصله يتطوف، ومثله يطوع. والفرق بين الطاعة والتطوع أن الطاعة موافقة الإرادة في الفريضة والنافلة، والتطوع: التبرع بالنافلة خاصة، وأصلهما من الطوع الذي هو الإنقياد. والشاكر: فاعل الشكر، وإنما يوصف سبحانه بأنه شاكر مجازا وتوسعا، لأنه في الأصل هو المظهر للإنعام عليه، والله يتعالى عن أن يكون عليه نعمة لأحد. الاعراب: قوله (من حج) (ومن تطوع) يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون (من) موصولا بمنزلة الذي. والآخر: أن يكون للجزاء. فإن كان موصولا، فلا موضع للفعل الذي بعده هو مع صلته في موضع رفع بالإبتداء. والفاء على هذا مع ما بعده في قوله (فلا جناح عليه) (فإن الله شاكر): في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ الموصول. وإن كان للجزاء كان الفعل الذي بعده في موضع الجزم، وكانت الفاء مع ما بعدها أيضا في موضع جزم، لوقوعها موقع الفعل المجزوم الذي هو جزاء. والفعل الذي هو حج أو تطوع على لفظ الماضي، والتقدير به المستقبل، كما أن ذلك في قولك: إن أكرمتني أكرمتك كذلك. وقوله (فإن الله شاكر عليم): إنما يصح أن يقع موقع الجزاء، أو موقع خبر المبتدأ، وإن لم يكن فيه ضمير عائد، لأن تقديره يعامله معاملة الشاكر بحسن المجازاة، وإيجاب المكافأة. وإنما دخلت الفاء في خبر المبتدأ الموصول، لما فيه من معنى الجزاء، وإن لم يكن في موضع الجزم. ألا ترى أن هذه الفاء تؤذن بأن الثاني وجب لوجوب الأول. المعنى: لما ذكر سبحانه امتحان العباد بالتكليف والإلزام مرة، وبالمصائب والآلام أخرى، ذكر سبحانه أن من جملة ذلك أمر الحج، فقال: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) أي: إنهما من أعلام متعبداته. وقيل: من مواضع نسكه وطاعاته، عن ابن عباس. وقيل: من دين الله، عن الحسن. وقيل: فيه حذف، وتقديره الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله. وروي عن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: نزل آدم على الصفا، ونزلت حواء على المروة، فسمي الصفا باسم آدم المصطفى، وسميت المروة باسم المرأة. وقوله: (فمن حج
[ 445 ]
البيت) أي: قصده بالأفعال المشروعة (أو اعتمر) أي: أتى بالعمرة بالمناسك المشروعة. وقوله: (فلا جناح عليه) اي: لا حرج عليه (أن يطوف بهما). قال الصادق عليه السلام: كان المسلمون يرون أن الصفا والمروة مما ابتدع أهل الجاهلية، فأنزل الله هذه الآية. وإنما قال (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) وهو واجب أو طاعة على الخلاف فيه، لأنه كان على الصفا صنم يقال له اساف وعلى المروة صنم يقال له نائلة، وكان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما، فتحرج المسلمون عن الطواف بهما، لأجل الصنمين، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن الشعبي وكثير من العلماء. فرجع رفع الجناح عن الطواف بهما إلى تحرجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين، لا إلى عين الطواف، كما لو كان الإنسان محبوسا في موضع لا يمكنه الصلاة إلا بالتوجه إلى ما يكره التوجه إليه من المخرج وغيره، فيقال له: لا جناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان، فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة، لأن عين الصلاة واجبة، إنما يرجع إلى التوجه إلى ذلك المكان. ورويت رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام، فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل له: إن فلانا لم يطف، وقد أعيدت الأصنام. فنزلت هذه الآية (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) أي: والأصنام عليهما. قال: فكان الناس يسعون والأصنام على حالها. فلما حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى بها. وقوله (من تطوع خيرا) فيه أقوال أولها: إن معناه من تبرع بالطواف والسعي بين الصفا والمروة، بعد ما أدى الواجب من ذلك، عن ابن عباس وغيره وثانيها: إن معناه من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحج والعمرة المفروضين، عن الاصم. وثالثها: إن معناه من تطوع بالخيرات وأنواع الطاعات، عن الحسن. ومن قال: إن السعي ليس بواجب قال معناه: من تبرع بالسعي بين الصفا والمروة. وقوله: (فإن الله شكر عليم) أي: مجازيه على ذلك، وإنما ذكر لفظ الشاكر تلطفا بعباده، ومظاهرة في الإحسان والإنعام إليهم، كما قال: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) والله سبحانه لا يستقرض عن عوز، ولكنه ذكر هذا اللفظ على طريق التلطف أي: يعامل عباده معاملة المستقرض من حيث إن العبد ينفق في حال غناه، فيأخذ
[ 446 ]
أضعاف ذلك في حال فقره وحاجته، وكذلك لما كان يعامل عباده معاملة الشاكرين، من حيث إنه يوجب الثناء له والثواب، سمى نفسه شاكرا. وقوله: (عليم) أي: بما تفعلونه من الأفعال، فيجازيكم عليها وقيل: عليم بقدر الجزاء، فلا يبخس أحدا حقه. وفي هذه الآية دلالة على أن السعي بين الصفا والمروة عبادة، ولا خلاف في ذلك، وهو عندنا فرض واجب في الحج وفي العمرة، وبه قال الحسن وعائشة، وهو مذهب الشافعي وأصحابه. وقال: إن السنة لوجبت السعي، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " كتب عليكم السعي فاسعوا ". فأما ظاهر الآية فإنما يدل على إباحة ما كرهوه من السعي، وعند أبي حنيفة وأصحابه هو تطوع وهو اختيار الجبائي. وروي ذلك عن أنس وابن عباس وعندنا وعند الشافعي من تركه متعمدا فلا حج له. (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159)). النزول: المعني بالآية اليهود والنصارى، مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وزيد بن التابوه، وغيرهم من علماء النصارى، الذين كتموا أمر محمد ونبوته، وهم يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل مثبتا فيهما، عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر أهل العلم. وقيل: إنه متناول لكل من كتم ما أنزل الله، وهو اختيار البلخي، وهو الأقوى لأنه أعم فيدخل فيه أولئك، وغيرهم. المعنى: ثم حث الله سبحانه على إظهار الحق وبيانه، ونهى عن إخفائه وكتمانه، فقال: (إن الذين يكتمون) أي: يخفون (ما أنزلنا من البينات) أي: من الحجج المنزلة في الكتب (والهدى) أي: الدلائل. فالأول: علوم الشرع. والثاني: أدلة العقل. فعم. بالوعيد في كتمان جميعها. وقيل: أراد بالبينات: الحجج الدالة على نبوته عليه السلام، وبالهدى: ما يؤديه إلى الخلق من الشرائع. وقيل: البينات والهدى هي الأدلة، وهما بمعنى واحد. وإنما كرر لاختلاف لفظيهما (من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) يعني في التوراة والإنجيل من صفته عليه السلام ومن الأحكام. وقيل: في الكتب المنزلة من عند الاه. وقيل: أراد بقوله (ما أنزلنا من البينات): الكتب المتقدمة، وبالكتاب: القرآن.
[ 447 ]
(أولئك يلعنهم الله) أي: يبعدهم من رحمته بإيجاب العقوبة، لأنه لا يجوز لعن من لا يستحق العقوبة. (ويلعنهم اللاعنون) قيل: للملائكة والمؤمنون، عن قتادة والربيع وهو الصحيح لقوله سبحانه: (عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). وقيل: دواب الأرض وهوامها، تقول: منعنا القطر بمعاصي بني آدم، عن مجاهد وعكرمة. وقيل: كل شئ سوى الثقلين الجن والإنس، عن ابن عباس. وقيل: إذا تلاعن الرجلان، رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحقها واحد منهما، رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله، عن ابن مسعود. فإن قيل: كيف يصح ذلك على قول من قال المراد باللاعنين البهائم، وهذا الجمع لا يكون إلا للعقلاء ؟ قيل.: لما أضيف إليها فعل ما يعقل، عوملت معاملة من يعقل، كقوله سبحانه (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)، وإنما أضيف اللعن إلى من لا يعقل، لأن الله يلهمهم اللعن عليهم، لما في ذلك من الزجر عن المعاصي، لأن الناس إذا علموا أنهم إذا عملوا هذه المعاصي استحقوا اللعن حتى إنه يلعنهم الدواب والهوام، كان لهم في ذلك أبلغ الزجر. وقيل: إنما يكون ذلك في الآخرة، يكمل الله عقولها فتلعنهم. وفي هذه الآية دلالة على أن كتمان الحق مع الحاجة إلى إظهاره، من أعظم الكبائر. وأن من كتم شيئا من علوم الدين، وفعل مثل فعلهم، فهو مثلهم في عظم الجرم، ويلزمه كما لزمهم الوعيد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار ". وفيها أيضا دلالة. على وجوب الدعاء إلى التوحيد والعدل، لأن في كتاب الله تعالى ما يدل عليهما، تأكيدا لما في العقول من الأدلة. (إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160)). اللغة: التوبة: هي الندم الذي يقع موقع التنصل (1) من الشئ، وذلك بالتحسر على مواقعته والعزم على ترك معاودته إن أمكنت المعاودة. واعتبر قوم ترك المعاودة على مثله في القبح، وهذا أقوى لأن الأمة أجمعت على سقوط (1) تنصل من كذا: خرج. (*)
[ 448 ]
العقاب عند هذه التوبة. وفيما عداها خلاف.. وإصلاح العمل: هو إخلاصه من قبيح ما يشوبه. والتبيين: هو التعريض للعلم الذي يمكن به صحة التمييز، من البين الذي هو القطع. الاعراب: موضع (الذين): نصب على الإستثناء من الكلام الموجب. ومعنى الإستثناء: الإختصاص بالشئ دون غيره. فإذا قلت: جاءني القوم إلا زيدا، فقد اختصصت زيدا بأنه لم يجئ. وإذا قلت: ما جاءني إلا زيد. فقد اختصصته بالمجئ. وإذا قلت: ما جاءني زيد إلا راكبا، فقد اختصصته بهذه الحالة دون غيرها من المشي والعدو وغيرهما. المعنى: ثم اسثنى الله سبحانه في هذه الآية من تاب وأصلح، وبين من جملة من استحق اللعنة فقال: (الا الذين تابوا) أي: ندموا على ما قدموا (وأصلحوا) نياتهم فيما يستقبل من الأوقات. (وبينوا) اختلف فيه، فقال أكثر المفسرين: بينوا ما كتموه من البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: بينوا التوبة، وإصلاح السريرة بالإظهار لذلك، فإن من ارتكب المعصية سرا، كفاه التوبة سرا، ومن أظهر المعصية، يجب عليه أن يظهر التوبة. وقيل: بينوا التوبة بإخلاص العمل. (فاولئك أتوب عليهم) أي: أقبل. والأصل في أتوب أفعل التوبة، إلا أنه لما وصل بحرف الإضافة، دل على أن معناه أقبل التوبة. إنما كان لفظه مشتركا بين فاعل التوبة والقابل لها للترغيب في صفة التوبة، إذ وصف بها القابل لها، وهو الله عز اسمه، وذلك من إنعام الله على عباده، لئلا يتوهم بما فيها من الدلالة على مفارقة الذنب أن الوصف بها عيب، فلذلك جعلت في أعلى صفات المدح. (وأنا التواب) هذه اللفطة للمبالغة، إما لكثرة ما يقبل التوبة، وإما لأنه لا يرد تائبا منيبا أصلا. (الرحيم): ووصفه سبحانه نفسه بالرحيم عقيب قوله (التواب) يدل على أن إسقاط العقاب عند التوبة، تفضل من الله سبحانه، ورحمة من جهته، على ما قاله أصحابنا، وأنه غير واجب عقلا على ما يذهب إليه المعتزلة. فإن قالوا: قد يكون الفعل الواجب نعمة إذا كان منعما بسببه كالثواب والعوض لما كان منعما، بالتكليف وبالآلام التي تستحق بها الأعواض، جاز أن يطلق عليها إسم النعمة ؟ فالجواب: إن ذلك إنما قلناه في الثواب والعوض ضرورة، ولا ضرورة هاهنا تدعو
[ 449 ]
إلى ارتكابه. (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (161) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (162)). اللغة: واحد الناس: إنسان في المعنى. فأما في اللفظ فلا واحد له فهو كنفر ورهط مما يقال إنه اسم للجمع. والخلود: اللزوم أبدا. والبقاء: الوجود في وقتين فصاعدا، ولذلك لم يجز في صفات الله تعالى خالد، وجاز باق، ولذلك يقال: أخلد إلى قوله أي: لزم معنى ما أتى به. ومنه قوله: ولكنه أخلد إلى الأرض أي: مال إليها ميل اللازم لها. والفرق بين الخلود والدوام أن الدوام هو الوجود في الأزل، والا يزال. فإذا قيل: دام المطر، فهو على المبالغة، وحقيقته لم يزل من وقت كذا إلى وقت كذا. والخلود: هو اللزوم أبدا. والتخفيف: هو النقصان من المقدار الذي له. والعذاب: هو الألم الذي له امتداد. والإنظار: الإمهال قدر ما يقع النظر في الخلاص. وأصل النظر: الطلب. فالنظر بالعين هو الطلب بالعين، وكذلك النظر بالقلب أو باليد أو بغيرها من الحواس تقول: أنظر الثوب أين هو أي: اطلبه أين هو. والفرق بين العذاب والإيلام أن الإيلام قد يكون بجزء من الالم في الوقت الواحد، مقدار ما يتألم به. والعذاب: الألم الذي له استمرار في أوقات، ومنه العذب: لاستمراره في الحلق. والعذبة: لاستمرارها بالحركة. الاعراب: (وهم كفار): جملة في موضع الحال. و (أجمعين): تأكيد. وإنما أكد به ليرتفع الإبهام والاحتمال قبل أن ينظر في تحقيق الإستدلال. ولهذا لم يجز الاخفش رأيت أحد الرجلين كليهما، وأجاز رأيتهما كليهما. لأنك إذا ذكرت الحكم مقرونا بالدليل، أزلت الإبهام للفساد. وإذا ذكرته وحده فقد يتوهم عليك الغلط في المقصد. وأنت لما ذكرت التثنية في قولك أحد الرجلين، وذكرت أحدا، كنت بمنزلة من ذكر الحكم والدليل عليه. فأما ذكر التثنية في رأيتهما، فبمنزلة ذكر الحكم وحده. و (خالدين): منصوب على الحال، والعامل فيه الظرف من قوله (عليهم)، لأن فيه معنى الإستقرار للعنة. وذو الحال الهاء. والميم من (عليهم) كقولك عليهم المال
[ 450 ]
صاغرين. وقوله (فيها) الهاء يعود إلى اللعنة في قول الزجاج، وإلى النار في قول أبي العالية (لا يخفف عنهم العذاب): جملة في موضع الحال. (ولا هم ينظرون): كذلك. و (هم): تأكيد لضمير في فعل مقدر يفسره هذا الظاهر تقديره: ولا هم ينظرون هم. المعنى: لما بين سبحانه حال من كتم الحق، وحال من تاب منهم، عقبه بحال من يموت من غير توبة منهم، أو من الكفار جميعا، فقال: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) أي: ماتوا مصرين على الكفر، وإنما قال: (وماتوا وهم كفار) مع أن كل كافر ملعون في حال كفره، ليصير الوعيد فيه غير مشروط، لأن بالموت يفوت التلافي بالتوبة، فلذلك شرط سبحانه وبين أن الكفار لو لم يموتوا على كفرهم، لم تكن هذه حالهم. وقيل: إن هذا الشرط إنما هو في خلود اللعنة لهم كقوله (خالدين فيها). (أولئك عليهم لعنة الله) أي: إبعاده من رحمته وعقابه. (والملائكة والناس أجمعين). فإن قيل: كيف قال (والناس أجمعين) وفي الناس من لا يلعن الكافر ؟ فالجواب من وجوه أحدها: إن كل أحد من الناس يلعن الكافر: إما في الدنيا، وإما في الآخرة، أو فيهما جميعا، كما قال: (ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا)، عن أبي العالية. ثانيها: إنه أراد به المؤمنين، كأنه لم يعتد بغيرهم، كما يقال المؤمنون هم الناس، عن قتادة والربيع. وثالثها: إنه لا يمتنع أحد من لعن الظالمين، فيدخل في ذلك الكافر لأنه ظالم، عن السدي. واللعنة إنما تكون من الناس على وجه الدعاء، ومن الله على وجه الحكم. وقوله (خالدين فيها) أي: دائمين فيها، أي في تلك اللعنة، عن الزجاج والجبائي. وقيل: في النار، لأنه كالمذكور لشهرته في حال المعذبين، ولأن اللعن إبعاد من الرحمة، وإيجاب للعقاب. والعقاب يكون في النار. وأما الخلود في اللعنة، فيحتمل أمرين أحدهما: الإستحقاق للعنة بمعنى أنها تحق عليهم أبدا. والثاني: في عاقبة اللعنة، وهي النار التي لا تفنى أبدا. وقوله (لا يخفف عنهم العذاب) أي: يكون عذابهم على وتيرة واحدة، فلا يخفف أحيانا، ويشتد أحيانا. (ولا هم ينظرون) أي: لا يمهلون للاعتذار، كما قال سبحانه (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) قطعا لطمعهم في التوبة، عن أبي العالية. وقيل: معناه لا يؤخر العذاب عنهم، بل عذابهم حاضر.
[ 451 ]
(وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163)). اللغة: واحد: شئ لا ينقسم عددا كان أو غيره، ويجري على وجهين: على الحكم، وعلى جهة الوصف. فالحكم: كقولك جزء واحد، فإنه لا ينقسم من جهة أنه جزء. والوصف كقولك: إنسان واحد، ودار واحدة، فإنه لا ينقسم من جهة أنه إنسان. الاعراب: (هو) من قوله (لا إله إلا هو): في موضع رفع على البدل من موضع لا مع الإسم، كقولك: لا رجل إلا زيد، كأنك قلت: ليس إلا زيد، كما تريد من المعنى، إذ لم تعتد بغيره. ولا يجوز النصب على قولك ما قام أحد إلا زيد، لأن البدل يدل على أن الإعتماد على الثاني، والمعنى ذلك. والنصب يدل على أن الإعتماد في الاخبار إنما هو على الاول، والعبارة الواضحة أن هو، بدل من محل إله قبل التركيب. وقوله: (لا إله إلا هو) هو إثبات الله سبحانه، وهو بمنزلة قولك الله الاله وحده، وإنما كان كذلك، لأنه القادر على ما يستحق به العبادة، ولا لم يدل على النفي في هذا الخبر، من قبل أنه لم يدل على إله موجود، ولا معدوم سوى الله، لكنه نقيض لقوله من ادعى إلها مع الله، وإنما النفي إخبار بعدم شئ كما أن الاثبات إخبار بوجوده. النزول: ابن عباس قال: إن كفار قريش قالوا: يا محمد ! صف لنا وانسب لنا ربك. فأنزل الله هذه الآية، وسورة الإخلاص. المعنى: (وإلهكم) أي: خالقكم، والمنعم عليكم بالنعم التي لا يقدر عليها غيره، والذي تحق له العبادة. وقال علي بن عيسى: معنى إله هو المستحق للعبادة. وهذا غلط، لأنه لو كان كذلك، لما كان القديم سبحانه إلها، فيما لم يزل، لأنه لم يفعل في الأزل ما يستحق به العبادة. ومعنى قولنا: إنه تحق له العبادة أنه قادر على ما إذا فعله استحق به العبادة. وقوله: (إله واحد): وصفه سبحانه بأنه واحد على أربعة أوجه أحدها: إنه ليس بذي أبعاض، ولا يجوز عليه الإنقسام، ولا يحتمل التجزئة والثاني: إنه واحد لا نظير له، ولا شبيه له والثالث: إنه واحد في الإلهية واستحقاق العبادة والرابع:
[ 452 ]
إنه واحد في صفاته التي يستحقها لنفسه، فإن معنى وصفنا لله تعالى بأنه قديم، أنه المختص بهذه الصفة، لا يشاركه فيها غيره. ووصفنا له بأنه عالم قادر، أنه المختص بكيفية استحقاق هاتين الصفتين، لأن المراد به أنه عالم بجميع المعلومات، لا يجوز عليه الجهل، وقادر على الأجناس كلها، لا يجوز عليه العجز، ووصفنا له بأنه حي باق، أنه لا يجوز عليه الموت والفناء. فصار الإختصاص بكيفية الصفات كالإختصاص بنفس الصفات، يستحقها سبحانه وحده على وجه لا يشاركه فيه غيره. وقوله (لا إله إلا هو): هذه كلمة لإثبات الإلهية لله تعالى وحده، ومعناه: الله هو الإله وحده. واختلف في أنه هل فيها نفي المثل عن الله سبحانه، فقال المحققون: ليس فيها نفي المثل عنه، لأن النفي إنما يصح في موجود أو معدوم، والله عز اسمه ليس له مثل موجود ولا معدوم. وقال بعضهم: فيها نفي المثل المقدر عن الله سبحانه. وقوله (الرحمن الرحيم) إنما قرن الرحمن الرحيم بقوله (لا إله إلا هو)، لأنه بين به سبب استحقاق العبادة على عباده، وهو ما أنعم عليهم من النعم العظام التي لا يقدر عليها أحد غيره، فإن الرحمة هي النعمة على المحتاج إليها، وقد ذكرنا معنى الرحمن الرحيم فيما مضى. النظم: الآية متصلة بما قبلها وبما بعدها، فاتصالها بما قبلها كاتصال الحسنة بالسيئة، لتمحو أثرها، ويحذر من مواقعتها، لأنه لما ذكر الشرك وأحكامه، أتبع ذلك بذكر التوحيد وأحكامه. واتصالها بما بعدها كاتصال الحكم بالدلالة على صحته، لأن ما ذكر في الآية التي بعدها، هي الحجة على صحة التوحيد. (إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون (164)).
[ 453 ]
القراءة: قرأ حمزة والكسائي: (الريح) على التوحيد. والباقون على الجمع. ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام. وقرأ أبو جعفر: (الرياح) على الجمع كل القرآن، إلا في الذاريات. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وابن عامر وعاصم: (الرياح) في عشرة مواضع: في البقرة والأعراف والحجر والكهف والفرقان والنمل والروم في موضعين، وفاطر والجاثية. وقرأ نافع في اثني عشر موضعا هذه العشرة، وفي إبراهيم وعسق. وقرأ ابن كثير في خمسة مواضع: البقرة والحجر والكهف وأول الروم والجاثية. وقرأ الكسائي: (الرياح) في ثلاثة مواضع: في الحجر والفرقان وأول الروم. ووافقه حمزة، إلا في الحجر. الحجة: قال ابن عباس: الرياح للرحمة. والريج للعذاب. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا هبت ريح قال: (اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا). ويقوي هذا الخبر قوله سبحانه: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إنما قصد بقوله هذا الموضع، وبقوله: (ولا تجعلها ريحا) قوله سبحانه: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) وقد تختص اللفظة في التنزيل بشئ فيكون أمارة له، فمن ذلك أن عامة ما جاء في القرآن من قوله: (ما يدريك) مبهم غير مبين. وما كان من لفظ (ما أدراك) مفسر، كقوله: (وما أدراك ما الحاقة)، و (ما القارعة)، و (ما يدريك لعل الساعة قريب). قال أبو علي: وتصريف الرياح على الجمع أولى، لأن كل واحدة من الرياح مثل الأخرى في دلالتها على التوحيد. ومن وحد فإنه أراد الجنس، كما قالوا أهلك الناس الدينار والدرهم. فأما قوله: (ولسليمان الريح عاصفة)، وإن كانت الرياح كلها سخرت له، فالمراد بها الجنس والكثرة، وإن كانت قد سخرت له ريح بعينها، كان كقولك: الرجل، وأنت تريد به العهد. وأما قوله: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح) فهي واحدة يدلك عليه قوله: (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) وفي الحديث: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور) فهذا يدل على أنها واحدة. اللغة: الخلق: هو الإحداث للشئ على تقدير من غير احتذاء على مثال، ولذلك لا يجوز إطلاقه إلا في صفات الله سبحانه، لأنه لا أحد سوى الله يكون جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء على مثال. وقد استعمل الخلق
[ 454 ]
بمعنى المخلوق، كما استعمل الرضا بمعنى المرضي، وهو بمنزلة المصدر. وليس معنى المصدر بمعنى المخلوق. واختلف أهل العلم فيه، إذا كان بمعنى المصدر، فقال قوم: هو الإرادة له. وقال آخرون: إنما هو على معنى مقدر، كقولك وجود وعدم، وحدوث وقدم. وهذه الأسماء تدل على مسمى مقدر للبيان عن المعاني المختلفة، وإلا فالمعني بها هذا الموصوف في الحقيقة. والسماوات: جمع السماء، وكل سقف سماء، غير أنه إذا أطلق لهم يفهم منه غير السماوات السبع. وإنما جمعت السماوات ووحدت الأرض، لأنه لما ذكر السماء بأنها سبع في قوله: (فسواهن سبع سموات)، وقوله: (خلق سبع سموات) جمع لئلا يوهم التوحيد معنى الواحدة من هذه السبع. وقوله: (ومن الأرض مثلهن) وإن دل على معنى السبع، فإنه لم يجر على جهة الإفصاح بالتفصيل في اللفظ. وأيضا فإن الأرض لتشاكلها تشبه الجنس الواحد الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الإختلاف. وليس تجري السماوات مجرى الجنس المتفق، لأنه دبر في كل سماء أمرها التدبير الذي هو حقها. والإختلاف: نقيض الإتفاق. واختلاف الليل والنهار: أخذ من الخلف، لأن كل واحد منهما يخلف صاحبه على وجه المعاقبة. وقيل: هو من اختلاف الجنس كاختلاف السواد والبياض، لأن أحدهما لا يسد مسد الآخر في الإدراك. والمختلفان: ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته. والليل: هو الظلام المعاقب للنهار، واحدته ليلة، فهو مثل تمر وتمرة. والنهار: هو الضياء المتسع، وأصله الإتساع، ومنه قول الشاعر: ملكت بها كفي، فأنهرت فتقها، * يرى قائم من دونها ما وراءها أي: أوسعت. وإنما جمعت الليلة، ولم يجمع النهار، لأن النهار بمنزلة المصدر، كقولك: الضياء يقع على الكثير والقليل. على أنه قد جاء جمع النهار نهر على وجه الشذوذ. وقال الشاعر: لولا الثريدان هلكنا بالضمر (1) * ثريد ليل، وثريد بالنهر والفلك: السفن تقع على الواحد والجمع. والفلك: فلك السماء، وكل (1) الضمور: الهزال وغنة اللحم. (*)
[ 455 ]
مستدير فلك. قال صاحب العين: قيل هو اسم للدوران خاصة. وقيل: بل اسم لأطباق سبعة فيها النجوم. وفلكت الجارية: إذا استدار ثديها. وأصل الباب: الدور، وما أنزل الله من السماء. وقال قوم: السماء يقع على السحاب، لأن كل شئ علا شيئا فهو سماء له. وقال علي بن عيسى: قيل إن السحاب بخارات تصعد من الأرض، وذلك جائز لا يقطع به، ولا مانع من صحته من دليل عقل ولا سمع. والسماء: السقف. قال سبحانه: (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) فالسماء المعروفة سقف الأرض، وأصله من السمو: وهو العلو. فالسماء: الطبقة العالية على الطبقة السافلة. والأرض: الطبقة السافلة. ويقال: أرض البيت، وأرض الغرفة، فهو سماء لما تحته من الطبقة السافلة. وأرض لما فوقه، إلا أنه صار ذلك الإسم بمنزلة الصفة الغالبة على السماء المعروفة. وهذا الإسم كالعلم على الأرض المعروفة. والبحر: هو الخرق الواسع للماء الذي يزيد على سعة النهر. والمنفعة هي اللذة والسرور، أو ما أدى إليهما، أو إلى واحد منهما. والنفع والخير والحظ نظائر. وقد تكون المنفعة بالآلام إذا أدت إلى لذات. والإحياء: فعل الحياة. وحياة الأرض: عمارتها بالنبات. وموتها: خرابها بالجفاف الذي يمتنع معه النبات. والبث: التفريق. وكل شئ بثثته فقد فرقته. وسمي الغم بثا: لتقسم القلب به. والدابة: من الدبيب، وكل شئ خلقه الله مما يدب فهو دابة. وصار بالعرف إسما لما يركب. والتصريف: التقليب. وصرف الدهر: تقلبه، وجمعه صروف. والسحاب: مشتق من السحب، وهو جرك الشئ على وجه الأرض، كما تسحب المرأة ذيلها. وكل منجر منسحب. وسمي سحابا لانجراره في السماء. والتسخير والتذليل والتمهيد نظائر. يقال: سخر الله لفلان كذا: إذا سهله له. وسخرت الرجل: إذا كلفته عملا بلا أجرة، وهي السخرة. وسخر منه: إذا استهزأ به. والرياح أربع: الشمال والجنوب والصبا والدبور. فالشمال عن يمين القبلة. والجنوب عن يسارها. والصبا والدبور متقابلان. فالصبا من قبل المشرق. والدبور من قبل المغرب، وأنشد أبو زيد: إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني * نسيم الصبا، من حيث يطلع الفجر فإذا جاءت الريح بين الصبا والشمال، فهي النكباء. والتي بين الجنوب والصبا الجر بياء. والصبا هي القبول. والجنوب يسمى الأزيب، ويسمى النعامى. والشمال
[ 456 ]
يسمى محوة لا تنصرف. ويسمى مسعا ونسعا (1). ويسمى الجنوب لاقحا. والشمال حائلا. قال أبو داود يصف سحابا: لقحن ضحيا للقح الجنوب، * فأصبحن ينتجن ماء الحيا قوله: للقح الجنوب أي: لإلقاح الجنوب. وقال زهير: جرت سنحا (2)، فقلت لها مروعا * نوى مشمولة فمتى اللقاء مشمولة أي: مكروهة، لأنهم يكرهون الشمال لبردها وذهابها بالغيم، فصار كل مكروه عندهم مشمولا. المعنى: لما أخبر الله سبحانه الكفار بأن إلههم إله واحد، لا ثاني له، قالوا: ما الدلالة على ذلك ؟ فقال الله سبحانه: (إن خلق السموات والأرض) أي: في إنشائهما مقدرين على سبيل الإختراع، (واختلاف الليل والنهار) كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر على وجه المعاقبة، أو اختلافهما في الجنس واللون، والطول والقصر. (والفلك التي تجري في البحر) أي: السفن التي تحمل الأحمال (بما ينفع الناس) خص النفع بالذكر، وإن كان فيه نفع وضر، لأن المراد هنا عد النعم، ولأن الضار غيره إنما يقصد منفعة نفسه، والنفع بها يكون بركوبها، والحمل عليها في التجارات والمكاسب. (وما أنزل الله من السماء) أي: من نحو السماء عند جميع المفسرين. وقيل: يريد به السحاب (هن ماء) يعني المطر (فأحيا به الارض بعد موتها) أي: فعمر به الارض بعد خرابها، لأن الأرض إذا وقع عليها المطر أنبتت، وإذا لم يصبها مطر لم تنبت، ولم يتم نباتها، فكانت من هذا الوجه كالميت. وقيل: أراد به إحياء أهل الأرض بإحياء الأقوات، وغيرها مما تحيا به نفوسهم. (وبث فيها من كل دابة) أي: فرق في الأرض من كل حيوان يدب. وأراد بذلك خلقها في مواضع متفرقة (وتصريف الرياح) أي: تقليبها بأن جعل بعضها (1) ويسمى أيضا (منسعا) كما في بعض النسخ. (2) السنح جمع السانح: وهو النو يأتي من جانب اليمين، ويقابله البارح. والعرب تتيمن بالسانح، وتتشاءم بالبارح. (*)
[ 457 ]
صباء، وبعضها دبور، أو بعضها شمالا، وبعضها جنوبا. وقيل: تصريفها بأن جعل بعضها يأتي بالرحمة، وبعضها يأتي بالعذاب، عن قتادة. وروي أن الريح هاجت على عهد ابن عباس، فجعل بعضهم يسب الريح، فقال: لا تسبوا الريح، ولكن قولوا: اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا. (والسحاب المسخر بين السماء والارض) أي: المذلل (لآيات) أي: حججا ودلالات (لقوم يعقلون) قيل: إنه عام في العقلاء من استدل منهم، ومن لم يستدل. وقيل: إنه خاص بمن استدل به، لأن من لم ينتفع بتلك الدلالات، ولم يستدل بها، صار كأنه لا عقل له، فيكون مثل قوله (إنما أنت منذر من يخشاها)، وقوله: (هدى للمتقين). وذكر سبحانه الآيات والدلالات، ولم يذكر على ماذا تدل، فحذف لدلالة الكلام عليه. وقد بين العلماء تفصيل ما تدل عليه فقالوا: أما السماوات والأرض، فيدل تغير أجزائهما واحتمالهما الزيادة والنقصان، وأنهما (1) من الحوادث لا ينفكان عن حدوثهما، ثم إن حدوثهما وخلقهما يدل على أن لهما خالقا لا يشبههما، ولا يشبهانه، لأنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه، الذي ليس بجسم ولا عرض، إذ جميع ما هو بصفة الأجسام والأعراض محدث، ولا بد له من محدث ليس بمحدث لاستحالة التسلسل، ويدل كونهما على وجه الإتقان والإحكام، والإتساق والإنتطام، على كون فاعلهما عالما حكيما. وأما اختلاف الليل والنهار، وجريهما على وتيرة واحدة، وأخذ أحدهما من صاحبه الزيادة والنقصان، وتعلق ذلك بمجاري الشمس والقمر، فيدل على عالم مدبر يدبرهما على هذا الحد، لا يسهو ولا يذهل من جهة أنها أفعال محكمة، واقعة على نطام وترتيب، لا يدخلها تفاوت ولا اختلال. وأما الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، فيدل حصول الماء على ما تراه من الرقة واللطافة التي لولاها لما أمكن جري السفن عليه، وتسخير الرياح لإجرائها في خلاف الوجه الذي يجري الماء إليه، على منعم دبر ذلك لمنافع خلقه، ليس من جنس البشر، ولا من قبيل الأجسام، لأن الأجسام يتعذر عليها فعل ذلك. (1) الظاهر (على انهما) مكان (وأنهما). (*)
[ 458 ]
وأما الماء الذي ينزل من السماء فيدل إنشاؤه وإنزاله قطرة قطرة، لا تلتقي أجزاوه، ولا تتألف في الجو فينزل مثل السيل، فيخرب البلاد والديار، ثم إمساكه في الهواء مع أن من طبع الماء الإنحدار إلى وقت نزوله بقدر الحاجة، وفي أوقاتها على أن مدبره قادر على ما يشاء من الأمور، عالم حكيم خبير. وأما إحياء الأرض بعد موتها: فيدل بظهور الثمار وأنواع النبات، وما يحصل به من أقوات الخلق، وأرزاق الحيوانات، واختلاف طعومها وألوانها وروائحها، واختلاف مضارها ومنافعها في الأغذية والأدوية على كمال قدرته، وبدائع حكمته، سبحانه من عليم حكيم، ما أعظم شأنه. وأما بث كل دابة فيها فيدل على أن لها صانعا مخالفا لها، منعما بأنواع النعم، خالقا للذوات المختلفة بالهيئات، المختلفة في التراكيب، المتنوعة من اللحم والعظم، والأعصاب والعروق، وغير ذلك من الأعضاء والأجزاء المتضمنة لبدائع الفطرة، وغرائب الحكمة، الدالة على عظيم قدرته، وجسيم نعمته. وأما الرياح فيدل تصريفها بتحريكها وتفريقها في الجهات مرة حارة ومرة باردة، وتارة لينة وأخرى عاصفة، وطورا عقيما وطورا لاقحة، على أن مصرفها قادر على ما لا يقدر عليه سواه، إذ لو أجمع الخلق كلهم على أن يجعلوا الصبا دبورا، أو الشمال جنوبا، لما أمكنهم ذلك. وأما السحاب المسخر فيدل على أن ممسكه هو القدير الذي لا شبيه له ولا نظير، لأنه لا يقدر على تسكين الاجسام بغير علاقة ولا دعامة، إلا الله سبحانه وتعالى، القادر لذاته الذي لا نهاية لمقدوراته. فهذه هي الآيات الدالة على أن الله سبحانه صانع غير مصنوع، قادر لا يعجزه شئ، عالم لا يخفى عليه شئ، حي لا تلحقه الآفات، ولا تغيره الحادثات، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير. استشهد بحدوث هذه الأشياء على قدمه وأزليته، وبما وسمها به من العجز والتسخير على كمال قدرته، وبما ضمنها من البدائع على عجائب خلقته، وفيها أيضا أوضح دلالة على أنه سبحانه المنان على عباده بفوائد النعم، المنعم عليهم بما لا يقدر غيره على الانعام بمثله من جزيل القسم، فيعلم بذلك أنه سبحانه الاله الذي لا يستحق العبادة سواه. وفي هذه الآية أيضا دلالة على وجوب النظر والإستدلال، وأن ذلك هو الطريق
[ 459 ]
إلى معرفته. وفيها البيان لما يجب فيه النظر وإبطال التقليد. (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165)). القراءة: قرأ نافع وابن عامر ويعقوب: (ولو ترى الذين ظلموا) بالتاء على الخطاب. وقرأ الباقون بالياء. وكلهم قرأوا (إذ يرون العذاب) بفتح الياء، إلا ابن عامر فإنه قرأ: (إذ يرون) بالضم. وقرأ أبو جعفر ويعقوب: (إن القوة لله وإن الله) بكسر الهمزة فيهما. والباقون بفتحها. الحجة: قال أبو علي: حجة من قرأ (ولو يرى الذين ظلموا) بالياء أن لفظ الغيبة أولى من لفظ الخطاب، من حيث إنه يكون أشبه بما قبله من قوله (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا)، وهو أيضا أشبه بما بعده من قوله (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات). وحجة من قرأ (ولو ترى): فجعل الخطاب للنبي عليه السلام، لكثرة ما جاء في التنزيل من قوله ولو ترى. ويكون الخطاب للنبي عليه السلام، والمراد به الكافة. وأما فتح (أن القوة) فيمن قرأ بالتاء، فلا يخلو من أن يكون ترى من رؤية البصر، أو المتعدية إلى مفعولين. فإن جعلته من رؤية البصر، لم يجز أن يتعدى إلى أن، لأنها قد استوفت مفعولها الذي تقتضيه، وهو (الذين ظلموا)، ولا يجوز أن تكون المتعدية إلى مفعولين، لأن المفعول الثاني في هذا الباب، هو المفعول الأول في المعنى. وقوله (أن القوة لله) لا يكون (الذين ظلموا) فإذا يجب أن يكون منتصبا بفعل آخر غير ترى، وذلك الفعل هو الذي يقدر جوابا للو، كأنه قال: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لرأوا أن القوة لله جميعا. والمعنى انهم شاهدوا من قدرته سبحانه، ما تيقنوا معه أنه قوي عزيز، وأن الأمر ليس على ما كانوا عليه من جحودهم لذلك، أو شكهم فيه. ومذهب من قرأ بالياء أبين، لأنهم ينصبون ان بالفعل الظاهر دون المضمر، والجواب في هذا النحو يجئ محذوفا. فإذا أعمل الجواب في شئ، صار بمنزلة
[ 460 ]
الأشياء المذكورة في اللفظ، فحمل المفعول عليه يخالف ما عليه سائر هذا النحو من الأي التي حذفت الأجوبة معها، لتكون أبلغ في باب التوعيد. هذا كلام أبي علي الفارسي. ونحن نذكر ما قاله غيره في كسر (ان القوة) وفتحها في الإعراب. وحجة من قرأ (إذ يرون العذاب) قوله (ورأوا العذاب)، وقوله (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب). وحجة ابن عامر، قوله: (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات) لأنك إذا بنيت هذا الفعل للمفعول به، قلت يرون أعمالهم حسرات. اللغة: الأنداد والأشباه والأمثال نظائر واحدها ند. وقيل: هي الأضداد. وأصل الند: المثل المناوئ (1). والحب: خلاف البغض. والمحبة هي الإرادة، إلا أن فيها حذفا لا يكون في الإرادة، فإذا قلت: أحب زيدا، فالمعنى أني أريد منافعه أو مدحه. وإذا قلت: أحب الله، زيدا، فالمعنى أنه يريد ثوابه وتعظيمه. وإذا قلت: أحب الله، فالمعنى أريد طاعته واتباع أوامره، ولا يقال: أريد زيدا، ولا إن الله يريد المؤمن، ولا إني أريد الله، فاعتيد الحذف في المحبة، ولم يعتد في الإرادة. وقيل: إن المحبة ليست من جنس الإرادة، بل هي من جنس ميل الطبع، كما تقول: أحب ولدي أي: يميل طبعي إليه. وهذا من المجاز بدلالة أنهم يقولون: أحببت أن أفعل بمعنى أردت أن أفعل. ويقال: احبه إحبابا، وحنه حبا، ومحبة. واحب البعير إحبابا: إذا برك، فلا يثور، وهو كالحران في الخيل (2). قال أبو عبيدة: ومنه قوله: (أحببت حب الخير عن ذكر ربي) (3) أي: لصقت بالأرض لحب الخير، حتى فاتتني الصلاة. ويرى: قال أبو علي الفارسي، هو من رؤية العين، يدل على ذلك تعديه إلى مفعول واحد تقديره: ولو يرون أن القوة لله أي: لو يرى الكفار ذلك. ويدل عليه قوله: (إذ يرون العذاب) والشدة: قوة العقد، وهو ضد الرخاوة. والقوة والقدرة واحدة. الاعراب: يجوز فتح (إن) من ثلاثة أوجه، وكسرها من ثلاثة أوجه مع القراءة بالياء. فأما الفتح فالأول أن يفتح بإيقاع الفعل عليها بمعنى المصدر، وتقديره ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب قوة الله، وشدة عذابه والثاني: أن يفتح على حذف اللام، كقولك: لأن القوة لله. والثالث: على تقدير لرأوا (1) ناوأه مناوأة: عاداه. (2) حرن حرانا البغل: وقف، ولم ينقد. (3) سورة ص الآية: 32. (*)
[ 461 ]
أن القوة لله، وأن الله شديد العذاب على الإتصال بما حذف من الجواب. وأما الوجه الأول في الكسر فعلى الإستئناف. والثاني: على الحكاية مما حذف من الجواب، كأنه قيل: لقالوا إن القوة لله. والثالث: على الإتصال بما حذف من الحال، كأنه قيل: يقولون إن القوة لله. فأما مع القراءة بالتاء فيجوز أيضا كسر إن من ثلاثة أوجه، وفتحها من ثلاثة أوجه: فأما الفتح فأولها: أن يكون على البدل، كقولك ولو ترى الذين ظلموا أن القوة لله عليهم، عن الفراء. وقال أبو علي: وهذا لا يجوز، لأن قوله إن القوة ليس الذين ظلموا، ولا بعضهم، ولا مشتملا عليهم والثاني: أن يفتح على حذف اللام، كقولك لأن القوة والثالث: لرأيت أن القوة لله. وأما الكسر مع التاء فكالكسر مع الياء، قال الفراء: والإختيار مع الياء الفتح ومع التاء الكسر، لأن الرؤية قد وقعت على الذين، وجواب لو محذوف، كأنه قيل لرأوا مضرة اتخاذهم الأنداد، ولرأوا أمرا عظيما لا يحصر بالأوهام. وحذف الجواب يدل على المبالغة كقولك لو رأيت السياط تأخذ فلانا، لأن المحدوف يحتمل كل أمر. ومن قرأ (ولو يرى) بالياء فالذين ظلموا في موضع رفع بأنهم الفاعلون. ومن قرأ بالتاء: فالذين ظلموا في موضع نصب. وقوله (جميعا): نصب على الحال، كأنه قيل: إن القوة ثابتة لله في حال اجتماعها، وهو صفة مبالغة بمعنى إذا رأوا مقدورات الله فيما تقدم الوعيد به، علموا أن الله سبحانه قادر لا يعجزه شئ. وقوله (يحبونهم): في موضع نصب على الحال من الضمير في يتخذ، وإن كان الضمير في يتخذ على التوحيد، لأنه يعود إلى من. ويجوز أن يعود إليه الضمير على اللفظ مرة، وعلى المعنى أخرى. ويجوز أن يكون (يحبونهم) صفة لقوله أندادا. قال أبو علي: لو قلت كيف جاء (إذ) في قوله (إذ يرون العذاب) وهذا أمر مستقبل ؟ فالقول: إنه جاء على لفظ المضي لإرادة التقريب في ذلك، كما جاء (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب وإن الساعة قريب) وعلى هذا قوله: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) ومن هذا الضرب ما جاء في التنزيل من قوله: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت) (ولو ترى إذ وقفوا على النار)، (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم).
[ 462 ]
المعنى: (ومن الناس) من للتبعيض هاهنا أي: بعض الناس (من يتخذ من دون الله أندادا) يعني آلهتهم من الأوثان التي كانوا يعبدونها، عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين. وقيل: رؤساؤهم الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال، عن السدي. وعلى هذا المعنى ما روى جابر عن أبي جعفر عليه السلام، أنه قال: هم أئمة الظلمة وأشياعهم. وقوله: (يحبونهم كحب الله) على هذا القول الأخير أدل، لأنه يبعد أن يحبوا الأوثان كحب الله مع علمهم بأنها لا تنفع ولا تضر. ويدل أيضا عليه قوله (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) ومعنى يحبونهم: يحبون عبادتهم، أو التقرب إليهم، أو الانقياد لهم، أو جميع ذلك (كحب الله) فيه ثلاثة أقوال أحدها: كحبكم الله أي: كحب المؤمنين الله، عن ابن عباس، والحسن والثاني: كحبهم الله يعني الذين اتخذوا الأنداد، فيكون المعني به من يعرف الله من المشركين، ويعبد معه الأوثان، ويسوي بينهما في المحبة، عن أبي علي، وأبي مسلم. والثالث: كحب الله أي: كالحب الواجب عليهم، اللازم لهم، لا الواقع. (والذين آمنوا أشد حبا لله) يعني حب المؤمنين فوق حب هؤلاء، وحبهم أشد من وجوه أحدها: إخلاصهم العبادة والتعظيم له، والثناء عليه من الاشراك. وثانيها: إنهم يحبونه عن علم بأنه المنعم ابتداء، وأنه يفعل بهم في جميع أحوالهم ما هو الأصلح لهم في التدبير. وقد أنعم عليهم بالكثير، فيعبدونه عبادة الشاكرين، ويرجون رحمته على يقين، فلا بد أن يكون حبهم له أشد وثالثها: إنهم يعلمون أن له الصفات العلى، والأسماء الحسنى، وأنه الحكيم الخبير الذي لا مثيل له، ولا نظير، يملك النفع والضر، والثواب والعقاب، وإليه المرجع والمآب، فهم أشد حبا لله بذلك، ممن عبد الأوثان. واختلف في معنى قوله (أشد حبا) فقيل: أثبت وأدوم، لأن المشرك ينتقل من صنم إلى صنم، عن ابن عباس. وقيل: لأن المؤمن يعبده بلا واسطة، والمشرك يعبده بواسطة، عن الحسن. وقوله (ولو يرى الذين ظلموا) تقديره: ولو يرى الظالمون أي: يبصرون. وقيل: لو يعلم هؤلاء الظالمون (إذ يرون العذاب). والصحيح الأول كما تقدم بيانه. هذا على قراءة من قرأ بالياء. ومن قرأ بالتاء فمعناه ولو ترى يا محمد، عن الحسن. والخطاب له، والمراد غيره. وقيل: معناه لو ترى أيها السامع، أو أيها الانسان الظالمين، إذ يرون العذاب. وقوله (أن القوة لله) فيه
[ 463 ]
حذف أي: لرأيت أن القوة لله (جميعا) فعلى هذا يكون متصلا بجواب لو. ومن قرأ بالياء فمعناه ولو يرى الظالمون أن القوة لله جميعا، لرأوا مضرة فعلهم، وسوء عاقبتهم. ومعنى قوله (أن القوة لله جميعا) أن الله سبحانه قادر على أخذهم وعقوبتهم. وفي هذا وعيد وإشارة إلى أن هولاء الجبابرة مع تعززهم، إذا حشروا ذلوا وتخاذلوا. وقد بينا الوجوه في فتح إن وكسرها. فالمعنى تابع لها، ودائر عليها. وجواب لو محذوف على جميع الوجوه (وأن الله شديد العذاب) وصف العذاب بالشدة توسعا ومبالغة في الوصف، فإن الشدة من صفات الاجسام. النظم: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله سبحان أخبر أن مع وضوح هذه الآيات والدلالات التي سبق ذكرها، أقام قوم على الباطل، وإنكار الحق، فكأنه قال أبعد هذا البيان، وظهور البرهان، يتخذون من دون الله أندادا. (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب (166) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار (167)). اللغة: التبرؤ في اللغة والتفصي والتنزيل (1) نظائر. وأصل التبرؤ: التولي. والتباعد للعداوة، وإذا قيل: تبرأ الله من المشركين، فكأنه باعدهم من رحمته للعداوة التي استحقوها بالمعصية. وأصله من الإنفصال. ومنه برأ من مرضه، وبرئ يبرأ برأ وبراء. وبرئ من الدين براءة. والإتباع: طلب الإتفاق في مقال أو فعال أو مكان. فإذا قيل: اتبعه ليلحقه، فالمراد ليتفق معه في المكان. والتقطع: التباعد بعد اتصال. والسبب: الوصلة إلى المتعذر بما يصلح من الطلب. والأسباب: الوصلات واحدها سبب، ومنه يسمى الحبل سببا، لأنك تتوصل به إلى ما انقطع عنك من ماء بئر أو غيره. ومضت سبة من الدهر أي: ملاوة (2). والكرة: الرجعة، قال الأخطل: (1) كذا في جملة من النسخ، وفي نسخة " التزايل ". والظاهر (التزيل) كما في (التبيان). (2) أي: برهة. (*)
[ 464 ]
ولقد عطفن على فزارة عطفة، * كر المنيح (1)، وجلن ثم مجالا والكر: نقيض الفر. قال صاحب العين: الكر: الرجوع عن الشئ. والكر: الحبل الغليظ، وقيل: الشديد الفتل. والحسرات: جمع الحسرة، وهي أشد الندامة. والفرق بينها وبين إلارادة أن الحسرة تتعلق بالماضي خاصة، والإرادة تتعلق بالمستقبل، لأن الحسرة إنما هي على ما فات بوقوعه، أو ينقضي وقته. والحسرة والندامة من النظائر، يقال: حسر يحسر حسرا وحسرة: إذا كمد على الشئ الفائت وتلهف عليه. وأصل الحسر: الكشف، تقول: حسرت العمامة عن رأسي إذا كشفتها. وحسر عن ذراعيه حسرا. والحاسر: الذي لا درع عليه ولا مغفر. الاعراب: العامل في (إذ) قوله: شديد العذاب أي: وقت التبرؤ. وانتصب فنتبرأ على أنه جواب التمني بالفاء، كأنه قال: ليت لنا كرورا فنتبرأ وكلما عطف الفعل على ما تأويله تأويل المصدر نصب بإضمار أن، ولا يجوز إظهارها فيما لم يفصح بلفظ المصدر فيه، لأنه لما حمل الأول على التأويل، حمل الثاني على التأويل أيضا. ويجوز فيه الرفع على الإستئناف أي: فنحن نتبرأ منهم على كل حال. وأما قوله: (لو أن لنا كرة) ففي موضع الرفع لفعل محذوف تقديره: لو صح أن لنا كرة، لأن لو في التمني وفي غيره، تطلب الفعل. وإن شئت قلت: تقديره لو ثبت أن لنا كرة. وأقول: إن جواب (لو) هنا أيضا في التقدير محذوف، ولذلك أفاد (لو) في الكلام معنى التمني، فيكون تقديره: لو ثبت أن لنا كرة فنتبرأ منهم لتشفينا بذلك، وجازيناهم صاعا بصاع. وهذا شئ أخرجه لي الإعتبار، ولم أره في الأصول، وهو الصحيح الذي لا غبار عليه، وبالله التوفيق. وأما العامل في الكاف من (كذلك) فقوله (يريهم الله) أي: يريهم الله أعمالهم حسرات، كذلك أي: مثل تبرؤ بعضهم من بعض، وذلك لانقطاع الرجاء من كل واحد منهما. وقيل: تقديره يريهم أعمالهم حسرات، كما أراهم العذاب، وذلك لأنهم أيقنوا بالهلاك في كل واحد منهما. المعنى: لما ذكر الذين اتخذوا الأنداد، ذكر سوء حالهم في المعاد، فقال سبحانه: (إذ تبرأ الذين اتبعوا) وهم القادة والرؤساء من مشركي الانس، (1) المنيح: سهم من سهام الميسر، مما لا نصيب له، إلا أن يمنح صاحبه شيئا، ولعل التشبيه بالمنيح من جهة أنه يرجى لصاحبه المغنم في الكرة الثانية. (*)
[ 465 ]
عن قتادة والربيع وعطاء. وقيل: هم الشياطين الذين اتبعوا بالوسوسة من الجن، عن السدي. وقيل: هم شياطين الجن والإنس، والأظهر هو الأول (من الذين اتبعوا) أي: من أتباع السفل (ورأوا) أي: رأى التابعون، والمتبوعون (العذاب) أي: عاينوه حين دخلوا النار. (وتقطعت بهم الأسباب): فيه وجوه أحدها: الوصلات التي كانوا يتواصلون عليها، عن مجاهد وقتادة والربيع والثاني: الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها، عن ابن عباس والثالث: العهود التي كانت بينهم يتوادون عليها، عن ابن عباس أيضا والرابع: تقطعت بهم أسباب أعمالهم التي كانوا يوصلونها، عن ابن زيد، والسدي والخامس: تقطعت بهم أسباب النجاة، عن أبي علي. وظاهر الآية يحتمل الكل، فينبغي أن يحمل على عمومه، فكأنه قيل: قد زال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به، فلا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة أو قرابة أو مودة أو حلف أو عهد، على ما كانوا ينتفعون بها في الدنيا، وذلك نهاية في الاياس. (وقال الذين اتبعوا) يعني: الأتباع (لو أن لنا كرة) أي: عودة إلى دار الدنيا وحال التكليف (فنتبرأ منهم) أي: من القادة في الدنيا. (كما تبرأوا منا) في الآخرة (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) فيه أقوال أحدها: ان المراد المعاصي يتحسرون عليها لم عملوها، عن الربيع وابن زيد، وهو اختيار الجبائي والبلخي والثاني: المراد الطاعات يتحسرون عليها لم لم يعملوها وضيعوها، عن السدي والثالث: ما رواه أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: هو الرجل يكتسب المال، ولا يعمل فيه خيرا، فيرثه من يعمل فيه عملا صالحا، فيرى الأول ما كسبه حسرة في ميزان غيره. والرابع: إن الله سبحانه يريهم مقادير الثواب التي عرضهم لها لو فعلوا الطاعات، فيتحسرون عليه لم فرطوا فيه. والآية محتملة لجميع هذه الوجوه فالأولى الحمل على العموم. (وما هم بخارجين من النار) أي: يخلدون فيها. بين سبحانه في الآية أنهم يتحسرون في وقت لا ينفعهم فيه الحسرة، وذلك ترغيب في التحسر في وقت تنفع فيه الحسرة. وأكثر المفسرين على أن الآية واردة في الكفار، كابن عباس وغيره. وفي هذه الآية دلالة على أنهم كانوا قادرين على الطاعة والمعصية، لأن ليس في المعقول
[ 466 ]
أن يتحسر الإنسان على ترك ما كان لا يمكنه الإنفكاك عنه، أو على فعل ما كان لا يمكنه الاتيان به. ألا ترى أنه لا يتحسر الإنسان على أنه لم يصعد السماء، لما لم يكن قادرا على الصعود إلى السماء. (يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشياطين إنه لكم عدو مبين (168)). القراءة: قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر إلا البرجمي (1): (خطوات) بسكون الطاء حيث وقع. والباقون بضمها. وروي في الشواذ، عن علي عليه السلام: (خطوءات) بضمتين وهمزة. وعن أبي السماك: (خطوات) بفتح الخاء والطاء. الحجة: ما كان على فعلة من الاسماء، فالأصل في جمعه التثقيل، نحو: غرفة وغرفات، وحجرة وحجرات، لأن التحريك فاصل بين الإسم والصفة. ومن أسكنه قال: خطوات، فإنه نوى الضمة، وأسكن الكلمة عنها طلبا للخفة. ومن ضم الخاء والطاء مع الهمزة، فكأنه ذهب بها مذهب الخطيئة، فجعل ذلك على مثال فعله من الخطأ، هذا قول الأخفش. وقال أبو حاتم: أرادوا إشباع الفتحة في الواو، فانقلبت همزة. ومن فتح الخاء والطاء فهو جمع خطوة، فيكون مثل تمرة وتمرات. اللغة: الأكل هو البلع عن مضغ. وبلع الذهب واللؤلؤ وما أشبهه ليس بأكل في الحقيقة. وقد قيل: النعام تأكل الجمر، فأجروه مجرى أكل الطعام. والحلال: هو الجائز من أفعال العباد، ونظيره: المباح. وأصله: الحل، نقيض العقد. وإنما سمي المباح حلالا، لانحلال عقد الحظر عنه، ولا يسمى كل حسن حلالا، لأن أفعاله تعالى حسنة، ولا يقال إنها حلال إذ الحلال إطلاق في الفعل لمن يجوز عليه المنع، يقال: حل يحل حلالا، وحل يحل حلولا. وحل العقد يحله حلا، وأحل من إحرامه، وحل فهو محل، وحلال. وحلت عليه العقوبة: وجبت. والطيب: هو الخالص من شائب ينغص، وهو (1) راوي أبي بكر. (*)
[ 467 ]
على ثلاثة أقسام: الطيب المستلذ، والطيب الجائز، والطيب الطاهر. والأصل هو المستلذ، إلا أنه وصف به الطاهر والجائز تشبيها إذ ما يزجر عنه العقل أو الشرع، كالذي تكرهه النفس في الصرف عنه، وما تدعو إليه بخلاف ذلك. والطيب: الحلال. والطيب: النظيف. وأصل الباب: الطيب خلاف الخبيث. والخطوة: بعد ما بين قدمي الماشي. والخطوة: المرة من الخطو، يقال: خطوت خطوة واحدة. وجمع الخطوة: خطى. وأصل الخطو: نقل القدم. وخطوات الشيطان: آثاره. والعدو: المباعد عن الخير إلى الشر. والولي نقيضه. الاعراب: (حلالا) صفة مصدر محذوف أي: كلوا شيئا حلالا. و (من) في قوله (مما في الأرض) يتعلق بكلوا، أو بمحذوف يكون معه في محل النصب على الحال، والعامل فيه كلوا. وذو الحال قوله: (حلالا). وقوله (طيبا): صفة بعد صفة. النزول: عن ابن عباس أنها نزلت في ثقيف وخزاعة، وبني عامر بن صعصعة، وبني مدلج لما حرموا على أنفسهم من الحرث والانعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، فنهاهم الله عن ذلك. المعنى: لما قدم سبحانه ذكر التوحيد وأهله، والشرك واهله، أتبع ذلك بذكر ما تتابع منه سبحانه على الفريقين من النعم والإحسان. ثم نهاهم عن اتباع الشيطان لما في ذلك من الجحود لنعمه والكفران، فقال: (يا أيها الناس) وهذا الخطاب عام لجميع المكلفين من بني آدم (كلوا) لفظه لفظ الأمر، ومعناه الإباحة (مما في الأرض حلالا طيبا) لما أباح الأكل، بين ما يجب أن يكون عليه من الصفة، لأن في المأكول ما يحرم، وفيه ما يحل. فالحرام يعقب الهلكة، والحلال يقوي على العبادة. وإنما يكون حلالا بأن لا يكون مما تناوله الحظر، ولا يكون لغير الاكل فيه حق، وهو يتناول جميع المحللات. واما الطيب فقيل: هو الحلال أيضا، فجمع بينهما لاختلاف اللفظين تأكيدا. وقيل: معناه ما يستطيبونه ويستلذونه في العاجل والآجل. (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) اختلف في معناه فقيل: أعماله، عن ابن عباس. وقيل: خطاياه، عن مجاهد وقتادة. وقيل: طاعتكم إياه، عن السدي.
[ 468 ]
وقيل: آثاره عن الخليل. وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: إن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق، والنذور في المعاصي، وكل يمين بغير الله تعالى. وقال القاضي: يريد وساوس الشيطان وخواطره. وقال الماوردي: هو ما ينقلهم به من معصية إلى معصية، حتى يستوعبوا جميع المعاصي، مأخوذ من خطو القدم، في نقلها من مكان إلى مكان، حتى يبلغ مقصده. (إنه لكم عدو مبين) أي: مظهر للعداوة بما يدعوكم إليه من خلاف الطاعة لله تعالى. واختلف الناس في المآكل والمنافع التي لا ضرر على أحد فيها، فمنهم من ذهب إلى أنها الحظر. ومنهم من ذهب إلى أنها على الإباحة. واختاره المرتضى، قدس الله روحه. ومنهم من وقف بين الأمرين، وجوز كل واحد منهما. وهذه الآية دالة على إباحة المأكل، إلا ما دل الدليل على حظره، فجاءت مؤكدة لما في العقل. (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (169)). اللغة: الأمر من الشيطان: هو دعاؤه إلى الفعل. فأما الأمر في اللغة فهو قول القائل لمن دونه إفعل، إذا كان الامر مريدا للمأمور به. وقيل: هو الدعاء إلى الفعل بصيغة إفعل. والسوء: كل فعل قبيح يزجر عنه العقل أو الشرع، ويسمى أيضا ما تنفر عنه النفس سوء. تقول: ساءني كذا يسوؤني سوءا. وقيل: إنما سمي القبيح سوءا، لسوء عاقبته، لأنه قد يلتذ به في العاجل. والفحشاء والفاحشة والقبيحة والسيئة نظائر، وهي مصدر نحو السراء والضراء، يقال: فحش فحشا وفحشاء، وكل من تجاوز قدره فهو فاحش. وأفحش الرجل: إذا أتى بالفحشاء، وكل ما لا يوافق الحق فهو فاحشة. وقوله: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) معناه: خروجها من بيتها بغير إذن زوجها المطلق لها. والقول: كلام له عبارة تنبئ عن الحكاية، وذلك ككلام زيد يمكن أن يأتي عمرو بعبارة عنه ينبئ عن الحكاية له، فيقول: قال زيد كذا وكذا، فيكون قوله قال زيد يؤذن بأنه يحكي بعده كلام، وليس كذلك إذا قال تكلم زيد، لأنه لا يؤذن بالحكاية والعلم ما اقتضى سكون النفس. وقيل: هو تبين الشئ على ما هو به للمدرك له.
[ 469 ]
المعنى: لما قدم سبحانه ذكر الشيطان، عقبه ببيان ما يدعو إليه من مخالفة الدين، فقال: (إنما يأمركم بالسوء) أي: المعاصي، عن السدي وقتادة. وقيل: بما يسوء فاعله أي: يضره، وهو في المعنى مثل الأول. (والفحشاء) قيل: المراد به الزنا. وقيل: السوء ما لا حد فيه. والفحشاء: ما فيه حد، عن ابن عباس. (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) قيل: هو دعواهم له الأنداد والأولاد، ونسبتهم إليه الفواحش، عن أبي مسلم. وقيل: أراد به جميع المذاهب الفاسدة، والإعتقادات الباطلة. ومما يسأل على هذا أن يقال: كيف يأمرنا الشيطان ونحن لا نشاهده، ولا نسمع كلامه ؟ فالجواب: إن معنى أمره هو دعاؤه إليه، كما تقول: نفسي تأمرني بكذا، أي: تدعوني إليه. وقيل: إنه يأمر بالمعاصي حقيقة، وقد يعرف ذلك الإنسان من نفسه، فيجد ثقل بعض الطاعات عليه، وميل نفسه إلى بعض المعاصي. والوسوسة: هي الصوت الخفي، ومنه وسواس الحلى، فيلقي إليه الشيطان أشياء بصوت خفي في أذنه. ومتى قيل: كيف يميز الإنسان بين ما يلقي إليه الشيطان، وما تدعو إليه النفس ؟ فالقول: إنه لا ضير عليه إذا لم يميز بينهما، فإنه إذا ثبت عنده أن الشيطان قد يأمره بالمعاصي، جوز في كل ما كان من هذا الجنس أن يكون من قبل الشيطان الذي ثبت له عداوته، فيكون أرغب في فعل الطاعة مع ثقلها عليه، وفي ترك المعاصي مع ميل النفس إليها، مخالفة للشيطان الذي هو عدوه. (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)). اللغة: ألفينا أي: صادفنا ووجدنا. والأب والوالد واحد. والإهتداء: الإصابة لطريق الحق بالعلم. الاعراب: (أولو): هنا واو العطف دخلت عليها همزة الإستفهام، والمراد به التوبيخ والتقريع. ومثل هذه الواو (أثم إذا ما وقع آمنتم به) (أفلم يسيروا). وإنما جعلت همزة الإستفهام للتوبيخ، لأنه يقتضي ما الإقرار به
[ 470 ]
فضيحة عليه، كما يقتضي الإستفهام الإخبار بما يحتاج إليه. وإنما دخلت الواو في مثل هذا الكلام، لأنك إذا قلت: أتبع ولو ضرك، فمعناه اتبعه (1) على كل حال، وليس كذلك اتتبعه لو ضرك، لأن هذا خاص، وذاك عام. فدخلت الواو لهذا المعنى. النزول: ابن عباس قال: دعا النبي عليه السلام اليهود إلى الإسلام، فقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم منا، فنزلت هذه الآية. وفي رواية الضحاك عنه: إنها نزلت في كفار قريش. المعنى: لما تقدم ذكر الكفار، بين سبحانه حالهم في التقليد، وترك الإجابة إلى الإقرار بصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما جاء به من الكتاب المجيد، فقال: (وإذا قيل لهم) اختلف في الضمير فقيل: يعود إلى من من قوله (من يتخذ من دون الله أندادا) وهم مشركو العرب. وقيل: يعود إلى الناس من قوله: (يا أيها الناس) فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة، كما قال: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة). وقيل: يعود إلى الكفار إذ قد جرى ذكرهم، ويصلح أيضا أن يعود إليهم، وإن لم يجر ذكرهم، لأن الضمير يعود إلى المعلوم، كما يعود إلى المذكور. والقائل لهم هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون (اتبعوا ما أنزل الله) أي: من القرآن وشرائع الاسلام. وقيل: في التحريم والتحليل. (قالوا) أي: الكفار (بل نتبع ما ألفينا) أي: وجدنا (عليه آباءنا) من عبادة الأصنام إذا كان الخطاب للمشركين، أو في التمسك باليهودية إذا كان الخطاب لليهود (أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا) أي: لا يعلمون شيئا من أمور الدين. (ولا يهتدون) أي: لا يصيبون طريق الحق، ومعناه: لو ظهر لكم أنهم لا يعلمون شيئا مما لزمهم معرفته، أكنتم تتبعونهم، أم كنتم تنصرفون عن اتباعهم، فإذا صح أنه يجب الإنصراف عن اتباعهم، فقد تبين أن الواجب اتباع الدليل، دون اتباع هؤلاء. (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون (171)). اللغة: المثل: قول سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الأول. نعق (1) في سائر نسخنا: (اتتبعه) من التتبع. (*)
[ 471 ]
الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا. قال الأخطل: فانعق بضأنك يا جرير، فإنما * منتك (1) نفسك في الخلاء ضلالا ونقع الغراب نعاقا ونعيقا: إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها. " ونغق بالغين بمعناه. فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل: نعب. والناعقان: كوكبان من كواكب الجوزاء. ورجلها اليسرى ومنكبها الأيمن، وهو الذي يسمى الهنعة، وهما أضوأ كواكب الجوزاء. والدعاء: طلب الفعل من المدعو، ونظيره الأمر. والفرق بينهما يطهر بالرتبة. والنداء: مصدر نادى مناداة ونداء. والدعاء والسؤال بمعناه. والندى له وجوه في المعنى، يقال: ندى الماء، وندى الخير والشر، وندى الصوت، وندى الحضر. فالندى هو البلل. وندى الخير هو المعروف، يقال: أندى فلان علينا ندى كثيرا، ويده ندية بالمعروف. وندى الصوت: بعد مذهبه. وندى الحضر: صحة جريه. واشتق النداء من ندى الصوت ناداه أي: دعاه بأرفع صوته. المعنى: ثم ضرب الله مثلا للكفار في تركهم إجابة من يدعوهم إلى التوحيد، وركونهم إلى التقليد فقال: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق) أي: يصوت (بما لا يسمع) من البهائم (إلا دعاء ونداء) واختلف في تقدير الكلام وتأويله على وجوه أولها: إن المعنى مثل الذين كفروا في دعائك إياهم أي: مثل الداعي لهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه، المنعوق به من البهائم التي. تفهم، وإنما تسمع الصوت. فكما أن الأنعام لا يحصل لها من دعاء الراعي إلا السماع دون تفهم المعنى، فكذلك الكفار لا يحصل لهم من دعائك إلى الإيمان إلا السماع دون تفهم المعنى، لأنهم يعرضون عن قبول قولك، وينصرفون عن تأمله، فيكونون بمنزلة من لم يعقله، ولم يفهمه. وهذا كما تقول العرب: فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى كخوفه من الأسد. فأضاف الخوف إلى الأسد، وهو في المعنى مضاف إلى الرجل. قال الشاعر: فلست مسلما، ما دمت حيا، * على زيد، بتسليم الأمير أراد بتسليمي على الأمير. وهذا معنى قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، وهو اختيار الجبائي والرماني والطبري. (1) أي: حدثتك. (*)
[ 472 ]
وثانيها: أن يكون المعنى مثل الذين كفروا ومثلنا، أو مثل الذين كفروا ومثلك يا محمد، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي: كمثل الأنعام المنعوق بها، والناعق الراعي الذي يكلمها، وهي لا تعقل. فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول. ومثله قوله سبحانه: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر)، وأراد الحر والبرد، وقال أبو دؤيب: عصيت إليها القلب، إني لامرها * مطيع، فما أدري أرشد طلابها أراد أرشد أم غي، فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر، وهو قول الأخفش والزجاج. وهذا لأن في الآية تشبيه شيئين بشيئين: تشبيه الداعي إلى الإيمان بالراعي، وتشبيه المدعوين من الكفار بالأنعام. فحذف ما حذف للإيجاز، وأبقى في الأول ذكر المدعو، وفي الثاني ذكر الداعي. وفيما أبقى دليل على ما ألقى. وثالثها: إن المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام، كمثل الراعي في دعائه الأنعام بتعال وما جرى مجراه من الكلام. فكما أن من دعا البهائم يعد جاهلا، فداعي الحجارة أشد جهلا منه، لأن البهائم تسمع الدعاء، وإن لم تفهم معناه. والأصنام لا يحصل لها السماع أيضا، عن أبي القاسم البلخي، وغيره. ورابعها: إن مثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام، وهي لا تعقل ولا تفهم، كمثل الذي ينعق دعاء ونداء بما لا يسمع صوته جملة، ويكون المثل مصروفا إلى غير الغنم، وما أشبهها مما يسمع، وإن لم يفهم. وعلى هذا الوجه ينتصب دعاء ونداء بينعق، وإلا ملغاة لتوكيد الكلام كما في قول الفرزدق: هم القوم إلا حيث سلوا سيوفهم، * وضحوا بلحم من محل، ومحرم والمعنى هم القوم حيث سلوا سيوفهم. وخامسها: أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا، كمثل الغنم الذي لا يفهم دعاء الناعق، فأضاف سبحانه المثل الثاني إلى الناعق، وهو في المعنى مضاف إلى المنعوق به، على مذهب العرب في القلب، نحو قولهم: طلعت الشعرى (1)، وانتصب العود على الحرباء. والمعنى انتصب الحرباء على العود، وأنشد الفراء: (1) الشعرى: الكوكب الذي يطلع في الجوزاء، طلوعه في شدة الحر.
[ 473 ]
إن سراجا لكريم مفخره * تجلى به العين إذا ما تجمره أي: تجلى بالعين، وأنشد أيضا: كانت فريضة ما تقول، كما * كان الزناء فريضة الرجم والمعنى كما كان الرجم فريضة الزنا، وأنشد: وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي * على وعل في ذي المطارة عاقل (1) أي: ما تزيد مخافة وعل على مخافتي. وقال العباس بن مرداس: فديت بنفسه نفسي، ومالي، * وما الوك إلا ما أطيق أراد بنفسي نفسه، ثم وصفهم سبحانه بما يجري مجرى التهجين والتوبيخ، فقال: (صم بكم عمي) أي: صم عن استماع الحجة، بكم عن التكلم بها، عمي عن الابصار لها، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي. وقد مر بيانه في أول السورة أبسط من هذا (فهم لا يعقلون) أي: هم بمنزلة من لا عقل له، إذ لم ينتفعوا بعقولهم. (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)). اللغة: الشكر هو الاعتراف بالنعمة، مع ضرب من التعظيم، ويكون على وجهين أحدهما: الإعتراف بالنعمة متى ذكرها المنعم عليه، بالاعتقاد لها. والثاني: الطاعة بحسب جلالة النعمة. فالأول: لازم في كل حال من أحوال الذكر. والثاني: إنه يلزم في الحال التي يحتاج فيها إلى القيام بالحق. وأما العبادة فهي ضرب من الشكر، إلا أنها غاية فيه ليس وراءها شكر، ويقترن به ضرب من الخضوع، ولا يستحق العبادة غير الله سبحانه، لأنها إنما تستحق بأصول النعم التي هي الحياة، والقدرة والشهوة وأنواع المنافع، وبقدر من النفع لا يوازيه نعمة منعم، فلذلك اختص الله سبحانه باستحقاقها. الاعراب: (ما رزقناكم): موصول وصلة، والعائد من الصلة إلى (1) الوعل: معز الجبل، ذو المطارة: علم جبل. (*)
[ 474 ]
الموصول محذوف، وتقديره ما رزقناكموه. وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنتم إياه تعبدون، فكلوا من طيبات ما رزقناكم، واشكروا لله. المعنى: ثم خاطب سبحانه المؤمنين، وذكر نعمه الظاهرة عليهم، وإحسانه المبين إليهم، فقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا) ظاهره الأمر، والمراد به الإباحة، لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد. وقيل: إنه أمر من وجهين: أحدهما: بأكل الحلال والآخر: بالأكل وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس. قال القاضي: وهذا مما يعترض في بعض الأوقات، والآية غير مقصورة عليه، فيحمل على الإباحة. (من طيبات ما رزقناكم) أي: مما تستلذونه وتستطيبونه من الرزق. وفيه دلالة على النهي عن أكل الخبيث في قول البلخي وغيره، كأنه قيل: كلوا من الطيب غير الخبيث. كما أنه لو قال: كلوا من الحلال، لكان ذلك دالا على حظر الحرام، وهذا صحيح فيما له ضد قبيح مفهوم. فأما غير ذلك فلا يدل على قبح ضده، لأن قول القائل: كل من مال زيد، لا يدل على أنه أراد تحريم ما عداه، لأنه قد يكون الغرض البيان لهذا خاصة، وما عداه موقوف على بيان آخر. وليس كذلك ما ضده قبيح، لأنه قد يكون من البيان تقبيح ضده. (واشكروا لله) لما نبه سبحانه على إنعامه علينا، بما جعله لنا من لذيذ الرزق، أمرنا بالشكر لأن الإنعام يقتضي الشكر. وقوله: (إن كنتم إياه تعبدون) أي: إن كنتم تعبدونه عن علم بكونه منعما عليكم. وقيل: إن كنتم مخلصين له في العبادة. وذكر الشرط هنا إنما هو على وجه المظاهرة في الحجاج، ولما فيه من حسن البيان، وتلخيص الكلام: إن كانت العبادة لله سبحانه واجبة عليكم بأنه إلهكم، فالشكر له واجب عليكم بأنه منعم محسن إليكم. (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)). القراءة: قرأ أبو جعفر: (الميتة) مشددة كل القرآن. وقرأ أهل الحجاز والشام والكسائي: (فمن اضطر غير باغ) بضم النون. وأبو جعفر منهم بكسر الطاء (من اضطر). والباقون بكسر النون.
[ 475 ]
الحجة: الميتة: أصلها المييتة، فحذفت الياء الثانية استخفافا لثقل الياءين والكسرة. والأجود في القراءة (الميتة) بالتخفيف. وقوله (فمن اضطر) بالضم فهو للاتباع، كما ضمت همزة الوصل في انصروا. وأما الكسرة فعلى أصل الحركة لالتقاء الساكنين. وأما قراءة أبي جعفر (فمن اضطر) فلأن الأصل اضطرر، فسكنت الراء الأولى للادغام، ونقلت حركتها إلى الحرف الذي قبلها، فصار اضطر. والأصل أن لا تنقل حركة عند إسكانها، لأن الطاء على حركتها الأصلية. اللغة: الإهلال في الذبيحة: رفع الصوت بالتسمية، وكان المشركون يسمون الأوثان، والمسلمون يسمون الله. وانهلال المطر: شدة انصبابه. والهلال: غرة القمر لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته بالتكبير. والمحرم يهل بالإحرام، وهو أن يرفع صوته بالتلبية. واستهل الصبي: إذا بكى وقت الولادة. والإضطرار: كل فعل لا يمكن المفعول به الإمتناع منه وذلك كالجوع الذي يحدث للانسان، فلا يمكنه الإمتناع منه. والفرق بين الإضطرار والإلجاء أن الإلجاء قد تتوفر معه الدواعي إلى الفعل من جهة الضرر والنفع، وليس كذلك الإضطرار. قال صاحب العين: رجل لحم إذا كان أكولا للحم، وبيت لحم: يكثر فيه اللحم. وألحمت: القوم إذا قتلتهم وصاروا لحما. والملحمة: الحرب ذات القتل الشديد. واستلحم الطريد: إذا اتسع. واللحمة قرابة النسب. وأصل الباب: اللزوم، ومنه اللحم للزوم بعضه بعضا. وأصل البغي: الطلب، من قولهم: بغى الرجل حاجته يبغي بغاء. قال الشاعر: لا يمنعنك من بغاء الخير تعقاد التمائم (1) * إن الأشائم كالأيامن، والأيامن كالأشائم والبغاء: طلب الزنا. والعادي: المعتدي. الاعراب: إنما تفيد إثبات الشئ الذي يذكر بعدها، ونفي ما عداه، كقول الشاعر: (وإنما عن أحسابهم أنا، أو مثلي). وإنما كانت لاثبات الشئ ونفي ما سواه من قبل أن إن كانت للتوكيد، وانضاف إليها ما للتوكيد أيضا، أكدت أن من جهة التحقيق للشئ، وأكدت ما من جهة نفي ما عداه. فإذا (1) التمائم جمع التميمة: وهي الخرزة وأمثالها تعلق في العنق لدفع إصابة العين. (*)
[ 476 ]
قلت: إنما أنا بشر، فكأنك قلت: ما أنا إلا بشر. ولو كانت ما بمعنى الذي، لكتبت ما مفصولة، ومثله قوله تعالى: (إنما الله إله واحد) أي: لا إله إلا الله إلا إله واحد، ومثله: إنما أنت نذير أي: لا نذير إلا أنت. فإذا ثبت ذلك، فلا يجوز في الميتة إلا النصب، لأن ما كافة. ولو كانت ما بمعنى الذي، لجاز في الميتة الرفع. و (غير باغ): منصوب على الحال، وتقديره: لا باغيا ولا عاديا. ولا يجوز أن يقع إلا ها هنا في موضع غير، لما قلناه إنه بمعنى النفي، ولذلك عطف عليه بلا. فأما (إلا) فمعناه في الأصل الإختصاص لبعض من كل، وليس ها هنا كل يصلح أن يخص منه. المعنى: لما ذكر سبحانه إباحة الطيبات، عقبه بتحريم المحرمات، فقال: (إنما حرم عليكم الميتة) وهو ما يموت من الحيوان، (والدم ولحم الخنزير) خص اللحم لأنه المعظم والمقصود وإلا فجملته محرمة، (وما أهل به لغير الله) قيل فيه قولان: أحدهما: إنه ما ذكر غير اسم الله عليه، عن. الربيع وجماعة من المفسرين. والآخر: إنه ما ذبح لغير الله، عن مجاهد وقتادة، والأول أوجه. (فمن اضطر) إلى أكل هذه الأشياء ضرورة مجاعة، عن أكثر المفسرين. وقيل: ضرورة إكراه، عن مجاهد، وتقديره فمن خاف على النفس من الجوع، ولا يجد مأكولا يسد به الرمق. وقوله: (غير باغ ولا عاد) قيل فيه ثلاثة أقوال أحدها: غير باغ اللذة، ولا عاد سد الجوعة، عن الحسن وقتادة ومجاهد. وثانيها: غير باغ في الإفراط، ولا عاد في التقصير، عن الزجاج (وثالثها): غير باغ على إمام المسلمين، ولا عاد بالمعصية طريق المحقين، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وعن مجاهد وسعيد بن جبير. واعترض علي بن عيسى على هذا القول بأن قال: إن الله لم يبح لأحد قتل نفسه، والتعرض للقتل قتل في حكم الدين، ولأن الرخصة لأجل المجاعة، لا لأجل سفر الطاعة، وهذا فاسد لأن الباغي على الإمام معرض نفسه للقتل، فلا يجوز لذلك استباحة ما حرم الله، كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين. وقوله: إن الرخصة لأجل المجاعة غير مسلم على الإطلاق، بل هو مخصوص بمن
[ 477 ]
لم يعرض نفسه لها. (فلا إثم عليه) أي: لا حرج عليه. وإنما ذكر هذا اللفظ ليبين أنه ليس بمباح في الأصل، وإنما رفع الحرج لأجل الضرورة. (إن الله غفور رحيم) وإنما ذكر المغفرة لأحد الأمرين: إما ليبين أنه إذا كان يغفر المعصية، فإنه لا يؤاخذ بما رخص فيه. وإما لأنه وعد بالمغفرة عند الإنابة إلى طاعة الله مما كانوا عليه من تحريم ما لم يحرمه الله من السائبة وغيرها. (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (174)). اللغة: البطن: خلاف الظهر. والبطن: الغامض من الأرض. والبطن من العرب: دون القبيلة. الاعراب: (الذين) مع صلته، منصوب بإن. و (أولئك): رفع بالإبتداء، وخبره: (ما يأكلون في بطونهم إلا النار). والمبتدأ وخبره جملة في موضع الرفع بكونها خبر إن. و (النار) نصب بيأكلون. النزول: المعني في هذه الآية أهل الكتاب بإجماع المفسرين، إلا أنها متوجهة على قول كثير منهم إلى جماعة قليلة من اليهود، وهم علماؤهم، ككعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وكعب بن أسد. وكانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا، ويرجون كون النبي منهم. فلما بعث من غيرهم، خافوا زوال مأكلتهم فغيروا صفته، فأنزل الله هذه الآية. المعنى: ثم عاد إلى ذكر اليهود الذين تقدم ذكرهم، فقال تعالى: (إن الذين يكتمون ما انزل الله من الكتاب) أي: صفة محمد والبشارة به، عن ابن عباس وقتادة والسدي. وقيل: كتموا الأحكام، عن الحسن. والكتاب: على القول الأول هو التوراة. وعلى الثاني: يجوز أن يحمل على القرآن، وعلى سائر الكتب. (ويشترون به ثمنا قليلا) أي: يستبدلون به عرضا قليلا. وليس المراد أنهم إذا اشتروا به ثمنا كثيرا كان جائزا، بل الفائدة فيه أن كل ما يأخذونه
[ 478 ]
في مقابلة ذلك من حطام الدنيا، فهو قليل. وللعرب في ذلك عادة معروفة، ومذهب مشهور، ومثله في القرآن كثير، قال: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) (ويقتلون النبيين بغير حق). وفيه دلالة على أن من ادعى أن مع الله إلها آخر لا يقوم له على قوله برهان، وأن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق، وذلك بأن وصف الشئ بما لا بد أن يكون عليه الصفة، ومثله في الشعر قول النابغة: يحفه جانبا نيق، ويتبعه * مثل الزجاجة، لم تكحل من الرمد (1) أي: ليس بها رمد فيكتحل له. وقول الآخر: لا يغمز من أين، ومن وصب، * ولا يعض على شرسوفه الصفر (2) أي: ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزها من أجلهما. وقول سويد بن أبي الكاهل: من أناس ليس في أخلاقهم * عاجل الفحش، ولا سوء الجزع ولم يرد أن في أخلاقهم فحشا آجلا، أو جزعا غير سئ، بل نفى الفحش والجزع عن أخلاقهم. وفي أمثال هذا كثيرة. (أولئك): يعني الذين كتموا ذلك، وأخذوا الأجر على الكتمان (ما يأكلون في بطونهم إلا النار) ومعناه: إن أكلهم في الدنيا، وإن كان طيبا في الحال، فكأنهم لم يأكلوا إلا النار، لأن ذلك يؤديهم إلى النار، كقوله سبحانه في أكل مال اليتيم: (إنما يأكلون في بطونهم نارا) عن الحسن والربيع وأكثر المفسرين. وقيل: إنهم يأكلون النار حقيقة في جهنم، عقوبة لهم على كتمانهم، فيصير ما أكلوا في بطونهم نارا يوم القيامة، فسماه في الحال بما يصير إليه في المآل. وإنما ذكر البطون، وإن كان الأكل لا يكون إلا في البطن لوجهين أحدهما: إن العرب تقول: جعت في غير بطني، وشبعت في غير بطني: إذا جاع من يجري جوعه مجرى جوعه، وشبعه مجرى شبعه. فذكر ذلك لإزالة اللبس والآخر: إنه لما استعمل المجاز بأن أجرى على الرشوة اسم النار، حقق بذكر البطن، ليدل على أن (1) النيق: أرفع موضع في الجبل. (2) غمزه: جسه وكبسه باليد. الأين: الإعياء. والوصب: المرض. وشرسوف: رأس الضلع من جانب البطن. والصفر فيما تزعم العرب: حية في البطن تعض الإنسان إذا جاع. (*)
[ 479 ]
النار تدخل أجوافهم. (ولا يكلمهم الله يوم القيامة): فيه وجهان أحدهما: إنه لا يكلمهم بما يحبون، وفي ذلك دليل على غضبه عليهم، وإن كان يكلمهم بالسؤال بالتوبيخ وبما يغمهم كما قال (فلنسئلن الذين أرسل إليهم) وقال: (اخسؤوا فيها ولا تكلمون). وهذا قول الحسن والجبائي. والثاني: إنه لا يكلمهم أصلا، فتحمل آيات المسألة على أن الملائكة تسألهم عن الله وبأمره، ويتأول قوله (اخسؤوا فيها) على دلالة الحال، وإنما يدل نفي الكلام على الغضب في الوجه الأول من حيث إن الكلام وضع في الأصل للفائدة، فلما انتفى الفائدة على وجه الحرمان، دل على الغضب. فأما الكلام على وجه الغم والإيلام فخارج عن ذلك. (ولا يزكيهم) معناه لا يثني عليهم، ولا يصفهم بأنهم أزكياء، ومن لا يثني الله عليه فهو معذب. وقيل: لا تقبل أعمالهم كما تقبل أعمال الأزكياء. وقيل: معناه لا يطهرهم من خبث أعمالهم بالمغفرة (ولهم عذاب أليم) أي: موجع مؤلم. (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175)). الاعراب: (ما أصبرهم): قيل: إن (ما) للتعجب كالتي في قوله (قتل الإنسان ما أكفره) أي: قد حل محل ما يتعجب منه. وحكي عن بعض العرب أنه قال لخصمه: ما أصبرك على عذاب الله. وقيل: إنه للاستفهام على معنى: أي شئ أصبرهم. يقال: أصبرت السبع، أو الرجل، ونحوه: إذا نصبته لما يكره. قال الحطيئة: قلت لها أصبرها دائبا: * ويحك ! أمثال طريف قليل أي: ألزمها وأضطرها. المعنى: (أولئك): إشارة إلى من تقدم ذكرهم (الذين اشتروا الضلالة بالهدى) أي: استبدلوا الكفر بالنبي صلى الله عليه واله وسلم بالإيمان به، فصاروا بمنزلة من يشتري السلعة بالثمن. وقيل: المراد بالضلالة كتمان أمره، مع علمهم به، وبالهدى إظهاره. وقيل: المراد بالضلالة العذاب، وبالهدى الثواب وطريق الجنة أي: استبدلوا النار بالجنة. وقوله: (والعذاب بالمغفرة) قيل: إنه تأكيد لما تقدم، عن
[ 480 ]
أبي مسلم. وقيل: إنهم كانوا اشتروا العذاب بالمغفرة لما عرفوا ما أعد الله لمن عصاه من العذاب، ولمن أطاعه من الثواب، ثم أقاموا على ما هم عليه من المعصية مصرين عن القاضي وهذا أولى لأنه إذا أمكن حمل الكلام على زيادة فائدة، كان أولى، فكان اشتراؤهم الضلالة يرجع إلى عدولهم عن طريق العلم إلى طريق الجهل، واشتراؤهم العذاب بالمغفرة يرجع إلى عدولهم عما يوجب الجنة إلى ما يوجب النار. وقوله: (فما أصبرهم على النار) فيه أقوال أحدها: إن معناه ما أجرأهم على النار ذهب إليه الحسن وقتادة، ورواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام. والثاني: ما أعملهم بأعمال أهل النار، عن مجاهد وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. والثالث: ما أبقاهم على النار، كما يقال: ما أصبر فلانا على الحبس، عن الزجاج. والرابع: ما أدومهم على النار أي: ما أدومهم على عمل أهل النار، كما يقال: ما أشبه سخاءك بحاتم (1)، عن الكسائي وقطرب. وعلى هذه الوجوه فظاهر الكلام التعجب، والتعجب لا يجوز على القديم سبحانه، لأنه عالم بجميع الأشياء، لا يخفى عليه شئ. والتعجب إنما يكون مما لا يعرف سببه. وإذا ثبت ذلك فالغرض أن يدلنا على أن الكفار حلوا محل من يتعجب منه، فهو تعجيب لنا منهم. والخامس: ما روي عن ابن عباس أن المراد أي شئ أصبرهم على النار أي: حبسهم عليها. فتكون للإستفهام، ويمكن حمل الوجوه الثلاثة المتقدمة على الإستفهام أيضا، فيكون المعنى: أي شئ أجرأهم على النار، وأعملهم بأعمال أهل النار، وأبقاهم على النار ؟ وقال الكسائي: هو استفهام على وجه التعجب. وقال المبرد: هذا حسن لأنه كالتوبيخ لهم، والتعجيب لنا، كما يقال لمن وقع في ورطة: ما اضطرك إلى هذا إذا كان غنيا عن التعرض للوقوع في مثلها، والمراد به الإنكار والتقريع على اكتساب سبب الهلاك، وتعجيب الغير منه. ومن قال معناه: ما أجرأهم على النار، فإنه عنده من الصبر الذي هو الحبس أيضا، لأن بالجرأة يصبر على الشدة. (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب (1) [ أي: بسخاء حاتم ]. (*)
[ 481 ]
لفي شقاق بعيد (176)). اللغة: الإختلاف: الذهاب على جهة التفرق في الجهات. وأصله من اختلاف الطريق، تقول: اختلفنا الطريق، فجاء هذا من هنا، وجاء ذاك من هناك. ثم استعمل في الإختلاف في المذاهب تشبيها بالإختلاف في الطريق من حيث إن كل واحد منهم على نقيض ما عليه الآخر من الإعتقاد. وأما اختلاف الأجناس فهو ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته، كالسواد والبياض. والشقاق والمشاقة: انحياز كل واحد عن شق صاحبه للعداوة له، وهو طلب كل واحد منهما ما يشق على الآخر لأجل العداوة. الاعراب: قال الزجاج: (ذلك) مرفوع بالإبتداء، والخبر محذوف أي: ذلك الأمر. ويجوز أن يكون مرفوعا بخبر الإبتداء أي: الأمر ذلك، ويحتمل أن يكون موضع (ذلك) نصبا على تقدير: فعلنا ذلك، لأن في الكلام ما يدل على فعلنا. المعنى: (ذلك) إشارة إلى أحد ثلاثة أشياء أولها: ذلك الحكم بالنار، عن الحسن وثانيها: ذلك العذاب. وثالثها: ذلك الضلال. وفي خبره ثلاثة وجوه أحدها: ما ذكرناه من قول الزجاج. وثانيها: إن تقديره ذلك الحكم الذي حكم فيهم، أو حل بهم من العذاب، أو ذلك الضلال معلوم بأن الله نزل الكتاب بالحق، فحذف لدلالة ما تقدم من الكلام عليه. والثالث: ذلك العذاب لهم. (بأن الله نزل الكتاب بالحق) ويكون الباء مع ما بعده في موضع الخبر. ومن ذهب إلى أن المعنى ذلك الحكم بدلالة أن الله نزل الكتاب بالحق، فالكلام على صورته. ومن ذهب إلى أن المعنى ذلك العذاب أو الضلال، بأن الله نزل الكتاب بالحق، ففي الكلام محذوف وتقديره: فكفروا به، والمراد بالكتاب ها هنا: التوراة. وقال الجبائي: هو القرآن، وغيره. وقال بعضهم: المراد بالأول التوراة، وبالثاني القرآن. (وإن الذين اختلفوا في الكتاب): قيل هم الكفار أجمع عند أكثر المفسرين اختلفوا في القرآن على أقوال: فمنهم من قال: هو كلام السحرة: ومنهم من قال: كلام تعلمه. ومنهم من قال: كلام تقوله. وقيل: هم أهل الكتاب من اليهود
[ 482 ]
والنصارى، عن السدي، اختلفوا في التأويل والتنزيل من التوراة والإنجيل، لأنهم حرفوا الكتاب، وكتموا صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجحدت اليهود إلإنجيل والقرآن. وقوله: (لفي شقاق بعيد) أي: بعيد عن الألفة بالإجتماع على الصواب. وقيل: بعيد في الشقاق لشهادة كل واحد على صاحبه بالضلال، وكلاهما عادل عن الحق والسداد. وقيل: في اختلاف شديد فيما يتصل بأحكام التوراة والإنجيل. (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم والآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وآتى الزكوة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (177)). القراءة: قرى حفص عن عاصم غير هبيرة وحمزة: (ليس البر) بنصب الراء. والباقون بالرفع. وروي في الشواذ عن ابن مسعود وأبي: (ليس البر) بالنصب ب‍ (أن يولوا) بالياء. وقرأ نافع وابن عامر: (ولكن البر) بالتخفيف والرفع. والباقون: (ولكن البر) بالتشديد والنصب. الحجة: قال أبو علي: حجة من رفع (البر) أن (ليس) يشبه الفعل، وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده. وحجة من نصب (البر) أنه قد حكي عن بعض شيوخنا أنه قال في هذا النحو: أن يكون الإسم (أن) وصلتها أولى بشبهها بالمضمر في أنها لا توصف، كما لا يوصف المضمر، وكأنه اجتمع مضمر ومظهر، والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الإسم من حيث كان أذهب في الإختصاص من المظهر. قال إبن جني: يجوز أن يكون إنما نصب (البر) مع الباء، بأن جعل الباء زائدة، كقولهم: (وكفى بالله وكيلا). اللغة: البر: العطف والإحسان، مصدر. ويجوز أن يكون بمعنى البار أي: الواسع إلإحسان. والبر: الصدق. والبر: الإيمان والتقوى. وأصله من الإتساع. ومنه البر: خلاف البحر لاتساعه. واختلف أهل اللغة والفقهاء في
[ 483 ]
المسكين والفقير أيهما أشد أحوالا، فقال جماعة: المسكين: الذي لا شئ له، والفقير الذي له ما لا يكفيه، وهو قول يونس وابن دريد وقول أبي حنيفة. وقال آخرون: الفقير الذي لا شئ له، والمسكين: من له شئ يسير، وهو قول الشافعي. والسبيل: الطريق وابن السبيل: هو المنقطع به إذا كان في سفره محتاجا، وإن كان في بلده ذا يسار، وهو من أهل الزكاة. وقيل: إنه الضيف، عن قتادة. وإنما قيل للمسافر إبن الطريق: للزومه الطريق، كما قيل للطير ابن الماء. قال ذو الرمة: وردت اعتسافا، والثريا كأنها * على قمة الرأس، ابن ماء محلق (1) والرقاب: جمع رقبة، وهي أصل العنق، ويعبر به عن جميع البدن، يقال: أعتق الله رقبته، ومنه قوله (فتحرير رقبة). والبأساء والبؤس: الفقر. والضراء: السقم والوجع. وهما مصدران بنيا على فعلاء، وليس لهما أفعل، لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت، ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت. الاعراب: من نصب البر جعل (أن) مع صلتها إسم ليس أي: ليس توليتكم وجوهكم البر كله. ومن رفع البر فالمعنى ليس البر كله توليتكم. وكلا المذهبين حسن، لأن كل واحد من إسم ليس وخبرها معرفة، فإذا اجتمعا في التعريف تكافأ في كون أحدهما إسما والآخر خبرا. كما تتكافأ النكرتان. وقد ذكرنا الوجه في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، ولكن البر إذا شددت لكن نصبت البر، وإذا خففت رفعت البر. وكسرت النون مع التخفيف لالتقاء الساكنين. وأما الإخبار عن البر بمن آمن ففيه وجوه ثلاثة أحدها: أن يكون البر بمعنى البار، فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل، كما يقال ماء غور أي: غائر، ورجل صوم أي: صائم، ومثله قول الخنساء: ترتع ما رنعت، حتى إذا ادكرت، * فإنما هي إقبال، وإدبار أي: إنها مقبلة ومدبرة، ومثله: (1) الإعتساف: السير على غير طريق. والمحلق: المرتفع في الهواء جدا. (*)
[ 484 ]
تظل جيادهم نوحا عليهم * مقلدة أعنتها صفونا (1) أي: نائحة. وثانيها: إن المعنى: ولكن ذا البر من آمن بالله، فحذف المضاف من الخبر، وأقام المضاف إليه مقامه، كقول الشاعر: وكيف توأصل من أصبحت * خلالته كأبي مرحب وكقول النابغة: وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي * على وعل في ذي المطارة عاقل أي: على مخافة وعل ومثله قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام). ثم قال: (كمن آمن) أي: كإيمان من آمن. وقوله: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) في رفعه قولان: أحدهما: أن يكون مرفوعا على المدح، لأن النعت إذا طال وكثر رفع بعضه، ونصب على المدح. والمعنى: وهم الموفون. والآخر: أن يكون معطوفا على من آمن، والمعنى: ولكن ذا البر، أو ذوي البر المؤمنون والموفون بعهدهم. وأما قوله: (والصابرين): فمنصوب على المدح أيضا، لأن مذهبهم في الصفات والنعوت إذا طالت أن يعترضوا بينها بالمدح أو الذم، ليميزوا الممدوح أو المذموم، وتقديره أعني الصابرين. قال أبو علي: والأحسن في هذه الأوصاف التي تقطعت للرفع من موصوفها والمدح أو الغض منهم والذم، أن يخالف بإعرابها، ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، ليكون ذلك دلالة على هذا المعنى وانفصالا لما يذكر للتنويه والتنبيه، أو النقص والغض مما يذكر للتخليص والتمييز بين الموصوفين المشتبهين في الإسم، المختلفين في المعنى، ومن ذلك قول الشاعر أنشده الفراء: إلى االملك القرم، وابن الهمام، * وليث الكتيبة في المزدحم وذا الرأي حين تغم الأمور * بذات الصليل، وذات اللجم (2) فنصب ليث الكتيبة وذا الرأي على المدح، وأنشد أيضا: فليت التي فيها النجوم تواضعت * على كل غث منهم، وسمين (1) فرس جواد: سريع والجمع جياد. الأعنة: جمع العنان. الصافن من الخيل: القائم على ثلاث قوائم والجمع صفون. (2) ذات الصليل وذات اللجم: الخيل. (*)
[ 485 ]
غيوث الحيا في كل محل، ولزبة، * أسود الشرى يحمين كل عرين (1) ومما نصب على الذم: سقوني الخمر ثم تكنفوني * عداة الله من كذب وزور وشئ آخر وهو أن هذ الموضمع من مواضع الإطناب في الوصف، وإذا خولف بإعراب الألفاظ كان أشد وأوقع فيما يعن ويعترض، لصيرورة الكلام، وكونه بذلك ضروبا وجملا، وكونه في إلإجراء على الأول وجها واحدا، وجملة واحدة. فلذلك سبق قول سيبويه في قوله (والمقيمين الصلاة)، وأنه محمول على المدح قول من قال إنه محمول على قوله (بما أنزل إليك) وب‍ (المقيمين الصلاة)، وإن كان هذا غير ممتنع. وقال بعض النحويين: إن الصابرين معطوف على ذوي القربى. قال الزجاج: وهذا لا يصلح إلا أن تكون (والموفون) رفعا على المدح للضميرين، لأن ما في الصلة لا يعطف عليه بعد المعطوف على الموصول. قال أبو علي: لا وجه لهذا القول، لأن (والصابرين) لا يجوز حمله على (وآتى المال على حبه) سواء كان قوله (والموفون بعهدهم) عطفا على الموصول أو مدحا، لأن الفصل بين الصلة يقع به إذا كان مدحا، كما يقع به إذا كان مفردا معطوفا على الموصول، بل الفصل بينهما بالمدح أشنع، لكون المدح جملة، والجمل ينبغي أن تكون في الفصل أشنع وأقبح بحسب زيادتها على المفرد، وإن كان الجميع من ذلك ممتنعا. النزول والنظم: لما حولت القبلة، وكثر الخوض في نسخها، وصار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا التوجه للصلاة، وأكثر اليهود والنصارى ذكرها، أنزل الله سبحانه هذه الآية، عن أبي القاسم البلخي، وعن قتادة أنها نزلت في اليهود. المعنى: (ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) بين سبحانه أن البر كله ليس في الصلاة، فإن الصلاة إنما أمر بها لكونها مصلحة في الإيمان، وصارفة عن الفساد، وكذلك العبادات الشرعية، إنما أمر بها لما فيها من الألطاف والمصالح الدينية، وذلك يختلف بالأزمان والأوقات، فقال: ليس البر كله في التوجه إلى الصلاة، حتى يضاف إلى ذلك غيره من الطاعات التي أمر الله بها، عن ابن عباس ومجاهد، واختاره أبو مسلم. وقيل: معناه ليس البر ما عليه النصارى من التوجه إلى المشرق، ولا ما عليه اليهود من التوجه إلى (1) الحيا: المطر. والمحل واللزبة: القحط. وشرى: موضع.
[ 486 ]
المغرب، عن قتادة والربيع واختاره الجبائي والبلخي. (ولكن البر من آمن بالله) أي: لكن البر بر من آمن بالله كقولهم: السخاء حاتم، والشعر زهير، أي: السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير، عن قطرب والزجاج والفراء واختاره الجبائي. وقيل: ولكن البار، أو ذا البر من آمن بالله أي: صدق بالله، ويدخل فيه جميع ما لا يتم معرفة الله سبحانه إلا به، كمعرفة حدوث العالم، وإثبات المحدث، وصفاته الواجبة والجائزة، وما يستحيل عليه سبحانه، ومعرفة عدله وحكمته. (واليوم الآخر): يعني القيامة، ويدخل فيه التصديق بالبعث والحساب، والثواب والعقاب. (والملائكة) أي: وبأنهم عباد الله المكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. (والكتاب) أي: وبالكتب المنزلة من عند الله إلى أنبيائه. (والنبيين) وبالأنبياء كلهم وأنهم معصومون مطهرون، وفيما أدوه إلى الخلق صادقون، وأن سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة (وآتى المال) أي: وأعطى المال. (على حبه) فيه وجوه أحدها: إن الكناية راجعة إلى المال أي: على حب المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، وهو معنى قول ابن عباس وابن مسعود قال: هو أن تعطيه وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا وثانيها: أن تكون الهاء راجعة إلى من آمن، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، ولم يذكر المفعول لظهور المعنى ووضوحه، وهو مثل الوجه الأول سواء في المعنى وثالثها: أن تكون الهاء راجعة إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله (وآتى المال)، والمعنى على حبه الإعطاء، ويجري ذلك مجرى قول القطامي: هم الملوك، وأبناء الملوك لهم، * وآلاخذون به، والساسة الأول فكنى بالهاء عن الملك لدلالة قول الملوك عليه ورابعها: ان الهاء راجعة إلى الله، لأن ذكره سبحانه قد تقدم أي: يعطون المال على حب الله، وخالصا لوجهه. قال المرتضى قدس الله روحه: لم نسبق إلى هذا الوجه في هذه الآية، وهو أحسن ما قيل فيها، لأن تأثير ذلك أبلغ من تأثير حب المال، لأن المحب للمال، الضنين به،
[ 487 ]
متى بذله وأعطاه، ولم يقصد به القربة إلى الله تعالى، لم يستحق شيئا من الثواب، وإنما يؤثر حبه للمال في زيادة الثواب متى حصل قصد القربة والطاعة. ولو تقرب بالعطية وهو غير ضنين بالمال، ولا محب له، لا يستحق الثواب. (ذوي القربى) أراد به قرابة المعطي، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن أفضل الصدقة، فقال: (جهد المقل على ذي الرحم الكاشح). وقوله لفاطمة بنت قيس، لما قالت يا رسول الله ! إن لي سبعين مثقالا من ذهب. قال: " إجعليها في قرابتك ". ويحتمل أن يكون أراد قرابة النبي صلى الله عليه واله وسلم، كما في قوله: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام. (واليتامى) اليتيم: من لا أب له مع الصغر. قيل: أراد يعطيهم أنفسهم المال. وقيل: أراد ذوي اليتامى أي: يعطي من تكفل بهم، لأنه لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل. فعلى هذا يكون (اليتامى) في موضع جر عطفا على (القربى). وعلى القول الأول يكون في موضع نصب عطفا على ذوي القربى. (والمساكين): يعني أهل الحاجة (وابن السبيل) يعني: المنقطع به، عن أبي جعفر ومجاهد. وقيل: الضيف، عن ابن عباس وقتادة، وابن جبير (والسائلين) أي: الطالبين للصدقة، لأنه ليس كل مسكين يطلب. (وفي الرقاب) فيه وجهان أحدهما: عتق الرقاب بأن يشتري ويعتق والآخر: في رقاب المكاتبين، والآية محتملة للأمرين، فينبغي أن تحمل عليهما، وهو اختيار الجبائي والرماني. وفي هذه الآية دلالة على وجوب إعطاء مال الزكاة المفروضة بلا خلاف. وقال ابن عباس: في المال حقوق واجبة سوى الزكاة. وقال الشعبي: هي محمولة على وجوب حقوق في مال الإنسان غير الزكاة، مما له سبب وجوب، كالإنفاق على من يجب عليه نفقته، وعلى من يجب عليه سد رمقه، إذا خاف عليه التلف، وعلى ما يلزمه من النذور والكفارات، ويدخل في هذا أيضا ما يخرجه الإنسان على وجه التطوع والقربة إلى الله، لأن ذلك كله من البر، واختاره الجبائي. قالوا: ولا يجوز حمله على الزكاة المفروضة، لأنه عطف عليه الزكاة، وإنما خص هؤلاء لأن الغالب أنه لا يوجد الإضطرار إلا في هؤلاء. (وأقام الصلاة) أي: أداها لميقاتها، وعلى حدودها. (وآتى الزكاة) أي: أعطى زكاة ماله (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) أي: والذين إذا عاهدوا عهدا أوفوا به، يعني العهود والنذور التي بينهم وبين الله تعالى، والعقود التي بينهم وبين
[ 488 ]
الناس، وكلاهما يلزم الوفاء به. (والصابرين في البأساء والضراء) يريد بالبأساء: البؤس والفقر، وبالضراء: الوجع والعلة، عن ابن مسعود وقتادة وجماعة من المفسرين. (وحين البأس) يريد وقت القتال، وجهاد العدو. وروي عن علي عليه السلام أنه قال: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه. يريد إذا اشتد الحرب (أولئك): إشارة إلى من تقدم ذكرهم. (الذين صدقوا) أي: صدقوا الله فيما قبلوا منه والتزموه علما، وتمسكوا به عملا، عن ابن عباس والحسن. وقيل: الذين صدقت نياتهم لأعمالهم على الحقيقة. (وأولئك هم المتقون) أي: اتقوا بفعل هذه الخصال نار جهنم. واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن المعني بها أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه لا خلاف بين الامة أنه كان جامعا لهذه الخصال، فهو مراد بها قطعا، ولا قطع على كون غيره جامعا لها. ولهذا قال الزجاج والفراء: إنها مخصوصة بالأنبياء المعصومين، لأن هذه الأشياء لا يؤذيها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء. (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى فمن عفى من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178)). اللغة: كتب: فرض. وأصل الكتابة: الخط الدال على معنى فسمي به ما دل على الفرض. قال الشاعر: كتب القتل والقتال، علينا، * وعلى الغانيات: جر الذيول والقصاص والمقاصة والمعاوضة والمبادلة نظائر. يقال: قص أثره أي: تلاه شيئا بعد شئ. ومنه القصاص: لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه. وقيل: هو أن يفعل بالثاني ما فعله هو بالأول مع مراعاة المماثلة، ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شئ: والحر: نقيض العبد. والحر من كل شئ: أكرمه. وأحرار البقول: ما يؤكل غير مطبوخ. وتحرير الكتابة: إقامة حروفها. والعفو الترك، وعفت الدار أي: تركت حتى درست. والعفو عن المعصية: ترك العقاب عليها. وقيل: معنى العفو هاهنا: ترك القود بقبول الدية من أخيه. وجمع الأخ: الأخوة إذا كانوا لأب، فإن لم يكونوا لأب فهم إخوان، ذكر ذلك صاحب العين. والتأدية والأداء: تبليغ الغاية،
[ 489 ]
يقال: أدى فلان ما عليه، وفلان آدى للأمانة من غيره. الاعراب: (فاتباع): مبتدأ، وخبره محذوف أي: فعليه اتباع، أو خبر لمبتدأ محذوف أي: فحكمه اتباع. ولو كان في غير القرآن لجاز فاتباعا بالمعروف وأداء إليه بإحسان، على معنى فليتبع اتباعا، وليود أداء ولكن الرفع عليه إجماع القراء، وهو الأجود في العربية. النزول: نزلت هذه الآية في حيين من العرب لأحدهما طول على الآخر، وكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور، وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك حتى جاء الإسلام، فأنزل الله هذه الآية. المعنى: لما بين سبحانه أن البر لا يتم إلا بالإيمان، والتمسك بالشرائع، بين الشرائع، وبدأ بالدماء والجراح، فقال: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم) أي: فرض عليكم وأوجب. وقيل: كتب عليكم في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، على جهة الفرض. (القصاص في القتلى) المساواة في القتلى أي: يفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول. ولا خلاف أن المراد به قتل العمد، لأن العمد هو الذي يجب فيه القصاص دون الخطأ المحض، وشبيه العمد. ومتى قيل: كيف قال: (كتب عليكم القصاص في القتلى)، والأولياء مخيرون بين القصاص، والعفو وأخذ الدية، والمقتص منه لا فعل له فيه فلا وجوب عليه ؟ فالجواب من وجهين أحدهما: إنه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص، والفرض قد يكون مضيقا، وقد يكون مخيرا فيه. والثاني: إنه فرض عليكم التمسك بما حد عليكم، وترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم. وأما من يتولى القصاص فهو إمام المسلمين ومن يجري مجراه، فيجب عليه استيفاء القصاص عند مطالبة الولي، لأنه حق الآدمي. ويجب على القاتل تسليم النفس. (الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى) قال الصادق: ولا يقتل حر بعبد، ولكن يضرب ضربا شديدا، ويغرم دية العبد، وهذا مذهب الشافعي، وقال: إن قتل رجل امرأة، فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه، أذوا نصف ديته إلى أهل الرجل، وهذا هو حقيقة المساواة فإن نفس المرأة لا تساوي نفس الرجل، بل هي على النصف منها، فيجب إذا أخذت النفس الكاملة بالنفس الناقصة، أن يرد فضل ما بينهما،
[ 490 ]
وكذلك رواه الطبري في تفسيره، عن علي عليه السلام. ويجوز قتل العبد بالحر، والأنثى بالذكر إجماعا، وليس في الآية ما يمنع من ذلك، لأنه لم يقل لا تقتل الأنثى بالذكر، ولا العبد بالحر. فما تضمنته الآية معمول به، وما قلناه مثبت بالإجماع، وبقوله سبحانه النفس بالنفس. وقوله: (فمن عفي له من أخيه شئ) فيه قولان أحدهما: إن معناه من ترك له وصفح عنه من الواجب عليه، وهو القصاص في قتل العمد من أخيه أي: من دم أخيه، فحذف المضاف للعلم به، وأراد بالأخ المقتول، سماه أخا للقاتل. فدل أن أخوة الإسلام بينهما لم تنقطع، وأن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله. وقيل: أراد بالأخ العافي الذي هو ولي الدم، سماه الله أخا للقاتل. وقوله (شئ) دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا، سقط القود، لأن شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض، والله تعالى قال: (فمن عفي له من أخيه شئ). والضمير في قوله (له) وفي (أخيه) كلاهما يرجع إلى (من) وهو القاتل أي: من ترك له القتل، ورضي منه بالدية، هذا قول أكثر المفسرين، قالوا: العفو أن يقبل الدية في قتل العمد، ولم يذكر سبحانه العافي، لكنه معلوم أن المراد به من له القصاص والمطالبة، وهو ولي الدم. والقول الآخر: إن المراد بقوله (فمن عفي له) ولي الدم والهاء في أخيه يرجع إليه، وتقديره فمن بذل له من أخيه، يعني أخا الولي وهو المقتول، الدية، ويكون العافي معطي المال، ذكر ذلك عن مالك. ومن نصر هذا القول قال: إن لفظ شئ منكر والقود معلوم، فلا يجوز الكناية عنه بلفظ النكرة، فيجب أن يكون المعنى: فمن بذل له من أخيه مال، وذلك يجوز أن يكون مجهولا لا يدري أنه يعطيه الدية أو جنسا آخر، ومقدار الدية، أو أقل أو أكثر، فصح أن يقال فيه شئ. وهذا ضعيف والقول الأول أظهر. وقد ذكرنا الوجه في تنكير قوله (شئ) هناك. وأما الذي له العفو عن القصاص فكل من يرث الدية إلا الزوج والزوجة عندنا. وأما غير أصحابنا من العلماء، فلا يستثنونهما. وقوله: (فاتباع بالمعروف) أي: فعلى العافي اتباع بالمعروف، هي أن لا يشدد في الطلب، وينظره إن كأن معسرا، ولا يطالبه بالزيادة على حقه، وعلى المعفو له (واداء إليه بإحسان) أي: الدفع عند الإمكان، من غير مطل، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. وقيل: المراد فعلى المعفو عنه الإتباع والأداء. وقوله: (ذلك) إشارة إلى جميع ما تقدم
[ 491 ]
(تخفيف من ربكم ورحمة) معناه إنه جعل لكم القصاص أو الدية أو العفو وخيركم بينها، وكان لأهل التوراة القصاص أو العفو، ولأهل الإنجيل العفو أو الدية. وقوله: (فمن اعتدى بعد ذلك) أي بأن قتل بعد قبول الدية، أو العفو، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. وقيل: بأن قتل غير قاتله، أو طلب أكثر مما وجب له من الدية. وقيل: بأن جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص. قال القاضي: ويجب حمله على الجميع لعموم اللفظ (فله عذاب أليم) في الآخرة. (ولكم في القصاص حيوة يا أولي الالباب لعلكم تتقون (179)). اللغة: الألباب: العقول، واحدها لب، مأخوذ من لب النخلة. ولب بالمكان وألب به: إذا قام. واللب: البال. المعنى: ثم بين سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص، فقال: (ولكم) أيها المخاطبون (في القصاص حيوة) فيه قولان أحدهما: إن معناه في إيجاب القصاص حياة، لأن من هم بالقتل فذكر القصاص ارتدع، فكان ذلك سببا للحياة، عن مجاهد وقتادة وأكثر أهل العلم والثاني: إن معناه لكم في وقوع القتل حياة، لأنه لا يقتل إلا القاتل دون غيره، بخلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية الذين كانوا يتفانون بالطوائل (1)، عن السدي والمعنيان جميعا حسنان، ونظيره من كلام العرب: القتل أنفى للقتل، إلا أن ما في القران أكثر فائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة. فأما كثرة الفائدة فلأن فيه جميع ما في قولهم القتل أنفى للقتل، وزيادة معاني منها: إبانة العدل لذكره القصاص. ومنها: إبانة الغرض المرغوب فيه، وهو الحياة. ومنها: الإستدعاء بالرغبة والرهبة، وحكم الله به. وأما الإيجاز في العبارة فإن الذي هو نظير القتل أنفى للقتل، قوله: (القصاص حيوة)، وهو عشرة أحرف، وذلك أربعة عشر حرفا. وأما بعده من الكلفة فهو أن في قولهم القتل أنفى للقتل تكريرا غيره أبلغ منه. وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فإنه مدرك بالحس، وموجود باللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من (1) يقال: بينهم طائلة أي: عداوة. والجمع طوائل. (*)
[ 492 ]
الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام. فباجتماع هذه الامور التي ذكرناها كان أبلغ منه وأحسن، وإن كان الأول حسنا بليغا، وقد أخذه الشاعر فقال: أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة، * وفي العتاب حياة بين أقوام (1) وهذا وإن كان حسنا فبينه وبين لفظ القرآن ما بين أعلى الطبقة وأدناها، وأول ما فيه أن ذلك استدعاء إلى العتاب، وهذا استدعاء إلى العدل، وفي ذلك إبهام. وفي الآية بيان عجيب. وقوله: (يا أولي الألباب) معناه: يا ذوي العقول، لأنهم الذين يعرفون العواقب، ويتصورون ذلك، فلذلك خصهم. (لعلكم تتقون) في لعل ثلاثة أقوال أحدها: إنه بمعنى اللام أي: لتتقوا والثاني: إنه للرجاء والطمع، كأنه قال: على رجائكم وطمعكم في التقوى والثالث: على معنى التعرض أي: على تعرضكم للتقوى. وفي (تتقون) قولان أحدهما: لعلكم تتقون القتل بالخوف من القصاص، عن ابن عباس والحسن وابن زيد. والثاني: لعلكم تتقون ربكم باجتناب معاصيه، وهذا أعم. (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خير الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين (180)). اللغة: المعروف هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر، ولا حيف فيه ولا جور. والحضور: وجود الشئ بحيث يمكن أن يدرك. والحق هو الفعل الذي لا يجوز إنكاره. وقيل: هو ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا، وهو مصدر حق يحق حقا. الاعراب: قوله (كتب عليكم): المعنى وكتب عليكم إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو، وعلم أن معناه معنى الواو، لأن القصة الاولى قد استتمت، وفي القصة الثانية ذكر مما في الأولى، فاتصلت هذه بتلك لأجل الذكر، والوصية ارتفعت لأحد وجهين: إما بأنه إسم ما لم يسم فاعله، وهو كتب. وإما بأنه مبتدأ وقوله (للوالدين): خبره. والجملة في موضع رفع على (1) مغلغلة: رسالة محمولة من بلد إلى بلد. (*)
[ 493 ]
الحكاية، لأن معنى (كتب عليكم) قيل لكم الوصية للوالدين. وأما العامل في إذا ففيه وجهان أحدهما: كتب فكأنه قيل: كتب عليكم الوصية وقت المرض والآخر: ما قاله الزجاج وهو: إن الوصية رغب فيها في حال الصحة، فتقديره كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، قائلين إذا حضرنا الموت فلفلان كذا. و (حقا): نصب على المصدر وتقديره أحق ذلك حقا، وقد استعمل على وجه الصفة بمعنى ذي الحق، كما وصف بالعدل، فعلى هذا يكون نصبا على الحال. ويجوز أن يكون مصدر كتب من غير لفظه، تقديره كتب كتابا. المعنى: ثم بين سبحانه شريعة أخرى، وهو الوصية، فقال: (كتب عليكم) أي: فرض عليكم (إذا حضر أحدكم الموت) أي: أسباب الموت من مرض ونحوه من الهرم. ولم يرد إذا عاين البأس، وملك الموت، لأن تلك الحالة تشغله عن الوصية. وقيل: فرض عليكم الوصية في حال الصحة أن تقولوا: إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا (إن ترك خيرا) أي: مالا. واختلف في المقدار الذي يجب الوصية عنده، فقال الزهري: في القليل والكثير مما يقع عليه إسم المال. وقال إبراهيم النخعي: من ألف درهم إلى خمسمائة. وقال ابن عباس: إلى ثمانمائة درهم. وروي عن علي عليه السلام أنه دخل على مولى له في مرضه، وله سبعمائة أو ستمائة درهم، فقال: ألا أوصي ؟ فقال: لا، إن الله سبحانه قال: (إن ترك خيرا) وليس لك كثير مال. وهذا هو المأخوذ به عندنا لأن قوله حجة. (الوصية للوالدين والأقربين) أي: الوصية لوالديه وقرابته (بالمعروف) أي: بالشئ الذي يعرف أهل التمييز أنه لا جور فيه ولا حيف. ويحتمل أن يرجع ذلك إلى قدر ما يوصي، لأن من يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم، فلم يوص بالمعروف. ويحتمل أن يرجع إلى الموصى لهم، فكأنه أمر بالطريقة الجميلة في الوصية، فليس من المعروف أن يوصي للغني، ويترك الفقير، ويوصي للقريب، ويترك الأقرب منه، ويجب حمله على كلا الوجهين. (حقا على المتقين) أي: حقا واجبا على من آثر التقوى، وهذا تأكيد في الوجوب. واختلف في هذه الآية فقيل: إنها منسوخة. وقيل: إنها منسوخة في المواريث ثأبتة في غير الوارث. وقيل: إنها غير منسوخة أصلا، وهو الصحيح عند المحققين من أصحابنا لأن من قال إنها منسوخة بآية المواريث فقوله باطل بأن النسخ
[ 494 ]
بين الخبرين، إنما يكون إذا تنافى العمل بموجبهما، ولا تنافي بين آية المواريث وآية الوصية، فكيف تكون هذه ناسخة بتلك مع فقد التنافي. ومن قال إنها منسوخة بقوله عليه السلام " لا وصية لوارث " فقد أبعد، لأن الخبر لو سلم من كل قدح، لكان يقتضي الظن، ولا يجوز أن ينسخ كتاب الله تعالى الذي يوجب العلم اليقين بما يقتضي الظن. ولو سلمنا الخبر مع ما ورد من الطعن على رواية. لخصصنا عموم الآية، وحملناها على أنه لا وصية لوارث بما يزيد على الثلث لأن ظاهر الآية يقتضي أن الوصية جائزة لهم بجميع ما يملك. وقول من قال حصول الاجماع على أن الوصية ليست بفرض، يدل على أنها منسوخة، يفسد بأن الإجماع إنما هو على أنها لا تفيد الفرض، وذلك لا يمنع من كونها مندوبا إليها، مرغبا فيها. وقد روى أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام سئل: هل تجوز الوصية للوارث ؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية. وروى السكوني عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي عليه السلام، قال: " من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث، فقد ختم عمله بمعصية ". ومما يؤيد ما ذكرناه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية ". وعنه عليه السلام أنه قال: " من لم يحسن وصيته عند موته، كان نقصا في مروءته وعقله ". وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: " ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت إلا ووصيته تحت رأسه ". (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181)). المعنى: ثم أوعد سبحانه على تغيير الوصية، فقال: (فمن بدله) أي: بدل الوصية وغيرها من الأوصياء، أو الأولياء، أو الشهود، وإنما ذكر حملا على الإيصاء، كقوله: (فمن جاءه موعظة من ربه) أي: وعظ. والتبديل: تغيير الشئ عن الحق فيه، بأن يوضع غيره في موضعه (بعدما سمعه) من الموصي الميت. وإنما ذكر السماع ليدل على أن الوعيد لا يلزم إلا بعد العلم والسماع. (فإنما إثمه) أي: إثم التبديل (على الذين يبدلونه) أي: على من يبدل الوصية، وبرئ الميت. (إن الله سميع عليم) أي: سميع لما قاله الموصي من العدل أو الجنف، عليم بما يفعله الوصي من التصحيح أو التبديل. وقيل: سميع لوصاياكم، عليم بنياتكم. وقيل: سميع بجميع المسموعات، عليم بجميع المعلومات.
[ 495 ]
وفي هذه الآية دلالة على أن الوصي أو الوارث، إذا فرط في الوصية أو غيرها، لا يأثم الموصي بذلك، ولم ينقص من أجره شئ، فإنه لا يجازى أحد على عمل غيره. وفيها أيضا دلالة على بطلان قول من يقول: إن الوارث إذا لم يقض دين الميت، فإنه يؤخذ به في قبره أو في الآخرة، لما قلناه من أنه يدل على أن العبد لا يؤاخذ بجرم غيره، إذ لا إثم عليه بتبديل غيره. وكذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي به، لم يزل ذلك عقابه إلا أن يتفضل الله بإسقاطه عنه. (فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182)). القراءة: قرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب: (موص) بالتشديد. وقرأ الباقون: (موص) بالتخفيف. الحجة: ذكرناها عند قوله: (ووصى بها إبراهيم). اللغة: الجنف: الجور، وهو الميل عن الحق. وقال صاحب العين: هو الميل في الكلام، وفي الامور كلها. يقال: جنف علينا فلان، وأجنف في حكمه، وهو مثل الحيف إلا أن الحيف في الحكم خاصة، والجنف عام. ورجل أجنف: في أحد شقيه ميل على الآخر. قال الشاعر في الجنف: إني آمروء منعت أرومة عامر * ضيمي، وقد جنفت علي خصوم (1) الاعراب: (من) في قوله (من موص): يتعلق بمحذوف تقديره: فمن خاف جنفا كائنا من موص. فموضع الجار والمجرور مع المحذوف، نصب على الحال. وذو الحال قوله (جنفا). وبين: ظرف مكان لأصلح. والضمير في (بينهم) عائد إلى معلوم بالدلالة عليه عند ذكر الموصي والإصلاح، لأنه يدل على الموصى لهم، ومن ينازعهم. وأنشد الفراء في مثله: أعمى إذا ما جارتي خرجت * حتى يواري جارتي الخدر ويصم عما كان بينهما * سمعي، وما بي غيره وقر أراد بينها وبين زوجها، وإنما ذكرها وحدها. (1) الضيم: الظلم. (*)
[ 496 ]
المعنى: لما تقدم الوعيد لمن بدل الوصية، بين في هذه الآية أن ذلك يلزم من غير حقا بباطل. فأما من غير باطلا بحق فهو محسن، فقال: (فمن خاف) أي: خشي وقيل: علم لأن في الخوف طرفا من العلم، وذلك أن القائل إذا قال: أخاف أن يقع أمر كذا، فكأنه يقول: أعلم. وإنما يخاف لعلمه بوقوعه، ومنه قوله (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم)، وقوله: (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله). (من موص جنفا) أي: ميلا عن الحق فيما يوصي به.. فإن قيل: كيف قال (فمن خاف) لما قد وقع، والخوف إنما يكون لما لم يقع ؟ قيل: إن فيه قولين أحدهما: إنه خاف أن يكون قد زل في وصيته، فالخوف يكون للمستقبل، وهو من أن يظهر ما يدل على أنه قد زل، لأنه من جهة غالب الظن والثاني: إنه لما اشتمل على الواقع، وعلى ما لم يقع، جاز فيه خاف، فيأمره بما فيه الصلاح، فيما لم يقع، وما وقع رده إلى العدل بعد موته. وقال الحسن: الجنف هو أن يوصي به في غير قرابة، وإنما قال ذلك لأن عنده الوصية للقرابة واجبة، والأمر بخلافه. وقيل: المراد (من خاف من موص) في حال مرضه الذي يريد أن يوصي (جنفا) وهو أن يعطي بعضا، ويضر ببعض، (فلا إثم عليه) أن يشير عليه بالحق، ويرده إلى الصواب، ويصلح بين الموصي والورثة، والموصى له، حتى يكون الكل راضين، ولا يحصل جنف ولا إثم. ويكون قوله (فأصلح بينهم) أي: فيما يخاف بينهم من حدوث الخلاف فيه، فيما بعد. ولكون قوله (فمن خاف) على ظاهره، ويكون الخوف مترقبا غير واقع، وهذا قريب. غير أن الأول عليه أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام. وقوله: (أو إثما) الإثم أن يكون الميل عن الحق على وجه العمد. والجنف: أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز، وهو معنى قول ابن عباس والحسن. وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام. (فأصلح بينهم) أي: بين الورثة والمختلفين في الوصية، وهم الموصى لهم (فلا إثم عليه) لأنه متوسط مريد للإصلاح، وإنما قال (لا إثم عليه) ولم يقل يستحق الأجر، لأن المتوسط إنما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله إياه، فبين سبحانه لنا أنه لا إثم عليه في ذلك إذا قصد الإصلاح. وقيل إنه لما بين إثم المبدل، وهذا أيضا ضرب من التبديل بين مخالفته للأول بكونه غير مأثوم برده الوصية إلى العدل. ويرده إلى الصواب، ويصلح بين الموصي والورثة، والموصى له، حتى يكون الكل راضين، ولا يحصل جنف ولا إثم. ويكون قوله (فأصلح بينهم) أي: فيما يخاف بينهم من حدوث الخلاف فيه، فيما بعد. ولكون قوله (فمن خاف) على ظاهره، ويكون الخوف مترقبا غير واقع، وهذا قريب. غير أن الأول عليه أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام. وقوله: (أو إثما) الإثم أن يكون الميل عن الحق على وجه العمد. والجنف: أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز، وهو معنى قول ابن عباس والحسن. وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام. (فأصلح بينهم) أي: بين الورثة والمختلفين في الوصية، وهم الموصى لهم (فلا إثم عليه) لأنه متوسط مريد للإصلاح، وإنما قال (لا إثم عليه) ولم يقل يستحق الأجر، لأن المتوسط إنما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله إياه، فبين سبحانه لنا أنه لا إثم عليه في ذلك إذا قصد الإصلاح. وقيل إنه لما بين إثم المبدل، وهذا أيضا ضرب من التبديل بين مخالفته للأول بكونه غير مأثوم برده الوصية إلى العدل.
[ 497 ]
ف‍ (إن الله غفور رحيم): يعني إذا كان يغفر الذنوب، ويرحم المذنب، فأولى وأحرى أن يكون كذلك، ولا ذنب. وروي عن الصادق عليه السلام في قوله (جنفا أو إثما) أنه بمعنى إذا اعتدى في الوصية، وزاد على الثلث. وروي ذلك عن ابن عباس. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: " من حضره الموت، فوضع وصيته على كتاب الله، كان ذلك كفارة لما ضيع من زكاته في حياته ". وبالله التوفيق. هذا آخر المجلد الأول، وفرغ من تأليفه يوم السبت، لثلاث بقين من شعبان، سنة ثلاثين وخمسمئة، وما النصر إلا من عند الله وما توفيقي إلا بالله.